جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


و المراد بالتقوى بعد الإيمان التورع عن محارم الله و اتقاء الذنوب التي تحتم السخط الإلهي و عذاب النار، و هي الشرك بالله و سائر الكبائر الموبقة التي أوعد الله عليها النار، فيكون المراد بالسيئات التي وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب، و ينطبق على قوله سبحانه: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا كريما": "النساء: 31.

قوله تعالى: "و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم" المراد بالتوراة و الإنجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى و عيسى (عليهما السلام) دون ما بأيدي القوم من الكتب التي يذكر أنه لعبت بها يد التحريف.

و الظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داود الذي يسميه القرآن بالزبور، و غيره من الكتب.



و أما احتمال أن يكون المراد به القرآن فيبعده أن القرآن نسخ بأحكامه شرائع التوراة و الإنجيل فلا وجه لعدهما معه و تمني أن يكونوا أقاموهما مع القرآن الناسخ لهما، و القول بأن العمل بالقرآن عمل بهما أيضا، كما أن العمل بالأحكام الناسخة في الإسلام عمل بمجموع شرائع الإسلام المتضمنة للناسخ و المنسوخ جميعا لكون دين الله واحدا لا يزاحم بعضه بعضا، غاية الأمر أن بعض الأحكام مؤجلة موقوتة من غير تناقض يدفعه أن الله سبحانه عبر عن هذا العمل بالإقامة و هي حفظ الشيء على ساق، و لا يلائم ذلك الأحكام المنسوخة بما هي منسوخة، فإقامة التوراة و الإنجيل إنما يصح حين كانت الشريعتان لم تنسخا بشريعة أخرى، و الإنجيل لم ينسخ شريعة التوراة إلا في أمور يسيرة.

على أن قوله تعالى: "و ما أنزل إليهم من ربهم" يعدهم منزلا إليهم، و غير معهود من كلامه تعالى أن يذكر أن القرآن نزل إليهم.

فالظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم بعد التوراة و الإنجيل سائر الكتب و أقسام الوحي المنزلة على أنبياء بني إسرائيل كزبور داود و غيره، و المراد بإقامة هذه الكتب حفظ العمل العام بما فيها من شرائع الله تعالى، و الاعتقاد بما بين الله تعالى فيها من معارف المبدأ و المعاد من غير أن يضرب عليها بحجب التحريف و الكتمان و الترك الصريح، فلو أقاموها هذه الإقامة لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم.

و أما قوله تعالى: "لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم" فالمراد بالأكل التنعم مطلقا سواء كان بالأكل كما في مورد الأغذية أو بغيره كما في غيره، و استعمال الأكل في مطلق التصرف و التنعم من غير مزاحم شائع في اللغة.

و المراد من فوقهم هو السماء، و من تحت أرجلهم هو الأرض، فالجملة كناية عن تنعمهم بنعم السماء و الأرض و إحاطة بركاتهما عليهم نظير ما وقع في قوله تعالى: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض، و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون": "الأعراف: 96".

و الآية من الدليل على أن لإيمان هذا النوع أعني نوع الإنسان و أعماله الصالحة تأثيرا في صلاح النظام الكوني من حيث ارتباطه بالنوع الإنساني فلو صلح هذا النوع صلح نظام الدنيا من حيث إيفائه باللازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم و وفور النعم.

و يدل على ذلك آيات أخرى كثيرة في القرآن بإطلاق لفظها كقوله تعالى ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين: الروم - 42 و قوله تعالى و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم: الشورى - 30 إلى غير ذلك و قد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى منهم أمة مقتصدة و كثير منهم ساء ما يعملون الاقتصاد أخذ القصد و هو التوسط في الأمور فالأمة المقتصدة هي المعتدلة في أمر الدين و التسليم لأمر الله.

و الكلام مستأنف أريد به بيان حال جميع ما نسب إليهم من التعدي عن حدود الله و الكفر بآيات الله و نزول السخط و اللعن على جماعتهم أن ذلك كله إنما تلبس به أكثرهم و هو المصحح لنسبة هذه الفظائع إليهم و أن منهم أمة معتدلة ليست على هذا النعت و هذا من نصفة الكلام الإلهي حيث لا يضيع حقا من الحقوق و يراقب إحياء أمر الحق و إن كان قليلا.

و قد تعرض لذلك أيضا في مطاوي الآيات السابقة لكن لا بهذه المثابة من التصريح كقوله و أن أكثركم فاسقون و قوله و ترى كثيرا منهم يسارعون إلخ و قوله و ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا و كفرا.

بحث روائي


في تفسير القمي،: في قوله تعالى و إذا جاءوكم قالوا آمنا الآية قال نزلت في عبد الله بن أبي لما أظهر الإسلام و قد دخلوا بالكفر.



أقول ظاهر السياق أنها نازلة في أهل الكتاب لا في المنافقين إلا أن تكون نزلت وحدها.

و فيه في قوله تعالى و هم قد خرجوا به الآية قال قال قد خرجوا به من الإيمان.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن عمر بن رياح عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له بلغني أنك تقول من طلق لغير السنة أنك لا ترى طلاقه شيئا فقال أبو جعفر (عليه السلام) ما أقول بل الله عز و جل يقوله أما و الله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا شرا منكم إن الله يقول لو لا ينهاهم الربانيون و الأحبار - عن قولهم الإثم و أكلهم السحت و في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن عمر بن رياح زعم أنك قلت: لا طلاق إلا ببينة؟ قال: فقال: ما أنا قلته بل الله تبارك و تعالى يقول: أما و الله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا أشر منكم! إن الله يقول: "لو لا ينهاهم الربانيون و الأحبار".

و في مجالس الشيخ، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تعالى: "و قالت اليهود يد الله مغلولة": فقال كانوا يقولون: قد فرغ من الأمر.

أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن يعقوب بن شعيب و عن حماد عنه (عليه السلام).

و في تفسير القمي،: قال: قالوا: قد فرغ الله من الأمر لا يحدث غير ما قدره في التقدير الأول، فرد الله عليهم فقال: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء" أي يقدم و يؤخر، و يزيد و ينقص و له البداء و المشية.

أقول: و روى هذا المعنى الصدوق في المعاني، بإسناده عن إسحاق بن عمار عمن سمعه عن الصادق (عليه السلام).

و في تفسير العياشي، عن هشام المشرقي عن أبي الحسن الخراساني (عليه السلام) قال: إن الله كما وصف نفسه أحد صمد نور، ثم قال: "بل يداه مبسوطتان" فقلت له: أ فله يدان هكذا؟ و أشرت بيدي إلى يده فقال: لو كان هكذا كان مخلوقا. أقول: و رواه الصدوق في العيون، بإسناده عن المشرقي عنه (عليه السلام).

و في المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت جعفرا (عليه السلام) فقلت: قوله عز و جل: "يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي"؟ قال: اليد في كلام العرب القوة و النعمة قال: "و اذكر عبدنا داود ذا الأيد، و السماء بنيناها بأيد أي بقوة و إنا لموسعون" قال: "و أيدهم بروح منه" قال: أي قواهم، و يقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل" الآية: يعني اليهود و النصارى "لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم" قال: قال: من فوقهم المطر، و من تحت أرجلهم النبات.



و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: "منهم أمة مقتصدة" الآية عن أبي الصهباء الكبرى قال: سمعت علي بن أبي طالب دعا رأس الجالوت و أسقف النصارى فقال: إني سائلكما عن أمر و أنا أعلم به منكما فلا تكتما ثم دعا أسقف النصارى فقال: أنشدك بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، و جعل على رجله البركة، و كان يبرىء الأكمة و الأبرص، و أزال ألم العين، و أحيا الميت، و صنع لكم من الطين طيورا، و أنبأكم بما تأكلون و ما تدخرون فقال: دون هذا أصدق. فقال علي (عليه السلام): بكم افترقت بنو إسرائيل بعد عيسى؟ فقال: لا و الله و لا فرقة واحدة فقال علي (عليه السلام): كذبت و الله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على اثنين و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة إن الله يقول: "منهم أمة مقتصدة - و كثير منهم ساء ما يعملون" فهذه التي تنجو.

و فيه، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: تفرقت أمة موسى على إحدى و سبعين فرقة، سبعون منها في النار و واحدة في الجنة، و تفرقت أمة عيسى على اثنتين و سبعين فرقة، إحدى و سبعون في النار و واحدة في الجنة، و تعلو أمتي على الفرقتين جميعا بملة واحدة في الجنة و اثنتان و سبعون في النار، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعات، الجماعات.

و فيه،: قال يعقوب بن يزيد: كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا حدث هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا فيه قرآنا: "و لو أن أهل الكتاب آمنوا و اتقوا - لكفرنا عنهم سيئاتهم إلى قوله ساء ما يعملون"، و تلا أيضا: "و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون" يعني أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

5 سورة المائدة - 67

يَأَيهَا الرّسولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْك مِن رّبِّك وَ إِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْت رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُك مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لا يهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ (67)

بيان

معنى الآية في نفسها ظاهر فإنها تتضمن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتبليغ في صورة التهديد، و وعده (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعصمة من الناس، غير أن التدبر في الآية من حيث وقوعها موقعها الذي وقعت فيه، و قد حففتها الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب و ذمهم و توبيخهم بما كانوا يتعاورونه من أقسام التعدي إلى محارم الله و الكفر بآياته.

و قد اتصلت بها من جانبيها الآيتان، أعني قوله: "و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم" الآية، و قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليكم من ربكم" الآية.

ثم الإمعان في التدبر في نفس الآية و ارتباط الجمل المنضودة فيها يزيد الإنسان عجبا على عجب.

فلو كانت الآية متصلة بما قبلها و ما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصلها أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشد الأمر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب، و تعين بحسب السياق أن المراد بما أنزل إليه من ربه هو ما يأمره بتبليغه في قوله: "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليكم من ربكم" الآية.

و سياق الآية يأباه فإن قوله: "و الله يعصمك من الناس" يدل على أن هذا الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهم فيه مخافة الخطر على نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه، و لم يكن من شأن اليهود و لا النصارى في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يسوغ له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين فيبلغ الأمر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلغ ما أمر به فيهم حتى في أوائل هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و عنده حدة اليهود و شدتهم حتى انتهى إلى وقائع خيبر و غيرها.

على أن الآية لا تتضمن أمرا شديدا و لا قولا حادا، و قد تقدم عليه تبليغ ما هو أشد و أحد و أمر من ذلك على اليهود، و قد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبليغ ما هو أشد من ذلك كتبليغ التوحيد و نفي الوثنية إلى كفار قريش و مشركي العرب و هم أغلظ جانبا و أشد بطشا و أسفك للدماء، و أفتك من اليهود و سائر أهل الكتاب، و لم يهدده الله في أمر تبليغهم و لا آمنه بالعصمة منهم.

على أن الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب معظم أجزاء سورة المائدة فهي نازلة فيها قطعا، و اليهود كانت عند نزول هذه السورة قد كسرت سورتهم، و خمدت نيرانهم، و شملتهم السخطة و اللعنة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فلا معنى لخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم في دين الله، و قد دخلوا يومئذ في السلم في حظيرة الإسلام و قبلوا هم و النصارى الجزية، و لا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم و اضطرابه في تبليغ أمر الله إليهم، و هو أمر قد بلغ إليهم ما هو أعظم منه، و قد وقف قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه و أوحش.

فلا ينبغي الارتياب في أن الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها و اللاحقة لها في سياقها، و لا تتصل بها في سردها، و إنما هي آية مفردة نزلت وحدها.

و الآية تكشف عن أمر قد أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إما مجموع الدين أو بعض أجزائه و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف الناس من تبليغه و يؤخره إلى حين يناسبه، و لو لا مخافته و إمساكه لم يحتج إلى تهديده بقوله: "و إن لم تفعل فما بلغت رسالته" كما وقع في آيات أول البعثة الخالية عن التهديد كقوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" إلى آخر سورة العلق، و قوله: "يا أيها المدثر قم فأنذر": "المدثر: 2"، و قوله: فاستقيموا إليه و استغفروه و ويل للمشركين": "حم السجدة: 6"، إلى غير ذلك.

فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخافهم و لم يكن مخافته من نفسه في جنب الله سبحانه فهو أجل من أن يستنكف عن تفدية نفسه أو يبخل في شيء من أمر الله بمهجته فهذا شيء تكذبه سيرته الشريفة و مظاهر حياته، على أن الله شهد في رسله على خلاف ذلك كما قال تعالى: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل و كان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله و كفى بالله حسيبا": "الأحزاب: 39" و قد قال تعالى في أمثال هذه الفروض: "فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين": "آل عمران - 157"، و قد مدح الله سبحانه طائفة من عباده بأنهم لم يخشوا الناس في عين أن الناس خوفوهم فقال: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل": "آل عمران: 137".

و ليس من الجائز أن يقال: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخاف على نفسه أن يقتلوه فيبطل بذلك أثر الدعوة و ينقطع دابرها فكان يعوقه إلى حين ليس فيه هذه المفسدة فإن الله سبحانه يقول له (صلى الله عليه وآله وسلم): "ليس لك من الأمر شيء": "آل عمران: 182"، لم يكن الله سبحانه يعجزه لو قتلوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحيي دعوته بأي وسيلة من الوسائل شاء، و بأي سبب أراد.

نعم من الممكن أن يقدر لمعنى قوله: "و الله يعصمك من الناس" أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف الناس في أمر تبليغه أن يتهموه بما يفسد به الدعوة فسادا لا تنجح معه أبدا فقد كان أمثال هذا الرأي و الاجتهاد جائزا له مأذونا فيه من دون أن يرجع معنى الخوف إلى نفسه بشيء.

و من هنا يظهر أن الآية لم تنزل في بدء البعثة كما يراه بعض المفسرين إذ لا معنى حينئذ لقوله تعالى: "و الله يعصمك من الناس" إلا أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يماطل في إنجاز التبليغ خوفا من الناس على نفسه أن يقتلوه فيحرم الحياة أو أن يقتلوه و يذهب التبليغ باطلا لا أثر له فإن ذلك كله لا سبيل إلى احتماله.

على أن المراد بما أنزل إليه من ربه لو كان أصل الدين أو مجموعة في الآية عاد معنى قوله: "و إن لم تفعل فما بلغت رسالته" إلى نحو قولنا: يا أيها الرسول بلغ الدين و إن لم تبلغ الدين فما بلغت الدين.

و أما جعله من قبيل قول أبي النجم: أنا أبو النجم و شعري شعري.

كما ذكره بعضهم أن معنى الآية: و إن لم تبلغ الرسالة فقد لزمك شناعة القصور في التبليغ و الإهمال في المسارعة إلى ايتمار ما أمرك به الله سبحانه، و أكده عليك كما أن معنى قول أبي النجم: إني أنا أبو النجم و شعري شعري المعروف بالبلاغة المشهور بالبراعة.



فإن ذلك فاسد لأن هذه الصناعة الكلامية إنما تصح في موارد العام و الخاص و المطلق و المقيد و نظائر ذلك فيفاد بهذا السياق اتحادهما كقول أبي النجم: شعري شعري أي لا ينبغي أن يتوهم على متوهم أن قريحتي كلت أو أن الحوادث أعيتني أن أقول من الشعر ما كنت أقوله فشعري الذي أقول اليوم هو شعري الذي كنت أقوله بالأمس.

و أما قوله تعالى: "و إن لم تفعل فما بلغت رسالته" فليس يجري فيه مثل هذه العناية فإن الرسالة التي هي مجموع الدين أو أصله على تقدير نزول الآية في أول البعثة أمر واحد غير مختلف و لا متغير حتى يصح أن يقال: إن لم تبلغ هذه الرسالة فما بلغت تلك الرسالة أو لم تبلغ أصل الرسالة فإن المفروض أنه أصل الرسالة التي هي مجموع المعارف الدينية.

فقد تبين أن الآية بسياقها لا تصلح أن تكون نازلة في بدء البعثة و يكون المراد فيها بما أنزل إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مجموع الدين أو أصله، و يتبين بذلك أنها لا تصلح أن تكون نازلة في خصوص تبليغ مجموع الدين أو أصله في أي وقت آخر غير بدء البعثة فإن الإشكال إنما ينشأ من جهة لزوم اللغو في قوله تعالى: "و إن لم تفعل فما بلغت رسالته" كما مر.

على أن قوله: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" لا يلائم النزول في أي وقت آخر غير بدء البعثة على تقدير إرادة الرسالة بمجموع الدين أو أصله، و هو ظاهر.

على أن محذور دلالة قوله: "و الله يعصمك من الناس" على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخاف الناس في تبليغه على حاله.

فظهر أن ليس هذا الأمر الذي أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أكدت الآية تبليغه هو مجموع الدين أو أصله على جميع تقاديره المفروضة، فلنضع أنه بعض الدين، و المعنى: بلغ الحكم الذي أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته "إلخ"، و لازم هذا التقدير أن يكون المراد بالرسالة مجموع ما حمله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدين و رسالته، و إلا فالمحذور السابق و هو لزوم اللغو في الكلام على حاله إذ لو كان المراد بقوله: "رسالته" الرسالة الخاصة بهذا الحكم كان المعنى: بلغ هذا الحكم و إن لم تبلغه فما بلغته، و هو لغو ظاهر.

فالمراد أن بلغ هذا الحكم و إن لم تبلغه فما بلغت أصل رسالته أو مجموعها، و هو معنى صحيح معقول، و حينئذ يرد الكلام نظير المورد الذي ورده قول أبي النجم: "أنا أبو النجم و شعري شعري".

و أما كون هذا الحكم بحيث لو لم يبلغ فكأنما لم تبلغ الرسالة فإنما ذلك لكون المعارف و الأحكام الدينية مرتبطة بعضها ببعض بحيث لو أخل بأمر واحد منها أخل بجميعها و خاصة في التبليغ لكمال الارتباط، و هذا التقدير و إن كان في نفسه مما لا بأس به لكن ذيل الآية و هو قوله: "و الله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين" لا يلائمه فإن هذا الذيل يكشف عن أن قوما كافرين من الناس هموا بمخالفة هذا الحكم النازل أو كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة، و يتخذون أي تدبير يستطيعونه لإبطال هذه الدعوة و تركه سدى لا يؤثر أثرا و لا ينفع شيئا و قد وعد الله رسوله أن يعصمه منهم، و يبطل مكرهم، و لا يهديهم في كيدهم.
<<        الفهرس        >>