جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و لا يستقيم هذا المعنى مع أي حكم نازل فرض فإن المعارف و الأحكام الدينية في الإسلام ليست جميعا في درجة واحدة ففيها التي هي عمود الدين، و فيها الدعاء عند رؤية الهلال، و فيها زنى المحصن و فيها النظر إلى الأجنبية، و لا يصح فرض هذه المخافة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوعد بالعصمة من الله مع كل حكم حكم منها كيفما كان بل في بعض الأحكام.

فليس استلزام عدم تبليغ هذا الحكم لعدم تبليغ غيره من الأحكام إلا لمكان أهميته و وقوعه من الأحكام في موقع لو أهمل أمره كان ذلك في الحقيقة إهمالا لأمر سائر الأحكام، و صيرورتها كالجسد العادم للروح التي بها الحياة الباقية و الحس و الحركة، و تكون الآية حينئذ كاشفة عن أن الله سبحانه كان قد أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحكم يتم به أمر الدين و يستوي به على عريشة القرار، و كان من المترقب أن يخالفه الناس و يقلبوا الأمر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث تنهدم أركان ما بناه من بنيان الدين و تتلاشى أجزاؤه، و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتفرس ذلك و يخافهم على دعوته فيؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفا صالحا و جوا آمنا عسى أن تنجح فيه دعوته، و لا يخيب مسعاه فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل، و بين له أهمية الحكم، و وعده أن يعصمه من الناس، و لا يهديهم في كيدهم، و لا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة.

و إنما يتصور تقليب أمر الدعوة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إبطال عمله بعد انتشار الدعوة الإسلامية لا من جانب المشركين و وثنية العرب أو غيرهم كأن تكون الآية نازلة في مكة قبل الهجرة، و تكون مخافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناس من جهة افترائهم عليه و اتهامهم إياه في أمره كما حكاه الله سبحانه من قولهم: "معلم مجنون": الدخان: 14".

و قولهم: "شاعر نتربص به ريب المنون": "الطور: 30": و قولهم: "ساحر أو مجنون": "الذاريات: 52" و قولهم: "إن تتبعون إلا رجلا مسحورا": "الإسراء: 47" و قولهم: "إن هذا إلا سحر يؤثر": "المدثر: 24" و قولهم: "أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و أصيلا": "الفرقان: 5" و قولهم: "إنما يعلمه بشر": "النحل: 130" و قولهم: "أن امشوا و اصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد": "ص: 6" إلى غير ذلك من أقاويلهم فيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

فهذه كلها ليست مما يوجب وهن قاعدة الدين، و إنما تدل - إذا دلت - على اضطراب القوم في أمرهم، و عدم استقامتهم فيه على أن هذه الافتراءات و المرامي لا تختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يضطرب عند تفرسها و يخاف وقوعها فسائر الأنبياء و الرسل يشاركونه في الابتلاء بهذه البلايا و المحن، و مواجهة هذه المكاره من جملة أممهم كما حكاه الله تعالى عن نوح و من بعده من الأنبياء المذكورين في القرآن.

بل إن كان شيء - و لا بد - فإنما يتصور بعد الهجرة و استقرار أمر الدين في المجتمع الإسلامي و المسلمون كالمعجون الخليط من صلحاء مؤمنين و قوم منافقين أولي قوة لا يستهان بأمرهم، و آخرين في قلوبهم مرض و هم سماعون - كما نص عليه الكتاب العزيز - و هؤلاء كانوا يعاملون مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - في عين أنهم آمنوا به واقعا أو ظاهرا - معاملة الملوك، و مع دين الله معاملة القوانين الوضعية القومية كما يشعر بذلك طوائف من آيات الكتاب قد تقدم تفسير بعضها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.

فكان من الممكن أن يكون تبليغ بعض الأحكام مما يوقع في الوهم انتفاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتشريعه و إجرائه يستوجب أن يقع في قلوبهم أنه ملك في صورة النبوة و قانون ملكي في هيئة الدين كما ربما وجد بعض شواهد ذلك في مطاوي كلمات بعضهم.



و هذه شبهة لو كانت وقعت هي أو ما يماثلها في قلوبهم ألقت إلى الدين من الفساد و الضيعة ما لا يدفعه أي قوة دافعة، و لا يصلحه أي تدبير مصلح فليس هذا الحكم النازل المأمور بتبليغه إلا حكما فيه توهم انتفاع للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و اختصاص له بمزية من المزايا الحيوية لا يشاركه فيها غيره من سائر المسلمين، نظير ما في قصة زيد و تعدد الأزواج و الاختصاص بخمس الغنائم و نظائر ذلك.

غير أن الخصائص إذا كانت مما لا تمس فيه عامة المسلمين لم يكن من طبعها إثارة الشبهة في القلوب فإن الإزدواج بزوجة المدعو ابنا مثلا لم يكن يختص به و الإزدواج بأكثر من أربع نسوة لو كان تجويزه لنفسه عن هوى بغير إذن الله سبحانه لم يكن يمنعه أن يجوز مثل ذلك لسائر المسلمين، و سيرته في إيثار المسلمين على نفسه في ما كان يأخذه لله و لنفسه من الأموال و نظائر هذه الأمور لا تدع ريبا لمرتاب و لا يشتبه أمرها لمشتبه دون أن تزول الشبهة.

فقد ظهر من جميع ما تقدم أن الآية تكشف عن حكم نازل فيه شوب انتفاع للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و اختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضا يوجب تبليغه و العمل به حرمان الناس عنه فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه و شدد فيه، و وعده العصمة من الناس و عدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه.

و هذا يؤيد ما وردت به النصوص من طرق الفريقين أن الآية نزلت في أمر ولاية علي (عليه السلام)، و أن الله أمر بتبليغها و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف أن يتهموه في ابن عمه، و يؤخر تبليغها وقتا إلى وقت حتى نزلت الآية فبلغها بغدير خم، و قال فيه: من كنت مولاه فهذا علي مولاه.

و كون ولاية أمر الأمة مما لا غنى للدين عنه ظاهر لا ستر عليه، و كيف يسوغ لمتوهم أن يتوهم أن الدين الذي يقرر بسعته لعامة البشر في عامة الأعصار و الأقطار جميع ما يتعلق بالمعارف الأصلية، و الأصول الخلقية، و الأحكام الفرعية العامة لجميع حركات الإنسان و سكناته، فرادى و مجتمعين على خلاف جميع القوانين العامة لا يحتاج إلى حافظ يحفظه حق الحفظ؟ أو أن الأمة الإسلامية و المجتمع الديني مستثنى من بين جميع المجتمعات الإنسانية مستغنية عن وال يتولى أمرها و مدبر يدبرها و مجر يجريها؟ و بأي عذر يمكن أن يعتذر إلى الباحث عن سيرة النبي الاجتماعية؟ حيث يرى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا خرج إلى غزوة خلف مكانه رجلا يدير رحى المجتمع،: و قد خلف عليا مكانه على المدينة عند مسيره إلى تبوك فقال: يا رسول الله أ تخلفني على النساء و الصبيان؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصب الولاة الحكام في ما بيد المسلمين من البلاد كمكة و الطائف و اليمن و غيرها، و يؤمر رجالا على السرايا و الجيوش التي يبعثها إلى الأطراف، و أي فرق بين زمان حياته و ما بعد مماته دون أن الحاجة إلى ذلك بعد غيبته بالموت أشد، و الضرورة إليه أمس ثم أمس.

قوله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" خاطبه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة لكونها أنسب الصفات إلى ما تتضمنه الآية من الأمر بالتبليغ لحكم الله النازل فهو كالبرهان على وجوب التبليغ الذي تظهره الآية و تقرعه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الرسول لا شأن له إلا تبليغ ما حمل من الرسالة فتحمل الرسالة يفرض عليه القيام بالتبليغ.

و لم يصرح باسم هذا الذي أنزل إليه من ربه بل عبر عنه بالنعت و أنه شيء أنزل إليه، إشعارا بتعظيمه و دلالة على أنه أمر ليس فيه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صنع، و لا له من أمره شيء ليكون كبرهان آخر على عدم خيرة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتمانه و تأخير تبليغه، و يكون له عذرا في إظهاره على الناس، و تلويحا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مصيب في ما تفرسه منهم و تخوف عليه، و إيماء إلى أنه مما يجب أن يظهر من ناحيته (صلى الله عليه وآله وسلم) و بلسانه و بيانه.

قوله تعالى: "و إن لم تفعل فما بلغت رسالته" المراد بقوله: "رسالته" و قرىء "رسالاته" كما تقدم مجموع رسالات الله سبحانه التي حملها رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد تقدم أن الكلام يفيد أهمية هذا الحكم المرموز إليه، و أن له من المكانة ما لو لم يبلغه كأن لم يبلغ شيئا من الرسالات التي حملها.

فالكلام موضوع في صورة التهديد، و حقيقته بيان أهمية الحكم، و أنه بحيث لو لم يصل إلى الناس، و لم يراع حقه كان كأن لم يراع حق شيء من أجزاء الدين فقوله: "و إن لم تفعل فما بلغت" جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجودا و عدما لترتب الجزاء الأهم عليه وجودا و عدما.

و ليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا فإنا نستعمل "إن" الشرطية طبعا فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط، و حاشا ساحة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يقدر القرآن في حقه احتمال أن يبلغ الحكم النازل عليه من ربه و أن لا يبلغ، و قد قال تعالى: "الله أعلم حيث يجعل رسالته": "الأنعام - 142".

فالجملة أعني قوله: "و إن لم تفعل فما بلغت" إلخ، إنما تفيد التهديد بظاهرها و تفيد إعلامه (عليه السلام) و إعلام غيره ما لهذا الحكم من الأهمية، و أن الرسول معذور في تبليغه.

قوله تعالى: "و الله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين" قال الراغب: العصم بالفتح فالسكون الإمساك و الاعتصام الاستمساك - إلى أن قال - و العصام بالكسر ما يعتصم به أي يشد، و عصمة الأنبياء حفظه إياهم أولا بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية و النفسية، ثم بالنصرة و بتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم و بحفظ قلوبهم و بالتوفيق قال تعالى: "و الله يعصمك من الناس".

و العصمة شبه السوار، و المعصم موضعها من اليد، و قيل للبياض بالرسغ عصمة تشبيها بالسوار، و ذلك كتسمية البياض بالرجل تحجيلا، و على هذا قيل: غراب أعصم، انتهى.

و ما ذكره من معنى عصمة الأنبياء حسن لا بأس به غير أنه لا ينطبق على الآية "و الله يعصمك من الناس" بل لو انطبق فإنما ينطبق على مثل قوله: "و ما يغرونك من شيء و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما": "النساء: 131".

و أما قوله: "و الله يعصمك من الناس" فإن ظاهره أنها عصمة بمعنى الحفظ و الوقاية من شر الناس المتوجه إلى نفس النبي الشريفة أو مقاصده الدينية أو نجاح تبليغه و فلاح سعيه، و بالجملة المعنى المناسب لساحته المقدسة.

و كيف كان فالمتحصل من موارد استعمال الكلمة أنها بمعنى الإمساك و القبض فاستعماله في معنى الحفظ من قبيل استعارة اللازم لملزومه فإن الحفظ يلزمه القبض.



و كان تعليق العصمة بالناس من دون بيان أن العصمة من أي شأن من شئون الناس كتعدياتهم بالإيذاء في الجسم من قتل أو سم أو أي اغتيال، أو بالقول كالسب و الافتراء، أو بغير ذلك كتقليب الأمور بنوع من المكر و الخديعة و المكيدة و بالجملة السكوت عن تشخيص ما يعصم منه لإفادة نوع من التعميم، و لكن الذي لا يعدو عنه السياق هو شرهم الذي يوجب انقلاب الأمر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث يسقط بذلك ما رفعه من أعلام الدين.

و الناس مطلق من وجد فيه معنى الإنسانية من دون أن يعتبر شيء من خصوصياته الطبيعية التكوينية كالذكورة و الأنوثة أو غير الطبيعية كالعلم و الفضل و الغنى و غير ذلك.

و لذلك قل ما ينطبق على غير الجماعة، و لذلك أيضا ربما دل على الفضلاء من الإنسان إذا كان الفضل روعي فيه وجود معنى الإنسانية كقوله تعالى: "إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس" أي الذين وجد فيهم معنى الإنسانية، و هو ملاك درك الحق و تمييزه من الباطل.

و ربما كان دالا على نوع من الخسة و سقوط الحال، و ذلك إذا كان الأمر الذي يتكلم فيه مما يحتاج إلى اعتبار شيء من الفضائل الإنسانية التي اعتبرت زائدة على أصل معنى النوع كقوله: "و لكن أكثر الناس لا يعلمون": "الروم: 30" و كقولك: لا تثق بمواعيد الناس، و لا تستظهر بسوادهم نظرا منك إلى أن الوثوق و الاستظهار يجب أن يتعلقا بالفضلاء من الإنسان ذوي ملكة الوفاء بالعهد و الثبات على العزيمة لا على من ليس له إلا مجرد صدق اسم الإنسانية، و ربما لم يفد شيئا من مدح أو ذم إذا تعلق الغرض بما لا يزيد على أصل معنى الإنسانية كقوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم": "الحجرات: 13".

و لعل قوله: "و الله يعصمك من الناس" أخذ فيه لفظ الناس اعتبارا بسواد الأفراد الذي فيه المؤمن و المنافق و الذي في قلبه مرض، و قد اختلطوا من دون تمايز، فإذا خيف خيف من عامتهم، و ربما أشعر به قوله: "إن الله لا يهدي القوم الكافرين" فإن الجملة في مقام التعليل لقوله: "و الله يعصمك من الناس" و قد تقدم أيضا أن الآية نزلت بعد الهجرة و ظهور شوكة، الإسلام و كان السواد الأعظم من الناس مسلمين بحسب الظاهر و إن كان فيهم المنافقون و غيرهم.

فالمراد بالقوم الكافرين قوم هم في الناس مذكوري النعت ممحوي الاسم وعد الله سبحانه أن يبطل كيدهم و يعصم رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من شرهم.

و الظاهر أيضا أن يكون المراد بالكفر الكفر بآية من آيات الله و هو الحكم المراد بقوله: "ما أنزل إليك من ربك"، كما في قوله في آية الحج: "و من كفر فإن الله غني عن العالمين": آل عمران: 97"، و أما الكفر بمعنى الاستكبار عن أصل الشهادتين فإنه مما لا يناسب مورد الآية البتة إلا على القول بكون المراد بقوله: "ما أنزل إليك من ربك" مجموع رسالات الدين، و قد عرفت عدم استقامته.

و المراد بعدم هدايته تعالى هؤلاء القوم الكافرين عدم هدايته إياهم في كيدهم و مكرهم، و منعه الأسباب الجارية أن تنقاد لهم في سلوكهم إلى ما يرومونه من الشر و الفساد نظير قوله تعالى: "إن الله لا يهدي القوم الفاسقين": المنافقون: 6"، و قوله تعالى: "و الله لا يهدي القوم الظالمين": البقرة: 285"، و قد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و أما كون المراد بعدم الهداية هو عدم الهداية إلى الإيمان فغير صحيح البتة لمنافاته أصل التبليغ و الدعوة فلا يستقيم أن يقال: ادعهم إلى الله أو إلى حكم الله و أنا لا أهديهم إليه إلا في مورد إتمام الحجة محضا.

على أن الله سبحانه قد هدى و لا يزال يهدي كثيرين من الكفار بدليل العيان، و قد قال أيضا: "و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم": "البقرة: 231".

فتبين أن المراد بعدم هداية الكافرين عدم تخليتهم لينالوا ما يهمون به من إبطال كلمة الحق و إطفاء نور الحكم المنزل فإن الكافرين و كذا الظالمين و الفاسقين يريدون بشامة أنفسهم و ضلال رأيهم أن يبدلوا سنة الله الجارية في الخلقة و سياقة الأسباب السالكة إلى مسبباتها و يغيروا مجاري الأسباب الحقة الظاهرة عن سمة عصيان رب العالمين إلى غايتهم الفاسدة مقاصدهم الباطلة و الله رب العالمين لن يعجزه قواهم الصورية التي لم يودعها فيهم و لم يقدرها في بناهم إلا هو.

فهم ربما تقدموا في مساعيهم أحيانا و نالوا ما راموه أوينات و استعلوا و استقام أمرهم برهة لكنه لا يلبث دون أن يبطل أخيرا و ينقلب عليهم مكرهم و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله، و كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الباطل فيذهب جفاء، و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

و على هذا فقوله: "إن الله لا يهدي القوم الكافرين" تفسير قوله: "و الله يعصمك من الناس" بالتصرف في سعة إطلاقه، و يكون المراد بالعصمة عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يناله الناس بسوء دون أن ينال بغيته في تبليغ هذا الحكم و تقريره بين الأمة كأن يقتلوه دون أن يبلغه أو يثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور أو يتهموه بما يرتد به المؤمنون عن دينه، أو يكيدوا كيدا يميت هذا الحكم و يقبره بل الله يظهر كلمة الحق و يقيم الدين على ما شاء و أينما شاء و متى ما شاء، و فيمن شاء قال تعالى: "إن يشأ يذهبكم أيها الناس و يأت بآخرين و كان الله على ذلك قديرا": "النساء: 133".

و أما أخذ الآية أعني قوله: "و الله يعصمك من الناس" بإطلاقه على ما فيه من السعة و الشمول فمما ينافيه القرآن و المأثور من الحديث و التاريخ القطعي، و قد نال (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمته أعم من كفارهم و مؤمنيهم و منافقيهم من المصائب و المحن و أنواع الزجر و الأذى ما ليس في وسع أحد أن يتحمله إلا نفسه الشريفة، و قد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في الحديث المشهور: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت قط.

بحث روائي



في تفسير العياشي، عن أبي صالح، عن ابن عباس و جابر بن عبد الله قالا: أمر الله تعالى نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينصب عليا علما في الناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقولوا: خابى ابن عمه و أن يطعنوا في ذلك عليه. قال: فأوحى الله إليه هذه الآية: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس" فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بولايته يوم غدير خم.



و فيه، عن حنان بن سدير، عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزل جبرئيل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع بإعلان أمر علي بن أبي طالب (عليه السلام) "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" إلى آخر الآية قال: فمكث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثا حتى أتى الجحفة فلم يأخذ بيده فرقا من الناس. فلما نزل الجحفة يوم غدير في مكان يقال له "مهيعة" فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من أولى بكم من أنفسكم؟ فجهروا فقالوا: الله و رسوله ثم قال لهم الثانية، فقالوا: الله و رسوله، ثم قال لهم الثالثة، فقالوا: الله و رسوله. فأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله فإنه مني و أنا منه، و هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

و فيه، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا أيها الرسول - بلغ ما أنزل إليك من ربك - و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس - إن الله لا يهدي القوم الكافرين" قال: فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي (عليه السلام) فقال: يا أيها الناس إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان من قبلي إلا و قد عمر ثم دعاه فأجابه، و أوشك أن أدعى فأجيب، و أنا مسئول و أنتم مسئولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت و نصحت و أديت ما عليك فجزاك الله أفضل ما جزى المرسلين، فقال: اللهم اشهد. ثم قال: يا معشر المسلمين ليبلغ الشاهد الغائب أوصي من آمن بي و صدقني بولاية علي، ألا إن ولاية على ولايتي عهدا عهده إلي ربي و أمرني أن أبلغكموه، ثم قال: هل سمعتم؟ ثلاث مرات يقولها فقال قائل: قد سمعنا يا رسول الله.

و في البصائر، بإسناده عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - و إن لم تفعل فما بلغت رسالته" قال: هي الولاية.

أقول: و روى نزول الآية في أمر الولاية و قصة الغدير معه الكليني في الكافي، بإسناده، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل، و روى هذا المعنى الصدوق في المعاني، بإسناده عن محمد بن الفيض بن المختار، عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل، و رواه العياشي أيضا عن أبي الجارود في حديث طويل، و بإسناده عن عمرو بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) مختصرا.

و عن تفسير الثعلبي، قال: قال جعفر بن محمد: معنى قوله: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" في فضل علي،، فلما نزلت هذه أخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه و عنه، بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: في هذه الآية قال: نزلت في علي بن أبي طالب، أمر الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغ فيه فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه.

و في تفسير البرهان، عن إبراهيم الثقفي بإسناده عن الخدري، و بريدة الأسلمي و محمد بن علي: نزلت يوم الغدير في علي.

و من تفسير الثعلبي، في معنى الآية قال: قال أبو جعفر محمد بن علي: معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي.

و في تفسير المنار، عن تفسير الثعلبي: أن هذا القول من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في موالاة علي شاع و طار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناقته، و كان بالأبطح فنزل و عقل ناقته، و قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في ملإ من أصحابه يا: محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله فقبلنا منك ثم ذكر سائر أركان الإسلام ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك، و فضلته علينا، و قلت: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فهذا منك أم من الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): و الله الذي لا إله إلا هو هو أمر الله، فولى الحارث يريد راحلته، و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره، و أنزل الله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع - للكافرين ليس له دافع" الحديث.

أقول: قال في المنار بعد نقل هذا الحديث ما لفظه: و هذه الرواية موضوعة، و سورة المعارج هذه مكية، و ما حكاه الله من قول بعض كفار قريش: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك كان تذكيرا بقول قالوه قبل الهجرة، و هذا التذكير في سورة الأنفال، و قد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، و ظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد و لم يعرف في الصحابة، و الأبطح بمكة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرجع من غدير خم إلى مكة بل نزل فيه منصرفة من حجة الوداع إلى المدينة، انتهى.

و أنت ترى ما في كلامه من التحكم: أما قوله: +" إن الرواية موضوعة، و سورة المعارج هذه مكية "+ فيعول في ذلك على ما في بعض الروايات عن ابن عباس و ابن الزبير أن سورة المعارج نزلت بمكة، و ليت شعري ما هو المرجح لهذه الرواية على تلك الرواية، و الجميع آحاد؟ سلمنا أن سورة المعارج مكية كما ربما تؤيده مضامين معظم آياته فما هو الدليل على أن جميع آياتها مكية؟ فلتكن السورة مكية، و الآيتان خاصة غير مكيتين كما أن سورتنا هذه أعني سورة المائدة مدنية نازلة في آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد وضعت فيها الآية المبحوث عنها أعني قوله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" الآية، و هو كعدة من المفسرين مصرون على أنها نزلت بمكة في أول البعثة، فإذا جاز وضع آية مكية آية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في سورة مدنية المائدة فليجز وضع آية مدنية آية: سأل سائل في سورة مكية سورة المعارج.

و أما قوله: +" و ما حكاه الله من قول بعض كفار قريش "+ إلى آخره، فهو في التحكم كسابقه فهب إن سورة الأنفال نزلت قبل المائدة ببضع سنين فهل يمنع ذلك أن يوضع عند التأليف بعض الآيات النازلة بعدها فيها كما وضعت آيات الربا و آية: "و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله": "البقرة: 218"، و هي آخر ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندهم في سورة البقرة النازلة في أوائل الهجرة و قد نزلت قبلها ببضع سنين.

ثم قوله: +" إن آية: "و إذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق"،" الآية تذكير لما قالوه قبل الهجرة "+ تحكم آخر من غير حجة لو لم يكن سياق الآية حجة على خلافه فإن العارف بأساليب الكلام لا يكاد يرتاب في أن هذا أعني قوله: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" لاشتماله على قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك" بما فيه من اسم الإشارة و ضمير الفصل و الحق المحلى باللام و قوله: "من عندك" ليس كلام وثني مشرك يستهزىء بالحق و يسخر منه، و إنما هو كلام من أذعن بمقام الربوبية، و يرى أن الأمور الحقة تتعين من لدنه، و أن الشرائع مثلا تنزل من عنده، ثم إنه يتوقف في أمر منسوب إلى الله تعالى يدعي مدع أنه الحق لا غيره، و هو لا يتحمل ذلك و يتحرج منه فيدعو على نفسه دعاء منزجر ملول سئم الحياة.

و أما قوله: +" و ظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد و لم يعرف في الصحابة "+ تحكم آخر فهل يسع أحدا أن يدعي أنهم ضبطوا أسماء كل من رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و آمن به أو آمن به فارتد؟ و إن يكن شيء من ذلك فليكن هذا الخبر من ذلك القبيل.



و أما قوله: +" و الأبطح بمكة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرجع من غدير خم إلى مكة "+ فهو يشهد على أنه أخذ لفظ الأبطح اسما للمكان الخاص بمكة و لم يحمله على معناه العام و هو كل مكان ذي رمل، و لا دليل على ما حمله عليه بل الدليل على خلافه و هو القصة المسرودة في الرواية و غيرها، و ربما استفيد من مثل قوله: نجوت و قد بل المرادي سيفه.

من ابن أبي شيخ الأباطح طالب.

إن مكة و ما والاها كانت تسمى الأباطح.

قال في مراصد الاطلاع: أبطح بالفتح ثم السكون و فتح الطاء و الحاء المهملة كل مسيل فيه رقاق الحصى فهو أبطح، و قال ابن دريد: الأبطح و البطحاء السهل المنبسط على وجه الأرض، و قال أبو زيد: الأبطح أثر المسيل ضيقا كان أو واسعا، و الأبطح يضاف إلى مكة و إلى منى لأن مسافته منهما واحدة، و ربما كان إلى منى أقرب و هو المحصب، و هي خيف بني كنانة، و قد قيل: إنه ذو طوى، و ليس به، انتهى.

على أن الرواية بعينها رواها غير الثعلبي و ليس فيه ذكر من الأبطح و هي ما يأتي من رواية المجمع من طريق الجمهور و غيرها.

و بعد هذا كله فالرواية من الآحاد، و ليست من المتواترات و لا مما قامت على صحتها قرينة قطعية، و قد عرفت من أبحاثنا المتقدمة أنا لا نعول على الآحاد في غير الأحكام الفرعية على طبق الميزان العام العقلائي الذي عليه بناء الإنسان في حياته، و إنما المراد بالبحث الآنف بيان فساد ما استظهر به من الوجوه التي استنتج منها أنها موضوعة.

و في المجمع،: أخبرنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال أخبرنا أبو بكر الجرجاني قال: أخبرنا أبو أحمد البصري قال: حدثنا محمد بن سهل قال: حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار قال: حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه قال: لما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا يوم غدير خم قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، فقال فطار، ذلك في البلاد فقدم على النبي النعمان بن الحارث الفهري فقال: أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله، و أمرتنا بالجهاد و بالحج و بالصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أو أمر من الله تعالى؟ فقال: بلى و الله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله. فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، فأنزل الله: "سأل سائل بعذاب واقع".

أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، أيضا.

و عن كتاب نزول القرآن، للحافظ أبي نعيم يرفعه إلى علي بن عامر عن أبي الحجاف، عن الأعمش، عن عطية قال: نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي بن

<<        الفهرس        >>