جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


فغيره تعالى إذا أكرم قوما بكرامة ضرب ذلك على بصره بحجاب يمنعه أن يرى منهم السوء و المكروه، و ليس الله سبحانه على هذا النعت بل هو البصير لا يحجبه شيء عن شيء.

قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم" و هذا كالبيان لكون النصارى لم تنفعهم النصرانية و الانتساب إلى المسيح (عليه السلام) عن تعلق الكفر بهم إذ أشركوا بالله و لم يؤمنوا به حق إيمانه حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم.

و النصارى و إن اختلفوا في كيفية اشتمال المسيح بن مريم على جوهرة الألوهية بين قائل باشتقاق أقنوم المسيح و هو العلم من أقنوم الرب تعالى و هو الحياة، و ذلك الأبوة و البنوة، و قائل بأنه تعالى صار هو المسيح على نحو الانقلاب، و قائل بأنه حل فيه كما تقدم بيان ذلك تفصيلا في الكلام على عيسى بن مريم (عليهما السلام) في تفسير سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.

لكن الأقوال الثلاثة جميعا تقبل الانطباق على هذه الكلمة أن الله هو المسيح بن مريم فالظاهر أن المراد بالذين تفوهوا بهذه الكلمة جميع النصارى الغالين في المسيح (عليه السلام) لا خصوص القائلين منهم بالانقلاب.

و توصيف المسيح بابن مريم لا يخلو من دلالة أو إشعار بسبب كفرهم و هو نسبة الألوهية إلى إنسان ابن إنسان مخلوقين من تراب، و أين التراب و رب الأرباب؟!.

قوله تعالى: "و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم" إلى آخر الآية احتجاج على كفرهم و بطلان قولهم بقول المسيح (عليه السلام) نفسه فإن قوله (عليه السلام): "اعبدوا الله ربي و ربكم" يدل على أنه عبد مربوب مثلهم، و قوله: "إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة" يدل على أن من يجعل لله شريكا في ألوهيته فهو مشرك كافر محرم عليه الجنة.

و في قوله تعالى حكاية عنه (عليه السلام): "فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار" عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية، و أنه (عليه السلام) باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم فهم مغفور لهم مرفوع عنهم التكاليف الإلهية و مصيرهم إلى الجنة و لا يمسون نارا كما تقدم نقل ذلك عنهم في تفسير سورة آل عمران في قصة عيسى (عليه السلام) فقصة التفدية و الصلب إنما سيقت لهذا الغرض.



و ما تحكيه الآية من قوله (عليه السلام) موجود في متفرقات الأبواب من الأناجيل كالأمر بالتوحيد، و إبطال عبادة المشرك، و الحكم بخلود الظالمين في النار.

قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" أي أحد الثلاثة: الأب و الابن و الروح، أي هو ينطبق على كل واحد من الثلاثة، و هذا لازم قولهم: إن الأب إله، و الابن إله، و الروح إله، و هو ثلاثة، و هو واحد يضاهئون بذلك نظير قولنا: إن زيد بن عمرو إنسان، فهناك أمور ثلاثة هي: زيد و ابن عمرو و الإنسان، و هناك أمر واحد و هو المنعوت بهذه النعوت، و قد غفلوا عن أن هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، و أن المنعوت إن كان واحدا حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتبارية غير حقيقية فالجمع بين هذه الكثرة العددية و الوحدة العددية في زيد المنعوت بحسب الحقيقة مما يستنكف العقل عن تعقله.

و لذا ربما ذكر بعض الدعاة من النصارى أن مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف التي لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية، و لم يتنبه أن عليه أن يطالب الدليل على كل دعوى يقرع سمعه سواء كان من دعاوي الأسلاف أو من دعاوي الأخلاف.

قوله تعالى: "و ما من إله إلا إله واحد" إلى آخر الآية رد منه تعالى لقولهم: "إن الله ثالث ثلاثة" بأن الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى في ذاته واحد، و إذا اتصف بصفاته الكريمة و أسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئا و لا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة و تعددا فهو تعالى أحدي الذات لا ينقسم لا في خارج و لا في وهم و لا في عقل.

فليس الله سبحانه بحيث يتجزأ في ذاته إلى شيء و شيء قط، و لا أن ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شيء فيصير اثنين أو أكثر، كيف؟ و هو تعالى مع هذا الشيء الذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج.

فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العددية التي لسائر الأشياء المتكون منها الكثرات، و لا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف؟ و هذه الوحدة العددية و الكثرة المتألفة منها كلتاهما من آثار صنعه و إيجاده فكيف يتصف بما هو من صنعه؟.

و في قوله تعالى: "و ما من إله إلا إله واحد" من التأكيد في إثبات التوحيد ما ليس في غيره حيث سيق الكلام بنحو النفي و الاستثناء، ثم أدخل "من" على النفي لإفادة تأكيد الاستغراق، ثم جيء بالمستثنى و هو قوله: "إله واحد" بالتنكير المفيد للتنويع و لو أورد معرفة كقولنا "إلا الإله الواحد" لم يفد ما يرام من حقيقة التوحيد.

فالمعنى: "ليس في الوجود شيء من جنس الإله أصلا إلا إله واحد نوعا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلا لا تعدد الذات و لا تعدد الصفات، لا خارجا و لا فرضا، و لو قيل: و ما من إله إلا الله الواحد لم يدفع به قول النصارى إن الله ثالث ثلاثة فإنهم لا ينكرون الوحدة فيه تعالى، و إنما يقولون: إنه ذات واحدة لها تعين بصفاتها الثلاث، و هي واحدة في عين أنها كثيرة حقيقة.

و لا يندفع ما احتملوه من المعنى إلا بإثبات وحدة لا تتألف منه كثرة أصلا، و هو الذي يتوخاه القرآن الكريم بقوله: "و ما من إله إلا إله واحد".



و هذا من لطائف المعاني التي يلوح إليها الكتاب الإلهي في حقيقة معنى التوحيد و سنغور في البحث المستوفى عنه في بحث قرآني خاص ثم في بحث عقلي و آخر نقلي إيفاء لحقه.

قوله تعالى: "و إن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم" تهديد لهم بالعذاب الأليم الأخروي الذي هو ظاهر الآية الكريمة.

و لما كان القول بالتثليث الذي تتضمنه كلمة: "إن الله ثالث ثلاثة" ليس في وسع عقول عامة الناس أن تتعقله فأغلب النصارى يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظة من غير أن يعقلوا معناه، و لا أن يطمعوا في تعقله كما ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا، و إنما يتعقل كتعقل الفروض المحالة كالإنسان اللاإنسان، و العدد الذي ليس بواحد و لا كثير و لا زوج و لا فرد فلذلك تتسلمه العامة تسلما من غير بحث عن معناه، و إنما يعتقدون في البنوة و الأبوة شبه معنى التشريف فهؤلاء في الحقيقة ليسوا من أهل التثليث، و إنما يمضغون الكلمة مضغا، و ينتمون إليها انتماء بخلاف غير العامة منهم و هم الذين ينسب الله سبحانه إليهم اختلاف المذاهب و يقرر أن ذلك ببغيهم كما قال تعالى: "أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه - إلى أن قال: - و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم": "الشورى: 14".

فالكفر الحقيقي الذي لا ينتهي إلى استضعاف - و هو الذي فيه إنكار التوحيد و التكذيب بآيات الله - إنما يتم في بعضهم دون كلهم، و إنما أوعد الله بالنار الخالد الذين كفروا و كذبوا بآيات الله، قال: "و الذين كفروا و كذبوا بآيات الله أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون": "البقرة: 39" إلى غير ذلك من الآيات، و قد مر الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: "إلا المستضعفين" الآية: "النساء: 98".

و لعل هذا هو السر في التبعيض الظاهر من قوله: "ليمسن الذين كفروا منهم" أو أن المراد به الإشارة إلى أن من النصارى من لا يقول بالتثليث، و لا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله و رسوله، كما كانت على ذلك مسيحيوا الحبشة و غيرها على ما ضبطه التاريخ فالمعنى: لئن لم ينته النصارى عما يقولون نسبة قول بعض الجماعة إلى جميعهم ليمسن الذين كفروا منهم - و هم القائلون بالتثليث منهم - عذاب أليم.

و ربما وجهوا الكلام أعني قوله: "ليمسن الذين كفروا منهم" بأنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل: ليمسنهم انتهى، و إنما عدل إلى وضع الموصول و صلته مكانه ليدل على أن ذلك القول كفر بالله، و أن الكفر سبب العذاب الذي توعدهم به.

و هذا وجه لا بأس به لو لا أن الآية مصدرة بقوله: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" و نظيره في البعد قول بعض آخر: إن "من" في قوله "منهم" بيانية فإنه قول من غير دليل.

قوله تعالى: "أ فلا يتوبون إلى الله و يستغفرونه و الله غفور رحيم" تحضيض على التوبة و الاستغفار، و تذكير بمغفرة الله و رحمته، أو إنكار أو توبيخ.



قوله تعالى: "ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صديقة كانا يأكلان الطعام" رد لقولهم: "إن الله ثالث ثلاثة" أو لقولهم هذا و قولهم المحكي في الآية السابقة: "إن الله هو المسيح بن مريم" جميعا، و محصله اشتمال المسيح على جوهرة الألوهية، بأن المسيح لا يفارق سائر رسل الله الذين توفاهم الله من قبله كانوا بشرا مرسلين من غير أن يكونوا أربابا من دون الله سبحانه، و كذلك أمه مريم كانت صديقة تصدق بآيات الله تعالى و هي بشر، و قد كان هو و أمه جميعا يأكلان الطعام، و أكل الطعام مع ما يتعقبه مبني على أساس الحاجة التي هو أول أمارة من أمارات الإمكان و المصنوعية فقد كان المسيح (عليه السلام) ممكنا متولدا من ممكن، و عبدا و رسولا مخلوقا من أمه كانا يعبدان الله، و يجريان في سبيل الحاجة و الافتقار من دون أن يكون ربا.

و ما بيد القوم من كتب الإنجيل معترفة بذلك تصرح بكون مريم فتاة كانت تؤمن بالله و تعبده، و تصرح بأن عيسى تولد منها كالإنسان من الإنسان، و تصرح بأن عيسى كان رسولا من الله إلى الناس كسائر الرسل و تصرح بأن عيسى و أمه مريم كانا يأكلان الطعام.

فهذه أمور صرحت بها الأناجيل، و هي حجج على كونه (عليه السلام) عبدا رسولا.

و يمكن أن تكون الآية مسوقة لنفي ألوهية المسيح و أمه كليهما على ما يظهر من قوله تعالى: "أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله": "المائدة: 161" أنه كان هناك من يقول بألوهيتها كالمسيح أو أن المراد به اتخاذها إلها كما ينسب إلى أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله، و ذلك بالخضوع لها و لهم بما لا يخضع لبشر بمثله.

و كيف كان فالآية على هذا التقدير تنفي عن المسيح و أمه معا الألوهية بأن المسيح كان رسولا كسائر الرسل، و أمه كانت صديقة، و هما معا كانا يأكلان الطعام، و ذلك كله ينافي الألوهية.

و في قوله تعالى: "قد خلت من قبله الرسل" حيث وصف الرسل بالخلو من قبله، و هو الموت تأكيد للحجة بكونه بشرا يجوز عليه الموت و الحياة كما جاز على الرسل من قبله.

قوله تعالى: "انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون" الخطاب للنبي، (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في مقام التعجيب أي تعجب من كيفية بياننا لهم الآيات، و هو أوضح بيان لأظهر آية في بطلان دعواهم ألوهية المسيح، و كيفية صرفهم عن تعقل هذه الآيات فإلى أي غاية يصرفون عنها، و لا تلتفت إلى نتيجتها - و هي بطلان دعواهم - عقولهم؟.

قوله تعالى: "قل أ تعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا و الله هو السميع العليم" كان الخضوع لأمر الربوبية إنما انتشر بين البشر في أقدم عهوده، و خاصة بين العامة منهم - و عامتهم كانوا يعبدون الأصنام - طمعا في أن يدفع الرب عنهم الشر و يوصل إليهم النفع كما يتحصل من الأبحاث التاريخية، و أما عبادة الله لأنه الله عز اسمه فلم يكن يعدو الخواص منهم كالأنبياء و الربانيين من أممهم.

فأمر الله سبحانه رسوله أن يخاطبهم خطاب البشر الساذج الجاري على ما تلهمه فطرته الساذجة في عبادة الله كما خاطب الوثنيين و عباد الأصنام بذلك فيذكرهم أن الذي يضطر الإنسان بعبادة الرب هو أنه يرى أزمة الخير و الشر و النفع و الضر بيده فيعبده لأنه يملك الضر و النفع طمعا في أن يدفع عنه الضر و يوصل إليه الخير لعبادته له.

و كل ما هو دون الله تعالى لا يملك شيئا من ضر و لا نفع لأنه مملوك لله محضا مسلوب عنه القدرة في نفسه فكيف يسوغ تخصيصه بالعبادة، و إشراكه مع ربه الذي هو المالك له و لغيره، و قد كان من الواجب أن يخص هو تعالى بالعبادة، و لا يتعدى عنه إلى غيره لأنه هو الذي يختص به السمع و الإجابة فيسمع و يجيب المضطر إذ دعاه، و هو الذي يعلم حوائج عباده و لا يغفل عنها و لا يغلط فيها بخلاف غيره تعالى فإنه إنما يملك ما ملكه الله، و يقوى على ما قواه الله سبحانه.



فقد تبين بهذا البيان: أولا: أن الحجة التي تشتمل عليها هذه الآية غير الحجة التي تشتمل عليها الآية السابقة و إن توقفتا معا على مقدمة مشتركة، و هي كون المسيح و أمه ممكنين محتاجين، فالآية السابقة حجتها أن المسيح و أمه كانا بشرين محتاجين عبدين مطيعين لله سبحانه، و من كان حاله هذا الحال لم يصح أن يكون إلها معبودا، و حجة هذه الآية: أن المسيح ممكن محتاج مملوك بنفسه لا يملك ضرا و لا نفعا، و من كان حاله هذا الحال لم يستقم ألوهيته و عبادته من دون الله.

و ثانيا: أن الحجة مأخوذة مما يدركه الفهم البسيط و العقل الساذج من جهة غرض الإنسان البسيط في عبادته فإنه إنما يتخذ ربا و يعبده ليدفع عنه الضر و يجلب إليه النفع، و هذا إنما يملكه الله تعالى دون غيره، فلا غرض يتعلق بعبادة غير الله فمن الواجب أن يرفض عبادته. 

و ثالثا: أن قوله: "ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا" إنما أخذت فيه لفظة "ما" دون لفظة "من" مع المسيح من أولي العقل لأن الحجة بعينها هي التي تقام على الوثنيين و عبدة الأصنام التي لا شعور لها، و لا دخل في كون المسيح (عليه السلام) من أولي العقل في تمام الحجة فهي تامة في كل معبود مفروض دون الله سبحانه.

على أن غيره تعالى و إن كان من أولي العقل و الشعور لا يملكون شيئا من العقل و الشعور من عند أنفسهم كسائر ما ينسب إليهم من شئون وجودهم قال تعالى: "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، أ لهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون": "الأعراف: 159".

و كذلك تقديم الضر على النفع في قوله: "ضرا و لا نفعا" للجري على وفق ما تدركه و تدعوا إليه الفطرة الساذجة كما مر، فإن الإنسان بحسب الطبع يرى ما تلبس به من النعم الموجودة عنده ما دامت عنده مملوكة لنفسه لا تلتفت نفسه إلى إمكان فقدها و لا تتصور ألمه عند فقدها بخلاف المضار التي يجدها بالفعل، و النعم التي يفتقدها و يجد ألم فقدها، فإن الفطرة تنبهها إلى الالتجاء إلى رب يدفع عنها الضر و الضير، و يجلب إليها النعمة المسلوبة كما قال تعالى: "و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه": "يونس: 12"، و قال تعالى: "و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي": "حم السجدة: 50"، و قال تعالى: "و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نأى بجانبه و إذا مسه الشر فذو دعاء عريض": "حم السجدة: 51".

فتحصل أن مس الضر أبعث للإنسان إلى الخضوع للرب و عبادته من وجدان النفع، و لذلك قدم الله سبحانه الضر على النفع في قوله: "ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا" و كذا في سائر الموارد التي تماثله كقوله: "اتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا و هم يخلقون و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا": "الفرقان: 3".

و رابعا: أن مجموع الآية: "أ تعبدون من دون الله" إلى آخرها حجة على وجوب قصر العبادة في الله سبحانه من دون إشراك غيره معه و هي منحلة إلى حجتين ملخصهما: أن اتخاذ الإله و عبادة الرب إنما هو لغرض دفع الضر و جلب النفع فيجب أن يكون الإله المعبود مالكا لذلك و لا يجوز عبادة من لا يملك شيئا، و الله سبحانه هو السميع المجيب للدعوة العليم بكنه الحاجة من غير جهل دون غيره فوجب عبادته من غير إشراك غيره.



قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق" خطاب آخر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يدعو أهل الكتاب إلى عدم الغلو في دينهم، و أهل الكتاب و خاصة النصارى مبتلون بذلك، و "الغالي" المتجاوز عن الحد بالإفراط، و يقابله "القالي" في طرف التفريط.

و دين الله الذي يفسره كتبه المنزلة يأمر بالتوحيد و نفي الشريك و ينهى عن اتخاذ الشركاء لله سبحانه، و قد ابتلي بذلك أهل الكتاب عامة اليهود و النصارى، و إن كان أمر النصارى في ذلك أشنع و أفظع قال تعالى: "و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا إلا هو سبحانه عما يشركون": "التوبة: 31".

و القول بأن عزيرا ابن الله و إن كان غير ظاهر اليوم عند اليهود لكن الآية تشهد بأنهم كانوا يقولون ذلك في عصر النزول.

و الظاهر أن ذلك كان لقبا تشريفيا يلقبونه به قبال ما خدمهم و أحسن إليهم في إرجاعهم إلى أورشليم بيت المقدس بعد إسارة بابل، و جمع لهم التوراة ثانيا بعد ضياعه في قصة بخت نصر، و قد كانوا يعدون بنوة الله لقبا تشريفيا كما يتخذ النصارى اليوم الأبوة كذلك و يسمون الباباوات و البطارقة و القسيسين بالآباء الباب و البابا: الأب و قد قال تعالى: "و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه": "المائدة: 18".

بل الآية الثانية أعني قوله: "اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم" تدل على ذلك حيث اقتصر فيها على ذكر المسيح (عليه السلام)، و لم يذكر عزيرا فدل على دخوله في عموم قوله: "أحبارهم و رهبانهم" و أنهم إنما كانوا يسمونه ابن الله كما يسمون أحبارهم أبناء الله، و قد خصوه بالذكر وحده شكرا لإحسانه إليهم كما تقدمت الإشارة إليه.

و بالجملة وضعهم بعض أنبيائهم و أحبارهم و رهبانهم موضع الربوبية و خضوعهم لهم بما لا يخضع بمثله إلا لله سبحانه غلو منهم في دينهم ينهاهم الله عن ذلك بلسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و تقييد الغلو في الدين بغير الحق - و لا يكون الغلو إلا كذلك - إنما هو للتأكيد و تذكير لازم المعنى مع ملزومه لئلا يذهل عنه السامع و قد ذهل حين غلا أو كان كالذاهل.

و إطلاق الأب على الله سبحانه بتحليل معناه و تجريده عن وسمة نواقص المادة الجسمانية أي من بيده الإيجاد و التربية، و كذلك الابن بمعناه المجرد التحليلي و إن لم يمنعه العقل لكنه ممنوع شرعا لتوقيفية أسماء الله سبحانه لما في التوسع في إطلاق الأسماء المختلفة عليه تعالى من المفاسد، و كفى مفسدة في إطلاق الأب و الابن ما لقيته الأمتان: اليهود و النصارى و خاصة النصارى من أولياء الكنيسة خلال قرون متمادية و لن يزال الأمر على ذلك.

قوله تعالى: "و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل" ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء القوم الذين نهوا عن اتباع أهوائهم هم المتبوعون المطاعون في آرائهم و أوامرهم فيكون ضلالهم لمكان التزامهم بآرائهم إضلالهم كثيرا هو اتباع غيرهم لهم، و ضلالهم عن سواء السبيل هو المتحصل لهم من ضلالهم و إضلالهم، و هو ضلال على ضلال.



و كذلك ظاهر السياق أن المراد بهم هم الوثنية و عبدة الأصنام فإن ظاهر السياق أن الخطاب إنما هو لجميع أهل الكتاب لا للمعاصرين منهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يكون نهيا لمتأخريهم عن اتباع متقدميهم.

و يؤيده بل يدل عليه قوله تعالى: "و قالت اليهود عزير ابن الله، و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل": "التوبة: 30".

فيكون ذلك حقيقة تحليلية تاريخية أشار إليها القرآن الكريم هي أن القول بالأبوة و البنوة مما تسرب إلى أهل الكتاب من قبل من تقدمهم من الوثنية، و قد تقدم في الكلام على قصص المسيح (عليه السلام) في سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب أن هذا القول في جملة من الأقوال و الآراء موجود عند الوثنية البرهمنية و البوذية في الهند و الصين، و كذلك مصر القديم و غيرهم، و إنما أخذ بالتسرب في الملة الكتابية بيد دعاتها، فظهر في زي الدين و كان الاسم لدين التوحيد و المسمى للوثنية.

قوله تعالى: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى بن مريم" إلى آخر الآيتين إخبار بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، و فيه تعريض لهؤلاء الذين كفرهم الله في هذه الآيات من اليهود ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم، و ذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم، و هم كانوا مستمرين على الاعتداء و قوله: "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه" "إلخ" بيان لقوله: "و كانوا يعتدون".

قوله تعالى: "ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا" "إلخ"، و هذا من قبيل الاستشهاد بالحس على كونهم معتدين فإنهم لو قدروا دينهم حق قدره لزموه و لم يعتدوه، و لازم ذلك أن يتولوا أهل التوحيد و يتبرءوا من الذين كفروا لأن أعداء ما يقدسه قوم أعداء لذلك القوم، فإذا تحابوا و توالوا دل ذلك على إعراض ذلك القوم و تركهم ما كانوا يقدسونه و يحترمونه، و صديق العدو عدو، ثم ذمهم الله تعالى بقوله: "لبئس ما قدمت لهم أنفسهم" و هو ولاية الكفار عن هوى النفس، و كان جزاؤه و وباله "أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون"، ففي الآية وضع جزاء العمل و عاقبته موضع العمل كأن أنفسهم قدمت لهم جزاء العمل بتقديم نفس العمل.

قوله تعالى: "و لو كانوا يؤمنون بالله و النبي و ما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء و لكن كثيرا منهم فاسقون" أي و لو كان أهل الكتاب هؤلاء يؤمنون بالله و النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما أنزل إليه، أو نبي أنفسهم كموسى مثلا و ما أنزل إليه كالتوراة مثلا ما اتخذوا أولئك الكفار أولياء لأن الإيمان يجب سائر الأسباب، و لكن كثيرا منهم فاسقون متمردون عن الإيمان.

و في الآية وجه آخر احتملوه، و هو أن يرجع ضمائر قوله: "كانوا" و "يؤمنون" و "هم" في قوله: "ما اتخذوهم" راجعة إلى الذين كفروا، و المعنى: و لو كان الذين كفروا أولئك الكفار الذين يتولاهم أهل الكتاب يؤمنون بالله و النبي و القرآن ما اتخذتهم أهل الكتاب أولياء، و إنما تولوهم لمكان كفرهم، و هذا وجه لا بأس به غير أن الإضراب في قوله: "و لكن كثيرا منهم فاسقون" لا يلائمه.



قوله تعالى: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا - إلى قوله - نصارى" لما بين سبحانه في الآيات السابقة الرذائل المشتركة بين أهل الكتاب عامة، و بعض ما يختص ببعضهم كقول اليهود: "يد الله مغلولة" و قول النصارى: "إن الله هو المسيح بن مريم" ختم الآيات بما يختص به كل من الطائفين إذا قيس حالهم من المؤمنين و دينهم، و أضاف إلى حالهم حال المشركين ليتم الكلام في وقع الإسلام من قلوب الأمم غير المسلمة من حيث قربهم و بعدهم من قبوله.

و يتم الكلام في أن النصارى أقرب تلك الأمم مودة للمسلمين و أسمع لدعوتهم الحقة.

و إنما عدهم الله سبحانه أقرب مودة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدل عليه قوله في الآية التالية: "و إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" "إلخ"، لكن لو كان إيمان طائفة تصحح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعد اليهود و المشركون كمثل النصارى و ينسب إليهما نظير ما نسب إليهم لمكان إسلام طائفة من اليهود كعبد الله بن سلام و أصحابه، و إسلام عدة من مشركي العرب و هم عامة المسلمين اليوم فتخصيص النصارى بمثل قوله: "و إذا سمعوا ما أنزل" "إلخ"، دون اليهود و المشركين يدل على حسن إقبالهم على الدعوة الإسلامية و إجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم و يؤدوا الجزية، و بين أن يقبلوا الإسلام، أو يحاربوا.

و هذا بخلاف المشركين فإنهم لم يكن يقبل منهم إلا قبول الدعوة فكثرة المؤمنين منهم لا يدل على حسن الإجابة، على ما كابد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جفوتهم و لقاه المسلمون من أيديهم بقسوتهم و نخوتهم.

و كذلك اليهود و إن كانوا كالنصارى في إمكان إقامتهم على دينهم و تأدية الجزية إلى المسلمين لكنهم تمادوا في نخوتهم، و تصلبوا في عصبيتهم، و أخذوا بالمكر و المكيدة، و نقضوا عهودهم، و تربصوا الدوائر على المسلمين، و مسوهم بأمر المس و آلمه.

و هذا الذي جرى من أمر النصارى مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الدعوة الإسلامية، و حسن إجابتهم، و كذا من أمر اليهود و المشركين في التمادي على الاستكبار و العصبية جرى بعينه بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) على حذو ما جرى في عهده فما أكثر من لبى الدعوة الإسلامية من فرق النصارى خلال القرون الماضية، و ما أقل ذلك من اليهود و الوثنيين! فاحتفاظ هذه الخصيصة في هؤلاء و هؤلاء يصدق الكتاب العزيز في ما أفاده.

و من المعلوم أن قوله تعالى: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا" من قبيل بيان الضابط العام في صورة خطاب خاص نظير ما مر في الآيات السابقة: "ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا" و "ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم".

قوله تعالى: "ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون" القسيس معرب "كشيش" و الرهبان جمع الراهب و قد يكون مفردا، قال الراغب: الرهبة و الرهب مخافة مع تحرز - إلى أن قال - و الترهب التعبد، و الرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة، قال تعالى: "و رهبانية ابتدعوها" و الرهبان يكون واحدا و جمعا فمن جعله واحدا جمعه على رهابين، انتهى.

علل تعالى ما ذكره من كون النصارى أقرب مودة و آنس قلوبا للذين آمنوا بخصال ثلاث يفقدها غيرهم من اليهود و المشركين، و هي أن فيهم علماء و أن فيهم رهبانا و زهادا، و أنهم لا يستكبرون و ذلك مفتاح تهيؤهم للسعادة.



و ذلك أن سعادة حياة الدين أن تقوم بصالح العمل عن علم به، و إن شئت فقل: إن يذعن بالحق فيطبق عمله عليه فله حاجة إلى العلم ليدرك به حق الدين و هو دين الحق، و مجرد إدراك الحق لا يكفي للتهيؤ للعمل على طبقه حتى ينتزع الإنسان من نفسه الهيئة المانعة عنه، و هو الاستكبار عن الحق بعصبية و ما يشابهها، و إذا تلبس الإنسان بالعلم النافع و النصفة في جنب الحق برفع الاستكبار تهيأ للخضوع للحق بالعمل به لكن بشرط عدم منافاة الجو

<<        الفهرس        >>