جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


بحث تاريخي

كماله المفروض أي دفع، فرضته بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهي في شيء من 

القول بأن للعالم صانعا ثم القول بأنه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتى أن الوثنية المبنية على الإشراك، إذا أمعنا في حقيقة معناها وجدناها مبنية على أساس توحيد الصانع، و إثبات شفعاء عنده ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى و إن انحرفت بعد عن مجراها، و آل أمرها إلى إعطاء الاستقلال و الأصالة لآلهة دون الله.

و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله و إن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة و الكبرياء ذاتا و صفة - على ما تقدم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز - غير أن ألفة الإنسان و أنسه في ظرف حياته بالآحاد العددية من جانب، و بلاء المليين بالوثنيين و الثنويين و غيرهم لنفي تعدد الآلهة من جانب آخر سجل عددية الوحدة و جعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.

و لذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم و اليونان و إسكندرية و غيرهم ممن بعدهم يعطي الوحدة العددية حتى صرح بها مثل الرئيس أبي علي بن سينا في كتاب الشفاء، و على هذا المجرى يجري كلام غيره ممن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبوية.

و أما أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العددية أيضا في عين أن هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامة فهذا ما يتحصل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.

فالذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أن أهل التفسير و المتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة و التابعين ثم الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث و كتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، و لا بسلوك استدلالي.

و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصة، فإن كلامه هو الفاتح لبابها، و الرافع لسترها و حجابها على أهدى سبيل و أوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري، و قد صرحوا بأنهم إنما استفادوه من كلامه (عليه السلام).

و هذا هو السر في اقتصارنا في البحث الروائي السابق على نقل نماذج من غرر كلامه (عليه السلام) الرائق، لأن السلوك في هذه المسألة و شرحها من مسلك الإحتجاج البرهاني لا يوجد في كلام غيره (عليه السلام).

و لهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفي مستقل لهذه المسألة فإن البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلفة من هذه المقدمات المبينة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشيء، و الجميع مبنية على صرافة الوجود و أحدية الذات جلت عظمته.

5 سورة المائدة - 87 - 89

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تحَرِّمُوا طيِّبَتِ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لا يحِب الْمُعْتَدِينَ (87) وَ كلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلَلاً طيِّباً وَ اتّقُوا اللّهَ الّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فى أَيْمَنِكُمْ وَ لَكِن يُؤَاخِذُكم بِمَا عَقّدتّمُ الأَيْمَنَ فَكَفّرَتُهُ إِطعَامُ عَشرَةِ مَسكِينَ مِنْ أَوْسطِ مَا تُطعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسوَتُهُمْ أَوْ تحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لّمْ يجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيّامٍ ذَلِك كَفّرَةُ أَيْمَنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظوا أَيْمَنَكُمْ كَذَلِك يُبَينُ اللّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلّكمْ تَشكُرُونَ (89)

بيان


الآيات الثلاثة و عدة من الآيات الواقعة بعدها إلى بضع و مائة من آيات السورة آيات مبينة لعدة من فروع الأحكام، و هي جميعا كالمتخللة بين الآيات المتعرضة لقصص المسيح (عليه السلام) و النصارى، و هي لكونها طوائف متفرقة نازلة في أحكام متنوعة كل منها ذات استقلال و تمام في ما تقصده من المعنى يشكل القضاء كونها نزلت دفعة أو صاحبت بقية آيات السورة في النزول إذ لا شاهد يشهد بذلك من مضامينها، و أما ما ورد من أسباب النزول فسيأتي بعض ما هو العمدة منها في البحث الروائي.

و كذلك القول في هذه الآيات الثلاث المبحوث عنها فإن الآية الثالثة مستقلة في معناها، و تستقل عنها الآية الأولى و إن لم تخلو من نوع من المناسبة فبينهما بعض الارتباط من جهة أن من جملة مصاديق لغو اليمين أن تتعلق بتحريم بعض الطيبات مما أحله الله تعالى، و لعل هذا هو الداعي لمن نقل عنه في أسباب النزول أنه ذكر نزول الآيات جميعا في اليمين اللاغية.

هذا حال الآية الأولى مع الثالثة، و أما الآية الثانية فكأنها من تمام الآية الأولى كما يشهد به بعض الشهادة ذيلها أعني قوله تعالى: "و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون" بل و صدرها حيث يشتمل على العطف، و على الأمر بأكل الحلال الطيب الذي تنهى الآية الأولى عن تحريمه و اجتنابه، و بذلك تلتئم الآيتان معنى و تتحدان حكما ذواتي سياق واحد.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال الراغب في المفردات: الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهي، و إما بمنع قهري، و إما بمنع من جهة العقل أو جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، انتهى موضع الحاجة.

و قال أيضا: أصل الحل حل العقدة، و منه قوله عز و جل: "و احلل عقدة من لساني"، و حللت: نزلت، أصله من حل الأحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول فقيل: حل حلولا و أحله غيره، قال عز و جل: "أو تحل قريبا من دارهم، و أحلوا قومهم دار البوار"، و يقال: حل الدين وجب أداؤه، و الحلة القوم النازلون و حي حلال مثله، و المحلة مكان النزول، و عن حل العقدة استعير قولهم: حل الشيء حلا قال الله تعالى: "و كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا"، و قال تعالى: "هذا حلال و هذا حرام"، انتهى.

فالظاهر أن مقابلة الحل الحرمة و كذا التقابل بين الحل و الحرم أو الإحرام من جهة تخيل العقد في المنع الذي هو معنى الحرمة و غيرها ثم مقابلته بالحل المستعار لمعنى الجواز و الإباحة، و اللفظان أعني الحل و الحرمة من الحقائق العرفية قبل الإسلام دون الشرعية أو المتشرعة.

و الآية أعني قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا" "إلخ"، تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله لهم و تحريم، ما أحل الله هو جعله حراما كما جعله الله تعالى حلالا و ذلك إما بتشريع قبال تشريع، و إما بالمنع أو الامتناع بأن يترك شيئا من المحللات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك فإن ذلك كله تحريم و منع و منازعة لله سبحانه في سلطانه و اعتداء عليه ينافي الإيمان بالله و آياته، و لذلك صدر النهي بقوله: "يا أيها الذين آمنوا" فإن المعنى: لا تحرموا ما أحل الله لكم و قد آمنتم به و سلمتم لأمره.

و يؤيده أيضا قوله في ذيل الآية التالية: "و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون".

و إضافة قوله: "طيبات" إلى قوله: "ما أحل الله لكم" - مع أن الكلام تام بدونه - للإشارة إلى تتميم سبب النهي فإن تحريم المؤمنين لما أحل الله لهم على أنه اعتداء منهم على الله في سلطانه، و نقض لإيمانهم بالله و تسليمهم لأمره كذلك هو خروج منهم عن حكم الفطرة، فإن الفطرة تستطيب هذه المحللات من غير استخباث، و قد أخبر الله سبحانه عن ذلك فيما نعت به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الشريعة التي جاء بها حيث قال: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون": "الأعراف: 175".

و بهذا الذي بينا يتأيد أولا: أن المراد بتحريم طيبات ما أحل الله هو الإلزام و الالتزام بترك المحللات.

و ثانيا: أن المراد بالحل مقابل الحرمة و يعم المباحات و المستحبات بل و الواجبات قضاء لحق المقابلة.

و ثالثا: أن إضافة الطيبات إلى ما أحل الله في قوله: "طيبات ما أحل الله لكم" إضافة بيانية.

و رابعا: أن المراد بالاعتداء في قوله: "و لا تعتدوا" هو الاعتداء على الله سبحانه في سلطانه التشريعي، أو التعدي عن حدود الله بالانخلاع عن طاعته و التسليم له و تحريم ما أحله كما قال تعالى في ذيل آية الطلاق: "تلك حدود الله فلا تعتدوها و من يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون": "البقرة: 292"، و قوله في ذيل آيات الإرث: "تلك حدود الله و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك الفوز العظيم، و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين": "النساء: 14"، و الآيات - كما ترى - تعد الاستقامة و الالتزام بما شرعه الله طاعة له تعالى و لرسوله ممدوحة، و الخروج عن التسليم و الالتزام و الانقياد اعتداء و تعديا لحدود الله مذموما معاقبا عليه.

فمحصل مفاد الآية النهي عن تحريم ما أحله الله بالاجتناب عنه و الامتناع من الاقتراب منه فإنه يناقض الإيمان بالله و آياته و يخالف كون هذه المحللات طيبات لا خباثة فيها حتى يجتنب عنها لأجلها، و هو اعتداء و الله لا يحب المعتدين.

قوله تعالى: "و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" قد عرفت أن ظاهر السياق أن المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه فقوله: "و لا تعتدوا" يجري مجرى التأكيد لقوله: "لا تحرموا، إلخ".

و أما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالاعتداء تجاوز حد الاعتدال في المحللات بالانكباب على التمتع بها و لاستلذاذ منها قبال تركها و اجتناب تناولها تقشفا و ترهبا فيكون معنى الآية: لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا و تقربا إليه تعالى، و لا تعتدوا بتجاوز حد الاعتدال إلى الإسراف و الإفراط الضار بأبدانكم أو نفوسكم.

أو أن المراد بالاعتداء تجاوز المحللات الطيبة إلى الخبائث المحرمة، و يعود المعنى إلى أن لا تجتنبوا المحللات و لا تقترفوا المحرمات، و بعبارة أخرى: لا تحرموا ما أحل الله لكم، و لا تحللوا ما حرم الله عليكم.



فكل من المعنيين و إن كان في نفسه صحيحا يدل عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكن شيئا منهما لا ينطبق على الآية بظاهر سياقها و سياق ما يتلوها من الآية اللاحقة فما كل معنى صحيح يمكن تحميله على كل لفظ كيفما سيق و أينما وقع.

قوله تعالى: "و كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا" إلى آخر الآية، ظاهر العطف أعني انعطاف قوله: "و كلوا" على قوله: "لا تحرموا" أن يكون مفاد هذه الآية بمنزلة التكرار و التأكيد لمضمون الآية السابقة، و يؤيده سياق صدر الآية من حيث اشتماله على قوله: "حلالا طيبا"، و هو يحاذي قوله في الآية السابقة: "طيبات ما أحل الله"، و كذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه: "و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنين" و قوله في الآية السابقة: "يا أيها الذين آمنوا" و قد مر بيانه.

و على هذا فقوله: "كلوا" "إلخ"، من قبيل ورود الأمر عقيب الحظر، و تخصيص قوله: "كلوا" بعد تعميم قوله: "لا تحرموا طيبات" "إلخ"، إما تخصيص بحسب اللفظ فقط، و المراد بالأكل مطلق التصرف فيما رزقه الله تعالى من طيبات نعمه، سواء كان بالأكل بمعنى التغذي أو بسائر وجوه التصرف، و قد تقدم مرارا أن استعمال الأكل بمعنى مطلق التصرف استعمال شائع ذائع.

و إما أن يكون المراد - و من الممكن ذلك - الأكل بمعناه الحقيقي، و يكون سبب نزول الآيتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيبة على أنفسهم فتكون الآيتان نازلتين في النهي عن ذلك، و قد عمم النهي في الآية الأولى للأكل و غيره إعطاء للقاعدة الكلية لكون ملاك النهي يعم محللات الأكل و غيرها على حد سواء.

و قوله: "مما رزقكم الله" لازم ما استظهرناه من معنى الآيتين كونه مفعولا لقوله: "كلوا" و قوله: "حلالا طيبا" حالين من الموصول و بذلك تتوافق الآيتان، و ربما قيل: إن قوله: "حلالا طيبا" مفعول قوله: "كلوا" و قوله: "مما رزقكم الله" متعلق بقوله: "كلوا" أو حال من الحلال قدم عليه لكونه نكرة، أو كون قوله: "حلالا" وصفا لمصدر محذوف، و التقدير: رزقا حلالا طيبا إلى غير ذلك.

و ربما استدل بعضهم بقوله: "حلالا" على أن الرزق يشمل الحلال و الحرام معا و إلا لغا القيد.

و الجواب: أنه ليس قيدا احترازيا لإخراج ما هو رزق غير حلال و لا طيب بل قيد توضيحي مساو لمقيده، و النكتة في الإتيان به بيان أن كونه حلالا طيبا لا يدع عذرا لمعتذر في الاجتناب و الكف عنه على ما تقدم، و قد تقدم الكلام في معنى الرزق في ذيل الآية 27 من سورة آل عمران في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" اللغو ما لا يترتب عليه أثر من الأعمال، و الأيمان جمع يمين و هو القسم و الحلف قال الراغب في المفردات: و اليمين في الحلف مستعار من اليد اعتبارا بما يفعله المعاهد و المحالف و غيره، قال تعالى: "أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة، و أقسموا بالله جهد أيمانهم، لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" انتهى، و التعقيد مبالغة في العقد و قرىء: عقدتم بالتخفيف، و قوله: "في أيمانكم" متعلق بقوله: "لا يؤاخذكم" أو بقوله: "باللغو" و هو أقرب.

و التقابل الواقع بين قوله: "باللغو في أيمانكم" و قوله: "بما عقدتم الأيمان" يعطي أن المراد باللغو في الأيمان ما لا يعقد عليه الحالف، و إنما يجري على لسانه جريا لعادة اعتادها أو لغيرها و هو قولهم - و خاصة في قبيل البيع و الشرى -: لا و الله، بلى و الله، بخلاف ما عقد عليه عقدا بالالتزام بفعل أو ترك كقول القائل: و الله لأفعلن كذا، و و الله لأتركن كذا.

هذا هو الظاهر من الآية، و لا ينافي ذلك أن يعد شرعا قول القائل: و الله لأفعلن المحرم الفلاني، و الله لأتركن الواجب الفلاني مثلا من لغو اليمين لكون الشارع ألغى اليمين فيما لا رجحان فيه، فإنما هو إلحاق من جهة السنة، و ليس من الواجب أن يدل القرآن على خصوص كل ما ثبت بالسنة بخصوصه.

و أما قوله: "و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" فلا يشمل إلا اليمين الممضاة شرعا لمكان قوله في ذيل الآية: "و احفظوا أيمانكم" فإنه لا مناص عن شموله لهذه الأيمان بحسب إطلاق لفظه، و لا معنى للأمر بحفظ الأيمان التي ألغى الله سبحانه اعتبارها فالمتعين أن اللغو من الأيمان في الآية ما لا عقد فيه، و ما عقد عليه هو اليمين الممضاة.

قوله تعالى: "فكفارته إطعام عشرة مساكين - إلى قوله - أو تحرير رقبة، الكفارة هي العمل الذي يستر به مساءة المعصية بوجه، من الكفر بمعنى الستر، قال تعالى: "نكفر عنكم سيئاتكم": "النساء: 31"، قال الراغب: و الكفارة ما يغطي الإثم و منه كفارة اليمين، انتهى.

و قوله: "فكفارته" تفريع على اليمين باعتبار مقدر هو نحو من قولنا: فإن حنثتم فكفارته كذا، و ذلك لأن في لفظ الكفارة دلالة على معصية تتعلق به الكفارة، و ليست هذه المعصية هي نفس اليمين، و لو كان كذلك لم يورد في ذيل الآية قوله: "و احفظوا أيمانكم" إذ لا معنى لحفظ ما فيه معصية فالكفارة إنما تتعلق بحنث اليمين لا بنفسها.

و منه يظهر أن المؤاخذة المذكورة في قوله: "و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" هي المؤاخذة على حنث اليمين لا على نفس إيقاعها، و إنما أضيفت إلى اليمين لتعلق متعلقها - أعني الحنث - بها، فقوله: "فكفارته" متفرع على الحنث المقدر لدلالة قوله: "يؤاخذكم، إلخ، عليه، و نظير هذا البيان جار في قوله: "ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم" و تقديره: إذا حلفتم و حنثتم.

و قوله: "إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة" خصال ثلاث يدل الترديد على تعيين إحداها عند الحنث من غير جمع، و يدل قوله بعده: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام" على كون الخصال المذكورة تخييرية من غير لزوم مراعاة الترتيب الواقع بينها في الذكر، و إلا لغا التفريع في قوله: "فمن لم يجد" "إلخ"، و كان المتعين بحسب اقتضاء السياق أن يقال: أو صيام ثلاثة أيام.

و في الآية أبحاث فرعية كثيرة مرجعها علم الفقه.

قوله تعالى: "ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم" تقدم أن الكلام في تقدير: إذا حلفتم و حنثتم، و في قوله: "ذلك كفارة أيمانكم" و كذا في قوله: "كذلك يبين الله لكم" نوع التفات و رجوع من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لعل النكتة فيه أن الجملتين جميعا من البيان الإلهي للناس إنما هو بوساطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان في ذلك حفظا لمقامه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان ما أوحي إليه للناس كما قال تعالى: "و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم": "النحل: 44".

قوله تعالى: "كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون" أي يبين لكم بواسطة نبيه أحكامه لعلكم تشكرونه بتعلمها و العمل بها.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الآية،: قال حدثني أبي عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين (عليه السلام) و بلال و عثمان بن مظعون فأما أمير المؤمنين (عليه السلام) فحلف أن لا ينام بالليل أبدا، و أما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، و أما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا. فدخلت امرأة عثمان على عائشة، و كانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لي أراك متعطلة؟ فقالت: و لمن أتزين؟ فوالله ما قربني زوجتي منذ كذا و كذا فإنه قد ترهب و لبس المسوح و زهد في الدنيا. فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات؟ ألا إني أنام بالليل و أنكح و أفطر بالنهار، فمن رغب عن سنتي فليس مني. فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم - و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان - فكفارته إطعام عشرة مساكين - من أوسط ما تطعمون أهليكم - أو كسوتهم أو تحرير رقبة - فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام - ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم".

أقول: و في انطباق قوله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" الآية، على حلفهم خفاء، و قد تقدم بعض الكلام فيه، و قد روى الطبرسي في مجمع البيان، القصة عن أبي عبد الله (عليه السلام) و لم يذكر الذيل فليتأمل فيه.

و في الإحتجاج، عن الحسن بن علي (عليهما السلام) في حديث: أنه قال لمعاوية و أصحابه: أنشدكم بالله أ تعلمون أن عليا أول من حرم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم".

و في المجمع، في الآية: قال المفسرون: جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فذكر الناس و وصف القيامة فرق الناس و بكوا و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، و هم علي و أبو بكر و عبد الله بن مسعود و أبو ذر الغفاري و سالم مولى أبي حذيفة و عبد الله بن عمر و المقداد بن الأسود الكندي و سلمان الفارسي و معقل بن مقرن، و اتفقوا على أن يصوموا النهار، و يقوموا الليل، و لا يناموا على الفرش، و لا يأكلوا اللحم و لا الودك، و لا يقربوا النساء و الطيب، و يلبسوا المسوح، و يرفضوا الدنيا، و يسيحوا في الأرض، و هم بعضهم أن يجب مذاكيره. فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية و اسمها حولاء و كانت عطارة: أ حق ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما دخل عثمان أخبرته بذلك. فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو و أصحابه فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا و كذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله و ما أردنا إلا الخير، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لم أومر بذلك، ثم قال: إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا فإني أقوم و أنام و أصوم و أفطر و آكل اللحم و الدسم و آتي النساء، و من رغب عن سنتي فليس مني. ثم جمع الناس و خطبهم و قال: ما بال أقوام حرموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين و رهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم و لا النساء و لا اتخاذ الصوامع، و إن سياحة أمتي الصوم، و رهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا، و حجوا، و اعتمروا، و أقيموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و صوموا رمضان، و استقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات و الصوامع فأنزل الله الآية.

أقول: و يظهر بالرجوع إلى روايات القوم أن هذه الرواية إنما هي تلخيص للروايات المروية في هذا الباب، و هي كثيرة جدا فقد أوردها بالجمع بين شتات مضامينها بإدخال بعضها في بعض، و سبكها رواية واحدة.

و أما نفس هذه الروايات على كثرتها فلم يجتمع أسماء هؤلاء الصحابة في واحدة منها بل ذكر الأجمع منها لفظا هؤلاء الصحابة بلفظ عثمان بن مظعون و أصحابه و في بعضها أناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في بعضها رجال من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و كذلك ما وقع في هذه الرواية من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و خطبته على تفصيلها متفرقة الجمل في الروايات، و كذلك الذي عقدوا عليه و هموا به من التروك لم تصرح الروايات بأنهم اتفقوا جميعهم على جميعها بل صرح بعض الروايات باختلافهم فيما هموا به أو عقدوا عليه كما في صحيح البخاري و مسلم عن عائشة: إن ناسا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سألوا أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن عمله في السر فقال بعضهم: لا آكل اللحم، و قال بعضهم: لا أتزوج النساء، و قال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا و كذا؟ لكني أصوم و أفطر، و أنام و أقوم، و آكل اللحم، و أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.

و لعل المراد بقوله في الرواية: و اتفقوا على أن يصوموا النهار "إلخ"، أن المجموع اتفقوا على المجموع لا أن كل واحد منهم عزم على الجميع.

و الروايات و إن كانت مختلفة في مضامينها، و فيها الضعيف و المرسل و المعتبر لكن التأمل في جميعها يوجب الوثوق بأن رهطا من الصحابة عزموا على هذا النوع من التزهد و التنسك، و أنه كان فيهم علي (عليه السلام) و عثمان بن مظعون، و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم: من رغب عن سنتي فليس مني، و الله أعلم، فعليك بالرجوع إلى التفاسير الروائية كتفسير الطبري و الدر المنثور و فتح القدير و أمثالها.

و في الدر المنثور،: أخرج الترمذي و حسنه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن عدي في الكامل و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء و أخذتني شهوتي، و إني حرمت علي اللحم فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم".

و فيه،: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله و هو عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي هو حرام علي، فقالت امرأته: هو علي حرام، قال الضيف: هو علي حرام، فلما رأى ذلك وضع يده و قال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال النبي: (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أصبت فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم".

أقول: من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الأخيرتين من تطبيق الرواة، و هو شائع في روايات أسباب النزول، و من الممكن أن يقع لنزول الآية أسباب عديدة.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان قال: سألته عن رجل قال لامرأته: طالق، أو مماليكه أحرار إن شربت حراما و لا حلالا فقال: أما الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، و أما الحلال فلا يتركه فإنه ليس أن يحرم ما أحل الله لأن الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" فليس عليه شيء في يمينه من الحلال.



و في الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول في قول الله عز و جل: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قال: "اللغو" قول الرجل: "لا و الله، و بلى و الله" و لا يعقد على شيء:. أقول: و روى العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان مثله، و عن محمد بن مسلم مثله و فيه: و لا يعقد عليها.

و في الدر المنثور،: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت: "يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" في القوم الذين حرموا النساء و اللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم".

أقول: و الرواية تشاكل ذيل الرواية الأولى التي أوردناها في صدر البحث غير أنها لا تنطبق على ظاهر الآية فإن الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه، و قد قوبل في الآية قوله: "باللغو في أيمانكم" بقوله: "بما عقدتم الأيمان" و دل ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه، و هذا الظاهر إنما يوافق الرواية المفسرة للغو اليمين بقول القائل: لا و الله، و بلى و الله، من غير أن يعقد على شيء، و أما اليمين الملغاة شرعا ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعين أن يستند إلغاؤه إلى السنة دون الكتاب.

على أن سياق الآية أدل دليل على أنها مسوقة لبيان كفارة اليمين و الأمر بحفظها استقلالا لا على نحو التطفل كما هو لازم هذا التفسير.

5 سورة المائدة - 90 - 93

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِنّمَا الخَْمْرُ وَ الْمَيْسرُ وَ الأَنصاب وَ الأَزْلَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيْطنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنّمَا يُرِيدُ الشيْطنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فى الخَْمْرِ وَ الْمَيْسرِ وَ يَصدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصلَوةِ فَهَلْ أَنتُم مّنتهُونَ (91) وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرّسولَ وَ احْذَرُوا فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّمَا عَلى رَسولِنَا الْبَلَغُ الْمُبِينُ (92) لَيْس عَلى الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طعِمُوا إِذَا مَا اتّقَوْا وّ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ ثُمّ اتّقَوا وّ ءَامَنُوا ثُمّ اتّقَوا وّ أَحْسنُوا وَ اللّهُ يحِب المُْحْسِنِينَ (93)

بيان


الآيات متلائمة سياقا فكأنها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولا، و الآية الأخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبينه تفصيلا، فهي جميعا تتعرض لحال الخمر، و بعضها يضيف إليها الميسر و الأنصاب و الأزلام.

و قد تقدم في قوله تعالى: "يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما": "البقرة - 291"، في الجزء الأول، و في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون":" "النساء - 43" في الجزء الرابع من هذا الكتاب أن هاتين الآيتين مع قوله تعالى: "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم": "الأعراف: 33"، و هذه الآية المبحوث عنها: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه - إلى قوله - فهل أنتم منتهون" إذا انضم بعضها إلى بعض دلت سياقاتها المختلفة على تدرج الشارع في تحريم الخمر.

لكن لا بمعنى السلوك التدريجي في تحريمها من تنزيه و إعافة إلى كراهية إلى تحريم صريح حتى ينتج معنى النسخ، أو من إبهام في البيان إلى إيضاح أو كناية خفية إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينية في إجراء الأحكام الشرعية فإن قوله تعالى: "و الإثم" آية مكية في سورة الأعراف إذا انضم إلى قوله تعالى: "قل فيهما إثم كبير" و هي آية مدنية واقعة في سورة البقرة أول سورة مفصلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجا صريحا لا يدع عذرا لمعتذر، و لا مجالا لمتأول.

بل بمعنى أن الآيات تدرجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عام و ذلك قوله تعالى: "و الإثم"، ثم بالتحريم الخاص في صورة النصيحة و ذلك قوله: "قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما"، و قوله: "لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ الذي يدل عليه قوله: "إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس - إلى قوله - فهل أنتم منتهون" الآيتان.

فهذه الآيات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدل على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من "إنما" و التسمية بالرجس، و نسبته إلى عمل الشيطان، و الأمر الصريح بالاجتناب، و توقع الفلاح فيه، و بيان المفاسد التي تترتب على شربها، و الاستفهام عن الانتهاء، ثم الأمر بإطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، و الاستغناء عنهم لو خالفوا.

و يدل على ذلك بعض الدلالة أيضا قوله تعالى في ذيل الآيات: "ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات "إلخ" بما سيأتي من الإيضاح.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر، إلى آخر" الآية قد تقدم الكلام في أول السورة في معنى الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كل مائع مسكر عمل بالتخمير، و الميسر هو القمار مطلقا، و الأنصاب هي الأصنام أو الحجارة التي كانت تنصب لذبح القرابين عليها و كانت تحترم و يتبرك بها، و الأزلام هي الأقداح التي كانت يستقسم بها، و ربما كانت تطلق على السهام التي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الأمور و العزيمة عليها كالخروج إلى سفر و نحوه لكن اللفظ قد وقع في أول السورة للمعنى الأول لوقوعه بين محرمات الأكل فيتأيد بذلك كون المراد به هاهنا هو ذلك.

فإن قلت: الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الذي هو الاستقسام بالأقداح، و لا وجه لإيراد الخاص بعد العام من غير نكتة ظاهرة فالمتعين حمل اللفظ على سهام التفؤل و الخيرة التي كان العمل بها معروفا عندهم في الجاهلية قال الشاعر: فلئن جذيمة قتلت ساداتها.

فنساؤها يضربن بالأزلام.

و هو كما روي أنهم كانوا يتخذون أخشابا ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه "افعل" و الثاني مكتوب عليه لا تفعل و الثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه و هي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمه كالسفر و غير ذلك أخرج واحدا منها فإن كان الذي عليه مكتوب "افعل" عزم عليه، و إن خرج الذي مكتوب عليه "لا تفعل" تركه، و إن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين، و سمي استقساما لأن فيه طلب ما قسم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.
<<        الفهرس        >>