جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و قد ذكر أمر رهبانيتهم في القرآن الشريف قال تعالى: "ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون": "المائدة: 82" و قال تعالى: "و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها": "الحديد: 27"، كما ذكر المتعبدون من اليهود في قوله: "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون، يؤمنون بالله و اليوم الآخر و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يسارعون في الخيرات و أولئك من الصالحين": "آل عمران: 141".

و أما الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات و الأعمال النفسية كأصحاب السحر و السيمياء و أصحاب الطلسمات و تسخير الأرواح و الجن و روحانيات الحروف و الكواكب و غيرها و أصحاب الإحضار و تسخير النفوس، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعا من السلطة على أمر النفس.

و جملة الأمر على ما يتحصل من جميع ما مر: أن الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان و المذاهب و الأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها و الاشتغال بتطهيرها من شوب الأخلاق و الأحوال غير المناسبة للمطلوب.

5 - لعلك ترجع و تقول: إن الذي ثبت من سنن أرباب المذاهب و الطرق و سيرهم هو الزهد في الدنيا و هو غير مسألة معرفة النفس أو الاشتغال بأمر النفس بالمعنى الذي تقدم البحث عنه.

و بلفظ أوضح: الذي يندب إليه الأديان و المذاهب التي تدعو إلى العبودية بنحو أن يتزهد الإنسان نوع تزهد في الدنيا بإتيان الأعمال الصالحة و ترك الهوى و الآثام و رذائل الأخلاق ليتهيأ بذلك لأحسن الجزاء إما في الآخرة كما يصرح به الأديان النبوية كاليهودية و النصرانية و الإسلام أو في الدنيا كما استقر عليه دين الوثنية و مذهب التناسخ و غيرهما.

فالمتعبد على حسب الدستور الديني يأتي بما ندب إليه من نوع التزهد من غير أن يخطر بباله أن هناك نفسا مجردة و أن لها نوعا من المعرفة، فيه سعادتها و كمال وجودها.

و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها و سننها إنما يرتاض بما يرتاض من مشاق الأعمال و لا هم له في ذلك إلا حيازة المقام الموعود فيها و التسلط على نتيجة العمل، كنفوذ الإرادة مثلا و هو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه.



على أن في هؤلاء من لا يرى في النفس إلا أنها أمر مادي طبيعي كالدم أو الروح البخاري أو الأجزاء الأصلية، و من يرى أن النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري حال فيه، و هو الحامل للحياة فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس؟.

لكنه ينبغي لك أن تتذكر ما تقدم ذكره أن الإنسان في جميع هذه المواقف التي يأتي فيها بأعمال تصرف النفس عن الاشتغال بالأمور الخارجية و التمتعات المتفننة المادية إلى نفسها للحصول على خواص و آثار لا توصل إليها الأسباب المادية و العوامل الطبيعية العادية، لا يريد إلا الانفصال عن العلل و الأسباب الخارجية، و الاستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصة لا سبيل للعوامل المادية العادية إليها.

فالمتدين المتزهد في دينه يرى أن من الواجب الإنساني أن يختار لنفسه سعادته الحقيقية و هي الحياة الطيبة الأخروية عند المنتحلين بالمعاد، و الحياة السعيدة الدنيوية التي تجمع له الخير و تدفع عنه الشر عند المنكرين له كالوثنية و أصحاب التناسخ، ثم يرى أن الاسترسال في التمتعات الحيوانية لا تحوز له سعادته، و لا تسلك به إلى غرضه فلا محيص له عن رفض الهوى و ترك الانطلاق إلى كل ما تتهوسه نفسه بأسبابها العادية في الجملة، و الانجذاب إلى سبب أو أسباب فوق الأسباب المادية العادية بالتقرب إليه و الاتصال به، و أن هذا التقرب و الاتصال إنما يتأتى بالخضوع له و التسليم لأمره و ذلك أمر روحي نفساني لا ينحفظ إلا بأعمال و تروك بدنية، و هذه هي العبادة الدينية من صلاة و نسك أو ما يرجع إلى ذلك.

فالأعمال و المجاهدات و الارتياضات الدينية ترجع جميعا إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس، و الإنسان يرى بالفطرة أنه لا يأخذ شيئا و لا يترك شيئا إلا لنفع نفسه، و قد تقدم أن الإنسان لا يخلو، و لا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه و حضور ذاته و أنه لا يخطىء في شعوره هذا البتة، و إن أخطأ فإنما يخطىء في تفسيره بحسب الرأي النظري و البحث الفكري فظهر بهذا البيان أن الأديان و المذاهب على اختلاف سننها و طرقها لا تروم إلا الاشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا.

و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات و المجاهدات و إن لم يكن منتحلا بديلا و لا مؤمنا بأمر حقيقة النفس لا يقصد بنوع رياضته التي يرتاض بها إلا الحصول على نتيجتها الموعودة له، و ليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالأعمال و التروك التي يأتي بها ارتباطا طبيعيا نظير الارتباط الواقع بين الأسباب الطبيعية و مسبباتها، بل هو ارتباط إرادي غير مادي متعلق بشعور المرتاض و إرادته المحفوظين بنوع العمل الذي يأتي به، دائر بين نفس المرتاض و بين النتيجة الموعودة فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس و تكميلها في شعورها و إرادتها للنتيجة المطلوبة، و إن شئت قلت: أثر الرياضة أن تحصل للنفس حالة العلم بأن المطلوب مقدور لها فإذا صحت الرياضة و تمت صارت بحيث لو أرادت المطلوب مطلقا أو أرادته على شرائط خاصة كإحضار الروح للصبي غير المراهق في المرآة حصل المطلوب.

و إلى هذا الباب يرجع معنى ما روي: "أنه ذكر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن بعض أصحاب عيسى (عليه السلام) كان يمشي على الماء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لو كان يقينه أشد من ذلك لمشى على الهواء" فالحديث - كما ترى - يؤمىء إلى أن الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه و إمحاء الأسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهية انقادت له الأشياء على قدره، فافهم ذلك.

و من أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق (عليه السلام): ما ضعف بدن عما قويت عليه النية، و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المتواتر: "إنما الأعمال بالنيات".

فقد تبين أن الآثار الدينية للأعمال و العبادات و كذلك آثار الرياضات و المجاهدات إنما تستقر الرابطة بينها و بين النفس الإنسانية بشئونها الباطنية، فالاشتغال بشيء منها اشتغال بأمر النفس.

و من زعم أن رابطة السببية و المسببية إنما هي بين أجساد هذه الأعمال و بين الغايات الأخروية مثلا من روح و ريحان و جنة نعيم، أو بينها و بين الغايات الدنيوية الغريبة التي لا تعمل الأسباب الطبيعية فيها، كالتصرف في إدراكات النفوس و أنواع إرادتها و التحريكات من غير محرك و الاطلاع على الضمائر و الحوادث المستقبلة و الاتصال بالروحانيات و الأرواح و نحو ذلك، أو زعم أن العمل يستتبع الأثر من غير رابطة حقيقية أو بمجرد إرادة إلهية من غير مخصص فقد غر نفسه.

6 - إياك أن يشتبه عليك الأمر فتستنتج من الأبحاث السابقة أن الدين هو العرفان و التصوف أعني معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين فقسم المسلك الحيوي الدائر بين الناس إلى قسمين: المادية و العرفان و هو الدين.

و ذلك أن الذي يعقد عليه الدين أن للإنسان سعادة حقيقية ليس ينالها إلا بالخضوع لما فوق الطبيعة و رفض الاقتصار على التمتعات المادية، و قد أنتجت الأبحاث السابقة: أن الأديان أيا ما كانت من حق أو باطل تستعمل في تربية الناس و سوقهم إلى السعادة التي تعدهم إياها و تدعوهم إليها إصلاح النفس و تهذيبها إصلاحا و تهذيبا يناسب المطلوب، و أين هذا من كون عرفان النفس هو الدين.

فالدين يدعو إلى عبادة الإله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء و الشركاء لأن فيها السعادة الإنسانية و الحياة الطيبة التي لا بغية للإنسان دونها، و لا ينالها الإنسان و لن ينالها إلا بنفس طاهرة مطهرة من ألواث التعلق بالماديات و التمتعات المرسلة الحيوانية، فمست الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس و تطهيرها ليستعد المنتحل به المتربي في حجره للتلبس بالخير و السعادة، و لا يكون كمن يتناول الشيء بإحدى يديه و يدفعه بالأخرى، فالدين أمر و عرفان النفس أمر آخر وراءه، و إن استلزم الدين العرفان نوعا من الاستلزام.

و بنظير البيان يتبين أن طرق الرياضة و المجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوعة غريبة عن العادة أيضا غير عرفان النفس و إن ارتبط البعض بالبعض نحوا من الارتباط.

نعم لنا أن نقضي بأمر و هو أن عرفان النفس بأي طريق من الطرق فرض السلوك إليه إنما هو أمر مأخوذ من الدين كما أن البحث البالغ الحر يعطي أن الأديان على اختلافها و تشتتها إنما انشعبت هذه الانشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الإنسانية و هو دين التوحيد.

فإنا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالإغماض عن التعصبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا، لم نرتب في أن العالم على وحدته في كثرته و ارتباط أجزائه في عين تشتتها ينتهي إلى سبب واحد فوق الأسباب، و هو الحق الذي يجب الخضوع لجانبه و ترتيب السلوك الحيوي على حسب تدبيره و تربيته، و هو الدين المبني على التوحيد.



و التأمل العميق في جميع الأديان و النحل يعطي أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحي حتى الوثنية، و الثنوية و إنما وقع الاختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الأصل و الإصابة و الإخطاء فيه فمن قائل مثلا: أنه أقرب إلينا من حبل الوريد و هو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولي و لا شفيع فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، و من قائل: إن تسفل الإنسان الأرضي و خسة جوهره لا يدع له مخلصا إلى الاتصال بذاك الجناب، و أين التراب و رب الأرباب؟ فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة و هم روحانيات الكواكب أو أرباب الأنواع أو المقربون من الإنسان "و ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى".

و إذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالأنصاب و الأصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي، و على هذا القياس في سائر الأديان و الملل فلا نجد في متونها إلا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الإله عز اسمه.

و من المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس و إن انشعبت أي انشعاب فرض و اختلفت أي اختلاف شديد فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، و تنتهي بالأخرة إلى دين الفطرة الساذجة الإنسانية و هو التوحيد فدين التوحيد أبو الأديان و هي أبناء له صالحة أو طالحة.

ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الإنسانية التي يدعو إليها و هي معرفة الإله التي هي المطلوب الأخير عنده، و بعبارة أخرى الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية فإن الذوق الديني لا يرتضي الاشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، و إن الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية؟.

و من هنا يظهر أن العرفان ينتهي إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمرا مستقلا يدعو إليه الفطرة الإنسانية حتى ينتهي فروعه و أغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري.

و يمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر و هو أن الإنسانية و إن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع و المدنية لإسعاد الحياة، و أثبت النقل و البحث أن رجالا أو أقواما اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سننا اجتماعية، و أجروها بين أممهم كسنن القبائل و السنة الملوكية و الديمقراطية و نحوها، و لم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس و تهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشري.

نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر و الأرواح و نحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض الآثار النفسانية الغريبة على سبيل الاتفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالا عجيبة و تصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه و السلوك إليه ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب و يسهل الوعر منه.

7 - يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة و حوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، و مشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس، و استجابة للدعوة و شفاء المريض الذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه، و النجاة من المخاطر و المهالك من غير طريق العادة، و قد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نية صادقة و نفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون و هم على غفلة من سببه القريب، و إنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، و استناد الأمور إليه تعالى، و إن كان حقا لا محيص عن الاعتراف به لكن نفي الأسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه.

و ربما أحضر الروحي روح أحد من الناس في مرآة أو ماء و نحوه بالتصرف في نفس صبي - على ما هو المتعارف - و هو كغيره يرى أن الصبي إنما يبصره بالبصر الحسي، و أن بين أبصار سائر الناظرين و بين الروح المحضر حجابا مضروبا لو كشف عنه لكانوا مثل الصبي في الظفر بمشاهدته.

و ربما وجدوا الأرواح المحضرة أنها تكذب في أخبارها فيكون عجبا لأن عالم الأرواح عالم الطهارة و الصفاء لا سبيل للكذب و الفرية و الزور إليه.

و ربما أحضروا روح إنسان حي فيستنطقونه بأسراره و ضمائره و صاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله و حوائجه اليومية لا خبر عنده من أن روحه محضر مستنطق يبث من القول ما لا يرضى هو ببثه.

و ربما نوم الإنسان تنويما مغناطيسيا ثم لقن بعمل حتى ينعم بقبوله فإذا أوقظ و مضى لشأنه أتى بالعمل الذي لقنه على الشريطة التي أريد بها و هو غافل عما لقنوه و عن إنعامه بقبوله.

و بعض الروحيين لما شاهدوا صورا روحية تماثل الصور الإنسانية أو صور بعض الحيوان ظنوا أن هذه الصور في عالم المادة و ظرف الطبيعة المتغيرة، و خاصة بعض من لا يرى لغير الأمر المادي وجودا، حتى حاول بعض هؤلاء أن يخترع أدوات صناعية يصطاد بها الأرواح، كل ذلك استنادا منهم إلى فرضية افترضوها في النفس: أنها مبدأ مادي أو خاصة لمبدإ مادي يفعل بالشعور و الإرادة، مع أنهم لم يحلوا مشكلة الحياة و الشعور حتى اليوم.

و نظير هذه الفرضية فرضية من يرى أن الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري في هيئاته و أشكاله لما وجدوا أن الإنسان يرى نفسه في المنام و هو على هيئته في اليقظة، و ربما يمثل لأرباب المجاهدات صور أنفسهم قبالا خارج أبدانهم و هي مشاكلة للصورة البدنية مشاكلة تامة، فحكموا أن الروح جسم لطيف حال في البدن العنصري ما دام الإنسان حيا فإذا فارق البدن كان هو الموت.

و قد فاتهم أن هذه صورة إدراكية قائمة بشعور الإنسان نظيرة صورته التي يدركها من بدنه، و نظيرة صور سائر الأشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، و ربما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة أو في هيئة غير هيئة نفسه، و ربما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكور أنها هي صورة الروح فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة التي تتراءى لأرباب المجاهدات أنها صورة الروح.

و حقيقة الأمر أن هؤلاء نالوا شيئا من معارف النفس و فاتهم معرفة حقيقتها كما هي فأخطئوا في تفسير ما نالوه و ضلوا في توجيه أمره، و الحق الذي يهدي إليه البرهان و التجربة أن حقيقة النفس التي هي هذا الشعور المتعقل المحكي عنه بقولنا "إنا" أمر مغاير في جوهره لهذه الأمور المادية كما تقدم، و أن أقسام شعوره و أنواع إدراكاته من حس أو خيال أو تعقل من جهة كونها مدركات إنما هي متقررة في عالمه و ظرفه غير الخواص الطبيعية الحاصلة في أعضاء الحس و الإدراك من البدن فإنها أفعال و انفعالات مادية فاقدة في نفسها للحياة و الشعور، فهذه الأمور المشهودة الخاصة بالصلحاء و أرباب المجاهدات و الرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، و إنما الشأن في أن هذه المعلومات و المعارف كيف استقرت في النفس و أين محلها منها؟ و أن للنفس سمة علية لجميع الحوادث و الأمور المرتبطة بها ارتباطا ما، فجميع هذه الأمور الغريبة المطاوعة لأهل الرياضة و المجاهدة إنما ترتضع من إرادتهم و مشيئتهم، و الإرادة ناشئة من الشعور، فللشعور الإنساني دخل في جميع الحوادث المرتبطة به و الأمور المماسة له.

8 - فمن الحري أن نقسم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين: إحداهما المشتغلون بالاشتغال بإحراز شيء من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الأسباب و المسببات المادية، كأصحاب السحر و الطلسمات و أصحاب تسخير روحانيات الكواكب و الموكلين على الأمور و الجن و أرواح الآدميين و أصحاب الدعوات و العزائم و نحو ذلك.



و الثانية المشتغلون بمعرفة النفس بالانصراف عن الأمور الخارجة عنها و الانجذاب نحوها للغور فيها و مشاهدة جوهرها و شئونها كالمتصوفة على اختلاف طبقاتهم و مسالكهم.

و ليس التصوف مما أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما أنه يوجد بين الأمم التي تتقدمهم في النشوء كالنصارى و غيرهم حتى الوثنية من البرهمانية و البوذية، ففيهم من يسلك الطريقة حتى اليوم بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم.

لكن لا بمعنى الأخذ و التقليد العادي كوراثة الناس ألوان المدنية بعضهم من بعض و أمة منهم متأخرة من أمة منهم متقدمة كما جرى على ذلك عدة من الباحثين في الأديان و المذاهب و ذلك لما عرفت في الفصول السابقة أن دين الفطرة يهدي إلى الزهد و الزهد يرشد إلى عرفان النفس فاستقرار الدين بين أمة و تمكنه من قلوبهم يعدهم و يهيؤهم لأن تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، و يأخذ بها بعض من تمت في حقه العوامل المقتضية لذلك، فمكث الحياة الدينية في أمة من الأمم برهة معتدا بها ينشىء بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة و إن انقطعوا عن غيرهم من الأمم الدينية كل الانقطاع، و ما هذا شأنه لا ينبغي أن يعد من السنن الموروثة التي يأخذها جيل عن جيل.

9 - ثم ينبغي أن نقسم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدمين و هم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين: فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئا من معارفها من غير أن يتم لهم تمام المعرفة لها لأنهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها و هو الله عز اسمه الذي هو السبب الحق الآخذ بناصية النفس في وجودها و آثار وجودها و كيف يسع الإنسان تمام معرفة شيء مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده و خاصة السبب الذي هو سبب كل سبب؟ و هل هو إلا كمن يدعي معرفة السرير على جهل منه بالنجار و قدومه و منشاره و غرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير؟.

و من الحري بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمى كهانة بما في ذيله من الحصول على شيء من علوم النفس و آثارها.

و طائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الرب تعالى، و طريقتهم هذه هي التي يرتضيها الدين في الجملة و هي أن يشتغل الإنسان بمعرفة نفسه بما أنها آية من آيات ربه و أقرب آية، و تكون النفس طريقا مسلوكا و الله سبحانه هو الغاية التي يسلك إليها "و أن إلى ربك المنتهى".

و هؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتة في الأمم و النحل، و ليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم و طرائقهم التي يسلكونها، و أما المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربما أنهيت بحسب الأصول إلى خمس و عشرين سلسلة، تنشعب من كل سلسلة منها سلاسل جزئية أخر، و قد استندوا فيها إلا في واحدة إلى علي عليه أفضل السلام، و هناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل و يسمون الأويسية نسبة إلى أويس القرني و هناك آخرون منهم لا يتسمون باسم و لا يتظاهرون بشعار.

و لهم كتب و رسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم و طرقهم، و النواميس و الآداب التي لهم و عن رجالهم، و ضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، و أعربوا فيها عن حججهم و مقاصدهم التي بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها.

و أما البحث عن تفصيل الطرق و المسالك و تصحيح الصحيح و نقد الفاسد فله مقام آخر، و قد تقدم في الجزء الخامس من هذا الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلق بمعنى معرفة النفس.

و اعلم أن عرفان النفس بغية عملية لا يحصل تمام المعرفة بها إلا من طريق السلوك العملي دون النظري، و أما علم النفس الذي دونه أرباب النظر من القدماء فليس يغني من ذلك شيئا، و كذلك فن النفس العملي الذي دونه المتأخرون حديثا فإنما هو شعبة من فن الأخلاق على ما دونه القدماء، و الله الهادي.

5 سورة المائدة - 106 - 109

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا شهَدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت حِينَ الْوَصِيّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضرَبْتُمْ فى الأَرْضِ فَأَصبَتْكُم مّصِيبَةُ الْمَوْتِ تحْبِسونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلَوةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشترِى بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شهَدَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لّمِنَ الاَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثرَ عَلى أَنّهُمَا استَحَقّا إِثْماً فَئَاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الّذِينَ استَحَقّ عَلَيهِمُ الأَوْلَيَنِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشهَدَتُنَا أَحَقّ مِن شهَدَتِهِمَا وَ مَا اعْتَدَيْنَا إِنّا إِذاً لّمِنَ الظلِمِينَ (107) ذَلِك أَدْنى أَن يَأْتُوا بِالشهَدَةِ عَلى وَجْهِهَا أَوْ يخَافُوا أَن تُرَدّ أَيمَنُ بَعْدَ أَيْمَنهِمْ وَ اتّقُوا اللّهَ وَ اسمَعُوا وَ اللّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ (108) يَوْمَ يجْمَعُ اللّهُ الرّسلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنّك أَنت عَلّمُ الْغُيُوبِ (109)

بيان



الآيات الثلاث الأول في الشهادة، و الأخيرة لا تخلو عن اتصال ما بها بحسب المعنى.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى آخر الآيتين، محصل مضمون الآيتين أن أحدهم إذا كان على سفر فأراد أن يوصي فعليه أن يشهد حين الوصية شاهدين عدلين من المسلمين و إن لم يجد فشاهدين آخرين من غير المسلمين من أهل الكتاب فإن ارتاب أولياء الميت في أمر الوصية يحبس الشاهدان بعد الصلاة فيقسمان بالله على صدقهما فيما يشهدان عليه و ترفع بذلك الخصومة، فإن اطلعوا على أن الشاهدين كذبا في شهادتهما أو خانا في الأمر فيوقف شاهدان آخران مقام الشاهدين الأولين فيشهدان على خلافهما و يقسمان بالله على ذلك.

فهذا ما تفيده الآيتان بظاهرهما فقوله: "يا أيها الذين آمنوا" خطاب للمؤمنين و الحكم مختص بهم "شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" أي شهادة
<<        الفهرس        >>