جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و لم يكن يريد التميز منهم و أن يدخلهما الله في رحمته إلا لما كان يعلم أن الغضب الإلهي سينال القوم بظلمهم كما ذكره الله بقوله بعد ذلك: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم و ذلة في الحياة الدنيا": "الأعراف: 125" و يعرف بما تقدم وجوه من الأدب في كلامه.

و من دعائه (عليه السلام) - و هو في معنى الدعاء على قومه إذ قالوا له حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة: "يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون": "المائدة: 24" - ما حكاه الله تعالى بقوله: "قال رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين": "المائدة: 25".

و قد أخذ (عليه السلام) بالأدب الجميل حيث كنى عن الإمساك عن أمرهم و تبليغهم أمر ربهم ثانيا بعد ما جبهوا أمره الأول بأقبح الرد و أشنع القول بقوله: "رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي" أي لا يطيعني فيما أمرته إلا نفسي و أخي أي إنهم ردوا علي بما لا مطمع فيهم بعده، فها أنا أكف عن أمرهم بأمرك و إرشادهم إلى ما فيه صلاح جماعتهم.

و إنما نسب ملك نفسه و أخيه إلى نفسه لأن مراده من الملك بقرينة المقام ملك الطاعة و لو كان هو الملك التكويني لم ينسبه إلى نفسه إلا مع بيان أن حقيقته لله سبحانه، و إنما له من الملك ما ملكه الله إياه، و لما عرض لربه من نفسه الإمساك و اليأس عن إجابتهم إليه أحال الحكم في ذلك فقال: "فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين".

و من ذلك ما دعا به شعيب (عليه السلام) على قومه إذ قال: "ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين": "الأعراف: 89".

و هذا استنجاز منه للوعد الإلهي بعد ما يئس من نجاح دعوته فيهم، و مسألة للقضاء بينه و بينهم بالحق على ما قاله الله تعالى: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون": "يونس: 48".

و إنما قال "بيننا" لأنه ضم المؤمنين به إلى نفسه، و قد كان الكافرون من قومه هددوا إياه و المؤمنين به جميعا إذ قالوا: "لنخرجنك يا شعيب و الذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا": "الأعراف: 88" فضمهم إلى نفسه و هاجر قومه في عملهم و سار بهم إلى ربه و قال: "ربنا افتح بيننا، إلخ".

و قد استمسك في دعائه باسمه الكريم: "خير الفاتحين" لما مر أن التمسك بالصفة المناسبة لمتن الدعاء تأييد بالغ بمنزلة الإقسام، و هذا بخلاف قول موسى (عليه السلام): "رب إني لا أملك إلا نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين" المنقول آنفا لما تقدم أن لفظه ع ليس بدعاء حقيقة بل هو كناية عن الإمساك عن الدعوة و إرجاع للأمر إلى الله فلا مقتضى للإقسام بخلاف قول شعيب.

و من ذلك ما حكاه الله من ثناء داود و سليمان (عليهما السلام) قال تعالى: "و لقد آتينا داود و سليمان علما و قالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين": "النمل: 15".

وجه الأدب في حمدهما و شكرهما و نسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى الله سبحانه ظاهر، فلم يقولا مثل ما حكى عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الأرض بماله: "إنما أوتيته على علم عندي": "القصص: 78" و كما حكى الله عن قوم آخرين: "فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون": "المؤمن: 83".

و لا ضير في الحمد على تفضيل الله إياهما على كثير من المؤمنين فإنه من ذكر خصوص النعمة و بيان الواقع، و ليس ذلك من التكبر على عباد الله حتى يلحق به ذم، و قد ذكر الله عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل و مدحهم على علو طبعهم و سمو همتهم حيث قال: "و الذين يقولون ربنا - إلى أن قال - و اجعلنا للمتقين إماما": "الفرقان: 74".

و من ذلك ما حكاه عن سليمان (عليه السلام) في قصة النملة بقوله: "حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون، فتبسم ضاحكا من قولها و قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي و أن أعمل صالحا ترضاه و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين": "النمل: 19".

ذكرته النملة بما قالته ما له من الملك العظيم الذي شيدت أركانه بتسخير الريح تجري بأمره، و الجن يعملون له ما يشاء و العلم بمنطق الطير و غيره غير أن هذا الملك لم يقع في ذكره (عليه السلام) في صورة أجلى أمنية يبلغها الإنسان كما فينا و لم ينسه عبوديته و مسكنته بل إنما وقع في نفسه في صورة نعمة أنعمها عليه ربه فذكر ربه و نعمته أنعمها عليه و على والديه بما خصهم به، و هو من مثله (عليه السلام) و الحال هذا الحال أفضل الأدب مع ربه.

و قد ذكر نعمة ربه، و هي و إن كانت كثيرة في حقه غير أن مورد نظره (عليه السلام) و المقام ذاك المقام - هو الملك العظيم و السلطة القاهرة، و لذلك ذكر العمل الصالح و سأل ربه أن يوزعه ليعمل صالحا لأن العمل الصالح و السيرة الحسنة هو المطلوب ممن استوى على عرش الملك.
فلذلك كله سأل ربه أولا أن يوزعه على شكر نعمته، و ثانيا أن يعمل صالحا، و لم يرض بسؤال العمل الصالح دون أن قيده بقوله: "ترضاه" فإنه عبد لا شغل له بغير ربه و لا يريد الصالح من العمل إلا لأن ربه يرضاه، ثم تمم مسألة التوفيق لصلاح العمل بمسألة صلاح الذات فقال: "و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين".

و من ذلك ما حكاه الله عن يونس (عليه السلام) و قد دعا به و هو في بطن الحوت الذي التقمه قال تعالى: "و ذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين": "الأنبياء: 87".

كان (عليه السلام) - على ما يقصه القرآن - قد سأل ربه أن ينزل على قومه العذاب فأجابه إلى ذلك فأخبرهم به فلما أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربهم فرفع عنهم العذاب، و لما شاهد يونس ذلك ترك قومه، و ذهب لوجهه حتى ركب السفينة فاعترضها حوت فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه و ينصرف عن الباقين، فخرجت القرعة باسمه فألقي في البحر فالتقمه الحوت فكان يسبح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر، و لم يكن ذلك إلا تأديبا إلهيا يؤدب به أنبياءه على حسب ما يقتضيه مختلف أحوالهم، و قد قال تعالى: "و لو لا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون": "الصافات: 144" فكان حاله في تركه العود إلى قومه و ذهابه لوجهه يمثل حال عبد أنكر على ربه بعض عمله فغضب عليه فأبق منه و ترك خدمته و ما هو وظيفة عبوديته فلم يرتض الله له ذلك فأدبه فابتلاه و قبض عليه في سجن لا يقدر فيه أن يتوسع قدر أنملة في ظلمات بعضها فوق بعض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.



و لم يكن ذلك كله إلا لأن يتمثل له على خلاف ما كان يمثله حاله أن الله سبحانه قادر على أن يقبض عليه و يحبسه حيث شاء، و أن يصنع به ما شاء فلا مهرب من الله سبحانه إلا إليه، و لذلك لقنه الحال الذي تمثل له و هو في سجنه من بطن الحوت أن يقر لله بأنه هو المعبود الذي لا معبود غيره، و لا مهرب عن عبوديته فقال: "لا إله إلا أنت" و لم يناده تعالى بالربوبية، و هذا أوحد دعاء من أدعية الأنبياء (عليهم السلام) لم يصدر باسم الرب.

ثم ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إياهم بما أنزل عليهم من العذاب فأثبت الظلم لنفسه و نزه الله سبحانه عن كل ما فيه شائبة الظلم و النقص فقال: "سبحانك إني كنت من الظالمين".

و لم يذكر مسألته - و هي الرجوع إلى مقامه العبودي السابق - عدا لنفسه دون لياقة الاستعطاء و استحقاق العطاء استغراقا في الحياء و الخجل، و الدليل على مسألته قوله تعالى بعد الآية السابقة: "فاستجبنا له و نجيناه من الغم": "الأنبياء: 88".

و الدليل على أن مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى: "فنبذناه بالعراء و هو سقيم، و أنبتنا عليه شجرة من يقطين، و أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا به فمتعناهم إلى حين": "الصافات: 184".

و من ذلك ما ذكره الله تعالى عن أيوب (عليه السلام) بعد ما أزمنه المرض و هلك عنه ماله و ولده حيث قال: "و أيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين": "الأنبياء: 83".

وجوه التأدب فيه ظاهرة مما تقدم بيانه، و لم يذكر (عليه السلام) حاجته صريحا على حد ما تقدم من أدعية آدم و نوح و موسى و يونس (عليهما السلام) هضما لنفسه و استحقارا لأمره، و أدعية الأنبياء كما تقدم و يأتي خالية عن التصريح بالحاجة إذا كان مما يرجع إلى أمور الدنيا و إن كانوا لا يريدون شيئا من ذلك اتباعا لهوى أنفسهم.

و بوجه آخر ذكره السبب الباعث إلى المسألة كمس الضر و الصفة الموجودة في المسئول المطمعة للسائل في المسألة ككونه تعالى أرحم الراحمين، و السكوت عن ذكر نفس الحاجة، أبلغ كناية عن أن الحاجة لا تحتاج إلى ذكر فإن ذكرها يوهم أن الأسباب المذكورة ليست بكافية في إثارة رحمة من هو أرحم الراحمين بل يحتاج إلى تأييد بالذكر و تفهيم باللفظ.

و من ذلك ما حكاه عن زكريا (عليه السلام): حيث قال: "ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا، قال رب إني وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا و لم أكن بدعائك رب شقيا، و إني خفت الموالي من ورائي و كانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا، يرثني و يرث من آل يعقوب و اجعله رب رضيا": "مريم: 6".

إنما حثه على هذا الدعاء و رغبه في أن يستوهب ولدا من ربه ما شاهده من أمر مريم ابنة عمران في زهدها و عبادتها، و ما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبودية، و خصها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى: "و كفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء": "آل عمران: 38".

فغشيه شوق شديد إلى ولد طيب صالح يرثه و يعبد ربه عبادة مرضية كما ورثت مريم عمران و بلغت جهدها في عبادة ربها و نالت منه الكرامة غير أنه وجد نفسه و قد نال منه الشيب، و انهدت منه القوى، و كذلك امرأته و قد كانت عاقرة في سني ولادتها فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيب الرضي ما الله أعلم به، لكن لم يملك نفسه مما هاج فيه من الغيرة الإلهية و الاعتزاز بربه دون أن رجع إلى ربه و ذكر له ما يثور به الرحمة و الحنان من حاله أنه لم يزل عالقا على باب العبودية و المسألة منذ حداثة سنه حتى وهن عظمه و اشتعل رأسه شيبا، و لم يكن بدعائه شقيا، و قد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه و ليهب له وارثا رضيا.

و الدليل على ما ذكرنا أنه إنما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد و الحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحي إليه بالاستجابة بقوله: "قال رب أنى يكون لي غلام و كانت امرأتي عاقرا و قد بلغت من الكبر عتيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا": "مريم: 9" فإنه ظاهر في أنه (عليه السلام) لما سمع الاستجابة صحا عن حاله و أخذ يتعجب من غرابة المسألة و الإجابة حتى سأل ربه عن ذلك في صورة الاستبعاد و سأل لنفسه عليه آية فأجيب إليها أيضا.

و كيف كان فالذي استعمله (عليه السلام) في دعائه من الأدب هو ما ساقه إليه حال الوجد و الحزن الذي ملكه، و لذلك قدم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربه فقد صرف دهره في سلوك سبيل الإنابة و المسألة حتى وقف موقفا يرق له قلب كل ناظر رحيم ثم سأل الولد و علله بأن ربه سميع الدعاء.

فهذا معنى ما ذكره مقدمة لمسألته لا أنه كان يمتن بطول عبوديته على ربه - حاشا مقام النبوة - فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران: "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء" أني أسألك ما أسألك لا لأن لطول عبوديتي - و هو دعاؤه المديد - قدرا عندك أو فيه منه عليك بل لأني أسألك، و قد وجدتك سميعا لدعاء عبادك و مجيبا لدعوة السائلين المضطرين، و قد اضطرني خوف الموالي من ورائي، و الحث الشديد لذرية طيبة يعبدك أن أسألك.

و قد تقدم أن من الأدب الذي استعمله في دعائه أن ألحق تخوف الموالي قوله: "و اجعله رب رضيا" و الرضي و إن كان طبعه يدل بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه، و الرضا يشمل بإطلاقه رضى الله و رضى زكريا و رضى يحيى لكن قوله في آية آل عمران: "ذرية طيبة" يدل على أن المراد بكونه رضيا كونه مرضيا عند زكريا لأن الذرية إنما تكون طيبة لصاحبها لا غير.

و من ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله: "قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا و آخرنا و آية منك و ارزقنا و أنت خير الرازقين": "المائدة: 141".

القصة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريين عيسى (عليه السلام) نزول مائدة من السماء عليهم تدل بسياقه أن هذه المسألة كانت من الأسئلة الشاقة على عيسى (عليه السلام) لأن ما حكي عنهم من قولهم له: "يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" كان أولا مشتملا بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه، و لا يوافق ذلك أدب العبودية و إن كان حاق مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإن حزازة اللفظ على حالها.

و كان ثانيا متضمنا لاقتراح آية جديدة مع أن آياته (عليه السلام) الباهرة كانت قد أحاطت بهم من كل جهة فكانت نفسه الشريفة آية، و تكلمه في المهد آية، و إحياؤه الموتى و خلقه الطير و إبراؤه الأكمه و الأبرص و إخباره عن المغيبات و علمه بالتوراة و الإنجيل و الكتاب و الحكمة آيات إلهية لا تدع لشاك شكا و لا لمرتاب ريبا فاختيارهم آية لأنفسهم و سؤالهم إياه كان بظاهره كالعبث بآيات الله و اللعب بجانبه، و لذلك وبخهم بقوله: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين".

لكنهم أصروا على ذلك و وجهوا مسألتهم بقولهم: "نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا و نعلم أن قد صدقتنا و نكون عليها من الشاهدين" و ألجئوه إلى السؤال فسأل.



أصلح (عليه السلام) بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدم إلى حضرة العزة و الكبرياء فعنونه أولا بعنوان أن يكون عيدا لهم يختصون هو و أمته به فإنها آية اقتراحية عديمة النظير بين آيات الأنبياء (عليهم السلام) حيث كانت آياتهم إنما تنزل لإتمام الحجة أو لحاجة الأمة إلى نزولها، و هذه الآية لم تكن على شيء من هاتين الصفتين.

ثم أجمل ثانيا ما فصله الحواريون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها و علمهم بصدقه (عليه السلام) و شهادتهم عليها، في قوله: "و آية منك".

ثم ذكر ثالثا ما ذكروه من عرض الأكل و أخره و إن كانوا قدموه في قولهم: "نريد أن نأكل منها، إلخ" و ألبسه لباسا آخر أوفق بأدب الحضور فقال: "و ارزقنا" ثم ذيله بقوله: "و أنت خير الرازقين" ليكون تأييدا للسؤال بوجه، و ثناء له تعالى من وجه آخر.

و قد صدر مسألته بندائه تعالى: "اللهم ربنا" فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الأنبياء (عليهم السلام) من قولهم "رب" أو "ربنا" لأن الموقف صعب كما تقدم بيانه.

و منه مشافهته (عليه السلام) ربه المحكية بقوله تعالى: "و إذ قال الله يا عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم": "المائدة: 181".

تأدب (عليه السلام) في كلامه أولا بأن صدره بتنزيهه تعالى عما لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال: "و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه": "الأنبياء: 26".

و ثانيا بأن أخذ نفسه أدون و أخفض من أن يتوهم في حقه أن يقول مثل هذا القول حتى يحتاج إلى أن ينفيه، و لذلك لم يقل من أول مقالته إلى آخرها: "ما قلت" أو "ما فعلت" و إنما نفى ذلك مرة بعد مرة على طريق الكناية و تحت الستر فقال: "ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" فنفاه بنفي سببه أي لم يكن لي حق في ذلك حتى يسعني أن أتفوه بمثل ذاك القول العظيم، ثم قال: "إن كنت قلته فقد علمته"، إلخ" فنفاه بنفي لازمه أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لأن علمك أحاط بي و بجميع الغيوب.

ثم قال: "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم" فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر بما و إلا أي إني قلت لهم قولا و لكنه هو الذي أمرتني به و هو أن اعبدوا الله ربي و ربكم، و كيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتخذوني و أمي إلهين من دون الله؟.

ثم قال: "و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم" و هو نفي منه (عليه السلام) لذلك كالمتمم لقوله: "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به" "إلخ" و ذلك لأن معناه: ما قلت لهم شيئا مما ينسب إلي و الذي قلت لهم إنما قلته عن أمر منك، و هو "أن اعبدوا الله ربي و ربكم" و لم يتوجه إلى أمر فيما سوى ذلك، و لا مساس بهم إلا الشهادة و الرقوب لأعمالهم ما دمت، فلما توفيتني انقطعت عنهم، و كنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العام قبل أن توفيتني و بعده و عليهم و على كل شيء غيرهم.

و إذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجه له (عليه السلام) أن ينفي ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمم للوجوه التي ذكرها، و به يحصل تمام النفي فقال: "إن تعذبهم فإنهم عبادك، "إلخ" يقول - على ما يؤيده السياق - و إذا كان الأمر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم و هم بمعزل مني فأنت و عبادك هؤلاء إن تعذبهم فإنهم عبادك، و للسيد الرب أن يعذب عبيده بمخالفتهم و إشراكهم به و هم مستحقون للعذاب، و إن تغفر لهم فلا عتب عليك لأنك عزيز غير مغلوب و حكيم لا يفعل الفعل السفهي اللغو، و إنما يفعل ما هو الأصلح.

و بما بينا يظهر وجوه لطيفة من أدب العبودية في كلامه (عليه السلام) و لم يورد جملة في كلامه إلا و قد مزجها بأحسن الثناء بأبلغ بيان و أصدق لسان.

و من ذلك ما حكاه الله تعالى عن نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد ألحق به في ذلك المؤمنين من أمته فقال تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين": "البقرة: 268".

كلامه تعالى - كما ترى - يحكي إيمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من أصول المعارف، و فيما اشتمل عليه من الأحكام الإلهية جميعا، ثم يلحق به (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤمنين من أمته دون المعاصرين الحاضرين عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم فحسب، بل المؤمنين من جميع الأمة على ما هو ظاهر السياق.

و لازم ذلك أن يكون ما ذكر فيه من إقرار أو ثناء أو دعاء بالنسبة إلى بعضهم محكيا عن لسان حالهم، و إن أمكن أن يكون ذلك مما قاله آخرون بلسان قالهم، أو يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو القائل ذلك مشافها ربه عن نفسه الشريفة و عن المؤمنين لأنهم بإيمانهم من فروع شجرة نفسه الطيبة المباركة.

و الآيتان تشتملان على ما هو كالمقايسة و الموازنة بين أهل الكتاب و بين مؤمني هذه الأمة من حيث تلقيهم ما أنزل إليهم في كتاب، الله و إن شئت قلت: من حيث تأدبهم بأدب العبودية تجاه الكتاب النازل إليهم، فإنه ظاهر ما أثنى الله سبحانه على هؤلاء و خفف الله عنهم في الآيتين بعين ما وبخ أولئك عليه و عيرهم به في الآيات السابقة من سورة البقرة فقد ذم أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة الله فأبغضوا جبريل و أحبوا غيره، و بين كتب الله المنزلة فكفروا بالقرآن و آمنوا بغيره، و بين رسل الله فآمنوا بموسى أو به و بعيسى و كفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و بين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب الله و كفروا ببعض، و المؤمنون من هذه الأمة آمنوا بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله.

فقد تأدبوا مع ربهم بالتسليم لما أحقه الله من المعارف الملقاة إليهم ثم تأدبوا بالتلبية لما ندب الله إليه من أحكامه إذ قالوا: "سمعنا و أطعنا" لا كقول اليهود: "سمعنا و عصينا" ثم تأدبوا فعدوا أنفسهم عبادا مملوكين لربهم لا يملكون منه شيئا و لا يمتنون عليه بإيمانهم و طاعتهم فقالوا: "غفرانك ربنا" لا كما قالت اليهود: "سيغفر لنا" و قالت: "إن الله فقير و نحن أغنياء" و قالت: "لن تمسنا النار إلا أياما معدودة" إلى غير ذلك من هفواتهم.

ثم قال الله سبحانه: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت" فإن التكليف الإلهي يتبع بحسب طبعه الفطرة التي فطر الناس عليها، و من المعلوم أن الفطرة التي هي نوع الخلقة لا تدعو إلا إلى ما جهزت به، و في ذلك سعادة الحياة البتة.



نعم لو كان الأمر على ضرب من الأهمية القاضية بزيادة الاهتمام به، أو خرج العبد المأمور عن حكم الفطرة و زي العبودية جاز بحكم آخر من قبل الفطرة أن يوجه المولى أو كل من بيده الأمر إليه من الحكم ما هو خارج عن سعته المعتادة كان يأمره بالاحتياط بمجرد الشك، و اجتناب النسيان و الخطإ إذا اشتد الاهتمام بالأمر، نظير وجوب الاحتياط في الدماء و الفروج و الأموال في الشرع الإسلامي، أو يحمل عليه الكلفة و يزيد في التضييق عليه كلما زاد في اللجاج و ألح في المسألة كما أخبر الله بنظائر ذلك في بني إسرائيل.

و كيف كان فقوله: "لا يكلف الله نفسا" إما ذيل كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون، و إنما قالوه تقدمة لقولهم: "ربنا لا تؤاخذنا، إلخ" ليجري مجرى الثناء عليه تعالى و دفعا لما يتوهم أن الله سبحانه يؤاخذ بما فوق الطاقة و يكلف بالحرجي من الحكم فيندفع بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها و أن الذي سألوه بقولهم: "ربنا لا تؤاخذنا، إلخ" إنما هو الأحكام بعناوين ثانوية ناشئة من قبل الحكم أو من قبل المكلفين بالعناد لا من قبله تعالى.

و إما كلام له تعالى موضوع بين فقرتين من دعائم المحكي في كلامه أعني قولهم: "غفرانك ربنا إلخ" و قولهم: "ربنا لا تؤاخذنا، إلخ" ليفيد ما مر من الفائدة و يكون تأديبا و تعليما لهم منه تعالى فيكون جاريا مجرى كلامهم لأنهم مؤمنون بما أنزل الله، و هو منه، و على أي حال فهو مما يعتمد عليه كلامهم، و يتكىء عليه دعاؤهم.

ثم ذكر بقية دعائهم و إن شئت فقل: طائفة أخرى من مسائلهم: "ربنا لا تؤاخذنا" إلخ "ربنا و لا تحمل علينا إصرا" إلخ "ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنا" و كان مرادهم به العفو عما صدر منهم من النسيان و الخطإ و سائر موجبات الحرج "و اغفر لنا و ارحمنا" في سائر ذنوبنا و خطيئاتنا و لا يلزم من ذكر المغفرة هاهنا التكرار بالنظر إلى قولهم سابقا: "غفرانك ربنا" لأنها كلمة حكيت عنهم لفائدة قياس حالهم و أدبهم مع ربهم على أهل الكتاب في معاملتهم مع ربهم و بالنسبة إلى كتابهم المنزل إليهم، على أن مقام الدعاء لا يمانع التكرار كسائر المقامات.

و اشتمال هذا الدعاء على أدب العبودية في التمسك بذيل الربوبية مرة بعد مرة و الاعتراف بالمملوكية و الولاية، و الوقوف موقف الذلة و مسكنة العبودية قبال رب العزة مما لا يحتاج إلى بيان.

و في القرآن الكريم تأديبات إلهية و تعليمات عالية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأقسام من الثناء يثني بها على ربه أو المسألة التي يسأله بها كما في قوله تعالى: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء" إلى آخر الآيتين: "آل عمران: 26" و قوله تعالى: "قل اللهم فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة أنت تحكم بين عبادك": "الزمر: 46" و قوله تعالى: "قل الحمد لله و سلام على عباده الذين اصطفى": "النمل: 59" و قوله تعالى: "قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله" إلخ: "الأنعام: 126، و قوله تعالى: "و قل رب زدني علما": طه: 141" و قوله: و قل رب أعوذ بك من همزات الشياطين" إلخ: "المؤمنون: 97" إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة جدا.

و يجمعها جميعا أنها تشتمل على أدب بارع أدب الله به رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ندب هو إليه أمته.

7 - رعايتهم الأدب عن ربهم فيما حاوروا قومهم، و هذا أيضا باب واسع و هو ملحق بالأدب في الثناء على الله سبحانه، و هو من جهة أخرى من أبواب التبليغ العملي الذي لا يقصر أو يزيد أثرا على التبليغ القولي.

و في القرآن من ذلك شيء كثير قال تعالى في محاورة جرت بين نوح و قومه: "قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال إنما يأتيكم به الله إن شاء و ما أنتم بمعجزين، و لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم و إليه ترجعون": "هود: 34" ينفي (عليه السلام) عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الآية ليعجزوه به، و ينسبه إلى ربه و يبالغ في الأدب بقوله: "إن شاء" ثم بقوله "و ما أنتم بمعجزين" أي لله، و لذلك نسبه إليه تعالى بلفظ "الله" دون لفظ "ربي" لأن الله هو الذي ينتهي إليه كل جمال و جلال، و لم يكتف بنفي القدرة على إتيان الآية عن نفسه و إثباته حتى ثناه بنفي نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به فأكمل بذلك نفي القدرة عن نفسه و إثباته لربه، و علل ذلك بقوله: "هو ربكم و إليه ترجعون".

فهذه محاورة غاصة بالأدب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوح (عليه السلام) الطغاة من قومه محاجا لهم، و هو أول نبي من الأنبياء (عليهم السلام) فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد، و انتهض على الوثنية على ما يذكره القرآن الشريف.

و هذا أوسع هذه الأبواب مسرحا لنظر الباحث في أدب الأنبياء (عليهم السلام) يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدبا و كمالا فإن جميع أقوالهم و أفعالهم و حركاتهم و سكناتهم مبنية على أساس المراقبة و الحضور العبودي، و إن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربه و غاب عنه ربه سبحانه قال تعالى: "و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون، يسبحون الليل و النهار لا يفترون": الأنبياء: 20".

و قد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود و صالح و إبراهيم و موسى و شعيب و يوسف و سليمان و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و غيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) في حالات لهم مختلفة كالشدة و الرخاء و الحرب و السلم و الإعلان و الإسرار و التبشير و الإنذار و غير ذلك.

تدبر في قوله تعالى: "فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا حسنا أ فطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي": "طه: 86" يذكر موسى (عليه السلام) إذ رجع إلى قومه و قد امتلأ غيظا و حنقا لا يصرفه ذلك عن رعاية الأدب في ذكر ربه.

و قوله تعالى: "و راودته التي هو في بيتها عن نفسه و غلقت الأبواب و قالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون": "يوسف: 23" و قوله تعالى: "قالوا تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين": "يوسف: 92" يذكر يوسف في خلإ المراودة الذي يملك من الإنسان كل عقل و يبطل عنده كل حزم لا يشغله ذلك عن التقوى ثم عن رعاية الأدب في ذكر ربه و مع غيره.

و قوله تعالى: "فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أ أشكر أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم": "النمل: 40" و هذا سليمان (عليه السلام) و قد أوتي من عظيم الملك و نافذ الأمر و عجيب القدرة أن أمر بإحضار عرش ملكة سبإ من سبإ إلى فلسطين فأحضر في أقل من طرفة عين فلم يأخذه كبر النفس و خيلاؤها، و لم ينس ربه و لم يمكث دون أن أثنى على ربه في ملئه بأحسن الثناء.

و ليقس ذلك إلى ما ذكره الله من قصة نمرود مع إبراهيم (عليه السلام) إذ قال: "أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت قال أنا أحيي و أميت": "البقرة: 285" و قد قال ذلك إذ أحضر رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما و إطلاق الآخر.



أو إلى ما ذكره فرعون مصر إذ قال كما حكاه الله: "يا قوم أ ليس لي ملك مصر و هذه الأنهار تجري من تحتي أ فلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين و لا يكاد يبين، فلو لا ألقي عليه أسورة من ذهب": "الزخرف: 53" يباهي بملك مصر و أنهاره و مقدار من الذهب كان يملكه هو و ملؤه و لا يلبث دون أن يقول كما حكى الله: "أنا ربكم الأعلى" و هو الذي كانت تستذله آيات موسى يوما بعد يوم من طوفان و جراد و قمل و ضفادع و غير ذلك.

و قوله تعالى: "إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا": "التوبة: 40" و قوله: "و إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا - إلى أن قال - فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير": "التحريم: 3" فلم يهزهزه (صلى الله عليه وآله وسلم) شدة الأمر و الهول و الفزع في يوم الخوف أن يذكر أن ربه معه و لم تنجذب نفسه الشريفة إلى ما كان يهدده من الأمر، و كذا ما أسر به إلى بعض أزواجه في الخلوة في اشتماله على رعاية الأدب في ذكر ربه.

و على وتيرة هذه النماذج المنقولة تجري سائر ما وقع في قصصهم (عليهم السلام) في القرآن الكريم من الأدب الرائع و السنن الشريفة، و لو لا أن الكلام قد طال بنا في هذه الأبحاث لاستقصينا قصصهم و أشبعنا فيها البحث.

8 - أدب الأنبياء (عليهم السلام) مع الناس في معاشرتهم و محاورتهم، مظاهر هذا القسم هي الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن مع الكفار، و المحاورات التي حاوروا بها المؤمنين منهم، ثم شيء يسير من سيرتهم المنقولة.

أما الأدب في القول فإنك لا تجد فيما حكي من شذرات أقوالهم مع العتاة و الجهلة أن يخاطبوهم بشيء مما يسوؤهم أو شتم أو أهانة و إزراء و قد نال منهم المخالفون بالشتم و الطعن و الاستهزاء و السخرية كل منال فلم يجيبوهم إلا بأحسن القول و أنصح الوعظ معرضين عنهم بسلام و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
<<        الفهرس        >>