جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


و ظرائف القول و الفعل إلا أن فهمه على قدر ما يأتي به، لا يشعر من لوازم الأدب بأزيد مما يأتي به و ظرفه هو ظرفه.

و ما يأتي به مما لا ينبغي هو مما يؤاخذ به الأوحديون من الرجال فربما يؤاخذون بلحن خفي في كلام أو بتبطؤ يسير في حركة أو بتفويت آن غير محسوس في سكون أو التفات أو غمض عين و نحو ذلك فيعد ذلك كله ذنبا منهم، و ليس من الذنب بمعنى مخالفة المواد القانونية دينية كانت أو دنيوية، و قد اشتهر بينهم: أن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

و كلما دق المسلك و لطف المقام ظهرت هنالك خفايا من الذنوب كانت قبل تحقق هذا الظرف مغفولا عنها لا يحس بها الإنسان المكلف بالتكاليف، و لا يؤاخذ بها ولي المؤاخذة و المحاسبة.

و ينتهي ذلك - فيما يعطيه البحث الدقيق - إلى الأحكام الناشئة في ظرفي الحب و البغض فترى عين المبغض - و خاصة في حال الغضب - عامة الأعمال الحسنة سيئة مذمومة، و يرى المحب إذا تاه في الغرام و استغرق في الوله أدنى غفلة قلبية عن محبوبه ذنبا عظيما و إن اهتم بعمل الجوارح بتمام أركانه، و ليس إلا أنه يرى أن قيمة أعماله في سبيل الحب على قدر توجه نفسه و انجذاب قلبه إلى محبوبه فإذا انقطع عنه بغفلة قلبية فقد أعرض عن المحبوب و انقطع عن ذكره و أبطل طهارة قلبه بذلك.

حتى أن الاشتغال بضروريات الحياة من أكل و شرب و نحوهما يعد عنده من الإجرام و العصيان نظرا إلى أن أصل الفعل و إن كان من الضروري الذي يضطر إليه الإنسان لكن كل واحد واحد من هذه الأفعال الاضطرارية من حيث أصله اختياري في نفسه، و الاشتغال به اشتغال بغير المحبوب و إعراض عنه اختيارا و هو من الذنب، و لذلك نرى أهل الوله و الغرام و كذا المحزون الكئيب و من في عداد هؤلاء يستنكفون عن الاشتغال بأكل أو شرب أو نحوهما.

و على نحو من هذا القبيل ينبغي أن يحمل ما ربما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: "إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله كل يوم سبعين مرة"، و عليه يمكن أن يحمل بوجه قوله تعالى: "و استغفر لذنبك و سبح بحمد ربك بالعشي و الإبكار": "المؤمن: 55" و قوله: "فسبح بحمد ربك و استغفره إنه كان توابا": "النصر: 3".



و عليه يحمل ما حكى تعالى عن عدة من أنبيائه الكرام كقول نوح: "رب اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا": "نوح: 28" و قول إبراهيم: "ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب": "إبراهيم: 41" و قول موسى لنفسه و أخيه: "رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك": "الأعراف: 115" و ما حكى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير": "البقرة: 258".

فإن الأنبياء (عليهم السلام) مع عصمتهم لا يتأتى أن تصدر عنهم المعصية، و يقترفوا الذنب بمعنى مخالفة مادة من المواد الدينية التي هم المرسلون للدعوة إليها، و القائمون قولا و فعلا بالتبليغ لها، و المفترض طاعتهم من عند الله، و لا معنى لافتراض طاعة من لا يؤمن وقوع المعصية منه، تعالى الله عن ذلك.

و هكذا يحمل على هذا الباب ما حكي عن بعضهم (عليهم السلام) من الاعتراف بالظلم و نحوه كقول ذي النون: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين": "الأنبياء: 87" إذ كما يجوز عدهم بعض الأعمال المباحة الصادرة عنهم ذنبا لأنفسهم و طلب المغفرة من الله سبحانه، كذلك يجوز عده ظلما من أنفسهم لأن كل ذنب ظلم.

و قد مر أن هنالك محملا آخر و هو أن يكون المراد بالظلم هو الظلم على النفس كما في قول آدم و زوجته: "ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين": "الأعراف: 23".

و إياك أن تتوهم أن معنى قولنا في آية: إن لها محملا كذا و محملا كذا هو تسليم أن ذلك من خلاف ظاهر الكلام ثم الاجتهاد في اختلاف معنى يحمل عليه الكلام، و تطبق عليه الآيات القرآنية تحفظا على الآراء المذهبية، و اضطرارا من قبل التعصب.

و قد تقدم البحث الحر في عصمة الأنبياء (عليهم السلام) بالتدبر في الآيات أنفسها من غير اعتماد على المقدمات الغريبة الأجنبية في الجزء الثاني من الكتاب.

و قد بينا هناك و في غيره أن ظاهر الكلام لا يقتصر في تشخيصه على الفهم العامي المتعلق بنفس الجملة المبحوث عنها بل للقرائن المقامية و الكلامية المتصلة و المنفصلة - كالآية المتعرضة لمعنى آية أخرى - تأثير قاطع في الظواهر، و خاصة في الكلام الإلهي الذي بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض، و يصدق بعضه بعضا.

و الغفلة عن هذه النكتة هي التي أشاعت بين عدة من المفسرين و أهل الكلام إبداع التأويل بمعنى صرف الكلام إلى ما يخالف ظاهره، و ارتكابه في الآيات المخالفة لمذهبهم الخاص على زعمهم فتراهم يقطعون القرآن قطعا ثم يحملون كل قطعة منها على ما يفهمه العامي السوقي من كلام سوقي مثله فإذا سمعوه تعالى يقول: "فظن أن لن نقدر عليه" حملوه على أنه (عليه السلام) - و حاشاه - زعم أو أيقن أن الله سبحانه يعجز عن أخذه مع أن ما في الآية التالية: "و كذلك ننجي المؤمنين" يعده من المؤمنين، و لا إيمان لمن شك في قدرة الله فضلا عن أن يرجح أو يقطع بعجزه.

و إذا سمعوه تعالى يقول: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر" تفهموا منه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أذنب فغفر الله له كما يذنب الواحد منا بمخالفة أمر أو نهي مولوي من الله تنعقد بهما مسألة فرعية فقهية.

و لم يهدهم التدبر حتى بمقدار أن يرجعوا إلى سابقة الآية: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا" حتى ينجلي لهم أن هذا الذنب و المغفرة المتعلقة به لو كانا كالذنوب التي لنا و المغفرة التي تتعلق بها لم يكن وجه لتعليق المغفرة على فتح مكة تعليق الغاية على ذي الغاية، و كذا لم يكن وجه لعطف ما عطف عليه أعني قوله: "و يتم نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما، و ينصرك الله نصرا عزيزا": "الفتح: 3".

و كذا إذا سمعوا سائر الآيات التي تشتمل على عثرات الأنبياء بزعمهم كالتي وردت في قصص آدم و نوح و إبراهيم و لوط و يعقوب و يوسف و داود و سليمان و أيوب و محمد صلى الله عليه و آله و عليهم بادروا إلى الطعن في ساحة نزاهتهم، و لم ينقبضوا عن إساءة الأدب إليهم و هم أنفسهم أولى بما رموا و لا شين كسوء الأدب.

فساقهم سوء الحظ و رداءة النظر إلى أن أبدلوا ربهم رب العالمين برب تنعته التوراة و الأناجيل المحرفة قوة غيبية متجسدة تدير رحى الوجود كما يدير جبار من جبابرة الإنسان مملكته لا هم له إلا إشباع طاغية شهوته و غضبه فجهلوا مقام ربهم ثم سهوا عن مقام النبوة و عفوا مدارجهم العالية الشريفة الروحية و مقاماتهم السامية الحقيقية فعادت بذلك هاتيك النفوس الطاهرة المقدسة تماثل النفوس الرديئة الخسيسة التي ليس لها من شرف الإنسانية إلا التسمي باسمها تهلك من هذا نفسه، و تخون من ذاك عرضه، و تطمع من ذلك في ماله مع أنهم على ما لهم من الجهل لا يرضون بهذه الفضائح فيمن يتقلد أمرا من أمور دنياهم أو يتصدى يوما للقيام بمصلحة بيتهم و أهلهم فكيف يرضون بنسبة هذه الفضائح إلى الله سبحانه و هو العليم الحكيم الذي أرسل رسله إلى عباده لئلا يكون لهم حجة بعدهم؟ و ليت شعري أي حجة تقوم على كافر أو فاسق إذا جاز للرسول أن يكفر أو يفجر أو يدعو إلى الشرك و الوثنية ثم يتبرأ منه و ينسبه إلى الشيطان؟.

و إذا ذكروا ببعض ما لأنبياء الله (عليهم السلام) من العصمة الإلهية و المقامات الموهوبة و المواقف الروحية عدوا ذلك شركا بالله، و غلوا في حق عباد الله، و أخذوا في تلاوة قوله: "قل إنما أنا بشر مثلكم".

و قد أصابوا في ردهم بوجه فإن ما يتصورونه من الرب عز اسمه و ينعتونه بها من النعوت في ذاته و فعله دون ما يذكرون به من مقامات الأنبياء (عليهم السلام) و أخفض منها منزلة و قدرا، و هذا كله من المصائب التي لقيتها الإسلام و أهله مما دسته أهل الكتاب و خاصة اليهود في الروايات و عملته أيديهم، و حركوا بها الرحى على غير محوره، و اعتقدوا في الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء أنه مثل الإنسان المتجبر الذي يرى لنفسه أنه حر غير مسئول فيما يفعل و هم المسئولون، و أن ترتب المسببات على أسبابها و استيلاد المقدمات نتائجها، و اقتضاء الخصائص الوجودية صورية أو معنوية لآثارها كل ذلك جزافي لا لرابطة حقيقية.

و أن الله تعالى ختم بمحمد النبوة و أنزل عليه القرآن، و خص موسى بالتكليم، و عيسى بالتأييد بالروح لا لخصوصية في نفوسهم الشريفة بل لأنه أراد أن يخصهم بكذا و بكذا، و أن ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت كضرب أحدنا بعصاه الحجر غير أن الله يفجر ذاك و لا يفجر هذا، و أن قول عيسى للموتى: قوموا بإذن الله مثل أن ينادي أحدنا بين المقابر: قوموا بإذن الله إلا أن الله يحيي أولئك و لا يحيي هؤلاء و هكذا.

و ليس ذلك كله إلا قياسا لنظام التكوين إلى نظام التشريع الذي لا قوام له إلا الوضع و الاصطلاح و التعاهد الذي لا يتجاوز ظرف الاجتماع سعة، و لا يعدو دنيا الإنسان المجتمع.

و لو أنهم تفطنوا قليلا و تدبروا في أطراف الآيات المتعرضة لأمر الذنب و المعصية بالمعنى المصطلح عليه، و هي مخالفة الأمر و النهي المولويين تنبهوا إلى أن من المغفرة ما هو فوق المغفرة المعروفة.



فإن الله سبحانه يكرر في كلامه أن له عبادا يسميهم بالمخلصين مصونين عن المعصية لا مطمع فيهم للشيطان فلا ذنب - بالمعنى المعروف - لهم و لا حاجة إلى المغفرة المتعلقة بذلك الذنب، و قد نص في حق عدة من أنبيائه كإبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف و موسى أنهم مخلصون كقوله في إبراهيم و إسحاق و يعقوب: "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار": "ص: 46"، و قوله في يوسف: "إنه من عبادنا المخلصين": "يوسف: 24"، و قوله في موسى: "إنه كان مخلصا": "مريم: 51" و قد حكى عنهم سؤال المغفرة كقول إبراهيم (عليه السلام): "ربنا اغفر لي و لوالدي": "إبراهيم: 41" و قول موسى (عليه السلام): "رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك": "الأعراف: 115" و لو كانت المغفرة لا يتعلق إلا بالذنب بالمعنى المعروف لم يستقم ذلك.

نعم ربما قال القائل: إنهم (عليهم السلام) يعدون أنفسهم مذنبين تواضعا لله سبحانه و لا ذنب لهم لكن ينبغي لهذا القائل أن يتنبه إلى أنهم (عليهم السلام) لم يخطئوا في نظرهم هذا، و لم يجازفوا في قولهم فلشمول المغفرة لهم معنى صحيح و المسألة جدية.

على أن في دعاء إبراهيم (عليه السلام): "ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب" دعاء لكافة المؤمنين - و فيهم المخلصون - بالمغفرة، و كذا في دعاء نوح (عليه السلام): "رب اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات": "نوح: 28" شمول بإطلاقه للمخلصين، و لا معنى لطلب المغفرة على من لا ذنب له يحتاج إلى المغفرة.

فهذا كله ينبهنا إلى أن من الذنب المتعلق به المغفرة ما هو غير الذنب بالمعنى المتعارف و كذا من المغفرة ما هي غير المغفرة بمعناها المتعارف، و قد حكى الله تعالى عن إبراهيم قوله: "و الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين": "الشعراء: 82" و لعل هذا هو السبب فيما نشاهد أنه تعالى في موارد من كلامه إذا ذكر الرحمة أو الرحمة الأخروية التي هي الجنة قدم عليه ذكر المغفرة كقوله: "و قل رب اغفر و ارحم": "المؤمنون: 181" و قوله: "و اغفر لنا و ارحمنا": "البقرة: 268" و قوله حكاية عن آدم و زوجته: "و إن لم تغفر لنا و ترحمنا": "الأعراف: 23" و قوله عن نوح (عليه السلام): "و إلا تغفر لي و ترحمني": "هود: 47".

فتحصل من البيان السابق: أن للذنب مراتب مختلفة مترتبة طولا كما أن للمغفرة مراتب بحذائها، تتعلق كل مرتبة من المغفرة بما يحاذيها من الذنب، و ليس من اللازم أن يكون كل ذنب و خطيئة متعلقا بأمر أو نهي مولوي فيعرفه و يتبينه الأفهام العامية الساذجة، و لا أن يكون كل مغفرة متعلقة بهذا النوع من الذنب.

فالذي تبين لنا من مراتب الذنب و المغفرة بحسب البحث السابق العام مراتب أربع: أولاها: الذنب المتعلق بالأمر و النهي المولويين و هو المخالفة لحكم شرعي فرعي أو أصلي و إن عممت التعبير قلت: مخالفة مادة من المواد القانونية دينية كانت أو غير دينية، و تتعلق به مغفرة تحاذيه مرتبة.

و الثانية: الذنب المتعلق بالحكم العقلي الخلقي و المغفرة المتعلقة به.

و الثالثة: الذنب المتعلق بالحكم الأدبي ممن ظرف حياته ظرف الأدب و المغفرة المتعلقة به، و هذان القسمان ربما لم يعدا بحسب الفهم العامي من الذنوب و المغفرات، و ربما حسبوهما منها مجازا، و ليس من المجاز في شيء لما عرفت من ترتب الآثار الحقيقية عليهما.

و الرابعة: الذنب الذي يحكم به ذوق الحب و المغفرة المتعلقة به، و في ظرف البغض أيضا ما يشبههما، و هذا النوع لا يعده الفهم العامي من الأقسام، و قد أخطئوا في ذلك لا لجور منهم في الحكم و القضاء بل لقصور فهمهم عن تعقله و تبين معناه.

و ربما قال القائل منهم: أنه من أوهام العشاق و المبرسمين أو تخيل شعري لا يتكىء على حقيقة عقلية، و قد غفل عن أن هذه التصورات على أنها أوهام و تخيلات في طريق الحياة الاجتماعية هي بعينها تعود حقائق - و أي حقائق - في طريق العبودية عن حب إلهي يذيب القلب و يوله اللب، و لا يدع للإنسان شعورا يشعر بغير ربه، و لا إرادة يريد بها إلا ما يريده.

و حينئذ يلوح له أن التفاتة يسيرة منه إلى نفسه أو إلى مشتهاها من شيء ذنب عظيم و حجاب غليظ لا ترفعه إلا المغفرة الإلهية، و قد عد الله سبحانه الذنب حجابا للقلب عن التوجه التام إلى ربه إذ قال: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون": "المطففين: 15".

فهذا ما يعطيه البحث الجدي الذي لا يلعب فيه بالحقائق، و ربما أمكن أن يلوح لأولياء الله السالكين في عبوديتهم سبيل حبه تعالى دقائق من الذنب و لطائف من المغفرة لا تكاد تناله أيدي الأبحاث الكلية العامة.

5 - هل المؤاخذة أو المغفرة تستلزم ذنبا؟:

الباحث في ديدن العقلاء من أهل الاجتماع يعثر على أنهم يبنون المؤاخذة و العقاب على التكليف الاختياري، و من شرائط صحته عندهم العقل، و هناك شرائط أخر تختلف في أصلها و في تحديد ماهياتها و حدودها المجتمعات، و لسنا هاهنا بصدد البحث عنها.

و إنما كلامنا في العقل الذي هو قوة التمييز بين الحسن و القبح و النافع و الضار و الخير و الشر بحسب المتوسط من حال الناس في مجتمعهم، فإن الناس من حيث النظر الاجتماعي يرون أن في الإنسان مبدأ فعالا هذا شأنه و إن كان البحث العلمي ربما أدى إلى أنه ليست قوة من القوى الطبيعية المودعة في الإنسان كالمتخيلة و الحافظة، و إنما هي ملكة حاصلة من توافق عدة من القوى في الفعل كالعدالة.

فالمجتمعات على اختلافها ترى أن التكليف منوط بهذا المسمى عقلا فيتفرع الثواب و العقاب المتفرعين على التكليف عليه لا محالة فيثاب العاقل بطاعته و يعاقب بجرمه.

و أما غير العاقل كالصبي و المجنون و السفيه و كل مستضعف غيرهم فلا ثواب و لا عقاب على ما يأتون به من طاعة أو معصية بحقيقة معنى الثواب و العقاب، و إن كانوا ربما يثابون قبال طاعتهم ثوابا تشويقيا أو يؤاخذون و يساسون قبال جرمهم بما يسمى عقابا تأديبا، و هذا شائع دائر في المجتمعات حتى المجتمع الإسلامي.

و هؤلاء بالنظر إلى السعادة و الشقاوة المكتسبتين بامتثال التكاليف و مخالفتها في الحياة الدنيا، لا سعداء و لا أشقياء إذ لا تكليف لهم فلا ثواب حتى يسعدوا به و لا عقاب حتى يشقوا به، و إن كانوا ربما يشوقون بخير أو يؤدبون بشر.

و أما بالنسبة إلى الحياة الآخرة التي يثبتها الدين الإلهي ثم يقسم الناس إلى قسمين لا ثالث لهما: السعيد و الشقي أو المثاب و المعاقب فالذي يذكره القرآن الشريف في ذلك أمر إجمالي لا يتبين تفصيله إذ لا طريق عقلا إلى تشخيص تفاصيل أحوالهم بعد الدنيا، قال تعالى: "و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم": "التوبة: 160"، و قال تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا": "النساء: 99".



و الآيات - كما ترى - تشتمل على العفو عنهم و التوبة عليهم و لا مغفرة في مورد لا ذنب هناك، و على عذابهم و لا عذاب على من لا تكليف له، غير أنك عرفت أن الذنب و كذا المغفرة و العقاب و الثواب ذوات مراتب مختلفة: منها ما يتعلق بمخالفة التكليف المولوي أو العقلي، و منها ما يتعلق بالهيئات النفسانية الرديئة و أدران القلب التي تحجب الإنسان عن ربه، و هؤلاء و إن كانوا في معزل من تعلق التكليف المتوقف على العقل لكنهم ليسوا بمصونين من ألواث النفوس و أستار القلوب التي يحتاج التنعم بنعيم القرب، و الحضور في ساحة القدس إلى إزالتها و عفوها و الستر عليها و مغفرتها.

و لعل هذا هو المراد مما ورد في بعض الروايات: "أن الله سبحانه يحشرهم ثم يخلق نارا و يأمرهم بدخولها فمن دخلها دخل الجنة و من أبى أن يدخلها دخل النار" و سيجيء ما يتعلق بالروايات من الكلام في تفسير سورة التوبة إن شاء الله، و قد مر بعض الكلام في سورة النساء.

و من استعمال العفو و المغفرة في غير مورد الذنب في كلامه تعالى ما تكرر وقوعه في مورد رفع الحكم بقوله تعالى: "فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم": "المائدة: 3"، و نظيره ما في سورة الأنعام، و قوله تعالى في رفع الوضوء عن فاقد الماء: "و إن كنتم مرضى أو على سفر - إلى أن قال - فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم و أيديكم إن الله كان عفوا غفورا": "النساء: 43"، و قوله في حد المفسدين في الأرض: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم": "المائدة: 34"، و قوله في رفع حكم الجهاد عن المعذورين: "ما على المحسنين من سبيل و الله غفور رحيم": "التوبة: 91"، إلى غير ذلك.

و قال تعالى في البلايا و المصائب التي تصيب الناس: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير": "الشورى: 30".

و ينكشف بذلك أن صفة العفو و المغفرة منه تعالى كصفتي الرحمة و الهداية تتعلق بالأمور التكوينية و التشريعية جميعا فهو تعالى يعفو عن الذنوب و المعاصي فيمحوها من صحيفة الأعمال، و يعفو عن الحكم الذي له مقتض يقتضي وضعه فيمحوه فلا يشرعه، و يعفو عن البلايا و المصائب و أسبابها قائمة فيمحوها فلا تصيب الإنسان.

6 - رابطة العمل و الجزاء:

قد عرفنا فيما تقدم من البحث أن الأوامر و النواهي العقلائية - القوانين الدائرة بينهم - تستعقب آثارا جميلة حسنة على امتثالها و هي الثواب، و آثارا سيئة على مخالفتها و التمرد منها تسمى عقابا، و أن ذلك كالحيلة يحتالون بها إلى العمل بها، فجعلهم الجزاء الحسن للامتثال إنما هو ليكون مشوقا للعامل، و الجزاء السيىء على المخالفة ليكون العامل على خوف و حذر من التمرد.

و من هنا يظهر أن الرابطة بين العمل و الجزاء رابطة جعلية وضعية من المجتمع أو من ولي الأمر، دعاهم إلى هذا الجعل حاجتهم الشديدة إلى العمل ليستفيدوا منه و يرفعوا به الحاجة و يسدوا به الخلة، و لذلك تراهم إذا استغنوا و ارتفعت حاجتهم إلى العمل ساهلوا في الوفاء على ما تعهدوا به من ثواب و عقاب.

و لذلك أيضا ترى الجزاء يختلف كثرة و قلة و الأجر يتفاوت شدة و ضعفا باختلاف الحاجة إلى العمل فكلما زادت الحاجة زاد الأجر و كلما نقصت نقص فالأمر و المأمور و المكلف و المكلف بمنزلة البائع و المشتري كل منهما يعطي شيئا و يأخذ شيئا.

و الأجر و الثواب بمنزلة الثمن، و العقاب بمنزلة الدرك على من أتلف شيئا فضمن قيمته و استقرت في ذمته.

و بالجملة فهو أمر وضعي اعتباري نظير سائر العناوين و الأحكام و الموازين الاجتماعية التي يدور عليها رحى الاجتماع الإنساني كالرئاسة و المرئوسية و الأمر و النهي و الطاعة و المعصية و الوجوب و الحرمة و الملك و المال و البيع و الشراء و غير ذلك، و إنما الحقائق هي الموجودات الخارجية و الحوادث المكتنفة بها التي لا تختلف حالها بغنى و فقر و عز و ذل و مدح و ذم كالأرض و ما يخرج منها و الموت و الحياة و الصحة و المرض و الجوع و الشبع و الظمأ و الري.

فهذا ما عند العقلاء من أهل الاجتماع، و الله سبحانه جارانا في كلامه مجاراة بعضنا بعضا فقلب سعادتنا التي يهدينا إليها بدينه في قالب السنن الاجتماعية فأمر و نهى و رغب و حذر، و بشر و أنذر، و وعد بالثواب و أوعد بالعقاب فصرنا نتلقى الدين على أسهل الوجوه التي نتلقى بها السنن و القوانين الاجتماعية، قال تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا": "النور: 21".

و لم يهمل سبحانه أمر تعليم النفوس المستعدة لإدراك الحقائق فأشار في آيات من كلامه إلى أن وراء هذه المعارف الدينية التي تشتمل عليها ظواهر الكتاب و السنة أمرا هو أعظم، و سرا هو أنفس و أبهى فقال تعالى: "و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان": "العنكبوت: 64".

فعد الحياة الدنيا لعبا لا بنية له إلا الخيال، و لا شأن له إلا أن يشغل الإنسان عما يهمه، و هي الدار الآخرة و سعادة الإنسان الدائمة التي لها حقيقة الحياة، و المراد بالحياة الدنيا إن كان هو عين ما نسميه حياة دون ما يلحق بها من الشئون الحيوية من مال و جاه و ملك و عزة و كرامة و نحوها فكونها لعبا و لهوا مع ما نراها من الحقائق يستلزم كون الشئون الحيوية لعبا و لهوا بطريق أولى، و إن كان المراد الحياة الدنيوية بجميع لواحقها فالأمر أوضح.

فهذه السنن الاجتماعية و المقاصد التي يطلب بها من عز و جاه و مال و غيرها، ثم الذي يشتمل عليه التعليم الديني من مواد و مقاصد هدانا الله سبحانه إليها بالفطرة ثم بالرسالة مثلها كمثل اللعب الذي يضعه الولي المربي العاقل للطفل الصغير الذي لا يميز صلاحه من فساده و خيره من شره ثم يجاريه فيه ليروض بدنه و يروح ذهنه و يهيئه لنظام العمل و ابتغاء الفوز به، فالذي يقع من العمل اللعبي هو من الصبي لعب جميل يهديه إلى حد العمل، و من الولي حكمة و عمل جدي ليس من اللعب في شيء.

و قال تعالى: "و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين، و ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون": "الدخان: 39" و الآية قريبة المضمون من الآية السابقة.

ثم شرح تعالى كيفية تأدية هذه التربية الصورية إلى مقاصدها المعنوية في مثل عام ضربه للناس فقال: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض": "الرعد: 17".

فظهر من بيانه تعالى أن بين العمل و الجزاء رابطة حقيقية وراء الرابطة الوضعية الاعتبارية التي بينهما عند أهل الاجتماع و يجري عليها ظاهر تعليمه تعالى.

7 - و العمل يؤدي الرابطة إلى النفس:

ثم بين تعالى أن العمل يؤدي هذه الرابطة إلى النفس من جهة الهيأة النفسانية التي تحصل لها من العمل و الحالة التي تؤديها إليها فقال تعالى: "و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم": "البقرة: 252"، و قال: "و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله": "البقرة: 248" و في هذا المعنى آيات أخر كثيرة.

و يتبين بها أن جميع الآثار المترتبة على الأعمال من ثواب أو عقاب إنما تترتب بالحقيقة على ما تكسبه النفوس من طريق الأعمال، و أن ليس للأعمال إلا الوساطة.



ثم بين تعالى أن الذي سيواجههم من الجزاء على الأعمال إنما هو نفس الأعمال بحسب الحقيقة لا كما يضع الإنسان في مجتمعه عملا ثم يردفه بجزاء بل العمل محفوظ عند الله سبحانه بانحفاظ النفس العاملة ثم يظهره الله عليها يوم تبلى السرائر قال الله تعالى: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا": "آل عمران: 30" و قال تعالى: "لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون": "التحريم: 7" و دلالة الآيات ظاهرة، و تلحق بها في ذلك آيات أخر كثيرة.

و من أحسنها دلالة قوله تعالى: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد": "ق: 22" فإن هذا إشارة إلى مقام الجزاء الحاضر، و قد عده غافلا عنه في الدنيا بقرينة قوله: "اليوم" و لا معنى للغفلة إلا عن أمر موجود، ثم ذكر كشف غطائه عنه، و لا وجه للغطاء إلا أن يكون هناك مغطى عليه، فقد كان ما يلقاه و يبصره من الجزاء يوم القيامة حاضرا موجودا في الدنيا غير أنه لم يكشف عنه.

و هذه الآيات تفسر الآيات الأخر الظاهرة في المجازاة و بينونة العمل و الجزاء لكون آيات المجازاة ناظرة إلى مرحلة الرابطة الاجتماعية الوضعية، و هذه الآيات ناظرة إلى مرحلة الرابطة الحقيقية كما بيناه، و قد تعرضنا لهذا البحث بعض التعرض في تفسير قوله تعالى: "ختم الله على قلوبهم": "البقرة: 7" في الجزء الأول من الكتاب فليراجعه من شاء.

و الله الهادي.

تم و الحمد لله.
<<        الفهرس        >>