جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



و بالجملة فمما لا يشك فيه ذو مسكة أن بقاء الحرية الإنسانية على إطلاقها في المجتمع الإنساني و لو لحظة يوجب اختلال النظام الاجتماعي من وقته فهذا الاجتماع الذي هو أيضا فطري للإنسان و لا يعيش بدونه هو يقيد إطلاق الحرية الفطرية التي وهبته للإنسان إرادته و شعوره الغريزيان فلا يتأتى لمجتمع إنساني أن يعيش إلا مع تقييد ما لإطلاق الحرية كما لا يتأتى له أن يعيش مع بطلان الحرية من أصلها، و لم يزل المجتمع الإنساني يحفظ بين الحدين هذه الحرية التي يخيل لنا من كثرة التبليغات الغربية أنهم هم الذين خلقوا اسمها بعد ما اخترعوا معناها، و حفظوها على إطلاقها.

فهذا الاجتماع الفطري هو الذي يقيد تلك الحرية الفطرية و يحددها على حد تقييد القوى الطبيعية البدنية و غير البدنية بعضها بعضا فيقف البعض عن الفعل اعتناء بشأن بعض آخر يزامله كقوة الإبصار التي هي مبدأ للإبصار على الإطلاق تفعل فعلها حتى تكل لامسة العين أو تتعب القوة المفكرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيدا بفعل مزاملها، و الذائقة تلتذ بالتقام الغذاء اللذيذ و ازدراده و بلعه حتى تكل عضلات الفك فتقيد الذائقة فتكف عن مشتهاها.

فالاجتماع الفطري لا يتم للإنسان إلا بأن يجود ببعض حريته في العمل و استرساله في التمتع.

10 - ما مقدار التحديد:

و أما المقدار الذي تحدد به الحرية الموهوبة من قبل الاجتماع الفطري و يتقيد به إطلاقها الفطري فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإنسانية بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة في المجتمع و قلتها فإن المقيد للحرية بعد أصل الاجتماع إنما هو القانون المجرى بين الناس فكلما زادت القوانين و دقت في رقوب أعمالهم زاد الحرمان من الحرية و الاسترسال و كلما نقصت نقص.

لكن الذي لا مناص عنه في أي اجتماع لأي مجتمع فرض، و الواجب الذي ليس في وسع الإنسان الاجتماعي أن يستهين به و يتساهل في أمره: هو حفظ وجود الاجتماع و كونه إذ لا حياة للإنسان دونه، و حفظ السنن الدائرة و القوانين الجارية فيه من النقص و الانتقاض، و لذلك لست تجد مجتمعا من المجتمعات البشرية إلا و فيه جهة دفاعية تذب عن النفوس و الذراري و تقيهم من الفناء و الهلاك، و ولي يلي أمرهم و يحفظ السنة الجارية و العادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض ببسط الأمن الاجتماعي، و سياسة المتعدي الجائر، و الموجود من التاريخ يصدق ذلك أيضا.

و إذا كان كذلك فأول حق مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرية عن عدو المجتمع في أصل اجتماعه، و إن شئت فقل: أن يملك من عدوه المبيد لحياته المفسد لحرثه و نسله نفسه و عمله و يذهب بحرية إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، و أن يسلب عن عدو السنة و القانون حرية العمل و الاسترسال في النقض، و يملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما.

و كيف يسع الإنسان - حتى الإنسان الفرد - أن يذعن بحرية عدو لا لحياة مجتمعه يحترم فيؤاخيه و يشاركه و يمتزج به، و لا عن إبادة مجتمعه و إفنائه يغمض فيتركهم و شأنهم؟ و هل الجمع بين العناية الفطرية بالاجتماع و بين ترك هذا العدو و حريته في العمل إلا جمعا بين المتناقضين صريحا و سفها أو جنونا؟.
فتبين مما مر أولا: أن البناء على إطلاق حرية الإنسان أمر مخالف لصريح الحق الفطري المشروع للإنسان الذي هو من أول الحقوق الفطرية المشروعة.

و ثانيا: أن حق الاستعباد الذي اعتبره الإسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، و هو أن يستعبد أعداء الدين الحق المحاربين للمجتمع الإسلامي فيسلب عنهم حرية العمل، و يجلبوا إلى داخل المجتمع الديني و يكلفوا بأن يعيشوا في زي العبودية حتى يتربوا بالتربية الصالحة الدينية، و ينعتقوا تدريجا، و يلتحقوا بالمجتمع الحر سالمين غانمين، و لولي الأمر أن يشتريهم و يعتقهم عن آخرهم إن رأى صلاح المجتمع الديني في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقا آخر لا ينتسخ بذلك الأحكام الإلهية.

11 - إلى م آل أمر الإلغاء؟:

أجرت الدول المعظمة قرار مؤتمر بروسل و منعوا بيع الرقيق أشد المنع و انعتقت الإماء و العبيد فلا يصطفون اليوم في دكاك النخاسين و لا يساقون سوق الأغنام، و تبع ذلك أن انتسخ اتخاذ الخصيان، و لا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء و أولئك و لو نماذج قليلة إلا ما ربما يذكر من أمر الأقوام الهمجية.

لكن هذا المقدار أعني ارتفاع اسم الاستعباد و الاسترقاق من الألسنة و غيبة المسمين بهذا الاسم عن الأنظار هل يقنع الباحث الناقد في هذه المسألة؟ أ و ليس يسأل أن هذه المسألة هل هي مسألة لفظية يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم، و يكفي في إجرائها أن يسمى العبد حرا و إن سلب منافع عمله و تبع غيره في إرادته، أو أن المسألة معنوية يراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقته و آثاره الخارجية؟.



فهاتيك الحرب العالمية الثانية لم يمض عليها إلا بضع عشرة سنة حملت الدول الفاتحة على عدوها المغلوب التسليم بلا شرط ثم احتلوا بلادهم، و أخذوا ملايين من أموالهم، و تحكموا على نفوسهم و ذراريهم، و نقلوا الملايين من أسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاءوا و كيف شاءوا، و الأمر يجري على ذلك حتى اليوم.

فليت شعري هل للاستعباد مصداق ليس به و إن منع من إطلاق لفظه؟ و هل له معنى إلا سلب إطلاق الحرية، و تملك الإرادة و العمل، و إنفاذ القوي المتعزز حكمه في الضعيف المستذل كيف شاء و أراد عدلا أو ظلما؟.

فيا لله العجب يسمي حكم الإسلام بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن استعبادا و لا يسمى حكمهم بذلك، و الإسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه و أخفها و هم يأخذون بأشقها و أعنفها، فقد رأينا محبتهم و صداقتهم حينما احتلوا بلادنا تحت عنوان المحبة و الحماية و الوقاية، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة و النكاية؟.

و من هنا يظهر أن قرار الإلغاء لم يكن إلا لعبا سياسيا هو في الحقيقة أخذ في صورة الرد، أما الاستعباد عن حرب و قتال فقد أنفذه الإسلام و أنفذوه عملا و إن منعوا عن التلفظ باسمه لسانا، و أما الاستعباد من طريق بيع الآباء أبناءهم الذي منعوه فقد كان الإسلام منعه من قبل، و أما الاستعباد من طريق الغلبة و السلطة الحكمية فقد منعه الإسلام من قبل، و أما هؤلاء فقد أجمعوا على منعه لكن هل توقف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره أو تعداها إلى مرحلة المعنى و وافقه العمل؟!.

يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإمرار النظر في تاريخ الاستعمارات الأروبية في آسيا و إفريقيا و أميركا، و الفجائع التي ارتكبوها، و الدماء و الأعراض و الأموال التي أهرقوها و استباحوها و نهبوها، و التحكمات التي أتوا بها و ليس بالواحد و المائة و الألف.

ليس يلزمك أن تسلك هذا السبيل على بعدها - إن كان بعيدا - فقد يجزيك أن تتأمل أخبار ما يقاسيه أهل الجزائر من فرنسا منذ سنين من إبادة النفوس و تخريب البلاد و التشديد على أهله، و ما تلقاه الممالك العربية من الإنجليز، و ما يتحمله السودان و الحمر في أميركا، و الأوروبة الشرقية من الجمهوريات الاشتراكية، و ما نكابده نحن من أيدي هؤلاء و أولئك، كل ذلك في لفظه نصح و إشفاق، و في معناه استعباد و استرقاق!.

فظهر من جميع ما مر أنهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإسلام من إباحة و سلب إطلاق الحرية عند وجود سببها الفطري الذي هو حرب من يريد هدم المجتمع و إهلاك الإنسانية، و هو حكم مشروع في شريعة الفطرة له أصل واقعي لا يتغير و هو حاجة الإنسانية في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجودا و يناقضها بقاء ثم أصل اجتماعي عقلائي لا يتبدل متفرع على أصله الواقعي و هو وجوب حفظ المجتمع الإنساني عن الانعدام و الانهدام.

فهذا هو الذي راموه في عملهم و أخذوه معنى و أنكروه اسما غير أنهم تعدوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع و هو الاستعباد بسبب الغلبة و السلطة فلا يزالون يستعبدون الألوف و الملايين قبل حديث الإلغاء و بعده، و يبيعون و يشترون و يهبون و يعيرون إلا أنهم لا يسمون ذلك استعبادا، و إنما يسمى استعمارا أو استملاكا أو قيمومة أو حماية أو عناية و إعانة أو غير ذلك من الألفاظ التي لا يراد بشيء منها إلا أن يكون سترة على معنى الاستعباد، و كلما خلق أو خرق شيء منها رمي به و جيء بآخر.

و لم يبق مما نسخه قرار بروسل و لا يزال يقرع به أسماع الدنيا و أهلها و يتباهى به الدول المتمدنة الذين هم رواد المدنية الراقية، و بأيديهم راية الحرية الإنسانية إلا الاستعباد من طريق بيع الأبناء و البنات و الإخصاء و لا فائدة هامة فيه تعود إليهم مع كونه أشبه بالمسألة الفردية منه بالمسألة الاجتماعية، و نسخه مع ذلك حجة لفظية تبليغية بأيديهم كسائر حججهم التي لا تعدو مقام اللفظ و تؤثر أثر المعنى.

نعم يبقى هناك محل بحث آخر و هو أن الإسلام يبدأ في غنائمه الحربية من رقيق أو مال غير الأرض المفتوحة عنوة بالأفراد من مجتمعه فيقسمها بينهم ثم ينتهي إلى الدولة على ما سير به في صدر الإسلام و هؤلاء يحفظون الاستفادة منها حقا موقوفا على الدولة، و هذه مسألة أخرى غير مسألة أصل الاسترقاق لعلنا نوفق لاستقصاء البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة و الخمس و الله المستعان.

و بعد ذلك كله نعود إلى كلمة صاحب معجم الأعلام المنقولة سابقا: "مبدأ إلغاء الرق هو تساوي البشر في الحقوق و الواجبات" فما معنى تساوي البشر في الحقوق إلخ، فإن أريد به تساويهم في استحقاق ما لهم من الحقوق الواجبة مراعاتها و إن كانت نفس تلك الحقوق مختلفة غير متساوية البتة كاختلاف الرئيس و المرءوس و الحاكم و المحكوم و الآمر و المأمور و المطيع للقانون و المتخلف عنه و العادل و الظالم من جهة اختلافهم في الزنة الاجتماعية.

فهو كذلك لكنه لا يستلزم التسوية بين من هو جزء شريف نافع في المجتمع و بين من ليس في صلاحيته أن ينضم إلى المجتمع و لا كرامة، و إنما هو كالسم المهلك الذي أينما حل أبطل الحياة فإن من الحكم الفطري الصريح أن يفرق بينهما بإعطاء الحرية الكاملة للأول، و سلبها عن الثاني فلا حق للعدو على عدوه فيما يعاديه، و لا واجب للذئب في ذمة الغنم و لا للأسد على فريسته.

و إن أريد به أن الإنسانية لما كانت مشتركة بين أفراد الإنسان و كان في قوة الفرد من الإنسان كائنا من كان أن يرقى في المدنية و ينال من السعادة ما يناله الآخر كان من حق الإنسانية على المجتمع الراقي أن يجود بالحرية على كل إنسان و يربيه حتى يلحق المجتمع الصالح.

فلذلك حق لكن ربما كان من شرائط التربية أن يسلب المربي حرية الإرادة و العمل حينا حتى تتم التربية، و يتبصر النفس المرباة في استعمال إرادتها، و تتنعم بنعمة حريتها كما يعالج المريض بما يسوؤه و يربى الصغير بما يتحرج منه، و هذا هو الذي يراه الإسلام من سلب حرية الإرادة و العمل عن الأمة الكافرة المحاربة، و اجتلابهم إلى داخل المجتمع الديني، و تربيتهم فيها، و تخليصهم تدريجا إلى ساحة الحرية فإن السلوك سلوك اجتماعي ينبغي أن ينظر إليه و إلى نتيجته و أثره بنظر عام كلي، و ليس بأمر فردي ينظر إليه بنظر فردي جزئي، ثم من العجب أن هؤلاء أيضا يجرون عملا بما جرت عليه السيرة الإسلامية و إن خالفوه في التسمية و حسن النية كما تقدم بيانه.

و إن أريد به أن من حق الحرية الإنسانية أن تطرد في الجميع و يخلى بين كل إنسان و إرادته المطلقة.

فمن الواضح الذي لا مرية فيه أن ذلك غير جائز التسليم و لا ميسور العمل على إطلاقه و خاصة في الخصم المحارب و هو المورد الوحيد الذي يعتني به الإسلام في سلب إطلاق الحرية.

ثم لو كان هذا حقا لم يكن فيه فرق بين الواحد و الاثنين و بين الجماعة فما بالهم يسلمون للواحد من الحرية القانونية حتى مثل "الانتحار" و للاثنين مثل "دئل" و لا يسلمون لطائفة مساكين من أبناء نوعهم أن ينعزلوا في ملجإ أو مغارات و يشتغلوا بأنفسهم و يأكلوا رزق ربهم و يسلكوا سبيل حياتهم؟.



بقي هنا شيء و هو أنه ربما قال القائل: ما بال الإسلام لم يشرع للرقيق تملك المال حتى يستعين به على حوائجه الضرورية من غير أن يكون كلا على مولاه؟ و ما باله لم يحدد الرق بالإسلام حتى ينعتق العبد بالإسلام و ينمحي عنه لوث المحرومية اللازمة له و لأعقابه إلى يوم القيامة.

لكن ينبغي أن يتنبه هذا القائل إلى أن الحكم باستقرار الرق و الحرمان من تملك المال إنما ظهوره و وقوعه بحسب نظر التشريع في أول زمان الاستيلاء عليه، و حكم الفطرة عليهم - و هم الأعداء المحاربون - بجواز سلب الحرية إنما هو لإبطال كيدهم و سلب قوتهم على المقاومة لهدم الاجتماع الديني الصالح، و لا قوة و لا قدرة إلا بالملك فإذا لم يملكوا عملا و لا نتاج عمل لم يقووا على المخاصمة و المحاربة.

نعم أجاز الإسلام لهم أن يتملكوا في الجملة بتمليك الموالي، و هذا ملك في طول ملك، و ليس فيه محذور الاستقلال بالتصرف.

و أما تحديد رقهم بالإيمان فهو أمر يبطل السياسة الدينية في حفظ بيضة الإسلام و إقامة المجتمع الديني على ساقه و بسط التربية الدينية على هؤلاء المحاربين المستعلى عليهم بالعدة و القوة، و لو لا ذلك لدخلوا في ظاهر الدين بمجرد أن استقرت عليهم سيطرة الدين، و ضربت عليهم بذلة العبودية فحفظوا بذلك عدتهم و قوتهم ثم عادوا لما نهوا عنه.

و ليرجع في ذلك إلى السنة الجارية بين الأمم و الأقوام من يومنا هذا إلى أقدم العهود التي يستطاع العثور فيها على تاريخ الإنسانية فالأمتان أو القبيلتان إذا تحاربتا و تقاتلتا ثم غلبت إحداهما الأخرى و استعلت عليها فإنها ترى من حقها المشروع لها في الحرب أن تضع في عدوها السيف حتى يسلم لها الأمر تسليما مطلقا من غير شرط.

و ليست ترضى من التسليم بمجرد أن تضع الأمة المقاتلة المغلوبة أسلحتها على الأرض فتتركهم و ما يريدون بل بالتسليم لأمر الأمة الغالبة، و الخضوع التام لما تحكم فيهم، و ترى لهم أو عليهم، و تتصرف في نفوسهم و أموالهم.

و من سفه الرأي أن تقيد هذه السيطرة بقيد يفسد أثر هذا التسليم المطلق، و يبطل حكمه، و يمهد الطريق للعدو في الرجوع إلى كيده و مكره، و يجدد له رجاء العود إلى ما بدأ، و كيف يسوغ للأمة الغالبة ذلك و قد فدت عن استقلال مجتمعها المقدس عندها بالنفوس و الأموال؟ و هل ذلك إلا ظلما لنفسها و استهانة بأعز ما عندها، و تبذيرا للدماء و الأموال و المساعي؟.

و ليس لمعترض أن يعترض على أمة غالبة غلبت بتضحية النفوس و الأموال فضربت على عدوها بالذلة و المسكنة، و حفظهم على حالة الرق: بأن رجالهم قاتلوا و قتلوا و أفسدوا فأخذوا بالأسر و جوزوا بسلب الحرية على ما يبيحه الحق المشروع للمحارب على محاربه فما ذنب الأصاغر من الذراري المتولدين بعد ذلك، و لم يحملوا سلاحا، و لا سلوا سيفا، و لا دخلوا معركة؟ و ذلك أنهم ضحايا آبائهم.

بعد ذلك كله لا ينبغي أن ينسى أن للحكومة الإسلامية أن يحتال في انعتاق الرقيق بشراء و عتق و نحو ذلك إذا أحرزت أن الأصلح بحال المجتمع الإسلامي ذلك و الله أعلم.

كلام في المجازاة و العفو في فصول

1 - ما معنى الجزاء؟:

لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات من تكاليف اجتماعية على أجزائه أن يحترموها فلا هم للمجتمع إلا أن يوافق بين أعمال الأفراد و يقرب بعضها من بعض، و يربط جانبا منها بجانب حتى تأتلف و تجتمع و ترفع بآثارها و نتائجها حوائج الأفراد بمقدار ما يستحقه كل واحد بعمله و سعيه.

و هذه التكاليف لما كانت متعلقة بأمور اختيارية يسع الإنسان أخذها و تركها، و هي بعينها لا تتم إلا مع سلب ما لحرية الإنسان في إرادته و عمله لم يمتنع أن يتخلف عنها أو عن بعضها الإنسان المتمائل بطبعه إلى الاسترسال و إطلاق الحرية.

و التنبه إلى هذا النقص في التكاليف و الفتور في بني القوانين هو الذي بعث الإنسان الاجتماعي على أن يتمم نقصها و يحكم فتورها بأمر آخر، و هو أن يضم إلى مخالفتها و التخلف عنها أمورا يكرهها الإنسان المكلف فيدعوه ذلك إلى طاعة التكليف الذي يكلف به حذرا من أن يحل به ما يكرهه و يتضرر به.

و هذا هو جزاء السيئة، و هو حق للمجتمع أو لولي الأمر على المتخلف العاصي، و له نظير في جانب طاعة التكاليف فمن الممكن أن يوضع للمطيع الممتثل بإزاء عمله بالتكليف أمر يؤثره و يحبه ليكون ذلك داعيا يدعوه إلى إتيان الواجب أو المطلوب مطلقا من التكاليف، و هو حق للمكلف المطيع على المجتمع أو لولي الأمر، و هذا هو جزاء الحسنة، و ربما يسمى جزاء السيئة عقابا و جزاء الحسنة ثوابا.

و على هذه الوتيرة يجري حكم الشريعة الإلهية قال تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى": "يونس: 26" و قال تعالى: "و الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها": "يونس: 27" و قال: "و جزاء سيئة سيئة مثلها": "الشورى: 40".

و للعقاب و الثواب عرض عريض آخذا من الاستكراه و الاستحسان و الذم و المدح إلى آخر ما يتعلق به القدرة من الشر و الخير و يرتبطان في ذلك بعوامل مختلفة من خصوصيات الفعل و الفاعل و ولي التكليف و مقدار الضرر و النفع العائدين إلى المجتمع، و لعله يجمع الجميع أن العمل كلما زاد الاهتمام بأمره زاد عقابا في صورة المعصية و ثوابا في صورة الطاعة.

و يعتبر بين العمل و بين جزائه - كيف كان - نوع من المماثلة و المسانخة و لو تقريبا، و على ذلك يجري كلامه تعالى أيضا كما هو ظاهر أمثال قوله تعالى: "ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى": "النجم: 31" و أوضح منه قوله تعالى و قد حكاه عن صحف إبراهيم و موسى (عليهما السلام): "و أن ليس للإنسان إلا ما سعى، و أن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى": "النجم: 41".

و هذا فيما شرعه الله في أمر القصاص أظهر، قال تعالى: "كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى": "البقرة: 187" و قال: "الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا الله": "البقرة: 149".

و لازم هذه المماثلة و المسانخة أن يعود العقاب أو الثواب إلى نفس العامل بمثل ما عمل بمعنى أنه إذا عصى حكما اجتماعيا مثلا فإنما تمتع لنفسه بما يضر المجتمع أي بما يفسد تمتعا من تمتعات المجتمع فينقص من تمتعاته في نفسه ما يعادل ذلك من نفسه أو بدنه أو ماله أو جاهه أو نحو ذلك مما يعود بوجه إليه.

و هذا هو الذي أومأنا إليه في البحث عن معنى الاستعباد أن المجتمع أو من يلي أمره يملك من المجرم نفسه أو شأنا من شئون نفسه يعادل الجرم الذي اجترمه و نقيصة الضرر الذي أوقعه على المجتمع فيعاقب بذلك أي يتصرف المجتمع أو ولي الأمر استنادا إلى هذا الملك - و هو الحق - في حياة المجرم أو شأن من شئون حياته، و يسلب حريته في ذلك.



فلو قتل نفسا مثلا بغير نفس أو فساد في الأرض في المجتمع الإسلامي ملك ولي الأمر من المجرم نفسه حيث نقصهم نفسا محترمة، و حده الذي هو القتل تصرف في نفسه عن الملك الذي ملكه، و لو سرق ما يبلغ ربع دينار من حرز فقد أضر بالمجتمع بهتك ستر من أستار الأمن العام الذي أسدلته يد الشريعة و حفظته يد الأمانة، و حدها الذي هو القطع ليس حقيقته إلا أن ولي الأمر ملك من السارق بإزاء ما أتى به شأنا من شئون حياته و هو الشأن الذي تشتمل عليه اليد فيتصرف فيه بسلب ما له من الحرية و وسيلتها من هذه الجهة، و قس على ذلك أنواع الجزاء في الشرائع و السنن المختلفة.

فيتبين من هنا أن الإجرام و المعصية الاجتماعية يستجلب نوعا من الرق و العبودية، و لذلك كان العبد أظهر مصاديق المؤاخذة و العقاب قال تعالى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك": "المائدة: 181".

و لهذا المعنى مظاهر متفرقة في سائر الشرائع و السنن المختلفة قال الله تعالى في قصة يوسف (عليه السلام) إذ جعل السقاية في رحل أخيه ليأخذه إليه: "قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين - أي في إنكاركم سرقة صواع الملك - قالوا من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين - أي نجزي السارق باسترقاقه - فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف - إلى أن قال - قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين - و هذا هو التبديل و نوع من الفدية - قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون": "يوسف: 79".

و ربما كان يؤخذ القاتل أسيرا مملوكا، و ربما كان يفدي بواحدة من نسائه و حرمه كبنته و أخته إلى غير ذلك، و سنة الفدية بالتزويج كانت مرسومة إلى هذه الأيام بين القبائل و العشائر في نواحينا لأن الازدواج يعد عندهم نوعا من الاسترقاق و الإسارة للنساء.

و من هنا ما ربما يعد المطيع عبدا للمطاع لأنه بإطاعته يتبع إرادته إرادة المطاع فهو مملوكه المحروم من حرية الإرادة قال تعالى: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، و أن اعبدوني": "يس: 61" و قال: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه": "الجاثية: 23".

و بالعكس من تملك المجتمع أو ولي الأمر المجرم المعاقب يملك المطيع المثاب من المجتمع أو ولي الأمر ما يوازن طاعته من الثواب فإن المجتمع أو الولي نقص من المكلف المطيع بواسطة التكليف شيئا من حريته الموهوبة فعليه أن يتممه كما نقص.

و هذا الذي ذكرناه هو السر في ما اشتهر: أن الوفاء بالوعد واجب دون الوعيد و ذلك أن مضمون الوعد في ظرف المولوية و العبودية هو الثواب على الطاعة كما أن مضمون الوعيد هو العقاب على المعصية و الثواب لما كان من حق المطيع على ولي الأمر و في ذمته وجب عليه تأديته و تفريغ ذمته منه بخلاف العقاب فإنه من حق ولي الأمر على المكلف المجرم، و ليس من الواجب أن يتصرف الإنسان في ملكه و يستفيد من حقه إن كان له ذلك، و للكلام تتمة.

3 - العفو و المغفرة؟:

استنتجنا من البحث السابق جواز ترك المجازاة على المعصية بخلاف الطاعة، و هو حكم فطري في الجملة مبني على أن العقاب حق للمعصي على العاصي، و ليس من الواجب إعمال الحق دائما.

غير أنه كما لا يجب إعمال حق العقاب دائما كذلك لا يجوز تركه دائما و إلا لغا القضاء الفطري بثبوت الحق، و لا معنى لثبوت شيء لا أثر له و لا في وقت من الأوقات على أن إلغاء حق العقاب من رأسه هدم للقوانين الموضوعة الحافظة لبنية الاجتماع و في هدمها هدم الاجتماع بلا ريب.

فالحكم - و هو جواز العفو عن الذنب - ثابت في الجملة، و القضية مهملة فإن كان هناك سبب مسوغ بحسب الحكمة للعفو جاز العفو و إلا وجبت المجازاة احتراما للقوانين الحافظة لبنية المجتمع و سعادة الإنسان، و إليه الإشارة بقوله تعالى حكاية عن عيسى (عليه السلام): "و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم": "المائدة: 181".

و يوجد في القرآن الكريم من أسباب المغفرة مما تمضيه الحكمة الإلهية سببان كليان: أحدهما: توبة العبد إلى الله سبحانه أعم من رجوعه من الكفر إلى الإيمان أو رجوعه من المعصية إلى الطاعة على ما تقدم بيانه في الكلام على التوبة في الجزء الرابع من الكتاب، قال تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون - و هذه التوبة من الكفر الذي فيه وعيد العذاب الذي لا ينفع فيه ناصر شفيع - و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة و أنتم لا تشعرون": "الزمر: 55" و هذه هي التوبة من المعصية إلى الطاعة، و لم ينف فيه نفع الشفاعة.

و قال تعالى: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم و كان الله عليما حكيما، و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن و لا الذين يموتون و هم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما": "النساء: 18".

و ثانيهما: الشفاعة يوم القيامة قال تعالى: "و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون": "الزخرف: 86" إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتعرضة لأمر الشفاعة، و قد أشبعنا البحث فيها في الكلام على الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.

و يوجد في القرآن الكريم موارد متفرقة يذكر فيها العفو من غير ذكر سببه و إن كان التدبر فيها يهدي إلى إجمال ما روعي فيها من المصلحة و هي مصلحة الدين كقوله تعالى: "و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين": "آل عمران: 125"، و قوله تعالى: "أ أشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا و تاب الله عليكم فأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و أطيعوا الله و رسوله": "المجادلة: 13" و قوله تعالى: "لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم": "التوبة: 171" و قوله تعالى: "و حسبوا أن لا تكون فتنة فعموا و صموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا و صموا كثير منهم": "المائدة: 71"، و قوله تعالى: "الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم و إنهم ليقولون منكرا من القول و زورا و إن الله لعفو غفور": "المجادلة: 3"، و قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد و أنتم حرم - إلى أن قال - عفا الله عما سلف و من عاد فينتقم الله منه و الله عزيز ذو انتقام": "المائدة: 95".

فهذه موارد متنوعة من العفو الإلهي و قد بينا خصوصية كل منها في الكلام على الآية المشتملة عليه من الكتاب فليراجع.

و ليس من قبيل ما تقدم قوله تعالى: "عفا الله عنك لم أذنت لهم": "التوبة: 43" فإنه دعاء نظير قولنا: غفر الله لك لم فعلت كذا و كذا، و نظيره على الخلاف قوله تعالى "إنه فكر و قدر، فقتل كيف قدر": "المدثر: 19" و ليس من ذاك القبيل أيضا قوله تعالى: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر": "الفتح: 2"، و يدل على ذلك جعل المغفرة غاية متفرعة على فتحه تعالى مكة لنبيه و لا رابطة بين مغفرة الذنب بمعنى الإثم و بين الفتح، و سيجيء تمام الكلام في محله إن شاء الله.

4 - للعفو مراتب:

لما كان العفو و المغفرة يتعلق بالذنب الذي يستتبع نوعا من المجازاة و العقاب، و للجزاء كما عرفت - عرض عريض و مراتب مختلفة متشتتة أتبعه العفو في اختلاف المراتب حسب اختلافه، و ليس الاختلاف الواقع في نفس الذنب أعني التبعة السيئة التي يستتبعها العمل فالاختلاف فيها مما لا سبيل إلى إنكاره، و الجزاء سواء كان عقابا أو ثوابا إنما يوزن بزنتها.

فمما لا محيص عنه في بحثنا هذا هو البحث عن الذنب و اختلاف مراتبه، و التأمل فيما يهدي إليه العقل الفطري فإن البحث و إن كان قرآنيا يراد به الحصول على ما يراه الكتاب الإلهي في هذه الحقائق غير أنه تعالى على ما بين في كلامه يكلمنا على قدر عقولنا و بالموازين الفطرية التي نزن بها الأشياء في مرحلتي النظر و العمل، و قد مرت الإشارة إليه في موارد من الأبحاث الموضوعة في هذا الكتاب، و قد استمد تعالى في موارد من بياناته بالعقل و الفكر الإنساني، و أيد به مقاصد كلامه فقال تعالى: أ فلا تعقلون.

أ فلا تتفكرون، و ما في معناهما.

و الذي يفيده الاعتبار الصحيح هو أن أول ما يتعلق به و يحترمه المجتمع الإنساني هو الأحكام العملية و السنن المحترمة التي تحفظ بالعمل بها و المداومة عليها مقاصده الإنسانية و تهديه إلى سعادته في الحياة، ثم تضع أحكاما جزائية يجازى على طبقها المتخلف العاصي عن القوانين الاجتماعية و يثاب المطيع الممتثل.

و في هذه المرحلة لا يسمى باسم الذنب إلا التخلف عن متون القوانين العملية، و تحاذي الذنوب لا محالة في عددها عدد مواد الأحكام الاجتماعية، و هذا هو المغروز المركوز في أذهاننا معاشر المسلمين أيضا من معنى لفظ الذنب و الألفاظ التي تقارنه في المعنى كالسيئة و المعصية و الإثم و الخطيئة و الحوب و الفسق و نحوها.

لكن الأمر لا يقف على هذا الحد فإن الأحكام العملية إذا عمل بها و روقبت و تحفظ عليها ساق المجتمع إلى أخلاق و أوصاف مناسبة لها ملائمة لمقاصد المجتمع التي هي غاية اجتماعهم، و هذه الأخلاق هي التي يسميها المجتمع بالفضائل الإنسانية و يحرص و يحرض عليها، و تقابلها الرذائل.

و هي و إن كانت مختلفة باختلاف السنن و المقاصد في المجتمعات إلا أن أصل إنتاج الأحكام الاجتماعية لها مما لا سبيل إلى سده و إعفائها عنه.

و هذه الأخلاق الفاضلة و إن كانت أوصافا روحية لا ضامن لإجرائها في مقام العمل في المجتمعات، و كانت غير اختيارية بلا واسطة لكونها ملكات لكنها لكونها في تحققها تتبع تكرر العمل بالأحكام المقررة في المجتمع أو تكرر التخلف عن العمل كانت نفس العمل بالأحكام ضامنة لإجرائها و تعد اختيارية باختيارية مقدمتها و هي تكرر العمل، و تتصور في مواردها أوامر عقلية متعلقه بالأخلاق الفاضلة كالشجاعة و العفة و العدالة، و نواه عقلية تردع عن الأخلاق الرذيلة كالجبن و التهور و الخمود و الشره و الظلم، و كذا يتصور لها عقاب و ثواب يسميان بالعقاب و الثواب العقليين كالمدح و الذم.

و بالجملة تتحقق بذلك مرتبة من مراتب الذنب فوق المرتبة السابق ذكرها، و هي مرتبة التخلف عن الأحكام الخلقية و الأوامر العقلية المتعلقة بها.

و لم تعد هذه الأوامر العقلية أوامر إلا من جهة التلازم بين الأعمال الواجبة التي تسوق إليها و بينها، فهناك حاكم يحكم بالوجوب و يأمر به و هو العقل الإنساني و نظيره القول في تسمية النواهي، العقلية نواهي و هذا دأبنا في جميع موارد التلازم فإذا فرضنا العمل بأحد المتلازمين لا نلبث دون أن نأمر بإتيان الآخر و وجوبه، و نرى التخلف عن ذلك عصيانا لهذا الأمر العقلي، و ذنبا يستحق به نوع من المؤاخذة.

و يظهر من هنا أمر آخر و هو أن هذه الفضائل لما كانت مشتملة على واجبات لا محيص عن التلبس بها - و مثله اشتمال الرذائل على المحرمات - و على أمور مندوبة مستحبة هي كالزينة و الهيأة الجميلة فيها - و هي الآداب الحسنة التي تتعلق بها أوامر عقلية استحسانية إلا أنها إذا فرضت ظرفا لأحد منا كان ما يلازمها من الآداب و هي مندوبة في نفسها - مأمورا به عقلا أمرا إيجابيا قضاء لحق الظرفية المفروضة، مثال ذلك أن البدوي العائش عيشة العشائر البدوية لما كان ظرف حياته بعيدا من المستوي المتوسط في الحياة الحضرية لا يؤاخذ إلا بالضروريات من أحكام المجتمع و السنن العامة التي يناله عقله و فهمه، و ربما أتى بالوقيح من الأعمال أو الركيك من الأقوال فيغمض عنه الحضري معتذرا بقصور الفهم و بعد الدار من السواد الأعظم الذي تكرر مشاهدة الرسوم و الآداب فيه أحسن معلم للناس القاطنين فيه.

ثم المتوسط من الناس الحضريين لا يؤاخذ بما يؤاخذ به الآحاد النوادر من المجتمع الذين هم أهل الفهم اللطيف و الأدب الظريف و لا عذر فيما يقع من المتوسط من الناس من ترك دقائق الأدب
<<        الفهرس        >>