جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج7 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



قوله تعالى: "و ذروا ظاهر الإثم و باطنه" إلى آخر الآية، و إن كانت مطلقة بحسب المضمون تنهى عن عامة الإثم ظاهره و باطنه غير أن ارتباطها بالسياق المتصل الذي لسابقتها و لاحقتها يقضي بكونها تمهيدا للنهي الآتي في قوله: "و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه و إنه لفسق" و لازم ذلك أن يكون الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من مصاديق الإثم حتى يرتبط بالتمهيد السابق عليه فهو من الإثم الظاهر أو الباطن لكن التأكيد البليغ الذي في قوله: "و إنه لفسق" يفيد أنه من الإثم الباطن و إلا لم تكن حاجة إلى تأكيده ذاك التأكيد الأكيد.

و بهذا البيان يظهر أن المراد بظاهر الإثم المعصية التي لا ستر على شؤم عاقبته و لا خفاء في شناعة نتيجته كالشرك و الفساد في الأرض و الظلم، و بباطن الإثم ما لا يعرف منه ذلك في بادىء النظر كأكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و إنما يتميز هذا النوع بتعريف إلهي و ربما أدركه العقل، هذا هو الذي يعطيه السياق من معنى ظاهر الإثم و باطنه.

و للمفسرين في تفسيرهما أقوال أخر، من ذلك: أن ظاهر الإثم و باطنه هما المعصية في السر و العلانية، و قيل: أريد بالظاهر أفعال الجوارح، و بالباطن أفعال القلوب، و قيل: الظاهر من الإثم هو الزنا، و الباطن اتخاذ الأخدان، و قيل: ظاهر الإثم نكاح امرأة الأب، و باطنه الزنا، و قيل: ظاهر الإثم الزنا الذي أظهر به، و باطنه الزنا إذا استسر به صاحبه على ما كان يراه أهل الجاهلية من العرب أن الزنا لا بأس به إذا لم يتجاهر به، و إنما الفحشاء هو الذي أظهره صاحبه، و هذه الأقوال - كما ترى - على أن جميعها أو أكثرها لا دليل عليها يخرج الآية عن حكم السياق.

و قوله تعالى: "إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون" تعليل للنهي و إنذار بالجزاء السيىء.

قوله تعالى: "و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه" نهي هو زميل قوله: "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه" كما تقدم.

و قوله: "و إنه لفسق" إلى آخر الآية، بيان لوجه النهي و تثبيت له أما قوله: "و إنه لفسق" فهو تعليل و التقدير: إنه لفسق و كل فسق يجب اجتنابه فالأكل مما لم يذكر اسم الله عليه واجب الاجتناب.

و أما قوله: "و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم" ففيه رد ما كان المشركون يلقونه إلى المؤمنين من الشبهة، و المراد بأولياء الشياطين هم المشركون، و معناه أن ما يجادلكم به المشركون و هو قولهم: إنكم تأكلون مما قتلتم و لا تأكلون مما قتله الله يعنون الميتة، هو مما أوحاه إليهم الشياطين من باطل القول، و الفارق أن أكل الميتة فسق دون أكل المذكى، و أن الله حرم أكل الميتة و لم يحرم أكل المذكى فليس فيما حرمه الله ذكر ما ذكر اسم الله عليه.

و أما قوله: "و إن أطعتموهم إنكم لمشركون" فهو تهديد و تخويف بالخروج من الإيمان، و المعنى: إن أطعتم المشركين في أكل الميتة الذي يدعونكم إليه صرتم مشركين مثلهم إما لأنكم استننتم بسنة المشركين، أو لأنكم بطاعتهم تكونوا أولياء لهم فتكونون منهم قال تعالى: "و من يتولهم منكم فإنه منهم": المائدة: 51.

و وقوع هذه الجملة أعني قوله: "و إن أطعتموهم" إلخ، في ذيل النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه دون الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه يدل على أن المشركين كانوا يريدون من المؤمنين بجدالهم أن لا يتركوا أكل الميتة لا أن يتركوا أكل المذكى.

بحث روائي

في الدر المنثور،: أخرج ابن مردويه عن أبي اليمان جابر بن عبد الله قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد الحرام يوم فتح مكة و معه مخصرة، و لكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنما صنما و يطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره كلما صرع صنما أتبعه الناس ضربا بالفئوس حتى يكسرونه و يطرحونه خارجا من المسجد و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: و تمت كلمات ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم.

و فيه،: أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا" قال: لا إله إلا الله.

و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الإمام ليسمع في بطن أمه فإذا ولد خط بين كتفيه: "و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته - و هو السميع العليم" فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة.

أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخرى عن عدة من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه أيضا القمي و العياشي في تفسيريهما عنه (عليه السلام)، و في بعضها: أن الآية تكتب بين عينيه، و في بعضها: على عضده الأيمن.

و اختلاف مورد الكتابة في الروايات تكشف عن أن المراد بها القضاء بظهور الحكم الإلهي به (عليه السلام) و اختلاف ما كتب عليه لاختلاف الاعتبار فكأن المراد بكتابتها فيما بين عينيه جعلها وجهة له يتوجه إليها، و بكتابتها بين كتفيه حملها عليه و إظهاره و تأييده بها و بكتابتها على عضده الأيمن جعلها طابعا على عمله و تقويته و تأييده بها.

و هذه الرواية و الروايتان السابقتان عليها تؤيد ما قدمناه أن ظاهر الآية كون المراد بتمام الكلمة ظهور الدعوة الإسلامية بما يلازمها من نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول القرآن و الإمامة من ذلك.

و في تفسير العياشي، في قوله تعالى: "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه" الآية عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يذبح الذبيحة فيهلل أو يسبح أو يحمد و يكبر قال: هذا كله من أسماء الله.

و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن ذبيحة المرأة و الغلام هل تؤكل؟ قال: نعم إذا كانت المرأة مسلمة و ذكرت اسم الله حلت ذبيحتها، و إذا كان الغلام قويا على الذبح و ذكر اسم الله حلت ذبيحته، و إن كان الرجل مسلما فنسي أن يسمي فلا بأس بأكله إذا لم تتهمه.

أقول: و في هذه المعاني أخبار من طرق أهل السنة.

و فيه، عن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في ذبيحة الناصب و اليهودي قال: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله، أ ما سمعت قول الله: "و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه" و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و البيهقي في سننه و ابن مردويه عن ابن عباس: "و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه و إنه لفسق" فنسخ و استثنى من ذلك فقال: "و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم".

أقول: و روي النسخ عن أبي حاتم عن مكحول و قد تقدم في أول المائدة: أن الآية إن نسخت فإنما تنسخ اشتراط الإسلام في المذكي - اسم فاعل - دون وجوب التسمية إذ لا نظر لها إليه و لا تنافي بين الآيتين في ذلك و للمسألة ارتباط بالفقه

6 سورة الأنعام - 122 - 127

أَ وَ مَن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشى بِهِ فى النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فى الظلُمَتِ لَيْس بخَارِجٍ مِّنهَا كَذَلِك زُيِّنَ لِلْكَفِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَ كَذَلِك جَعَلْنَا فى كلِّ قَرْيَةٍ أَكبرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكرُوا فِيهَا وَ مَا يَمْكرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ وَ مَا يَشعُرُونَ (123) وَ إِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نّؤْمِنَ حَتى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتىَ رُسلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْث يجْعَلُ رِسالَتَهُ سيُصِيب الّذِينَ أَجْرَمُوا صغَارٌ عِندَ اللّهِ وَ عَذَابٌ شدِيدُ بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَحْ صدْرَهُ لِلاسلَمِ وَ مَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يجْعَلْ صدْرَهُ ضيِّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصعّدُ فى السمَاءِ كذَلِك يجْعَلُ اللّهُ الرِّجْس عَلى الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَ هَذَا صرَط رَبِّك مُستَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الاَيَتِ لِقَوْمٍ يَذّكّرُونَ (126) لهَُمْ دَارُ السلَمِ عِندَ رَبهِمْ وَ هُوَ وَلِيّهُم بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ (127)

بيان


قوله تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" الآية واضحة المعنى و هي بحسب ما يسبق إلى الفهم البسيط الساذج مثل مضروب لكل من المؤمن و الكافر يظهر بالتدبر فيه حقيقة حاله في الهدى و الضلال.

فالإنسان قبل أن يمسه الهدى الإلهي كالميت المحروم من نعمة الحياة الذي لا حس له و لا حركة فإن آمن بربه إيمانا يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته، و جعل له نورا يدور معه حيث دار يبصر في شعاعه خيره من شره و نفعه من ضره فيأخذ ما ينفعه و يدع ما يضره و هكذا يسير في مسير الحياة.

و أما الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها و لا مناص له عنها ظلمة الموت و ما بعد ذلك من ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر و النافع من الضار، و نظير هذه الآية في معناها بوجه قوله تعالى: "إنما يستجيب الذين يسمعون و الموتى يبعثهم الله": الأنعام: 36 و قال تعالى: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة": النحل: 97.

ففي الكلام استعارة الموت للضلال و استعارة الحياة للإيمان أو الاهتداء و الإحياء للهداية إلى الإيمان و النور للتبصر بالأعمال الصالحة، و الظلمة للجهل كل ذلك في مستوى التفهيم و التفهم العموميين لما أن أهل هذا الظرف لا يرون للإنسان بما هو إنسان حياة وراء الحياة الحيوانية التي هي المنشأ للشعور باللذائذ المادية و الحركة الإرادية نحوها.

فهؤلاء يرون أن المؤمن و الكافر لا يختلفان في هذه الموهبة و هي فيهما شرع سواء فلا محالة عد المؤمن حيا بحياة الإيمان ذا نور يمشي به في الناس، و عد الكافر ميتا بميتة الضلال في ظلمات لا مخرج منها ليس إلا مبتنيا على عناية تخييلية و استعارة تمثيلية يمثل بها حقيقة المعنى المقصود.

لكن التدبر في أطراف الكلام و التأمل فيما يعرفه القرآن الكريم يعطي للآية معنى وراء هذا الذي يناله الفهم العامي فإن الله سبحانه ينسب للإنسان الإلهي في كلامه حياة خالده أبدية لا تنقطع بالموت الدنيوي هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته مصون بصيانته لا يمسه نصب و لا لغوب، و لا يذله شقاء و لا تعب، مستغرب في حب ربه مبتهج ببهجة القرب لا يرى إلا خيرا، و لا يواجه إلا سعادة و هو في أمن و سلام لا خوف معه و لا خطر، و سعادة و بهجة و لذة لا نفاذ لها و لا نهاية لأمدها.

و من كان هذا شأنه فإنه يرى ما لا يراه الناس، و يسمع ما لا يسمعونه، و يعقل ما لا يعقلونه، و يريد ما لا يريدونه و إن كانت ظواهر أعماله و صور حركاته و سكناته تحاكي أعمال غيره و حركاتهم و سكناتهم و تشابهها فله شعور و إرادة فوق ما لغيره من الشعور و الإرادة فعنده من الحياة التي هي منشأ الشعور و الإرادة ما ليس عند غيره من الناس فللمؤمن مرتبة من الحياة ليست عند غيره.

فكما أن العامة من الإنسان في عين أنها تشارك سائر الحيوان في الشعور بواجبات الحياة و الحركة الإرادية نحوها، و يشاركها الحيوان لكنا مع ذلك لا نشك أن الإنسان نوع أرقى من سائر الأنواع الحيوانية و له حياة فوق الحياة التي فيها لما نرى في الإنسان آثاره العجيبة المترشحة من أفكار الكلية و تعقلاته المختصة به، و لذلك نحكم في الحيوان إذا قسناه إلى النبات و في النبات إذا قسناه إلى ما قبله من مراتب الكون أن لكل منهما كعبا أعلى و حياة هي أرقى من حياة ما قبله.

فلنقض في الإنسان الذي أوتي العلم و الإيمان و استقر في دار الإيقان و اشتغل بربه و فرغ و استراح من غيره و هو يشعر بما ليس في وسع غيره و يريد ما لا يناله سواه أن له حياة فوق حياة غيره، و نورا يستمد به في شعوره، و إرادة لا توجد إلا معه و في ظرف حياته.

يقول الله سبحانه: "فلنحيينه حياة طيبة": النحل: 97 فلهم الحياة لكنها بطبعها طيبة وراء مطلق الحياة "و يقول: "لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون": الأعراف: 179 فيثبت لهم أمثال القلوب و الأعين و الآذان التي في المؤمنين لكنه ينفي كمال آثارها التي في المؤمنين، و لم يكتف بذلك حتى أثبت لهم روحا خاصا بهم فقال: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه": المجادلة: 22.

فتبين بذلك أن للحياة و كذا للنور حقيقة في المؤمن واقعية و ليس الكلام جاريا على ذاك التجوز الذي لا يتعدى مقام العناية اللفظية فما في خاصة الله من المؤمنين من الصفة الخاصة بهم أحق باسم الحياة مما عند عامة الناس من معنى الحياة كما أن حياة الإنسان كذلك بالنسبة إلى حياة الحيوان، و حياة الحيوان كذلك بالنسبة إلى حياة النبات.

فقوله: "أ و من كان ميتا فأحييناه" أي ضالا من حيث نفسه أو ضالا كافرا قبل أن يؤمن بربه و هو نوع من الموت فأحييناه بحياة الإيمان أو الهداية - و المال واحد - و جعلنا له نورا أي علما متولدا من إيمانه كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه الفريقان: "من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم أو علمه الله ما لم يعلم".

فإن روح الإيمان إذا تمكنت من نفس الإنسان و استقرت فيها حولت الآراء و الأعمال إلى صور تناسبها و لا تخالفها و كذلك سائر الملكات أعم من الفضائل و الرذائل إذا استقرت في باطن الإنسان لم تلبث دون أن تحول آراءه و أعماله إلى أشكال تحاكيها.

و ربما قيل: إن المراد بالنور هو الإيمان أو القرآن و هو بعيد من السياق.

و هذا النور أثره في المؤمن أنه "يمشي به في الناس" أي يتبصر به في مسير حياته الاجتماعية المظلمة ليأخذ من الأعمال ما ينفعه في سعادة حياته، و يترك ما يضره.

فهذا هو حال المؤمن في حياته و نوره فهل هو "كمن مثله" و وصفه أنه "في الظلمات ظلمات الضلال و فقدان نور الإيمان "ليس بخارج منها" لأن الموت لا يستتبع آثار الحياة البتة فلا مطمع في أن يهتدي الكافر إلى أعمال تنفعه في أخراه و تسعده في عقباه.

و قد ظهر مما تقدم أن قوله: "كمن مثله في الظلمات" إلخ، في تقدير: هو في الظلمات ليس بخارج منها، ففي الكلام مبتدأ محذوف هو الضمير العائد إلى الموصول، و قيل: التقدير: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، و لا بأس به لو لا كثرة التقدير.



قوله تعالى: "كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون" ظاهر سياق صدر الآية أن يكون التشبيه في قوله: "كذلك" من قبيل تشبيه الفرع بالأصل بعناية إعطاء القاعدة الكلية كقوله تعالى: "كذلك يضرب الله الحق و الباطل" و قوله: "كذلك يضرب الله الأمثال": الرعد: 17 أي اتخذ ما ذكرناه من المثل أصلا و قس عليه كل ما عثرت به من مثل مضروب فمعنى قوله: "كذلك زين" إلخ، على هذا المثال المذكور أن الكافر لا مخرج له من الظلمات، زين للكافرين أعمالهم فقد زينت لهم أعمالهم زينة تجذبهم إليها و تحبسهم و لا تدعهم يخرجوا منها إلى فضاء السعادة و فسحة النور أبدا و الله لا يهدي القوم الظالمين.

و قيل: إن وجه التشبيه في قوله: "كذلك زين" إلخ، أنه زين لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لأولئك الإيمان فعملوه.

فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه انتهى و هو بعيد من سياق الصدر.

قوله تعالى: "و كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها" إلى آخر الآية، كأن المراد بالآية أنا أحيينا جمعا و جعلنا لهم نورا يمشون به في الناس، و آخرين لم نحيهم فمكثوا في الظلمات فهم غير خارجين منها و لا أن أعمالهم المزينة تنفعهم و تخلصهم منها كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها بالدعوة الدينية و النبي و المؤمنين لكنه لا ينفعهم فإنهم في ظلمات لا يبصرون بل إنما يمكرون بأنفسهم و لا يشعرون.

و على هذا فقوله: "كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون" مسوق لبيان أن أعمالهم المزينة لهم لا تنفعهم في استخلاصهم من الظلمات التي هم فيها، و قوله: "و كذلك جعلنا في كل قرية" إلخ، مسوق لبيان أن أعمالهم و مكرهم لا يضر غيرهم إنما وقع مكرهم على أنفسهم و ما يشعرون لمكان ما غمرهم من الظلمة.

و قيل: معنى التشبيه في الآية أن مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم، و مثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها، و جعلنا ذا المكر من المجرمين كما جعلنا ذا النور من المؤمنين فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بهم إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم و هؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم لأن في كل واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلا أن الأول باللطف و الثاني بالتمكين من المكر انتهى.

و لا يخلو من بعد من السياق.

و الجعل في قوله: "جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها" كالجعل في قوله: "و جعلنا له نورا" فالأنسب أنه بمعنى الخلق، و المعنى: خلقنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها و كون مكرهم غاية للخلقة و غرضا للجعل نظير كون دخول النار غرضا إلهيا في قوله: "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس": الأعراف: 179 و قد مر الكلام في معنى ذلك في مواضع من هذا الكتاب.

و إنما خص بالذكر أكابر مجرميها لأن المطلوب بيان رجوع المكر إلى ما كره، و المكر بالله و آياته إنما يصدر منهم، و أما أصاغر المجرمين و هم العامة من الناس فإنما هم أتباع و أذناب.

و أما قوله: "و ما يمكرون إلا بأنفسهم و ما يشعرون" فذلك أن المكر هو العمل الذي يستبطن شرا و ضرا يعود إلى الممكور به فيفسد به غرضه المطلوب و يضل به سعيه و يبطل نجاح عمله، و لا غرض لله سبحانه في دعوته الدينية، و لا نفع فيها إلا ما يعود إلى نفس المدعوين فلو مكر الإنسان مكرا بالله و آياته ليفسد بذلك الغرض من الدعوة و يمنع عن نجاح السعي فيها فإنما مكر بنفسه من حيث لا يشعر: و استضر بذلك هو نفسه دون ربه.

قوله تعالى: "و إذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن - إلى قوله - رسالته" قولهم: "لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله" يريدون به أن يؤتوا نفس الرسالة بما لها من مواد الدعوة الدينية دون مجرد المعارف الدينية من أصول و فروع و إلا كان اللفظ المناسب له أن يقال: "مثل ما أوتي أنبياء الله" أو ما يشاكل ذلك كقولهم: "لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية": البقرة: 118 و قولهم: "لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا": الفرقان: 21.

فمرادهم أنا لن نؤمن حتى نؤتى الرسالة كما أوتيها الرسل، و فيه شيء من الاستهزاء فإنهم ما كانوا قائلين بالرسالة فهو بوجه نظير قولهم: "لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم": الزخرف: 31 كما أن جوابه نظير جوابه و هو قوله تعالى: "أ هم يقسمون رحمة ربك": الزخرف: 32 كقوله: "الله أعلم حيث يجعل رسالته،".

و مما تقدم يظهر أن الضمير في قوله: "و إذا جاءتهم آية قالوا" إلخ، عائد إلى "أكابر مجرميها" في الآية السابقة، إذ لو رجع إلى عامة المشركين لغا قولهم: "حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله" إذ لا معنى لرسالة جميع الناس حيث لا أحد يرسلون إليه، و لم يقع قوله: "الله أعلم حيث يجعل رسالته" موقعه بل كان حق الجواب أنه لغو من القول كما عرفت.

و يؤيده الوعيد الذي في ذيل الآية: "سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله و عذاب شديد بما كانوا يمكرون" حيث وصفهم بالإجرام و علل الوعيد بمكرهم، و لم ينسب المكر في الآية السابقة إلا إلى أكابر مجرميها، و الصغار الهوان و الذلة.

قوله تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" الشرح هو البسط و قد ذكر الراغب في مفرداته، أن أصله بسط اللحم و نحوه، و شرح الصدر الذي يعد في الكلام وعاء للعلم و العرفان هو التوسعة فيه بحيث يسع ما يصادفه من المعارف الحقة و لا يدفع كلمة الحق إذا ألقيت إليه كما يدل عليه ما ذكر في وصف الإضلال بالمقابلة و هو قوله: "يجعل صدره ضيقا حرجا" إلخ.

فمن شرح الله صدره للإسلام و هو التسليم لله سبحانه فقد بسط صدره و وسعه لتسليم ما يستقبله من قبله تعالى من اعتقاد حق أو عمل ديني صالح فلا يلقي إليه قول حق إلا وعاه و لا عمل صالح إلا أخذ به و ليس إلا أن لعين بصيرته نورا يقع على الاعتقاد الحق فينوره أو العمل الصالح فيشرقه خلاف من عميت عين قلبه فلا يميز حقا من باطل و لا صدقا من كذب قال تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور": الحج: 46.

و قد بين تعالى شرح الصدر بهذا البيان في قوله أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" فوصفه فعرفه بأن صاحبه راكب نور من الله يشرق قدامه في مسيره ثم عرفه بالمقابلة بلينة في القلب يقبل به ذكر الله و لا يدفعه لقسوة ثم قال: "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء و من يضلل الله فما له من هاد": الزمر: 23 فذكر لين القلب إلى ذكر الله و طوعه للحق و أفاد أن ذلك هو الهدى الإلهي الذي يهدي به من يشاء، و عند ذلك يرجع الآيتان أعني آية الزمر و الآية التي نحن فيها إلى معنى واحد و هو أن الله سبحانه عند هدايته عبدا من عباده يبسط صدره فيسع كل اعتقاد حق و عمل صالح و يقبله بلين و لا يدفعه بقسوة و هو نوع من النور المعنوي الذي ينور القول الحق و العمل الصالح و ينصر صاحبه فيمسك بما نوره فهذا معرف يعرف به الهداية الإلهية.

و من هنا يظهر أن الآية أعني قوله: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" بمنزلة بيان آخر لقوله: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس" و التفريع الذي في قوله.

"فمن يرد الله" إلخ.

من قبيل تفريع أحد البيانين على الآخر بدعوى أنه نتيجته كأن التصادق بين البيانين يجعل أحدهما نتيجة مترتبة و فرعا متفرعا على الآخر، و هو عناية لطيفة.



و المعنى: فإذا كان من أحياه الله بعد ما كان ميتا على هذه الصفة و هي أنه على نور من ربه يستضيء به له واجب الاعتقاد و العمل فيأخذ به فمن يرد الله أن يهديه يوسع صدره لأن يسلم لربه و لا يستنكف عن عبادته فالإسلام نور من الله، و المسلمون لربهم على نور من ربهم.

قوله تعالى: "و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا" إلى آخر الآية، الإضلال مقابل الهداية، و لذا كان أثره مقابلا لأثرها و هو التضييق المقابل للشرح و التوسعة و أثره أن لا يسع ما يتوجه إليه من الحق و الصدق، و يتحرج عن دخولهما فيه، و لذا أردف كون الصدر ضيقا بكونه حرجا.

و الحرج على ما في المجمع، أضيق الضيق، و قال في المفردات:، أصل الحرج و الحراج مجتمع الشيء و تصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج و للإثم حرج.

انتهى.

فقوله: "حرجا كأنما يصعد في السماء" في محل التفسير لقوله: "ضيقا" و إشارة إلى أن ذلك نوع من الضيق يناظر بوجه التضيق و التحرج الذي يشاهد من الظروف و الأوعية إذا أريد إدخال ما هو أعظم منها و وضعه فيها.

و قوله: "كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون" إعطاء ضابط كلي في إضلال الذين لا يؤمنون أنهم يفقدون حال التسليم لله و الانقياد للحق، و قد أطلق عدم الإيمان و إن كان مورد الآيات عدم الإيمان بالله سبحانه و هو الشرك به لكن الذي سبق من البيان في الآية يشمل عدم الإيمان بالله و هو الشرك، و عدم الإيمان بآيات الله و هو رد بعض ما أنزله الله من المعارف و الأحكام فقد دل على ذلك كله بقوله: "يشرح صدره للإسلام" إلخ، و بقوله سابقا: "و جعلنا له نورا يمشي به" إلخ، و قوله: "يجعل صدره ضيقا حرجا" إلخ، و بقوله سابقا: "في الظلمات ليس بخارج منها".

و قد سمي في الآية الضلال الذي يساوق عدم الإيمان رجسا و الرجس هو القذر غير أنه اعتبر فيه نوعا من الاستعلاء الدال عليه قوله: "على الذين لا يؤمنون" كأن الرجس يعلوهم و يحيط بهم فيحول بينهم و بين غيرهم فيتنفر منهم الطباع كما يتنفر من الغذاء الملطخ بالقذر.

و قد استدل بالآية على أن الهدى و الضلال من الله لا صنع فيهما لغيره تعالى و هو خطأ فإن الآية - كما عرفت - في مقام بيان حقيقة الهدى و الضلال اللذين من الله و نوع تعريف لهما و تحديد لا في مقام بيان انحصارهما فيه و انتفائهما عن غيره كما هو المدعى و هو ظاهر.

و نظير ذلك ما ذكره بعضهم: أن الآية كما تدل بلفظها على قولنا: إن الهداية و الضلال من الله، كذلك تدل بلفظها على الدليل العقلي القاطع في هذه المسألة.

بيانه: أن العبد قادر على الإيمان و الكفر معا على حد سواء فيمتنع صدور أحدهما عنه بدلا من الآخر إلا إذا اقترن بمرجح يستدعي صدور ما يرجح به و هو الداعي القلبي الذي ليس إلا العلم أو الاعتقاد أو الظن بكون الفعل مشتملا على مصلحة زائدة و منفعة راجحة من غير ضرر زائد أو مفسدة راجحة، و قد بينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي في القلب إنما يكون من الله تعالى، و أن مجموع القدرة و الداعي يوجب العمل.

إذا ثبت هذا فنقول: يستحيل صدور الإيمان من العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد رجحان الإيمان، و معه يحصل من القلب ميل إليه و من النفس رغبة فيه و هذا هو انشراح الصدر، و يمتنع الكفر إلا بخلقه ما يقابل ذلك في القلب، و يحصل حينئذ النفرة عنه و الاشمئزاز منه و هو المراد بجعل القلب ضيقا حرجا فصار تقدير الآية: أن من أراد الله منه الإيمان قوي دواعيه إليه، و من أراد منه الكفر قوي صوارفه عن الإيمان و قوي دواعيه إلى الكفر، و لما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية.

انتهى ملخصا.

و فيه أولا: أن انتساب الشيء إليه تعالى من جهة خلقه أسباب وجوده و مقدماته لا يوجب انتفاء نسبته إلى غيره تعالى و إلا أوجب ذلك بطلان قانون العلية العام و ببطلانه يبطل القضاء العقلي من رأس فمن الممكن أن تستند الهداية و الضلال إلى غيره تعالى استنادا حقيقيا في حين أنهما يستندان إليه تعالى استنادا حقيقيا من غير تناقض.

و ثانيا: أن الذي ذكرته الآية من صنعه تعالى في موردي هدايته و إضلاله هو سعة القلب و ضيقه، و هما غير رغبة النفس و نفرته البتة فالآية أجنبية عما ذكره أصلا، و مجرد استلزام إرادة الفعل من العبد رغبته و كراهته نفرته منه لا يوجب أن يكون المراد من سعة القلب و ضيقه الإرادة و الكراهة بالنسبة إلى الأعمال، ففيه مغالطة من باب أخذ أحد المقارنين مكان الآخر و من عجيب الكلام قوله: إن انطباق الدليل العقلي الذي أقامه بزعمه على الآية يوجب دلالة لفظ الآية عليه.

و ثالثا: أنك عرفت أن الآية إنما هي في مقام تعريف ما يصنع الله بعبده إذا أراد هدايته أو ضلالته، و أما أن كل هداية أو ضلالة فهي من الله تعالى دون غيره فذلك أمر أجنبي عن غرض الآية فالآية لا دلالة لها على أن الهداية و الضلال من الله سبحانه و إن كان ذلك هو الحق.

قوله تعالى: "و هذا صراط ربك مستقيما" إلى آخر الآية، الإشارة إلى ما تقدم بيانه في الآية السابقة من صنعه عند الهداية و الإضلال و قد تقدم معنى الصراط و استقامته، و قد بين تعالى في الآية أن ما ذكره من شرح الصدر للإسلام إذا أراد الهداية و من جعل الصدر ضيقا حرجا عند إرادة الإضلال هو صراطه المستقيم و سنته الجارية التي لا تختلف و لا تتخلف فما من مؤمن إلا و هو منشرح الصدر للإسلام بالله و غير المؤمن بالعكس من ذلك.

فقوله: "و هذا صراط ربك مستقيما" بيان ثان و تأكيد لكون المعرف المذكور في الآية السابقة معرفا جامعا مانعا للهداية و الضلالة ثم أكد سبحانه البيان بقوله: "قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون" أي إن القول حق بين عند من تذكر و رجع إلى ما أودعه الله في نفسه من المعارف الفطرية و العقائد الأولية التي بتذكرها يهتدي الإنسان إلى معرفة كل حق و تمييزه من الباطل، و البيان مع ذلك لله سبحانه فإنه هو الذي يهدي الإنسان إلى النتيجة بعد هدايته إلى الحجة.

قوله تعالى: "لهم دار السلام عند ربهم و هو وليهم بما كانوا يعملون" المراد بالسلام هو معناه اللغوي - على ما يعطيه ظاهر السياق - و هو التعري من الآفات الظاهرة و الباطنة، و دار السلام هي المحل الذي لا آفة تهدد من حل فيه من موت و عاهة و مرض و فقر و أي عدم و فقد آخر و غم و حزن، و هذه هي الجنة الموعودة و لا سيما بالنظر إلى تقييده بقوله: "عند ربهم".

نعم أولياء الله تعالى يجدون في هذه النشأة ما وعدهم الله من إسكانهم دار السلام لأنهم يرون الملك لله فلا يملكون شيئا حتى يخافوا فقده أو يحزنوا لفقده قال تعالى: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون": يونس: 62 و هم لا شغل لهم إلا بربهم خلوا به في حياتهم فلهم دار السلام عند ربهم - و هم قاطنون في هذه الدنيا - و هو وليهم بما كانوا يعملون و هو سيرهم في الحياة بنور الهداية الإلهية الذي جعله في قلوبهم، و نور به أبصارهم و بصائرهم.



و ربما قيل: المراد بالسلام هو الله، و داره الجنة، و السياق يأباه و ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى القوم في قوله: "لقوم يذكرون" - على ما قيل - لأنه أقرب المراجع لرجوعها إليها غير أن التدبر في الآيات يؤيد رجوعها إلى المهتدين بالهداية المذكورة بما أن الكلام فيهم و الآيات مسوقة لبيان حسن صنع الله بهم فالوعد الحسن المذكور يجب أن يعود إليهم، و أما القوم المتذكرون فإنما ذكروا و دخلوا في غرض الكلام بالتبع.

كلام في معنى الهداية الإلهية

الهداية بالمعنى الذي نعرفه كيفما اتخذت هي من العناوين التي تعنون بها الأفعال و تتصف بها، تقول: هديت فلانا إلى أمر كذا إذا ذكرت له كيفية الوصول إليه أو أريته الطريق الذي ينتهي إليه، و هذه هي الهداية بمعنى إراءة الطريق، أو أخذت بيده و صاحبته في الطريق حتى توصله إلى الغاية المطلوبة، و هذه هي الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.

فالواقع في الخارج في جميع هذه الموارد هو أقسام الأفعال التي تأتي بها من ذكر الطريق أو إراءته أو المشي مع المهدي و أما الهداية فهي عنوان للفعل يدور مدار القصد كما أن ما يأتيه المهدي من الفعل في أثره معنون بعنوان الاهتداء فما ينسب إليه تعالى من الهداية و يسمى لأجله هاديا و هو أحد الأسماء الحسنى من صفات الفعل المنتزعة من فعله تعالى كالرحمة و الرزق و نحوهما.

و هدايته تعالى نوعان: أحدهما الهداية التكوينية و هي التي تتعلق بالأمور التكوينية كهدايته كل نوع من أنواع المصنوعات إلى كماله الذي خلق لأجله و إلى أفعاله التي كتبت له، و هدايته كل شخص من أشخاص الخليقة إلى الأمر المقدر له و الأجل المضروب لوجوده قال تعالى: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50 و قال: "الذي خلق فسوى، و الذي قدر فهدى": الأعلى: 3.

و النوع الثاني: الهداية التشريعية و هي التي تتعلق بالأمور التشريعية من الاعتقادات الحقة و الأعمال الصالحة التي وضعها الله سبحانه للأمر و النهي و البعث و الزجر و وعد على الأخذ بها ثوابا و أوعد على تركها عقابا.

و من هذه الهداية ما هي إراءة الطريق كما في قوله تعالى: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا": الدهر: 3.

و منها ما هي بمعنى الإيصال إلى المطلوب كما في قوله تعالى: "و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه": الأعراف: 176 و قد عرف الله سبحانه هذه الهداية تعريفا بقوله: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام": الآية: 125 فهي انبساط خاص في القلب يعي به القول الحق و العمل الصالح من غير أن يتضيق به، و تهيؤ مخصوص لا يأبى به التسليم لأمر الله و لا يتحرج عن حكمه.

و إلى هذا المعنى يشير تعالى بقوله: "أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه - إلى أن قال - ذلك هدى الله يهدي به من يشاء": الزمر: 23 و قد وصفه في الآية بالنور لأنه ينجلي به للقلب ما يجب عليه أن يعيه من التسليم لحق القول و صدق العمل عما يجب عليه أن لا يعيه و لا يقبله و هو باطل القول و فاسد العمل.

و قد رسم الله سبحانه لهذه الهداية رسما آخر و هو ما في قوله عقيب ذكره هدايته أنبياءه الكرام و ما خصهم به من النعم العظام: "و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده": الأنعام: 88 فقد أوضحنا في تفسير الآية أن الآية تدل على أن من خاصة الهداية الإلهية أنها تورد المهتدين بها صراطا مستقيما و طريقا سويا لا تخلف فيه و لا اختلاف.

فلا بعض أجزاء صراطه الذي هو دينه بما فيه من المعارف و الشرائع يناقض البعض الآخر لما أن الجميع يمثل التوحيد الخالص الذي ليس إلا حقيقة ثابتة واحدة، و لما أن كلها مبنية على الفطرة الإلهية التي لا تخطىء في حكمها و لا تتبدل في نفسها و لا في مقتضياتها.

و لا بعض الراكبين عليه السائرين فيه يألفون بعضا آخر فالذي يدعو إليه نبي من أنبياء الله هو الذي يدعو إليه جميعهم، و الذي يندب إليه خاتمهم و آخرهم هو الذي يندب إليه آدمهم و أولهم من غير أي فرق إلا من حيث الإجمال و التفصيل.

بحث روائي


في الكافي، بإسناده عن زيد قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: في قول الله تبارك و تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه - و جعلنا له نورا يمشي به في الناس" فقال: ميت لا يعرف شيئا "نورا يمشي به في الناس" إماما يأتم به "كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" قال: الذي لا يعرف الإمام.

أقول: و هو من قبيل الجري و الانطباق فسياق الآية يأبى إلا أن تكون الحياة هو الإيمان و النور هو الهداية الإلهية إلى القول الحق و العمل الصالح.

و قد روى السيوطي في الدر المنثور، عن زيد بن أسلم: أن الآية نزلت في عمار بن ياسر:، و روي أيضا عن ابن عباس و زيد بن أسلم: أنها نزلت في عمر بن الخطاب و أبي جهل بن هشام و السياق يأبى كون الآية خاصة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي الدنيا و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و البيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نزلت هذه الآية: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" قال: إذا أدخل الله النور القلب انشرح و انفسح. قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور و الاستعداد للموت قبل نزول الموت:. أقول: و رواه أيضا عدة من المفسرين عن جمع من التابعين كأبي جعفر المدائني و الفضل و الحسن و عبد الله بن السور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في العيون، بإسناده عن حمدان بن سليمان النيشابوري قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" قال: فمن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا و إلى جنته و دار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله و الثقة به و السكون إلى ما وعد من ثوابه حتى يطمئن إليه، و من يرد أن يضله عن جنته و دار كرامته في الآخرة لكفره به و عصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيقا حرجا حتى يشك في كفره و يضطرب عن اعتقاده حتى يصير كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.

أقول: و في الحديث نكات حسنة تشير إلى ما شرحناه في البيان المتقدم.

و في الكافي، بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله عز و جل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور، و فتح مسامع قلبه، و وكل به ملكا يسدده و إذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء و سد مسامع قلبه، و وكل به شيطانا يضله ثم تلا هذه الآية: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام - و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا - كأنما يصعد في السماء:. أقول: و رواه العياشي في التفسير مرسلا و الصدوق في التوحيد مسندا عنه (عليه السلام). و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن القلب يتلجلج في الجوف يطلب الحق فإذا جاء به اطمأن و قر ثم تلا: "فمن يرد الله أن يهديه إلى قوله في السماء": أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن أبي جميلة عن عبد الله بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام).



و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن خيثمة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فإذا أصاب الحق قر ثم ضم أصابعه ثم قرأ هذه الآية: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام - و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا":. قال: و قال أبو عبد الله (عليه السلام) لموسى بن أشيم: أ تدري ما الحرج؟ قال: قلت: لا فقال بيده و ضم أصابعه؟ كالشيء المصمت لا يدخل فيه شيء و لا يخرج منه شيء.

أقول: و روى ما يقرب منه في تفسير البرهان، عن الصدوق و روى صدر الحديث البرقي في المحاسن، عن خيثمة عن أبي جعفر (عليه السلام) و ما فسر به الحرج يناسب ما تقدم نقله من الراغب.

و في الاختصاص، بإسناده عن آدم بن الحر قال: سأل موسى بن أشيم أبا عبد الله (عليه السلام) و أنا حاضر عن آية في كتاب الله فخبره بها فلم يبرح حتى دخل رجل فسأله عن تلك الآية بعينها فخبره بخلاف ما خبر به موسى بن أشيم. ثم قال ابن أشيم: فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأن قلبي يشرح بالسكاكين و قلت: تركنا أبا قتادة لا يخطىء في الحرف الواحد: الواو و شبهها، و جئت لمن يخطىء هذا الخطأ كله فبينا أنا في ذلك إذ دخل عليه رجل آخر فسأله عن تلك الآية بعينها فخبر بخلاف ما خبرني و خلاف الذي خبر به الذي سأله بعدي فتجلى عني و علمت أن ذلك بعمد فحدثت نفسي بشيء. فالتفت إلي أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: يا بن أشيم لا تفعل كذا و كذا فبان حديثي عن الأمر الذي حدثت به نفسي ثم قال: يا بن أشيم إن الله فوض إلى سليمان بن داود فقال: "هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب" و فوض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد فوض إلينا يا بن أشيم فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام - و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا، أ تدري ما الحرج: فقلت لا، فقال بيده و ضم أصابعه: هو الشيء المصمت الذي لا يخرج منه شيء و لا يدخل فيه شيء.

أقول: مسألة التفويض إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من ولده و إن وردت في تفسيره عدة أحاديث لكن الذي يدل عليه هذا الحديث معناه إنباؤهم من العلم بكتاب الله ما لا ينحصر في وجه و وجهين و تسليطهم عليه بالإذن في بث ما شاءوا منها، يستفاد ذلك من تطبيق ما ذكره (عليه السلام) في أمر سليمان بن داود من التفويض المستفاد من الآية الكريمة، و لا يبعد أن يكون المراد من تلاوة الآية الإشارة إلى ذلك، و إن كان الظاهر أن المراد به بيان حال القلوب بمناسبة ما ابتلي به موسى بن أشيم من اضطراب القلب و قلقه.

و في تفسير القمي،: في الآية قال: قال: مثل شجرة حولها أشجار كثيرة فلا تقدر أن تلقي أغصانها يمنة و يسرة فتمر في السماء و يستمر حرجه.

أقول: و ذلك أيضا يناسب ما فسر به الراغب معنى الحرج.

و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون" قال هو الشك.

أقول: و هو من قبيل التطبيق و بيان بعض المصاديق.

6 سورة الأنعام - 128 - 135

وَ يَوْمَ يحْشرُهُمْ جَمِيعاً يَمَعْشرَ الجِْنِّ قَدِ استَكْثرْتُم مِّنَ الانسِ وَ قَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الانسِ رَبّنَا استَمْتَعَ بَعْضنَا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنَا أَجَلَنَا الّذِى أَجّلْت لَنَا قَالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خَلِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شاءَ اللّهُ إِنّ رَبّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَ كَذَلِك نُوَلى بَعْض الظلِمِينَ بَعْضا بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَمَعْشرَ الجِْنِّ وَ الانسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسلٌ مِّنكُمْ يَقُصونَ عَلَيْكمْ ءَايَتى وَ يُنذِرُونَكمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شهِدْنَا عَلى أَنفُسِنَا وَ غَرّتْهُمُ الحَْيَوةُ الدّنْيَا وَ شهِدُوا عَلى أَنفُسِهِمْ أَنّهُمْ كانُوا كفِرِينَ (130) ذَلِك أَن لّمْ يَكُن رّبّك مُهْلِك الْقُرَى بِظلْمٍ وَ أَهْلُهَا غَفِلُونَ (131) وَ لِكلٍّ دَرَجَتٌ مِّمّا عَمِلُوا وَ مَا رَبّك بِغَفِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (132) وَ رَبّك الْغَنىّ ذُو الرّحْمَةِ إِن يَشأْ يُذْهِبْكمْ وَ يَستَخْلِف مِن بَعْدِكم مّا يَشاءُ كَمَا أَنشأَكم مِّن ذُرِّيّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ (133) إِنّ مَا تُوعَدُونَ لاَتٍ وَ مَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَقَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكمْ إِنى عَامِلٌ فَسوْف تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لا يُفْلِحُ الظلِمُونَ (135)

بيان


الآيات متصلة بما قبلها و هي تفسر معنى ولاية بعض الظالمين بعضا المجعولة من الله سبحانه كتولية الشياطين للكافرين، و أن ذلك ليس من الظلم في شيء فإنهم سيعترفون يوم القيامة أنهم إنما أشركوا و اقترفوا المعاصي بسوء اختيارهم و اغترارهم بالحياة الدنيا بعد البيان الإلهي و إنذارهم باليوم الآخر حتى تلبسوا بالظلم، و الظالمون لا يفلحون.

فالقضاء الإلهي لا يسلب عنهم الاختيار الذي عليه مدار المؤاخذة و المجازاة، و لا الاختيار الإنساني الذي عليه مدار السعادة و الشقاوة يزاحم القضاء الإلهي فمتابعة الإنسان أولياء من الشياطين باختياره و إرادته هي المقضية لا أن القضاء يبطل اختيار الإنسان في فعله أولا ثم يضطره إلى اتباع الشياطين فيجبره الله أو يجبره الشياطين على سلوك طريق الشقاء و انتخاب الشرك و اقتراف الذنوب و الآثام بل الله سبحانه غني عنهم لا حاجة له إلى شيء مما بأيديهم حتى يظلمهم لأجله، و إنما خلقهم برحمته و حثهم عليها لكنهم ظلموا فلم يفلحوا.

قوله تعالى: "و يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن - إلى قوله - أجلت لنا" يقال: أكثر من الشيء أو الفعل و استكثر منه إذا أتى بالكثير، و استكثار الجن من الإنس ليس من جهة أعيانهم فإن الآتي بأعيانهم في الدنيا و المحضر لهم يوم القيامة هو الله سبحانه، و إنما للشياطين الاستكثار مما هم مسلطون عليه و هو إغواء الإنس من طريق ولايتهم عليهم و ليست بولاية إجبار و اضطرار بل من قبيل التعامل من الطرفين يتبع التابع المتبوع ابتغاء لما يرى في اتباعه من الفائدة، و يتولى المتبوع أمر التابع ابتغاء لما يستدر من النفع في ولايته عليه و إدارة شئونه، فللجن نوع التذاذ من إغواء الإنس و الولاية عليهم، و للإنس نوع التذاذ من اتباع الوساوس و التسويلات ليستدروا بذلك اللذائذ المادية و التمتعات النفسانية.

و هذا هو الذي يعترف به أولياء الجن من الإنس بقولهم: ربنا استمتع بعضنا ببعض فتمتعنا بوساوسهم و تسويلاتهم من متاع الدنيا و زخارفها، و تمتعوا منا بما كانت تشتهيه أنفسهم حتى آل أمرنا ما آل إليه.

و من هنا يظهر - كما يعطيه السياق - أن المراد بالأجل في قولهم: "و بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا" الحد الذي قدر لوجودهم و الدرجة التي حصلت لهم من أعمالهم دون الوقت الذي ينتهي إليه أعمارهم و بعبارة أخرى آخر درجة نالوها من فعلية الوجود لا الساعة التي ينتهي إليها حياتهم فيرجع المعنى إلى أن بعضنا استمتع ببعض بسوء اختياره و سيىء عمله فبلغنا بذلك السير الاختياري ما قدرت لنا من الأجل، و هو أنا ظالمون كافرون.



فمعنى الآية: و يوم يحشرهم جميعا ليتم أمر الحجاج عليهم فيقول للجن: يا معشر الجن قد استكثرتم من ولاية الإنس و إغوائهم، و قال أولياؤهم من الإنس في الاعتراف بحقيقة الأمر: ربنا استمتع بعضنا ببعض فاستمتعنا معشر الإنس من الجن بأن تمتعنا بزخارف الدنيا و ما تهواه أنفسنا بتسويلاتهم، و تمتع الجن منا باتباع ما كانوا يلقون إلينا من الوساوس و كنا على ذلك حتى بلغنا آخر ما بلغنا من فعلية الحياة الشقية و درجة العمل.

فهذا اعتراف منهم بأن الأجل و إن كان بتأجيل الله سبحانه لكنهم إنما بلغوه بطيهم طريق تمتع البعض من البعض، و هو طريق سلكوه باختيارهم.

و لا يبعد أن يستظهر من هنا أن المراد بالجن الشياطين الذين يوسوسون في صدور الناس من الجن.

قوله تعالى: "قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله" إلخ، هذا جواب منه سبحانه و قضاء عليهم، و متن ما قضى به قوله: "النار مثواكم" إلخ.

و المثوى اسم مكان من قولهم: ثوى يثوي ثواء أي أقام مع استقرار فقوله: النار مثواكم أي مقامكم الذي تستقرون فيه من غير خروج و لذا أكده بقوله؟ "خالدين فيها" و قوله: "إلا ما شاء الله" استثناء يفيد أن القدرة الإلهية باقية مع ذلك على ما كانت فله مع ذلك أن يخرجكم منها و إن كان لا يفعل.

ثم تمم الآية بقوله: "إن ربك حكيم عليم" و هو يفيد تعليل البيان الواقع في الآية و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: "و كذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون" فيه بيان أن جعله تعالى بعض الظالمين أولياء يجري على الحقيقة المبينة في الآية السابقة، و هو أن التابع يستمتع المتبوع من طريق تسويله و إغوائه فيكسب بذلك الذنوب و الآثام حتى يجعل الله المتبوع وليا عليه و يدخل التابع في ولايته.

و قوله: "بما كانوا يكسبون" الباء للسببية أو المقابلة، و هو يفيد أن هذه التولية إنما هي بنحو المجازاة يجازي بها الظالمين في قبال ما اكتسبوه من المظالم لا تولية ابتدائية من غير ذنب سابق نظير ما في قوله: "يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26 و قد التفت في الآية من الغيبة إلى التكلم ليختص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيان هذه الحقيقة فإنهم غير لائقين بتلقيها و إنما التفت إلى التكلم لأن التكلم هو المناسب للمسارة هذا و في الآيات موارد أخر من الالتفات لا يخفى وجهها على المتدبر.

قوله تعالى: "يا معشر الجن و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم" إلى آخر الآية في هذا الخطاب دفع دخل يمكن أن يتوجه إلى الحجة السابقة المأخوذة من اعترافهم بأنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه من ولاية الشياطين بسوء اختيارهم.

و هو أنهم و إن ابتلوا بذلك من طريق الاختيار لكنهم لو يكونوا يعلمون أن هذه المعاصي و التمتعات سوف توردهم مورد الهلكة و تسجل عليهم ولاية الظالمين و الشياطين و يخسرهم بالشقاء الذي لا سعادة بعده أبدا فهم كانوا على غفلة من ذلك و إن كانوا على علم في الجملة بمساءة أعمالهم و شناعة أفعالهم و مؤاخذة الغافل ظلم.

فدفعه الله سبحانه بهذا الخطاب الذي يسألهم فيه عن إتيان الرسل و ذكرهم آيات الله و إنذارهم بيوم الجمع و الحساب فلما شهدوا على أنفسهم بالكفر بما جاء به الرسل تمت الكلمة و لزمت الحجة.



فمعنى الآية: أنا نخاطبهم جميعا فنقول لهم: يا معشر الجن و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم أرسلناهم إليكم يقصون عليكم آياتي التي تدل على الدين الحق، و ينذرونكم لقاء يومكم هذا و هو يوم القيامة و أن الله سيوقفكم موقف المساءلة فيحاسبكم على أعمالكم ثم يجازيكم بما عملتم إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا فإذا سألناهم عن ذلك أجابونا و قالوا: شهدنا على أنفسنا أن الرسل أتونا و قصوا علينا آياتك، و أنذرونا لقاء يومنا هذا، و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بما جاء به الرسل رادين عليهم عن علم و ما كانوا غافلين.

و بذلك تبين أولا أن قوله: "منكم" لا يدل على أزيد من كون الرسل من جنس المخاطبين و هم مجموع الجن و الإنس لا من غيرهم كالملائكة حتى يتوحشوا منهم و لا يستأنسوا بهم و لا يفقهوا قولهم، و أما أن من كل من طائفتي الجن و الإنس رسلا منهم فلا دلالة في الآية على ذلك.

و ثانيا: أن تكرار لفظ الشهادة إنما هو لاختلاف متعلقها فالمراد بالشهادة الأولى الشهادة بإتيان الرسل و قصهم آيات الله و إنذارهم بيوم القيامة، و بالشهادة الثانية الشهادة بكفرهم بما جاء به الرسل من غير غفلة.

و أما ما قيل: إن المراد بالشهادة الأولى الشهادة بالكفر و المعصية حال التكليف، و بالثانية الشهادة في الآخرة على كونهم كافرين في الدنيا فهو غير مفيد لأن الشهادتين بالأخرة راجعتان إلى شهادة واحدة بالكفر في الدنيا فيبقى تكرار اللفظ على حاجته إلى وجه يقتضيه.

و ثالثا: أن قوله: "و غرتهم الحياة الدنيا" معترضة وضعت ليندفع بها ما يمكن أن يختلج ببال السامع و هو أنهم إذ كانوا يستمتع بعضهم من بعض، و كانوا غير غافلين عن إتيان الرسل و بيانهم الآيات و إنذارهم باليوم الآخر فما بالهم وردوا مورد التهلكة و أهلكوا أنفسهم عن علم و اختيار؟ فأجيب بأن الحياة الدنيا غرتهم كلما لاح لقلوبهم شيء من الحق و برقت فيها بارقة من الخير هجمت عليهم الأهواء و أسدلت عليهم ظلمات الرذائل حتى ضربت حجابا بينهم و بين الحق و أعمت أبصارهم عن رؤيته و مشاهدته.

قوله تعالى: "ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم و أهلها غافلون" الإشارة بقوله: "ذلك" إلى مضمون ما تقدم من البيان - على ما يعطيه السياق - و قوله: "أن لم يكن" بتقدير لام التعليل فالمعنى أن الذي بيناه من إرسال الرسل و التذكير بالآيات و الإنذار بيوم القيامة إنما هو لأن الله سبحانه ليس من سنته أن يهلك أهل القرى و يوردهم مورد السخط و العذاب و هم غافلون عما يريده منهم من الطاعة و يفعله بهم على تقدير المخالفة، و ذلك ظلم منه تعالى.

فهم و إن نزلوا منزل الشقاء بتأجيل الله سبحانه و قضائه و جعله بعضهم أولياء بعض لكنه تعالى لم يسلبهم القدرة على الطاعة و لم يبطل منهم الاختيار فاختاروا الشرك و المعصية ثم أرسل إليهم رسلا منهم يقصون عليهم آياته و ينذرونهم لقاء يوم الحساب فكفروا بهم و مكثوا على بغيهم و عتوهم فجزاهم بولاية بعضهم بعضا و قضى عليهم بأن النار مثواهم فهم أنفسهم استدعوا الهلاك عن علم و إرادة، و لم يهلكهم الله و هم غافلون حتى يكون يظلمهم فهو الحكم العدل تبارك اسمه.

و قد بان بذلك أولا: أن المراد بقوله: "لم يكن ربك" نفي أن يكون ذلك من سنته تعالى فإنه تعالى لا يفعل شيئا إلا بسنة جارية و صراط مستقيم، قال تعالى: "إن ربي على صراط مستقيم": هود: 56 و في اللفظ دلالة على ذلك.

و ثانيا: أن المراد بإهلاك القرى القضاء بشقائهم في الدنيا و عذابهم في الآخرة على ما يفيده السياق دون الهلاك بإنزال العذاب في الدنيا.

و ثالثا: أن المراد بالظلم في الآية هو الظلم منه تعالى لو أهلكهم و هم غافلون دون الظلم من أهل القرى.



قوله تعالى: "و لكل درجات مما عملوا و ما ربك بغافل عما يعملون" متعلق الكل محذوف و هو الضمير الراجع إلى الطائفتين، و المعنى: و لكل طائفة من طائفتي الجن و الإنس درجات من أعمالهم فإن الأعمال مختلفة و باختلافها يختلف ما توجبه من الدرجات، و ما ربك بغافل عن أعمالهم.

قوله تعالى: "و ربك الغني ذو الرحمة" إلى آخر الآية.

بيان عام لنفي الظلم عنه تعالى في الخلقة.

و توضيحه: أن الظلم و هو وضع الشيء في غير موضعه الذي ينبغي أن يوضع عليه و بعبارة أخرى إبطال حق إنما يتحقق من الظلم بأخذ شيء أو تركه لأحد أمرين إما لحاجة منه إليه بوجه من الوجوه كأن يعود إليه أو إلى من يهواه منه نفع أو يندفع عنه أو عما يعود إليه بذلك ضرر، و إما لا لحاجة منه إليه بل لشقوة باطنية و قسوة نفسانية لا يعبأ بها بما يقاسيه المظلوم من المصيبة و يكابده من المحنة، و ليس ذلك منه لحاجة بل من آثار الملكة المشومة.

و الله سبحانه منزه من هاتين الصفتين السيئتين فهو الغني الذي لا تمسه حاجة و لا يعرضه فقر، و ذو الرحمة المطلقة التي ينعم بها على كل شيء بما يليق بحاله فلا يظلم سبحانه أحدا، و هذا هو الذي يدل عليه قوله: "و ربك الغني ذو الرحمة" إلخ، و معنى الآية: و ربك هو الذي يوصف بالغني المطلق الذي لا فقر معه و لا حاجة، و بالرحمة المطلقة التي وسعت كل شيء و مقتضى ذلك أنه قادر على أن يذهبكم بغناه و يستخلف من بعدكم ما يشاء من الخلق برحمته و الشاهد عليه أنه أنشأكم برحمته من ذرية قوم آخرين أذهبهم بغناه عنهم.

و في قوله: "ما يشاء" دون أن يقال: من يشاء، إبهام للدلالة على سعة القدرة.

قوله تعالى: "إن ما توعدون لآت و ما أنتم بمعجزين" أي الأمر الإلهي من البعث و الجزاء و هو الذي توعدون من طريق الوحي لآت البتة و ما أنتم بمعجزين لله حتى تمنعوا شيئا من ذلك أن يتحقق ففي الكلام تأكيد للوعد و الوعيد السابقين.

قوله تعالى: "قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل" إلى آخر الآية.

المكانة هي المنزلة و الحالة التي يستقر عليها الشيء، و عاقبة الشيء ما ينتهي إليه، و هي في الأصل مصدر كالعقبى على ما قيل، و قولهم: كانت له عاقبة الدار كناية عن نجاحه في سعيه و تمكنه مما قصده، و في الآية انعطاف إلى ما بدىء به الكلام، و هو قوله تعالى قبل عدة آيات: "اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو و أعرض عن المشركين".

و المعنى: قل للمشركين: يا قوم اعملوا على منزلتكم و حالتكم التي أنتم عليها من الشرك و الكفر - و فيه تهديد بالأمر - و دوموا على ما أنتم عليه من الظلم إني عامل و مقيم على ما أنعم عليه من الإيمان و الدعوة إلى التوحيد فسوف تعلمون من يسعد و ينجح في عمله، و أنا الناجح دونكم فإنكم ظالمون بشرككم و الظالمون لا يفلحون في ظلمهم.

و ربما قيل: إن قوله: "إني عامل" إخبار عن الله سبحانه أنه يعمل بما وعد به من البعث و الجزاء، و هو فاسد يدفعه سياق قوله: "فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار".

بحث روائي


في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و كذلك نولي بعض الظالمين بعضا" الآية. قال: قال: نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما انتصر الله من ظالم إلا بظالم و ذلك قول الله عز و جل؟ "و كذلك نولي بعض الظالمين بعضا".



أقول: دلالة الآية على ما في الرواية من الحصر غير واضحة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأمل و ابن أبي حاتم و البيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري قال: اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أ لا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر؟ إن أسامة لطويل الأمل، و الذي نفسي بيده ما طرفت عيناي و ظننت أن شفري يلتقيان حتى أقبض، و لا رفعت طرفي و ظننت أني واضعه حتى أقبض، و لا لقمت لقمة فظننت أني أسيغها حتى أغص بالموت يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم في الموتى، و الذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت و ما أنتم بمعجزين.

6 سورة الأنعام - 136 - 150

وَ جَعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الأَنْعَمِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هَذَا لِشرَكائنَا فَمَا كانَ لِشرَكائهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللّهِ وَ مَا كانَ للّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شرَكائهِمْ ساءَ مَا يَحْكمُونَ (136) وَ كذَلِك زَيّنَ لِكثِيرٍ مِّنَ الْمُشرِكينَ قَتْلَ أَوْلَدِهِمْ شرَكاؤُهُمْ لِيرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْترُونَ (137) وَ قَالُوا هَذِهِ أَنْعَمٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطعَمُهَا إِلا مَن نّشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعَمٌ حُرِّمَت ظهُورُهَا وَ أَنْعَمٌ لا يَذْكُرُونَ اسمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْترَاءً عَلَيْهِ سيَجْزِيهِم بِمَا كانُوا يَفْترُونَ (138) وَ قَالُوا مَا فى بُطونِ هَذِهِ الأَنْعَمِ خَالِصةٌ لِّذُكورِنَا وَ محَرّمٌ عَلى أَزْوَجِنَا وَ إِن يَكُن مّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شرَكاءُ سيَجْزِيهِمْ وَصفَهُمْ إِنّهُ حَكيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسرَ الّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَدَهُمْ سفَهَا بِغَيرِ عِلْمٍ وَ حَرّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْترَاءً عَلى اللّهِ قَدْ ضلّوا وَ مَا كانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَ هُوَ الّذِى أَنشأَ جَنّتٍ مّعْرُوشتٍ وَ غَيرَ مَعْرُوشتٍ وَ النّخْلَ وَ الزّرْعَ مخْتَلِفاً أُكلُهُ وَ الزّيْتُونَ وَ الرّمّانَ مُتَشبهاً وَ غَيرَ مُتَشبِهٍ كلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ ءَاتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسرِفُوا إِنّهُ لا يحِب الْمُسرِفِينَ (141) وَ مِنَ الأَنْعَمِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَ لا تَتّبِعُوا خُطوَتِ الشيْطنِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ (142) ثَمَنِيَةَ أَزْوَجٍ مِّنَ الضأْنِ اثْنَينِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَينِ قُلْ ءَالذّكرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمّا اشتَمَلَت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَينِ نَبِّئُونى بِعِلْمٍ إِن كنتُمْ صدِقِينَ (143) وَ مِنَ الابِلِ اثْنَينِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَينِ قُلْ ءَالذّكرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمّا اشتَمَلَت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَينِ أَمْ كنتُمْ شهَدَاءَ إِذْ وَصامُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظلَمُ مِمّنِ افْترَى عَلى اللّهِ كذِباً لِّيُضِلّ النّاس بِغَيرِ عِلْمٍ إِنّ اللّهَ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ (144) قُل لا أَجِدُ فى مَا أُوحِىَ إِلىّ محَرّماً عَلى طاعِمٍ يَطعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مّسفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسقاً أُهِلّ لِغَيرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضطرّ غَيرَ بَاغٍ وَ لا عَادٍ فَإِنّ رَبّك غَفُورٌ رّحِيمٌ (145) وَ عَلى الّذِينَ هَادُوا حَرّمْنَا كلّ ذِى ظفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ شحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَت ظهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَط بِعَظمٍ ذَلِك جَزَيْنَهُم بِبَغْيهِمْ وَ إِنّا لَصدِقُونَ (146) فَإِن كذّبُوك فَقُل رّبّكمْ ذُو رَحْمَةٍ وَسِعَةٍ وَ لا يُرَدّ بَأْسهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سيَقُولُ الّذِينَ أَشرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ مَا أَشرَكنَا وَ لا ءَابَاؤُنَا وَ لا حَرّمْنَا مِن شىْءٍ كذَلِك كَذّب الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتى ذَاقُوا بَأْسنَا قُلْ هَلْ عِندَكم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتّبِعُونَ إِلا الظنّ وَ إِنْ أَنتُمْ إِلا تخْرُصونَ (148) قُلْ فَللّهِ الحُْجّةُ الْبَلِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمّ شهَدَاءَكُمُ الّذِينَ يَشهَدُونَ أَنّ اللّهَ حَرّمَ هَذَا فَإِن شهِدُوا فَلا تَشهَدْ مَعَهُمْ وَ لا تَتّبِعْ أَهْوَاءَ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا وَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَ هُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

بيان


الآيات تحاج المشركين في عدة من الأحكام في الأطعمة و غيرها دائرة بين المشركين و تذكر حكم الله فيها.

قوله تعالى: "و جعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا" إلى آخر الآية، الذرء الإيجاد على وجه الاختراع و كأن الأصل في معناه الظهور، و الحرث الزرع، و قوله: "بزعمهم" في قوله: "فقالوا هذا لله بزعمهم" نوع من التنزيه كقوله: "و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه": الأنبياء: 26.

و الزعم الاعتقاد و يستعمل غالبا فيما لا يطابق الواقع منه.

و قوله: "و هذا لشركائنا" أضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين أثبتوها و اعتقدوا بها نظير أئمة الكفر و أئمتهم و أوليائهم، و قيل: أضيفت الشركاء إليهم لأنهم كانوا يجعلون بعض أموالهم لهم فيتخذونهم شركاء لأنفسهم.

و كيف كان فمجموع الجملتين أعني قوله: "فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا" من تفريع التفصيل على الإجمال يفسر به جعلهم لله نصيبا من خلقه، و فيه توطئة و تمهيد لتفريع حكم آخر عليه، و هو الذي يذكره في قوله: "فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله و ما كان لله فهو يصل إلى شركائهم".

و إذ كان هذا الحكم على بطلانه من أصله و كونه افتراء على الله لا يخلو عن إزراء بساحته تعالى بتغليب جانب الأصنام على جانبه قبحه بقوله: "ساء ما يحكمون" و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم" إلى آخر الآية.

قرأ غير ابن عامر "زين" بفتح الزاي فعل معلوم، و "قتل" بنصب اللام مفعول "زين" و هو مضاف إلى "أولادهم" بالجر و هو مفعول "قتل" أضيف إليه، و "شركاؤهم" فاعل "زين".

و المعنى أن الأصنام بما لها من الوقع في قلوب المشركين و الحب الوهمي في نفوسهم زينت لكثير من المشركين أن يقتلوا أولادهم و يجعلوهم قرابين يتقربون بذلك إلى الآلهة كما يضبطه تاريخ قدماء الوثنيين و الصابئين، و هذا غير مسألة الوأد التي كانت بنو تميم من العرب يعملون به فإن المأخوذ في سياق الآية الأولاد دون البنات خاصة.

و قيل: المراد بالشركاء الشياطين، و قيل: خدمة الأصنام، و قيل: الغواة من الناس.

و قرأ ابن عامر: "زين" بضم الزاي مبنيا للمفعول "قتل" بضم اللام نائب عن فاعل زين "أولادهم" بالنصب مفعول المصدر أعني "قتل" تخلل بين المضاف و المضاف إليه "شركائهم" بالجر مضاف إليه و فاعل للمصدر.

و قوله تعالى: "ليردوهم و ليلبسوا عليهم دينهم" الإرداء: الإهلاك، و المراد به إهلاك المشركين بالكفر بنعمة الله و البغي على خلقه، و خلط دينهم عليهم بإظهار الباطل في صورة الحق، فضمير "هم" في المواضع الثلاث جميعا راجع إلى كثير من المشركين.

و قيل: المراد به الإهلاك بظاهر معنى القتل، و لازمه رجوع أول الضمائر إلى الأولاد و الثاني و الثالث إلى الكثير، أو الجميع إلى المشركين بنوع من العناية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "و قالوا هذه أنعام و حرث حجر" إلى آخر الآية.



الحجر بكسر الحاء المنع و يفسره قوله بعده: "لا يطعمها إلا من نشاء" أي هذه الأنعام و الحرث حرام إلا على من نشاء أن نأذن لهم، و روي: أنهم كانوا يقدمونها لآلهتهم و لا يحلون أكلها إلا لمن كان يخدم آلهتهم من الرجال دون النساء بزعمهم.

و قوله: "و أنعام حرمت ظهورها" أي و قالوا: هذه أنعام حرمت ظهورها أو و لهم أنعام حرمت ظهورها، و هي السائبة و البحيرة و الحامي التي نفاها الله تعالى في قوله: "ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام و لكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب و أكثرهم لا يعقلون": المائدة: 103 و قيل: هي بعض هؤلاء على الخلاف السابق في معناها في تفسير آية المائدة.

و قوله: "و أنعام لا يذكرون اسم الله عليها" أي و لهم أنعام إلخ و هي الأنعام التي كانوا يهلون عليها بأصنام لا باسم الله، و قيل: هي التي كانوا لا يركبونها في الحج، و قيل: أنعام كانوا لا يذكرون اسم الله عليها و لا في شأن من شئونها، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "و قالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا" إلى آخر الآية، المراد بما في البطون أجنة البحائر و السيب، فقد كانوا يحلونها إذا ولدت حية للرجال دون النساء و إن ولدت ميتة أكله الرجال و النساء جميعا، و قيل: المراد بها الألبان، و قيل: الأجنة و الألبان جميعا.

و المراد بقوله: "سيجزيهم وصفهم" سيجزيهم نفس وصفهم فإنه يعود وبالا و عذابا عليهم ففيه نوع من العناية، و قيل: التقدير: سيجزيهم بوصفهم، و قيل: التقدير: سيجزيهم جزاء وصفهم، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم" إلخ، رد لما حكي عنهم في الآيات السابقة من الأحكام المفتراة و هي قتل الأولاد و تحريم أصناف من الأنعام و الحرث و ذكر أن ذلك منهم خسران و ضلال من غير اهتداء.

و قد وصف قتل الأولاد بأنه سفه بغير علم، و كذلك بدل الأنعام و الحرث من قوله ما رزقهم الله و وصف تحريمها بأنه افتراء على الله ليكون في ذلك تنبيه كالتعليل على خسرانهم في ذلك كأنه قيل: خسروا في قتلهم أولادهم لأنهم سفهوا به سفها بغير علم، و خسروا في تحريمهم أصنافا من الأنعام و الحرث افتراء على الله لأنها من رزق الله و حاشاه تعالى أن يرزقهم شيئا ثم يحرمه عليهم.

ثم بين تعالى ضلالهم في تحريم الحرث و الأنعام مع كونها من رزق الله بيانا تفصيليا بالاحتجاج من ناحية العقل و مصلحة معاش العباد بقوله: "و هو الذي أنشأ جنات" إلى تمام أربع آيات، ثم من ناحية السمع و نزول الوحي بقوله: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه" إلى تمام الآية.

فيكون محصل الآيات الخمس أن تحريمهم أصنافا من الحرث و الأنعام ضلال منهم لا يساعدهم على ذلك حجة فلا العقل و رعاية مصلحة العباد يدلهم على ذلك، و لا الوحي النازل من الله سبحانه يهديهم إليه فهم في خسران منه.

قوله تعالى: "و هو الذي أنشأ جنات معروشات و غير معروشات - إلى قوله - و غير متشابه" الشجرة المعروشة هي التي ترفع أغصانها بعضا على بعض بدعائم كالكرم و أصل العرش الرفع فالجنات المعروشات هي بساتين الكرم و نحوها، و الجنات غير المعروشات ما كانت أشجارها قائمة على أصولها من غير دعائم.



و قوله: "و الزرع مختلفا أكله" أي ما يؤكل منه من الحبات كالحنطة و الشعير و العدس و الحمص.

و قوله: "و الزيتون و الرمان متشابها و غير متشابه" أي متشابه كل منها و غير متشابه على ما يفيده السياق، و التشابه بين الثمرتين باتحادهما في الطعم أو الشكل أو اللون أو غير ذلك.

قوله تعالى: "كلوا من ثمره إذا أثمر" إلى آخر الآية، الأمر للإباحة لوروده في رفع الحظر الذي يدل عليه إنشاء الجنات و النخل و الزرع و غيرها، و السياق يدل على أن تقدير الكلام: و هو الذي أنشأ جنات و النخل و الزرع إلخ، و أمركم بأكل ثمر ما ذكر و أمركم بإيتاء حقه يوم حصاده، و نهاكم عن الإسراف.

فأي دليل أدل من ذلك على إباحتها؟ و قوله: "و آتوا حقه يوم حصاده" أي الحق الثابت فيه المتعلق به فالضمير راجع إلى الثمر و أضيف إليه الحق لتعلقه به كما يضاف الحق أيضا إلى الفقراء لارتباطه بهم و ربما احتمل رجوع الضمير إلى الله كالضمير الذي بعده في قوله: "إنه لا يحب المسرفين" و إضافته إليه تعالى لانتسابه إليه بجعله.

و هذا إشارة إلى جعل حق ما للفقراء في الثمر من الحبوب و الفواكه يؤدي إليهم يوم الحصاد يدل عليه العقل و يمضيه الشرع و ليس هو الزكاة المشرعة في الإسلام إذ ليست في بعض ما ذكر في الآية زكاة.

على أن الآية مكية و حكم الزكاة مدني.

نعم لا يبعد أن يكون أصلا لتشريعها فإن أصول الشرائع النازلة في السور المدنية نازلة على وجه الإجمال و الإبهام في السور المكية كقوله تعالى بعد عدة آيات عند تعداد كليات المحرمات: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم إلى أن قال - و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن": الأنعام: 151.

و قوله: "و لا تسرفوا" إلخ، أي لا تتجاوزوا الحد الذي يصلح به معاشكم بالتصرف فيه فلا يتصرف صاحب المال منكم بالإسراف في أكله أو التبذير في بذله أو وضعه في غير موضعه من معاصي الله و هكذا، و لا يسرف الفقير الأخذ بتضييعه و نحو ذلك، ففي الكلام إطلاق، و الخطاب فيه لجميع الناس.

و أما قول بعضهم: إن الخطاب في "لا تسرفوا" مختص بأرباب الأموال، و قول بعض آخر: إنه متوجه إلى الإمام الآخذ للصدقة، و كذا قول بعضهم: إن معناه لا تسرفوا بأكله قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء، و قول بعض آخر: إن المعنى: لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب، و قول ثالث: إن المعنى لا تنفقوه في المعصية، كل ذلك مدفوع بالإطلاق و السياق.

قوله تعالى: "و من الأنعام حمولة و فرشا" إلى آخر الآية، الحمولة أكابر الأنعام لإطاقتها الحمل، و الفرش أصاغرها لأنها كأنها تفترش على الأرض أو لأنها توطأ كما يوطأ الفرش، و قوله: "كلوا مما رزقكم الله" إباحة للأكل و إمضاء لما يدل عليه العقل نظير قوله في الآية السابقة: "كلوا من ثمره"، و قوله: "لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين" أي لا تسيروا في هذا الأمر المشروع إباحته باتباع الشيطان بوضع قدمكم موضع قدمه بأن تحرموا ما أحله، و قد تقدم أن المراد باتباع خطوات الشيطان تحريم ما أحله الله بغير علم.



قوله تعالى: "ثمانية أزواج من الضأن اثنين و من المعز اثنين" إلى آخر الآية، تفصيل للأنعام بعد الإجمال و المراد به تشديد اللوم و التوبيخ عليهم ببسطه على كل صورة من الصور و الوجوه، فقوله: "ثمانية أزواج" عطف بيان من "حمولة و فرشا" في الآية السابقة.

و الأزواج جمع زوج، و يطلق الزوج على الواحد الذي يكون معه آخر و على الاثنين، و أنواع الأنعام المعدودة أربعة: الضأن و المعز و البقر و الإبل، و إذا لوحظت ذكرا و أنثى كانت ثمانية أزواج.

و المعنى: أنشأ ثمانية أزواج من الضأن زوجين اثنين هما الذكر و الأنثى و من المعز زوجين اثنين كالضأن قل آلذكرين من الضأن و المعز حرم الله أم الأنثيين منهما أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن و المعز نبئوني ذلك بعلم إن كنتم صادقين.

قوله تعالى: "و من الإبل اثنين و من البقر اثنين - إلى قوله - الأنثيين" معناه ظاهر مما مر، و قيل: المراد بالاثنين في المواضع الأربعة من الآيتين الأهلي و الوحشي.

قوله تعالى: "أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا" إلى آخر الآية.

هذا شق من ترديد حذف شقه الآخر على ما يدل عليه الكلام، و تقديره: أ علمتم ذلك من طريق الفكر كعقل أو سمع أم شاهدتم تحريم الله ذلك و شافهتموه فادعيتم ذلك.

و قوله: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا" إلخ، تفريع على ما قبله باعتبار دلالته على انقطاعهم عن الجواب و على ذلك فمعناه: فمن أظلم منكم، و يكون قوله: "ممن افترى" إلخ، كناية عن المشركين المخاطبين وضع موضع ضمير الخطاب الراجع إليهم ليدل به على سبب الحكم المفهوم من الاستفهام الإنكاري و التقدير: لا أظلم منكم لأنكم افتريتم على الله كذبا لتضلوا الناس بغير علم، و إذ ظلمتم فإنكم لا تهتدون إن الله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه" إلخ، معنى الآية ظاهر، و قد تقدم في نظيره الآية من سورة المائدة آية 3، و في سورة البقرة آية 173 ما ينفع في المقام.

قوله تعالى: "و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر" إلخ، الظفر واحد الأظفار و هو العظم النابت على رءوس الأصابع، و الحوايا المباعر قال في المجمع:، موضع الحوايا يحتمل أن يكون رفعا عطفا على الظهور و تقديره: أو ما حملت الحوايا، و يحتمل أن يكون نصبا عطفا على ما في قوله: "إلا ما حملت" فأما قوله: "أو ما اختلط بعظم" فإن ما هذه معطوفة على ما الأولى انتهى و الوجه الأول أقرب.

ثم قال: ذلك في قوله - ذلك جزيناهم - يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنه مفعول ثان لجزيناهم التقدير: جزيناهم ذلك ببغيهم، و لا يجوز أن يرفع بالابتداء لأنه يصير التقدير: ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم: زيد ضربت أي ضربته، و هذا إنما يجوز في ضرورة الشعر.

انتهى.

و الآية كأنها في مقام الاستدراك و دفع الدخل ببيان أن ما حرم الله على بني إسرائيل من طيبات ما رزقهم إنما حرمه جزاء لبغيهم فلا ينافي ذلك كونه حلا بحسب طبعه الأولى كما يشير إلى ذلك قوله: "كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة": آل عمران: 93 و قوله: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم و بصدهم عن سبيل الله كثيرا": النساء: 160.



قوله تعالى: "فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة" إلى آخر الآية، معنى الآية ظاهر، و فيها أمر بإنذارهم و تهديدهم إن كذبوا بالبأس الإلهي الذي لا مرد له لكن لا ببيان يسلط عليهم اليأس و القنوط بل بما يشوبه بعض الرجاء، و لذلك قدم عليه قوله: "ربكم ذو رحمة واسعة".

قوله تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا و لا حرمنا من شيء" الآية تذكر احتجاجهم بهذه الحجة ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها و إنما يركنون فيها إلى الظن و التخمين، و الكلمة كلمة حق وردت في كثير من الآيات القرآنية لكنها لا تنتج ما قصدوه منها.

فإنهم إنما احتجوا بها لإثبات أن شركهم و تحريمهم ما رزقهم الله بإمضاء من الله سبحانه لا بأس عليهم في ذلك فحجتهم أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك و التحريم لكنا مضطرين على ترك الشرك و التحريم فإذ لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك و التحريم فلا بأس بهذا الشرك و التحريم.

و هذه الحجة لا تنتج هذه النتيجة و إنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك لم يوقعهم موقع الاضطرار و الإجبار فهم مختارون في الشرك و الكف عنه و في التحريم و تركه فله تعالى أن يدعوهم إلى الإيمان به و رفض الافتراض فلله الحجة البالغة و لا حجة لهم في ذلك إلا اتباع الظن و التخمين.

قوله تعالى: "قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين" كأن الفاء الأولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من قولهم "لو شاء الله ما أشركنا" إلخ، و الفاء الثانية للتعليل فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها.

و المعنى أن نتيجة الحجة قد التبست عليكم بجهلكم و اتباعكم الظن و خرصكم في المعارف الإلهية فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك و ترك الافتراء عليه، و أن الحجة إنما هي لله عليكم فإنه لو شاء لهداكم أجمعين و أجبركم على الإيمان و ترك الشرك و التحريم، و إذ لم يجبركم على ذلك و أبقاكم على الاختيار فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك و التحريم.

و بعبارة أخرى: يتفرع على حجتكم أن الحجة لله عليكم لأنه لو شاء لأجبر على الإيمان فهداكم أجمعين، و لم يفعل بل جعلكم مختارين يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه.

و قد بين تعالى في طائفة من الآيات السابقة أنه تعالى لم يضطر عباده على الإيمان و لم يشأ منهم ذلك بالمشية التكوينية حتى يكونوا مجبرين عليه بل أذن لهم في خلافه و هذا الإذن الذي هو رفع المانع التكويني هو اختيار العباد و قدرتهم على جانبي الفعل و الترك، و هذا الإذن لا ينافي الأمر التشريعي بترك الشرك مثلا بل هو الأساس الذي يبتني عليه الأمر و النهي.

قوله تعالى: "قل هلم شهداءكم الذين يشهدون" إلى آخر الآية.

هلم شهداءكم أي هاتوا شهداءكم و هو اسم فعل يستوي فيه المفرد و المثنى و المجموع، و المراد بالشهادة شهادة الأداء و الإشارة بقوله: "هذا" إلى ما ذكر من المحرمات عندهم، و الخطاب خطاب تعجيزي أمر به الله سبحانه ليكشف به أنهم مفترون في دعواهم أن الله حرم ذلك فهو كناية عن عدم التحريم.

و قوله: "فإن شهدوا فلا تشهد معهم" في معنى الترقي، و المعنى: لا شاهد فيهم يشهد بذلك فلا تحريم حتى أنهم لو شهدوا بالتحريم فلا تشهد معهم إذ لا تحريم و لا يعبأ بشهادتهم فإنهم قوم يتبعون أهواءهم.



فقوله: "و لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا" إلخ، عطف تفسير لقوله: "فإن شهدوا فلا تشهد معهم" أي إن شهادتك اتباع لأهوائهم كما أن شهادتهم من اتباع الأهواء، و كيف لا؟ و هم قوم كذبوا بآيات الله الباهرة، و لا يؤمنون بالآخرة و يعدلون بربهم غيره من خلقه كالأوثان، و لا يجترىء على ذلك مع كمال البيان و سطوع البرهان إلا الذين يتبعون الأهواء.

بحث روائي


في المجمع،: في قوله تعالى: "فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله" الآية قال: إنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى ردوه، و إذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه و قالوا: الله أغنى، و إذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه، و إذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه و قالوا: الله أغنى: عن ابن عباس و قتادة، و هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام).

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و كذلك زين لكثير من المشركين" الآية قال: قال: يعني أن أسلافهم زينوا لهم قتل أولادهم.

و فيه،: في قوله تعالى: "و قالوا هذه أنعام و حرث حجر" قال: قال: الحجر المحرم.

و فيه،: في قوله تعالى: "و هو الذي أنشأ جنات" الآيات قال: قال: البساتين.

و فيه، في قوله تعالى: "و آتوا حقه يوم حصاده و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" الآية، أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدثنا أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان عن شعيب العقرقوفي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: "و آتوا حقه يوم حصاده" قال: الضغث من السنبل و الكف من التمر إذا خرص. قال: و سألته هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله بيته؟ قال: لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخل بيته.

و فيه، عن أحمد بن إدريس عن البرقي عن سعد بن سعد عن الرضا (عليه السلام): أنه سئل: إن لم يحضر المساكين و هو يحصد كيف يصنع؟ قال: ليس عليه شيء.

و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن معاوية بن الحجاج قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في الزرع حقان: حق تؤخذ به، و حق تعطيه. قلت: و ما الذي أوخذ به؟ و ما الذي أعطيه؟ قال: أما الذي تؤخذ به فالعشر و نصف العشر، و أما الذي تعطيه فقول الله عز و جل: "و آتوا حقه يوم حصاده" يعني من حصدك الشيء بعد الشيء و لا أعلمه إلا قال: الضغث تعطيه ثم الضغث حتى تفرغ.

و فيه، بإسناده عن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن قوله الله عز و جل: "و آتوا حقه يوم حصاده و لا تسرفوا" قال: كان أبي يقول: من الإسراف في الحصاد و الجذاذ أن يتصدق الرجل بكفيه جميعا، و كان أبي إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به: أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة و الضغث بعد الضغث من السنبل.

و فيه، بإسناده عن مصادف قال: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في أرض له و هم يصرمون فجاء سائل يسأل فقلت: الله يرزقك فقال: مه ليس ذلك لكم حتى تعطوا ثلاثة فإذا أعطيتم فلكم و إن أمسكتم فلكم.

و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنى قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و آتوا حقه يوم حصاده و لا تسرفوا - إنه لا يحب المسرفين" فقال: كان فلان بن فلان الأنصاري و سماه و كان له حرث، و كان إذا أجذ يتصدق به و يبقى هو و عياله بغير شيء فجعل الله عز و جل ذلك إسرافا.



أقول: المراد انطباق الآية على عمله دون نزولها فيه فإن الآية مكية، و لعل المراد بالأنصاري المذكور ثابت بن قيس بن شماس و قد روى الطبري و غيره عن ابن جريح قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذ نخلا فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى و ليست له تمره فأنزل الله: و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، و الآية كما تقدم مكية غير مدنية فلا يشمل عمل ثابت بن قيس إلا بالجري و الانطباق.

و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في الآية قال: أعط من حضرك من المسلمين فإن لم يحضرك إلا مشرك فأعط.

أقول: و الروايات في هذه المعاني عن أبي جعفر و أبي عبد الله و أبي الحسن الرضا (عليه السلام) كثيرة جدا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و النحاس و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "و آتوا حقه يوم حصاده" قال: ما سقط من السنبل.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس و البيهقي في سننه عن ابن عباس: "و آتوا حقه يوم حصاده" قال: نسخها العشر و نصف العشر.

أقول: ليست النسبة بين الآية و آية الزكاة نسبة النسخ إذ لا تنافي يؤدي إلى النسخ سواء قلنا بوجوب الصدقة أو باستحبابها.

و فيه، أخرج أبو عبيد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر عن الضحاك قال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن.

أقول: الكلام فيه كسابقه.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و أبو الشيخ عن ميمون بن مهران و يزيد بن الأصم قال: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجيء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه فهو قوله: "و آتوا حقه يوم حصاده". و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "ثمانية أزواج من الضأن اثنين و من المعز اثنين" الآية: فهذه التي أحلها الله في كتابه في قوله: "و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" ثم فسرها في هذه الآية فقال: "من الضأن اثنين و من المعز اثنين و من الإبل اثنين و من البقر اثنين" فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: "من الضأن اثنين" عنى الأهلي و الجبلي "و من المعز اثنين" عنى الأهلي و الوحشي الجبلي "و من البقر اثنين" عنى الأهلي و الوحشي الجبلي "و من الإبل اثنين" يعني البخاتي و العراب، فهذه أحلها الله.

أقول: و روي ما يؤيد ذلك في الكافي و الاختصاص و تفسير العياشي عن داود الرقي و صفوان الجمال عن الصادق (عليه السلام).

و يبقى البحث في أن معنى الزوج في قوله: "ثمانية أزواج من الضأن اثنين" الآية هو الذي في قوله: "و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" أو غيره، و سيوافيك إن شاء الله تعالى.

و في تفسير العياشي، عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن سباع الطير و الوحش حتى ذكر له القنافذ و الوطواط و الحمير و البغال و الخيل فقال: ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه، و قد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير، و إنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ليس الحمير بحرام، و قال: قرأ هذه الآيات "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه - إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به".

<<        الفهرس        >>