جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج7 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



أقول: و في معناه أخبار أخر مروية عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و في عدة منها: إنما الحرام ما حرمه الله في كتابه و لكنهم كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها، و هنا روايات كثيرة تنهى عن أكل كثير من الحيوان كذوات الأنياب من الوحش و ذوات المخالب من الطير و غير ذلك، و الأمر في روايات أهل السنة على هذا النحو و المسألة فقهية مرجعها الفقه، و إذا تمت حرمة ما عدا المذكورات في الآية فإنما هي مما حرمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخباثا له و قد وصفه الله تعالى بما يمضيه في حقه، قال تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث" الآية: الأعراف: 157.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر" الآية: أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير و الشحوم فحرم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم: ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد (عليهما السلام) و قد سئل عن قوله تعالى: "فلله الحجة البالغة" فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت عالما؟ فإن قال: نعم قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال: كنت جاهلا قال: أ فلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجة البالغة.

أقول: و هو من بيان المصداق.

6 سورة الأنعام - 151 - 157

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكمْ عَلَيْكمْ أَلا تُشرِكُوا بِهِ شيْئاً وَ بِالْوَلِدَيْنِ إِحْسناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلَدَكم مِّنْ إِمْلَقٍ نحْنُ نَرْزُقُكمْ وَ إِيّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَوَحِش مَا ظهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطنَ وَ لا تَقْتُلُوا النّفْس الّتى حَرّمَ اللّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكمْ وَصاكُم بِهِ لَعَلّكمْ تَعْقِلُونَ (151) وَ لا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالّتى هِىَ أَحْسنُ حَتى يَبْلُغَ أَشدّهُ وَ أَوْفُوا الْكيْلَ وَ الْمِيزَانَ بِالْقِسطِ لا نُكلِّف نَفْساً إِلا وُسعَهَا وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذَلِكمْ وَصاكُم بِهِ لَعَلّكمْ تَذَكّرُونَ (152) وَ أَنّ هَذَا صرَطِى مُستَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَ لا تَتّبِعُوا السبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصاكُم بِهِ لَعَلّكمْ تَتّقُونَ (153) ثُمّ ءَاتَيْنَا مُوسى الْكِتَب تَمَاماً عَلى الّذِى أَحْسنَ وَ تَفْصِيلاً لِّكلِّ شىْءٍ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لّعَلّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هَذَا كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ فَاتّبِعُوهُ وَ اتّقُوا لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَن تَقُولُوا إِنّمَا أُنزِلَ الْكِتَب عَلى طائفَتَينِ مِن قَبْلِنَا وَ إِن كُنّا عَن دِرَاستهِمْ لَغَفِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَب لَكُنّا أَهْدَى مِنهُمْ فَقَدْ جَاءَكم بَيِّنَةٌ مِّن رّبِّكمْ وَ هُدًى وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظلَمُ مِمّن كَذّب بِئَايَتِ اللّهِ وَ صدَف عَنهَا سنَجْزِى الّذِينَ يَصدِفُونَ عَنْ ءَايَتِنَا سوءَ الْعَذَابِ بِمَا كانُوا يَصدِفُونَ (157)

بيان


تبين الآيات المحرمات العامة التي لا تختص بشريعة من الشرائع الإلهية، و هي الشرك بالله، و ترك الإحسان بالوالدين، و اقتراف الفواحش، و قتل النفس المحترمة بغير حق و يدخل فيه قتل الأولاد خشية إملاق و اقتراب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن و عدم إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و الظلم في القول، و عدم الوفاء بعهد الله، و اتباع غير سبيل الله المؤدي إلى الاختلاف في الدين.

و من شواهد أنها شرائع عامة أنا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء أممهم في تبليغاتهم الدينية كالذي نقل من نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى و عيسى و غيرهم (عليهم السلام)، و قد قال تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه": الشورى: 13 و من ألطف الإشارة التعبير عما أوتي نوح و إبراهيم و موسى و عيسى (عليهما السلام) بالتوصية ثم التعبير في هذه الآيات الثلاث التي تقص أصول المحرمات الإلهية أيضا بالتوصية حيث قال: "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" "ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".

على أن التأمل فيها يعطي أن الدين الإلهي لا يتم أمره و لا يستقيم حاله بدون شيء منها و إن بلغ من الإجمال و البساطة ما بلغ و بلغ الإنسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ.

قوله تعالى: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا" قيل: تعال مشتق من العلو و هو أمر بتقدير أن الأمر في مكان عال و إن لم يكن الأمر على ذلك بحسب الحقيقة، و التلاوة قريب المعنى من القراءة، و قوله: "عليكم" متعلق بقوله: "أتل" أو قوله: "حرم" على طريق التنازع في المتعلق، و ربما قيل: إن "عليكم" اسم فعل بمعنى خذوا و قوله: "ألا تشركوا" معموله و النظم: عليكم أن لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا "إلخ"، و هو خلاف ما يسبق إلى الذهن من السياق.

و لما كان قوله: "تعالوا أتل ما حرم" إلخ، دعوة إلى التلاوة وضع في الكلام عين ما جاء به الوحي في مورد المحرمات من النهي في بعضها و الأمر بالخلاف في بعضها الآخر فقال: "ألا تشركوا به شيئا" كما قال: "و لا تقتلوا أولادكم من إملاق" "و لا تقربوا الفواحش" إلخ، و قال: "و بالوالدين إحسانا" كما قال: "و أوفوا الكيل و الميزان" "و إذا قلتم فاعدلوا" إلخ.

و قد قدم الشرك على سائر المحرمات لأنه الظلم العظيم الذي لا مطمع في المغفرة الإلهية معه قال: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء": النساء: 48 و إليه ينتهي كل معصية كما ينتهي إلى التوحيد بوجه كل حسنة.

قوله تعالى: "و بالوالدين إحسانا" أي أحسنوا بالوالدين إحسانا، و في المجمع:، أي و أوصى بالوالدين إحسانا، و يدل على ذلك أن في "حرم كذا" معنى أوصى بتحريمه و أمر بتجنبه.

انتهى.



و قد عد في مواضع من القرآن الكريم إحسان الوالدين تاليا للتوحيد و نفي الشرك فأمر به بعد الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك به كقوله: "و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا": الإسراء: 23 و قوله: "و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم و وصينا الإنسان بوالديه": لقمان: 14 و غير ذلك من الآيات.

و يدل ذلك على أن عقوق الوالدين من أعظم الذنوب أو هو أعظمها بعد الشرك بالله العظيم، و الاعتبار يهدي إلى ذلك فإن المجتمع الإنساني الذي لا يتم للإنسان دونه حياة و لا دين هو أمر وضعي اعتباري لا يحفظه في حدوثه و بقائه إلا حب النسل الذي يتكىء على رابطة الرحمة المتكونة في البيت القائمة بالوالدين من جانب و بالأولاد من جانب آخر، و الأولاد إنما يحتاجون إلى رحمتهما و إحسانهما في زمان تتوق أنفسهما إلى نحو الأولاد بحسب الطبع، و كفى به داعيا و محرضا لهما إلى الإحسان إليهم بخلاف حاجتهم إلى رأفة الأولاد و رحمتهم فإنها بالطبع يصادف كبرهما و يوم عجزهما عن الاستقلال بالقيام بواجب حياتهما و شباب الأولاد و قوتهم على ما يعنيهم.

و جفاء الأولاد للوالدين و عقوقهم لهما يوم حاجتهما إليهم و رجائهما منهم و انتشار ذلك بين النوع يؤدي بالمقابلة إلى بطلان عاطفة التوليد و التربية، و يدعو ذلك من جهة إلى ترك التناسل و انقطاع النسل، و من جهة إلى كراهية تأسيس البيت و التكاهل في تشكيل المجتمع الصغير، و الاستنكاف عن حفظ سمة الأبوة و الأمومة، و ينجر إلى تكون طبقة من الذرية الإنسانية لا قرابة بينهم و لا أثر من رابطة الرحم فيهم، و يتلاشى عندئذ أجزاء المجتمع، و يتشتت شملهم، و يتفرق جمعهم، و يفسد أمرهم فسادا لا يصلحه قانون جار و لا سنة دائرة، و يرتحل عنهم سعادة الدنيا و الآخرة، و سنقدم إليك بحثا ضافيا في هذه الحقيقة الدينية إن شاء الله.

قوله تعالى: "و لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهم" الإملاق الإفلاس من المال و الزاد و منه التملق، و قد كان هذا كالسنة الجارية بين العرب في الجاهلية لتسرع الجدب و القحط إلى بلادهم فكان الرجل إذا هدده الإفلاس بادر إلى قتل أولاده تأنفا من أن يراهم على ذلة العدم و الجوع.

و قد علل النهي بقوله: "نحن نرزقكم و إياهم" أي إنما تقتلونهم مخافة أن لا تقدروا على القيام بأمر رزقهم و لستم برازقين لهم بل الله يرزقكم و إياهم جميعا فلا تقتلوهم.

قوله تعالى: "و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن" الفواحش جمع فاحشة و هي الأمر الشنيع المستقبح، و قد عد الله منها في كلامه الزنا و اللواط و قذف المحصنات، و الظاهر أن المراد مما ظهر و مما بطن العلانية و السر كالزنا العلني و اتخاذ الأخدان و الأخلاء سرا.

و في استباحة الفاحشة إبطال فحشها و شناعتها، و في ذلك شيوعها لأنها من أعظم ما تتوق إليه النفس الكارهة لأن يضرب عليها بالحرمان من ألذ لذائذها و تحجب عن أعجب ما تتعلق به و تعزم به شهوتها، و في شيوعها انقطاع النسل و بطلان المجتمع البيتي و في بطلانه بطلان المجتمع الكبير الإنساني، و سوف نستوفي هذا البحث إن شاء الله فيما يناسبه من المحل.

و كذلك استباحة القتل و ما في تلوه من الفحشاء إبطال للأمن العام و في بطلانه انهدام بنية المجتمع الإنساني و تبدد أركانه.



قوله تعالى: "و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" أي حرم الله قتلها أو حرمها بالحرمة المشرعة لها التي تقيها و تحميها من الضيعة في دم أو حق، قيل: إنه تعالى أعاد ذكر القتل و إن كان داخلا في الفواحش تفخيما لشأنه و تعظيما لأمره، و نظيره الكلام في قتل الأولاد خشية الإملاق اختص بالذكر عناية به، و قد كانت العرب تفعل ذلك بزعمهم أن خشية الإملاق تبيح للوالد أن يقتل أولاده، و يصان به ماء وجهه من الابتذال، و الأبوة عندهم من أسباب الملك.

و قد استثنى الله تعالى من جهة قتل النفس المحترمة التي هي نفس المسلم و المعاهد قتلها بالحق و هو القتل بالقود و الحد الشرعي.

ثم أكد تحريم المذكورات في الآية بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" سيجيء الوجه في تعليل هذه المناهي الخمس بقوله: "لعلكم تعقلون".

قوله تعالى: "و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده" النهي عن القرب للدلالة على التعميم فلا يحل أكل ماله و لا استعماله و لا أي تصرف فيه إلا بالطريقة التي هي أحسن الطرق المتصورة لحفظه، و يمتد هذا النهي و تدوم الحرمة إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغ أشده لم يكن يتيما قاصرا عن إدارة ماله و كان هو المتصرف في مال نفسه من غير حاجة بالطبع إلى تدبير الولي لماله.

و من هنا يظهر أن المراد ببلوغه أشده هو البلوغ و الرشد كما يدل عليه أيضا قوله: "و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم و لا تأكلوها إسرافا و بدارا أن يكبروا": النساء: 6.

و يظهر أيضا أنه ليس المراد بتحديد حرمة التصرف في مال اليتيم بقوله: "حتى يبلغ أشده" رفع الحرمة بعد بلوغ الأشد و إباحة التصرف حينئذ بل المراد بيان الوقت الذي يصلح للاقتراب من ماله، و ارتفاع الموضوع بعده فإن الكلام في معنى: و أصلحوا مال اليتيم الذي لا يقدر على إصلاح ماله و إنمائه حتى يكبر و يقدر.

قوله تعالى: "و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها" الإيفاء بالقسط هو العمل بالعدل فيهما من غير بخس، و قوله: "لا نكلف نفسا إلا وسعها" بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل: إن الإيفاء بالقسط و الوقوع في العدل الحقيقي الواقعي لا يمكن للنفس الإنسانية التي لا مناص لها عن أن تلتجىء في أمثال هذه الأمور إلى التقريب فأجيب بأنا لا نكلف نفسا إلا وسعها، و من الجائز أن يتعلق قوله: "لا نكلف نفسا إلا وسعها" بالحكمين جميعا أعني قوله: "و لا تقربوا مال اليتيم" إلخ، و قوله: "و أوفوا الكيل و الميزان".

قوله تعالى: "و إذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى" ذكر ذي القربى و هو الذي تدعو عاطفة القرابة و الرحم إلى حفظ جانبه و صيانته من وقوع الشر و الضرر في نفسه و ماله يدل على أن المراد بالقول هو القول الذي يمكن أن يترتب عليه انتفاع الغير أو تضرره كما أن ذكر العدل في القول يؤيد ذلك، و يدل على أن هناك ظلما، و أن القول متعلق ببعض الحقوق كالشهادة و القضاء و الفتوى و نحو ذلك.

فالمعنى: و راقبوا أقوالكم التي فيها نفع أو ضرر للناس و اعدلوا فيها، و لا يحملنكم رحمة أو رأفة أو أي عاطفة على أن تراعوا جانب أحد فتحرفوا الكلام و تجاوزوا الحق فتشهدوا أو تقضوا بما فيه رعاية لجانب من تحبونه و إبطال حق من تكرهونه.

قال في المجمع:، و هذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير و الشهادات، و الوصايا و الفتاوى، و القضايا، و الأحكام، و المذاهب، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر.



قوله تعالى: "و بعهد الله أوفوا" قال الراغب في المفردات،: العهد حفظ الشيء و مراعاته حالا بعد حال.

انتهى.

و لذا يطلق على الفرامين و التكاليف المشرعة و الوظائف المحولة و على العهد الذي هو الموثق و على النذر و اليمين.

و كثرة استعماله في القرآن الكريم في الفرامين الإلهية، و إضافته في الآية إلى الله سبحانه، و مناسبة المورد و فيه بيان الأحكام و الوصايا الإلهية العامة كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بقوله: "و بعهد الله أوفوا" التكاليف الدينية الإلهية، و إن كان من الممكن أن يكون المراد بالعهد هو الميثاق المعقود بمثل قولنا: عاهدت الله على كذا و كذا، قال تعالى: "و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا": الإسراء: 34 فيكون إضافته إلى الله نظير إضافة الشهادة إليه في قوله: "و لا نكتم شهادة الله": المائدة: 106 للإشارة إلى أن المعاملة فيه معه سبحانه.

ثم أكد التكاليف المذكورة في الآية بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون".

قوله تعالى: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" إلى آخر الآية، قرىء: "و أن" بفتح الهمزة و تشديد النون و تخفيفها و كأنه بالعطف على موضع قوله: "ألا تشركوا به شيئا" و قرىء بكسر الهمزة على الاستئناف.

و الذي يعطيه سياق الآيات أن يكون مضمون هذه الآية أحد الوصايا التي أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتلوها عليهم و يخبرهم بها حيث قيل: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم"، و لازم ذلك أن يكون قوله: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه" مسوقا لا لتعلق الغرض به بنفسه لأن كليات الدين قد تمت في الآيتين السابقتين عليه بل ليكون توطئة و تمهيدا لقوله بعده: "و لا تتبعوا السبل" كما أن هذه الجملة بعينها كالتوطئة لقوله: "فتفرق بكم عن سبيله" فالمراد بالآية أن لا تتفرقوا عن سبيله و لا تختلفوا فيه، فتكون الآية مسوقة سوق قوله: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه": الشورى: 13 فالأمر في الآية بإقامة الدين هو ما وصى من الدين المشروع كأنه أعيد ليكون تمهيدا للنهي عن التفرق بالدين.

فالمعنى: و مما حرم ربكم عليكم و وصاكم به أن لا تتبعوا السبل التي دون هذا الصراط المستقيم الذي لا يقبل التخلف و الاختلاف و هي غير سبيل الله فإن اتباع السبل دونه يفرقكم عن سبيله فتختلفون فيه فتخرجون من الصراط المستقيم إذ الصراط المستقيم لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه.



و مقتضى ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: "صراطي" صراط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه هو الذي يخاطب الناس بهذه التكاليف عن أمر من ربه إذ يقول: "قل تعالوا أتل" إلخ، فهو المتكلم معهم المخاطب لهم، و لله سبحانه في الآيات مقام الغيبة حتى في ذيل هذه الآية إذ يقول: "فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به" و لا ضير في نسبة الصراط المستقيم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد نسب الصراط المستقيم إلى جمع من عباده الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين في قوله: "اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم": الحمد: 7.

لكن المفسرين كأنهم تسلموا أن ضمير التكلم في قوله: "صراطي" لله سبحانه ففي الآية نوع من الالتفات لكن لا في قوله: "صراطي" بل في قوله: "عن سبيله" فإن معنى الآية: تعالوا أتل عليكم ما وصاكم به ربكم و هو أنه يقول لكم: "إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه" أو وصيته "إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيلي" فالالتفات - كما مر - إنما هو في قوله: "عن سبيله".

و كيف كان فهو تعالى في الآية يسمي ما ذكره من كليات الدين بأنه صراطه المستقيم الذي لا تخلف في هداية سالكيه و إيصالهم إلى المقصد و لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه ما داموا عليه فلا يتفرقون البتة ثم ينهاهم عن اتباع سائر السبل فإن من شأنها إلقاء الخلاف و التفرقة لأنها طرق الأهواء الشيطانية التي لا ضابط يضبطها بخلاف سبيل الله المبني على الفطرة و الخلقة و لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم.

ثم أكد سبحانه حكمه في الآية بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".

و قد اختلفت الخواتيم في الآيات الثلاث فختمت الآية الأولى بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" و الثانية بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" و الثالثة بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".

و لعل الوجه في ذلك أن الأمور المذكورة في الآية الأولى و هي الشرك بالله العظيم و عقوق الوالدين و قتل الأولاد من إملاق و قربان الفواحش الشنيعة و قتل النفس المحترمة من غير حق مما تدرك الفطرة الإنسانية حرمتها في بادىء نظرها و لا يجترىء عليها الإنسان الذي يتميز من سائر الحيوان بالعقل إلا إذا اتبع الأهواء و أحاطت به العواطف المظلمة التي تضرب بحجاب ثخين دون العقل.

فمجرد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة و الخروج عن خالصة الأهواء يكشف للإنسان عن حرمتها و شآمتها على الإنسان بما هو إنسان، و لذلك ختمت بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون".

و ما ذكر منها في الآية الثانية و هي الاجتناب عن مال اليتيم، و إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و العدل في القول، و الوفاء بعهد الله أمور ليست بمثابة ما تليت في الآية الأولى من الظهور بل يحتاج الإنسان مع تعبيه بالعقل في إدراك حالها إلى التذكر و هو الرجوع إلى المصالح و المفاسد العامة المعلومة عند العقل الفطري حتى يدرك ما فيها من المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعه المشرفة به و بسائر بني نوعه إلى التهلكة فما ذا يبقى من الخير في مجتمع إنساني لا يرحم فيه الصغير و الضعيف، و يطفف فيه الكيل و الوزن، و لا يعدل فيه في الحكم و القضاء، و لا يصغى فيه إلى كلمة الحق، و لهذه النكتة ختمت الآية بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون".

و الغرض المسوق له الآية الثالثة هو النهي عن التفرق و الاختلاف في الدين باتباع سبل غير سبيل الله، و اتباع هاتيك السبل من شأنه أن التقوى الديني لا يتم إلا بالاجتناب عنه.



و ذلك أن التقوى الديني إنما يحصل بالتبصر في المناهي الإلهية و الورع عن محارمه بالتعقل و التذكر، و بعبارة أخرى بالتزام الفطرة الإنسانية التي بني عليها الدين، و قد قال تعالى: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها": الشمس: 8 و قد وعد الله المتقين إن اتقوا يمددهم بما يتضح به سبيلهم و يفرق به بين الحق و الباطل عندهم فقال: "و من يتق الله يجعل له مخرجا": الطلاق: 2 و قال: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا": الأنفال: 29.

فهو على صراط التقوى ما دام ملازما لطريق التعقل و التذكر جاريا على مجرى الفطرة، و إذا انحرف إلى الخارج من هذا الصراط و ليس إلا اتباع الأهواء و الإخلاد إلى الأرض و الاغترار بزينة الحياة الدنيا جذبته الأهواء و العواطف إلى الاسترسال و العكوف على مخالفة العقل السليم و ترك التقوى الديني من غير مبالاة بما يهدده من شؤم العاقبة كالسكران لا يدري ما يفعل و لا ما يفعل به.

و الأهواء النفسانية مختلفة لا ضابط يضبطها و لا نظام يحكم عليها يجتمع فيه أهلها و لذلك لا تكاد ترى اثنين من أهل الأهواء يتلازمان في طريق أو يتصاحبان إلى غاية، و قد عد الله سبحانه لهم في كلامه سبلا شتى كقوله: "و لتستبين سبيل المجرمين": الأنعام: 55 و قوله: "و لا تتبع سبيل المفسدين": الأعراف: 142 و قوله: "و لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون": يونس: 89 و قوله في المشركين: "إن يتبعون إلا الظن و ما تهوى الأنفس و لقد جاءهم من ربهم الهدى": النجم: 23 و أنت إن تتبعت آيات الهدى و الضلال و الاتباع و الإطاعة وجدت في هذا المعنى شيئا كثيرا.

و بالجملة التقوى الديني لا يحصل بالتفرق و الاختلاف، و الورود في أي مشرعة شرعت، و السلوك من أي واد لاح لسالكه بل بالتزام الصراط المستقيم الذي لا تخلف فيه و لا اختلاف فذلك هو الذي يرجى معه التلبس بلباس التقوى، و لذلك عقب الله سبحانه قوله: "و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" بقوله: "ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".

و قال في روح المعاني: و ختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: "لعلكم تعقلون" و هذه - يعني الثانية - بقوله: "لعلكم تذكرون" لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك و قتل الأولاد و قربان الزنا و قتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين و لا عاقلين قبحها فنهاهم لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها و يتركوها، و أما حفظ أموال اليتامى عليهم و إيفاء الكيل و العدل في القول و الوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه و يفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان، قاله القطب الرازي.

انتهى.

و أنت خبير بأن الذي ذكره من اتصافهم بحفظ أموال اليتامى و إيفاء الكيل و العدل في القول لا يوافق ما ضبط التاريخ من خصال عرب الجاهلية، على أن الذي فسر به التذكر إنما هو معنى الذكر دون التذكر في عرف القرآن.

ثم قال: و قال الإمام - يعني الرازي - في التفسير الكبير:، السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها و تفهمها و التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية - يعني الثانية - أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد و الفكر الكثير حتى يقف على موضوع الاعتدال و هو التذكر.

انتهى.



و ما ذكره من الوجه قريب المأخذ مما قدمناه غير أن الأمور الأربعة المذكورة في الآية الثانية مما يناله الإنسان بأدنى تأمل، و ليست بذلك الخفاء و الغموض الذي وصفه، و لذا التجأ إلى إرجاع التذكر إلى الوقوف على حد الاعتدال فيها دون أصلها فأفسد بذلك معنى الآية فإن مقتضى السياق رجوع رجاء التذكر إلى أصل ما وصى به فيها، و الذي يحتاج منها بحسب الطبع إلى الوقوف حد اعتداله هما الأمران الأولان أعني قربان مال اليتيم و إيفاء الكيل و الوزن، و قد تدورك أمرهما بقوله: "لا نكلف نفسا إلا وسعها" فافهم ذلك.

ثم قال في الآية الثالثة: قال أبو حيان: و لما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف و أمر سبحانه باتباعه و نهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية، و حصل على السعادة السرمدية انتهى.

و هو مبني على جعل الأمر باتباع الصراط المستقيم في الآية مما تعلق به القصد بالأصالة و قد تقدم أن مقتضى السياق كونه مقدمة للنهي عن التفرق باتباع السبل الأخرى.

و توطئة لقوله: "و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله".

قوله تعالى: "ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن" إلى آخر الآية، لما كان ما ذكره و وصى به من كليات الشرائع تكاليف مشرعة عامة لجميع ما أوتي الأنبياء من الدين، و هي أمور كلية مجملة صحح ذلك الالتفات إلى بيان أنه تعالى بعد ما شرعها للجميع إجمالا فصلها حيث اقتضت تفصيلها لموسى (عليه السلام) أولا فيما أنزل عليه من الكتاب، و للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثانيا فيما أنزله عليه من كتاب مبارك فقال تعالى: "ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن و تفصيلا لكل شيء" إلخ.

فمعنى الآية: أنا بعد ما شرعنا من إجمال الشرائع الدينية آتينا موسى الكتاب تماما تتم به نقيصة من أحسن منهم من حيث الشرع الإجمالي و تفصيلا يفصل به كل شيء من فروع هذه الشرائع الإجمالية مما يحتاج إليه بنو إسرائيل و هدى و رحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون.

هذا هو الذي يعطيه سياق الآية المتصل بسياق الآيات الثلاث السابقة.

فقوله: "ثم آتينا موسى الكتاب" رجوع إلى السياق السابق الذي قبل قوله: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" الآيات، و هو خطاب الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بصيغة المتكلم مع الغير، و قد أفيد بالتأخير المستفاد من لفظة "ثم" أن هذا الكتاب إنما أنزل ليكون تماما و تفصيلا للإجمال الذي في تلك الشرائع العامة الكلية.

و قد وجه المفسرون قوله: "ثم آتينا موسى الكتاب" بوجوه غريبة: منها: أن في الكلام حذفا و التقدير: ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب.

و منها: أن التقدير: ثم أخبركم أن موسى أعطي الكتاب.

و منها: أن التقدير: ثم أتل عليكم: آتينا موسى الكتاب.

و منها: أنه متصل بقوله في قصة إبراهيم: "و وهبنا له إسحاق و يعقوب" و النظم: "و وهبنا له إسحاق و يعقوب ثم آتينا موسى الكتاب".

و الذي دعاهم إلى هذه التكلفات أن التوراة قبل القرآن و لفظة "ثم" تقتضي التراخي و لازمه نزول التوراة بعد القرآن و قد قيل قبل ذلك: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم".

و ما تقدم من البيان يكفيك مئونة هذه الوجوه.



و قوله: "تماما على الذي أحسن" يبين أن إنزال الكتاب لتتم به نقيصة الذين أحسنوا من بني إسرائيل في العمل بهذه الشرائع الكلية العامة، و قد قال تعالى في قصة موسى بعد نزول الكتاب: "و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء فخذها بقوة و أمر قومك يأخذوا بأحسنها": الأعراف: 145 و قال: "و ادخلوا الباب سجدا و قولوا حطة نغفر لكم خطاياكم و سنزيد المحسنين": البقرة: 58 و على هذا فالموصول في قوله: "على الذي أحسن" يفيد الجنس.

و قد ذكروا في معنى الجملة وجوها أخرى فقيل: المعنى: تماما على إحسان موسى بالنبوة و الكرامة، و قيل: المعنى: إتماما للنعمة على الذين أحسنوا من المؤمنين، و قيل: المعنى: إتماما للنعمة على الأنبياء الذين أحسنوا، و قيل: المعنى: تماما لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا، و قيل: المعنى تماما على الذي أحسن الله إلى موسى من الكرامة بالنبوة و غيرها، و قيل: إنه متصل بقصة إبراهيم و المعنى: تماما للنعمة على إبراهيم.

و ضعف الجميع ظاهر.

و قوله: "و تفصيلا لكل شيء" أي مما يحتاج إليه بنو إسرائيل أو ينتفع به غيرهم ممن بعدهم، و هدى يهتدي به و رحمة ينعمون بها.

و قوله: "لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون" فيه إشارة إلى أن بني إسرائيل كانوا يتثاقلون أو يستنكفون عن الإيمان بلقاء الله و اليوم الآخر، و مما يؤيده أن التوراة الحاضرة التي يذكر القرآن أنها محرفة لا يوجد فيها ذكر من البعث يوم القيامة، و قد ذكر بعض المورخين منهم أن شعب إسرائيل ما كانت تعتقد المعاد.

قوله تعالى: "و هذا كتاب أنزلناه مبارك" إلى آخر الآية، أي و هذا كتاب مبارك يشارك كتاب موسى فيما ذكرناه من الخصيصة فاتبعوه "إلخ".

قوله تعالى: "أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا" إلخ، "أن تقولوا" معناه كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا، و هو شائع في الكلام، و هو متعلق بقوله في الآية السابقة: "أنزلناه".

و قوله: "طائفتين من قبلنا" يراد به اليهود و النصارى أنزل عليهما التوراة و الإنجيل، و أما كتب الأنبياء النازلة قبلهما مما يذكره القرآن مثل كتاب نوح و كتاب إبراهيم (عليه السلام) فلم يكن فيها تفصيل الشرائع و إن اشتملت على أصلها، و أما سائر ما ينسب إلى الأنبياء (عليهم السلام) من الكتب كزبور داود (عليه السلام) و غيره فلم تكن فيها شرائع و لا لهم بها عهد.

و المعنى أنا أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا: إن الكتاب الإلهي المفصل لشرائعه إنما أنزل على طائفتين من قبلنا هم اليهود و النصارى و إنا كنا غافلين عن دراستهم و تلاوتهم، و لا بأس علينا مع الغفلة.

قوله تعالى: "أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم" إلى آخر الآية أي من الذين أنزل إليهم الكتاب قبلنا، و قوله: "فقد جاءكم بينة من ربكم" تفريع لقوليه: "أن تقولوا" "أو تقولوا" جميعا، و قد بدل الكتاب من البينة ليدل به على ظهور حجته و وضوح دلالته بحيث لا يبقى عذر لمعتذر و لا علة لمتعلل، و الصدف الإعراض و معنى الآية ظاهر.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: كنت جالسا عند أبي جعفر (عليه السلام) و هو متك على فراشه إذ قرأ الآيات المحكمات التي لم ينسخهن شيء من الأنعام قال: شيعها سبعون ألف ملك: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم - ألا تشركوا به شيئا".



و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلاه؟ "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" إلى ثلاث آيات. ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله، و من انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، و من أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء عفا عنه.

أقول: و الرواية لا تخلو عن شيء فإن فيما ذكر في الآيات الشرك بالله و لا تكفي فيه عقوبة الدنيا و لا تناله مغفرة في الآخرة بنص القرآن، قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به: "النساء: 48 و قال: "إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار أولئك عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين، خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون: البقرة: 162.

على أن ظاهر الرواية كون هذه الأحكام مما يختص بهذه الشريعة كما يشعر به ما نقل عن بعض الصحابة و التابعين كالذي رواه في الدر المنثور، عن جمع عن ابن مسعود قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى قوله - لعلكم تتقون، و نظيره ما روي عن منذر الثوري عن الربيع بن خيثم.

و في تفسير العياشي، عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن علي بن الحسين (عليهما السلام): الفواحش ما ظهر منها و ما بطن قال: ما ظهر من نكاح امرأة الأب و ما بطن منها الزنا.

أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائي و البزاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط و عن شماله ثم قال: و هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه - و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

و فيه، أخرج أحمد و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخط خطا هكذا أمامه فقال: هذا سبيل الله، و خطين عن يمينه و خطين عن شماله فقال: هذا سبيل الشيطان ثم وضع يده في الخط الأوسط و قرأ: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه" الآية.

و في تفسير القمي:، أخبرنا الحسن بن علي عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن محمد بن سنان عن أبي خالد القماط عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "هذا صراطي مستقيما فاتبعوه - و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" قال نحن السبيل فمن أبى فهذه السبل فقد كفر.

أقول: و هو من الجري، و الذي ذكره (عليه السلام) مستفاد من قوله تعالى: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى": الشورى: 23.

إذا انضم إلى قوله: "قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا": الفرقان: 57.

و قد وردت عدة روايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن عليا هو الصراط المستقيم، و قد تقدمت الإشارة إليها في تفسير سورة الفاتحة في الجزء الأول من الكتاب.

6 سورة الأنعام - 158 - 160

هَلْ يَنظرُونَ إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَئكَةُ أَوْ يَأْتىَ رَبّك أَوْ يَأْتىَ بَعْض ءَايَتِ رَبِّك يَوْمَ يَأْتى بَعْض ءَايَتِ رَبِّك لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَنهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَت مِن قَبْلُ أَوْ كَسبَت فى إِيمَنهَا خَيراً قُلِ انتَظِرُوا إِنّا مُنتَظِرُونَ (158) إِنّ الّذِينَ فَرّقُوا دِينهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لّست مِنهُمْ فى شىْءٍ إِنّمَا أَمْرُهُمْ إِلى اللّهِ ثُمّ يُنَبِّئُهُم بمَا كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَن جَاءَ بِالحَْسنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمْثَالِهَا وَ مَن جَاءَ بِالسيِّئَةِ فَلا يجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ (160)

بيان


الآيات متصلة بما قبلها و هي تتضمن تهديد من استنكف من المشركين عن الصراط المستقيم و تفرق شيعا، و تبرئة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المفرقين دينهم، و وعدا حسنا لمن جاء بالحسنة و إنجازا للجزاء.

قوله تعالى: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك" استفهام إنكاري في مقام لا تنفع فيه عظة و لا تنجح فيه دعوة فالأمور المذكورة في الآية لا محالة أمور لا تصحب إلا القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل بإذهابهم و تطهير الأرض من رجسهم.

و لازم هذا السياق أن يكون المراد بإتيان الملائكة نزولهم بآية العذاب كما يدل عليه قوله تعالى: "و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين، ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين: الحجر: 8.

و يكون المراد بإتيان الرب هو يوم اللقاء و هو الانكشاف التام لآية التوحيد بحيث لا يبقى عليه ستر كما هو شأن يوم القيامة المختص بانكشاف الغطاء، و المصحح لإطلاق الإتيان على ذلك هو الظهور بعد الخفاء و الحضور بعد الغيبة جل شأنه عن الاتصاف بصفات الأجسام.

و ربما يقال: إن المراد إتيان أمر الرب و قد مر نظيره في قوله تعالى: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام": البقرة: 210 في الجزء الثاني من الكتاب.

و يكون المراد بإتيان بعض آيات الرب إتيان آية تلازم تبدل نشأة الحياة عليهم بحيث لا سبيل إلى العود إلى فسحة الاختيار كآية الموت التي تبدل نشأة العمل نشأة الجزاء البرزخي أو تلازم استقرار ملكة الكفر و الجحود في نفوسهم استقرارا لا يمكنهم معه الإذعان بالتوحيد و الإقبال بقلوبهم إلى الحق إلا ما كان بلسانهم خوفا من شمول السخط و العذاب كما ربما دل عليه قوله تعالى: "و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون": النمل: 82.

و كذا قوله تعالى: "و يقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين، قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم و لا هم ينظرون": السجدة: 29 فإن الظاهر أن المراد بالفتح هو الفتح للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقضاء بينه و بين أمته بالقسط كما حكاه الله تعالى عن شعيب (عليه السلام) في قوله: "ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين": الأعراف: 89 و حكاه عن رسله في قوله: "و استفتحوا و خاب كل جبار عنيد": إبراهيم: 15.

أو تلازم بأسا من الله تعالى لا مرد له و لا محيص عنه فيضطرهم الله الإيمان ليتقوا به أليم العذاب لكن لا ينفعهم ذلك فلا ينفع من الإيمان إلا ما كان عن اختيار كما يدل عليه قوله تعالى: "فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده و خسر هنالك الكافرون": المؤمن: 85.

فهذه أعني إتيان الملائكة أو إتيان الرب أو إتيان بعض آياته أمور تصاحب القضاء بينهم بالقسط و هم لكونهم لا تؤثر فيهم حجة و لا تنفعهم موعظة لا ينظرون إلا ذلك و إن ذهلوا عنه فإن الواقع أمامهم علموا أو جهلوا.

و ربما قيل: إن الاستفهام للتهكم، فإنهم كانوا يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينزل عليهم الملائكة أو يروا ربهم أو يأتيهم بآية كما أرسل الأولون فكأنه قيل: هؤلاء لا يريدون حجة و إنما ينتظرون ما اقترحوه من الأمور.

و هذا الوجه غير بعيد بالنسبة إلى صدر الآية لكن ذيلها أعني قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك" إلخ، لا يلائمه تلك الملاءمة فإن التهكم لا يتعدى فيه إلى بيان الحقائق و تفصيل الآثار.

قوله تعالى: "يوم يأتي بعض آيات ربك" إلى آخر الآية، يشرح خاصة يوم ظهور هذه الآيات، و هي في الحقيقة خاصة نفس الآيات و هي أن الإيمان لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمان طوع و اختيار أو آمنت قبله و لم تكن كسبت في إيمانها خيرا و لم تعمل صالحا بل انهمكت في السيئات و المعاصي إذ لا توبة لمثل هذا الإنسان، قال تعالى: "و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن": النساء: 18، فالنفس التي لم تؤمن من قبل إيمان طوع و رضى أو آمنت بالله و كذبت بآيات الله و لم تعتن بشيء من شرائع الله و استرسلت في المعاصي الموبقة و لم تكتسب شيئا من صالح العمل فيما كان عليها ذلك ثم شاهدت البأس الإلهي فحملها الاضطرار إلى الإيمان لترد به بأس الله تعالى لم ينفعها ذلك، و لم يرد عنها بأسا و لا يرد بأسه عن القوم المجرمين.

و في الآية من بديع النظم و لطيف السياق أنه كرر فيها لفظ "ربك" ثلاث مرات و ليس إلا لتأييد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه خصمه و هم المشركون حيث كانوا يفتخرون بأربابهم و يباهون بأوثانهم ليعتز بربه و يثبت به قلبه و يربط جأشه في دعوته إن نجحت و إلا فبالقضاء الفصل الذي يقضي به ربه بينه و بين خصمه ثم أكد ذلك و زاد في طمأنة نفسه بقوله في ختام الآية: "قل انتظروا إنا منتظرون" أي فانتظر أنت ما هم منتظرون، و أخبرهم أنك في انتظاره، و مرهم أن ينتظروه فهو الفصل و ليس بالهزل.

و من هنا يظهر أن الآية تتضمن تهديدا جديا لا تخويفا صوريا و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم في دفع قول القائل: إن الاستفهام في الآية للتهكم فقال: إن هذه الآيات الثلاث هي ما ينتظرونه كغيرهم في نفس الأمر فلا يصح أن يراد بهذا البعض شيء مما اقترحوه لأن إيتاء الآيات المقترحة على الرسل يقتضي في سنة الله هلاك الأمة بعذاب الاستئصال إذا لم تؤمن به، و الله لا يهلك أمة نبي الرحمة.

انتهى.

و فيه: أن دلالة الآيات القرآنية على أن هذه الأمة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل مما لا سترة عليها كقوله: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون، و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل لا أملك لنفسي ضرا و لا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل - إلى أن قال - و يستنبئونك أ حق هو قل إي و ربي إنه لحق و ما أنتم بمعجزين" إلى آخر الآية: يونس: 47 - 53.

و قد استدل بالآية على أن الإيمان لا أثر له إذا لم يقترن بالعمل و هو حق في الجملة لا مطلقا فإن الآية في مقام بيان أن من كان في وسعه أن يؤمن بالله فلم يؤمن أو في وسعه أن يؤمن و يعمل صالحا فآمن و لم يعمل صالحا حتى لحقه البأس الإلهي الشديد الذي يضطره إلى ذلك فإنه لا ينتفع بإيمانه، و أما من آمن طوعا فأدركه الموت و لم يمهله الأجل حتى يعمل صالحا و يكسب في إيمانه خيرا فإن الآية غير متعرضة لبيان حاله بل الآية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على أن النافع إنما هو الإيمان إذا كان عن طوع و لم يحط به الخطيئة و لم تفسده السيئة.



و في قوله: "لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت" الفصل بين الموصوف و الوصف بفاعل الفعل و هو إيمانها و كأنه للاحتراز عن الفصل الطويل بين الفعل و فاعله، و اجتماع "في إيمانها" و "إيمانها" في اللفظ.

قوله تعالى: "إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء" إلخ، وجه الكلام السابق و إن كان مع المشركين و قد ابتلوا بتفريق الدين الحنيف، و كان أيضا لأهل الكتاب نصيب من الكلام و ربما لوح إليهم بعض التلويح و لازم ذلك أن ينطبق قوله: "الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا" على المشركين بل عليهم و على اليهود و النصارى لاشتراك الجميع في التفرق و الاختلاف في الدين الإلهي.

لكن اتصال الكلام بالآيات المبينة للشرائع العامة الإلهية التي تبتدىء بالنهي عن الشرك و تنتهي إلى النهي عن التفرق عن سبيل الله يستدعي أن يكون قوله: "الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا" موضوعا لبيان حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع من كان هذا وصفه فالإتيان بصيغة الماضي في قوله: "فرقوا دينهم" لبيان أصل التحقق سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل لا تحقق الفعل في الزمان الماضي فحسب.

و من المعلوم أن تمييز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إخراجه من أولئك المختلفين في الدين المتفرقين شيعة شيعة كل شيعة يتبع إماما يقودهم ليس إلا لأنه رسول يدعو إلى كلمة الحق و دين التوحيد، و مثال كامل يمثل بوجوده الإسلام و يدعو بعمله إليه فيعود معنى قوله: "لست منهم في شيء" إلى أنهم ليسوا على دينك الذي تدعو إليه، و لا على مستوى طريقك الذي تسلكه.

فمعنى الآية أن الذين فرقوا دينهم بالاختلافات التي هي لا محالة ناشئة عن العلم - و ما اختلف الذين أوتوه إلا بغيا بينهم - و الانشعابات المذهبية ليسوا على طريقتك التي بنيت على وحدة الكلمة و نفي الفرقة إنما أمرهم في هذا التفريق إلى ربهم لا يماسك منهم شيء فينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون و يكشف لهم حقيقة أعمالهم التي هم رهناؤها.

و قد تبين بما مر أن لا وجه لتخصيص الآية بتبرئته (صلى الله عليه وآله وسلم) من المشركين أو منهم و من اليهود و النصارى، أو من المختلفين بالمذاهب و البدع من هذه الأمة فالآية عامة تعم الجميع.

قوله تعالى: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها و هم لا يظلمون" الآية تامة في نفسها تكشف عن منة إلهية يمتن بها على عباده أنه يجازي الحسنة بعشر أمثالها، و لا يجازي السيئة إلا بمثلها أي يحسب الحسنة عشرة و السيئة واحدة و لا يظلم في الإيفاء فلا ينقص من تلك و لا يزيد في هذه، إن أمكن أن يزيد في جزاء الحسنة فيزيد على العشر كما يدل عليه قوله: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و الله يضاعف لمن يشاء": البقرة: 261 و أمكن أن يعفو عن السيئة فلا يحسب حق المثل الواحد.

لكنها أعني الآية باتصالها بما تقدمها و انتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى آخر كأنه قيل بعد سرد الكلام في الآيات السابقة في الاتفاق و الاجتماع على الحق و التفرق فيه: فهاتان خصلتان حسنة و سيئة يجزى فيهما ما يماثلهما و لا ظلم فإن الجزاء يماثل العمل فمن جاء بالحسنة فله مثلها و يضاعف له و من جاء بالسيئة و هي الاختلاف المنهي عنه فلا يجزى إلا سيئة مثلها و لا يطمعن في الجزاء الحسن، و عاد المعنى إلى نظير ما استفيد من قوله: "و جزاء سيئة سيئة مثلها": الشورى: 40 أن المراد به بيان مماثلة جزاء السيئة لها في كونها سيئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة و نفي المضاعفة.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها" قال: طلوع الشمس من المغرب و خروج الدابة و الدخان، و الرجل يكون مصرا و لم يعمل عمل الإيمان ثم تجيء الآيات فلا ينفعه إيمانه.

أقول: و قوله: الرجل يكون مصرا "إلخ" تفسير لقوله: "أو كسبت في إيمانها خيرا" على ما قدمناه و يدل عليه الرواية الآتية.

و فيه، عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله: "أو كسبت في إيمانها خيرا" قال: المؤمن العاصي حالت بينه و بين إيمانه كثرة ذنوبه و قلة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيرا.

و في تفسير القمي، حدثني أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك" الآية قال: إذا طلعت الشمس من مغربها فكل من آمن في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد في مسنده و الترمذي و أبو يعلى و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "يوم يأتي بعض آيات ربك" قال: طلوع الشمس من مغربها.

أقول: و الظاهر أن الرواية من قبيل الجري و كذا ما تقدم من الروايات و يمكن أن يكون من التفسير، و كيف كان فهو يوم تظهر فيه البطشة الإلهية التي تلجىء الناس إلى الإيمان و لا ينفعهم.

و قد ورد طلوع الشمس من مغربها في أحاديث كثيرة جدا من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و من طرق أهل السنة عن جمع من الصحابة كأبي سعيد الخدري و ابن مسعود و أبي هريرة و عبد الله بن عمر و حذيفة و أبي ذر و عبد الله بن عباس و عبد الله بن أبي أوفى و صفوان بن عسال و أنس و عبد الرحمن بن عوف و معاوية و أبي أمامة و عائشة و غيرهم و إن اختلفت في مضامينها اختلافا فاحشا.

و الأنظار العلمية اليوم لا تمنع تبدل الحركة الأرضية على خلاف ما هي عليه اليوم من الحركة الشرقية أو تبدل القطبين بصيرورة الشمالي جنوبيا و بالعكس إما تدريجا كما يبينه الأرصاد الفلكية أو دفعة لحادثة جوية كلية هذا كله إن لم يكن الكلمة رمزا أشير بها إلى سر من أسرار الحقائق.

و قد عدت في الروايات من تلك الآيات خروج دابة الأرض و الدخان و خروج يأجوج و مأجوج و هذه أمور ينطق بها القرآن الكريم، و عد منها غير ذلك كخروج المهدي (عليه السلام) و نزول عيسى بن مريم و خروج الدجال و غيرها، و هي و إن كانت من حوادث آخر الزمان لكن كونها مما يغلق بها باب التوبة غير واضح.

و في البرهان، عن البرقي بإسناده عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما زالت الأرض إلا و لله فيها حجة يعرف فيها الحلال و الحرام، و يدعو إلى سبيل الله، و لا تنقطع الحجة من الأرض إلا أربعين يوما قبل يوم القيامة فإذا رفعت الحجة و أغلق باب التوبة لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجة، و أولئك من شرار خلق الله، و هم الذين تقوم عليهم القيامة:. أقول: و رواه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب مناقب فاطمة بسند آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و في تفسير القمي، عن أبيه عن النضر عن الحلبي عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا" قال: فارق القوم و الله دينهم.



أقول: أي باختلاف المذاهب، و قد مر حديث اختلاف الأمة ثلاثا و سبعين فرقة.

و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: كان علي (عليه السلام) يقرؤها: فارقوا دينهم.

أقول: و القراءة مروية عنه (عليه السلام) من بعض طرق أهل السنة أيضا على ما في الدر المنثور، و غيره.

و في البرهان، عن البرقي عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبي عن ابن مسكان عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) و أنا جالس عن قول الله تبارك و تعالى: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" يجري لهؤلاء ممن لا يعرف منهم هذا الأمر؟ فقال: إنما هي للمؤمنين خاصة. قلت له: أصلحك الله أ رأيت من صام و صلى و اجتنب المحارم و حسن ورعه ممن لا يعرف و لا ينصب؟ فقال: إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته.

أقول: و الرواية تدل على أن الأجر بقدر المعرفة، و في هذا المعنى روايات واردة من طرق الفريقين.

و هناك روايات كثيرة في معنى قوله: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" الآية رواها الفريقان و أوردوها في تفسير الآية غير أنها واردة في تشخيص المصاديق من الصوم و الصلاة و غيرها، تركنا إيرادها لذلك.

6 سورة الأنعام - 161 - 165

قُلْ إِنّنى هَدَاني رَبى إِلى صرَطٍ مّستَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كانَ مِنَ الْمُشرِكِينَ (161) قُلْ إِنّ صلاتى وَ نُسكِى وَ محْيَاى وَ مَمَاتى للّهِ رَب الْعَلَمِينَ (162) لا شرِيك لَهُ وَ بِذَلِك أُمِرْت وَ أَنَا أَوّلُ المُْسلِمِينَ (163) قُلْ أَ غَيرَ اللّهِ أَبْغِى رَبّا وَ هُوَ رَب كلِّ شىْءٍ وَ لا تَكْسِب كلّ نَفْسٍ إِلا عَلَيهَا وَ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمّ إِلى رَبِّكم مّرْجِعُكمْ فَيُنَبِّئُكم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تخْتَلِفُونَ (164) وَ هُوَ الّذِى جَعَلَكمْ خَلاَئِف الأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فى مَا ءَاتَاكُمْ إِنّ رَبّك سرِيعُ الْعِقَابِ وَ إِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمُ (165)

بيان


الآيات ختام السورة و هي تحتوي على خلاصة الغرض من دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) في السورة و أنه متلبس بالعمل بما يدعو إليه، و فيها خلاصة الحجج التي أقيمت فيها لإبطال عقيدة الشرك.

قوله تعالى: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم" إلى آخر الآيتين.

القيم بالكسر فالفتح مخفف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد، و قيل: وصف بمعنى القيم على الأمر.

يأمر الله سبحانه أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم و سبيل واضح قيم على سالكيه لا تخلف فيه و لا اختلاف دينا قائما على مصالح الدنيا و الآخرة أحسن القيام - لكونه مبنيا على الفطرة - ملة إبراهيم حنيفا مائلا عن التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد و ما كان من المشركين، و قد تقدم توضيح هذه المعاني في تفسير الآيات السابقة من السورة.

قوله تعالى: "قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله - إلى قوله - أول المسلمين" النسك مطلق العبادة، و كثر استعماله في الذبح أو الذبيحة تقربا إلى الله سبحانه.

أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) ثانيا أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه متلبس به كما أنه مأمور بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم و أقرب إلى تلقيهم بالقبول فإن من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه، و يطابق فعله قوله.

فقال: قل: إنني جعلت صلاتي و مطلق عبادتي - و اختصت الصلاة بالذكر استقلالا لمزيد العناية بها منه تعالى - و محياي بجميع ما له من الشئون الراجعة إلي من أعمال و أوصاف و أفعال و تروك، و مماتي بجميع ما يعود إلي من أموره و هي الجهات التي ترجع منه إلى الحياة - كما قال: كما تعيشون تموتون - جعلتها كلها لله رب العالمين من غير أن أشرك به فيها أحدا فأنا عبد في جميع شئوني في حياتي و مماتي لله وحده وجهت وجهي إليه لا أقصد شيئا و لا أتركه إلا له و لا أسير في مسير حياتي و لا أرد مماتي إلا له فإنه رب العالمين، يملك الكل و يدبر أمرهم.

و قد أمرت بهذا النحو من العبودية، و أنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل باب و جهة.

و من هنا يظهر أن المراد بقوله: "إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله" إظهار الإخلاص العبودي أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شئون العبادة و الحياة و الموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة و الاعتقاد بأن مالك الموت و الحياة هو الله تعالى، و الدليل على ما ذكرنا قوله: "و بذلك أمرت" فظاهر أنه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا بجعل الأولين له إخلاصا و تسليما و الاعتقاد بأن الأخيرين له إلا بتكلف.

و في قوله: "و أنا أول المسلمين" دلالة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول الناس من حيث درجة الإسلام و منزله فإن قبله زمانا غيره من المسلمين، و قد حكى الله سبحانه ذلك عن نوح إذ قال: "و أمرت أن أكون من المسلمين": يونس: 72 و عن إبراهيم في قوله: "أسلمت لرب العالمين": البقرة: 131 و عنه و عن ابنه إسماعيل في قولهما: "ربنا و اجعلنا مسلمين لك": البقرة: 128 و عن لوط في قوله: "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين": الذاريات: 36 و عن ملكة سبإ في قوله: "و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين": النمل: 42 إن كان مرادها الإسلام لله.

و قولها: "و أسلمت مع سليمان لله رب العالمين": النمل: 44 و لم ينعت بأول المسلمين أحد في القرآن إلا ما يوجد في هذه الآية من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبر قومه بذلك، و ما في سورة الزمر من قوله: "قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين و أمرت لأن أكون أول المسلمين": الزمر: 12.

و ربما قيل: إن المراد أول المسلمين من هذه الأمة فإن إبراهيم كان أول المسلمين و من بعده تابع له في الإسلام، و فيه أن التقييد لا دليل عليه، و أما كون إبراهيم أول المسلمين فيدفعه ما تقدم من الآيات المنقولة.

و أما قوله تعالى حكاية عن إبراهيم و إسماعيل في دعائهما: "و من ذريتنا أمة مسلمة لك": البقرة: 128. و قوله: "ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين": الحج: 78 فلا دلالة فيهما على شيء.

قوله تعالى: "قل أ غير الله أبغي ربا و هو رب كل شيء" إلخ، هذه الآية و التي بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد، و هي الحجة من طريق بدء الخلقة، و الحجة من طريق عودها، و الحجة من حال الإنسان و هو بينهما و بعبارة أخرى الحجة من نشأة الحياة الدنيا و النشأة التي قبلها و التي بعدها.

فالحجة من طريق البدء ما في قوله: "أ غير الله أبغي ربا و هو رب كل شيء" و من المعلوم أنه إذا كان رب كل شيء كان كل شيء مربوبا له فلا رب غيره على الإطلاق يصلح أن يعبد.

و الحجة من طريق العود ما يشتمل عليه قوله: "و لا تكسب كل نفس إلا عليها" إلى آخر الآية، أي أن كل نفس لا تعمل عملا و لا تكسب شيئا إلا حمل عليها و لا تزر وازرة وزر أخرى حتى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثم المرجع إلى الله و إليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد، و إذا كان لا محيص عن الجزاء و هو المالك ليوم الدين فهو الذي تتعين عبادته لا غيره ممن لا يملك شيئا.

و الحجة من طريق النشأة الدنيا ما في قوله: "و هو الذي جعلكم خلائف" إلخ، و محصله أن هذا النظام العجيب الذي يحكم في معاشكم في الحياة الدنيا و هو مبني على خلافتكم في الأرض و اختلاف شئونكم بالكبر و الصغر و القوة و الضعف و الذكورية و الأنوثية و الغنى و الفقر و الرئاسة و المرئوسية و العلم و الجهل و غيرها و إن كان نظاما اعتباريا لكنه ناش من عمل التكوين منته إليه فالله سبحانه هو ناظمه، و إنما فعل ذلك لامتحانكم و ابتلائكم فهو الرب الذي يدبر أمر سعادتكم، و يوصل من أطاعه إلى سعادته المقدرة له و يذر الظالمين فيها جثيا، فهو الذي يحق عبادته.

و قد تبين بما مر أن مجموع الجملتين: "و لا تكسب كل نفس إلا عليها و لا تزر وازرة وزر أخرى" سيق لإفادة معنى واحد و هو أن ما كسبته نفس يلزمها و لا يتعداها، و هو مفاد قوله: "كل نفس بما كسبت رهينة": المدثر: 38.

قوله تعالى: "و هو الذي جعلكم خلائف الأرض" الخلائف جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضا أو استخلفكم لنفسه في الأرض و قد مر كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة": البقرة: 30 في الجزء الأول من الكتاب، و معنى الآية ظاهر بما مر من البيان، و قد ختمت السورة بالمغفرة و الرحمة.

بحث روائي



في الكافي، بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "حنيفا مسلما" قال: خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان:. أقول: و رواه في البرهان، البرقي بإسناده عن ابن مسكان عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): و فيه: "خالصا مخلصا لا يشوبه شيء" و هو بيان المراد لا تفسير بالمعنى.

و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يقول: درجة واحدة إن الله يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنما تفاضل القوم بالأعمال.

أقول: و هو من نقل الآية بالمعنى فإن الآية هكذا: "و رفع بعضكم فوق بعض درجات" و في موضع آخر "و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات": "الزخرف: 32" و الظاهر أن قوله: "بعضها فوق بعض" من كلامه (عليه السلام) و الحديث إنما ورد في تفسير مثل قوله تعالى: "هم درجات عند الله" لا في تفسير الآية التي نحن فيها فإيراده في ذيل هذه الآية من سهو الراوي، و ذلك أن قوله (عليه السلام) في ذيله: "إنما تفاضل القوم بالأعمال" لا ينطبق على الآية كما لا يخفى.

تم و الحمد لله

<<        الفهرس        >>