جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج8 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


7 سورة الأعراف - 54 - 58

إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض فى سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ استَوَى عَلى الْعَرْشِ يُغْشى الّيْلَ النهَارَ يَطلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشمْس وَ الْقَمَرَ وَ النّجُومَ مُسخّرَتِ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الخَْلْقُ وَ الأَمْرُ تَبَارَك اللّهُ رَب الْعَلَمِينَ (54) ادْعُوا رَبّكُمْ تَضرّعاً وَ خُفْيَةً إِنّهُ لا يحِب الْمُعْتَدِينَ (55) وَ لا تُفْسِدُوا فى الأَرْضِ بَعْدَ إِصلَحِهَا وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طمَعاً إِنّ رَحْمَت اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَ هُوَ الّذِى يُرْسِلُ الرِّيَحَ بُشرَا بَينَ يَدَى رَحْمَتِهِ حَتى إِذَا أَقَلّت سحَاباً ثِقَالاً سقْنَهُ لِبَلَدٍ مّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كلِّ الثّمَرَتِ كَذَلِك نخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلّكُمْ تَذَكرُونَ (57) وَ الْبَلَدُ الطيِّب يخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الّذِى خَبُث لا يخْرُجُ إِلا نَكِداً كذَلِك نُصرِّف الاَيَتِ لِقَوْمٍ يَشكُرُونَ (58)

بيان

الآيات متصلة بما قبلها مرتبطة بها فإن الآيات السابقة كانت تبين وبال الشرك بالله و التكذيب بآياته و أن ذلك يسوق الإنسان إلى هلاك مؤبد و شقاء مخلد، و هذه الآيات تعلل ذلك بأن رب الجميع واحد إليه تدبير الكل يجب عليهم أن يدعوه و يشكروا له و تؤكد توحيد رب العالمين من جهتين: إحداهما: أنه تعالى هو الذي خلق السماوات و الأرض جميعا ثم دبر أمرها بالنظام الأحسن الجاري فيها الرابط بينها جميعا فهو رب العالمين.

و الثانية: أنه تعالى هو الذي يهيىء لهم الأرزاق بإخراج أنواع الثمرات التي يرتزقون بها بخلق ذلك بأعجب الطرق المتخذة لذلك و ألطفها و هو الإمطار فهو ربهم لا رب سواه.

قوله تعالى: "إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام" سيأتي البحث في معنى السماء و الأيام الستة التي خلقتا فيها في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

قوله تعالى: "ثم استوى على العرش - إلى قوله - بأمره" - الاستواء - الاعتدال على الشيء و الاستقرار عليه، و ربما استعمل بمعنى التساوي، يقال: استوى زيد و عمرو أي تساويا قال تعالى: "لا يستوون عند الله".

و - العرش - ما يجلس عليه الملك و ربما كني به عن مقام السلطنة، قال الراغب في المفردات،: العرش في الأصل شيء مسقف، و جمعه عروش قال: "و هي خاوية على عروشها" و منه قيل: عرشت الكرم و عرشتها إذا جعلت له كهيئة سقف.

قال: و العرش شبه هودج للمرأة تشبيها في الهيئة بعرش الكرم، و عرشت البئر جعلت له عريشا، و سمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه.

قال: و عرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، و ليس كما يذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى عن ذلك - لا محمولا و الله تعالى يقول: "إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده"، و قال قوم: هو الفلك الأعلى و الكرسي فلك الكواكب، و استدل بما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما السماوات السبع و الأرضون السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة و الكرسي عند العرش كذلك انتهى.

و قد استقرت العادة منذ القديم أن يختص العظماء من ولاة الناس و حكامهم و مصادر أمورهم من المجلس بما يختص بهم و يتميزون به عن غيرهم كالبساط و المتكإ حتى آل الأمر إلى إيجاد السرر و التخوت فاتخذ للملك ما يسمى عرشا و هو أعظم و أرفع و أخص بالملك، و الكرسي يعمه و غيره، و استدعى التداول و التلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أول الأمر فصار العرش حاملا لمعنى الملك ممثلا لمقام السلطنة إليه يرجع و ينتهي، و فيه تتوحد أزمة المملكة في تدبير أمورها و إدارة شئونها.

و اعتبر لاستيضاح ذلك مملكة من الممالك قطنت فيها أمة من الأمم لعوامل طبيعية أو اقتصادية أو سياسية استقلوا بذلك في أمرهم و تميزوا من غيرهم فأوجدوا مجتمعا من المجتمعات الإنسانية و اختلطوا و امتزجوا بالأعمال و نتائجها ثم اقتسموا في التمتع بالنتائج فاختص كل بشيء منها على قدر زنته الاجتماعية.

كان من الواجب أن تحفظ هذه الوحدة و الاتصال المتكون بالاجتماع بمن يقوم عليها فإن التجربة القطعية أوضحت للإنسان أن العوامل المختلفة و الأعمال و الإرادات المتشتتة إذا وجهت نحو غرض واحد و سيرت في مسير واحد لم تدم على نعت الاتحاد و الملاءمة إلا أن تجمع أزمة الأمور المختلفة في زمام واحد و توضع في يد من يحفظه و يديم حياته بالتدبير الحسن فتحيا به الجميع و إلا فسرعان ما تتلاشى و تتشتت.

و لذلك ترى أن المجتمع المترقي ينوع الأعمال الجزئية نوعا نوعا ثم يقدم زمام كل نوع إلى كرسي من الكراسي كالدوائر و المصالح الجزئية المحلية، ثم ينوع أزمة الكراسي فيعطي كل نوع كرسيا فوق ذلك، و على هذا القياس حتى ينتهي الأمر إلى زمام واحد يقدم إلى العرش و يهدى لصاحب العرش.

و من عجيب أمر هذا الزمام و انبساطه و سعته في عين وحدته أن الأمر الواحد الصادر من هذا المقام يسير في منازل الكراسي التابعة له على كثرتها و اختلاف مراتبها فيتشكل في كل منزل بشكل يلائمه و يعرف فيه، و يتصور لصاحبه بصورة ينتفع بها و يأخذها ملاكا لعمله.

يقول مصدر الأمر "ليجر الأمر" فتأخذه المصالح المالية تكليفا ماليا و مصالح السياسية تكليفا سياسيا، و مصالح الجيش تكليفا دفاعيا و على هذا القياس كلما صعد أو نزل.

فجميع تفاصيل الأعمال و الإرادات و الأحكام المجراة فيها المنبسطة في المملكة و هي لا تحصى كثرة أو لا تتناهى لا تزال تتوحد و تجتمع في الكراسي حتى تنتهي إلى العرش فتتراكم عنده بعضها على بعض و تندمج و تتداخل و تتوحد حتى تصير واحدا هو في وحدته كل التفاصيل فيما دون العرش، و إذا سار هذا الواحد إلى ما دونه لم يزل يتكثر و يتفصل حتى ينتهي إلى أعمال أشخاص المجتمع و إراداتهم.

هذا في النظام الوضعي الاعتبار الذي عندنا، و هو لا محالة مأخوذ من نظام التكوين، و الباحث عن النظام الكوني يجد أن الأمر فيه على هذه الشاكلة، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل و أسباب جزئية، و تنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كل شيء و هو محيط بكل شيء، و ليس كذلك الملك من ملوكنا لحقيقية ملكه تعالى و اعتبارية ملك غيره.

ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحلة تنتهي إليها جميع أزمة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب، و أزمة الأسباب على اختلاف أشخاصها و أنواعها، و ترتب مراتبها هو المسمى عرشا كما سيجيء، و فيه صور الأمور الكونية المدبرة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء، و عنده مفاتح الغيب.

فقوله تعالى: "ثم استوى على العرش" كناية عن استيلائه على ملكه و قيامه بتدبير الأمر قياما ينبسط على كل ما دق و جل، و يترشح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كل ذي بغية بغيته، و تقضي لكل ذي حاجة حاجته، و لذلك عقب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله: "يدبر الأمر" إذ قال: "ثم استوى على العرش يدبر الأمر": يونس: 3.

ثم فصل بقوله: "يغشي الليل النهار" و يستره به "يطلبه" أي يطلب الليل النهار ليغشيه و يستره "حثيثا" أي طلبا حثيثا سريعا، و فيه إشعار بأن الظلمة هي الأصل، و النهار الذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها مما حولها، عارض لليل الذي هو الظلمة المخروطية اللازمة لأقل من نصف كرة الأرض المقابل للجانب المواجه للشمس كان الليل يعقبه و يهجم عليه.

و قوله: "و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره" أي خلقهن و الحال أنها مسخرات بأمره يجرين على ما يشاء و لما يشاء و قرىء الجميع بالرفع، و على ذلك فالشمس مبتدأ و القمر و النجوم معطوفة عليها، و مسخرات خبره، و الباء في قوله: "بأمره" للسببية.



و مجموع قوله: "يغشي الليل النهار" إلخ، يجري مجرى التفسير لقوله: "ثم استوى على العرش" على ما يعطيه السياق، و هو الذي تعطيه أغلب الآيات القرآنية التي يذكر فيها العرش فإنها تذكر معه شيئا من التدبير أو ما يئول إليه بحسب المعنى.

قوله تعالى: "ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين" - الخلق - هو التقدير بضم شيء إلى شيء و إن استقر ثانيا في عرف الدين و أهله في معنى الإيجاد أو الإبداع على غير مثال سابق، و أما - الأمر - فيستعمل في معنى الشأن و جمعه أمور، و مصدرا بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده يقال أمرته بكذا أمرا، و ليس من البعيد أن يكون هذا هو الأصل في معنى اللفظ ثم يستعمل الأمر اسم مصدر بمعنى نتيجة الأمر و هو النظم المستقر في جميع أفعال المأمور المنبسط على مظاهر حياته، فينطبق في الإنسان على شأنه في الحياة ثم يتوسع فيه فيستعمل بمعنى الشأن في كل شيء فأمر كل شيء هو الشأن الذي يصلح له وجوده، و ينظم له تفاريق حركاته و سكناته و شتى أعماله و إراداته، يقال: أمر العبد إلى مولاه، أي هو يدبر حياته و معاشه، و أمر المال إلى مالكه، و أمر الإنسان إلى ربه أي بيده تدبيره في مسير حياته.

و لا يرد عليه أن الأمر بمعنى الشأن يجمع على "أمور" و بمعنى يقابل النهي على "أوامر" و هو ينافي رجوع أحدهما إلى الآخر معنى!، فإن أمثال هذه التفننات كثيرة في اللغة يعثر عليها المتتبع الناقد فالأمر كالمتوسط بين من يملكه و بين من يملك منه كالمولى و العبد و يضاف إلى كل منهما يقال: أمر العبد و أمر المولى، قال تعالى: "و أمره إلى الله": البقرة: 275، و قال: "أتى أمر الله": النحل: 1.

و قد فسر سبحانه أمره الذي يملكه من الأشياء بقوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء": يس: 83، فبين أن أمره الذي يملكه من كل شيء سواء كان ذاتا أو صفة أو فعلا و أثرا هو قول كن و كلمة الإيجاد و هو الوجود الذي يفيضه عليه فيوجد هو به، فإذا قال لشيء: كن فكان، فقد أفاض عليه ما وجد به من الوجود، و هذا الوجود الموهوب له نسبة إلى الله سبحانه و هو بذاك الاعتبار أمره تعالى و كلمة "كن" الإلهية، و له نسبة إلى الشيء الموجود، و هو بذاك الاعتبار أمره الراجع إلى ربه، و قد عبر عنه في الآية بقوله: "فيكون".

و قد ذكر تعالى لكل من النسبتين - و إن شئت فقل: للإيجاد المنسوب إليه تعالى و للوجود المنسوب إلى الشيء - نعوتا و أحكاما مختلفة سنبحث عنها إن شاء الله في محل يناسبه.

و الحاصل: أن الأمر هو الإيجاد سواء تعلق بذات الشيء أو بنظام صفاته و أفعاله فأمر ذوات الأشياء إلى الله و أمر نظام وجودها إلى الله لأنها لا تملك لنفسها شيئا البتة، و الخلق هو الإيجاد عن تقدير و تأليف سواء كان ذلك بنحو ضم شيء إلى شيء كضم أجزاء النطفة بعضها إلى بعض و ضم نطفة الذكور إلى نطفة الإناث ثم ضم الأجزاء الغذائية إليها في شرائط خاصة حتى يخلق بدن إنسان مثلا، أم من غير أجزاء مؤلفة كتقدير ذات الشيء البسيط و ضم ما له من درجة الوجود وحده و ما له من الآثار و الروابط التي له مع غيره، فالأصول الأولية مقدرة مخلوقة كما أن المركبات مقدرة مخلوقة.

قال الله تعالى: "و خلق كل شيء فقدره تقديرا": الفرقان: 2، و قال: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50، و قال: "الله خالق كل شيء": الزمر: 62، فعمم خلقه كل شيء.

فقد اعتبر في معنى الخلق تقدير جهات وجود الشيء و تنظيمها سواء كانت متمايزة منفصلا بعضها عن بعض أم لا بخلاف الأمر.

و لذا كان الخلق يقبل التدريج كما قال: "خلق السماوات و الأرض في ستة أيام" بخلاف الأمر قال تعالى: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر": القمر: 50، و لذلك أيضا نسب في كلامه إلى غيره الخلق كقوله: "و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه": المائدة: 110، و قال: "فتبارك الله أحسن الخالقين": المؤمنون: 14.

و أما الأمر بهذا المعنى فلم ينسبه إلى غيره بل خصه بنفسه، و جعله بينه و بين ما يريد حدوثه و كينونته كالروح الذي يحيا به الجسد.

انظر إلى قوله تعالى: "و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره" و قوله: "و لتجري الفلك بأمره": الروم: 46، و قوله: ينزل الملائكة بالروح من أمره": النحل: 2، و قوله: "و هم بأمره يعملون": الأنبياء: 27، إلى غير ذلك من الآيات تجد أنه تعالى يجعل ظهور هذه الأشياء بسببية أمره أو بمصاحبة أمره، فنلخص أن الخلق و الأمر يرجعان بالآخرة إلى معنى واحد و إن كانا مختلفين بحسب الاعتبار.

فإذا انفرد كل من الخلق و الأمر صح أن يتعلق بكل شيء، كل بالعناية الخاصة به، و إذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلق بالذوات لما أنها أوجدت بعد تقدير ذواتها و آثارها، و يتعلق الأمر بآثارها و النظام الجاري فيها بالتفاعل العام بينها لما أن الآثار هي التي قدرت للذوات و لا وجه لتقدير المقدر فافهم ذلك.

و لذلك قال تعالى: "ألا له الخلق و الأمر" فأتى بالعطف المشعر بالمغايرة بوجه و كان المراد بالخلق ما يتعلق من الإيجاد بذوات الأشياء، و بالأمر ما يتعلق بآثارها و الأوضاع الحاصلة فيها و النظام الجاري بينها كما ميز بين الجهتين في أول الآية حيث قال: "خلق السماوات و الأرض في ستة أيام" و هذا هو إيجاد الذوات "ثم استوى على العرش يدبر الأمر" و هو إيجاد النظام الأحسن بينها بإيقاع الأمر تلو الأمر و الإتيان بالواحد منه بعد الواحد.

و ما ربما يقال: إن العطف لا يقتضي المغايرة، و لو اقتضى ذلك لدل في قوله: "من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل": البقرة: 98 على كون جبريل من غير جنس الملائكة! مدفوع بأن المراد مغايرة ما و لو اعتبارا لقبح قولنا جاءني زيد و زيد و رأيت عمرا و عمرا فلا محيص عن مغايرة ما و لو بحسب الاعتبار، و جبريل مع كونه من جنس الملائكة يغايره غيره بما له من المقام المعلوم و القوة و المكانة عند ذي العرش.

و قوله تعالى: "تبارك الله رب العالمين" أي كان ذا بركات ينزلها على مربوبيه من جميع من في العالمين فهو ربهم.

كلام في معنى العرش

للناس في معنى العرش بل في معنى قوله: "ثم استوى على العرش" و الآيات التي في هذا المساق مسالك مختلفة، فأكثر السلف على أنها و ما يشاكلها من الآيات من المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه، و هؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية و التطلع إلى ما وراء ظواهر الكتاب و السنة بدعة، و العقل يخطئهم في ذلك و الكتاب و السنة لا يصدقانهم فآيات الكتاب تحرض كل التحريض على التدبر في آيات الله و بذل الجهد في تكميل معرفة الله و معرفة آياته بالتذكر و التفكر و النظر فيها و الاحتجاج بالحجج العقلية، و متفرقات السنة المتواترة معنى توافقها، و لا معنى للأمر بالمقدمة و النهي عن النتيجة، و هؤلاء هم الذين كانوا يحرمون البحث عن حقائق الكتاب و السنة - حتى البحث الكلامي الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينية و وضعها على ما تفيده بحسب الفهم العامي ثم الدفاع عنها بما تيسر من المقدمات المشهورة و المسلمة عند أهل الدين - و يعدونها بدعة فلنتركهم و شأنهم.

و أما طبقات الباحثين فقد اختلفوا في معناه على أقوال: 1 - حمل الكلمة على ظاهر معناها فالعرش عندهم مخلوق كهيئة السرير له قوائم و هو موضوع على السماء السابعة و الله - تعالى عما يقول الظالمون - مستو عليه كاستواء الملوك منا على عروشهم، و أكثر هؤلاء على أن العرش و الكرسي شيء واحد، و هو الذي وصفناه.

و هؤلاء هم المشبهة من المسلمين، و الكتاب و السنة و العقل تخاصمهم في ذلك و تنزه رب العالمين أن يماثل شيئا من خلقه و يشبهه في ذات، أو صفة، أو فعل تعالى و تقدس.

2 - أن العرش هو الفلك التاسع المحيط بالعالم الجسماني و المحدد للجهات و الأطلس الخالي من الكواكب، و الراسم بحركته اليومية للزمان، و في جوفه مماسا به الكرسي و هو الفلك الثامن الذي فيه الثوابت، و في جوفه الأفلاك السبعة الكلية التي هي أفلاك السيارات السبع: زحل و المشتري و المريخ و الشمس و الزهرة و عطارد و القمر بالترتيب محيطا بعضها ببعض.

و هذه هي التي يفرضها علم الهيئة على مسلك بطليموس لتنظيم الحركات العلوية الظاهرة للحس طبقوا عليها ما يذكره القرآن من السماوات السبع و الكرسي و العرش فما وجدوا من أحكامها المذكورة في الهيئة و الطبيعيات لا يخالف الظواهر قبلوه، و ما وجدوه يخالف الظواهر الموجودة في الكتاب ردوه كقولهم: ليس للفلك المحدد وراء لا خلأ و لا ملأ، و قولهم بدوام الحركات الفلكية، و استحالة الخرق و الالتيام عليها، و كون كل فلك يماس بسطحه سطح غيره من غير وجود بعد بينها و لا سكنة فيها، و كون أجسامها بسيطة متشابهة لا ثقب فيها و لا باب.

و الظواهر من القرآن و الحديث تثبت أن وراء العرش حجبا و سرادقات، و أن له قوائم، و أن له حملة، و أن الله سيطوي السماء كطي السجل للكتب، و أن في السماء سكنة من الملائكة ليس فيها موضع إهاب إلا و فيه ملك راكع أو ساجد يلجونه و ينزلون منه و يصعدون إليه، و أن للسماء أبوابا، و أن الجنة فيها عند سدرة المنتهى التي ينتهي إليها أعمال العباد إلى غير ذلك مما ينافي بظاهره ما افترضه علماء الهيئة و الطبيعيات سابقا، و القائلون منا إن السماوات و الكرسي و العرش هي ما افترضوه من الأفلاك التسعة الكلية يدفعون ذلك كله بمخالفة الظواهر.

و لم ينبههم هذا الاختلاف في الوصف على أن ما يصفه القرآن غير ما يفترضه أولئك لتوجيه الحركات العلوية حتى أوضحت الأبحاث الأخيرة العميقة في الهيئة و الطبيعيات المؤيدة بالحس و التجربة بطلان الفرضيات السابقة من أصلها فاضطر هؤلاء إلى فسخ تطبيقهم و رفع اليد عنه.

3 - أن لا مصداق للعرش خارجا و إنما قوله تعالى: "ثم استوى على العرش" و "الرحمن على العرش استوى" كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق، و كثيرا ما يطلق الاستواء على الشيء على الاستيلاء عليه كما قيل: قد استوى بشر على العراق.

من غير سيف و دم مهراق.

أو أن الاستواء على العرش معناه الشروع في تدبير الأمور كما أن الملوك إذا أرادوا الشروع في إدارة أمور مملكتهم استووا على عروشهم و جلسوا عليه و الشروع و الأخذ في أمر و جميع ما ينبىء عن تغير الأحوال و تبدلها و إن كانت ممتنعة في حقه تعالى لتنزهه تعالى عن التغير و التبدل لكن شأنه تعالى يسمى شروعا و أخذا بالنظر إلى حدوث الأشياء بذواتها و أعيانها يومئذ فيسمى شأنه تعالى و هو الشمول بالرحمة إذا تعلق بها شروعا و أخذا بالتدبير نظير سائر الأفعال الحادثة المقيدة بالزمان المنسوبة إليه تعالى كقولنا خلق الله فلانا، و أحيا فلانا، و أمات فلانا، و رزق فلانا، و نحو ذلك.

و فيه: أن كون قوله: "ثم استوى على العرش" جاريا مجرى الكناية بحسب اللفظ و إن كان حقا لكنه لا ينافي أن يكون هناك حقيقة موجودة تعتمد عليها هذه العناية اللفظية، و السلطة و الاستيلاء و الملك و الإمارة و السلطنة و الرئاسة و الولاية و السيادة و جميع ما يجري هذا المجرى فينا أمور وضعية اعتبارية ليس في الخارج منها إلا آثارها على ما سمعته منا كرارا في الأبحاث الاعتبارية السابقة، و الظواهر الدينية تشابه من حيث البيان ما عندنا من بيانات أمورنا و شئوننا الاعتبارية لكن الله سبحانه يبين لنا أن هذه البيانات وراءها حقائق واقعية، و جهات خارجية ليست بوهمية اعتبارية.

فمعنى الملك و السلطنة و الإحاطة و الولاية و غيرها فيه سبحانه هو المعنى الذي نفهمه من كل هذه الألفاظ عندنا لكن المصاديق غير المصاديق فلها هناك مصاديق حقيقية خارجية على ما يليق بساحة قدسه تعالى و أما ما عندنا من مصاديق هذه المفاهيم فهي أوصاف ذهنية ادعائية و جهات وضعية اعتبارية لا تتعدى الوهم، و إنما وضعناها و أخذنا بها للحصول على آثار حقيقية هي آثارها بحسب الدعوى فلا يسمى الرئيس رئيسا إلا لأن يتبع الذين نسميهم مرءوسين إراداته و عزائمه لا لأن الجماعة بدون حقيقة و هو رأسهم حقيقة، و لا نسمي جزء الهيئة المؤتلفة عضوا لأنه يد أو رجل أو كبد أو رئة حقيقة بل لأن يتصدى من الأمور المقصودة في هذا التشكيل و الاجتماع ما يتصداه عضو من الأعضاء الموجودة في بدن الإنسان مثلا.

و هذا هو الذي يسميه الله تعالى لعبا و لهوا إذ يقول: "و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب": العنكبوت: 64، فالمقاصد الدنيوية من زينة و مال و أولاد و تقدم و رئاسة و حكومة و أمثالها ليست إلا عناوين وهمية لا تحقق لها إلا في الأوهام، و ليس الاشتغال بها لغير المقاصد الأخروية إلا اشتغالا بأمور وهمية و صور خيالية، و لا المسابقة في تحصيلها إلا كمسابقة الأطفال في تحصيل التقدم في الملاعب التي يشتغلون بها، و ليس إلا تحصيل حالة خيالية ليس منها في خارجة عين و لا أثر.

و حاشا لله سبحانه أن يذم هذه الحياة الفانية الغارة، و يسميها لعبا لما تشتمل عليه من الشئون الوهمية ثم يكون تعالى و تقدس أول اللاعبين!.

و بالجملة قوله تعالى: "ثم استوى على العرش" في عين أنه تمثيل يبين به أن له إحاطة تدبيرية لملكه يدل على أن هناك مرحلة حقيقية هي المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمة الأمور على كثرتها و اختلافها، و يدل عليه آيات أخر تذكر العرش وحده و ينسبه إليه تعالى كقوله تعالى: "و هو رب العرش العظيم": التوبة: 129، و قوله: "الذين يحملون العرش و من حوله": المؤمن: 7، و قوله: "و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية": الحاقة: 17، و قوله: "حافين من حول العرش": الزمر: 75.



فالآيات - كما ترى - تدل بظاهرها على أن العرش حقيقة من الحقائق العينية و أمر من الأمور الخارجية، و لذلك نقول: إن للعرش في قوله: "ثم استوى على العرش" مصداقا خارجيا، و لم يوضع في الكلام لمجرد تتميم المثل كما نقوله في أمثال كثيرة مضروبة في القرآن فلا نقول في مثل آية النور مثلا: أن في الوجود زجاجة إلهية أو شجرة زيتونة إلهية أو زيتا إلهيا، و نقول: إن في الوجود عرشا إلهيا أو لوحا و قلما إلهيين و كتابا مكتوبا فافهم ذلك.

و هذا العرش الذي يستفاد من مثل قوله: "ثم استوى على العرش" أنه مقام في الوجود يجتمع فيه أزمة الحوادث و الأمور كما يجتمع أزمة المملكة في عرش الملك على التفصيل الذي تقدم في بيان الآية يدل على تحقق هذه الصفة له قوله تعالى: "ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه": يونس: 3، ففسر الاستواء على العرش بتدبير الأمر منه، و عقبه بقوله: "ما من شفيع إلا من بعد إذنه" و الآية لما كانت في مقام وصف الربوبية و التدبير التكويني كان المراد بالشفاعة الشفاعة في أمر التكوين، و هو السببية التي توجد في الأسباب التكوينية التي هي وسائط متخللة بين الحوادث و الكائنات و بينه تعالى كالنار المتخللة بينه و بين الحرارة التي يخلقها، و الحرارة المتخللة بينه و بين التخلخل أو ذوبان الأجسام فنفي السببية عن كل شيء إلا من بعد إذنه لإفادة توحيد الربوبية التي يفيده صدر الآية: "إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض".

و في قوله: "ما من شفيع إلا من بعد إذنه" بيان حقيقة أخرى و هي رجوع التخلف في التدبير إلى التدبير بعينه بواسطة الإذن، فإن الشفيع إنما يتوسط بين المشفوع له المحكوم بحكم، المشفوع عنده، ليغير بالشفاعة مجرى حكم سيجري لو لا الشفاعة فالشمس المضيئة بالمواجهة مثلا شفيعة متوسطة بين الله سبحانه و بين الأرض لاستنارتها بالنور و لو لا ذلك لكان مقتضى تقدير الأسباب العامة و نظمها أن تحيط بها الظلمة ثم الحائل من سقف أو أي حجاب آخر شفيع آخر يسأله تعالى أن لا يقع نور الشمس على الأرض باستقامة و هكذا.

فإذا كانت شفاعة الشفيع - و هو سبب مغير لما سبقه من الحكم - مستندة إلى إذنه تعالى كان معناه أن التدبير العام الجاري إنما هو من الله سبحانه، و أن كل ما يتخذ من الوسائل لإبطال تدبيره و تغيير مجرى حكمه أعم مما يتخذه الأسباب التكوينية و ما يتخذه الإنسان من التدابير للفرار عن حكم الأسباب الجارية الإلهية كل ذلك من التدبير الإلهي.

و لذلك نرى الأشياء الردية تعصي فلا تقبل الصور الشريفة و المواهب السامية، لقصور استعدادها عن قبولها، و هذا الرد منها بعينه قبول، و الامتناع من قبول التربية بعينه تربية أخرى إلهية و الإنسان على ما به من الجهل يستعلي على ربه و يستنكف عن الخضوع لعظمته و هو بعينه انقياد لحكمه، و يمكر به و هو بعينه ممكور به قال تعالى: "و ما يمكرون إلا بأنفسهم و ما يشعرون": الأنعام: 123، و قال تعالى: "و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يشعرون": آل عمران: 69، و قال تعالى: "و ما أنتم بمعجزين في الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير": الشورى: 31.

فقوله: "ما من شفيع إلا من بعد إذنه" يدل على أن شفاعة الشفاعة أو الأسباب المخالفة التي تحول بين التدبير الإلهي و بين مقتضياته داخلة من جهة أخرى و هي جهة الإذن في التدبير الإلهي فافهم ذلك.

فما مثل الأسباب و العوامل المتخالفة المتزاحمة في الوجود إلا كمثل كفتي الميزان تتعاركان بالارتفاع و الانخفاض، و الثقل و الخفة لكن اختلافهما بعينه اتفاق منهما في إعانة صاحب الميزان في تشخيص ما يريد تشخيصه من الوزن.

و يقرب من آية سورة يونس في الدلالة على شمول التدبير و نفي مدبر غيره تعالى قوله: "ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع أ فلا تتذكرون": السجدة: 4، و يقرب من قوله: "ثم استوى على العرش يدبر الأمر" في الإشارة إلى كون العرش مقاما تنتشىء فيه التدابير العامة و تصدر عنه الأوامر التكوينية قوله تعالى: "ذو العرش المجيد فعال لما يريد": البروج: 16، و هو ظاهر.

و إلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: "و ترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم و قضي بينهم بالحق": الزمر: 75، فإن الملائكة هم الوسائط الحاملون لحكمه و المجرون لأمره العاملون بتدبيره فليكونوا حافين حول عرشه.

و كذا قوله تعالى: "الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا": المؤمن: 7، و في الآية مضافا إلى ذكر احتفافهم بالعرش شيء آخر و هو أن هناك حملة يحملون العرش، و هم لا محالة أشخاص يقوم بهم هذا المقام الرفيع و الخلق العظيم الذي هو مركز التدابير الإلهية و مصدرها، و يؤيد ذلك ما في آية أخرى و هي قوله: "و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية": الحاقة: 17.

و إذ كان العرش هو المقام الذي يرجع إليه جميع أزمة التدابير الإلهية و الأحكام الربوبية الجارية في العالم كما سمعت، كان فيه صور جميع الوقائع بنحو الإجمال حاضرة عند الله معلومة له، و إلى ذلك يشير قوله تعالى: "ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء و ما يعرج فيها و هو معكم أينما كنتم و الله بما تعملون بصير": الحديد: 4، فقوله: "يعلم ما يلج" إلخ، يجري مجرى التفسير للاستواء على العرش فالعرش مقام العلم كما أنه مقام التدبير العام الذي يسع كل شيء، و كل شيء في جوفه.

و لذلك هو محفوظ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء كما في قوله: "و ترى الملائكة حافين من حول العرش" و موجود مع هذا العالم المشهود كما يدل عليه آيات خلق السماوات و الأرض، و موجود قبل هذه الخلقة كما يدل عليه قوله: "و هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء": هود: 7.

قوله تعالى: "ادعوا ربكم تضرعا و خفية" إلى آخر الآيتين.

التضرع هو التذلل من الضراعة و هي الضعف و الذلة.

و الخفية هي الاستتار و ليس من البعيد أن يكون كناية عن التذلل جيء به لتأكيد التضرع فإن المتذلل يكاد يختفي من الصغار و الهوان.

الآية السابقة: "إن ربكم الله الذي خلق" الآية تذكر بربوبيته وحده لا شريك له من جهة أنه هو الخالق وحده، و إليه تدبير خلقه وحده، فتعقيبها بهاتين الآيتين بمنزلة أخذ النتيجة من البيان، و هي الدعوة إلى دعائه و عبوديته، و الحكم بأخذ دين يوافق ربوبيته تعالى و هي الربوبية من غير شريك في الخلق و لا في التدبير.

و لذلك دعا أولا إلى دين العبودية فقال: "ادعوا ربكم تضرعا و خفية إنه لا يحب المعتدين و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" فأمر أن يدعوه بالتضرع و التذلل و أن يكون ذلك خفته من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبودية الخارجة عن زيها - بناء على أن تكون الواو في "تضرعا و خفية" للجمع - أو أن يدعوه بالتضرع و الابتهال الملازم عادة للجهر بوجه أو بالخفية إخفاتا فإن ذلك هو لازم العبودية و من عدا ذلك فقد اعتدى عن طور العبودية و إن الله لا يحب المعتدين.

و من الممكن أن يكون المراد بالتضرع و الخفية: الجهر و السر و إنما وضع التضرع موضع الجهر لكون الجهر في الدعاء منافيا لأدب العبودية إلا أن يصاحب التضرع.



هذا فيما بينهم و بين الله، و أما فيما بينهم و بين الناس فأن لا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها فليس حقيقة الدين فيما يرجع إلى حقوق الناس إلا أن يصلح شأنهم بارتفاع المظالم من بينهم و معاملتهم بما يعينهم على التقوى، و يقربهم من سعادة الحياة في الدنيا و الآخرة ثم كرر الدعوة إليه و أعاد البعث إلى دعائه بالجمع بين الطريقين الذين لم يزل البشر يعبد الرب أو الأرباب من أحدهما و هما طريق الخوف و طريق الرجاء فإن قوما كانوا يتخذون الأرباب خوفا فيعبدونهم ليسلموا من شرورهم، و كان قوما يتخذون الأرباب طمعا فيعبدونهم لينالوا خيرهم و بركتهم لكن العبادة عن محض الخوف ربما ساق الإنسان إلى اليأس و القنوط فدعاه إلى ترك العبادة، و قد شوهد ذلك كثيرا، و العبادة عن محض الطمع ربما قاد إلى استرسال الوقاحة و زوال زي العبودية فدعاه إلى ترك العبادة، و قد شوهد أيضا كثيرا فجمع سبحانه بينهما و دعا إلى الدعاء باستعمالهما معا فقال: "و ادعوه خوفا و طمعا" ليصلح كل من الصفتين ما يمكن أن تفسده الأخرى، و في ذلك وقوع في مجرى الناموس العام الجاري في العالم أعني ناموس الجذب و الدفع.

و قد سمى الله سبحانه هذا الاعتدال في العبادة و التجنب عن إفساد الأرض بعد إصلاحها إحسانا و بشر المجيبين لدعوته بأنهم يكونون حينئذ محسنين فتقرب منهم رحمته إن رحمة الله قريب من المحسنين.

و لم يقل: رحمة الله قريبة، قيل: لأن الرحمة مصدر يستوي فيه الوجهان، و قيل: لأن المراد بالرحمة الإحسان، و قيل: لأن قريب فعيل بمعنى المفعول فيستوي فيه المذكر و المؤنث و نظيره قوله تعالى: "لعل الساعة قريب": الشورى: 17.

قوله تعالى: "و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته" إلى آخر الآية و في الآية بيان لربوبيته تعالى من جهة العود كما أن في قوله: "إن ربكم الله" الآية بيانا لها من جهة البدء.

و قوله: "بشرا" و أصله البشر بضمتين جمع بشير كالنذر جمع نذير، و المراد بالرحمة المطر، و قوله: "بين يدي رحمته" أي قدام المطر، و فيه استعارة تخييلية بتشبيه المطر بالإنسان الغائب الذي ينتظره أهله فيقدم و بين يديه بشير يبشر بقدومه.

و الإقلال الحمل، و السحاب و السحابة الغمام و الغمامة كتمر و تمرة و كون السحاب ثقالا باعتبار حمله ثقل الماء، و قوله "لبلد ميت" أي لأجل بلد ميت أو إلى بلد ميت و الباقي ظاهر.

و الآية تحتج بإحياء الأرض على جواز إحياء الموتى لأنهما من نوع واحد، و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد و ليس الأحياء الذين عرض لهم عارض الموت بمنعدمين من أصلهم فإن أنفسهم و أرواحهم باقية محفوظة و إن تغيرت أبدانهم، كما أن النبات يتغير ما على وجه الأرض منها و يبقى ما في أصله من الروح الحية على انعزال من النشوء و النماء ثم تعود إليه حياته الفعالة كذلك يخرج الله الموتى فما إحياء الموتى في الحشر الكلي يوم البعث إلا كإحياء الأرض الميتة في بعثه الجزئي العائد كل سنة، و للكلام ذيل سيوافيك في محل آخر إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه" إلى آخر الآية.

النكد القليل.

و الآية بالنظر إلى نفسها كالمثل العام المضروب لترتب الأعمال الصالحة و الآثار الحسنة على الذوات الطيبة الكريمة كخلافها على خلافها كما تقدم في قوله: "كما بدأكم تعودون" لكنها بانضمامها إلى الآية السابقة تفيد أن الناس و إن اختلفوا في قبول الرحمة فالاختلاف من قبلهم و الرحمة الإلهية عامة مطلقة.

بحث روائي

لم ينقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقي عن مثل العرش و الكرسي و سائر الحقائق القرآنية و حتى أصول المعارف كمسائل التوحيد و ما يلحق بها بل كانوا لا يتعدون الظواهر الدينية و يقفون عليها، و على ذلك جرى التابعون و قدماء المفسرين حتى نقل عن سفيان بن عيينة أنه قال: كلما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته و السكوت عليه، و عن الإمام مالك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الله استوى على العرش، كيف استوى؟ قال الراوي: فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته و علاه الرحضاء يعني العرق و أطرق القوم. قال: فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول: و الاستواء منه غير مجهول، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة، و إني أخاف أن تكون ضالا، و أمر به فأخرج. و كأن قوله: الكيف غير معقول إلخ، مأخوذ عما روي عن أم سلمة أم المؤمنين في قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" قالت: الكيف غير معقول، و الاستواء غير مجهول، و الإقرار به إيمان، و الجحود به كفر.

فهذا نحو سلوكهم في ذلك لم يورث منهم شيء إلا ما يوجد في كلام الإمام علي بن أبي طالب و الأئمة من ولده بعده (عليه السلام) و نحن نورد بعض ما عثرنا عليه في كلامهم.

ففي التوحيد، بإسناده عن سلمان الفارسي فيما أجاب به علي (عليه السلام) الجاثليق: فقال علي (عليه السلام): إن الملائكة تحمل العرش، و ليس العرش كما تظن كهيئة السرير و لكنه شيء محدود مخلوق مدبر و ربك مالكه لا أنه عليه ككون الشيء على الشيء.

الخبر.

و في الكافي، عن البرقي رفعه قال: سأل الجاثليق عليا (عليه السلام) فقال: أخبرني عن الله عز و جل يحمل العرش أو العرش يحمله؟ فقال (عليه السلام): الله عز و جل حامل العرش و السماوات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما، و ذلك قول الله عز و جل: "إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا - و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده - إنه كان حليما غفورا". قال: فأخبرني عن قوله: "و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية" فكيف ذاك و قلت: إنه يحمل العرش و السماوات و الأرض؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن العرش خلقه الله تبارك و تعالى من أنوار أربعة: نور أحمر منه احمرت الحمرة، و نور أخضر منه اخضرت الخضرة، و نور أصفر منه اصفرت الصفرة و نور أبيض منه ابيض البياض. و هو العلم الذي حمله الله الحملة، و ذلك نور من نور عظمته فبعظمته و نوره أبصر قلوب المؤمنين، و بعظمته و نوره عاداه الجاهلون، و بعظمته و نوره ابتغى من في السماوات و الأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة و الأديان المتشتتة فكل شيء محمول يحمله الله بنوره و عظمته و قدرته لا يستطيع لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكل شيء محمول، و الله تبارك و تعالى الممسك لهما أن تزولا، و المحيط بهما من شيء، و هو حياة كل شيء و نور كل شيء سبحانه و تعالى عما يقولون علوا كبيرا. قال له: فأخبرني عن الله أين هو؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هو هاهنا و هاهنا و فوق و تحت و محيط بنا و معنا، و هو قوله: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم - و لا خمسة إلا هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر - إلا هو معهم أينما كانوا" فالكرسي محيط بالسماوات و الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى، و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى، و ذلك قوله: "وسع كرسيه السماوات و الأرض - و لا يئوده حفظهما و هو العلي العظيم". فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه، و ليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته، و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه و أراه خليله فقال: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض - و ليكون من الموقنين" و كيف يحمل حملة العرش الله و بحياته حييت قلوبهم، و بنوره اهتدوا إلى معرفته، الخبر.

أقول: قوله أخبرني عن الله عز و جل يحمل العرش أو العرش يحمله إلخ، ظاهر في أن الجاثليق أخذ الحمل بمعنى حمل الجسم للجسم، و قوله (عليه السلام): الله حامل العرش و السماوات و الأرض إلخ، أخذ للحمل بمعناه التحليلي و تفسير له بمعنى حمل وجود الشيء و هو قيام وجود الأشياء به تعالى قياما تبعيا محضا لا استقلاليا، و من المعلوم أن لازم هذا المعنى أن يكون الأشياء محمولة له تعالى لا حاملة.



و لذلك لما سمع الجاثليق ذلك سأله (عليه السلام) عن قوله تعالى: "و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية" فإن حمل وجود الشيء بالمعنى المتقدم يختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره مع أن الآية تنسبه إلى غيره! ففسر (عليه السلام) الحمل ثانيا بحمل العلم و فسر العرش بالعلم.

غير أن ذلك حيث كان يوهم المناقضة بين التفسيرين زاد (عليه السلام) في توضيح ما ذكره من كون العرش هو العلم إن هذا العلم غير ما هو المتبادر إلى الأفهام العامية من العلم و هو العلم الحصولي الذي هو الصورة النفسانية بل هو نور عظمته و قدرته حضرت لهؤلاء الحملة بإذن الله و شوهدت لهم فسمي ذلك حملا، و هو مع ذلك محمول له تعالى و لا منافاة كما أن وجود أفعالنا حاضرة عندنا محمولة لنا و هي مع ذلك حاضرة عند الله سبحانه محمولة له و هو المالك الذي ملكنا إياها.

فنور العظمة الإلهية و قدرته الذي ظهر به جميع الأشياء هو العرش الذي يحيط بما دونه و هو ملكه تعالى لكل شيء دون العرش و هو تعالى الحامل لهذا النور ثم الذين كشف الله لهم عن هذا النور يحملونه بإذن الله، و الله سبحانه هو الحامل للحامل و المحمول جميعا.

فالعرش في قوله: "ثم استوى على العرش" - و إن شئت قلت: الاستواء على العرش هو الملك، و في قوله: "و يحمل عرش ربك" الآية هو العلم، و هما جميعا واحد و هو المقام الذي يظهر به جميع الأشياء و يتمركز فيه إجمال جميع التدابير التفصيلية الجارية في نظام الوجود فهو مقام الملك الذي يصدر منه التدابير، و مقام العلم الذي يظهر به الأشياء.

و قوله (عليه السلام): فبعظمته و نوره أبصر قلوب المؤمنين "إلخ" يريد أن هذا المقام هو المقام الذي ينشأ منه تدبير نظام السعادة الذي وقع فيه مجتمع المؤمنين و تسير عليه قافلتهم في مسيرهم إلى الله سبحانه، و ينشأ منه نظام الشقاء الذي ينبسط على جميع المعاندين أعداء الله الجاهلين بمقام ربهم بل المقام الذي ينشأ منه النظام العالمي العام الذي يعيش تحته كل ذي وجود، و يسير به سائرهم للتقرب إليه بأعمالهم و سننهم سواء علموا بما هم فيه من ابتغاء الوسيلة إليه تعالى أو جهلوا.

و قوله (عليه السلام): "و هو حياة كل شيء و نور كل شيء" كالتعليل المبين لقوله قبله فكل شيء محمول يحمله الله إلى آخر ما قال.

و محصله أنه تعالى هو الذي به يوجد كل شيء، و هو الذي يدرك كل شيء فيظهر به طريقه الخاص به في مسير وجوده ظهور الطريق المظلم لسائره بواسطة النور فهي لا تملك لأنفسها شيئا بل الله سبحانه هو المالك لها الحامل لوجودها.

و قوله (عليه السلام): هو هاهنا و هاهنا و فوق و تحت "إلخ" يريد أن الله سبحانه لما كان مقوما لوجود كل شيء حافظا و حاملا له لم يكن محل من المحال خاليا عنه، و لا هو مختصا بمكان دون مكان، و كان معنى كونه في مكان أو مع شيء ذي مكان أنه تعالى حافظ له و حامل لوجوده و محيط به، و هو و كذا غيره محفوظ بحفظه تعالى و محمول و محاط له.

و هذا يئول إلى علمه الفعلي بالأشياء، و نعني به أن كل شيء حاضر عنده تعالى غير محجوب عنه، و لذلك قال (عليه السلام) أولا: "فالكرسي محيط بالسماوات و الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى" فأشار إلى الإحاطة ثم عقبه بقوله: "و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى" فأشار إلى العلم فأنتج ذلك أن الكرسي و يعني به العرش مقام الإحاطة و التدبير و الحفظ، و أنه مقام العلم و الحضور بعينه، ثم طبقه على قوله تعالى: "وسع كرسيه السماوات و الأرض" الآية.

و قوله (عليه السلام): "و ليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته" كأنه إشارة إلى الألوان الأربعة المذكورة في أول كلامه (عليه السلام) و سيجيء كلام فيها في أحاديث المعراج إن شاء الله.

و قوله (عليه السلام) "و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه" فالعرش هو الملكوت غير أن الملكوت اثنان ملكوت أعلى و ملكوت أسفل، و العرش لكونه مقام الإجمال و باطن البابين من الغيب كما سيأتي ما يدل على ذلك من الرواية كان الأحرى به أن يكون الملكوت الأعلى.

و قوله (عليه السلام): و كيف يحمل حملة العرش الله "إلخ" تأكيد و تثبيت لأول الكلام: أن العرش هو مقام حمل وجود الأشياء و تقويمه، فحملة العرش محمولون له سبحانه لا حاملون كيف؟ و وجودهم و سير وجودهم يقوم به تعالى لا بأنفسهم، و لاعتباره (عليه السلام) هذا المقام الوجودي علما عبر عن وجودهم و عن كمال وجودهم بالقلوب، و نور الاهتداء إلى معرفة الله إذ قال: و بحياته حييت قلوبهم و بنوره اهتدوا إلى معرفته.

و في التوحيد، بإسناده عن حنان بن سدير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرش و الكرسي فقال: إن للعرش صفات كثيرة مختلفة، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة فقوله: "رب العرش العظيم" يقول: رب الملك العظيم، و قوله: "الرحمن على العرش استوى" يقول: على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء. ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب و هما جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع و منها الأشياء كلها، و العرش هو الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون و القدر و الحد و الأين و المشية و صفة الإرادة و علم الألفاظ و الحركات و الترك و علم العود و البدء. فهما في العلم بابان مقرونان لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال: "رب العرش العظيم" أي صفته أعظم من صفة الكرسي، و هما في ذلك مقرونان. قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي؟ قال (عليه السلام): إنه صار جاره لأن علم الكيفوفية فيه و فيه الظاهر من أبواب البداء و إنيتها و حد رتقها و فتقها فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما لأنه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز. أقول: قوله (عليه السلام): إن للعرش صفات كثيرة إلخ، يؤيد ما ذكرناه سابقا أن الاستواء على العرش لبيان اجتماع أزمة التدابير العالمية عند الله، و يؤيده ما في آخر الحديث من قوله: و بمثل صرف العلماء.

و قوله (عليه السلام): "و هذا علم الكيفوفية في الأشياء" المراد به العلم بالعلل العالية و الأسباب القصوى للموجودات فإن لفظ "كيف" عرفا كما يسأل به عن العرض المسمى اصطلاحا بالكيف كذلك يسأل به عن سبب الشيء و لمه، يقال: كيف وجد كذا؟ و كيف فعل زيد كذا و هو لا يستطيع.

و قوله (عليه السلام): ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي "إلخ" مراده أن العرش و الكرسي واحد من حيث إنهما مقام الغيب الذي يظهر منه الأشياء و ينزل منه إلى هذا العالم لكن العرش في الصلة الكلامية متميز من الكرسي لأن هذا المقام في نفسه ينقسم إلى مقامين و ينشعب إلى بابين لكنهما مقرونان غير متباينين: أحدهما الباب الظاهر الذي يلي هذا العالم، و الآخر الباب الباطن الذي يليه ثم بينه بقوله: لأن الكرسي هو الباب الظاهر "إلخ".



قوله (عليه السلام): "لأن الكرسي هو الباب الظاهر الذي منه مطلع البدع و منها الأشياء كلها" أي طلوع الأمور البديعة على غير مثال سابق، و منها يتحقق الأشياء كلها لأن جميعها بديعة على غير مثال سابق، و هي إنما تكون بديعة إذا كانت مما لا يتوقع تحققها من الوضع السابق الذي كان أنتج الأمور السابقة على هذا الحادث التي تذهب هي و يقوم هذا مقامها فيئول الأمر إلى البداء بإمحاء حكم سبب و إثبات حكم الآخر موضعه فجميع الوقائع الحادثة في هذا العالم المستندة إلى عمل الأسباب المتزاحمة و القوى المتضادة بدع حادثة و بداءات في الإرادة.

و فوق هذه الأسباب المتزاحمة و الإرادات المتغايرة التي لا تزال تتنازع في الوجود سبب واحد و إرادة واحدة حاكمة لا يقع إلا ما يريده فهو الذي يحجب هذا السبب بذاك السبب و يغير حكم هذه الإرادة و يقيد إطلاق تأثير كل شيء بغيره كمثل الذي يريد قطع طريق لغاية كذا فيأخذ في طيه، و بينما هو يطوي الطريق يقف أحيانا ليستريح زمانا، فعله الوقوف ربما تنازع علة الطي و الحركة و توقفها عن العمل، و الإرادة تغير الإرادة لكن هناك إرادة أخرى هي التي تحكم على الإرادتين جميعا و تنظم العمل على ما تميل إليه بتقديم هذه تارة و تلك أخرى و الإرادتان أعني سببي الحركة و السكون و إن كانت كل منهما تعمل لنفسها و على حدتها و تنازع صاحبتها لكنهما جميعا متفقتان في طاعة الإرادة التي هي فوقهما، و متعاضدتان في إجراء ما يوجبه السبب الذي هو أعلى منهما و أسمى.

فالمقام الذي ينفصل به السببان المتنافيان و ينشأ منه تنازعهما بمنزلة الكرسي، و المقام الذي يظهر أن فيه متلائمين متآلفين بمنزلة العرش، و ظاهر أن الثاني أقدم من الأول، و أنهما يختلفان بنوع من الإجمال و التفصيل، و البطون و الظهور.

و أحرى بالمقامين أن يسميا عرشا و كرسيا لأن فيهما خواص عرش الملك و كرسيه فإن الكرسي: الذي يظهر فيه أحكام الملك من جهة عماله و أيديه العمالة، و كل منهم يعمل بحيال نفسه في نوع من أمور المملكة و شئونها و ربما تنازعت الكراسي فيقدم حكم البعض على البعض و نسخ البعض حكم البعض، لكنها جميعا تتوافق و تتحد في طاعة أحكام العرش و هو المختص بالملك نفسه فعنده الحكم المحفوظ عن تنازع الأسباب غير المنسوخ بنسخ العمال و الأيدي، و في عرشه إجمال جميع التفاصيل و باطن ما يظهر من ناحية العمال و الأيدي.

و بهذا البيان يتضح معنى قوله (عليه السلام): لأن الكرسي هو الباب الظاهر "إلخ" فقوله "منه مطلع البدع" أي طلوع الأمور الكونية غير المسبوقة بمثل، و قوله "و منها الأشياء كلها" أي تفاصيل الخلقة و مفرداتها المختلفة المتشتتة.

و قوله: "و العرش هو الباب الباطن" قبال كون الكرسي هو الباب الظاهر، و البطون و الظهور فيهما باعتبار وقوع التفرق في الأحكام الصادرة و عدم وقوعه، و قوله يوجد فيه "إلخ" أي جميع العلوم و الصور التي تنتهي إلى إجمالها تفاصيل الأشياء.

و قوله: "علم الكيف" كأن المراد بالكيف خصوصية صدور الشيء عن أسبابه، و قوله: "و الكون" المراد به تمام وجوده كما أن المراد بالعود و البدء أول وجودات الأشياء و نهايتها و قوله: "و القدر و الحد" المراد بهما واحد غير أن القدر حال مقدار الشيء بحسب نفسه، و الحد حال الشيء بحسب إضافته إلى غيره و منعه أن يدخل حومة نفسه و يمازجه، و قوله: "و الأين" هو النسبة المكانية، و قوله: "و المشية و صفة الإرادة" هما واحد و يمكن أن يكون المراد بالمشية أصلها و بصفة الإرادة خصوصيتها.

و قوله: "و علم الألفاظ و الحركات و الترك" علم الألفاظ هو العلم بكيفية انتشاء دلالة الألفاظ بارتباطها إلى الخارج بحسب الطبع فإن الدلالة الوضعية تنتهي بالآخرة إلى الطبع، و علم الحركات و الترك، العلم بالأعمال و التروك من حيث ارتباطها إلى الذوات و يمكن أن يكون المراد بمجموع قوله: "علم الألفاظ و علم الحركات و الترك" العلم بكيفية انتشاء اعتبارات الأوامر و النواهي من الأفعال و التروك، و انتشاء اللغات من حقائقها المنتهية إلى منشإ واحد، و الترك هو السكون النسبي في مقابل الحركات.

و قوله: "لأن علم الكيفوفية فيه" الضمير للعرش، و قوله: "و فيه الظاهر من أبواب البداء" الضمير للكرسي، و البداء ظهور سبب على سبب آخر و إبطاله أثره، و ينطبق على جميع الأسباب المتغايرة الكونية من حيث تأثيرها.

و قوله (عليه السلام): "فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف" المراد به على ما يؤيده البيان السابق أن العرش و الكرسي جاران متناسبان بل حقيقة واحدة مختلفة بحسب مرتبتي الإجمال و التفصيل: و إنما نسب إلى أحدهما أنه حمل الآخر بحسب صرف الكلام و ضرب المثل، و بالأمثال تبين المعارف الدقيقة الغامضة للعلماء.

و قوله: "و ليستدلوا على صدق دعواهما" أي دعوى العرش و الكرسي أي و جعل هذا المثل ذريعة لأن يستدل العلماء بذلك على صدق المعارف الحقة الملقاة إليهم في كيفية انتشاء التدبير الجاري في العالم من مقامي الإجمال و التفصيل و الباطن و الظاهر، فافهم ذلك.

و في التوحيد، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قوله تعالى: "و كان عرشه على الماء" الآية، فقال: ما يقولون؟ قيل: إن العرش كان على الماء و الرب فوقه! فقال: كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولا و وصفه بصفة المخلوقين، و لزمه أن الشيء الذي يحمله هو أقوى منه. قال: إن الله حمل دينه و علمه الماء قبل أن تكون سماء أو أرض أو جن أو إنس أو شمس أو قمر.

أقول: و هو كسابقه في الدلالة على أن العرش هو العلم، و الماء أصل الخلقة و كان العلم الفعلي متعلقا به قبل ظهور التفاصيل.

و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن بعد ما بين الأرض و العرش. فقال: قول العبد مخلصا: لا إله إلا الله.

أقول: و هو من لطائف كلامه (عليه السلام) أخذه من قوله تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه".

و وجهه أن العبد إذا نفى عن غيره تعالى الألوهية بإخلاص الألوهية و الاستقلال له تعالى أوجب ذلك نسيان غيره، و التوجه إلى مقام استناد كل شيء إليه تعالى، و هذا هو مقام العرش على ما مر بيانه.

و نظيره في اللطافة قوله (عليه السلام): قد سئل عن بعد ما بين الأرض و السماء: مد البصر و دعوة المظلوم.

و في الفقيه، و المجالس، و العلل، للصدوق: روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل لم سمي الكعبة كعبة؟ قال: لأنها مربعة فقيل له: و لم صارت مربعة؟ قال: لأنها بحذاء البيت المعمور و هو مربع. فقيل له: و لم صار البيت المعمور مربعا؟ قال: لأنه بحذاء العرش و هو مربع، فقيل له: و لم صار العرش مربعا؟ قال: لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع: سبحان الله، و الحمد لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر.

الحديث.

أقول: و هذه الكلمات الأربع أولاها: تتضمن التنزيه و التقديس و الثانية التشبيه و الثناء، و الثالثة التوحيد الجامع بين التنزيه و التشبيه، و الرابعة: التوحيد الأعظم المختص بالإسلام، و هو أن الله سبحانه أكبر من أن يوصف فإن الوصف تقييد و تحديد و هو تعالى أجل من أن يحده حد و يقيده قيد، و قد تقدم نبذة من الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" الآية.



و بالجملة يرجع المعنى إلى تفسيره بالعلم على ما مر، و الروايات المختلفة في هذا المعنى كثيرة كما ورد أن آية الكرسي و آخر البقرة و سورة محمد من كنوز العرش و ما ورد أن (صلى الله عليه وآله وسلم) نهر يخرج من ساق العرش، و ما ورد أن الأفق المبين قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد فيه من القدحان عدد النجوم.

و في تفسير القمي، عن عبد الرحيم الأقصر عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن "ن و القلم" قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها: الخلد، ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر، و كان أشد بياضا من الثلج و أحلى من الشهد. ثم قال للقلم: اكتب. قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة و أصفى من الياقوت ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد، و لا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها الحديث.

و سيجيء تمامه في سورة ن إن شاء الله تعالى.

أقول: و في معناها روايات أخر، و في بعضها لما استزاد الراوي بيانا و أصر عليه قال (عليه السلام): القلم ملك و اللوح ملك، فبين بذلك أن ما وصفه تمثيل من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لتفهيم الغرض.

و في كتاب روضة الواعظين، عن الصادق عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: في العرش تمثال ما خلق الله في البر و البحر. قال: و هذا تأويل قوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه - و ما ننزله إلا بقدر معلوم". أقول: أي وجود صور الأشياء و تماثيلها في العرش، هو الحقيقة التي يبتنى عليها بيان الآية، و قد تقدم توضيح معنى وجود صور الأشياء في العرش، و في معنى هذه الرواية ما ورد في تفسير دعاء "يا من أظهر الجميل".

و فيه، أيضا عن الصادق عن أبيه عن جده (عليهم السلام) في حديث: و إن بين القائمة من قوائم العرش و القائمة الثانية خفقان الطير المسرع مسير ألف عام، و العرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله، و الأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة. أقول: و الجملة الأخيرة مما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق الشيعة و أهل السنة، و الذي ذكره (عليه السلام) بناء على ما تقدم تمثيل، و نظائره كثيرة في رواياتهم (عليهم السلام).

و من الدليل عليه أن ما وصف في الرواية من عظم العرش بأي حساب فرض يوجد من الدوائر التي ترسمها الأشعة النورية ما هي أعظم منه بكثير فليس التوصيف إلا لتقريب المعقول من الحس.

و في العلل، عن علل محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام)،: علة الطواف بالبيت أن الله تبارك و تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة - قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، فردوا على الله تبارك و تعالى هذا الجواب فعلموا أنهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش و استغفروا فأحب الله عز و جل أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى "الضراح" ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى "البيت المعمور" بحذاء الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم فطاف به فجرى في ولده إلى يوم القيامة. الحديث.

أقول: الحديث لا يخلو عن الغرابة من جهات، و كيف كان فبناء على تفسير العرش بالعلم يكون معنى لواذ الملائكة بالعرش هو اعترافهم بالجهل و إرجاع العلم إليه سبحانه حيث قالوا: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" و قد مر الكلام في هذه القصة في أوائل سورة البقرة.

و في الرواية ذكر الضراح و البيت المعمور في السماء و معظم الروايات تذكر في السماء بيتا واحدا و هو البيت المعمور في السماء الرابعة، و فيها إثبات الذنب للملائكة و هم معصومون بنص القرآن، و لعل المراد من العلم بالذنب العلم بنوع من القصور.

و أما كون الكعبة بحذاء البيت المعمور فالظاهر أنه محاذاة معنوية لا حسية جسمانية، و من الشاهد عليه قوله "فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش" إذ المحصل من القرآن و الحديث أن العرش و الكرسي محيطان بالسماوات و الأرض، و لا يتحقق معنى المحاذاة بين المحيط و المحاط إذا كانت الإحاطة جسمانية.

و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام): أن حملة العرش أحدهم على صورة ابن آدم يسترزق الله لولد آدم. و الثاني على صورة الديك يسترزق الله للطير، و الثالث على صورة الأسد يسترزق الله للسباع، و الرابع على صورة الثور يسترزق الله للبهائم، و نكس الثور رأسه منذ عبد بنو إسرائيل العجل فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية. الخبر.

أقول: و الأخبار فيما يقرب من هذا المعنى كثيرة متظافرة، و في بعضها عد الأربع حملة للكرسي، و هو الخبر الوحيد الذي يذكر للكرسي حملة - فيما عثرنا عليه - و قد أوردناها في تفسير آية الكرسي في سورة البقرة.

و في حديث آخر: حملة العرش ثمانية: أربعة من الأولين و أربعة من الآخرين: فأما الأربعة من الأولين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أما الأربعة من الآخرين: فمحمد و علي و الحسن و الحسين (عليهما السلام). أقول: بناء على تفسير العرش بالعلم لا ضير في أن تعد أربعة من الملائكة حملة له ثم تعد عدة من غيرهم حملة له.

و الروايات في العرش كثيرة متفرقة في الأبواب، و هي تؤيد ما مر من تفسيره بالعلم، و ما له ظهور ما في الجسمية منها، مفسرة بما تقدم و أما كون العرش جسما في هيئة السرير موضوعا على السماء السابعة فمما لا يدل عليه حديث يعبأ بأمره بل من الروايات ما يكذبه كالرواية الأولى المتقدمة.

و في تفسير القمي، في قوله تعالى: "خلق السماوات و الأرض في ستة أيام" الآية قال: قال (عليه السلام): في ستة أوقات. و في تفسير البرهان،: صاحب ثاقب المناقب أسنده إلى أبي هاشم الجعفري عن محمد بن صالح الأرمني قال: قلت لأبي محمد العسكري (عليه السلام) عرفني عن قول الله: "لله الأمر من قبل و من بعد" فقال: لله الأمر من قبل أن يأمر و من بعد أن يأمر ما يشاء، فقلت في نفسي هذا تأويل قول الله: "ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين" فأقبل علي و قال: هو كما أسررت في نفسك: ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين. أقول: معناه أن قوله: "ألا له الخلق و الأمر" يفيد إطلاق الملك قبل الصدور و بعده لا كمثلنا حيث نملك الأمر - فيما نملك - قبل الصدور فإذا صدر خرج عن ملكنا و اختيارنا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن عبد العزيز الشامي عن أبيه و كانت له صحبة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح و حمد نفسه فقد كفر و حبط ما عمل، و من زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله: ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين. أقول: المراد من الكفر بالعجب هو الكفر بالنعمة أو بكون الحسنات لله على ما يدل عليه القرآن، و المراد بنفي كون شيء من الأمر للعباد نفي الجعل بنحو الاستقلال دون التبعي من الملك و الأمر.

و في الكافي، بإسناده عن ميسر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت قول الله عز و جل "و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" قال: فقال: يا ميسر إن الأرض كانت فاسدة فأحياها الله عز و جل بنبيه، و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها: أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن ميسر عن أبي عبد الله (عليه السلام) مرسلا. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و النسائي عن أبي موسى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها بقية فبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير، و كانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا و سقوا و زرعوا، و أصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلم و علم، و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.

7 سورة الأعراف - 59 - 64

لَقَدْ أَرْسلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ إِنى أَخَاف عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنرَاك فى ضلَلٍ مّبِينٍ (60) قَالَ يَقَوْمِ لَيْس بى ضلَلَةٌ وَ لَكِنى رَسولٌ مِّن رّب الْعَلَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسلَتِ رَبى وَ أَنصحُ لَكمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) أَ وَ عجِبْتُمْ أَن جَاءَكمْ ذِكْرٌ مِّن رّبِّكمْ عَلى رَجُلٍ مِّنكمْ لِيُنذِرَكُمْ وَ لِتَتّقُوا وَ لَعَلّكمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَهُ وَ الّذِينَ مَعَهُ فى الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الّذِينَ كذّبُوا بِئَايَتِنَا إِنهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)

بيان

تعقيب لما تقدم من الدعوة إلى التوحيد و النهي عن الشرك بالله سبحانه و التكذيب لآياته بذكر قصة نوح (عليه السلام) و إرساله إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله و ترك عبادة غيره و ما واجهته به عامة قومه من الإنكار و الإصرار على تكذيبه فأرسل الله إليهم الطوفان و أنجى نوحا و الذين آمنوا معه ثم أهلك الباقين عن آخرهم.

ثم عقب الله قصته بقصص عدة من رسله كهود و صالح و شعيب و لوط و موسى (عليهما السلام) للغرض بعينه.

قوله تعالى: "لقد أرسلنا نوحا إلى قومه" إلى آخر الآية.

بدأ الله سبحانه بقصته و هو أول رسول يذكر الله سبحانه تفصيل قصته في القرآن كما سيأتي تفصيل القول في قصته في سورة هود إن شاء الله تعالى.

و اللام في قوله: "لقد أرسلنا نوحا" للقسم جيء بها للتأكيد لأن وجه الكلام إلى المشركين و هم ينكرون النبوة، و قوله: "فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" ناداهم بقوله: "يا قوم" فأضافهم إلى نفسه ليكون جريا على مقتضى النصح الذي سيخبرهم به عن نفسه، و دعاهم أول ما دعاهم إلى توحيد الله تعالى فإن دعاهم إلى عبادته، و أخبرهم بانتفاء كل إله غيره فيكون دعوة إلى عبادة الله وحده من غير أن يشرك به في عبادته غيره، و هو التوحيد.

ثم أنذرهم بقوله: "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" و ظاهره يوم القيامة فيكون في ذلك دعوة إلى أصلين من أصول الدين و هما التوحيد و المعاد، و أما الأصل الثالث و هو النبوة فسيصرح به في قوله: "يا قوم ليس بي ضلالة و لكني رسول" الآية.

على أن في نفس الدعوة و هي دعوة إلى نوع من العبادة لا يعرفونها و كذا الإنذار بما لم يكونوا يعلمونه و هو عذاب القيامة إشعارا بالرسالة من قبل من يدعو إليه، و من الشاهد على ذلك قوله في جوابهم: "أ و عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم" فإنه يدل على تعجبهم من رسالته باستماع أول ما خاطبهم به من الدعوة و هو قوله: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره".

قوله تعالى: "قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين" الملأ هم أشراف القوم و خواصهم سموا به لأنهم يملئون القلوب هيبة و العيون جمالا و زينة، و إنما رموا بالضلال المبين و أكدوه تأكيدا شديدا لأنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن معترضا يعترض عليهم بالدعوة إلى رفض آلهتهم و توجيه العبادة إلى الله سبحانه بالرسالة و الإنذار فتعجبوا من ذلك فأكدوا ضلاله مدعين أن ذلك من بين الضلال تحقيقا.

و الرؤية هي الرؤية بحسب الفكر أعني الحكم.

قوله تعالى: "قال يا قوم ليس بي ضلالة" الآية.

أجابهم بنفي الضلال عن نفسه و الاستدراك بكونه رسولا من الله سبحانه، و ذكره بوصفه "رب العالمين" ليجمع له الربوبية كلها قبال تقسيمهم إياها بين آلهتهم بتخصيص كل منها بشيء من شئونها و أبوابها كربوبية البحر و ربوبية البر و ربوبية الأرض و ربوبية السماء و غير ذلك.

و قد جرد (عليه السلام) جوابه عن التأكيد للإشارة إلى ظهور رسالته و عدم ضلالته تجاه إصرارهم بذلك و تأكيد دعواهم.

قوله تعالى: "أبلغكم رسالات ربي و أنصح لكم و أعلم من الله ما لا تعلمون" أخبرهم بأوصاف نفسه فبين أنه يبلغهم رسالات ربه، و هذا شأن الرسالة و مقتضاها القريب الضروري، و في جمع الرسالة دلالة على كونها كثيرة و أن له مقاصد أمره ربه أن يبلغها إياهم وراء التوحيد و المعاد فإنه نبي رسول من أولي العزم صاحب كتاب و شريعة.

ثم ذكر أنه ينصح لهم و هو عظاته بالإنذار و التبشير ليقربهم من طاعة ربهم و يبعدهم عن الاستكبار و الاستنكاف عن عبوديته كل ذلك بذكر ما عرفه الله من بدء الخلقة و عودها و سننه تعالى الجارية فيها و لذا ذكر ثالثا أنه يعلم من الله ما لا يعلمون كوقائع يوم القيامة من الثواب و العقاب و غير ذلك، و ما يستتبع الطاعة و المعصية من رضاه تعالى و سخطه و وجوه نعمه و نقمه.

و من هنا يظهر أن الجمل الثلاث كل مسوق لغرض خاص أعني قوله: "أبلغكم" الآية و "أنصح لكم" و "أعلم" الآية و هي ثلاثة أوصاف متوالية لا كما قيل: إن الأوليان صفتان، و الثالثة جملة حالية عن فاعل "و أنصح لكم".

قوله تعالى: "أ و عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم" إلى آخر الآية.

استفهام إنكاري ينكر تعجبهم من دعواه الرسالة و دعوته إياهم إلى الدين الحق و المراد بالذكر ما يذكر به الله و هو المعارف الحقة التي أوحيت إليه، و قوله: "من ربكم" متعلق بمقدر أي ذكر كائن من ربكم.

و قوله: "لينذركم" و "لتتقوا" و "لعلكم ترحمون" متعلقات بقوله: "جاءكم" و المعنى لغرض أن ينذركم الرسول، و لتتقوا أنتم، و يؤدي ذلك إلى رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فإن التقوى و إن كان يؤدي إلى النجاة لكنها ليست بعلة تامة، و قد اشتمل ما حكي من إجمال كلامه (عليه السلام) من معارف عالية إلهية.

قوله تعالى: "فكذبوه فأنجيناه و الذين معه في الفلك" الفلك السفينة يستعمل واحدا و جمعا على ما ذكره الراغب و يذكر و يؤنث كما في الصحاح، "و قوله: "قوما عمين" موصوف و صفة.

و عمين جمع عمي كخشن صفة مشبهة من عمي يعمى، عمي كالأعمى إلا أن العمي يختص بعمى البصيرة و الأعمى بعمى البصر، كما قيل، و معنى الآية ظاهر.

7 سورة الأعراف - 65 - 72

وَ إِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ أَ فَلا تَتّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنرَاك فى سفَاهَةٍ وَ إِنّا لَنَظنّك مِنَ الْكَذِبِينَ (66) قَالَ يَقَوْمِ لَيْس بى سفَاهَةٌ وَ لَكِنى رَسولٌ مِّن رّب الْعَلَمِينَ (67) أُبَلِّغُكمْ رِسلَتِ رَبى وَ أَنَا لَكمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَ وَ عجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكرٌ مِّن رّبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكمْ وَ اذْكرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زَادَكُمْ فى الْخَلْقِ بَصطةً فَاذْكرُوا ءَالاءَ اللّهِ لَعَلّكمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنت مِنَ الصدِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكم مِّن رّبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضبٌ أَ تُجَدِلُونَنى فى أَسمَاءٍ سمّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَ ءَابَاؤُكُم مّا نَزّلَ اللّهُ بِهَا مِن سلْطنٍ فَانتَظِرُوا إِنى مَعَكم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَهُ وَ الّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنّا وَ قَطعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كذّبُوا بِئَايَتِنَا وَ مَا كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

بيان

قوله تعالى: "و إلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله" إلى آخر الآية.

الأخ و أصله أخو هو المشارك غيره في الولادة تكوينا لمن ولده و غيره أب أو أم أو هما معا أو بحسب شرع إلهي كالأخ الرضاعي أو سنة اجتماعية كالأخ بالدعاء على ما كان يراه أقوام فهذا أصله، ثم استعير لكل من ينتسب إلى قوم أو بلدة أو صنعة أو سجية و نحو ذلك يقال: أخو بني تميم و أخو يثرب و أخو الحياكة و أخو الكرم، و من هذا الباب قوله "و إلى عاد أخاهم هودا".

و الكلام في قوله: "قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" كالكلام في نظير الخطاب من القصة السابقة.

فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله "قال يا قوم" و لم يقل: فقال كما في قصة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال كأنه لما قال: "و إلى عاد أخاهم هودا" قيل: فما قال هود؟ فأجيب و قيل: قال يا قوم اعبدوا الله الآية.

كذا قاله الزمخشري في الكشاف،.

و لا يجري هذا الكلام في قصة نوح لأنه أول قصة أوردت، و هذه القصة قصة بعد قصة يهيأ فيها ذهن المخاطب للسؤال بعد ما وعى إجمال القصة و علم أن قصة الإرسال تتضمن دعوة و ردا و قبولا فكان بالحري إذا سمع المخاطب قوله "و إلى عاد أخاهم هودا" أن يسأل فيقول: ما قال هود لقومه؟ و جوابه قال لهم إلخ.

قوله تعالى: "قال الملأ الذين كفروا من قومه" إلى آخر الآية.

لما كان في هذا الملإ من يؤمن بالله و يستر إيمانه كما سيأتي في القصة بخلاف الملإ من قوم نوح قال هاهنا في قصة هود: "قال الملأ الذين كفروا من قومه" و قال في قصة نوح: "قال الملأ من قومه" كذا ذكره الزمخشري.

و قوله تعالى حكاية عن قولهم: "إنا لنريك في سفاهة و إنا لنظنك من الكاذبين" أكدوا كلامهم مرة بعد مرة لأنهم سمعوا منه مقالا ما كانوا ليتوقعوا صدوره من أحد، و قد أخذت آلهتهم موضعها من قلوبهم، و استقرت سنة الوثنية بينهم استقرارا لا يجترىء معه أحد على أن يعترض عليها فتعجبوا من مقاله فردوه ردا عن تعجب، فجبهوه أولا بأن فيه سفاهة و هو خفة العقل التي تؤدي إلى الخطإ في الآراء، و ثانيا بأنهم يظنون بظن قوي جدا أنه من الكاذبين، و كأنهم يشيرون بالكاذبين إلى أنبيائهم لأن الوثنيين ما كانوا ليذعنوا بالنبوة و قد جاءهم أنبياء قبل هود كما يذكره تعالى بقوله: "و تلك عاد جحدوا بآيات ربهم و عصوا رسله": هود: 59.

قوله تعالى: "قال يا قوم ليس بي سفاهة" الكلام في الآية نظير الكلام في نظيره من قصة نوح غير أن عادا زادوا وقاحة على قوم نوح حيث إن أولئك رموا نوحا بالضلال في الرأي و هؤلاء رموا هودا بالسفاهة لكن هودا لم يترك ما به من وقار النبوة، و لم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهية فأجابهم بقوله: "يا قوم" فأظهر عطوفته عليهم و حرصه على إنجائهم "ليس بي سفاهة و لكني رسول من رب العالمين" فجرى على تجريد الكلام من كل تأكيد و اكتفى بمجرد رد تهمتهم و إثبات ما كان يدعيه من الرسالة للدلالة على ظهوره.



قوله تعالى: "أبلغكم رسالات ربي و أنا لكم ناصح أمين" أي لا شأن لي بما أني رسول إلا تبليغ رسالات ربي خالصا من شوب ما تظنون بي من كوني كاذبا فلست بغاش لكم فيما أريد أن أحملكم عليه، و لا خائن لما عندي من الحق بالتغيير و لا لما عندي من حقوقكم بالإضاعة، فما أريده منكم من التدين بدين التوحيد هو الذي أراه حقا، و هو الذي فيه نفعكم و خيركم، فإنما وصف نفسه بالأمين محاذاة لقولهم: "و إنا لنظنك من الكاذبين".

قوله تعالى: "أ و عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم" إلى آخر الآية.

البصطة هي البسطة قلبت السين صادا لمجاورتها الطاء و هو من حروف الإطباق كالصراط و السراط و الآلاء جمع إلى بفتح الهمزة و كسرها بمعنى النعمة كآناء جمع أنى و إنى.

ثم أنكر (عليه السلام) تعجبهم من رسالته إليهم نظير ما تقدم من نوح (عليه السلام) و ذكرهم نعم الله عليهم، و خص من بينها نعمتين ظاهرتين هما أن الله جعلهم خلفاء في الأرض بعد نوح، و أن الله خصهم من بين الأقوام ببسطة الخلق و عظم الهيكل البدني المستلزم لزيادة الشدة و القوة، و من هنا يظهر أنهم كانوا ذوي حضارة و تقدم، و صيت في البأس و القوة و القدرة.

ثم أتبعهما بالإشارة إلى سائر النعم بقوله تعالى: "فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون".

قوله تعالى: "قالوا أ جئتنا لنعبد الله وحده و نذر ما كان يعبد آباؤنا" الآية.

فيه تعلق منهم بتقليد الآباء، و تعجيز هود مشوبا بنوع من الاستهزاء بما أنذرهم به من العذاب.

قوله تعالى: "قال قد وقع عليكم من ربكم رجس و غضب" إلى آخر الآية.

الرجس و الرجز هو الأمر الذي إذا وقع على الشيء أوجب ابتعاده أو الابتعاد عنه، و لذا يطلق على القاذورة لأن الإنسان يتنفر و يبتعد عنه، و على العذاب لأن المعذب - اسم مفعول - يبتعد عمن يعذبه أو من الناس الآمنين من العذاب.

أجابهم بأن إصرارهم على عبادة الأوثان بتقليد آبائهم أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس و الغضب، ثم فرع عليه أن هددهم بما يستعجلون من العذاب، و أخبرهم بنزوله عليهم لا محالة، و كنى عن ذلك بأمرهم بالانتظار و إخبارهم بأنه مثلهم في انتظار نزول العذاب فقال: "فانتظروا إني معكم من المنتظرين".

و أما قوله: "أ تجادلونني في أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما نزل الله بها من سلطان" فهو رد لما استندوا إليه في ألوهية آلهتهم و هو أنهم وجدوا آباءهم على عبادتها - و هم أكمل منهم و ممن في طبقتهم كهود و أعقل - فيجب عليهم أن يقلدوهم.

و محصله أنكم و آباءكم سواء في أنكم جميعا أتيتم بأشياء ليس لكم على ما ادعيتم من صفتها و هي الألوهية من سلطان و هو البرهان و الحجة القاطعة فلا يبقى لها من الألوهية إلا الأسماء التي سميتموها بها إذ قلتم: إله الخصب و إله الحرب و إله البحر و إله البر، و ليس لهذه الأسماء مصاديق إلا في أوهامكم، فهل تجادلونني في الأسماء، و للإنسان أن يسمي كل ما شاء بما شاء إذا لم يعتبر تحقق المعنى في الخارج.

و قد تكرر في القرآن الاستدلال على بطلان الوثنية بهذا البيان: "أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما نزل الله بها من سلطان" و هو من ألطف البيان و أرقه، و أبلغ الحجة و أقطعها إذ لو لم يأت الإنسان لما يدعيه من دعوى بحجة برهانية لم يبق لما يدعيه من النعت إلا التسمية و التعبير، و من أبده الجهل أن يعتمد الإنسان على مثل هذا النعت الموهوم.



و هذا البيان يطرد و يجري بالتحليل في جميع الموارد التي يثق فيها الإنسان على غير الله سبحانه من الأسباب، و يعطيها من الاستقلال ما يوجب تعلق قلبه بها و طاعته لها و تقربه منها فإن الله سبحانه عد في موارد من كلامه طاعة غيره و الركون إلى من سواه عبادة له قال: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني": يس: 61.

قوله تعالى: "فأنجيناه و الذين معه برحمة منا" إلى آخر الآية، تنكير الرحمة للدلالة على النوع أي بنوع من الرحمة و هي الرحمة التي تختص بالمؤمنين من النصرة الموعودة لهم قال تعالى: "إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد": المؤمن: 51، و قال: "و كان حقا علينا نصر المؤمنين": الروم: 47.

و قوله: "و قطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا" الآية كناية عن إهلاكهم و قطع نسلهم فإن الدابر هو الذي يلي الشيء من خلفه فربما وصف به الأمر السابق على الشيء كأمس الدابر، و ربما وصف به اللاحق كدابر القوم و هو الذي في آخرهم فنسبه القطع إلى الدابر بعناية أن النسل اللاحق دابر متصل بالإنسان في سبب ممتد، و إهلاك الإنسان كذلك كأنه قطع هذا السبب الموصول فيما بينه و بين نسله.

و سيأتي تفصيل البحث عن قصة هود (عليه السلام) في تفسير سورة هود إن شاء الله.

7 سورة الأعراف - 73 - 79

وَ إِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صلِحاً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ قَدْ جَاءَتْكم بَيِّنَةٌ مِّن رّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكلْ فى أَرْضِ اللّهِ وَ لا تَمَسوهَا بِسوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَ اذْكرُوا إِذْ جَعَلَكمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَ بَوّأَكمْ فى الأَرْضِ تَتّخِذُونَ مِن سهُولِهَا قُصوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكرُوا ءَالاءَ اللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأُ الّذِينَ استَكبرُوا مِن قَوْمِهِ لِلّذِينَ استُضعِفُوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنّ صلِحاً مّرْسلٌ مِّن رّبِّهِ قَالُوا إِنّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الّذِينَ استَكبرُوا إِنّا بِالّذِى ءَامَنتُم بِهِ كَفِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قَالُوا يَصلِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنت مِنَ الْمُرْسلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصبَحُوا فى دَارِهِمْ جَثِمِينَ (78) فَتَوَلى عَنهُمْ وَ قَالَ يَقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكمْ رِسالَةَ رَبى وَ نَصحْت لَكُمْ وَ لَكِن لا تحِبّونَ النّصِحِينَ (79)

بيان

قوله تعالى: "و إلى ثمود أخاهم صالحا" إلى آخر الآية.

ثمود أمة قديمة من العرب سكنوا أرض اليمن بالأحقاف بعث الله إليهم "أخاهم صالحا" و هو منهم "فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" دعاهم إلى التوحيد و قد كانوا مشركين يعبدون الأصنام على النحو الذي دعا نوح و هود (عليهما السلام) قومهما المشركين.

و قوله: "قد جاءتكم بينة من ربكم" أي شاهد قاطع في شهادته و يبينه قوله بالإشارة إلى نفس البينة: "هذه ناقة الله لكم آية" و هي الناقة التي أخرجها الله لهم من الجبل آية لنبوته بدعائه (عليه السلام)، و هي العناية في إضافة الناقة إلى الله سبحانه.

و قوله: "فذروها تأكل في أرض الله" الآية.

تفريع على كون الناقة آية لله، و حكم لا يخلو عن تشديد عليهم يستتبع كلمة العذاب التي تفصل بين كل رسول و أمته قال تعالى: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون": يونس: 47، و في الآية تلويح إلى أن تخليتهم الناقة و شأنها في الأكل و السير في الأرض كانت مما يشق عليهم فكانوا يتحرجون من ذلك، و في قوله: "في أرض الله" إيماء إليه فوصاهم و حذرهم أن يمنعوها من إطلاقها و يمسوها بسوء كالعقر و النحر فإن وبال ذلك عذاب أليم يأخذهم.

قوله تعالى: "و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد" إلى آخر الآية.

دعاهم إلى أن يذكروا نعم الله عليهم كما دعا هود عادا إلى ذلك، و ذكرهم أن الله جعلهم خلفاء يخلفون أمما من قبلهم كعاد، و بوأهم من الأرض أي مكنهم في منازلهم منها، يتخذون من سهولها - و السهل خلاف الجبل سمي به لسهولة قطعه - قصورا و هي الدور التي لها سور على ما قيل، و ينحتون الجبال بيوتا يأوون إليها و يسكنونها.

ثم جمع الجميع و لخصها في قوله: "فاذكروا آلاء الله" و أورده في صورة التفريع مع أنه إجمال للتفصيل الذي قبله بإيهام المغايرة كأنه لما أمر بذكر النعم و عد من تفاصيل النعم أشياء كأنهم لا يعلمون بها قيل ثانيا: فإذا كان لله فيكم آلاء و نعم عظيمة أمثال التي ذكرت فاذكروا آلاء الله.

و أما قوله: "و لا تعثوا في الأرض مفسدين" فمعطوف على قوله: "فاذكروا" عطف اللازم على ملزومه، و فسر العثي بالفساد و فسر بالاضطراب و المبالغة.

قال الراغب في المفردات،: العيث و العثي يتقاربان نحو جذب و جبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا، و العثي فيما يدرك حكما يقال: عثى يعثي عثيا، و على هذا: "و لا تعثوا في الأرض مفسدين".

انتهى.

قوله تعالى: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم" إلى آخر الآيتين، دل سبحانه ببيان قوله: "للذين استضعفوا" بقوله: "لمن آمن منهم" على أن المستضعفين هم المؤمنون و أن المؤمنين إنما كانوا من المستضعفين و لم يكن ليؤمن به أحد من المستكبرين، و الباقي ظاهر.



قوله: "فعقروا الناقة و عتوا عن أمر ربهم" إلى آخر الآية عقر النخلة قطعها من أصلها، و عقر الناقة نحرها، و عقر الناقة أيضا قطع قوائمها، و العتو هو التمرد و الامتناع و ضمن في الآية معنى الاستكبار بدليل تعديته بعن، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين" إلى آخر الآيتين.

الرجفة هي الاضطراب و الاهتزاز الشديد كما في زلزلة الأرض و تلاطم البحر، و الجثوم في الإنسان و الطير كالبروك في البعير.

و قد ذكر الله هنا في سبب هلاكهم أنه أخذتهم الرجفة، و قال في موضع آخر: "و أخذ الذين ظلموا الصيحة": هود: 67، و في موضع آخر: "فأخذتهم صاعقة العذاب الهون": حم السجدة: 17، و الصواعق السماوية لا تخلو عن صيحة هائلة تقارنها، و لا ينفك ذلك غالبا عن رجفة الأرض هي نتيجة الاهتزاز الجوي الشديد إلى الأرض، و توجف من جهة أخرى القلوب و ترتعد الأركان، فالظاهر أن عذابهم إنما كان بصاعقة سماوية اقترنت صيحة هائلة و رجفة في الأرض أو في قلوبهم فأصبحوا في دارهم أي في بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم و ركبهم.

و الآية تدل على أن ذلك كان مرتبطا بما كفروا و ظلموا آية من آيات الله مقصودا بها عذابهم عذاب الاستئصال، و لا نظر في الآية إلى كيفية حدوثها، و الباقي ظاهر.

7 سورة الأعراف - 80 - 84

وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفَحِشةَ مَا سبَقَكُم بهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَلَمِينَ (80) إِنّكمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شهْوَةً مِّن دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مّسرِفُونَ (81) وَ مَا كانَ جَوَاب قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكمْ إِنّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطهّرُونَ (82) فَأَنجَيْنَهُ وَ أَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كانَت مِنَ الْغَبرِينَ (83) وَ أَمْطرْنَا عَلَيْهِم مّطراً فَانظرْ كيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

بيان

قوله تعالى: "و لوطا إذ قال لقومه أ تأتون الفاحشة" إلى آخر الآية.

ظاهره أنه من عطف القصة على القصة أي عطف قوله: "لوطا" على "نوحا" في قوله في القصة الأولى: "و لقد أرسلنا نوحا" فيكون التقدير و لقد أرسلنا لوطا إذ قال لقومه إلخ، لكن المعهود من نظائر هذا النظم في القرآن أن يكون بتقدير "اذكر" بدلالة السياق، و على ذلك فالتقدير: و اذكر لوطا الذي أرسلناه إذ قال لقومه إلخ و الظاهر أن تغيير السياق من جهة أن لوطا من الأنبياء التابعين لشريعة إبراهيم (عليه السلام) لا لشريعة نوح (عليه السلام)، و لذلك غير السياق في بدء قصته عن السياق السابق في قصص نوح و هود و صالح فغير السياق في بدء قصته ثم رجع إلى السياق في قصة شعيب (عليه السلام).

و قد كان لوط - على ما سيأتي إن شاء الله من تفصيل قصته في سورة هود - مرسلا إلى أهل سدوم و غيره يدعوهم إلى دين التوحيد و كانوا مشركين عبدة أصنام.

و قوله: "أ تأتون الفاحشة" يريد بالفاحشة اللواط بدليل قوله: "إنكم لتأتون الرجال شهوة" و في قوله: "ما سبقكم بها من أحد من العالمين" أي أحد من الأمم و الجماعات دلالة على أن تاريخ ظهور هذه الفاحشة الشنيعة تنتهي إلى قوم لوط، و سيأتي جل ما يتعلق به من الكلام في تفصيل قصته في سورة هود.

قوله تعالى: "إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء" الآية، إتيان الرجال كناية عن العمل بهم بذلك، و قوله "شهوة" قرينة عليه، و قوله "من دون النساء" قرينة أخرى على ذلك، و يفيد مضافا إلى ذلك أنهم كانوا قد تركوا سبيل النساء و اكتفوا بالرجال، و لتعديهم سبيل الفطرة و الخلقة إلى غيره عدهم متجاوزين مسرفين فقال: "بل أنتم قوم مسرفون".

و لكون عملهم فاحشة مبتدعة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين استفهم عن ذلك مقارنا ب "أن" المفيدة للتحقيق فأفاد التعجب و الاستغراب، و التقدير: "إنكم لتأتون" الآية.

قوله تعالى: "و ما كان جواب قومه إلا أن قالوا" إلى آخر الآية.

أي لم يكن عندهم جواب فهددوه بالإخراج من البلد فإن قولهم: "أخرجوهم من قريتكم" الآية.

ليس جوابا عن قول لوط لهم: "أ تأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد" الآية.

فجواب الكلام في ظرف المناظرة إما إمضاؤه و الاعتراف بحقيته و إما بيان وجه فساده، و ليس في قولهم: "أخرجوهم" إلى آخره شيء من ذلك فوضع ما ليس بجواب في موضع الجواب كناية عن عدم الجواب و دلالة على سفههم.

و قد استهانوا أمر لوط إذ قالوا: "أخرجوهم من قريتكم" الآية أي إن القرية أي البلدة لكم و هم نزلاء ليسوا منها و هم يتنزهون عما تأتونه و يتطهرون، و لا يهمنكم أمرهم فليسوا إلا أناسا لا عدة لهم و لا شدة.

قوله تعالى: "فأنجيناه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين" فيه دلالة على أنه لم يكن آمن به إلا أهله، و قد قال تعالى في موضع آخر: "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين": الذاريات: 36.

و قوله: "كانت من الغابرين" أي الماضين من القوم، و هو استعارة بالكناية عن الهلاك و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و أمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين" ذكر الأمطار في مورد ترقب ذكر العذاب يدل على أن العذاب كان به و قد نكر المطر للدلالة على غرابة أمره و غزارة أثره، و قد فسره الله تعالى في موضع آخر بقوله: "و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك و ما هي من الظالمين ببعيد": هود: 83.

و قوله: "فانظر كيف كان عاقبة المجرمين" توجيه خطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعتبر به هو و أمته.

7 سورة الأعراف - 85 - 93

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ قَدْ جَاءَتْكم بَيِّنَةٌ مِّن رّبِّكمْ فَأَوْفُوا الْكيْلَ وَ الْمِيزَانَ وَ لا تَبْخَسوا النّاس أَشيَاءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فى الأَرْضِ بَعْدَ إِصلَحِهَا ذَلِكمْ خَيرٌ لّكُمْ إِن كنتُم مّؤْمِنِينَ (85) وَ لا تَقْعُدُوا بِكلِّ صِرَطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصدّونَ عَن سبِيلِ اللّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ اذْكرُوا إِذْ كنتُمْ قَلِيلاً فَكَثرَكمْ وَ انظرُوا كَيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَ إِن كانَ طائفَةٌ مِّنكمْ ءَامَنُوا بِالّذِى أُرْسِلْت بِهِ وَ طائفَةٌ لّمْ يُؤْمِنُوا فَاصبرُوا حَتى يحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيرُ الحَْكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأُ الّذِينَ استَكْبرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنّك يَشعَيْب وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مَعَك مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنّ فى مِلّتِنَا قَالَ أَ وَ لَوْ كُنّا كَرِهِينَ (88) قَدِ افْترَيْنَا عَلى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فى مِلّتِكم بَعْدَ إِذْ نجّانَا اللّهُ مِنهَا وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَن نّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشاءَ اللّهُ رَبّنَا وَسِعَ رَبّنَا كلّ شىْءٍ عِلْماً عَلى اللّهِ تَوَكلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَينَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنت خَيرُ الْفَتِحِينَ (89) وَ قَالَ المَْلأُ الّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئنِ اتّبَعْتُمْ شعَيْباً إِنّكمْ إِذاً لّخَسِرُونَ (90) فَأَخَذَتهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصبَحُوا فى دَارِهِمْ جَثِمِينَ (91) الّذِينَ كَذّبُوا شعَيْباً كَأَن لّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الّذِينَ كَذّبُوا شعَيْباً كانُوا هُمُ الْخَسِرِينَ (92) فَتَوَلى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكمْ رِسلَتِ رَبى وَ نَصحْت لَكُمْ فَكَيْف ءَاسى عَلى قَوْمٍ كَفِرِينَ (93)

بيان

قوله تعالى: "و إلى مدين أخاهم شعيبا" الآية معطوف على القصة الأولى و هي قصة نوح (عليه السلام)، و قد بنى (عليه السلام) دعوته على أساس التوحيد كما بناها عليه من قبله من الرسل المذكورين في القصص المتقدمة.

و قوله: "قد جاءتكم بينة من ربكم" يدل على مجيئه بآية تدل على رسالته و لكن الله سبحانه لم يذكر ذلك في كتابه و ليست هذه الآية هي آية العذاب التي يذكرها الله تعالى في آخر قصته فإن عامة قومه من الكفار لم ينتفعوا بها بل كان فيها هلاكهم و لا معنى لكون آية العذاب آية للرسالة مبينة للدعوة.

على أنه يفرع قوله: "فأوفوا الكيل و الميزان" الآية على مجيء الآية ظاهرا، و إنما يستقيم الدعوة إلى العمل بالدين قبل نزول العذاب و تحقق الهلاك.

و هو ظاهر.

و قد دعاهم أولا بعد التوحيد الذي هو أصل الدين إلى إيفاء الكيل و الميزان و أن لا يبخسوا الناس أشياءهم فقد كان الإفساد في المعاملات رائجا فيهم شائعا بينهم.

ثم دعاهم ثانيا بقوله: "و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها "إلى الكف عن الإفساد في الأرض بعد ما أصلحها الله بحسب طبعها، و الفطرة الإنسانية الداعية إلى إصلاحها كي ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة، و الإفساد في الأرض و إن كان بحسب إطلاق معناه يشمل جميع المعاصي و الذنوب مما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق الناس كائنة ما كانت لكن مقابلته لما قبله و ما بعده يخصه - تقريبا - بالإفساد الذي يسلب الأمن العام في الأموال و الأعراض و النفوس كقطع الطرق و نهب الأموال و هتك الأعراض و قتل النفوس المحترمة.

ثم علل دعوته إلى الأمرين بقوله: "ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين" أما كون إيفاء الكيل و الميزان و عدم بخس الناس أشياءهم خيرا فلأن حياة الإنسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الأفراد بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته، و أخذ ما يعادله مما يتمم به نقصه في ضروريات الحياة و ما يتبعها، و هذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات تحفظ به أوصاف الأشياء و مقاديرها على ما هي عليه فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله، و هو شيوعه، و إذا شاع البخس و الغش و الغرر من غير أن يؤمن حلول السم محل الشفاء و الردي مكان الجيد، و الخليط مكان الخالص، و بالآخرة كل شيء محل كل شيء بأنواع الحيل و العلاجات كان فيه هلاك الأموال و النفوس جميعا.

و أما كون الكف عن إفساد الأرض خيرا لهم فلأن سلب الأمن العام يوقف رحى المجتمع الإنساني عن حركتها من جميع الجهات و في ذلك هلاك الحرث و النسل و فناء الإنسانية.

فالمعنى: إيفاء الكيل و الميزان و عدم البخس و الكف عن الفساد في الأرض خير لكم يظهر لكم خيريته إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي، أو المعنى: ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق.



و ربما قيل: إن المعنى ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بدعوتي فإن غير المؤمن لا ينتفع بسبب ما عنده من الكفر القاضي بشقائه و خسرانه و ضلال سعيه بهذه الخيرات الدنيوية بحسب الحقيقة لأن انتفاعه إنما هو انتفاع في موطن خيالي و هو الحياة الدنيا التي هي لعب، و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.

هذا كله على تقدير كون المشار إليه بقوله: "ذلكم" هو إيفاء الكيل و ما بعده كما هو ظاهر السياق، و أما أخذ الإشارة إلى جميع ما تقدم و جعل المراد بالإيمان هو الإيمان المصطلح دون الإيمان اللغوي كما احتمله بعضهم فهو أشبه باشتراط الشيء بنفسه لرجوع المعنى إلى نحو قولنا إن كنتم مؤمنين فالعبادة لله وحده بالإيمان به و إيفاء الكيل و الميزان و عدم الفساد في الأرض خير لكم.

و يرد على الوجهين الأخيرين جميعا أن ظاهر قوله "إن كنتم مؤمنين" ثبوت اتصافهم بالإيمان قبل حال الخطاب فإنه مقتضى تعليق الحكم بقوله: "كنتم مؤمنين" المؤلف من ماضي الكون الناقص و اسم الفاعل من الإيمان، المقتضي لاستقرار الصفة فيهم زمانا، و لا يخاطب بمثل هذا المعنى القوم الذين فيهم الكافر و المؤمن و المستكبر و المنقاد و لو كان كما يقولون لكان من حق الكلام أن يقال: ذلكم خير لكم إن آمنتم أو أن تؤمنوا فالظاهر أنه لا محيص من كون المراد بالإيمان غير الإيمان المصطلح.

قوله تعالى: "و لا تقعدوا بكل صراط توعدون و تصدون عن سبيل الله من آمن به و تبغونها عوجا" الآية ظاهر السياق أن "توعدون و تصدون" حالان من فاعل "لا تقعدوا" و قوله "و تبغونها" حال من فاعل "تصدون".

ثم دعاهم ثالثا إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم الذي هو الدين فإن في الكلام تلويحا إلى أنهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيب (عليه السلام) و يوعدونهم على إيمانهم به و الحضور عنده و الاستماع منه و إجراء العبادات الدينية معه، و يصرفونهم عن التدين بدين الحق و السلوك في طريقة التوحيد و هم يسلكون طريق الشرك، و يطلبون سبيل الله الذي هو دين الفطرة عوجا.

و بالجملة كانوا يقطعون الطريق على الإيمان بكل ما يستطيعون من قوة و احتيال فنهاهم عن ذلك، و وصاهم أن يذكروا نعمة الله عليهم و يعتبروا بالنظر إلى ما يعلمونه من تاريخ الأمم الغابرة، و ما آل إليه أمر المفسدين من عاقبة السوء.

فقوله: "و اذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم، و انظروا كيف كان عاقبة المفسدين" كلام مسوق سوق العظة و التوصية و هو يقبل التعلق بجميع ما تقدم من الأوامر و النواهي فقوله: "و اذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم" أمر بتذكر تدرجهم من القلة إلى الكثرة بازدياد النسل فإن ذلك من نعم الله العظيمة على هذا النوع الإنساني لأن الإنسان لا يقدر على أن يعيش وحده من غير اجتماع إذ الغاية الشريفة و السعادة العالية الإنسانية التي يمتاز بها عن سائر الأنواع الحيوانية و غيرها اقتضت أن تهب العناية الإلهية له أدوات و قوى مختلفة و تركيبا وجوديا خاصا لا يستطير أن يقوم بضروريات حوائجها العجيبة المتفننة وحده بل بالتعاضد مع غيره في تحصيل المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و المنكح و غيرها تعاضدا في الفكر و الإرادة و العمل.

و من المعلوم أنه كلما ازداد عدد المجتمعين ازدادت القوة المركبة الاجتماعية، و اشتدت في فكرتها و إرادتها و عملها فأحست و شعرت بدقائق الحوائج، و تنبهت للطائف من الحيل لتسخير القوى الطبيعية في رفع نواقصها.



فمن المنن الإلهية أن النسل الإنساني آخذ دائما في الزيادة متدرج من القلة إلى الكثرة، و ذلك من الأركان في سير النوع من النقص إلى الكمال فليست الأمم العظيمة كالشراذم القليلة التي تتخطف من كل جانب، و لا الأقوام و العشائر الكبيرة كالطوائف الصغيرة التي لا تستقل في شأن من شئونها السياسية و الاقتصادية و الحربية و غيرها مما يوزن بزنة العلم و الإرادة و العمل.

و أما عاقبة المفسدين فيكفي في التبصر بها ما نقل عن عواقب أحوال الأمم المستعلية المستكبرة الطاغية التي ملأت القلوب رعبا، و النفوس دهشة، و خربت الديار، و نهبت الأموال، و سفكت الدماء، و أفنت الجموع، و استعبدت العباد، و أذلت الرقاب.

مهلهم الله في عتوهم و اعتدائهم حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم، و استووا على أريكة شوكتهم غرتهم الدنيا بزينتها و اجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها فألهتهم عن فضيلة التعقل و اشتغلوا بملاهي الحياة و العيش و اتخذوا إلههم هواهم و أضلهم الله على علم فسلبوا القدرة و الإرادة، و حرموا النعمة فتفرقوا أيادي سبإ.

فكم في ذكر الدهر من أسماء القياصرة و الفراعنة و الأكاسرة و الفغافرة و غيرهم لم يبق منهم إلا أسماء إن لم تنس، و لم تثبت من هيمنتهم إلا أحاديث فمن السنة الإلهية الجارية في الكون أن تبتنى حياة الإنسان على التعقل فإذا تعدى ذلك و أخذ في الفساد و الإفساد أبى طباع الكون ذلك، و ضادته الأسباب بقواها، و طحنته بجموعها، و ضربت عليه بكل ذلة و مسكنة.

قوله تعالى: "و إن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به" إلى آخر الآية.

ثم دعاهم رابعا إلى الصبر على تقدير وقوع الاختلاف بينهم بالإيمان و الكفر فإنه كان يوصيهم جميعا قبل هذه الوصية بالاجتماع على الإيمان بالله و العمل الصالح، و كأنه أحس منهم أن ذلك مما لا يكون البتة، و أن الاختلاف كائن لا محالة، و أن الملأ المستكبرين من قومه و هم الذين كانوا يوعدون و يصدون عن سبيل الله سيأخذون في إفساد الأرض و إيذاء المؤمنين و يوجب ذلك في المؤمنين وهن عزيمتهم، و تسلط الناس على قلوبهم فأمرهم جميعا بالصبر و انتظار أمر الله فيهم ليحكم بينهم و هو خير الحاكمين.

فإن في ذلك صلاح المجتمع، أما المؤمنون فلا يقعون في البأس من الحياة الآمنة، و الاضطراب و الحيرة من جهة دينهم، و أما الكفار فلا يقعون في ندامة الإقدام من غير رؤية و مفسدة المظلمة على جهالة فحكم الله خير فاصل بين الطائفتين فهو خير الحاكمين لا يساهل في حكم إذا حان حينه، و لا يجور في حكم إذا ما حكم.

فقوله: "فاصبروا بالنسبة إلى الكفار أمر إرشادي، و بالنسبة إلى المؤمنين أمر مولوي أو إرشادي، و هو إرشاد الجميع إلى ما يصلح حالهم.

قوله تعالى: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب" الآية.

لم يسترشد الملأ المستكبرون من قومه بما أرشدهم إليه من الصبر و انتظار الحكم الفصل في ذلك من الله سبحانه بل بادروه بتهديده و تهديد المؤمنين بإخراجهم من أرضهم إلا أن يرجعوا إلى ملتهم بالارتداد عن دين التوحيد.

و في تأكيدهم القول "لنخرجنك" و "لتعودن" بالقسم و نون التأكيد دلالة على قطعهم العزم على ذلك، و لذا بادر (عليه السلام) بعد استماع هذا القول منهم إلى الاستفتاح من الله سبحانه.

قوله تعالى: "قال أ و لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم" الآية.



أجاب (عليه السلام) بكراهة العود في ملتهم بدليل ما بعده من الجمل، و لازم ذلك اختيار الشق الآخر على تقدير الاضطرار إلى أحدهما كما أخبروه.

و قد أجاب (عليه السلام) عن نفسه و عن المؤمنين به من قومه، و ذكر أنه و المؤمنين به جميعا كارهون للعود إلى ملتهم فإن في ذلك افتراء للكذب على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، و ما يتبعها من الأحكام المفتراة في دين الوثنية فقوله: "قد افترينا على الله كذبا" الآية.

بمنزلة التعليل لقوله: "أ و لو كنا كارهين".

و من أسخف الاستدلال الاحتجاج بقوله: "إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها" على أن شعيبا (عليه السلام) كان قبل نبوته مشركا وثنيا - حاشاه - و قد تقدم آنفا أنه يتكلم عن نفسه و عن المؤمنين به من قومه و قد كانوا كفارا مشركين قبل الإيمان به فأنجاهم الله من ملة الشرك و هداهم بشعيب إلى التوحيد فقول شعيب: "نجانا الله" تكلم عن المجموع بنسبة وصف الجل إلى الكل، هذا لو كان المراد بالتنجية التنجية الظاهرية من الشرك الفعلي و أما لو أريد بها التنجية الحقيقية و هي الإخراج من كل ضلال محقق موجود أو مقدر مترقب كان شعيب - و هو لم يشرك بالله طرفة عين - و قومه - و هم كانوا مشركين قبل زمان إيمانهم بشعيب - جميعا ممن نجاهم الله من الشرك إذ لا يملك الإنسان لنفسه الهالكة ضرا و لا نفعا و ما أصابه من خير فهو من الله سبحانه.

و قوله: "و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا" كالإضراب و الترقي بالجواب القاطع كأنه قال: نحن كارهون العود إلى ملتكم لأن فيه افتراء على الله بل إن ذلك مما لا يكون البتة، و ذلك أن كراهة شيء إنما توجب تعسر التلبس به دون تعذره فأجاب (عليه السلام) ثانيا بتعذر العود بعد جوابه أولا بتعسره، و هو ما ذكرناه من الإضراب و الترقي.

و لما كان قوله: "و ما يكون لنا أن نعود فيها" في معنى أن يقال: "لن نعود إليها أبدا" و القطع في مثل هذه العزمات مما هو بعيد عن أدب النبوة فإنه في معنى: لن نعود على أي تقدير فرض حتى لو شاء الله، و هو من الجهل بمقامه تعالى، استثنى مشية الله سبحانه فقال: "إلا أن يشاء الله ربنا" فإن الإنسان كيفما كان جائز الخطإ فمن الجائز أن يخطىء بذنب فيعاقبه الله بسلب عنايته به فيطرده من دينه فيهلك على الضلال.

و في الجمع بين الاسمين في قوله: "الله ربنا" إشارة إلى أن الله الذي يحكم ما يشاء هو الذي يدبر أمرنا و هو إله و رب، على ما يقتضيه دين التوحيد لا كما يعلمه دين الوثنية فإنه يسلم الألوهية لله ثم يفرز الربوبية بمختلف شئونها بين الأوثان و يسميها رب البحر و رب البر و هكذا.

و قوله: "وسع ربنا كل شيء علما" كالتعليل لتعقيب الكلام بالاستثناء كأنه قيل لما استثنيت بعد ما أطلقت الكلام و قطعت في العزم؟ فقال: لأنه وسع ربي كل شيء علما و لا أحيط من علمه إلا بما شاء فمن الجائز أن يتعلق مشيته بشيء غائب عن علمي ساءني أو سرني كان يتعلق علمه بأنا سنخالفه في بعض أوامره فيشاء عودنا إلى ملتكم، و إن كنا اليوم كارهين له، و لعل هذا المعنى هو السبب في تعقيب هذا القول بمثل قوله: "على الله توكلنا" فإن من يتوكل على الله كان حسبه و صانه من شر ما يخاف.



و لما بلغ الكلام هذا البلغ و قد أخبروهم بعزمهم على أحد الأمرين: الإخراج أو العود، و أخبرهم شعيب (عليه السلام) بالعزم القاطع على عدم العود إلى ملتهم البتة التجأ (عليه السلام) إلى ربه و استفتح بقوله عن نفسه و عن المؤمنين: "ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين" يسأل ربه أن يفتح بينهم أي بين شعيب و المؤمنين به، و بين المشركين من قومه، و هو الحكم الفصل فإن الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كل منهما عن صاحبه حتى لا يماس هذا ذاك و لا ذاك هذا دعا (عليه السلام) بالفتح و كنى به عن الحكم الفصل و هو الهلاك أو هو بمنزلته و أبهم الخاسر من الرابح و الهالك من الناجي و هو يعلم أن الله سينصره و أن الخزي اليوم و السوء على الكافرين لكنه (عليه السلام) أخذ بالنصفة للحق و تأدب بإرجاع الأمر في ذلك إلى الله كما أتى بنظير ذلك في قوله السابق: "فاصبروا حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين".

و خير الحاكمين و خير الفاتحين اسمان من أسماء الله الحسنى، و قد تقدم البحث عن معنى الحكم فيما مر، و عن معنى الفتح آنفا، و سيجيء الكلام المستوفى في الأسماء الحسنى في تفسير قوله تعالى: "و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها": الآية 180 من السورة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و قال الملأ الذين كفروا من قومه" إلى آخر الآية.

هذا تهديد منهم لمن آمن بشعيب أو أراد أن يؤمن به و يكون من جملة الإيعاد و الصد اللذين كان شعيب ينهى عنهما بقوله: "و لا تقعدوا بكل صراط توعدون و تصدون عن سبيل الله" و يكون إفراد هذا بالذكر هاهنا من بين سائر أقوالهم ليكون كالتوطئة و التمهيد لما سيأتي من قولهم بعد ذكر هلاكهم: "الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين".

و يحتمل أن يكون الاتباع بمعناه الظاهر العرفي و هو اقتفاء أثر الماشي على الطريق و السالك السبيل بأن يكون الملأ المستكبرون لما اضطروه و من معه إلى أحد الأمرين: الخروج من أرضهم أو العود في ملتهم ثم سمعوه يرد عليهم العود إلى ملتهم ردا قاطعا ثم يدعو بمثل قوله: "ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين" لم يشكوا أنه سيتركهم و يهاجر إلى أرض غير أرضهم، و يتبعه في هذه المهاجرة المؤمنون به من القوم خاطبوا عند ذلك طائفة المؤمنين بقولهم: "لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون" فهددوهم و خوفوهم بالخسران إن تبعوه في الخروج من أرضهم ليخرج شعيب وحده فإنهم إنما كانوا يعادونه إياه بالأصالة، و أما المؤمنون فإنما كانوا يبغضون من جهته و لأجله.

و على أي الوجهين كان فالآية كالتوطئة و التمهيد للآية الآتية: "الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين" كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: "فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين" أصبحوا أي صاروا أو دخلوا في الصباح، و قد تقدم معنى الآية في نظيرتها من قصة صالح.

قوله تعالى: "الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها - إلى قوله - الخاسرين" قال الراغب في المفردات،: و غني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره بغنى قال: كأن لم يغنوا فيها انتهى.

و "كأن" مخفف كأن خفف لدخوله الجملة الفعلية.

فقوله: "الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها" فيه تشبيه حال المكذبين من قومه بمن لم يطيلوا الإقامة في أرضهم فإن أمثال هؤلاء يسهل زوالهم لعدم تعلقهم بها في عشيرة أو أهل أو دار أو ضياع و عقار، و أما من تمكن في أرض و استوطنها و أطال المقام بها و تعلق بها بكل ما يقع به التعلق في الحياة المادية فإن تركها له متعسر كالمتعذر و خاصة ترك الأمة القاطنة في أرض أرضها و ما اقتنته فيها طول مقامها.

و قد ترك هؤلاء و هم أمة عريقة في الأرض دارهم و ما فيها، في أيسر زمان أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.

و قد كانوا يزعمون أن شعيبا و من تبعه منهم سيحشرون فخاب ظنهم و انقلبت الدائرة عليهم فكانوا هم الخاسرين فمكروا و مكر الله و الله خير الماكرين.

و إلى هذا يشير تعالى حيث ذكر أولا قولهم: إن متبعي شعيب خاسرون، ثم ذكر نزول العذاب و أبهم الذين أخذتهم الرجفة فقال: "فأخذتهم الرجفة" و لم يقل: فأخذت الذين كفروا الرجفة، ثم صرح في قوله: "الذين كذبوا شعيبا" الآية أن الحكم الإلهي و الهلاك و الخسران كان لشعيب و من تبعه على الذين كذبوه من قومه فكانوا هم الخاسرين الممكور بهم، و هم يزعمون خلافه.

قوله تعالى: "فتولى عنهم" إلى آخر الآية.

ظاهر السياق أنه إنما تولى بعد نزول العذاب عليهم و هلاكهم، و أن الخطاب خطاب اعتبار، و قوله: "فكيف آسى" إلخ هو من الأسى أي كيف أحزن، و الباقي ظاهر.

7 سورة الأعراف - 94 - 102

وَ مَا أَرْسلْنَا فى قَرْيَةٍ مِّن نّبىٍ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْساءِ وَ الضرّاءِ لَعَلّهُمْ يَضرّعُونَ (94) ثُمّ بَدّلْنَا مَكانَ السيِّئَةِ الحَْسنَةَ حَتى عَفَوا وّ قَالُوا قَدْ مَس ءَابَاءَنَا الضرّاءُ وَ السرّاءُ فَأَخَذْنَهُم بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشعُرُونَ (95) وَ لَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَ اتّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيهِم بَرَكَتٍ مِّنَ السمَاءِ وَ الأَرْضِ وَ لَكِن كَذّبُوا فَأَخَذْنَهُم بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيهُم بَأْسنَا بَيَتاً وَ هُمْ نَائمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسنَا ضحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكرَ اللّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكرَ اللّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَسِرُونَ (99) أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لّوْ نَشاءُ أَصبْنَهُم بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسمَعُونَ (100) تِلْك الْقُرَى نَقُص عَلَيْك مِنْ أَنبَائهَا وَ لَقَدْ جَاءَتهُمْ رُسلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كذّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِك يَطبَعُ اللّهُ عَلى قُلُوبِ الْكفِرِينَ (101) وَ مَا وَجَدْنَا لأَكثرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَ إِن وَجَدْنَا أَكثرَهُمْ لَفَسِقِينَ (102)

بيان

الآيات متصلة بما قبلها، و هي تلخص القول في قصص الأمم الغابرة فتذكر أن أكثرهم كانوا فاسقين خارجين عن زي العبودية لم يفوا بالعهد الإلهي و الميثاق الذي أخذ منهم لأول يوم، و تبين أن ذلك كان هو السبب في وقوعهم في مجرى سنن خاصة إلهية يتبع بعضها بعضا، و هي أن الله سبحانه كان كلما أرسل إليهم نبيا من أنبيائه يمتحنهم و يختبرهم بالبأساء و الضراء فكانوا يعرضون عن آيات الله التي كانت تدعوهم إلى الرجوع إلى الله و التضرع و الإنابة إليه، و لا ينتبهون بهاتيك المنبهات، و هذه سنة.

و إذا لم ينفع ذلك بدلت هذه السنة بسنة أخرى، و هي الطبع على قلوبهم بتقسيتها و صرفها عن الحق، و تعليقها بالشهوات المادية و زينات الحياة الدنيا و زخارفها، و هذه سنة المكر.

ثم تتبعها سنة ثالثة و هي الاستدراج، و هي بتبديل السيئة حسنة، و النقمة نعمة و البأساء و الضراء، سراء، و في ذلك تقريبهم يوما فيوما و ساعة فساعة إلى العذاب الإلهي حتى يأخذهم بغتة و هم لا يشعرون به لأنهم كانوا يرون أنفسهم في مهد الأمن و السلام فرحين بما عندهم من العلم، و ما في اختيارهم من الوسائل الكافية على زعمهم في دفع ما يهددهم بهلاك أو يؤذنهم بالزوال.

و قد أشار الله سبحانه في خلال هذه الآيات إلى حقيقة ناصعة هي المدار الذي يدور عليه أساس نزول النعم و النقم على العالم الإنساني حيث يقول: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء" الآية.

و توضيحها أن العالم بما فيه من الأجزاء متعلق الأبعاض مرتبط الأطراف يتصل بعضها ببعض اتصال أعضاء بدن واحد و أجزائه بعضها ببعض في صحتها و سقمها و استقامتها في صدور أفاعيلها، و قيامها بالواجبات من أعمالها فالتفاعل بالآثار و الخواص جار بينها عام شامل لها.

و الجميع على ما يبينه القرآن الشريف سائر إلى الله سبحانه سالك نحو الغاية التي قدرت له فإذا اختل أمر بعض أجزائه و خاصة الأجزاء الشريفة، و ضعف أثره و انحرف عن مستقيم صراطه بأن أثر فساده في غيره، و انعكس ذلك منه إلى نفسه في الآثار التي يرسلها ذلك الغير إليه، و هي آثار غير ملائمة لحال هذا الجزء المنحرف - و هي المحنة و البلية التي يقاسيها هذا السبب من ناحية سائر الأسباب - فإن استقام بنفسه أو بإعانة من غيره عاد إليه رفاه حاله السابق، و لو استمر على انحرافه و اعوجاجه، و أدام فساد حاله دامت له المحنة حتى إذا طغا و تجاوز حده، و أوقفت سائر الأسباب المحيطة به في عتبة الفساد انتهضت عليه سائر الأسباب و هاجت بقواها التي أودعها الله سبحانه فيها لحفظ وجوداتها فحطمته و دكته و محته بغتة و هو لا يشعر.



و هذه السنة التي هي من السنن الكونية التي أقرها الله سبحانه في الكون غير متخلفة عن الإنسان، و لا الإنسان مستثنى منها فالأمة من الأمم إذا انحرفت عن صراط الفطرة انحرافا يصده عن السعادة الإنسانية التي قدرت غاية لمسيره في الحياة كان في ذلك اختلال حال غيره مما يحيط به من الأسباب الكونية المرتبطة به، و ينعكس إليه أثره السيىء الذي لا سبب له إلا انحرافه عن الصراط و توجيهه آثارا سيئة من نفسه إلى تلك الأسباب، و عند ذلك يظهر اختلالات في اجتماعاتهم، و محن عامة في روابطهم العامة كفساد الأخلاق، و قسوة القلوب، و فقدان العواطف الرقيقة، و تهاجم النوائب و تراكم المصائب و البلايا الكونية كامتناع السماء من أن تمطر، و الأرض من أن تنبت، و البركات من أن تنزل، و مفاجأة السيول و الطوفانات و الصواعق و الزلازل و خسف البقاع و غير ذلك كل ذلك آيات إلهية تنبه الإنسان و تدعو الأمة إلى الرجوع إلى ربه، و العود إلى ما تركه من صراط الفطرة المستقيم، و امتحان بالعسر بعد ما امتحن باليسر.

تأمل في قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون": الروم: 41 تراه شاهدا ناطقا بذلك، فالآية تذكر أن المظالم و الذنوب التي تكسبها أيدي الناس توجب فسادا في البر و البحر مما يعود إلى الإنسان كوقوع الحروب و انقطاع الطرق و ارتفاع الأمن و غير ذلك، أو لا يعود إليه كاختلال الأوضاع الجوية و الأرضية الذي يستضر به الإنسان في حياته و معاشه.

و نظيره بوجه قوله تعالى: "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير": الشورى: 30 على ما سيجيء إن شاء الله من تقرير معناه، و كذلك قوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم": الرعد: 11، و ما في معناه من الآيات.

و بالجملة فإن رجعت الأمة بذلك - و ما أقله و أندره في الأمم - فهو، و إن استمرت على ضلالها و خبطها طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك، و أصبحوا يحسبون أن الحياة الإنسانية ليست إلا هذه الحياة المضطربة الشقية التي تزاحمها أجزاء العالم المادي و تضطهدها النوائب و الرزايا، و يحطمها قهر الطبيعة الكونية - و أن ليس للإنسان إلا أن يتقدم في العلم و يتجهز بالحيل الفكرية فيبارزها و يتخذ وسائل كافية في دفع قهرها و إبطال مكرها كما اتخذ اليوم وسائل تكفي لدفع القحط و الجدب و الوباء و الطاعون و سائر الأمراض العامة السارية، و أخرى تنفي بها السيول و الطوفانات و الصواعق، و غير ذلك مما يأتي به طاغية الطبيعة، و يهدد النوع بالهلاك.

قتل الإنسان ما أكفره! أخذه الخيلاء فظن أن التقدم فيما يسميه حضارة و علما يعده أنه سيغلب طبيعة الكون، و يبطل عزائمها، و يقهرها على أن تطيعه في مشيته، و تنقاد لأهوائه، و هو أحد أجزائها المحكومة بحكمها الضعيفة في تركيبها و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض، و لو فسدت لكان الإنسان الضعيف من أقدم أجزائها في الفساد و أسرعها إلى الهلاك.

و يخيل إليه أن الذي ترومه المعرفة الدينية هو أن تبطل نسبة الحوادث العظام إلى أسبابها الطبيعية ثم تضع زمامها في يد صانعها فيكون شريكا من الشركاء، للأسباب الآخر آثارها من الحوادث - و هي الحوادث التي يسعنا البحث عن عللها و أسبابها - و للسبب الذي هو الصانع بقية الآثار من الحوادث كالحوادث العامة و الوقائع الجوية كالوباء و القحط و الأمطار و الصواعق و غيرها ثم إذا كشف عن العلل الطبيعية المكتنفة لهذه الأمور زعم أنه في غنى عن رب العالمين و تدبير ربوبيته.

و قد فاته أن الله عز اسمه ليس سببا في عرض الأسباب، و علة في صف العلل المادية و القوى الفعالة في الطبيعة بل هو الذي أحاط بكل شيء، و خلق كل سبب فساقه و قاده إلى مسببه و أعطى كل شيء خلقه ثم هدى و لا يحيط بخلقه و مسببه غيره فله أن يتسبب إلى كل شيء بما أراده من الأسباب المجهولة عندنا الغائبة عن علومنا.



و إلى ذلك يشير نحو قوله تعالى: "إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا": الطلاق: 3، و قوله: "و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون": يوسف: 21، و قوله: "و ما أنتم بمعجزين في الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير": الشورى: 31، إلى غير ذلك من الآيات.

و كيف يسع للإنسان أن يحارب الله في ملكه، و يتخذ بفكره وسائل لإبطال حكمه و إرادته، و ليس هو سبحانه في عرضها بل هو في طولها أي هو الذي خلق الإنسان و خلق منه هذه الإرادة ثم الفكر ثم الوسائل المتخذة، و وضع كلا في موضعه، و ربط بعضها ببعض من بدئها إلى ختمها حتى أنهاها إلى الغاية الأخيرة التي يريد الإنسان بجهالته أن يحارب بالتوسل إليها ربه في قضائه و قدره، و يناقضه في حكمه، و هو أحد الأيادي العمالة لما يريده و يحكم به و بعض الأسباب المجرية لما يقدره و يقضي به.

و إلى هذا الموقف الفضيح الإنساني يشير تعالى بعد ذكر أخذه الإنسان بالبأساء و الضراء بقوله: "ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا و قالوا قد مس آباءنا الضراء و السراء فأخذناهم بغتة و هم لا يشعرون" على ما سيجيء إن شاء الله تعالى من تقرير معنى الآية عن قريب.

فهذه حقيقة برهانية تقرر أن الإنسان كغيره من الأنواع الكونية مرتبط الوجود بسائر أجزاء الكون المحيطة به، و لأعماله في مسير حياته و سلوكه إلى منزل السعادة ارتباط بغيره فإن صلحت للكون صلحت أجزاء الكون له و فتحت له بركات السماء، و إن فسدت أفسدت الكون و قابله الكون بالفساد فإن رجع إلى الصلاح فيها، و إلا جرى على فساده حتى إذا تعرق فيه انتهض عليه الكون و أهلكه بهدم بنيانه و إعفاء أثره، و طهر الأرض من رجسه.

و كيف يمكن للإنسان و أنى يسعه أن يعارض الكون بعمله و هو أحد أجزائه التي لا تستقل دونه البتة؟ أو يماكره بفكره و إنما يفكر بترتيب القوانين الكلية المأخوذة منه؟ فافهم ذلك.

فهذه حقيقة برهانية و القرآن الكريم يصدقها و ينص عليها فالله سبحانه هو الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، و هداه إلى ما يسعده، و لم يخلق العالم سدى، و لا شيئا من أجزائه و منها الإنسان لعبا، بل إنما خلق ما خلق ليتقرب منه و يرجع إليه، و هيأ له منزلة سعادة يندفع إليها بحسب فطرته بإذن الله سبحانه، و جعل له سبيلا ينتهي إلى سعادته فإذا سلك سبيله الفطري فهو، و إلا فإن انحرف عنه انحرافا لا مطمع في رجوعه إلى سوي الصراط فقد بطلت فيه الغاية، و حقت عليه كلمة العذاب.

قوله تعالى: "و ما أرسلنا في قرية من نبي" إلى آخر الآية.

قيل: البأساء في المال كالفقر، و الضراء في النفس كالمرض، و قيل: يعني بالبأساء ما نالهم من الشدة في أنفسهم و بالضراء ما نالهم في أموالهم، و قيل: غير ذلك.

و قيل: إن البأس و البأساء يكثر استعمالهما في الشدة التي هي بالنكاية و التنكيل كما في قوله تعالى: "و الله أشد بأسا و أشد تنكيلا".

و لعل قوله بعد: "الضراء و السراء" حيث أريد بهما ما يسوء الإنسان و ما يسره يكون قرينة على إرادة مطلق ما يسوء الإنسان من الشدائد من الضراء، و يكون قوله: "بالبأساء و الضراء" من ذكر العام بعد الخاص.



يذكر سبحانه أن السنة الإلهية جرت على أنه كلما أرسل نبيا من الأنبياء إلى قرية من القرى - و ما يرسلهم إليهم إلا ليهديهم سبيل الرشاد - ابتلاهم بشيء من الشدائد في النفوس و الأموال رجاء أن يبعثهم ذلك إلى التضرع إليه سبحانه ليتم بذلك أمر دعوتهم إلى الإيمان بالله و العمل الصالح.

فالابتلاءات و المحن نعم العون لدعوة الأنبياء فإن الإنسان ما دام على النعمة شغله ذلك عن التوجه إلى من أنعمها عليه و استغنى بها، و إذا سلب النعمة أحس بالحاجة، و نزلت عليه الذلة و المسكنة، و علاه الجزع، و هدده الفناء فيبعثه ذلك بحسب الفطرة إلى الالتجاء و التضرع إلى من بيده سد خلته و دفع ذلته، و هو الله سبحانه و إن كان لا يشعر به و إذا نبه عليه كان من المرجو اهتداؤه إلى الحق، قال تعالى: "و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نأى بجانبه و إذا مسه الشر فذو دعاء عريض": حم السجدة: 51.

قوله تعالى: "ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا" إلى آخر الآية.

تبديل الشيء شيئا وضع الشيء الثاني مكان الشيء الأول و السيئة و الحسنة معناهما ظاهر، و المراد بهما ما هما كالشدة و الرخاء، و الخوف و الأمن، و الضراء و السراء كما يدل عليه قوله بعده: "قد مس آباءنا الضراء و السراء".

و قوله: "حتى عفوا" من العفو و فسر بالكثرة أي حتى كثروا أموالا و نفوسا بعد ما كان الله قللهم بالابتلاءات و المحن، و ليس - ببعيد و إن لم يذكروه - أن يكون من العفو بمعنى إمحاء الأثر كقوله: ربع عفاه الدهر طولا فانمحى.

قد كاد من طول البلى أن يمسحا.

فيكون المراد أنهم محوا بالحسنة التي أوتوها آثار السيئة السابقة و قالوا: "قد مس آباءنا الضراء و السراء" أي إن الإنسان و هو في عالم الطبيعة المتحولة المتغيرة من حكم موقفه أن يمسه الضراء و السراء، و تتعاقب عليه الحدثان مما يسوؤه أو يسره من غير أن يكون لذلك انتساب إلى امتحان إلهي و نقمة ربانية.

و من الممكن بالنظر إلى هذا المعنى الثاني أن يكون قوله: "و قالوا" إلخ، عطف تفسير لقوله: "عفوا" و المراد أنهم محوا رسم الامتحان الإلهي بقولهم: إن الضراء و السراء إنما هما من عادات الدهر المتبادلة المتداولة يداولنا بذلك كما كان يداول آباءنا كما قال تعالى: "و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة قائمة": حم السجدة: 50.

و "حتى" في قوله: "حتى عفوا و قالوا" الآية، للغاية، و المعنى: ثم آتيناهم النعم مكان النقم فاستغرقوا فيها إلى أن نسوا ما كانوا عليه في حال الشدة و قالوا: إن هذه الحسنات و تلك السيئات من عادة الدهر فانتهى بهم إرسال الشدة ثم الرخاء إلى هذه الغاية، و كان ينبغي لهم أن يتذكروا عند ذلك و يهتدوا إلى مزيد الشكر بعد التضرع لكنهم غيروا الأمر فوضعوا هذه الغاية مكان تلك الغاية التي رضيها لهم ربهم فطبع الله بذلك على قلوبهم فلا يسمعون كلمة الحق.

و لعل قوله: "الضراء و السراء" قدم فيه الضراء على السراء ليحاذي ما في قوله تعالى: "ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة" من الترتيب.



و في قوله: "فأخذناهم بغتة و هم لا يشعرون" تلويح إلى جهل الإنسان بجريان الأمر الإلهي، و لذا كان الأخذ بغتة و فجأة من غير أن يشعروا به، و هم يظنون أنهم عالمون بمجاري الأمور، و خصوصيات الأسباب، لهم أن يتقوا ما يهددهم من أسباب الهلاك بوسائل دافعة يهديهم إليها العلم، قال تعالى: "فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم": المؤمن: 83.

قوله تعالى: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات" إلى آخر الآية.

البركات أنواع الخير الكثير ربما يبتلى الإنسان بفقده كالأمن و الرخاء و الصحة و المال و الأولاد و غير ذلك.

و قوله: "لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض" فيه استعارة بالكناية فقد شبهت البركات بمجاري تجري منها عليهم كل ما يتنعمون به من نعم الله لكنها سدت دونهم فلا يجري عليهم منها شيء لكنهم لو آمنوا و اتقوا لفتحها الله سبحانه فجرى عليهم منها بركات السماء من الأمطار و الثلوج و الحر و البرد و غير ذلك كل في موقعه و بالمقدار النافع منه، و بركات الأرض من النبات و الفواكه و الأمن و غيرها ففي الكلام استعارة المجاري لبركات ثم ذكر بعض لوازمه و آثاره و هو الفتح للمستعار له.

و في قوله: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا" الآية دلالة على أن افتتاح أبواب البركات مسبب لإيمان أهل القرى جميعا و تقواهم أي إن ذلك من آثار إيمان النوع الإنساني و تقواه لا إيمان البعض و تقواه فإن إيمان البعض و تقواه لا ينفك عن كفر البعض الآخر و فسقه، و مع ذلك لا يرتفع سبب الفساد و هو ظاهر.

و في قوله: "و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون" دلالة على أن الأخذ بعنوان المجازاة و قد تقدم في البيان المذكور آنفا ما يتبين به كيفية ذلك، و أنه في الحقيقة أعمال الإنسان ترد إليه.

قوله تعالى: "أ فأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا و هم نائمون" البيات و التبييت قصد العدو ليلا، و هو من المكر لأن الليل سكن يسكن فيه الإنسان و يميل بالطبع إلى أن يستريح و ينقطع عن غيره بالنوم و السكون.

و قد فرع مضمون الآية على ما قبله أي إذا كان هذا حال أهل القرى أنهم يغترون بما تحت حسهم عما وراءه فيفجئون و يأخذهم العذاب بغتة و هم لا يشعرون فهل أمنوا أن يأتيهم عذاب الله ليلا و هم في حال النوم، و قد عمتهم الغفلة؟.

قوله تعالى: "أ و أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى و هم يلعبون" الضحى صدر النهار حين تنبسط الشمس، و المراد باللعب الأعمال التي يشتغلون بها لرفع حوائج الحياة الدنيا و التمتع من مزايا الشهوات، و هي إذا لم تكن في سبيل السعادة الحقيقية، و طلب الحق كانت لعبا، فقوله: "و هم يلعبون كناية عن العمل للدنيا و ربما قيل: إنه استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنهم يلعبون، و ليس ببعيد أن يكون قوله في الآية السابقة "و هم نائمون" كناية عن الغفلة.

و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "أ فأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون" مكر به مكرا أي مسه بالضرر أو بما ينتهي إلى الضرر و هو لا يشعر و هو إنما يصح منه تعالى إذا كان على نحو المجازاة كأن يأتي الإنسان بالمعصية فيؤاخذه الله بالعذاب من حيث لا يشعر أو يفعل به ما يسوقه إلى العذاب و هو لا يشعر، و أما المكر الابتدائي من غير تحقق معصية سابقة فمما يمتنع عليه تعالى و قد مرت الإشارة إليه كرارا.



و ما ألطف قوله تعالى: "أ فأمن أهل القرى" و "أ و أمن أهل القرى" ثم قوله "أ فأمنوا مكر الله"، و الثالث - و هو الذي في هذه الآية - جمع و تلخيص للإنكارين السابقين في الآيتين، و قد أظهر في الآيتين جميعا من غير أن يقول في الثانية: أ و أمنوا إلخ ليعود الضمير في الآية الثالثة إلى من في الآيتين جميعا كأنه أخذ أهل القرى و هم نائمون غير أهل القرى و هم يلعبون.

و قوله: "فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون" ذلك لأنه تعالى بين في الآيتين الأوليين أن الأمن من مكر الله نفسه مكر إلهي يتعقبه العذاب الإلهي فالآمنون من مكر الله خاسرون لأنهم ممكور بهم بهذا الأمن بعينه.

قوله تعالى: "أ و لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها" إلى آخر الآية.

الظاهر أن فاعل قوله: "يهد" ضمير راجع إلى ما أجمله من قصص أهل القرى، و قوله "للذين يرثون" مفعوله عدي إليه باللام لتضمينه معنى التبيين، و المعنى: أ و لم يبين ما تلوناه من قصص أهل القرى للذين يرثون الأرض من بعد أهلها هاديا لهم، و قوله: "أن لو نشاء أصبناهم" الآية مفعول "يهد" و المراد بالذين يرثون الأرض من بعد أهلها الأخلاف الذين ورثوا الأرض من أسلافهم.

و محصل المعنى: أ و لم يتبين أخلاف هؤلاء الذين ذكرنا أنا آخذناهم بمعاصيهم بعد ما امتحناهم ثم طبعنا على قلوبهم فلم يستطيعوا أن يسمعوا مواعظ أنبيائهم إنا لو نشاء لأصبناهم بذنوبهم من غير أن يمنعنا منهم مانع أو يتقوا بأسنا بشيء.

و ربما قيل: إن قوله: "يهد" منزل منزلة اللازم و المعنى: أ و لم يفعل بهم الهداية أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، و نظيره قوله تعالى: "أ و لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم": الم السجدة: 26. و أما قوله: "و نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون" فمعطوف على قوله "أصبناهم" لأن الماضي هاهنا في معنى المستقبل، و المعنى أ و لم يهد لهم أ و لو نشاء نطبع إلخ، و قيل جملة معترضة تذييلية، و في الآية وجوه و أقوال أخر خالية عن الجدوى.

قوله تعالى: "تلك القرى نقص عليك من أنبائها" إلى آخر الآية تلخيص ثان لقصصهم المقصوصة سابقا بعد التلخيص الذي مر في قوله: "و ما أرسلنا في قرية من نبي" إلى آخر الآيتين أو الآيات الثلاث.

و الفرق بين التلخيصين أن الأول تلخيص من جهة صنع الله من أخذهم بالبأساء و الضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم الأخذ بغتة و هم لا يشعرون، و الثاني تلخيص من جهة حالهم في أنفسهم قبال الدعوة الإلهية، و هو أنهم و إن جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لم يؤمنوا لتكذيبهم من قبل و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، و هذا من طبع الله على قلوبهم.

و قوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" ظاهر الآية أن قوله "بما" متعلق بقوله "ليؤمنوا" و لازم ذلك أن تكون "ما" موصولة و يؤيده قوله تعالى في موضع آخر "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل": يونس: 74 فإنه أظهر في كون "ما" موصولة لمكان ضمير "به" و يئول المعنى إلى أنهم كذبوا بما دعوا إليه أولا ثم لم يؤمنوا به عند الدعوة النبوية ثانيا.

و يؤيده ظاهر قوله "فما كانوا ليؤمنوا" فإن هذا التركيب يدل على نفي التهيؤ القبلي يقال: ما كنت لآتي فلانا "و ما كنت لأكرم فلانا و قد فعل كذا أي لم يكن من شأني كذا و لم أكن بمتهيىء لكذا، و في التنزيل: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب": آل عمران: 179، أي كان في إرادته التمييز من قبل.



و قال تعالى: "لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا": النساء: 137. و يؤيده أيضا قوله في الآية التالية: "و ما وجدنا لأكثرهم من عهد و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين" فإن ظاهر السياق أن هذه الآية معطوفة عطف تفسير على قوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" فيتبين بها أنهم كانوا عهد إليهم بعهد ففسقوا عنه و كذبوا به حين عهد إليهم ثم إذا جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم و لم يؤمنوا بهم، و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل.

و الآية أعني قوله: "و لقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" مذيلة بقوله: "و كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين" فدل ذلك على أن ما وصفه من مجيء الرسل بالبينات و عدم إيمانهم لتكذيبهم بذلك قبلا هو من مصاديق الطبع المذكور، و حقيقته أن الله ثبت التكذيب في قلوبهم و مكنه من نفوسهم حتى إذا جاءتهم الرسل بالبينات لم يكن محل لقبول دعوتهم لكون المحل مشغولا بضده.

فتنطبق هاتان الآيتان بحسب المعنى على الآيتين الأوليين أعني قوله: و ما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها إلى آخر الآيتين حيث تصفان سنة الله أنه يرسل آيات دالة على حقية أصول الدعوة من التوحيد و غيره بأخذهم بالبأساء و الضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم يطبع على قلوبهم جزاء لجرمهم.

و على هذا فالمعنى في الآية: لقد جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لما لم يؤمنوا بالآيات المرسلة إليهم الداعية لهم إلى التضرع إلى الله و الشكر لإحسانه بل شكوا فيها بل حملوها على عادة الدهر و تصريف الأيام و تقليبها الإنسان من حال إلى حال فكذبوا بهذه الآيات، و استقر التكذيب في قلوبهم فلما دعاهم الأنبياء إلى الدين الحق لم يؤمنوا بما كانوا يدعون إليه من الحق و بما كانوا يذكرونهم بها من الآيات لأنهم كذبوا بها من قبل و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل فإن الله عز و جل طبع على قلوبهم فهم لا يسمعون.

فعدم إيمانهم أثر الطبع الإلهي، و الطبع أثر تكذيبهم بدلالة الابتلاء بالبأساء و الضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثانيا، و من الدليل عليه قوله: و لقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا و جاءتهم رسلهم بالبينات و ما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين": يونس: 13، و قوله: "ثم بعثنا من بعده - يعني نوحا - رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين: يونس: 74، و على هذا فقوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" تفريع على قوله: "و لقد جاءتهم رسلهم بالبينات"، و المراد بما كذبوا به الآيات البينات التي ذكرتهم بها الأنبياء من آيات الآفاق و الأنفس و ما جاءوا به من الآيات المعجزة فالجميع آياته، و المراد بتكذيبهم بها من قبل، تكذيبهم بها من حيث دلالة عقولهم بمشاهدتها أنهم مربوبون لله لا رب سواه، و بعدم إيمانهم ثانيا عدم إيمانهم بها حين يذكرهم بها الأنبياء.

فالمعنى فما كانوا ليؤمنوا بما يذكرهم به و يأتي به الأنبياء من الآيات التي كذبوا بها حين ذكرتهم بها عقولهم، و أرسلها الله إليهم ليذكروا و يتضرعوا إليه و يشكروا له.

و على هذا فالمراد بالعهد في قوله في الآية التالية: "و ما وجدنا لأكثرهم من عهد و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين" هو العهد الذي عهده الله سبحانه إليهم من طريق العقل بلسان الآيات: أن لا يعبدوا إلا إياه، و المراد بالفسق خروجهم عن ذلك العهد بعدم الوفاء به.



و لهذا العهد تحقق سابق على هذا التحقق و هو أن الله سبحانه أخذه بعينه منهم حين خلقهم و سواهم بخلق أبيهم آدم و تسويته ثم جعله مثالا للإنسانية العامة فأسجد له الملائكة و أدخله الجنة ثم عهد إليه حين أمر بهبوطه الأرض أن يعبده هو و ذريته و لا يشركوا به شيئا.

و قد قدر الله سبحانه هنالك ما قدر فهدى بحسب تقديره قوما و لم يهد آخرين ثم إذا وردوا الدنيا و أخذوا في سيرهم في مسير الحياة اهتدى الأولون، و فسق عن عهده الآخرون حتى طبع الله على قلوبهم و حقت عليهم الضلالة في الدنيا بعد أعمالهم السيئة كما تقدم بيانه في تفسير قوله: "كما بدأكم تعودون فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة: الآية 30 من السورة.

فمعنى الآية على هذا: فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء بما كذبوا به و لم يقبلوه عند أخذ العهد الأول، و ما وجدنا لأكثرهم من وفاء في الدنيا بالعهد الذي عهدناه هناك و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين خارجين عن حكم ذلك العهد.

فهذا معنى لكنه غير مناف للمعنى السابق فإن أحد المعنيين في طول الآخر و ليسا بمتعارضين فإن تعين طريق الإنسان و غايته من سعادة و شقاوة بحسب القدر لا ينافي إمكان سعادته و شقاوته في الدنيا، و إناطة تحقق كل منهما باختياره ذلك و انتخابه و للقوم في تفسير الآية أقوال أخر: 1 -: أن المراد بتكذيبهم من قبل، تكذيبهم من حين مجيء الرسل إلى حين الإصرار و العناد و بقوله: "فما كانوا ليؤمنوا" إلخ، كفرهم حين الإصرار، و المعنى فما كانوا ليؤمنوا حين العناد بما كذبوا به من أول الدعوة إلى ذلك الحين، و هذا وجه سخيف لا شاهد له من جهة اللفظ البتة.

2 -: أن المراد بتكذيبهم قبلا، تكذيبهم بأصول الشرائع الإلهية التي لا يختلف في شيء منها كالتوحيد و المعاد، و مسألة حسن العدل و قبح الظلم مثلا مما يستقل به العقل، و بتكذيبهم بعدا تكذيبهم بتفاصيل الشرائع، و المعنى فما كانوا ليؤمنوا بهذه الشرائع المفصلة و هي التي كذبوا بها قبلا إجمالا قبل الدعوة التفصيلية، و فيه أنه خلاف ظاهر الآية فلا يقال للكفر بالله و بسائر ما ثبوته فطري عند العقل أنه تكذيب.

على أن ما تقدم من القرائن على خلافه يكذبه.

3 -: أن الآية على حد قوله تعالى: "و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" فالمعنى: ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا به قبل إهلاكهم، هذا.

و هو أسخف ما قيل في تفسير الآية.

4 -: أن ضمير "كذبوا" راجع إلى أسلافهم كما أن ضمير "ليؤمنوا" للأخلاف و المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أسلافهم، و فيه: أنه قول من غير دليل و ظاهر سياق قوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا" أن مرجع الثلاثة جميعا واحد، و من الممكن أن يقرر هذا الوجه بما يرجع إلى الوجه الآتي.

5 -: أن الكلام مبني على أخذ عامة أهل القرى من أسلافهم و أخلافهم واحدا بعث إليه الرسل، و هم مأخوذون كالشخص الواحد فيكون تكذيب الأسلاف لأنبيائهم تكذيبا من الأخلاف لهم، و عدم إيمان الأخلاف أيضا عدم إيمان من الأسلاف و هذا كما يذكر القرآن أهل الكتاب و خاصة اليهود ثم يؤاخذ أخلافهم بما قدمته أيدي أسلافهم، و تنسب إلى لاحقيهم مظالم سابقيهم في آيات كثيرة فيكون المعنى: هو ذا البشر منذ خلقوا إلى اليوم جاءتهم رسلهم بالبينات فما كان يؤمن آخرهم بما كذب به أولهم.

هذا.



و فيه: أنه و إن كان في نفسه معنى صحيحا لكن السياق لا يلائمه فالكلام مسوق لبيان حال الأمم الغابرة كما يدل عليه قوله: "تلك القرى نقص عليك من أنبائها" و لو كانوا مأخوذين على نعت الوحدة الممتدة بامتداد أعصارهم حتى يكون لها أول و آخر و صدر و ذيل تكفر بآخرها و ذيلها بما كذبت به بأولها و صدرها كان من حق الكلام أن يدل على مثل هذا الاستمرار في قوله: "جاءتهم رسلهم بالبينات" فيقال: كانت تأتيهم رسلهم بالبينات أو ما يؤدي هذا المعنى لا بمثل قوله: "جاءتهم" الظاهر في اعتبار الدفعة و المرة فافهم ذلك.

و ذلك كما في قوله تعالى: "كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا و فريقا يقتلون": المائدة: 70، فمن المعلوم أنه ربما كان المكذبون غير القاتلين، و قد نسب الجميع إلى مجتمع واحد لكن دل على استمرار مجيء الرسول، و نظيره قوله: "ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أ بشر يهدوننا فكفروا و تولوا و استغنى الله": التغابن: 6، و كذا قوله في قصص الأنبياء بعد نوح: "ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل": يونس: 14، فإن مفاد قوله "بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم" بعثنا كل رسول إلى قومه.

6 -: أن الباء في قوله: "بما كذبوا" سببية و ما مصدرية، و المراد بتكذيبهم من قبل ما اعتادوه من تكذيب الرسل أو كل حق واجههم، و المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بسبب التكذيب الذي تقدم منهم للرسل أو لكل حق، بربهم.

و فيه: أنه محجوج بنظير الآية و هو قوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل" فإن وجود ضمير "به" فيه دليل على أن ما موصولة.

على أن ظاهر الآية أن الباء للتعدية، و "بما" متعلقة بقوله: "ليؤمنوا" على أنه بوجه راجع إلى الوجه الأول.

7 -: أن المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق و المعنى: فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء في الدنيا بما كذبوا به قبله يوم الميثاق.

و فيه: أنه معنى صحيح في نفسه غير أنه من البطن دون الظهر الذي عليه يدور التفسير، و الدليل عليه قوله بعده: "كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين" فإنه يصرح بأن عدم إيمانهم كذلك إنما كان بالطبع على قلوبهم، و أن الله طبع على قلوبهم بتكذيبهم السابق فلم يؤمنوا به عند الدعوة اللاحقة، و الطبع لا يكون ابتدائيا في الدنيا بل لجرم سابق فيها، و هذا أحسن شاهد على أن هذا التكذيب الذي أورث لهم الطبع على قلوبهم كان في الدنيا ثم الطبع أوجب لهم أن لا يؤمنوا بما كذبوا به من قبل.

و في هذا المعنى آيات أخر تدل على أن الطبع و الختم الإلهي إنما هو عن جرم سابق دنيوي، و ليس مجرد سبق التكذيب في الميثاق ينتج الطبع الابتدائي في الدنيا فإنه مما لا يليق به سبحانه البتة، و قد قال: "يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26.

قوله تعالى: و ما وجدنا لأكثرهم من عهد إلى آخر الآية، قال في المجمع،: من عهد أي من وفاء بعهد كما يقال: فلان لا عهد له أي لا وفاء له بالعهد، و ليس بحافظ للعهد انتهى.

و من الجائز أن يراد بالعهد عهد الله الذي عهده إليهم من ناحية آياته أو عهدهم الذي عاهدوا الله عليه أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و من ناحية حاجة أنفسهم و دلالة عقولهم، و قد ظهر معنى الآية مما تقدم.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن الحسين بن الحكم قال: كتبت إلى العبد الصالح أخبره أني شاك و قد قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى فإني أحب أن تريني شيئا من ذلك. فكتب إليه: أن إبراهيم كان مؤمنا و أحب أن يزداد إيمانا، و أنت شاك و الشاك لا خير فيه، و كتب: أنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك. و كتب: أن الله عز و جل يقول: و ما وجدنا لأكثرهم من عهد - و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين قال: نزلت في الشاك.

أقول: و انطباقه على ما مر في البيان السابق ظاهر، و قد روى ذيل الحديث العياشي عن الحسين بن الحكم الواسطي و فيه: نزلت في الشكاك
<<        الفهرس        >>