جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج8 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


7 سورة الأعراف - 103 - 126

ثُمّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مّوسى بِئَايَتِنَا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلايهِ فَظلَمُوا بهَا فَانظرْ كَيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَ قَالَ مُوسى يَفِرْعَوْنُ إِنى رَسولٌ مِّن رّب الْعَلَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَن لا أَقُولَ عَلى اللّهِ إِلا الْحَقّ قَدْ جِئْتُكم بِبَيِّنَةٍ مِّن رّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنى إِسرءِيلَ (105) قَالَ إِن كُنت جِئْت بِئَايَةٍ فَأْتِ بهَا إِن كُنت مِنَ الصدِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مّبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضاءُ لِلنّظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنّ هَذَا لَسحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يخْرِجَكم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ أَرْسِلْ فى الْمَدَائنِ حَشِرِينَ (111) يَأْتُوك بِكلِّ سحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جَاءَ السحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنّ لَنَا لأَجْراً إِن كنّا نحْنُ الْغَلِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَ إِنّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرّبِينَ (114) قَالُوا يَمُوسى إِمّا أَن تُلْقِىَ وَ إِمّا أَن نّكُونَ نحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمّا أَلْقَوْا سحَرُوا أَعْينَ النّاسِ وَ استرْهَبُوهُمْ وَ جَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَ أَوْحَيْنَا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاك فَإِذَا هِىَ تَلْقَف مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الحَْقّ وَ بَطلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِك وَ انقَلَبُوا صغِرِينَ (119) وَ أُلْقِىَ السحَرَةُ سجِدِينَ (120) قَالُوا ءَامَنّا بِرَب الْعَلَمِينَ (121) رَب مُوسى وَ هَرُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكمْ إِنّ هَذَا لَمَكْرٌ مّكَرْتُمُوهُ فى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنهَا أَهْلَهَا فَسوْف تَعْلَمُونَ (123) لأُقَطعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَفٍ ثُمّ لأُصلِّبَنّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنّا إِلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَ مَا تَنقِمُ مِنّا إِلا أَنْ ءَامَنّا بِئَايَتِ رَبِّنَا لَمّا جَاءَتْنَا رَبّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صبراً وَ تَوَفّنَا مُسلِمِينَ (126)

بيان

شروع في قصص موسى (عليه السلام)، و قد خص بالذكر منها مجيئه إلى فرعون و دعواه الرسالة إليه لنجاة بني إسرائيل و إتيانه بالآيتين اللتين آتاه الله إياهما ليلة الطور، و هذه القصة هي التي تشتمل عليها هذه الآيات ثم إجمال قصته حين إقامته في مصر بين بني إسرائيل لإنجائهم، و ما نزل على قوم فرعون من آيات الشدة إلى أن أنجى الله بني إسرائيل، ثم تذكر قصة نزول التوراة و عبادة بني إسرائيل العجل، ثم قصصا متفرقة من بني إسرائيل يعتبر بها المعتبر.

قوله تعالى: "ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون و ملإيه" إلى آخر الآية.

في تغيير السياق في أول القصة دلالة على تجدد الاهتمام بأمر موسى (عليه السلام) فإنه من أولي العزم صاحب كتاب و شريعة، و قد ورد الدين ببعثته في مرحلة جديدة من التفصيل بعد المرحلتين اللتين قعطهما ببعثة نوح و إبراهيم (عليه السلام)، و في لفظ الآيات شيء من الإشارة إلى تبدل المراحل فقد قال تعالى أولا: "لقد أرسلنا نوحا إلى قومه" "و إلى عاد أخاهم هودا" "و إلى ثمود أخاهم صالحا" فجرى على سياق واحد لأن هودا و صالحا كانا على شريعة نوح، ثم غير السياق فقال: "و لوطا إذ قال لقومه" لأن لوطا من أهل المرحلة الثانية في الدين و هي مرحلة شريعة إبراهيم، و كان لوط على شريعته ثم عاد إلى السياق السابق في بدء قصة شعيب، ثم غير السياق في بدء قصة موسى بقوله: "ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون و ملإيه" لأنه ثالث أولي العزم صاحب كتاب جديد و شريعة جديدة، و دين الله و شرائعه و إن كان واحدا لا تناقض فيه و لا تنافي غير أنه مختلف بالإجمال و التفصيل و الكمال و زيادته بحسب تقدم البشر تدريجيا من النقص إلى الكمال، و اشتداد استعداده لقبول المعارف الإلهية عصرا بعد عصر إلى أن ينتهي إلى موقف علمي هي أعلى المواقف فيختتم عند ذلك الرسالة و النبوة، و يستقر الكتاب و الشريعة استقرارا لا مطمع بعده في كتاب جديد أو شريعة جديدة و لا يبقى للبشر بعد ذلك إلا التدرج في الكمال من حيث انتشار الدين و انبساطه على المجتمع البشري و استيعابه لهم، و إلا التقدم من جهة التحقق بحقائق المعارف، و الترقي في مراقي العلم و العمل التي يدعو إليها الكتاب، و يحرض عليها الشريعة و الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.

فقوله تعالى: "ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا" إلى آخر الآية.

إجمال لقصة موسى (عليه السلام) ثم يؤخذ في التفصيل من قوله: "و قال موسى يا فرعون" الآية، و إنا و إن كنا نسمي هذه القصص بقصة موسى و قصة نوح و قصة هود و هكذا فإنها بحسب ما سردت في هذه السورة قصص الأمم و الأقوام الذين أرسل إليهم هؤلاء الرسل الكرام يذكر فيها حالهم فيما واجهوا به رسل الله من الإنكار و الرد، و ما آل إليه أمرهم من نزول العذاب الإلهي الذي أفنى جمعهم، و قطع دابرهم و لذلك ترى أن عامة القصص المذكورة مختومة بذكر نزول العذاب و هلاك القوم.



و لا تنس ما قدمناه في مفتتح الكلام أن الغرض منها بيان حال الناس في قبول العهد الإلهي المأخوذ منهم جميعا ليكون إنذارا للناس عامة و ذكرى للمؤمنين خاصة، و أنه الغرض الجامع بين ما في سور "الم" و ما في سورة "ص" من الغرض و هو الإنذار و الذكرى.

فقوله: "ثم بعثنا من بعدهم" أي من بعد من ذكروا من الأنبياء و هم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب (عليهما السلام) "موسى بآياتنا إلى فرعون و ملإيه" أي إلى ملك مصر و الأشراف الذين حوله، و "فرعون" لقب كان يطلق على ملوك مصر كالخديو كما كان يلقب بقيصر و كسرى و فغفور ملوك الروم و إيران و الصين، و لم يصرح القرآن الكريم باسم هذا الفرعون الذي أرسل إليه موسى فأغرقه الله بيده.

و قوله: "بآياتنا" الظاهر أن المراد بها ما أتى به في أول الدعوة من إلقاء العصا فإذا هي ثعبان، و إخراج يده من جيبه فإذا هي بيضاء، و الآيات التي أرسلها الله إليهم بعد ذلك من الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات، و لم ينقل القرآن الكريم لنبي من الأنبياء من الآيات الكثيرة ما نقله عن موسى (عليه السلام).

و قوله: "فظلموا بها" أي بالآيات التي أرسل بها على ما سيذكره الله سبحانه في خلال القصة، و ظلم كل شيء بحسبه، و ظلم الآيات إنما هو التكذيب بها و الإنكار لها.

و قوله: "فانظر كيف كان عاقبة المفسدين" ذكر عاقبة الإفساد في الاعتبار بأمرهم لأنهم كانوا يفسدون في الأرض و يستضعفون بني إسرائيل، و قد كان في متن دعوة موسى حين ألقاها إلى فرعون: "فأرسل معي بني إسرائيل" و في سورة طه: "فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم": طه: 47.

قوله تعالى: "و قال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين" شروع في تفصيل قصة الدعوة كما تقدمت الإشارة إليه، و قد عرف نفسه بالرسالة ليكون تمهيدا لذكر ما أرسل لأجله، و ذكره تعالى باسمه رب العالمين أنسب ما يتصور في مقابلة الوثنيين الذين لا يرون إلا أن لكل قوم أو لكل شأن من شئون العالم و طرف من أطرافه ربا على حدة.

قوله تعالى: "حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق" إلى آخر الآية تأكيد لصدقه في رسالته أي أنا حري بأن أقول قول الحق و لا أنسب إلى الله في رسالتي منه إليك شيئا من الباطل لم يأمرني به الله سبحانه، و قوله: "قد جئتكم ببينة من ربكم" في موضع التعليل بالنسبة إلى جميع ما تقدم أو بالنسبة إلى قوله: "إني رسول من رب العالمين" لأنه هو الأصل الذي يتفرع عليه غيره.

و لعل تعدية "حقيق" بعلى من جهة تضمينه معنى حريص أي حريص على كذا حقيقا به، و المعروف في اللغة تعدية حقيق بمعنى حري بالباء يقال: فلان حقيق بالإكرام أي حري به لائق.

و قرىء: "حقيق علي" بتشديد الياء و الحقيق على هذا مأخوذ من حق عليه كذا أي وجب، و المعنى واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق فالحقيق خبر و مبتدؤه قوله: أن لا أقول، الآية و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين" الشرط في صدر الآية أعني قوله: "إن كنت جئت بآية" يتضمن صدقه (عليه السلام) فإنه إذا كان جائيا بآية واقعة فقد صدق في إخباره بأنه قد جاء بآية لكن الشرط في ذيل الآية تعريض يومىء به إلى أنه ما يعتقد بصدقه في إخباره بوجود آية معه، فكأنه قال: إن كنت جئت بآية فأت بها و ما أظنك تصدق في قولك، فلا تكرار في الشرط.



قوله تعالى: "فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين" الفاء جوابية كما قيل أي فأجابه بإلقاء عصاه، و هذه هي فاء التفريع و الجواب مستفاد من خصوصية المورد.

و الثعبان الحية العظيمة و لا تنافي بين وصفه هاهنا بالثعبان المبين و بين ما في موضع آخر من قوله تعالى: "فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا و لم يعقب": القصص: 31، و الجان هي الحية الصغيرة لاختلاف القصتين كما قيل فإن ذكر الجان إنما جاء في قصة ليلة الطور و قد قال تعالى فيها في موضع آخر: "فألقاها فإذا هي حية تسعى": طه: 20، و أما ذكر الثعبان فقد جاء في قصة إتيانه لفرعون بالآيات حين سأله ذلك.

قوله تعالى: "و نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين" أي نزع يده من جيبه على ما يدل عليه قوله تعالى: "و اضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء": طه: 22، و قوله: "اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء": القصص: 32.

و الأخبار و إن وردت فيها أن يده (عليه السلام) كانت تضيء كالشمس الطالعة عند إرادة الإعجاز بها لكن الآيات لا تقص أزيد من أنها كانت تخرج بيضاء للناظرين إلا أن كونها آية معجزة تدل على أنها كانت تبيض ابيضاضا لا يشك الناظرون في أنها حالة خارقة للعادة.

قوله تعالى: "قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم" لم يذكر تعالى ما قاله فرعون عند ذلك، و إنما الذي ذكر محاورة الملإ بعضهم بعضا كأنهم في مجلس مشاورة يذاكر بعضهم بعضا و يشير بعضهم إلى ما يراه و يصوبه آخرون فيقدمون ما صوبوه من رأي إلى فرعون ليعمل به فهم لما تشاوروا في أمر موسى و ما شاهدوه من آياته المعجزة قالوا: إن هذا لساحر عليم، و إذا كان ساحرا غير صادق فيما يذكره من رسالة الله سبحانه فإنما يتوسل بهذه الوسيلة إلى نجاة بني إسرائيل و استقلالهم في أمرهم ليتأيد بهم ثم يخرجكم من أرضكم و يذهب بطريقتكم المثلى فما ذا تأمرون به في إبطال كيده، و إخماد ناره التي أوقدها؟ أ من الواجب مثلا أن يقتل أو يصلب أو يسجن أو يعارض بساحر مثله؟.

فاستصوبوا آخر الآراء، و قدموه إلى فرعون أن أرجه و أخاه و ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم.

و من ذلك يظهر أن قوله تعالى: "فما ذا تأمرون" حكاية ما قاله بعض الملإ لبعض و قوله: "قالوا أرجه" إلخ، حكاية ما قدموه من رأي الجميع إلى فرعون و قد اتفقوا عليه، و قد حكى الله سبحانه في موضع آخر من كلامه هذا القول بعينه من فرعون يخاطب به ملأه قال تعالى: "قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فما ذا تأمرون قالوا أرجه و أخاه و ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم": الشعراء: 37.

و يظهر مما في الموضعين أنهم إنما شاوروا حول ما قاله فرعون ثم صوبوه و رأوا أن يجيبه بسحر مثل سحره، و قد حكى الله أيضا هذا القول عن فرعون يخاطب به موسى حتى بالذي أشار إليه الملأ من معارضة سحره بسحر آخر مثله إذ قال: "قال أ جئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله": طه: 58، و لعل ذلك محصل ما خرج من مشاورتهم حول ما قاله فرعون بعد ما قدم إلى فرعون مخاطب به موسى من قبل نفسه.



و للملإ جلسة مشاورة أخرى أيضا بعد قدوم السحرة إلى فرعون ناجى فيها بعضهم بعضا بمثل ما في هذه الآيات قال تعالى: "فتنازعوا أمرهم بينهم و أسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما و يذهبا بطريقتكم المثلى": طه: 63.

فتبين أن أصل الكلام لفرعون ألقاه إليهم ليتشاوروا فيه و يروا رأيهم فيما يفعل به فرعون فتشاوروا و صدقوا قوله و أشاروا بالإرجاء و جمع السحرة للمعارضة فقبله ثم ذكره لموسى ثم اجتمعوا للمشاورة و المناجاة ثانيا بعد مجيء السحرة و اتفقوا أن يجتمعوا عليه و يعارضوه بكل ما يقدرون عليه من السحر صفا واحدا.

قوله تعالى: "يريد أن يخرجكم من أرضكم فما ذا تأمرون" أي يريد أن يتأيد ببني إسرائيل فيتملك مصر، و يبطل استقلالكم و يخرجكم من أرضكم، و كثيرا ما كان يتفق في الأعصار السابقة أن يهجم قوم على قوم فيتغلبوا عليهم فيشغلوا أرضهم و يتملكوا ديارهم فيخرجوهم منها و يشردوهم في الأرض.

قوله تعالى: "قالوا أرجه و أخاه و أرسل في المدائن حاشرين" إلى آخر الآية التالية.

أرجه بسكون الهاء أمر من الإرجاء بمعنى التأخير و الهاء للسكت أي أخره و أخاه و لا تعجل لهما بشر كالقتل و نحوه حتى ترمي بظلم أو قسوة و نحوهما بل ابعث في المدائن من جنودك حاشرين يجمعون السحرة فيأتوك بهم ثم عارض سحر موسى بسحر السحرة.

و قرىء: أرجه بكسر الجيم و الهاء و أصله أرجئه قلبت الهمزة ياء ثم حذفت، و الهاء ضمير راجع إلى موسى، و أخوه هو هارون (عليه السلام).

قوله تعالى: "و جاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا" إلى آخر الآية التالية أي فأرسل حاشرين فحشروهم و جاء السحرة كل ذلك محذوف للإيجاز.

و قولهم: "إن لنا لأجرا" سؤال للأجر جيء به في صورة الخبر للتأكيد، و إفادة الطلب الإنشائي في صورة الإخبار شائع، و يمكن أن يكون استفهاما بحذف أداته، و يؤيده قراءة ابن عامر: "أ إن لنا لأجرا" و قوله: "قال نعم و إنكم لمن المقربين" إجابة لمسئولهم مع زيادة وعدهم بالتقريب.

قوله تعالى: "قالوا يا موسى إما أن تلقي و إما أن نكون نحن الملقين" خيروه بين أن يكون هو الملقي بعصاه، و بين أن يكونوا هم الملقين لما أعدوه من الحبال و العصي و هذا التخيير في مقام استعدوا لمقابلته، و لا محالة يفيد التخيير في الابتداء بالإلقاء فمعناه إن شئت ألق عصاك أولا و إن شئت ألقينا حبالنا و عصينا أولا.

و فيه نوع من التجلد لدلالته على أنهم لا يبالون بأمره سواء ألقى قبلهم أو بعدهم فلا يهابونه على أي حال لوثوقهم بأنهم هم الغالبون، و لا يخلو التخيير مع ذلك عن نوع من التأدب.

قوله تعالى: "قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس" إلى آخر الآية، السحر هاهنا نوع تصرف في حاسة الإنسان بإدراك أشياء لا حقيقة لها في الخارج، و قد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان: البقرة: 102 في الجزء الأول من الكتاب، و الاسترهاب الإخافة، و معنى الآية ظاهر، و قد عد الله فيها سحرهم عظيما.



قوله تعالى: و أوحينا إلى موسى أن ألق إلى آخر الآيتين، أن تفسيرية و اللقف و اللقفان تناول الشيء بسرعة، و الإفك هو صرف الشيء عن وجهه و لذا يطلق على الكذب، و في الآية وجوه من الإيجاز ظاهرة، و التقدير: و أوحينا إلى موسى بعد ما ألقوا أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي حية و إذا هي تلقف ما يأفكون.

و قوله: "فوقع الحق" فيه استعارة بالكناية بتشبيه الحق بشيء كأنه معلق لا يعلم عاقبة حاله أ يستقر في الأرض بالوقوع عليها و التمكن فيها أم لا؟ فوقع و استقر "و بطل ما كانوا يعملون" من السحر.

قوله تعالى: "فغلبوا هنالك و انقلبوا صاغرين" أي غلب فرعون و أصحابه "هنالك" أي في ذلك المجمع العظيم الذي تهاجم عليهم فيه الناس من كل جانب ففي لفظ "هنالك" إشارة إلى ذلك و هو للبعيد، "و انقلبوا صاغرين" أي عادوا و صاروا أذلاء مهانين.

قوله تعالى: "و ألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى و هارون" أبهم فاعل الإلقاء في قوله: "و ألقي السحرة ساجدين" و هو معلوم فإن السحرة هم الذين ألقوا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، و ذلك للإشارة إلى كمال تأثير آية موسى فيهم و إدهاشها إياهم فلم يشعروا بأنفسهم حين ما شاهدوا عظمة الآية و ظهورها عليهم إلا و هم ملقون ساجدون فلم يدروا من الذي أوقع بهم ذلك.

فاضطرتهم الآية إلى الخرور على الأرض ساجدين، و الإيمان برب العالمين الذي اتخذه موسى و هارون، و في ذكر موسى و هارون دلالة على الإيمان بهما مع الإيمان برب العالمين.

و ربما قيل: إن بيانهم رب العالمين برب موسى و هارون لدفع توهم أن يكون إيمانهم لفرعون فإنه كان يدعي أنه رب العالمين فلما بينوه بقولهم "رب موسى و هارون" و لم يأخذا فرعون ربا اندفع ذلك التوهم، و لا يخلو عن خفاء فإن الوثنية ما كانت تقول برب العالمين بحقيقة معناه بمعنى من يملك العالمين و يدبر أمر جميع أجزائها بالاستقامة بل قسموا أجزاء العالم و شئونها بين أرباب شتى، و إنما أعطوا الله سبحانه مقام إله الآلهة و رب الأرباب لا رب الأرباب و مربوبيها.

و الذي ادعاه فرعون لنفسه على ما حكاه الله من قوله: "أنا ربكم الأعلى": النازعات: 24، إنما هو العلو من جهة القيام بحاجة الناس - و هم أهل مصر خاصة - عن قرب و اتصال لا من جهة القيام بربوبية جميع العالمين، و مع ذلك كله قد أحاطت الخرافات على الوثنية بحيث لا يستبعد أن يتفوهوا بكون فرعون رب العالمين و إن خالف أصول مذاهبهم قطعا.

قوله تعالى: "قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم" إلى آخر الآيتين خاطبهم فرعون بقوله: "آمنتم به قبل أن آذن لكم" تأنفا و استكبارا، و هو إخبار يفيد بحسب المقام و الإنكار و التوبيخ، و من الجائز أن يكون استفهاما إنكاريا أو توبيخيا محذوف الأداة.

و قوله: "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة" الآية يتهمهم بالمواطاة و المواضعة في المدينة يريد أنهم لما اجتمعوا في مدينته بعد ما حشرهم الحاشرون من مدائن مختلفة شتى فجاءوا بهم إليه و لقوا موسى أجمعوا على أن يمكروا بفرعون و أصحابه فيتسلطوا على المدينة فيخرجوا منها أهلها، و ذلك لأنهم لم يشاهدوا موسى قبل ذلك فلو كانوا تواطئوا على شيء فقد كان ذلك بعد اجتماعهم في مدينته.



أنكر عليهم إيمانهم بقوله: "آمنتم به قبل أن آذن لكم" ثم اتهمهم بأنهم تواطئوا جميعا على المكر ليخرجوا أهل المدينة منها بقوله: "إن هذا لمكر" إلخ ليثبت لهم جرم الإفساد في الأرض المبيح له سياستهم و تنكيلهم بأشد العقوبات.

ثم هددهم بقوله: "فسوف تعلمون" ثم بينه و فصله بقوله: "لأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين" فهددهم تهديدا أكيدا أولا بقطع الأيدي و الأرجل من خلاف و هو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى و بالجملة قطع كل من اليد و الرجل من خلاف الجهة التي قطعت منها الأخرى.

و ثانيا بالصلب و هو شد المجرم بعد تعذيبه على خشبة و رفع الخشبة بإثبات جانبه على الأرض ليشاهده الناس فيكون لهم عبرة، و قد تقدم تفصيل بيانه في قصص المسيح (عليه السلام) في تفسير سورة آل عمران.

قوله تعالى: "قالوا إنا إلى ربنا منقلبون" إلى آخر الآيات.

جواب السحرة و هم القائلون هذا المقال و قد قابلوه بما يبطل به كيده، و تنقطع به حجته، و هو أنك تهددنا بالعذاب قبال ما تنقم منا من الإيمان بربنا ظنا منك أن ذلك شر لنا من جهة انقطاع حياتنا به و ما نقاسيه من ألم العذاب، و ليس ذلك شرا فإنا نرجع إلى ربنا، و نحيا عنده بحياة القرب السعيدة، و لم نجترم إلا ما تعده أنت لنا جرما و هو إيماننا بربنا فما دوننا إلا الخير.

و هذا معنى قوله: "قالوا إنا إلى ربنا منقلبون" و هو إيمان منهم بالمعاد "و ما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا" و عدوا أمر العصا - على الظاهر آيات كثيرة لاشتماله على جهات كل منها آية كصيرورتها ثعبانا، و لقفها حبالهم و عصيهم واحدا بعد واحد، و رجوعها إلى حالتها الأولى.

و النقم هو الكراهة و البغض يقال: نقم منه كذا ينقم من باب ضرب و علم: إذا كره و أبغض.

ثم أخذتهم الجذبة الإلهية من غير أن يذعروا مما هددهم به، و استغاثوا بربهم على ما عزم به من تعذيبهم و قتلهم فسألوه تعالى قائلين: "ربنا أفرغ علينا صبرا - على ما يريد أن يوقع بنا من العذاب الشديد - و توفنا مسلمين" إن قتلنا.

و في إطلاق الإفراغ على إعطاء الصبر استعارة بالكناية فشبهوا نفوسهم بالآنية، و الصبر بالماء، و إعطاءه بإفراغ الإناء بالماء و هو صبه فيه حتى يغمره، و إنما سألوا ذلك ليفيض الله عليهم من الصبر ما لا يجزعون به عند نزول أي عذاب و ألم ينزل بهم.

و قد جاءوا بالعجب العجاب في مشافهتهم هذه مع فرعون و هو الجبار العنيد الذي ينادي "أنا ربكم الأعلى" و يعبده ملك مصر فلم يذعرهم ما شاهدوا من قدرته و سطوته فأعربوا عن حجتهم بقلوب مطمئنة، و نفوس كريمة، و عزم راسخ، و إيمان ثابت، و علم عزيز، و قول بليغ، و إن تدبرت ما حكاه الله سبحانه من مشافهتهم و محاورتهم فرعون في موقفهم هذا في هذه السورة و في سورتي طه و الشعراء أرشدك ما في خلال كلامهم من الحجج البالغة إلى علوم جمة، و حالات روحية شريفة، و أخلاق كريمة، و لو لا محذور الخروج عن طور هذا الكتاب لأوردنا شذرة منها في هذا المقام فلينتظر إلى حين.

بحث روائي

ما قصة الله في كتابه من قصة مجيء موسى بما آتاه الله من الرسالة، و أيده به من آية العصا و اليد البيضاء، و معه أخوه هارون إلى فرعون و إتيانه بالآيتين ثم جمع فرعون السحرة و معارضته بسحرهم، و إظهار الله آية موسى على سحرهم، و إيمان السحرة لا يجاوز ما ذكر في هذه الآيات إجمالا.

و قد اشتملت الروايات الواردة من طرق الشيعة أو طرق أهل السنة على هذه المعاني غير أنها تشتمل مع ذلك من تفاصيل القصة على أمور عجيبة لم يتعرض لها كتاب الله كما ورد: أن عصا موسى كان من آس الجنة، و أنها كانت عصا آدم وصلت إلى شعيب ثم أعطاها موسى، و في بعض الروايات أنها كانت عصا آدم أعطاها ملك لموسى حين توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل، و يضرب بها الأرض في النهار فيخرج له رزقه و في بعضها: أنها كانت تنطق إذا استنطقت، و كانت إذا صارت ثعبانا عند فرعون بعد ما بين لحييه اثنا عشر ذراعا، و روي أربعون ذراعا و في بعضها ثمانون ذراعا و أنها ارتفعت في السماء ميلا، و في بعضها أنها وضعت أحد مشفريها على الأرض و الآخر على سور قصر فرعون، و في بعضها أنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها، و حملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة و عشرون ألفا، و في بعضها: أنها كانت ثمانون ذراعا، و في بعضها: أنها كانت في العظم كالمدينة، و في الرواية: أن فرعون أحدث في ثيابه من هول ما رأى، و في بعضها: أنه أحدث في ذلك اليوم أربع مائة مرة و في بعضها: أنه استمر معه داء البطن حتى غرق، و في الروايات أنه (عليه السلام) كان إذا أخرج يده من جيبه كان يغلب نورها نور الشمس.

و في الرواية: أن السحرة كانوا سبعين رجلا، و في بعضها: ستمائة إلى تسع مائة و في بعضها: اثني عشر ألفا، و في بعضها خمسة عشر ألفا، و في بعضها: سبعة عشر ألفا، و في بعضها: تسعة عشر ألفا، و في بعضها بضعة و ثلاثين ألفا، و في بعضها سبعين ألفا، و في بعضها: ثمانين ألفا.

و في الرواية أنهم كانوا أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل "نينوى" و فيها: أنه كان اسم رئيسهم شمعون، و في بعضها: يوحنا، و في بعضها أنه كان لهم رؤساء أربعة أسماؤهم: سابور، و عازور، و حطحط، و مصفى.

و كذا ورد في نفس فرعون: أن اسمه الوليد بن المصعب بن الريان، و أنه كان من أهل اصطخر فارس، و في بعضها: أنه من أبناء مصر، و في بعضها: أن فرعون هذا هو فرعون يوسف عاش أربعمائة سنة و لم يشب و لا ابيض منه شعر.

و في بعضها: أنه بنى مدائن يتحصن فيها من موسى، و جعل فيما بينها آجام و غياض، و جعل فيها الأسد ليتحصن بها من موسى فلما بعث الله موسى إلى فرعون دخل المدينة فلما رآه الأسد تبصبصت و ولت مدبرة، ثم لم يأت مدينة إلا انفتح له بابها حتى انتهى إلى قصر فرعون الذي هو فيه.

قال: فقعد على بابه، و عليه مدرعة من صوف و معه عصاه فلما خرج الآذن قال استأذن لي على فرعون فلم يلتفت إليه قال: فقال له موسى: أنا رسول رب العالمين فلم يلتفت إليه قال: فمكث بذلك ما شاء الله يسأله أن يستأذن له قال: فلما أكثر عليه قال: أ ما وجد رب العالمين من يرسله غيرك؟.

قال: فغضب موسى فضرب الباب بعصاه فلم يبق بينه و بين فرعون باب إلا انفتح حتى نظر إليه فرعون و هو في مجلسه فقال: أدخلوه قال: فدخل عليه و هو في قبة له مرتفعة كثيرة الارتفاع ثمانون ذراعا فقال: أنا رسول رب العالمين إليك.



قال: فقال: فأت بآية إن كنت من الصادقين، قال: فألقى عصاه و كان له شعبتان.

قال: فإذا هي حية قد وقع إحدى الشعبتين على الأرض و الشعبة الأخرى في أعلى القبة.

قال: فنظر فرعون جوفها و هي تلهب نيرانا.

قال: و أهوى إليه فأحدث و صاح يا موسى خذها.

إلى غير ذلك مما يشتمل عليه الروايات من العجائب في هذه القصة و أغلبها أمور سكت عنها القرآن لا سبيل إلى رد أغلبها إلا الاستبعاد، و لا إلى قبولها إلا حسن الظن بكل رواية مروية، و هي ليست بمتواترة و لا محفوفة بقرائن قطعية بل جلها مراسيل أو موقوفة أو ضعيفة من سائر جهات الضعف على ما بينها من التعارض فالغض عنها أولى

7 سورة الأعراف - 127 - 137

وَ قَالَ المَْلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فى الأَرْضِ وَ يَذَرَك وَ ءَالِهَتَك قَالَ سنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَ نَستَحْىِ نِساءَهُمْ وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قَهِرُونَ (127) قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ استَعِينُوا بِاللّهِ وَ اصبرُوا إِنّ الأَرْض للّهِ يُورِثُهَا مَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ الْعَقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَ مِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسى رَبّكُمْ أَن يُهْلِك عَدُوّكمْ وَ يَستَخْلِفَكمْ فى الأَرْضِ فَيَنظرَ كيْف تَعْمَلُونَ (129) وَ لَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسنِينَ وَ نَقْصٍ مِّنَ الثّمَرَتِ لَعَلّهُمْ يَذّكرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحَْسنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَ إِن تُصِبهُمْ سيِّئَةٌ يَطيرُوا بِمُوسى وَ مَن مّعَهُ أَلا إِنّمَا طئرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَ لَكِنّ أَكثرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَ قَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٍ لِّتَسحَرَنَا بهَا فَمَا نحْنُ لَك بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسلْنَا عَلَيهِمُ الطوفَانَ وَ الجَْرَادَ وَ الْقُمّلَ وَ الضفَادِعَ وَ الدّمَ ءَايَتٍ مّفَصلَتٍ فَاستَكْبرُوا وَ كانُوا قَوْماً مجْرِمِينَ (133) وَ لَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَمُوسى ادْعُ لَنَا رَبّك بِمَا عَهِدَ عِندَك لَئن كَشفْت عَنّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِننّ لَك وَ لَنرْسِلَنّ مَعَك بَنى إِسرءِيلَ (134) فَلَمّا كشفْنَا عَنهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُم بَلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنهُمْ فَأَغْرَقْنَهُمْ فى الْيَمِّ بِأَنهُمْ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا وَ كانُوا عَنهَا غَفِلِينَ (136) وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الّذِينَ كانُوا يُستَضعَفُونَ مَشرِقَ الأَرْضِ وَ مَغَرِبَهَا الّتى بَرَكْنَا فِيهَا وَ تَمّت كلِمَت رَبِّك الْحُسنى عَلى بَنى إِسرءِيلَ بِمَا صبرُوا وَ دَمّرْنَا مَا كانَ يَصنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ مَا كانُوا يَعْرِشونَ (137)

بيان

الآيات تشتمل على إجمال ما جرى بينه (عليه السلام) و بين فرعون و قومه أيام إقامة موسى بينهم بعد القيام بالدعوة يدعوهم إلى الله و إلى إطلاق بني إسرائيل و يأتيهم بالآية بعد الآية حتى أنجاه الله تعالى و قومه، و أغرق فرعون و جنوده، و أورث بني إسرائيل الأرض المباركة مشارقها و مغاربها.

قوله تعالى: "و قال الملأ من قوم فرعون أ تذر موسى و قومه" إلى آخر الآية.

هذا إغراء منهم لفرعون و تحريض له أن يقتل موسى و قومه، و لذلك رد فرعون قولهم بأنه لا يهمنا قتلهم فإنا فوقهم قاهرون على أي حال بل سنعيد عليهم سابق عذابنا فنقتل أبناءهم و نستحيي نساءهم، و لو كان ما سألوا مطلق تعذيبهم غير القتل لم يقع قوله: "و إنا فوقهم قاهرون" موقعه ذلك الوقوع.

و قولهم: "و يذرك و آلهتك" تأكيد لتحريضهم إياه على قتلهم، و المعنى أن موسى يتركك و آلهتك فلا يعبدكم مع ما يفسد هو و قومه في الأرض، و فيه دلالة على أن فرعون كما كان يدعي الألوهية، و يستعبد الناس لنفسه كان يعبد آلهة أخرى، و هو كذلك و التاريخ يثبت نظائر لذلك في الأمم السالفة، و قد نقل: أن عظماء البيوت و سادات القوم في الروم و ممالك أخرى غيرها كان يعبدهم مرءوسوهم من بيتهم و عشائرهم و هم أنفسهم كانوا يعبدون آباءهم الأولين و أصناما أخرى غيرهم كما يعبدهم ضعفاؤهم، و أيضا بين الأرباب التي تعبدها الوثنية ما هو رب لغيره من الأرباب أو رب لرب آخر كربوبية الأب و الأم للابن و غير ذلك.

إلا أن قوله لقومه فيما حكاه الله سبحانه: "أنا ربكم الأعلى": النازعات: 24، و قوله: "ما علمت لكم من إله غيري": القصص: 38، ظاهر في أنه كان لا يتخذ لنفسه ربا، و كان يأمر قومه أن لا يعبدوا إلا إياه، و لذلك قال بعضهم: إنه كان دهريا لا يعترف بصانع، و يأمر قومه بترك عبادة الآلهة مطلقا، و قصر العبادة فيه، و لذلك قرأ بعضهم - على ما قيل - "و إلهتك" بكسر الهمزة و فتح اللام و إثبات الألف بعدها كالعبادة وزنا و معنى.

لكن الأوجه أنه كان يريد بقوله: "ما علمت لكم من إله غيري" نفي إله يخص قومه القبطيين يملكهم و يدبر أمورهم غير نفسه كما هو المعهود من عقائد الوثنيين أن لكل صنف من أصناف الخلائق كالسماء و الأرض و البر و البحر و قوم كذا، أو من أصناف الحوادث و الأمور كالسلم و الحرب و الحب و الجمال ربا على حدة، و إنما كانوا يعبدون من بينها ما يهمهم عبادته كعبادته سكان سواحل البحار رب البحر و الطوفان.



فمعنى كلامه أني أنا ربكم معاشر القبطيين لا ما اتخذه موسى و هو يدعي أنه ربكم أرسله إليكم، و يؤيد ما ذكرناه ما احتف به من القرينة بقوله: "ما علمت لكم من إله غيري، فإنه تعالى يقول: "و قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى و إني لأظنه من الكاذبين": القصص: 38، فظاهرها أنه كان يشك في كونه إلها لموسى، و أن معنى قوله: "ما علمت لكم من إله غيري" نفي العلم بوجود إله غيره لا العلم بعدم وجود إله غيره، و بالجملة فكلامه لا ينفي إلها غيره.

و أما احتمال كون فرعون دهريا غير قائل بوجود الصانع فالظاهر أنه الذي يوجد في كلام الرازي قال في التفسير الكبير، ما لفظه: الذي يخطر ببالي أن فرعون إن قلنا: إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه، و إن كان عاقلا لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السماوات و الأرض، و لم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل.

بل الأقرب أن يقال: إنه كان دهريا ينكر وجود الصانع، و كان يقول: مدبر هذا العالم السفلى هو الكواكب، و أما المجدي في هذا العالم للخلق و لتلك الطائفة و المربي لهم فهو نفسه فقوله: "أنا ربكم الأعلى" أي مربيكم و المنعم عليكم و المطعم لكم، و قوله: "ما علمت لكم من إله غيري" أي لا أعلم لكم أحدا يجب عليكم عبادته إلا أنا.

و إذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنه كان قد اتخذ أصناما على صور الكواكب و يعبدها و يتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب، و على هذا التقدير فلا امتناع في حمل قوله تعالى: "و يذرك و آلهتك" على ظاهره فهذا ما عندي في هذا الباب انتهى.

و قد أخطأ في ذلك فليس معنى الألوهية و الربوبية عند الوثنيين و عبدة الكواكب خالقية السماوات و الأرض بل تدبير شيء من أمور العالم كما احتمله أخيرا، و لا في الدهريين من يعبد الكواكب، و لا في الصابئين و عبدة الكواكب من ينكر وجود الصانع.

بل الحق أن فرعون - كما تقدم - كان يرى نفسه ربا لمصر و أهله، و كان إنما ينكر كونهم مربوبي إله آخر على قاعدتهم لا أنهم أو غيرهم من العالم ليسوا مخلوقين لله سبحانه.

و قوله تعالى: "قال سنقتل أبناءهم و نستحيي نساءهم و إنا فوقهم قاهرون" وعد منه للملإ من قومه أن يعيد إلى بني إسرائيل تعذيبه السابق و هو قتل أبنائهم و استحياء نسائهم و استبقاؤهن للخدمة، و عقبه بقوله: "و إنا فوقهم قاهرون" و هو تطييب قلوبهم و إسكان ما في نفوسهم من الاضطراب و الطيش.

قوله تعالى: "قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا" إلى آخر الآية.

و هذا من موسى (عليه السلام) بعث لبني إسرائيل و استنهاض لهم على الاستعانة بالله على مقصدهم و هو التخلص من إسارة آل فرعون و استعبادهم ثم بعث على الصبر على شدائد يهددهم بها فرعون من ألوان العذاب، و الصبر هو رائد الخير و فرط كل فرج، ثم علل ذلك بقوله: "إن الأرض لله يورثها من يشاء".

و محصله أن فرعون لا يملك الأرض حتى يمنحها من يشاء، و يمنع من التمتع بها من يشاء بل هي لله يورثها من يشاء، و قد جرت السنة الإلهية أن يخص بحسن العاقبة من يتقيه من عباده فإن استعنتم بالله و صبرتم في ذات الله على ما يهددكم من الشدائد - و هو التقوى - أورثكم الأرض التي ترونها في أيدي آل فرعون.



و لذلك عقب قوله: "إن الأرض لله" الآية بقوله: "و العاقبة للمتقين" العاقبة ما يعقب الشيء كالبادئة لما يبدأ بالشيء، و كون العاقبة مطلقا للمتقين من جهة أن السنة الإلهية تقضي بذلك و ذلك أنه تعالى نظم الكون نظما يؤدي كل نوع إلى غاية وجوده و سعادته التي خلق لأجلها فإن جرى على صراطه الذي ركب عليه، و لم يخرج عن خط مسيره الذي خط له بلغ غاية سعادته لا محالة، و الإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع أيضا حاله هذا الحال إن جرى على صراطه الذي رسمته له الفطرة و اتقى الخروج عنه و التعدي منه إلى غير سبيل الله بالكفر بآياته و الإفساد في أرضه هداه الله إلى عاقبته الحسنة، و أحياه الحياة الطيبة، و أرشده إلى كل خير يبتغيه.

قوله تعالى: "قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا" الإتيان و المجيء في الآية بمعنى واحد، و الاختلاف في التعبير للتفنن، و ما قيل إن المعنى من قبل أن تأتينا بالآيات و من بعد ما جئتنا لا دليل على ما فيه من التقدير.

على أن غرضهم إظهار أن مجيء موسى و قد وعدوا أن الله ينجيهم بيده من مصيبة الإسارة و هاوية المذلة لم يؤثر أثره فإن الأذى الذي كانوا يحملونه و يؤذون به على حاله، و لا تعلق لغرضهم بأنه أتاهم بالآيات البتة.

و هذا الكلام شكوى منهم يبثونها إلى موسى (عليه السلام).

قوله تعالى: "قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون" و هذا جواب من موسى عن قولهم: "أوذينا" إلخ، يسليهم به و يعزيهم بالرجاء، و هو في الحقيقة تكرار لقوله السابق: "استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله" الآية.

كأنه يقول: ما أمرتكم به أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم كلمة حية ثابتة فإن عملتم بها كان من المرجو أن يهلك الله عدوكم، و يستخلفكم في الأرض بإيراثكم إياها و لا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا، و لا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط و لا قيد بل ليمتحنكم بهذا الملك و يبتليكم بهذا التسليط و الاستخلاف فينظر كيف تعملون، قال تعالى: "و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء": آل عمران: 140.

و هذا مما يخطىء به القرآن ما يعتقده اليهود من كرامتهم على الله كرامة لا تقبل عزلا، و لا تحتمل شرطا و لا قيدا، و التوراة تعد شعب إسرائيل شعب الله الذي لهم الأرض المقدسة كأنهم ملكوها من الله سبحانه ملكا لا يقبل نقلا و لا إقالة.

قوله تعالى: "و لقد أخذنا آل فرعون بالسنين و نقص من الثمرات" السنون جمع سنة و هي القحط و الجدب، و كان أصله سنة القحط ثم قيل: السنة إشارة إليها ثم كثر الاستعمال حتى تعينت السنة لمعنى القحط و الجدب.

و الله سبحانه يذكر في الآية - و يقسم - أنه أخذ آل فرعون و هم قومه المختصون به من القبطيين بالقحوط المتعددة و نقص من الثمرات لعلهم يذكرون.

و هما نوعان من الآيات التي أرسلها الله إلى آل فرعون، و ظاهر السياق أنه أرسل ما أرسل منهما فصلا فصلا، و لذا جمع السنين و لا يصدق الجمع إلا مع الفصل بين سنة و سنة.

على أنه يقول: "فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه" الآية.

و ظاهره الحسنة التي بعد السيئة ثم السيئة التي بعد هذه الحسنة.

قوله تعالى: "فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه" إلى آخر الآية.



كانوا إذا جاءهم الخصب و وفور النعمة و سعة الرزق بعد ارتفاع السنة و نقص الثمرات قالوا: "لنا هذه" يريدون به الاختصاص و إنما قلنا: إنهم كانوا يقولون ذلك بعد ارتفاع السنة و نقص الثمرات لأن الإنسان بحسب الطبع لا ينتقل إلى ذكر النعمة بما هي نعمة، و لا يتنبه لقدرها إلا بعد مشاهدة النقمة التي هي خلافها، و لا داعي يدعو آل فرعون إلى ذكر النعمة الحسنة و تخصيصها بأنفسهم لو لا أنهم رأوا خلافها و عدوه أمرا بدعا لم يكونوا رأوه قبل ذلك فاطيروا بموسى و من معه ثم إذا بدلت السيئة حسنة عدوها لأنفسهم فالتطير عند السيئة بحسب الوقوع قبل قولهم في الحسنة: لنا هذه و إن كان الأمر بحسب الطبع على خلاف ذلك بمعنى أنهم لو لم يزعموا و لم يرتكز في نفوسهم من اعتيادهم بالرفاهية و وفور النعمة و الخصب أنهم مخصوصون بذلك يملكونه لم يتطيروا بموسى عند نزول المصيبة عليهم فإن من لم تروحه الراحة و العافية لا يتحرج عن خلافهما.

و لعل هذا هو الوجه في تقديمه تعالى اغترارهم بالنعمة قبل تطيرهم عند النقمة ثم ذكر الحسنة بكلمة "إذا" و السيئة بلفظة "إن" حيث قال: "فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و إن تصبهم سيئة يطيروا بموسى و من معه" فقد جعل مجيء الحسنة كالأصل الثابت فذكره بإذا و التعريف بلام الجنس، ثم ذكر إصابة السيئة بطريق الشرط، و نكر السيئة ليدل على ندرتها و كونها اتفاقية.

و التطير مشتق من الطير باعتبار اشتماله على نسبة من النسب، و هي نسبة التشؤم فإنهم كانوا يتشأمون ببعض الطيور كالغراب فاشتق منه ما يفيد معنى التشؤم و هو التطير و معناه التشؤم بالطير حتى سمي مطلق النصيب أو النصيب من الشر و الشأمة طائرا.

فقوله تعالى: "ألا إنما طائرهم عند الله و لكن أكثرهم لا يعلمون" معناه أن نصيبهم من الشر و الشؤم الذي يحق به أن يسمى نصيب الشر و هو العذاب، هو عند الله، و لكن أكثرهم لا يعلمون لظنهم أن ما تجنيه أيديهم يفوت و يزول و لا يحفظ عليهم.

و ربما يذكر للطائر في الآية معان أخر ككتاب الأعمال الذي سماه الله طائرا و غير ذلك لكن الأنسب بالسياق هو الذي تقدم.

قوله تعالى: "و قالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين" مهما من أسماء الشرط معناه أي شيء، و قولهم هذا إياس منهم لموسى من أن يؤمنوا به و إن أتى بأي آية و في قولهم: "من آية لتسحرنا بها" استهزاء به حيث سموها آية و جعلوا غرضه منها أن يسحرهم أي إنك تأتينا بالسحر و تسميها آية.

قوله تعالى: "فأرسلنا عليهم الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات" الآية.

الطوفان على ما قاله الراغب - كل حادثة تحيط بالإنسان، و صار متعارفا في الماء المتناهي في الكثرة، و في المجمع،: أنه السيل الذي يعم بتغريقه الأرض و هو مأخوذ من الطوف فيها انتهى.

و القمل بالضم و التشديد قيل: كبار القردان، و قيل: صغار الذباب و بالفتح فالسكون معروف، و الجراد و الضفادع و الدم معروفة.

و التفصيل تفريق الشيء إلى أجزاء مفصولة منفصلة بعضها عن بعض، و لازم ذلك تميز كل بعض و ظهوره في نفسه فقوله: "آيات مفصلات" يدل على أنها أرسلت إليهم لا مجتمعة و دفعة بل متفرقة منفصلة بعضها عن بعض ظاهرة في أنها آيات إلهية مقصودة غير اتفاقية و لا جزافية.

و من الدليل على كون المفصلات بهذا المعنى قوله في الآية التالية: "و لما وقع عليهم الرجز قالوا" الآية.

الظاهر أن الآية كانت تأتيهم عن إخبار من موسى و إنذار ثم إذا نزلت بهم و دهمتهم التجئوا إليه فسألوه أن يدعو لهم لتنكشف عنهم، و أعطوه عهدا إن كشفت عنهم آمنوا به و أرسلوا معه بني إسرائيل فلما كشفت نكثوا و نقضوا و على هذا القياس.

قوله تعالى: "و لما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك" إلى آخر الآية.



الرجز هو العذاب و يعني به العذاب الذي كانت تشتمل عليه كل واحدة من الآيات المفصلات فإنها آيات عذاب و نكال و قوله: "بما عهد عندك" على ما يؤيده المقام أي بما التزم عندك أن لا يرد دعاءك فيما تسأله، و اللام عندئذ للقسم، و المعنى ادع لنا ربك بالعهد الذي له عندك.

و قوله: "لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني إسرائيل" هو ما عاهدوا به موسى لكشف الرجز عنهم.

قوله تعالى: "فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون" النكث نقض العهد، و قوله: "إلى أجل هم بالغوه" متعلق بقوله: "كشفنا" و هو يدل على أنه كان يضم إلى معاهدة أجل مضروب كأن يقول موسى (عليه السلام) إن الله سيرفع العذاب عنكم بشرط أن تؤمنوا و ترسلوا معي بني إسرائيل إلى أجل كذا، أو يقول آل فرعون ما يشابه هذا المعنى فلما كشف العذاب عنهم و حل الأجل المضروب نكثوا و نقضوا عهدهم الذي عاهدوا الله و عاهدوا موسى عليه.

و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم" اليم البحر، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها" إلى آخر الآية.

الظاهر أن المراد بالأرض أرض الشام و فلسطين و يؤيده أو يدل عليه قوله بعد: "التي باركنا فيها" فإن الله سبحانه لم يذكر بالبركة غير الأرض المقدسة التي هي نواحي فلسطين إلا ما وصف به الكعبة المباركة، و المعنى: أورثنا بني إسرائيل و هم المستضعفون الأرض المقدسة بمشارقها و مغاربها، و إنما ذكرهم بوصفهم فقال: القوم الذين كانوا يستضعفون ليدل على عجيب صنعه تعالى في رفع الوضيع، و تقوية المستضعف، و تمليكه من الأرض ما لا يقدر على مثله عادة إلا كل قوي ذو أعضاد و أنصار.

و قوله: "و تمت كلمة ربك الحسنى" الآية يريد به ما قضاه في حقهم أنه سيورثهم الأرض و يهلك عدوهم، و إليه إشارة موسى (عليه السلام) في قوله لهم و هو يسليهم و يؤكد رجاءهم: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم و يستخلفكم في الأرض" و يشير سبحانه إليه في قوله: "و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين": القصص: 5، و تمام الكلمة خروجها من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعلية، و علل ذلك بصبرهم.

و قوله: "و دمرنا ما كان يصنع فرعون و قومه" الآية.

أي أهلكنا ما كانوا يصنعونه و ما كانوا يسقفونه من القصور و الأبنية و ما كانوا يعرشونه من الكرم و غيره.

بحث روائي

في المجمع،: قال ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و محمد بن إسحاق بن بشار، و رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما آمنت السحرة و رجع فرعون مغلوبا و أبى هو و قومه إلا الإقامة على الكفر قال هامان لفرعون: إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل فتابع الله عليهم بالآيات، و أخذهم بالسنين و نقص من الثمرات. ثم بعث عليهم الطوفان فخرب دورهم و مساكنهم حتى خرجوا إلى البرية و ضربوا الخيام، و امتلأت بيوت القبط ماء، و لم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، و أقام على وجه أرضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا فقالوا لموسى: ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم الطوفان فلم يؤمنوا و قال هامان لفرعون: لئن خليت بني إسرائيل غلبك موسى و أزال ملكك و أنبت الله لهم في تلك السنة من الكلإ و الزرع و الثمر ما أعشبت به بلادهم و أخصبت فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا و خصبا. فأنزل الله عليهم في السنة الثانية عن علي بن إبراهيم و في الشهر الثاني عن غيره من المفسرين الجراد فجردت زروعهم و أشجارهم حتى كانت تجرد شعورهم و لحاهم، و تأكل الأثواب و الثياب و الأمتعة، و كانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل و لا يصيبهم من ذلك شيء فعجوا و ضجوا و جزع فرعون من ذلك جزعا شديدا، و قال: يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل فدعا موسى ربه فكشف عنه الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت. و قيل: إن موسى برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق و المغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت حتى كأن لم تكن قط، و لم يدع هامان فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل. فأنزل الله عليهم في السنة الثالثة في رواية علي بن إبراهيم و في الشهر الثالث عن غيره من المفسرين القمل و هو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له، و هو شر ما يكون و أخبثه فأتى على زروعهم كلها و اجتثها من أصلها فذهبت زروعهم، و لحس الأرض كلها. و قيل: أمر موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فأتاه فضربه بعصاه فانثال عليهم قملا فكان يدخل بين ثوب أحدهم فيعضه، و كان يأكل أحدهم الطعام فيمتلىء قملا قال سعيد بن جبير: القمل السوس الذي يخرج من الحبوب فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل، و أخذت أشعارهم و أبصارهم و أشفار عيونهم و حواجبهم، و لزمت جلودهم كأنها الجدري عليهم، و منعتهم النوم و القرار فصرخوا و صاحوا و قال فرعون لموسى: ادع لنا ربك لئن كشفت عنا القمل لأكفن عن بني إسرائيل فدعا موسى حتى ذهب القمل بعد ما أقام عندهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا. فأنزل الله عليهم في السنة الرابعة و قيل: في الشهر الرابع الضفادع فكانت تكون في طعامهم و شرابهم، و امتلأت منها بيوتهم و أبنيتهم فلا يكشف أحد ثوبا و لا إناء و لا طعاما و لا شرابا إلا وجد فيه ضفادع. و كانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم ما فيها، و كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، و يهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، و يفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه فلقوا منها أذى شديدا فلما رأوا ذلك بكوا و شكوا ذلك إلى موسى و قالوا: هذه المرة نتوب و لا نعود فادع الله أن يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك و نرسل معك بني إسرائيل فأخذ عهودهم و مواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت ثم نقضوا العهد و عادوا لكفرهم. فلما كانت السنة الخامسة أرسل الله عليهم الدم فسال ماء النيل عليهم دما فكان القبطي يراه دما، و الإسرائيلي يراه ماء فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء، و إذا شربه القبطي كان دما، و كان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فيك و صبه في في فكان إذا صبه في فم القبطي يحول دما، و إن فرعون اعتراه العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها يصير ماؤه في فيه دما فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يأكلون إلا الدم، و لا يشربون إلا الدم. قال زيد بن أسلم الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى فقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل فلما دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا و لم يخلوا عن بني إسرائيل. في تفسير العياشي، عن محمد بن قيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) لئن كشف عنا الرجز لنؤمنن لك، قال: الرجز هو الثلج ثم قال: بلاد خراسان بلاد رجز. أقول: و الرواية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق.

7 سورة الأعراف - 138 - 154

وَ جَوَزْنَا بِبَنى إِسرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصنَامٍ لّهُمْ قَالُوا يَمُوسى اجْعَل لّنَا إِلَهاً كَمَا لهَُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنّكُمْ قَوْمٌ تجْهَلُونَ (138) إِنّ هَؤُلاءِ مُتَبرٌ مّا هُمْ فِيهِ وَ بَطِلٌ مّا كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَ غَيرَ اللّهِ أَبْغِيكمْ إِلَهاً وَ هُوَ فَضلَكمْ عَلى الْعَلَمِينَ (140) وَ إِذْ أَنجَيْنَكم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسومُونَكمْ سوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَ يَستَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فى ذَلِكم بَلاءٌ مِّن رّبِّكمْ عَظِيمٌ (141) وَ وَعَدْنَا مُوسى ثَلَثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنَهَا بِعَشرٍ فَتَمّ مِيقَت رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قَالَ مُوسى لأَخِيهِ هَرُونَ اخْلُفْنى فى قَوْمِى وَ أَصلِحْ وَ لا تَتّبِعْ سبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَ لَمّا جَاءَ مُوسى لِمِيقَتِنَا وَ كلّمَهُ رَبّهُ قَالَ رَب أَرِنى أَنظرْ إِلَيْك قَالَ لَن تَرَاخ وَ لَكِنِ انظرْ إِلى الْجَبَلِ فَإِنِ استَقَرّ مَكانَهُ فَسوْف تَرَاخ فَلَمّا تجَلى رَبّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وَ خَرّ مُوسى صعِقاً فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ سبْحَنَك تُبْت إِلَيْك وَ أَنَا أَوّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَمُوسى إِنى اصطفَيْتُك عَلى النّاسِ بِرِسلَتى وَ بِكلَمِى فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُك وَ كُن مِّنَ الشكِرِينَ (144) وَ كتَبْنَا لَهُ فى الأَلْوَاح مِن كلِّ شىْءٍ مّوْعِظةً وَ تَفْصِيلاً لِّكلِّ شىْءٍ فَخُذْهَا بِقُوّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَك يَأْخُذُوا بِأَحْسنهَا سأُورِيكمْ دَارَ الْفَسِقِينَ (145) سأَصرِف عَنْ ءَايَتىَ الّذِينَ يَتَكَبرُونَ فى الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ وَ إِن يَرَوْا كلّ ءَايَةٍ لا يُؤْمِنُوا بهَا وَ إِن يَرَوْا سبِيلَ الرّشدِ لا يَتّخِذُوهُ سبِيلاً وَ إِن يَرَوْا سبِيلَ الْغَىِّ يَتّخِذُوهُ سبِيلاً ذَلِك بِأَنهُمْ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا وَ كانُوا عَنهَا غَفِلِينَ (146) وَ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا وَ لِقَاءِ الاَخِرَةِ حَبِطت أَعْمَلُهُمْ هَلْ يجْزَوْنَ إِلا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَ اتخَذَ قَوْمُ مُوسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسداً لّهُ خُوَارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنّهُ لا يُكلِّمُهُمْ وَ لا يهْدِيهِمْ سبِيلاً اتخَذُوهُ وَ كانُوا ظلِمِينَ (148) وَ لمَّا سقِط فى أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنّهُمْ قَدْ ضلّوا قَالُوا لَئن لّمْ يَرْحَمْنَا رَبّنَا وَ يَغْفِرْ لَنَا لَنَكونَنّ مِنَ الْخَسِرِينَ (149) وَ لَمّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضبَنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسمَا خَلَفْتُمُونى مِن بَعْدِى أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الأَلْوَاحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجُرّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ الْقَوْمَ استَضعَفُونى وَ كادُوا يَقْتُلُونَنى فَلا تُشمِت بىَ الأَعْدَاءَ وَ لا تجْعَلْنى مَعَ الْقَوْمِ الظلِمِينَ (150) قَالَ رَب اغْفِرْ لى وَ لأَخِى وَ أَدْخِلْنَا فى رَحْمَتِك وَ أَنت أَرْحَمُ الرّحِمِينَ (151) إِنّ الّذِينَ اتخَذُوا الْعِجْلَ سيَنَالهُُمْ غَضبٌ مِّن رّبِّهِمْ وَ ذِلّةٌ فى الحَْيَوةِ الدّنْيَا وَ كَذَلِك نجْزِى الْمُفْترِينَ (152) وَ الّذِينَ عَمِلُوا السيِّئَاتِ ثُمّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَ ءَامَنُوا إِنّ رَبّك مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ (153) وَ لَمّا سكَت عَن مّوسى الْغَضب أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَ فى نُسخَتهَا هُدًى وَ رَحْمَةٌ لِّلّذِينَ هُمْ لِرَبهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

بيان

شروع في بعض قصص بني إسرائيل بعد تخلصهم من إسارة آل فرعون مما يناسب غرض القصص المسرودة سابقا و هو أن الدعوة الدينية ما توجهت إلى أمة إلا كان الكفر إليها أسبق، و الناقضون لعهد الله فيهم أكثر فخص الله المؤمنين منهم بمزيد كرامته، و عذب الكافرين بشديد عذابه.

و قد ذكر في الآيات مجاوزة بني إسرائيل البحر و مسألتهم بعد المجاوزة موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم صنما يعبدونه، و فيها عبادتهم للعجل بعد ما ذهب موسى لميقات ربه و في ضمنها حديث نزول التوراة عليه.

قوله تعالى: "و جاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم" الآية، العكوف الإقبال على الشيء و ملازمته على سبيل التعظيم.

ذكره الراغب في المفردات، و قولهم: "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة" أي كما لهم آلهة مجعولة.

كان بنو إسرائيل على شريعة جدهم إبراهيم (عليه السلام)، و قد خلا فيهم من الأنبياء إسحاق و يعقوب و يوسف، و هم على دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله سبحانه وحده لا شريك له المتعالي عن أن يكون جسما أو جسمانيا يعرض له شكل أو قدر غير أن بني إسرائيل كما يستفاد من قصصهم كانوا قوما ماديين حسيين يجرون في حياتهم على أصالة الحس و لا يعتنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفيا من غير أصالة و لا حقيقة، و قد مكثوا تحت إسارة القبط سنين متطاولة، و هم يعبدون الأوثان فتأثرت من ذلك أرواحهم و إن كانت العصبية القومية تحفظ لهم دين آبائهم بوجه.

و لذلك كان جلهم لا يتصورون من الله سبحانه إلا أنه جسم من الأجسام بل جوهر ألوهي يشاكل الإنسان كما هو الظاهر المستفاد من التوراة الدائرة اليوم، و كلما كان موسى يقرب الحق من أذهانهم حولوه إلى إشكال و تماثيل يتوهمون له تعالى، لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم فسألوا موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة يعكفون عليها.

فلم يجد موسى (عليه السلام) بدا من أن يتنزل في بيان توحيد الله سبحانه إلى ما يقارب أفهامهم على قصورها فلا مهم أولا على جهلهم بمقام ربهم مع وضوح أن طريق الوثنية طريق باطل هالك ثم عرف لهم ربهم بالصفة، و أنه لا يقبل صنما و لا يحد بمثال كما سيجيء.

قوله تعالى: "إن هؤلاء متبر ما هم فيه و باطل ما كانوا يعملون" المتبر من التبار و هو الهلاك، و المراد بقوله: "ما هم فيه" سبيلهم الذي يسلكونه و هو عبادة الأصنام و المراد بقوله: "ما كانوا يعملون" أعمالهم العبادية، و المعنى أن هؤلاء الوثنية طريقتهم هالكة و أعمالهم باطلة فلا يحق أن يميل إليه إنسان عاقل لأن الغرض من عبادة الله سبحانه أن يهتدي به الإنسان إلى سعادة دائمة و خير باق.

قوله تعالى: "قال أ غير الله أبغيكم إلها و هو فضلكم على العالمين" "أبغيكم" أي أطلب لكم و ألتمس، يعرف ربهم و يصفه لهم، و قوله: "أ غير الله أبغيكم إلها" فيه تأسيس أن كل إله أبغيه لكم بجعل أو صنع فإنما هو غير الله سبحانه، و الذي يجب عليكم أن تعبدوا الله ربكم بصفة الربوبية التي هي تفضيله إياكم على العالمين.



فكأنهم قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فقال: كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا و هو غير الله ربكم، و إذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة؟ فقالوا: فكيف نعبده و لا نراه و لا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده؟ كما يقوله عبدة الأصنام.

فقال: اعبدوه بما تعرفونه من صفته فإنه فضلكم على سائر الأمم بآياته الباهرة و دينه الحق و إنجائكم من فرعون و عمله، فالآية - كما ترى - ألطف بيان و أوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للأذهان الضعيفة التعقل.

قوله تعالى: "و إذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب" إلى آخر الآية.

سامه العذاب يسومه أي حمله ذلك على طريق الإذلال، و التقتيل الإكثار في القتل و الاستحياء الاستبقاء للخدمة و قد تقدم، و الظاهر أن قوله: "و في ذلكم" إشارة إلى ما ذكر من سوء تعذيب آل فرعون لهم.

و الآية خطاب امتناني للموجودين من أخلافهم حين النزول يمتن الله فيها عليهم بما من به على آبائهم في زمن فرعون كما قيل، و الأنسب بالسياق أن يكون خطابا لأصحاب موسى بعينهم مسوقا سوق التعجب إذا نسوا عظيم نعمة الله عليهم إذ أنجاهم من تلك البلية العظيمة، و نظيره في الغيبة قوله تعالى فيما سيأتي: "أ لم يروا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا".

قوله تعالى: "و واعدنا موسى ثلاثين ليلة و أتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة" إلى آخر الآية.

الميقات قريب المعنى من الوقت، قال في المجمع،: الفرق بين الميقات و الوقت أن الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال، و الوقت وقت الشيء و قدره، و لذلك قيل: مواقيت الحج و هي المواضع التي قدرت للإحرام فيها انتهى.

و قد ذكر الله سبحانه المواعدة و أخذ أصلها ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ليال أخر ثم ذكر الفذلكة و هي أربعون، و أما الذي ذكره في موضع آخر إذ قال: "و إذ واعدنا موسى أربعين ليلة": البقرة: 51 فهو المجموع المتحصل من المواعدتين أعني أن آية البقرة تدل على أن مجموع الأربعين كان عن مواعدة، و آية الأعراف على أن ما في آية البقرة مجموع المواعدتين.

و بالجملة يعود المعنى إلى أنه تعالى وعده ثلاثين ليلة للتقريب و التكليم ثم وعده عشرا آخر لإتمام ذلك فتم ميقات ربه أربعين ليلة، و لعله ذكر الليالي دون الأيام - مع أن موسى مكث في الطور الأربعين بأيامها و لياليها، و المتعارف في ذكر المواقيت و الأزمنة ذكر الأيام دون الليالي - لأن الميقات كان للتقرب إلى الله سبحانه و مناجاته و ذكره، و ذلك أخص بالليل و أنسب لما فيه من اجتماع الحواس عن التفرق و زيادة تهيؤ النفس للأنس و قد كان من بركات هذا الميقات نزول التوراة.

و هذا كما يشير إلى مثله قوله تعالى: "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا - إلى أن قال - إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا": المزمل: 7، و قوله تعالى: "و قال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي" إنما قاله حين ما كان يفارقهم للميقات، و الدليل على ذلك قوله: اخلفني في قومي" فإن الاستخلاف لا يكون إلا في غيبة.



و إنما عبر بلفظ "قومي" دون بني إسرائيل لتجري القصة على سياق سائر القصص المذكورة في هذه السورة فقد حكي فيها عن لفظ نوح و هود و صالح و غيرهم: يا قوم يا قوم، و على ذلك أجريت هذه القصة فعبر فيها عن بني إسرائيل في بضعة مواضع بلفظ القوم، و قد عبر عنهم في سورة طه ببني إسرائيل.

و أما قوله لأخيه ثانيا: "و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين" فهو أمر له بالإصلاح و أن لا يتبع سبيل أهل الفساد، و هارون نبي مرسل معصوم لا تصدر عنه المعصية، و لا يتأتى منه اتباع أهل الفساد في دينهم، و موسى (عليه السلام) أعلم بحال أخيه فليس مراده نهيه عن الكفر و المعصية بل أن لا يتبع في إدارة أمور قومه ما يشير إليه و يستصوبه المفسدون من القوم أيام خلافته ما دام موسى غائبا.

و من الدليل عليه قوله: "و أصلح" فإنه يدل على أن المراد بقوله: "و لا تتبع سبيل المفسدين" أن يصلح أمرهم و لا يسير فيهم سيرة هي سبيل المفسدين الذي يستحسنونه و يشيرون إليه بذلك.

و من هنا يتأيد أنه كان في قومه يومئذ جمع من المفسدين يفسدون و يقلبون عليه الأمور و يتربصون به الدوائر فنهى موسى أخاه أن يتبع سبيلهم فيشوشوا عليه الأمر و يكيدوا و يمكروا به فيتفرق جمع بني إسرائيل و يتشتت شملهم بعد تلك المحن و الأذايا التي كابدها في إحياء كلمة الاتحاد بينهم.

قوله تعالى: "و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" الآية التجلي مطاوعة التجلية من الجلاء بمعنى الظهور، و الدك هو أشد الدق، و جعله دكا أي مدكوكا و الخرور هو السقوط، و الصعقة هي الموت أو الغشية بجمود الحواس و بطلان إدراكها، و الإفاقة الرجوع إلى حال سلامة العقل و الحواس يقال: أفاق من غشيته أي رجع إلى حال استقامة الشعور و الإدراك.

و معنى الآية على ما يستفاد من ظاهر نظمها أنه "لما جاء موسى لميقاتنا" الذي وقتناه له "و كلمه ربه" بكلامه "قال" أي موسى "رب أرني أنظر إليك" أي أرني نفسك أنظر إليك أي مكني من النظر إليك حتى أنظر إليك و أراك فإن الرؤية فرع النظر، و النظر فرع التمكين من الرؤية و التمكن منها، "قال" الله تعالى لموسى "لن تراني" أبدا "و لكن انظر إلى الجبل" و كان جبلا بحياله مشهودا له أشير إليه بلام العهد الحضوري "و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" أي لن تطيق رؤيتي فانظر إلى الجبل فإني أظهر له فإن استقر مكانه و أطاق رؤيتي فاعلم أنك تطيق النظر إلي و رؤيتي "فلما تجلى" و ظهر "ربه للجبل جعله" بتجليه "دكا" مدكوكا متلاشيا في الجو أو سائحا "و خر موسى صعقا" ميتا أو مغشيا عليه من هول ما رأى "فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك" رجعت إليك مما اقترحته عليك "و أنا أول المؤمنين" بأنك لا ترى.

هذا ظاهر ألفاظ الآية.

و الذي يعطيه التدبر فيها أن حديث الرؤية و النظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامي المتعارف حمله على رؤية العين و نظر الأبصار، و لا نشك و لن نشك أن الرؤية و الإبصار يحتاج إلى عمل طبيعي في جهاز الأبصار يهيىء للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله و لونه.

و بالجملة هذا الذي نسميه الإبصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر و الباصر جميعا، و هذا لا شك فيه.



و التعليم القرآني يعطي إعطاء ضروريا أن الله تعالى لا يماثله شيء بوجه من الوجوه البتة فليس بجسم و لا جسماني، و لا يحيط به مكان و لا زمان، و لا تحويه جهة و لا توجد صورة مماثلة أو مشابهة له بوجه من الوجوه في خارج و لا ذهن البتة.

و ما هذا شأنه لا يتعلق به الإبصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة، و لا تنطبق عليه صورة ذهنية لا في الدنيا و لا في الآخرة ضرورة، و لا أن موسى ذاك النبي العظيم أحد الخمسة أولي العزم و سادة الأنبياء (عليهم السلام) ممن يليق بمقامه الرفيع و موقفه الخطير أن يجهل ذلك، و لا أن يمني نفسه بأن الله سبحانه أن يقوي بصر الإنسان على أن يراه و يشاهده سبحانه منزها عن وصمة الحركة و الزمان، و الجهة و المكان، و ألواث المادة الجسمية و أعراضها فإنه قول أشبه بغير الجد منه بالجد فما محصل القول: أن من الجائز في قدرة الله أن يقوي سببا ماديا أن يعلق عمله الطبيعي المادي - مع حفظ حقيقة السبب و هوية أثره - بأمر هو خارج عن المادة و آثارها متعال عن القدر و النهاية؟ فهذا الإبصار الذي عندنا و هو خاصة مادية من المستحيل أن يتعلق بما لا أثر عنده من المادة الجسمية و خواصها فإن كان موسى يسأل الرؤية فإنما سأل غير هذه الرؤية البصرية، و بالملازمة ما ينفيه الله سبحانه في جوابه فإنما ينفي غير هذه الرؤية البصرية فأما هي فبديهية الانتفاء لم يتعلق بها سؤال و لا جواب، و قد أطلق الله الرؤية و ما يقرب منها معنى في موارد من كلامه و أثبتها كقوله تعالى "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة": القيامة: 23، و قوله: "ما كذب الفؤاد ما رأى": النجم: 11، و قوله: "من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت": العنكبوت: 5، و قوله: "أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط": حم السجدة: 54، و قوله: "فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا": الكهف: 110، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية و ما في معناه قبال الآيات النافية لها كما في هذه الآية: "قال لن تراني"، و قوله: "لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار": الأنعام: 103 و غير ذلك.

فهل المراد بالرؤية حصول العلم الضروري سمي بها لمبالغة في الظهور و نحوها كما قيل.

لا ريب أن الآيات تثبت علما ما ضروريا لكن الشأن في تشخيص حقيقة هذا العلم الضروري فإنا لا نسمي كل علم ضروري رؤية و ما في معناه من اللقاء و نحوه كما نعلم بوجود إبراهيم الخليل و إسكندر و كسرى فيما مضى و لم نرهم، و نعلم علما ضروريا بوجود لندن و شيكاغو و مسكو و لم نرها، و لا نسميه رؤية و إن بالغنا، فأنت تقول: أعلم بوجود إبراهيم (عليه السلام) و إسكندر و كسرى كأني رأيتهم، و لا تقول رأيتهم أو أراهم، و تقول: أعلم بوجود لندن و شيكاغو و مسكو، و لا تقول: رأيتها أو أراها.

و أوضح من ذلك علمنا الضروري بالبديهيات الأولية التي هي لكليتها غير مادية و لا محسوسة مثل قولنا: "الواحد نصف الاثنين" و "الأربعة زوج" و "الإضافة قائمة بطرفين" فإنها علوم ضرورية يصح إطلاق العلم عليها و لا يصح إطلاق الرؤية البتة.



و نظير ذلك جميع التصديقات العقلية الفكرية، و كذا المعاني الوهمية و بالجملة ما نسميها بالعلوم الحصولية لا نسميها رؤية و إن أطلقنا عليها العلم فنقول علمناها و لا نقول: رأيناها إلا بمعنى القضاء و الحكم لا بمعنى المشاهدة و الوجدان.

لكن بين معلوماتنا ما لا نتوقف في إطلاق الرؤية عليه و استعمالها فيه، نقول: أرى أني أنا و أراني أريد كذا و أكره كذا، و أحب كذا و أبغض كذا و أرجو كذا و أتمنى كذا أي أجد ذاتي و أشاهدها بنفسها من غير أن أحتجب عنها بحاجب، و أجد و أشاهد إرادتي الباطنة التي ليست بمحسوسة و لا فكرية، و أجد في باطن ذاتي كراهة و حبا و بغضا و رجاء و تمنيا و هكذا.

و هذا غير قول القائل: رأيتك تحب كذا و تبغض كذا و غير ذلك فإن معنى كلامه أبصرتك في هيئة استدللت بها على أن فيك حبا و بغضا و نحو ذلك، و أما حكاية الإنسان عن نفسه أنه يراه يريد و يكره و يحب و يبغض فإنه يريد به أنه يجد هذه الأمور بنفسها و واقعيتها لا أنه يستدل عليها فيقضي بوجودها من طريق الاستدلال بل يجدها من نفسه من غير حاجب يحجبها و لا توسل بوسيلة تدل عليها البتة.

و تسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطردة، و هي علم الإنسان بذاته و قواه الباطنة و أوصاف ذاته و أحواله الداخلية و ليس فيها مداخلة جهة أو مكان أو زمان أو حالة جسمانية أخرى غيرها فافهم ذلك و أجد التدبر فيه.

و الله سبحانه فيما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيات و يضم إليها ضمائم يدلنا ذلك على أن المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسميه فيما عندنا أيضا رؤية كما في قوله: "أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط" الآية.

حيث أثبت أولا أنه على كل شيء حاضر أو مشهود لا يختص بجهة دون جهة و بمكان دون مكان و بشيء دون شيء بل شهيد على كل شيء محيط بكل شيء فلو وجده شيء لوجده على ظاهر كل شيء و باطنه و على نفس وجدانه و على نفسه، و على هذه السمة لقاؤه لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسي الذي لا يتأتى البتة إلا بمواجهة جسمانية و تعين جهة و مكان و زمان، و بهذا يشعر ما في قوله: "ما كذب الفؤاد ما رأى" من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هو النفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلق على يسار الصدر داخلا.

و نظير ذلك قوله تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون": المطففين: 15، دل على أن الذي يجبهم عنه تعالى رين المعاصي و الذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم و بين ربهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة، و لو رأوه لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم و أحداقهم.

و قد أثبت الله سبحانه في موارد من كلامه قسما آخر من الرؤية وراء رؤية الجارحة كقوله تعالى: "كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين": التكاثر: 7، و قوله: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين": الأنعام: 75، و قد تقدم تفسير الآية في الجزء السابع من الكتاب، و بينا هناك أن الملكوت هو باطن الأشياء لا ظاهرها الحسوس.



فبهذه الوجوه يظهر أنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية و المشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، و هي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، و أن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر و استخدام الدليل بل يجده وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب، و لا يجره إلى الغفلة عنه إلا اشتغاله بنفسه و بمعاصيه التي اكتسبها، و هي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلية و من أصله فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتة بل عبر عن هذا الجهل بالغفلة و هي زوال العلم بالعلم لا زوال أصل العلم.

فهذا ما بينه كلامه سبحانه، و يؤيده العقل بساطع براهينه، و كذا ما ورد من الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على ما سننقلها و نبحث عنها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و الذي ينجلي من كلامه تعالى أن هذا العلم المسمى بالرؤية و اللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة": القيامة: 23، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف، و أما في هذه الدنيا و الإنسان مشتغل ببدنه، و منغمر في غمرات حوائجه الطبيعية، و هو سالك لطريق اللقاء و العلم الضروري بآيات ربه، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه، قال تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه": الإنشقاق: 6، و في معناه آيات كثيرة أخرى تدل على أنه تعالى إليه المرجع و المصير و المنتهى، و إليه يرجعون و إليه يقلبون.

فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه و سماه رؤية و لقاء، و لا يهمنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز فإن القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك فإن كانت حقيقة كانت قرائن معينة، و إن كانت مجازا كانت صارفة، و القرآن الكريم أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله و تخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشيء بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الإلهية.

و لنرجع إلى الآية المبحوث عنها: فقوله: "و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك" سؤال منه (عليه السلام) للرؤية بمعنى العلم الضروري على ما تقدم من معناه فإن الله سبحانه لما خصه بما حباه من العلم به من جهة النظر في آياته ثم زاد على ذلك أن اصطفاه برسالاته و بتكليمه و هو العلم بالله من جهة السمع رجا (عليه السلام) أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية و هو كمال العلم الضروري بالله، و الله خير مرجو و مأمول.

فهذا هو المسئول دون الرؤية بمعنى الإبصار بالتحديق الذي يجل موسى (عليه السلام) ذاك النبي الكريم أن يجهل بامتناعه عليه تعالى و تقدس.

و قوله.

"قال لن تراني" نفي مؤبد للرؤية، و إذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروري في الآخرة كان تأبيد النفي راجعا إلى تحقق ذلك في الدنيا ما دام للإنسان اشتغال بتدبير بدنه، و علاج ما نزل به من أنواع الحوائج الضرورية، و الانقطاع إليه تعالى بتمام معنى الكلمة لا يتم إلا بقطع الرابطة عن كل شيء حتى البدن و توابعه و هو الموت.



فيئول المعنى إلى أنك لن تقدر على رؤيتي و العلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده، و التعبير في قوله: "لن تراني" ب "لن" الظاهر في تأبيد النفي لا ينافي ثبوت هذا العلم الضروري في الآخرة فالانتفاء في الدنيا يقبل التأبيد أيضا كما في قوله تعالى: "إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا": إسراء: 37، و قوله: "إنك لن تستطيع معي صبرا": الكهف: 67.

و لو سلم أنه ظاهر في تأبيد النفي للدنيا و الآخرة جميعا فإنه لا يأبى التقييد كقوله تعالى: "و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم": البقرة: 120، فلم لا يجوز أن تكون أمثال قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" مقيدة لهذه الآية مبينة لمعنى التأبيد المستفاد منها.

و الذي ذكرناه من رجوع نفي الرؤية في قوله: "لن تراني" إلى نفي الطاقة و الاستطاعة يؤيده قوله بعده: "و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" فإن فيه تنظير إراءة نفسه لموسى (عليه السلام) بتجليه للجبل، و المراد أن ظهوري و تجليي للجبل مثل ظهوري لك فإن استقر الجبل مكانه أي بقي على ما هو عليه و هو جبل عظيم في الخلقة قوي في الطاقة فإنك أيضا يرجى أن تطيق تجلي ربك و ظهوره.

فقوله: "و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" ليس باستدلال على استحالة التجلي كيف و قد تجلى له؟ بل إشهاد و تعريف لعدم استطاعته و إطاقته للتجلي و عدم استقراره مكانه أي بطلان وجوده لو وقع التجلي كما بطل الجبل بالدك.

و قد دل عليه قوله: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و خر موسى صعقا" و بصيرورة الجبل دكا أي مدكوكا متحولا إلى ذرات ترابية صغار بطلت هويته و ذهبت جبليته و قضى أجله.

و قوله: "و خر موسى صعقا" ظاهر السياق أن الذي أصعقه هو هول ما رأى و شاهد غير أنه يجب أن يتذكر أنه هو الذي ألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين تلقف الألوف من الثعابين و الحيات، و فلق البحر فأغرق الألوف ثم الألوف من آل فرعون في لحظة و رفع الجبل فوق رءوس بني إسرائيل كأنه ظلة، و أتى بآيات هائلة أخرى و هي أهول من اندكاك جبل، و أعظم، و لم يصعقه شيء من ذلك و لم يدهشه.

و اندكاك الجبل أهون من ذلك، و هو بحسب الظاهر في أمن من أن يصيبه في ذلك خطر فإن الله إنما دكه ليشهده كيفية الأمر!.

فهذا كله يشهد أن الذي أصعقه إنما هو ما تمثل له من معنى ما سأله و عظمة القهر الإلهي الذي أشرف أن يشاهده و لم يشاهده هو و إنما شاهده الجبل فآل أمره إلى ذاك الاندكاك العجيب الذي لم يستقر معه مكانه و لا طرفة عين، و يشهد بذلك أيضا توبته (عليه السلام) بعد الإفاقة كما سيأتي.

و قوله: "فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين" توبة و رجوع منه (عليه السلام) بعد الإفاقة إذ تبين له أن الذي سأله وقع في غير موقعه فأخذته العناية الإلهية بتعريفه ذلك و تعليمه عيانا بإشهاده دك الجبل بالتجلي أنه غير ممكن.

فبدأ بتنزيهه تعالى و تقديسه عما كان يرى من إمكان ذلك ثم عقبه بالتوبة عما أقدم عليه و هو يطمع في أن يتوب عليه، و ليس من الواجب في التوبة أن تكون دائما عن معصية و جرم بل هو الرجوع إليه تعالى لشائبة بعد كيف كان كما تقدم البحث فيه في الجزء الرابع من الكتاب.

ثم عقب (عليه السلام) ذلك بالإقرار و الشهادة بقوله: "و أنا أول المؤمنين" أي أول المؤمنين من قومي بأنك لا ترى.



هذا ما يدل عليه المقام، و إن كان من المحتمل أن يكون المراد و أنا أول المؤمنين من بين قومي بما آتيتني و هديتني إليه آمنت بك قبل أن يؤمنوا فحقيق بي أن أتوب إليك إذا علق بي تقصير أو قصور.

لكنه معنى بعيد.

قوله تعالى: "قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي فخذ ما آتيتك و كن من الشاكرين" المراد بالاصطفاء الاختيار على وجه التصفية، و لذلك عدي إلى الناس بعلى، و المراد بالرسالات هو ما حمل من الأوامر و النواهي الإلهية من المعارف و الحكم و الشرائع ليبلغه الناس سواء كان التحميل بواسطة ملك أو بتكليم بلا واسطة ملك فهي غير الكلام و إن حملت بكلام فإن الكلام أمر، و المعاني التي يتلقاها السامع منه أمر آخر.

و المراد بالكلام هو ما شافه به الله سبحانه من غير واسطة ملك و بعبارة أخرى هو ما يكشف به عن مكنون الغيب، و أما أن يكون من نوع الكلام الدائر بيننا معاشر الإنسان فلا فإن الكلام عندنا هو أنا نصطلح و نتعهد فيما بيننا على تخصيص صوت مخصوص من الأصوات لمعنى من المعاني لينتقل ذهن السامع إلى ذلك المعنى ثم نتوسل عند إرادة تفهيمه إلى إيجاد تموج خاص في الهواء يبتدي منا و ينتهي إلى السامع لننقل به ما في ضميرنا إلى ضمير السامع المخاطب و التكلم بهذا الوجه يستلزم التجسم في المتكلم و الله سبحانه منزه عنه، و مجرد إيجاد الصوت و تمويج الهواء بإيجاد أسباب الصوت في مكان لا يدل على كون المعاني التي ينتقل إليها الذهن مقصودة لله سبحانه ما لم تكشف الإرادة بأمر آخر وراء نفس الصوت كما أن من أوجد منا بدق أو ضرب أو نحوهما صوتا يدل على معنى لم نحكم بإرادته ذلك ما لم يكشف من حاله أو مقاله قبلا أنه قاصد لمعنى ما يوجده من الأصوات.

و ما كلم به الله سبحانه موسى (عليه السلام) مما حكاه القرآن الشريف خال عن سؤال الدليل على كونه كلامه، و على كونه تعالى مريدا لمعناه فلم يسأل موسى ربه حين سمع النداء من جانب الطور الأيمن من الشجرة: هل هذا منك يا رب؟ و هل أنت مريد معناه؟ بل أيقن بذلك إيقانا، و نظير الكلام جار في سائر أقسام الوحي غير الكلام.

و هذا يكشف كشفا قطعيا عن ارتباط خاص من السامع بإرادة مصدر الكلام و الوحي يوجب الانتقال إلى المعنى المقصود و إلا فمجرد صدور صوت له معنى مفهوم في اللغة منه تعالى لا يستلزم صحة الانتساب إليه تعالى و لا كونه كلامه كيف؟ و جميع الألفاظ الصادرة من المتكلمين بما أنها أصوات تنتهي إليه تعالى و ليست كلاما له تعالى بل المتكلم بها غيره، و كثيرا ما يحدث من تصادم الأجسام المختلفة أصوات ذوات معان في اللغة و لا نعده كلاما له تعالى.

و بالجملة تكليمه تعالى هو إيجاده اتصالا و ارتباطا خاصا بين مخاطبه و بين الغيب ينتقل به بمشاهدة بعض مخلوقاته إلى معنى مراد، و لا نمنع مقارنة ذلك بأصوات يوجدها الله تعالى في خارج أو سمع أو غير ذلك، و قد تقدم بعض الكلام في الكلام فيما تقدم.

و سيأتي منه تتمة في تفسير سورة الشورى إن شاء الله تعالى.

و كيف كان فقوله تعالى: "قال يا موسى إني اصطفيتك" الآية.

وارد في مورد الامتنان و موعظة لموسى (عليه السلام) أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته و كلامه و يشكره و لا يستزيد.



قوله تعالى: "و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء" الآية.

اللوح صحيفة معدة للكتابة فيه لأنه يلوح و يظهر بما فيه من الخط و أصله من لاح البرق إذا لمع.

و قوله: "من كل شيء" من فيه للتبعيض كما يؤيده السياق اللاحق، و قوله: "موعظة" الظاهر أنه بيان لكل شيء، و يعطف عليه قوله: "و تفصيلا لكل شيء" و تنكير قوله: "تفصيلا" لإفادة الإبهام و التبعيض، و يئول المعنى إلى مثل قولنا: و كتبنا لموسى في الألواح و هي التوراة النازلة مختارات من كل شيء و نعني بذلك أنا كتبنا له موعظة و تفصيلا ما و تشريحا ما لكل شيء حسب ما يحتاج إليها قومه في الاعتقاد و العمل.

ففي الكلام دلالة على أن التوراة لم تستكمل جميع ما تمس به حاجة البشر من المعارف و الشرائع، و هو كذلك كما يدل عليه أيضا قوله تعالى بعد ذكر التوراة و الإنجيل "و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه": المائدة: 48، و قد تقدم تفسيره.

و قوله: "فخذها بقوة و أمر قومك يأخذوا بأحسنها" عطف تفريع على قوله: "و كتبنا له في الألواح" الآية لأنه مشعر بمعنى القول، و التقدير: و قلنا إنا كتبنا لك في الألواح من كل شيء فخذها بقوة.

و الأخذ بالقوة كناية عن الأخذ بالجد و الحزم فإن من يجد و يحزم في أمر يستعمل ما عنده من القوة فيه حذرا أن يفوته فالأخذ بالقوة لازم الأخذ بالجد و الحزم كنى به عنه.

و قوله: "و أمر قومك يأخذوا بأحسنها" الظاهر أن الضمير في "بأحسنها" راجع إلى الأشياء المدلول عليها بقوله قبلا: "من كل شيء" من المواعظ و تفاصيل الآداب و الشرائع و الأخذ بالأحسن كناية عن ملازمة الحسن في الأمور و اتباعه و اختياره فإن من يهم بأمر الحسن في الأمور إذا وجد سيئا و حسنا اختار الحسن الجميل، و إذا وجد حسنا و أحسن منه اضطره حب الجمال إلى اختيار الأحسن و تقديمه على الحسن فالأخذ بأحسن الأمور لازم حب الجمال و ملازمة الحسن فكنى به عنه، و المعنى: و أمر قومك يجتنبوا السيئات و يلازموا ما تهدي إليه التوراة من الحسنات، و نظير الآية في التكنية قوله تعالى: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب": الزمر: 18.

و قوله: "سأوريكم دار الفاسقين" ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء الفاسقين هم الذين يفسقون بعدم ائتمار قوله: "و أمر قومك يأخذوا بأحسنها" على ما تقدم من معناه من ملازمة طريق الإحسان في الأمور و اتباع الحق و الرشد فإن من فسق عن الطريق صرفه الله عن الصراط المستقيم إلى تتبع السيئات و الميل عن الرشد إلى الغي كما يفصله في الآية التالية فكانت عاقبة أمره خسرانا و آل أمره إلى الهلاك.

و على هذا فما في الآية التالية: "سأصرف عن آياتي" الآية تفسير أو كالتفسير لقوله: "سأوريكم دار الفاسقين" و قيل المراد بدار الفاسقين جهنم، و في الكلام تهديد و تحذير، و قيل المراد بها منازل فرعون و قومه بمصر، و قيل: منازل عاد و ثمود، و قيل المراد دار العمالقة و غيرهم بالشام و أن الله سيدخلهم فيها فيرونها، و قيل: المراد سيجيئكم قوم فساق تكون الدولة لهم عليكم.



قوله تعالى: "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها" الآية تقييد التكبر في الأرض بغير الحق مع أن التكبر فيها لا يكون إلا بغير الحق كتقييد البغي في الأرض بغير الحق للتوضيح لا للاحتراز و يراد به الدلالة على وجه الذم في العمل و أن التكبر كالبغي مذموم لكونه بغير الحق.

و أما ما قيل: إن القيد احترازي للدلالة على أن المراد هو التكبر المذموم دون التكبر الممدوح كالتكبر على أعداء الله و التكبر على المتكبر و هو تكبر بالحق ففيه أن المذكور في الآية ليس مطلق التكبر بل التكبر في الأرض، و هو الاستعلاء على عباد الله و استذلالهم و التغلب عليهم، و هذا لا يكون إلا بغير الحق.

و قوله: "و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها" عطف على قوله: "يتكبرون" و بيان لأحد أوصافهم و هو الإصرار على الكفر و التكذيب.

و كذا قوله: "و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا" الآية و تكرار الجملتين المثبتة و المنفية بجميع خصوصياتهما للدلالة على اعتنائهم الشديد و مراقبتهم الدقيقة على مخالفة سبيل الرشد و اتباع سبيل الغي بحيث لا يعذرون بخطإ و لا يحتمل في حقهم جهل أو اشتباه.

و قوله: "ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا" إلى آخر الآية تعليل لما تحقق فيهم من رذائل الصفات أي إنما جروا على ما جروا بسبب تكذيبهم لآياتنا و غفلتهم عنها، و من المحتمل أن يكون تعليلا لقوله تعالى: "سأصرف عن آياتي".

قوله تعالى: "و الذين كذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" معنى الآية ظاهر و يتحصل منها: أولا: أن الجزاء هو نفس العمل و قد تقدم توضيحه كرارا في أبحاثنا السابقة.

و ثانيا: أن الحبط من الجزاء فإن الجزاء بالعمل و إذا كان العمل حابطا فإحباطه هو الجزاء، و الحبط إنما يتعلق بالأعمال التي فيها جهة حسن فتكون نتيجة إحباط الحسنات ممن له حسنات و سيئات أن يجزى بسيئاته جزاء سيئا و يجزى بحسناته بإحباطها فيتمحض له الجزاء السيىء.

و يمكن أن تنزل الآية على معنى آخر و هو أن يكون المراد بالجزاء، الجزاء الحسن و قوله: "هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" كناية عن أنهم لا يثابون بشيء إذ لا عمل من الأعمال الصالحة عندهم لمكان الحبط قال تعالى: "و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا": الفرقان: 23، و الدليل على كون المراد بالجزاء هو الثواب أن هذا الجزاء هو جزاء الأعمال المذكورة في الآية قبلا، و المراد بها بقرينة ذكر الحبط هي الأعمال الصالحة.

و من هنا يظهر فساد ما استدل به بعضهم بالآية على أن تارك الواجب من غير أن يشتغل بضده لا عقاب له لأنه لم يعمل عملا حتى يعاقب عليه و قد قال تعالى: "هل يجزون إلا ما كانوا يعملون".

وجه الفساد أن المراد بالجزاء في الآية الثواب و المعنى أنهم لا ثواب لهم في الآخرة لأنهم لم يأتوا بحسنة و لم يعملوا عملا يثابون عليها.

على أن ثبوت العقاب على مجرد ترك الأوامر الإلهية مع الغض عما يشتغل به من الأعمال المضادة كالضروري من كلامه تعالى قال الله عز و جل: "و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم": الجن: 23، إلى غير ذلك من الآيات.



قوله تعالى: "و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار" إلى آخر الآية، الحلي على فعول جمع حلي كالثدي جمع ثدي، و هو ما يتحلى و يتزين به من ذهب أو فضة أو نحوهما، و العجل ولد البقرة، و الخوار صوت البقرة خاصة، و في قوله تعالى: "جسدا له خوار" - و هو بيان للعجل - دلالة على أنه كان غير ذي حياة و إنما وجدوا عنده خوارا كخوار البقر.

و الآية و ما بعده تذكر قصة عبادة بني إسرائيل العجل بعد ما ذهب موسى إلى ميقات ربه و استبطئوا رجوعه إليهم، فكادهم السامري و أخذ من حليهم فصاغ لهم عجلا من ذهب له خوار كخوار العجل و ذكر لهم أنه إلههم و إله موسى فسجدوا له و اتخذوه إلها، و قد فصل الله سبحانه القصة في سورة طه تفصيلا، و الذي ذكره في هذه الآيات من هذه السورة لا يستغني عما هناك، و هو يؤيد نزول سورة طه قبل سورة الأعراف.

و كيف كان فقوله: "و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا" معناه اتخذ قوم موسى من بعد ذهابه لميقات ربه قبل أن يرجع - فإنه سيذكر رجوعه إليهم غضبان - عجلا فعبدوه، و كان هذا العجل الذي اتخذوه "جسدا له خوار" ثم ذمهم الله سبحانه بأنهم لم يعبئوا بما هو ظاهر جلي بين عند العقل في أول نظرته أنه لو كان هو الله سبحانه لكلمهم و لهداهم السبيل فقال تعالى: "أ لم يروا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا".

و إنما ذكر من صفاته المنافية للألوهية عدم تكليمه إياهم و عدم هدايته لهم و سكت عن سائر ما فيه كالجسمية و كونه مصنوعا و محدودا ذا مكان و زمان و شكل إلى غير ذلك مع أن الجميع ينافي الألوهية لأن هاتين الصفتين أعني التكليم و الهداية من أوضح ما تستلزمه الألوهية من الصفات عند من يتخذ شيئا إلها إذ من الواجب أن يعبده بما يرتضيه و يسلك إليه من طريق يوصل إليه، و لا يعلم ذلك إلا من قبل الإله بوجه فهو الذي يجب أن يهديه إلى طريق عبادته بنوع من التكليم و التفهيم، و قد رأوا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا.

على أنهم عهدوا من موسى أن الله سبحانه يكلمه و يهديه، و يكلمهم و يهديهم بواسطته، و قد قالوا حين أخرج السامري لهم العجل: "هذا إلهكم و إله موسى": طه: 88، فلو كان العجل هو الذي أومأ إليه السامري لكلمهم و هداهم سبيلا.

و بالجملة فقد كان من الواضح البين عند عقولهم لو عقلوا أنه ليس هو، و لذلك أردفه بقوله: "اتخذوه و كانوا ظالمين" كأنه قيل: فلم اتخذوه و أمره بذاك الوضوح، فقيل: "اتخذوه و كانوا ظالمين".

قوله تعالى: "و لما سقط في أيديهم و رأوا أنهم قد ضلوا قالوا" إلى آخر الآية.

قال في المجمع،: معنى "سقط في أيديهم" وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان من يده فيه يقال ذلك للنادم عند ما يجده مما كان خفي عليه، و يقال: سقط في يده، و أسقط في يده و بغير ألف أفصح، و قيل: معناه صار الذي يضر به ملقى في يده انتهى.



و قد ذكر في مطولات التفاسير وجوه كثيرة توجه بها هذه الجملة، جلها أو كلها لا تخلو من تعسف، و أقرب الوجوه ما نقلناه عن المجمع، منقولا عن بعضهم فإن ظاهر سياق الآية أن المراد بقوله: "و لما سقط في أيديهم و رأوا أنهم قد ضلوا" إنهم لما التفتوا إلى ما فعلوه و أجالوا النظر فيه دقيقا ثانيا و رأوا عند ذلك أنهم قد ضلوا قالوا: كذا و كذا فالجملة تفيد معنى التنبه لما ذهلوا عنه و التبصر بما أغفلوه كأنهم عملوا شيئا فقدموه إلى ما عملوا له فرده إليهم و رمى به نحوهم فتناولوه بأيديهم فسقط فيها فرأوا من قريب أنهم ضلوا فيما زعموا، و أهملوا فيه أمرا ما كان لهم أن يهملوه، و فات منهم ما فسد بفوته ما عملوه، و على أي حال تجري الجملة مجرى المثل السائر.

و الآية أعني قوله "و لما سقط" بحسب المعنى مترتب على الآيات التالية فإنهم إنما تبينوا ضلالهم بعد رجوع موسى إليهم كما تفصل ذلك سورة طه لكنه سبحانه كأنه قدم الآية لأنها مشتملة على حديث ندامتهم على ما صنعوا و تحسرهم مما فات منهم، و قد أظهروا ذلك بقولهم: "لئن لم يرحمنا ربنا و يغفر لنا لنكونن من الخاسرين" و الأحرى بالندامة و الحسرة أن يذكرا مع ما تعلقنا به من غير فصل طويل، و لذا لما ذكر اتخاذهم العجل في الآية الأولى وصله بندامتهم و حسرتهم في الآية الثانية.

و لأن ذيل حديث رجوع موسى في الآية التالية مشغول بدعائه لنفسه و أخيه ففصل بينه و بين هذا الذي هو صورة دعاء.

قوله تعالى: "و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا" إلى آخر الآية الأسف بكسر السين صفة مشبهة من الأسف و هو شدة الغضب و الحزن و الخلافة القيام بالأمر بعد غيره، و العجلة طلب الشيء و تحريه قبل أوانه على ما ذكره الراغب يقال: عجلت أمرا كذا أي طلبته قبل أوانه الذي له بحسب الطبع فمعنى الآية: و لما رجع موسى إلى قومه و هو في حال غضب و أسف لما أخبره الله تعالى لدى الرجوع بأن قومه ضلوا بعبادة العجل بعده فوبخهم و ذمهم بما صنعوا و قال: بئسما خلفتموني من بعدي أ عجلتم أمر ربكم و طلبتموه قبل بلوغ أجله، و هو أمر من بيده خيركم و صلاحكم و لا يجري أمرا إلا على ما يقتضيه حكمته البالغة، و لا يؤثر فيه عجلة غيره و لا طلبه و لا رضاه إلا بما شاء، و الظاهر أن المراد بأمر ربهم أمره الذي لأجله واعد موسى لميقاته، و هو نزول التوراة.

و ربما قيل: إن معنى "أ عجلتم أمر ربكم": أ عجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم: و قيل: المعنى استعجلتم وعد الله و ثوابه على عبادته فلما لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره؟ و قيل: المعنى أ عجلتم عما أمركم به ربكم و هو انتظار رجوع موسى حافظين لعهده فبنيتم على أن الميقات قد بلغ آخره و لم يرجع إليكم فغيرتم هذا، و ما قدمناه من الوجه أنسب بالسياق.

و بالجملة اشتد غضب موسى (عليه السلام) لما شاهد قومه و وبخهم و ذمهم بقوله: "بئسما خلفتموني من بعدي أ عجلتم أمر ربكم" و هو استفهام إنكاري - "و ألقى الألواح" و هي ألواح التوراة "و أخذ برأس أخيه" قابضا على شعره يجره إليه" و قد قال له - فيما حكى الله في سورة طه: "يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أ فعصيت أمري"؟.

"قال" هارون يا "ابن أم" و إنما خاطبه بذكر أمهما دون أن يقول: يا أخي أو يا ابن أبي للترقيق و تهييج الرحمة "إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني" لما خالفتهم في أمر العجل و منعتهم عن عبادته "فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين" بحسباني كأحدهم في مخالفتك، و كان مما قال له على ما حكاه الله في سورة طه - إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي.



و ظاهر سياق الآية و كذا ما في سورة طه من آيات القصة أن موسى غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنه غضب عليه حسبانا منه أنه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل لما زعم أن الصلاح في ذلك مع أنه وصاه عند المفارقة وصية مطلقة بقوله: "و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين" و هذا المقدار من الاختلاف في السليقة و المشية بين نبيين معصومين لا دليل على منعه، و إنما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق و طرق الحياة على اختلافها.

و كذا ما فعله موسى بأخيه من أخذ رأسه يجره إليه كأنه مقدمة لضربه حسبانا منه إن استقل بالرأي زاعما المصلحة في ذلك و ترك أمر موسى فما وقع منه إنما هو تأديب في أمر إرشادي لا عقاب في أمر مولوي و إن كان الحق في ذلك مع هارون، و لذلك لما قص عليه القصص عذره في ذلك، و دعا لنفسه و لأخيه بقوله رب اغفر لي و لأخي إلخ.

و قد وجه قوله: "و أخذ برأس أخيه يجره إليه" بوجوه أخر: الأول: أن موسى إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم مفكرا فيما كان منهم كما يفعل الإنسان ذلك بنفسه عند الوجد و شدة الغضب فيقبض على لحيته و يعض على شفته فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند الغضب و الأسف.

الثاني: أنه أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا إليه من الكفر و الارتداد فصدر ذلك منه لإعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال.

الثالث: أنه إنما جره إلى نفسه ليناجيه و يستفسر حال القوم منه، و لذلك لما ذكر هارون ما ذكر، قبله منه و دعا له.

الرابع: أنه لما رأى أن بهارون مثل ما به من الغضب و الأسف أخذ برأسه متوجعا له مسكنا لما به من القلق فكره هارون أن يظن الجهال أنه استخفاف و إهانة فأظهر براءة نفسه و دعا له أخوه و جل هذه الوجوه أو كلها لا تلائم سياق الآيات.

و قوله في صدر الآية "و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا" يدل على أنه كان عالما بأمر ارتداد قومه من قبل، و هو كذلك فإن الله سبحانه - كما حكى في سورة طه - قال له و هو في الميقات: فإنا قد فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري.

و إنما ظهر حكم غضبه عند ما شاهد قومه فاشتد عليهم و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه كل ذلك فعله بعد ما رجع إليهم لا حينما أخبره بذلك ربه، و إخبار الله سبحانه أصدق من الحس لأن الحس يصدق و يكذب، و الله سبحانه لا يقول إلا الحق.

و ذلك لأن للعلم حكما و للمشاهدة حكما آخر، و الغضب هيجان القوة الدافعة للدفع أو الانتقام، و لا يتحقق مورد للدفع و الانتقام بمجرد تحقق العلم لكن الحس و المشاهدة تصاحب وجود المغضوب عليه عند العصيان فيتأتى منه الدفع و الانتقام بالقول و الفعل، و لا يؤثر العلم قبل المشاهدة إلا حزنا و غما و نظير ذلك بالمقابلة أنك لو بشرت بقدوم من تحبه و تتوق نفسك إلى لقائه فلك عند تحقق البشرى حال و هو الفرح، و عند لقاء الحبيب حال آخر و حكم جديد، و كذا إذا شاهدت أمرا عجيبا و أنت وحدك كان حكمه التعجب، و إذا شاهدته و معك غيرك تعجبت و ضحكت، و له نظائر أخر.

قوله تعالى: "قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك" الآية دعاء منه (عليه السلام) و قد تقدم في الكلام على المغفرة في آخر الجزء السادس من الكتاب أن المغفرة أعم موردا من المعصية.

قوله تعالى: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم" الآية.



تنكير الغضب و كذا الذلة للإشعار بعظمتهما و قد أبهم الله سبحانه ما سينالهم من غضبه و ذلة الحياة فلم يبين ما هما فمن المحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى ما جرى عليهم بعد ذلك من تحريق العجل المعبود و نسفه في اليم و طرد السامري و قتل جمع منهم، أو أن يكون المراد به ما ضرب الله على قومهم من الذلة و المسكنة و القتل و الإبادة و الإسارة، و يمكن أن يكون المراد بالغضب هو عذاب الآخرة فيجمع لهم بذلك هوان الآخرة و ذلة الدنيا.

و كيف كان فذيل الآية: "و كذلك نجزي المفترين" بظاهره يدل على أن ذلك أعني نيل غضب الرب سبحانه و ذلة الحياة الدنيا سنة جارية إلهية في المفترين على الله و هذا الذي يدل عليه الآية يهدي إليه الأبحاث العقلية أيضا كما مر مرارا.

قوله تعالى: "و الذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها إن ربك من بعدها لغفور رحيم" ضمير "من بعدها" الأول راجع إلى السيئات، و الثاني إلى التوبة، و معنى الآية ظاهر.

و الآية و إن كانت في نفسها عامة لكنها بالنظر إلى المورد بمنزلة الاستثناء من الذين اتخذوا العجل المذكورين في الآية السابقة فالتوبة إذا تحققت بحقيقة معناها في أية سيئة كانت لم يمنع من قبولها مانع كما تقدم في تفسير قوله تعالى: "إنما التوبة على الله" الآية: النساء: 17.

و هذه الآية و التي قبلها معترضتان في القصة، و وجه الخطاب فيهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الدليل على ذلك قوله في الآية الأولى: "و كذلك نجزي المفترين" و في الآية الثانية "إن ربك" الآية و ظاهر السياق أن الكلام فيهما جار على حكاية الحال الماضية بدليل قوله: "سينالهم غضب".

قوله تعالى: "و لما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح" الآية، الرهبة هي خوف مع تحرز: و الباقي ظاهر.

بحث روائي

في الدر المنثور،: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط، و كان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة و يعكفون حولها. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة" إنكم تركبون سنن الذين قبلكم. أقول: و رواها أيضا بطرق أخرى عن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، و فيها: أنها كانت شجرة سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط و كانت تعبد من دون الله. و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: "و جاوزنا ببني إسرائيل البحر" الآية: عن محمد بن شهرآشوب: أن رأس الجالوت قال لعلي (عليه السلام): لم تلبثوا بعد نبيكم إلا ثلاثين سنة حتى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف! فقال علي (عليه السلام): و أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم: "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة". و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن موسى لما خرج وافدا إلى ربه واعدهم ثلاثين يوما فلما زاد الله على الثلاثين عشرا قال قومه: أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا. و في الدر المنثور،: أخرج البزاز و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية و البيهقي في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أ هذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال: يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان و لي قوة الألسن كلها و أقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن فقال: لا تستطيعونه أ لم تروا إلى أصوات الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتموه؟ فذاك قريب منه و ليس به. أقول: أما ذيل الرواية فهو تمثيل للتقريب و ليس به بأس، و أما صدره ففيه خفاء و لعل المراد بقوة عشرة آلاف لسان ما في العشرة آلاف من قوة التفهيم لو تأيد بعضها ببعض فإن ألسن الناس مختلفة في قوة التفهيم فالمراد أن ذلك يعادل من حيث إعطاء التفهيم و الكشف عن المراد عشرة آلاف لسان لو جمع بعضها مع بعض.

و على هذا يكون المراد بالمغايرة في قوله: "كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه" التفاوت من حيث كيفية التفهيم.

و في المعاني، بإسناده عن هشام قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) إذ دخل عليه معاوية بن وهب و عبد الملك بن أعين فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله ما تقول في الخبر المروي: أن رسول ص رأى ربه؟ على أي صورة رآه؟ و في الخبر الذي رواه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة؟ على أي صورة يرونه؟ فتبسم ثم قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة و ثمانون سنة يعيش في ملك الله و يأكل من نعمه ثم لا يعرف الله حق معرفته. ثم قال: يا معاوية إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ير الرب تبارك و تعالى بمشاهدة العيان، و إن الرؤية على وجهين: رؤية القلب و رؤية البصر فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، و من عنى برؤية البصر فقد كذب و كفر بالله و آياته لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من شبه الله بخلقه فقد كفر. و لقد حدثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقيل له: يا أخا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: لم أعبد ربا لم أره لم تره العيون بمشاهدة العيان و لكن تراه القلوب بحقائق الإيمان. و إذا كان المؤمن يرى ربه بمشاهدة البصر فإن كل من جاز عليه البصر و الرؤية فهو مخلوق، و لا بد للمخلوق من خالق فقد جعلته إذا محدثا مخلوقا، و من شبهه بخلقه فقد اتخذ مع الله شريكا. ويلهم أ لم يسمعوا لقول الله تعالى: "لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير" و قوله لموسى: "لن تراني و لكن انظر إلى الجبل - فإن استقر مكانه فسوف تراني - فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و خر موسى صعقا" و إنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سم الخياط فدكدكت الأرض، و صعقت الجبال، و خر موسى صعقا أي ميتا "فلما أفاق" و رد عليه روحه "قال سبحانك تبت إليك" من قول من زعم أنك ترى و رجعت إلى معرفتي بك: أن الأبصار لا تدركك "و أنا أول المؤمنين" بأنك ترى و لا ترى و أنت بالمنظر الأعلى الحديث.



و في التوحيد، بإسناده عن علي (عليه السلام) في حديث: و سأل موسى و جرى على لسانه من حمد الله عز و جل: "رب أرني أنظر إليك" فكانت مسألته تلك أمرا عظيما، و سأل أمرا جسيما فعوتب فقال الله عز و جل: "لن تراني" في الدنيا حتى تموت و تراني في الآخرة، و لكن إن أردت أن تراني "فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" فأبدى الله بعض آياته و تجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميما "و خر موسى صعقا" ثم أحياه الله و بعثه فقال: "سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين" يعني أول من آمن بك منهم بأنه لا يراك. أقول: الروايتان - كما ترى - تؤيدان ما تقدم في البيان السابق، و يتحصل منهما: أولا: أن السؤال إنما كان عن رؤية القلب دون رؤية البصر المستحيل عليه تعالى بأي وجه تصور، و حاشا مقام الكليم (عليه السلام) أن يجهل من ساحة ربه المنزهة ما هو من البداهة على مكان و هو يسمي القوم الذين اختارهم للميقات سفهاء إذ سألوا الرؤية إذ يقول لربه: "أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا": الأعراف: 155، فكيف يقدم هو نفسه على ما سماه سفهاء؟.

و قد كان النزاع و المشاجرة في الصدر الأول و خاصة في زمان الصادقين إلى زمان الرضا (عليه السلام) في المسألة بالغا أوج شدته ينكرها المعتزلة مطلقا و يثبتها الأشاعرة في الآخرة و هناك طائفة أخرى تثبتها في الدنيا و الآخرة جميعا، و الفريقان جميعا يستدلان بالآية و لم تزل المنازعة قائمة على ساقها لم تنقطع ظاهرا إلا بسيوف آل أيوب التي أبادت المعتزلة و ألحقت طالعهم بغاربهم.

و جملة احتجاج المعتزلة، أنهم كانوا يستدلون بقوله في الآية: "لن تراني" و بسائر ما ينفي الرؤية البصرية من طريق العقل و النقل، و يأولون ما يدل على جوازها من الآيات و الروايات، و جملة احتجاج الأشاعرة أنهم كانوا يستدلون بالتنظير الواقع في الآية بقوله: "و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" الآية و بما في غيرها من الآيات و بعض الروايات من جوازها في الآخرة، و يأولون ما عدا ذلك على ما هو شأن الأبحاث الكلامية عندهم و ربما استدل لذلك بأنه لا دليل على وجوب انحصار الرؤية البصرية في الجسمانيات فمن الجائز أن يتعلق بغير الأمور المادية.

و بأن الإبصار يتعلق بالجوهر و العرض، و لا جامع بينهما إلا الموجود المطلق فكل موجود يمكن أن يتعلق به الإبصار و إن لم يكن جسما أو جسمانيا.

و قد اتضح بطلان هاتين الحجتين و ما يسانخهما من الحجج و الأقاويل في هذه الأزمنة اتضاحا كاد يلحق بالبديهيات.

و على أي حال لا يهمنا إيراد ما أوردوه من الجانبين من نقض و إبرام فمن أراد الوقوف عليها أمكنه أن يراجع الكتب الكلامية و مطولات تفاسير الفريقين.

و الذي تحصل من سابق بحثنا - أولا - أن الرؤية البصرية سواء كانت على هذه الصفة التي هي عليها اليوم أو تحولت إلى أي صفة أخرى هي معها مادية طبيعية متعلقة بقدر و شكل و لون و ضوء تعملها أداة مادية طبيعية فإنها مستحيلة التعلق بالله سبحانه في الدنيا و الآخرة، و عليه يدل البرهان و ما ورد من الآيات و الروايات في نفي الرؤية.

نعم هناك علم ضروري خاص يتعلق به تعالى غير العلم الضروري الحاصل بالاستدلال تسمى رؤية، و إياه تعني الآيات و الروايات الظاهرة في إثبات الرؤية لما فيها من القرائن الكثيرة الصريحة في ذلك، و موطن هذه المعرفة الآخرة.

و - ثانيا - أن قوله تعالى: "رب أرني أنظر إليك" الآية أجنبية أصلا عن الرؤية البصرية الحسية إثباتا و نفيا و سؤالا و جوابا، و إنما يدور الكلام فيها مدار الرؤية بالمعنى الآخر الذي هو رؤية القلب بحسب ما اصطلح عليه في الروايات.



و قد روى الصدوق في العيون،: فيما سأله المأمون عن الرضا (عليه السلام) أنه أجاب عن سؤال الرؤية في الآية، أن موسى إنما سأل ذلك عن لسان قومه لا لنفسه فإنهم لما قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم أحياهم الله سألوا موسى أن يسأله لنفسه فرد عليهم بالاستحالة فأصروا عليه فقال: "رب أرني" أي على ما يقترحه على قومي. و الرواية كما أشرنا إليه في أخبار جنة آدم ضعيفة السند على أنها لا توافق الأصول المسلمة في أخبار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فإن أخبارهم و خاصة خطب علي و الرضا (عليهما السلام) مملوءة من حديث التجلي و الرؤية القلبية فلا موجب له (عليه السلام) أن يلتزم كون الرؤية المذكورة في الآية سؤالا و جوابا هي الرؤية البصرية ثم الجواب بطريق جدلي لا ينطبق كثير انطباق على الآية لكونه خلاف ظاهرها البتة، و خلاف ظاهر حال موسى فإنهم لو اقترحوا عليه ذلك لرد عليهم كما رد عليهم بقوله: "إنكم قوم تجهلون" حين قالوا: يا موسى "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة".

و ثانيا: يتحصل من الروايتين أن موسى (عليه السلام) ما أجيب إلى الرؤية بالمعنى المذكور في الدنيا، و إنما أجيب إليها في الآخرة، و الظاهر أنه يستفاد ذلك من قوله تعالى: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و خر موسى صعقا" فإن الاستدراك في قوله: "و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" إن الذي فرض في الجبل هو بعينه مثل ما فرض في موسى فهو لا يطيق الظهور و الإرادة كما أن ذاك لا يطيقه، و قد وقع التجلي للجبل فدك به و صعق و لو وقع لموسى أيضا لدك به و صعق فالتجلي في نفسه ممكن لكنه بالنسبة إلى المتجلى له يوجب اندكاكه و صعقته، و هذا يشعر أن التجلي لا مانع منه في نفسه مع الصعقة و الموت، و قد استفاضت الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الله سبحانه و تعالى يتجلى لأهل الجنة، و إن لهم في كل جمعة زورة كما وقع ذلك في قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة": القيامة: 23.

و ثالثا تحصل من الروايتين: أن صعقة موسى (عليه السلام) كانت موتا ثم رد الله إليه روحه لا غشية.

و رابعا: أن ما ذكره (عليه السلام) أنه تجلى له من نوره مقدار ما يخرج من سم الخياط من النور من قبيل تمثيل المعنى بالأمور المحسوسة فلا نوره تعالى نور حسي، و لا أنه يتقدر بأمر حسي كسم الخياط، و لذلك مثل ذلك في غير هذه الرواية بوضع طرف الإبهام على أنملة الخنصر كما سيأتي، و الغرض على أي تقدير بيان صغره و حقارته.

و على أي حال فالتجلي إنما هو بما يكفي لدكه و صعقته، و أما كمال نوره تعالى فهو غير متناه لا يحاذيه أي أمر متناه مفروض فلا نسبة بين المتناهي و غير المتناهي.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن عدي في الكامل و أبو الشيخ و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في كتاب الرؤية من طرق عن أنس بن مالك: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا" قال هكذا و أشار بإصبعيه، و وضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر و في لفظ: على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل و خر موسى صعقا و في لفظ: فساخ الجبل في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة. أقول: و وقع في أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الجبل دك فصار رميما، و في بعضها أنه ساخ في البحر فهو يهوي حتى الساعة، و في بعضها: إلى هذه الساعة، و المحصل من تفسير بعضها ببعض أنه صار رميما نزل البحر فلا يرى منه أثر أبدا و ينبغي أن يكون هذا معنى قوله: فساخ الجبل في الأرض أو في البحر فهو يسخ إلى يوم القيامة أو إلى الساعة.



و فيه، أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه من طريق ثابت عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: "فلما تجلى ربه للجبل" قال: أظهر مقدار هذا و وضع الإبهام على خنصر الإصبع الصغرى. فقال حميد راوي الحديث يا أبا محمد الراوي عن أنس ما تريد إلى هذا؟ فضرب في صدره و قال: من أنت يا حميد؟ و ما أنت يا حميد؟ يحدثني أنس بن مالك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقول أنت: ما تريد إلى هذا؟ و فيه،: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية: "رب أرني أنظر إليك" قال: قال الله عز و جل يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، و لا يابس إلا تدهده و لا رطب إلا تفرق، و إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، و لا تبلى أجسادهم. أقول: و الرواية نظيرة ما تقدم من رواية التوحيد عن علي (عليه السلام) و تقدم توضيح معناها.

و في تفسير العياشي، عن أبي بصير، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما سأل موسى ربه تبارك و تعالى، "قال رب أرني أنظر إليك - قال لن تراني و لكن انظر إلى الجبل - فإن استقر مكانه فسوف تراني" قال: فلما صعد موسى على الجبل فتحت أبواب السماء، و أقبلت الملائكة أفواجا في أيديهم العمد، و في رأسها النور يمرون به فوجا بعد فوج، يقولون: يا ابن عمران اثبت فقد سألت عظيما. قال: فلم يزل موسى واقفا حتى تجلى ربنا جل جلاله فجعل الجبل دكا و خر موسى صعقا فلما أن رد الله عليه روحه أفاق "قال سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين". و فيه، أيضا عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن موسى بن عمران لما سأل ربه النظر إليه وعد الله أن يقعد في موضع ثم أمر الملائكة تمر عليه موكبا موكبا بالرعد و البرق و الريح و الصواعق فكلما مر به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل: أيكم ربي؟ فيجاب هو آت و قد سألت عظيما يا ابن عمران. أقول: و الرواية موضوعة، و ما تشمل عليه لا يقبل الانطباق على شيء من مسلمات الأصول المتخذة من الكتاب و السنة.

و في البصائر، بإسناده عن أبي محمد عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي و غيره فرفعوه إلى أبي عبد الله (عليه السلام): أن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم، ثم قال: إن موسى (عليه السلام) لما سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين تجلى للجبل فجعله دكا. أقول: محصل الرواية أن تجليه سبحانه يقبل الوسائط كما أن سائر الأمور المنسوبة إليه تعالى كالتوفي و الإحياء و الرزق و الوحي و غيرها يقبل الوسائط فهو تعالى يتجلى بالوسائط كما يتوفى بملك الموت، و يحيي بصاحب الصور، و يرزق بميكائيل، و يوحي بجبرئيل الروح الأمين، و سيوافيك شرح الرواية في موضع مناسب له إن شاء الله.

و للكروبيين ذكر في التوراة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الحاكم و صححه عن أنس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ "دكا" منونة و لم يمده. و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا" مثقلة ممدودة. و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلما تجلى ربه للجبل طارت لعظمته ستة أجبل فوقعن بالمدينة: أحد و ورقان و رضوى. و وقع بمكة ثور و ثبير و حراء:. أقول: و رواه أيضا عن ابن أبي حاتم و أبي الشيخ و ابن مردويه عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).



و فيه، أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لما تجلى الله لموسى تطايرت سبعة أجبال ففي الحجاز منها خمسة، و في اليمن اثنان: في الحجاز أحد و ثبير و حراء و ثور و ورقان، و في اليمن حصور و صير. أقول: و روي في تقطع الجبل غير ذلك، و هذه الروايات على ما فيها من الاختلاف في عدد الجبال المتطايرة إن كان المراد بها تفسير دك الجبل لم ينطبق على الآية، و إن أريد غير ذلك فهو و إن كان ممكن الوقوع غير أنه لا يكفي لإثباته أمثال هذه الآحاد.

و كذا ما ورد من طرق الشيعة و أهل السنة أن ألواح التوراة كانت من زبرجد، و في بعضها من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا، و في بعضها: كتب الله الألواح لموسى و هو يسمع صريف الأقلام في الألواح، و في بعض أخبارنا أن هذه الألواح مدفونة في جبل من جبال اليمن، أو التقمها حجر هناك فهي محفوظة في بطنه إلى غير ذلك من آحاد الأخبار غير المؤيدة بقرائن قطعية.

على أن البحث التفسيري لا يتوقف على الغور في البحث عنها.

و في روح المعاني، قال: و عن علي كرم الله وجهه: أنه قرأ "جؤار" بجيم مضمومة و همزة. قال و هو الصوت الشديد. و في الدر المنثور، في قوله تعالى: "و ألقى الألواح" الآية: أخرج أحمد و عبد بن حميد و البزاز و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ليرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك و تعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم و عاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر. و في تفسير العياشي، عن محمد بن أبي حمزة عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى لما أخبر موسى أن قومه اتخذوا عجلا +" جسدا "+ له خوار فلم يقع منه موقع العيان فلما رآهم اشتد غضبه فألقى الألواح من يده، قد قال أبو عبد الله (عليه السلام): و للرؤية فضل على الخبر. و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن السدي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوما أو قال: ما أجل عبد ذكر الله أربعين يوما إلا زهده الله في الدنيا، و بصره داءها و دواءها، و أثبت الحكمة في قلبه، و أنطق به لسانه. ثم تلا: "إن الذين اتخذوا العجل - سينالهم غضب من ربهم و ذلة في الحياة الدنيا - و كذلك نجزي المفترين" فلا ترى صاحب بدعة إلا ذليلا، و مفتريا على الله عز و جل و على رسوله و على أهل بيته إلا ذليلا.

بحث روائي آخر

نورد فيها بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في معنى رؤية القلب في التوحيد، و الأمالي، بإسناده عن الرضا (عليه السلام) في خطبة له قال: أحد لا بتأويل عدد ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة. أقول: و حديث تجليه تعالى الدائم لخلقه متكرر في كلام علي و الأئمة من ذريته (عليهم السلام)، و قد نقلنا شذرات من كلامه (عليه السلام) في مباحث التوحيد في ذيل قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة": المائدة: 73.



و في التوحيد، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في كلام له في التوحيد: واحد صمد أزلي صمدي، لا ظل له يمسكه، و هو يمسك الأشياء بأظلتها، عارف بالمجهول، معروف عند كل جاهل، لا هو في خلقه و لا خلقه فيه. أقول: قوله (عليه السلام) "معروف عند كل جاهل" ظاهر في أن له تعالى معرفة عند خلقه لا يطرأ عليها غفلة، و لا يغشاها جهل، و لو كانت هي المعرفة الحاصلة من طريق الاستدلال لزالت بزوال صورته عن الذهن هذا إذا كان المراد من قوله: "معروف عند كل جاهل" أن الإنسان يجهل كل شيء و لا يجهل ربه، و أما لو كان المراد أن الله سبحانه معروف عند كل جاهل به فكون هذه المعرفة غير المعرفة الحاصلة بالاستدلال أظهر.

و قوله (عليه السلام): لا ظل له يمسكه و هو يمسك الأشياء بأظلتها، الأظلة و الظلال اصطلاح منهم (عليهم السلام) و المراد بظل الشيء حده، و لذلك كان منفيا عن الله سبحانه ثابتا في غيره، و قد فسره أبو جعفر الباقر (عليه السلام) في بعض أحاديث الذر و الطينة حيث ذكر: أن الله خلق طائفة من خلقه من طينة الجنة، و طائفة أخرى من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقيل: و أي شيء الظلال؟ فقال (عليه السلام): أ لم تر إلى ظلك في الشمس شيء و ليس بشيء؟ فالحدود الوجودية بالنظر إلى وجود الأشياء غيره و ليست غيره، و بها تتعين الأشياء و لولاها لبطلت، و لعل الاصطلاح مأخوذ من آية الظلال.

و في الإرشاد، و غيره عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء. و عنه (عليه السلام): ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله. و عنه: لم أعبد ربا لم أره. و في النهج، عنه: لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن الله عز و جل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة. قلت: متى؟ قال حين قال لهم: "أ لست بربكم؟ قالوا بلى" ثم سكت ساعة ثم قال: و إن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة. أ لست تراه في وقتك هذا؟. قلت: فأحدث بهذا عنك؟ فقال: لا، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عما يصفه المشبهون و الملحدون. أقول: و ظاهر من الرواية أن هذه الرؤية ليست هي الاعتقاد و الإيمان القلبي المكتسب بالدليل كما أنها غير الرؤية البصرية الحسية، و إن المانع من تكثير استعمال لفظ الرؤية في مورده تعالى و إذاعة هذا الاستعمال انصراف اللفظ عند الأفهام العامية إلى الرؤية الحسية المنفية عن ساحة قدسه، و إلا فحقيقة الرؤية ثابتة و هي نيل الشيء بالمشاهدة العلمية من غير طريق الاستدلال الفكري بل هناك عدة من الأخبار تنكر أن يكون الله سبحانه معلوما معروفا من طريق الفكر و سيأتي بعضها.

و في التوحيد، بإسناده عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في كلام له في التوحيد: ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه فقد احتجب بغير حجاب محجوب، و استتر بغير ستر مستور، لا إله إلا هو الكبير المتعال. أقول: و هذا المعنى مروي عن الرضا (عليه السلام) أيضا على ما في العلل، و جوامع التوحيد،.

و الرواية الشريفة تفسر معنى حصول المعرفة به تعالى معرفة لا تقبل الجهالة، و لا يطرأ عليها زوال و لا تغيير و لا خطأ البتة فهي توضح أن الله سبحانه غير محتجب عن شيء إلا بنفس ذلك الشيء فالالتفات إلى الأشياء هو العائق عن الالتفات إلى مشاهدته تعالى.

ثم حكم (عليه السلام) أن هذا الحاجب الساتر غير مانع حقيقة فهو حجاب غير حاجب و ستر غير ساتر.



و ينتج مجموع الكلامين أنه سبحانه مشهود لخلقه معروف لهم غير غائب عنهم غير أن اشتغالهم بأنفسهم و التفاتهم إلى ذواتهم حجبهم عن التنبه على أنهم يشهدونه دائما فالعلم موجود أبدا، و العلم بالعلم مفقود في بعض الأحيان، و قد بنى الصادق (عليه السلام) على هذا الأساس فيما أجاب به بعض من شكى إليه كثرة الشبهات فقال (عليه السلام) له: هل ركبت السفينة فانكسرت و غرقت و بقيت وحدك على لوحة خشبة منها تلعب بك الأمواج فانقطعت عن كل سبب ينجيك؟ قال: نعم. قال: فهل تعلق قلبك إذ ذاك بشيء؟ قال: نعم. قال: ذلك الشيء هو الله و في جوامع التوحيد، عن الرضا (عليه السلام) قال: خلقة الله الخلق حجاب بينه و بينهم. و في العلل، بإسناده عن الثمالي قال: قلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام): لأي علة حجب الله عز و جل الخلق عن نفسه؟ قال: لأن الله تبارك و تعالى بناهم بنية على الجهل. أقول: يظهر من رواية التوحيد، السابقة أن بناءهم على الجهل هو خلقهم بحيث يشتغلون بأنفسهم.

و في المحاسن، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل كان و لا شيء غيره نورا لا ظلام فيه، و صادقا لا كذب فيه، و عالما لا جهل فيه، و حيا لا موت فيه و كذلك هو اليوم، و كذلك لا يزال أبدا الحديث.

و في التوحيد، بإسناده عن الرضا (عليه السلام) في حديث: كان يعني رسول ص إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب. و فيه، أيضا بإسناده عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه عز و جل؟ فقال: نعم بقلبه رآه أ ما سمعت الله عز و جل يقول: "ما كذب الفؤاد ما رأى" لم يره بالبصر و لكن رآه بالفؤاد. و فيه، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن الحجاب و المثال و الصورة غيره و إنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه عرفه بغيره؟ إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنما يعرف غيره، ليس بين الخالق و المخلوق شيء، و الله خالق الأشياء لا من شيء. تسمى بأسمائه فهو غير أسمائه، و الأسماء غيره، و الموصوف غير الواصف، فمن زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة، لا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله، و لا تدرك معرفة الله إلا بالله، و الله خلو من خلقه و خلقه خلو منه. أقول: الرواية تثبت معرفة الله لكل مخلوق يدرك شيئا ما من الأشياء، و تثبت أن هذه المعرفة غير المعرفة الفكرية التي تحصل من طريق الأدلة و الآيات و أن القصر على المعرفة الاستدلالية لا يخلو عن جهل بالله، و شرك خفي.

بيان ذلك بما تعطيه الرواية من المقدمات أن المعرفة المتعلقة بشيء إنما هي إدراكه فما وقع في ظرف الإدراك فهو الذي تتعلق به المعرفة حقيقة لا غيره، فلو فرضنا أنا عرفنا شيئا من الأشياء بشيء آخر هو واسطة في معرفته فالذي تعلق به إدراكنا هو الوسط دون الظرف الذي هو ذو وسط، فلو كانت المعرفة بالوسط مع ذلك معرفة بذي الوسط كان لازمه أن يكون ذلك الوسط بوجه هو ذا الوسط حتى تكون المعرفة بأحدهما هي بعينها معرفة بالآخر فهو هو بوجه و ليس هو بوجه فيكون واسطة رابطة بين الشيئين فزيد الخارجي الذي نتصوره في ذهننا هو زيد بعينه و لو كان غيره لم نكن تصورناه بل تصورنا غيره، و عاد عند ذلك علومنا جهالات.



و إذ كان لا واسطة بين الخالق و المخلوق ليكون رابطة بينهما فلا تمكن معرفته سبحانه بشيء آخر غير نفسه فلو عرف بشيء كان ذلك الشيء هو نفسه بعينه، و إن لم يعرف بنفسه لم يعرف بشيء آخر أبدا فدعوى أنه تعالى معروف بشيء من الأشياء كتصور أو تصديق أو آية خارجية شرك خفي لأنه إثبات واسطة بين الخالق و المخلوق يكون غيرهما جميعا و ما هذا وصفه غير محتاج الوجود إلى الخالق تعالى فهو مثله و شريكه فالله سبحانه لو عرف عرف بذاته، و لو لم يعرف بذاته لم يعرف بشيء آخر البتة لكنه سبحانه معروف، فهو معروف بذاته أي إن ذاته المتعالية و المعروفية شيء واحد بعينه فمن المستحيل أن يكون مجهولا لأن ثبوت ذاته عين ثبوت معروفيته.

و أما بيان كونه تعالى معروفا فلأن شيئا من الأشياء المخلوقة لا يستقل عنه تعالى بذاته بوجه من الوجوه لا في خارج و لا في ذهن، فوجوده كالنسبة و الربط الذي لا يمكنه الاستقلال عن طرفه بوجه من الوجوه، فإذا تعلق علم مخلوق بشيء من الأشياء أي وقع المعلوم في ظرف علمه لم يتحقق هناك إلا و معه خالقا متكئا بوجوده عليه و إلا لاستقل دونه فلا يجد عالم معلومه إلا و قد وجد الله سبحانه قبله، و العالم نفسه حيث كان مخلوقا لم يستقل بالعلم إلا بالله سبحانه الذي قوم وجود هذا العالم، و لو استقل به دونه كان مستقلا دونه غير مخلوق له، فالله سبحانه يحتاج إليه العالم في كونه عالما كما يفتقر إليه وجود المعلوم في كونه معلوما أي إن العلم يتعلق باستقلال ذات المعلوم أي إن الله سبحانه هو المعلوم أولا و يعلم به المعلوم ثانيا كما أنه تعالى هو العالم أولا و به يكون الشيء عالما ثانيا فافهم ذلك و تدبر في قوله تعالى: "و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء": البقرة: 255، و في قوله (عليه السلام): "ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله". فقد تبين أنه تعالى معروف لأن ثبوت علم ما بمعلوم ما في الخارج لا يتم إلا بكونه تعالى هو المعروف أولا، و ثبوت ذلك ضروري.

فقوله (عليه السلام): "من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو صورة أو مثال فهو مشرك كان المراد بالحجاب هو الشيء الذي يفرض فاصلا بينه تعالى و بين العارف، و بالصورة الصورة الذهنية المقارنة للأوصاف المحسوسة من الأضواء و الألوان و الأقدار و بالمثال ما هو من المعاني العقلية غير المحسوسة أو المراد بالصورة الصورة المحسوسة، و بالمثال الصورة المتخيلة، أو المراد بالصورة التصور و بالمثال التصديق، و كيف كان فالعلوم الفكرية داخلة في ذلك، و الأخبار في نفي كون العلم الفكري إحاطة علمية بالله كثيرة جدا.

و كون هذه المعرفة شركا لإثباتها أمرا ليس بخالق و لا مخلوق كما عرفت آنفا، و لزوم كونه مشاركا معه بوجه مباينا له بوجه، و لذلك عقب (عليه السلام) الكلام بقوله: "و إنما هو واحد موحد" أي إنه لا يشاركه في ذاته شيء بوجه من الوجوه حتى يوجب ذلك تركبه و انتفاء وحدته كما أن الصورة العلمية تشارك المعلوم الخارجي في معناه و ماهيته و تفارقه في وجوده فيصير المعلوم بذلك مركبا من ماهية و وجود.

"فكيف يوحد من زعم أنه يعرفه بغيره" مع إثباته شريكا له في وجوده و تركبا له في ذاته "إنما عرف الله من عرفه بالله" أي بنفس ذاته من غير واسطة "و من لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره" كل ذلك "لأنه ليس بين الخالق و المخلوق شيء" أي أمر يربطهما هو غيرهما "و الله خالق الأشياء لا من شيء" يكون رابطا بينهما موصلا للخالق إلى المخلوق و بالعكس كما أن الإنسان الصانع يربطه إلى مصنوعه مثاله الذي في ذهن الصانع، و المادة الخارجية التي بيده.



و قوله (عليه السلام): "تسمى بأسمائه فهو غير أسمائه" في موضع دفع اعتراض مقدر، و هو أن يقال: إنا إنما نعرفه سبحانه بأسمائه الحاكية لجماله و جلاله، فدفعه بأن نفس التسمي بالأسماء يقضي بأن الأسماء غيره إذ لو لم تكن غيره لكان معرفته بأسمائه معرفة له بنفسه لا بشيء آخر ثم أكده بأن الأسماء واصفة، و الذات موصوفة "و الموصوف غير الواصف".

فإن رجع المعترض و قال: إنا نؤمن بما نجهله، و لا يمكننا معرفته بنفسه إلا بما تسمى معرفة به بنوع من المجاز كالمعرفة بالآيات و "زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة لا يدري ما ذا يقول فإنه يدرك شيئا لا محالة لا مجال له لإنكار ذلك "و لا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله" فهو يعرف الله و إلا لم يمكنه أن يعرف به، و لا تنال "و لا تدرك معرفة الله إلا بالله" و لا رابطة مشتركة بين الخالق و المخلوق "و الله خلو من خلقه و خلقه خلو منه".

فقد تحصل من الرواية أن معرفة الله سبحانه ضروري لكل مدرك ذي شعور من خلقه إلا أن الكثير منهم ضال عن المعرفة مختلط عليه، و العارف بالله يعرفه به، و يعلم أنه يعرفه و يعرف كل شيء به، و في بعض هذه المعاني روايات أخر.

و اعلم أن الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة جدا لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها.

و اعلم أنا لم نورد بحثا فلسفيا في مسألة الرؤية لأن الذي تتضمنه غالب ما أوردناه من الروايات من البيان بيان فلسفي فلم تمس الحاجة إلى عقد بحث على حدة.

7 سورة الأعراف - 155 - 160

وَ اخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَتِنَا فَلَمّا أَخَذَتهُمُ الرّجْفَةُ قَالَ رَب لَوْ شِئْت أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَ إِيّىَ أَ تهْلِكُنَا بمَا فَعَلَ السفَهَاءُ مِنّا إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُك تُضِلّ بهَا مَن تَشاءُ وَ تهْدِى مَن تَشاءُ أَنت وَلِيّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا وَ أَنت خَيرُ الْغَفِرِينَ (155) وَ اكتُب لَنَا فى هَذِهِ الدّنْيَا حَسنَةً وَ فى الاَخِرَةِ إِنّا هُدْنَا إِلَيْك قَالَ عَذَابى أُصِيب بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتى وَسِعَت كلّ شىْءٍ فَسأَكتُبهَا لِلّذِينَ يَتّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزّكوةَ وَ الّذِينَ هُم بِئَايَتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسولَ النّبىّ الأُمِّىّ الّذِى يجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فى التّوْرَاةِ وَ الانجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنهَاهُمْ عَنِ الْمُنكرِ وَ يحِلّ لَهُمُ الطيِّبَتِ وَ يحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئث وَ يَضعُ عَنْهُمْ إِصرَهُمْ وَ الأَغْلَلَ الّتى كانَت عَلَيْهِمْ فَالّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَ عَزّرُوهُ وَ نَصرُوهُ وَ اتّبَعُوا النّورَ الّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَأَيّهَا النّاس إِنى رَسولُ اللّهِ إِلَيْكمْ جَمِيعاً الّذِى لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْىِ وَ يُمِيت فَئَامِنُوا بِاللّهِ وَ رَسولِهِ النّبىِّ الأُمِّىِّ الّذِى يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كلِمَتِهِ وَ اتّبِعُوهُ لَعَلّكمْ تَهْتَدُونَ (158) وَ مِن قَوْمِ مُوسى أُمّةٌ يهْدُونَ بِالحَْقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَ قَطعْنَهُمُ اثْنَتىْ عَشرَةَ أَسبَاطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنَا إِلى مُوسى إِذِ استَسقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضرِب بِّعَصاك الحَْجَرَ فَانبَجَست مِنْهُ اثْنَتَا عَشرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كلّ أُنَاسٍ مّشرَبَهُمْ وَ ظلّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَمَ وَ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنّ وَ السلْوَى كلُوا مِن طيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكمْ وَ مَا ظلَمُونَا وَ لَكِن كانُوا أَنفُسهُمْ يَظلِمُونَ (160)

بيان

فصول أخرى من قصص بني إسرائيل يذكر فيها آيات كثيرة أنزلها الله إليهم و حباهم بها يهديهم بها إلى سبيل الحق، و يدلهم على منهج التقوى فكفروا بها و ظلموا أنفسهم.

قوله تعالى: "و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا" أي اختار من قومه فالقوم منصوب بنزع الخافض.

و الآية تدل على أن الله سبحانه عين لهم ميقاتا فحضره منهم سبعون رجلا اختارهم موسى من القوم، و لا يكون ذلك إلا لأمر ما عظيم لكن الله سبحانه لم يبين هاهنا ما هو الغاية المقصودة من حضورهم غير أنه ذكر أنهم أخذتهم الرجفة و لم تأخذهم إلا لظلم عظيم ارتكبوه حتى أدى بهم إلى الهلاك بدليل قول موسى (عليه السلام): "رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا" فيظهر من هنا أن الرجفة أهلكتهم.

و يتأيد بذلك أن هذه القصة هي التي يشير سبحانه إليها بقوله: "و إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة و أنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون": البقرة: 56، و بقوله: "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء" فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك": النساء: 153.

و من ذلك يظهر أن المراد بالرجفة التي أخذتهم في الميقات رجفة الصاعقة لا رجفة في أبدانهم كما احتمله بعض المفسرين و لا ضير في ذلك فقد تقدم نظير التعبير في قصة قوم صالح حيث قال تعالى: "فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين": الأعراف: 78، و قال فيهم: "فأخذتهم صاعقة العذاب الهون": حم السجدة: 17.

و في آية النساء المنقولة آنفا إشعار بأن سؤالهم الرؤية كان مربوطا بنزول الكتاب و أن اتخاذ العجل كان بعد ذلك فكأنهم حضروا الميقات لنزول التوراة، و أنهم إنما سألوا الرؤية ليكونوا على يقين من كونها كتابا سماويا نازلا من عند الله، و يؤيد ذلك أن الظاهر أن هؤلاء المختارين كانوا مؤمنين بأصل دعوة موسى، و إنما أرادوا بقولهم: "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" تعليق إيمانهم به من جهة نزول التوراة عليه على الرؤية.

و بهذا كله يتأيد أن هذه القصة جزء من قصة الميقات و نزول التوراة، و أن موسى (عليه السلام) لما أراد الحضور لميقات ربه و نزول التوراة اختار هؤلاء السبعين فذهبوا معه إلى الطور و لم يقنعوا بتكليم الله كليمه، و سألوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم الله بدعوة موسى، ثم كلم الله موسى و سأل الرؤية و كان ما كان، و مما كان اتخاذ بني إسرائيل العجل بعد غيبتهم و ذهابهم لميقات الله، و قد وقع هذا المعنى في بعض الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما سيجيء إن شاء الله.

و على أي حال العناية في هذه القصة ببيان ظلمهم و نزول العذاب عليهم و دعاء موسى لهم لا بيان كون هذه القصة جزءا من القصة السابقة لو كان جزءا، و لا مغايرتها لها لو كانت مغايرة فلا دلالة في اللفظ تنبه على شيء من ذلك.



و ما قيل: إن ظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى فإنه اضطراب يصان عند كلامه.

على أنه لو كانت الرجفة بسبب سؤال الرؤية لقيل: أ تهلكنا بما قال السفهاء منا لا بما فعل، و لم يذكر هاهنا أنهم قالوا شيئا، و ليس من المعلوم أن يكون قولهم "أرنا الله جهرة" صدر منهم هاهنا بل الحق أنها قصص ثلاث: قصة سؤالهم الرؤية و نزول الصاعقة، و قصة ميقات موسى و صعقته، و قصة ميقات السبعين و أخذ الرجفة، و سنوردها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و لذلك ذكر بعضهم أن هذا الميقات غير الميقات الأول، و ذلك أنهم لما عبدوا العجل أمر الله موسى أن يأتي في أناس منهم إلى الطور فيعتذروا من عبادة العجل فاختار منهم سبعين فأتوا الطور فقالوا ما قالوا فأخذتهم رجفة في أبدانهم كادت تهلكهم ثم انكشفت عنهم بدعاء موسى.

و ذكر بعض آخر أن هارون لما مات اتهم بنو إسرائيل موسى في أمره، و قالوا له: أنت حسدته فينا فقتلته، و أصروا على ذلك فاختار منهم سبعين و فيهم ابن هارون فأتوا قبره فكلمه موسى فبرأه هارون من قتله فقالوا: ما نقضي يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا.

و ذكر آخرون أن بني إسرائيل سألوا موسى الرؤية فاختار منهم السبعين فجاءوا إلى الطور فقالوا ما قالوا و أخذتهم الرجفة فهلكوا ثم أحياهم الله بدعاء موسى إلا أنها قصة مستقلة ليست بجزء من قصة موسى.

و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأقوال و بالخصوص القولان الأولان لا دليل عليه من لفظ القرآن، و لا يؤيده أثر معتبر، و تقطيع القصة الواحدة إلى قصص متعددة، و الانتقال من حديث إلى آخر لتعلق عناية بذلك غير عزيز في القرآن الكريم، و ليس القرآن كتاب قصة حتى يعاب بالانتقال عن قصة قبل تمامها، و إنما هو كتاب هداية و دلالة و حكمة يأخذ من القصص ما يهمه.

و أما قوله: "بما فعل السفهاء" و قد كان الصادر منهم قولا لا فعلا فالوجه في ذلك أن المؤاخذة إنما هو على المعصية، و المعصية تعد عملا و فعلا و إن كانت من قبيل الأقوال كما قال تعالى: "إنما تجزون ما كنتم تعملون": التحريم: 7، فإنه شامل لقول كلمة الكفر و الكذب و الافتراء و نحو ذلك بلا ريب، و الظاهر أنهم عذبوا بما كان يستلزمه قولهم من سوء الأدب و العناد و الاستهانة بمقام ربهم.

على أن ظاهر تلك الأقوال جميعا أنهم إنما عذبوا بالرجفة قبال ما قالوه دون ما فعلوه فالإشكال على تقدير وروده مشترك بين جميع الأقوال فالأقرب كون القصة جزءا من سابقتها كما تقدم.

قوله تعالى: "قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي - إلى قوله - من تشاء" يريد (عليه السلام) بذلك أن يسأل ربه أن يحييهم خوفا من أن يتهمه بنو إسرائيل فيخرجوا به عن الدين، و يبطل بذلك دعوته من أصلها فهذا هو الذي يبتغيه غير أن المقام و الحال يمنعانه من ذلك فها هو (عليه السلام) واقع أمام معصية موبقة من قومه صرعتهم و غضب إلهي شديد أحاط بهم حتى أهلكهم.

و لذلك أخذ يمهد الكلام رويدا و يسترحم ربه بجمل من الثناء حتى يهيج الرحمة على الغضب، و يثير الحنان و الرأفة الإلهية ثم يتخلص إلى مسألته و ذكر حاجته في جو خال من موانع الإجابة.



"قال" مبتدئا باسم الربوبية المهيجة للرحمة "رب لو شئت أهلكتهم من قبل" فالأمر إلى مشيتك، و لو أهلكتهم من قبل "و إياي" لم يتجه من قومي إلي تهمة في هلاكهم، ثم ذكر أنه ليس من شأن رحمته و سنة ربوبيته أن يؤاخذ قوما بفعل سفهائهم فقال في صورة الاستفهام تأدبا: "أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا"؟ ثم أكد القول بقوله: "إن هي إلا فتنتك" و امتحانك "تضل بها" أي بالفتنة "من تشاء و تهدي من تشاء" أي إن هذا المورد أحد موارد امتحانك و ابتلائك العام الذي تبتلي به عبادك و تجريه عليهم ليضل من ضل و يهتدي من اهتدى، و ليس من سنتك أن تهلك كل من افتتن بفتنتك فانحرف عن سوي صراطك.

و بالجملة أنت الذي سبقت رحمتك غضبك ليس من دأبك أن تستعجل المسيئين من عبادك بالعقوبة أو تعاقبهم بما فعل سفهاؤهم، و أنت الذي أرسلتني إلى قومي و وعدتني أن تنصرني في نجاح دعوتي، و هلاك هؤلاء المصعوقين يجلب علي التهمة من قومي.

قوله تعالى: "أنت ولينا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الغافرين" شروع منه (عليه السلام) في الدعاء بعد ما قدمه من الثناء، و بدأه بقوله: "أنت ولينا" و ختمه بقوله: "و أنت خير الغافرين" ليقع ما يسأله بين صفتي ولاية الله الخاصة به، و مغفرته التي هي خير مغفرة ثم سأل حاجته بقوله: "فاغفر لنا و ارحمنا" لأنه خير حاجة يرتضي الله من عباده أن يسألوها عنه، و لم يصرح بخصوص حاجته التي بعثته إلى الدعاء، و هي إحياء السبعين الذين أهلكهم الله تذللا و استحياء.

و حاجته هذه مندرجة في قوله: "فاغفر لنا و ارحمنا" لا محالة فإن الله سبحانه يذكر في آية سورة البقرة أنه بعثهم بعد موتهم، و لم يكن ليحييهم بعد ما أهلكهم إلا بشفاعة موسى (عليه السلام) و لم يذكر من دعائه المرتبط بحالهم إلا هذا الدعاء فهو إنما سأله ذلك تلويحا بقوله "فاغفر لنا" إلخ كما تقدم لا تصريحا.

قوله تعالى: "و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة إنا هدنا إليك" أي رجعنا إليك من هاد يهود إذا رجع، و هو أعني قوله: "إنا هدنا إليك" تعليل لهذا الفصل من الدعاء سأل فيه أن يكتب الله أي يقضي لهم بحسنة في الدنيا و حسنة في الآخرة و المراد بالحسنة لا محالة الحياة و العيشة الحسنة فإن الرجوع إلى الله أي سلوك طريقته و التزام سبيل فطرته يهدي الإنسان إلى حياة طيبة و عيشة حسنة في الدنيا و الآخرة جميعا، و هذا هو الوجه فيما ذكرنا أن قوله: "إنا هدنا إليك" تعليل لهذا الفصل من دعائه فإن الحياة الطيبة من آثار الرجوع إلى الله، و هي شيء من شأنه أن يرزقوه - لو رزقوا - في مستقبل أمرهم، و هو المناسب للكتابة و القضاء، و أما الفصل الأول من الدعاء أعني قوله: "فاغفر لنا و ارحمنا" إلخ فتكفي في تعليله الجمل السابقة عليه، و ما احتف به من قوله: "أنت ولينا" و قوله: "و أنت خير الغافرين" و لا يتعلق بقوله: "إنا هدنا إليك" فافهم ذلك.

قوله تعالى: "قال عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء" هذا جواب منه سبحانه لموسى، و فيه محاذاة لما قدمه موسى قبل مسألته من قوله: "رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي"، و قد قيد الله سبحانه إصابة عذابه بقوله: "من أشاء" دون سعة رحمته لأن العذاب إنما ينشأ من اقتضاء من قبل المعذبين لا من قبله سبحانه، قال تعالى: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و آمنتم": النساء: 147 و قال: "لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد": إبراهيم: 7 فلا يعذب الله سبحانه باقتضاء من ربوبيته و لو كان كذلك لعذب كل أحد بل إنما يعذب بعض من تعلقت به مشيته فلا تتعلق مشيته إلا بعذاب من كفروا نعمه فالعذاب إنما هو باقتضاء من قبل المعذبين لكفرهم لا من قبله.



على أن كلامه سبحانه يعطي أن العذاب إنما حقيقته فقدان الرحمة، و النقمة عدم بذل النعمة، و لا يتحقق ذلك إلا لعدم استعداد المعذب بواسطة الكفران و الذنب لإفاضة النعمة عليه و شمول الرحمة له، فسبب العذاب في الحقيقة عدم وجود سبب الرحمة.

و أما سعة الرحمة و إفاضة النعمة فمن المعلوم أنه من مقتضيات الألوهية و لوازم صفة الربوبية فما من موجود مخلوق إلا و وجوده نعمة لنفسه و لكثير ممن دونه لارتباط أجزاء الخلقة، و كل ما عنده من خير أو شر نعمة إما لنفسه و لغيره كالقوة و الثروة و غيرهما التي يستفيد منها الإنسان و غيره، و إما لغيره إذا كان نقمة بالنسبة إليه كالعاهات و الآفات و البلايا يستضر بها شيء و ينتفع أشياء و على هذا فالرحمة الإلهية واسعة كل شيء فعلا لا شأنا، و لا يختص بمؤمن و لا كافر و لا ذي شعور و لا غيره و لا دنيا و لا آخرة، و المشيئة لازمة لها.

نعم تحقق العذاب و النقمة في بعض الموارد - و هو معنى قياسي - يوجب أن يتحقق هناك رحمة تقابلها و تقاس إليها فإن حرمان البعض من النعمة التي أنعم الله بها على بعض آخر إذا كان عذابا كان ما يجده البعض الآخر رحمة تقابل هذا العذاب، و كذا نزول ما يتألم به و يؤذى على بعض كالعقوبات الدنيوية و الأخروية إذا كان عذابا كان الأمن و السلامة التي يجدها البعض الآخر رحمة بالنسبة إليه و تقابله، و إن كانت الرحمة المطلقة بالمعنى الذي تقدم بيانه يشملهما جميعا.

فهناك رحمة إلهية عامة يتنعم بها المؤمن و الكافر و البر و الفاجر و ذو الشعور و غير ذي الشعور فيوجدون بها و يرزقون بها في أول وجودهم ثم في مسيرة الوجود ما داموا سالكين سبيل البقاء، و رحمة إلهية خاصة و هي العطية الهنيئة التي يجود بها الله سبحانه في مقابل الإيمان و العبودية، و تختص لا محالة بالمؤمنين الصالحين من عباده من حياة طيبة نورانية في الدنيا، و جنة و رضوان في الآخرة و لا نصيب فيها للكافرين و المجرمين، و يقابل الرحمة الخاصة عذاب و هو اللاملائم الذي يصيب الكافرين و المجرمين من جهة كفرهم و جرمهم في الدنيا كعذاب الاستئصال و المعيشة الضنك و في الآخرة من النار و آلامها، و لا يقابل الرحمة العامة شيء من العذاب إذ كل ما يصدق عليه اسم شيء فهو من مصاديق الرحمة العامة لنفسه أو لغيره، و كونه رحمة هي المقصودة في الخلقة، و ليس وراء الشيء شيء.

إذا تحقق هذا تبين أن قوله تعالى: "عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء" بيان لخصوص العذاب و عموم الرحمة، و إنما قابل بين العذاب و الرحمة العامة مع عدم تقابلهما لأن ذكر الرحمة العامة توطئة و تمهيد لما سيذكره من صيرورتها رحمة خاصة في حق المتقين من المؤمنين.

و قد اتضح بما تقدم أن سعة الرحمة ليست سعة شأنية و أن قوله: "و رحمتي وسعت كل شيء" ليس مقيدا بالمشيئة المقدرة بل من لوازم سعة الرحمة الفعلية كما تقدم، و ذلك لأن الظاهر من الآية أن المراد بالرحمة الرحمة العامة و هي تسع كل شيء بالفعل و قد شاء الله ذلك فلزمتها فلا محل لتقدير "إن شئت" خلافا لظاهر كلام جمع من المفسرين.



قوله تعالى: "فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون" تفريع على قوله: "عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي" الآية أي لازم وجوب إصابة العذاب بعض الناس و سعة الرحمة لكل شيء أن أوجب الرحمة على البعض الباقي، و هم الذين يتقون و يؤتون الزكاة الآية.

و قد ذكر سبحانه الذين تنالهم الرحمة بأوصاف عامة و هي التقوى و إيتاء الزكاة و الإيمان بآيات الله من غير أن يقيدهم بما يخص قومه كقولنا: للذين يتقون منكم و نحو ذلك لأن ذلك مقتضى عموم البيان في قوله: "عذابي أصيب به من أشاء" الآية و البيان العام ينتج نتيجة عامة.

و إذا قوبلت مسألة موسى بالآية كانت الآية بمنزلة المقيدة لها فإنه (عليه السلام) سأل الحسنة و الرحمة لقومه ثم عللها بقوله: "إنا هدنا إليك" فكان معنى ذلك مسألة الرحمة لكل من هاد و رجع منهم بأن يكتب الله حسنة الدنيا و الآخرة لمجرد هودهم و عودهم إليه فكان فيما أجابه الله به أنه سيكتب رحمته للذين آمنوا و اتقوا فكأنه قال: اكتب رحمتك لمن هاد إليك منا، فأجابه الله أن سأكتب رحمتي لمن هاد و اتقى و آمن بآياتي فكان في ذلك تقييد لمسألته.

و لا ضير في ذلك فإنه سبحانه هو الهادي لأنبيائه و رسله المعلم لهم يعلم كليمه أن يقيد مسألته بالتقوى و هو الورع عن محارمه و بالإيمان بآياته و هو التسليم لأنبيائه و للأحكام النازلة إليهم، و لا يطلق الهود و هو الرجوع إلى الله بالإيمان به، فهذا تصرف في دعاء موسى بتقييده كما تصرف تعالى في دعاء إبراهيم بالتقييد في قوله: "قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين": البقرة: 124، و بالتعميم و الإطلاق في قوله فيما يحكي من دعائه لأهل مكة: "و ارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله و اليوم الآخر قال و من كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار و بئس المصير": البقرة: 126، فقد تبين أولا أن الآية تتضمن استجابته تعالى لدعاء موسى: "و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة" بتقييد ما له فمن العجيب ما ذكره بعضهم: أن الآية بسياقها تدل على أن الله سبحانه رد دعوة موسى و لم يستجبها، و كذا قول بعضهم: إن موسى (عليه السلام) دعا لقومه فاستجابه الله في حق أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بناء على بيانية قوله: "الذين يتبعون الرسول" الآية لقوله: "للذين يتقون" الآية و سيجيء.

و ثانيا: أنه تعالى استجاب ما اشتمل عليه الفصل الأول من دعائه فإنه تعالى لم يرده، و حاشا أن يحكي الله في كلامه دعاء لاغيا غير مستجاب، و قوله: "فسأكتبها للذين" الآية فإنه يحاذي ما سأله (عليه السلام) من الحسنة المستمرة الباقية في الدنيا و الآخرة لقومه، و أما طلب المغفرة لذنب دفعي صدر عنهم بقولهم: "أرنا الله جهرة" فلا يحاذيه قوله: "فسأكتبها" الآية بوجه، فسكوته تعالى عن رد دعوته دليل إجابتها كما في سائر الموارد التي تشابهه في القرآن.



و يلوح إلى استجابة دعوته لهم بالمغفرة قوله في القصة في موضع آخر: "ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون": البقرة: 56 فمن البعيد المستبعد أن يحييهم الله بعد إهلاكهم و لم يغفر لهم ذنبهم الذي أهلكوا به و على أي حال معنى الآية: "فسأكتبها" أي سأكتب رحمتي و أقضيها و أوجبها استعيرت الكتابة للإيجاب لأن الكتابة أثبت و أحكم "للذين يتقون" و يجتنبون المعاصي و ترك الواجبات "و يؤتون الزكاة" و هي الحق المالي أو مطلق الإنفاق في سبيل الله الذي ينمو به المال، و يصلح به مفاسد الاجتماع، و يتم به نواقصه، و ربما قيل: إن المراد بها زكاة النفس و طهارتها، و إيتاء الزكاة إصلاح أخلاق النفس.

و ليس بشيء.

"و الذين هم بآياتنا يؤمنون" أي يسلمون لما جاءتهم من عند الله من الآيات و العلامات سواء كانت آيات معجزة كمعجزات موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و عليهم، أو أحكاما سماوية كشرائع موسى و أوامره و شرائع غيره من الأنبياء، أو الأنبياء أنفسهم أو علامات صدق الأنبياء كعلائم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) التي ذكرها الله تعالى لهم في كتاب موسى و عيسى (عليهما السلام) فكل ذلك آيات له تعالى يجب عليهم و على غيرهم أن يؤمنوا بها و يسلموا لها، و لا يكذبوا بها.

و في الآية التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة فإنه قال أولا: "و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا".

ثم قال: "قال عذابي أصيب به" الآية و كان النكتة فيه إظهار ما له سبحانه من العناية الخاصة باستجابة دعاء الداعين من عباده فيقبل عليهم هو تعالى من غير أن يشاركه فيه غيره و لو بالتوسط فإن التكلم بلفظ المتكلم مع الغير لإظهار العظمة لمكان أن العظماء يتكلمون عنهم و عن أتباعهم فإذا أريد إظهار عناية خاصة بالمخاطب أو بالخطاب تكلم بلفظ المتكلم وحده.

و على هذا جرى كلامه تعالى فاختار سياق المتكلم وحده المناسب لمعنى المناجاة و المسارة فيما حكى من أدعية أنبيائه و أوليائه و استجابته لهم في كلامه كأدعية نوح و إبراهيم و دعاء موسى ليلة الطور، و أدعية سائر الصالحين و استجابته لهم، و لم يعدل عن سياق المتكلم وحده إلا لنكتة زائدة.

و أما قوله: "و الذين هم بآياتنا يؤمنون" و ما فيه من العدول من التكلم وحده - السياق السابق - إلى التكلم مع الغير فالظاهر أن النكتة فيه إيجاد الاتصال بين هذه الآية و الآية التالية التي هي نوع من البيان لهذه الجملة أعني قوله: "و الذين هم بآياتنا يؤمنون" فإن الآية التالية - كما سيجيء - بمنزلة المعترضة من النتيجة المأخوذة في ضمن الكلام الجاري، و سياقها سياق خارج عن سياق هذه القطعة المتعرضة للمشافهة و المناجاة بين موسى و بينه تعالى راجع إلى السياق الأصلي السابق الذي هو سياق المتكلم مع الغير.

فبتبديل "و الذين هم بآياتي يؤمنون" إلى قوله: "و الذين هم بآياتنا يؤمنون" يتصل الآية التالية بسابقتها في السياق بنحو لطيف فافهم ذلك و تدبر فيه فإنه من أعجب السياقات القرآنية.

قوله تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل - إلى قوله - كانت عليهم".

قال الراغب في المفردات،: الإصر عقد الشيء و حبسه بقهره يقال: أصرته فهو مأصور، و المأصر و المأصر - بفتح الصاد و كسرها - محبس السفينة، قال تعالى: و يضع عنهم إصرهم أي الأمور التي تثبطهم و تقيدهم عن الخيرات، و عن الوصول إلى الثوابات، و على ذلك: و لا تحمل علينا إصرا، و قيل ثقلا و تحقيقه ما ذكرت.

انتهى و الأغلال جمع غل و هو ما يقيد به.



و قوله: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي" الآية بحسب ظاهر السياق بيان لقوله: "و الذين هم بآياتنا يؤمنون" و يؤيده ما هو ظاهر الآية أن كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا نبيا أميا و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث، و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم كل ذلك من أمارات النبوة الخاتمية و آياتها المذكورة لهم في التوراة و الإنجيل فمن الإيمان بآيات الله الذي شرطه الله تعالى لهم في كلامه: أن يؤمنوا بالآيات المذكورة لهم أمارات لنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

غير أن من المسلم الذي لا مرية فيه أن الرحمة التي وعد الله كتابته لليهود بشرط التقوى و الإيمان بآيات الله ليست بحيث تختص بالذين آمنوا منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يحرم عنها صالحو بني إسرائيل من لدن أجاب الله دعوة موسى (عليه السلام) إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فآمن به شرذمة قليلة من اليهود، فإن ذلك مما لا ينبغي توهمه أصلا.

فبين موسى و عيسى (عليهما السلام)، و كذا بعد عيسى (عليه السلام) ممن آمن به من بني إسرائيل جم غفير من المؤمنين الذين آمنوا بالدعوة الإلهية فقبل الله منهم إيمانهم و وعدهم بالخير، و الكلام الإلهي بذلك ناطق فكيف يمكن أن تقصر الرحمة الإلهية المبسوطة على بني إسرائيل في جماعة قليلة منهم آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟.

فقوله: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي" الآية و إن كان بيانا لقوله: "و الذين هم بآياتنا يؤمنون" إلا أنه ليس بيانا مساويا في السعة و الضيق لمبينه بل بيان مستخرج من مبينه انتزع منه، و خص بالذكر ليستفاد منه فيما هو الغرض من سوق الكلام، و هو بيان حقيقة الدعوة المحمدية، و لزوم إجابتهم لها و تلبيتهم لداعيها.

و لذلك في القرآن الكريم نظائر من حيث التضييق و التوسعة في البيان كما قال تعالى حاكيا عن إبليس: "فبعزتك لأغوينهم أجمعين" الآية ثم قال في موضع آخر حاكيا عنه: "لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا لأضلنهم و لأمنينهم و لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام و لآمرنهم فليغيرن خلق الله": النساء: 119 فإن القول الثاني المحكي عن إبليس مستخرج من عموم قوله المحكي أولا: "لأغوينهم أجمعين".

و قال تعالى في أول هذه السورة: "و لقد خلقناكم ثم صورناكم - إلى أن قال - يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم" الآية و قد تقدم أن ذلك من قبيل استخراج الخطاب من الخطاب لغرض التعميم إلى غير ذلك من النظائر.

فيئول معنى بيانية قوله: "الذين يتبعون الرسول" إلى استخراج بيان من بيان للتطبيق على مورد الحاجة كأنه قيل: فإذا كان المكتوب من رحمة الله لبني إسرائيل قد كتب للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون فمصداقه اليوم - يوم بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - هم الذين يتبعونه من بني إسرائيل لأنهم الذين اتقوا و آتوا الزكاة و هم الذين آمنوا بآياتنا فإنهم آمنوا بموسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم آياتنا، و آمنوا بمعجزات هؤلاء الرسل و ما نزل عليهم من الشرائع و الأحكام و هي آياتنا، و آمنوا بما ذكرنا لهم في التوراة و الإنجيل من أمارات نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و علامات ظهوره و دعوته، و هي آياتنا.



ثم قوله: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي" الآية أخذ فيه "يتبعون" موضع يؤمنون، و هو من أحسن التعبير لأن الإيمان بآيات الله سبحانه كأنبيائه و شرائعهم إنما هو بالتسليم و الطاعة فاختير لفظ الاتباع للدلالة على أن الإيمان بمعنى الاعتقاد المجرد لا يغني شيئا فإن ترك التسليم و الطاعة عملا تكذيب بآيات الله و إن كان هناك اعتقاد بأنه حق.

و ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الأوصاف الثلاث: الرسول النبي الأمي، و لم يجتمع له في موضع من كلامه تعالى إلا في هذه الآية و الآية التالية، مع قوله تعالى بعده: "الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل" تدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مذكورا فيهما معرفا بهذه الأوصاف الثلاث.

و لو لا أن الغرض من توصيفه بهذه الثلاث هو تعريفه بما كانوا يعرفونه به من النعوت المذكورة له في كتابيهم لما كانت لذكر الثلاث: "الرسول النبي الأمي" و خاصة الصفة الثالثة نكتة ظاهرة.

و كذلك ظاهر الآية يدل أو يشعر بأن قوله: يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر إلى آخر الأمور الخمسة التي وصفه (صلى الله عليه وآله وسلم) بها في الآية من علائمه المذكورة في الكتابين، و هي مع ذلك من مختصات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ملته البيضاء فإن الأمم الصالحة و إن كانوا يقومون بوظيفة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما ذكره تعالى من أهل الكتاب في قوله: "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة - إلى أن قال - و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يسارعون في الخيرات و أولئك من الصالحين": آل عمران 114.

و كذلك تحليل الطيبات و تحريم الخبائث في الجملة من الجملة الفطريات التي أجمع عليها الأديان الإلهية، و قد قال تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق": الأعراف: 32.

و كذلك وضع الإصر و الأغلال و إن كان مما يوجد في الجملة في شريعة عيسى (عليه السلام) كما يدل عليه قوله فيما حكى الله عنه في القرآن الكريم: "و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم": آل عمران: 50 و يشعر به قوله خطابا لبني إسرائيل: "قد جئتكم بالحكمة و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه": الزخرف 63.

إلا أنه لا يرتاب ذو ريب في أن الدين الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتاب من عند الله مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية - و هو دين الإسلام - هو الدين الوحيد الذي نفخ في جثمان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كل ما يسعه من روح الحياة، و بلغ به من حد الدعوة الخالية إلى درجة الجهاد في سبيل الله بالأموال و النفوس، و هو الدين الوحيد الذي أحصى جميع ما يتعلق به حياة الإنسان من الشئون و الأعمال ثم قسمها إلى طيبات فأحلها، و إلى خبائث فحرمها، و لا يعادله في تفصيل القوانين المشرعة أي شريعة دينية و قانون اجتماعي، و هو الدين الذي نسخ جميع الأحكام الشاقة الموضوعة على أهل الكتاب و اليهود خاصة، و ما تكلفها علماؤهم، و ابتدعها أحبارهم و رهبانهم من الأحكام المبتدعة.

فقد اختص الإسلام بكمال هذه الأمور الخمسة و إن كانت توجد في غيره نماذج من ذلك.



على أن كمال هذه الأمور الخمسة في هذه الملة البيضاء أصدق شاهد و أبين بينة على صدق الناهض بدعوتها (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لو لم تكن تذكر أمارات له في الكتابين فإن شريعته كمال شريعة الكليم و المسيح (عليه السلام) و هل يطلب من شريعة حقة إلا عرفانها المعروف و إنكارها المنكر، و تحليلها الطيبات، و تحريمها الخبائث، و إلغاؤها كل إصر و غل؟ و هي تفاصيل الحق الذي يدعو إليه الشرائع الإلهية فليعترف أهل التوراة و الإنجيل أن الشريعة التي تتضمن كمال هذه الأمور بتفاصيلها هي عين شريعتهم في مرحلة كاملة.

و بهذا البيان يظهر أن قوله تعالى: "يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر" الآية يفيد بمجموعه معنى تصديقه لما في كتابيهم من شرائع الله تعالى كأنه قيل مصدقا لما بين يديه كما في قوله تعالى: "و لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون": البقرة 101 و قوله: "و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين": البقرة: 89 يريد مجيء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكمال ما في كتابهم من الشريعة مصدقا له ثم كفرهم به و هم يعلمون أنه المذكور في كتبهم المبشر به بلسان أنبيائهم كما حكى سبحانه عن المسيح في قوله: "يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد": الصف: 6.

و سنبحث عن بشاراته (عليه السلام) الواقعة في كتبهم المقدسة بما تيسر من البحث إن شاء الله العزيز.

غير أنه تعالى لم يقل: مصدقا لما بين يديه بدل قوله: "يأمرهم بالمعروف" الآية لأن وجه الكلام إلى جميع الناس دون أهل الكتاب خاصة، و لذا أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية التالية بقوله: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" و لم يقيد الكلام في قوله: "فالذين آمنوا به" إلخ بما يختص به بأهل الكتاب.

قوله تعالى: "فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور" إلى آخر الآية التعزير النصرة مع التعظيم، و المراد بالنور النازل معه القرآن الكريم ذكر بنعت النورية ليدل به على أنه ينير طريق الحياة، و يضيء الصراط الذي يسلكه الإنسان إلى موقف السعادة و الكمال، و الكلام في هذا الشأن.

و في قوله تعالى: "أنزل معه" و لم يقل: أنزل عليه أو أنزل إليه و "مع" تدل على المصاحبة و المقارنة تلويح إلى معنى الأمارة و الشهادة التي ذكرناها كأنه قيل: و اتبعوا النور الذي أنزل عليه و هو بما يحتوي عليه من كمال الشرائع السابقة، و يظهره بالإضاءة شاهد على صدقه، و أمارة أنه هو الذي وعد به أنبياؤهم، و ذكر لهم في كتبهم فقوله: "معه" حال من نائب فاعل "أنزل".

و قد وقع نظيره في قوله تعالى: "فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه": البقرة: 213.

و قد اختلف المفسرون في توجيه هذه المعية و معناها: فقيل: إن الظرف - معه - متعلق بأنزل، و الكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو إرساله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه لم ينزل معه، و إنما أنزل مع جبرئيل، و قيل: متعلق ب "اتبعوا" و المعنى شاركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في اتباعه، أو المعنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم له و قيل: حال عن فاعل اتبعوا، و المعنى اتبعوا القرآن مصاحبين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في اتباعه، و قيل: "مع" هنا بمعنى على، و قيل: بمعنى عند، و لا يخفى بعد الجميع.



و قوله: "فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور" الآية بمنزلة التفسير لقوله في صدر الآية: "الذين يتبعون الرسول" و أن المراد باتباعه حقيقة اتباع كتاب الله المشتمل على شرائعه، و أن الذي له (عليه السلام) من معنى الاتباع هو الإيمان بنبوته و رسالته من غير تكذيب به، و احترامه بالتسليم له و نصرته فيما عزم عليه من سيرته.

و الكلام أعني قوله: "فالذين آمنوا به" الآية نتيجة متفرعة على قوله في صدر الآية: "الذين يتبعون الرسول" الآية بناء على ما قدمناه من أنه بيان خاص مستخرج من قوله: "و الذين هم بآياتنا يؤمنون" الذي هو بيان عام، و المعنى إذا كان اتباع الرسول بهذه الأوصاف و النعوت هو من الإيمان بآياتنا الذي شرطناه على بني إسرائيل في قبول دعوة موسى لهم ببسط الرحمة في الدنيا و الآخرة و فيه الفلاح بكتابة الحسنة في الدنيا و الآخرة فالذين آمنوا به - إلى آخر ما شرط الله - أولئك هم المفلحون.

قوله تعالى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا - إلى قوله - و يميت" لما لاح من الأوصاف التي وصف بها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن عنده كمال الدين الذي به حياة الناس الطيبة في أي مكان فرضوا و في أي زمان قدر وجودهم، و لا حاجة للناس في طيب حياتهم إلى أزيد من أن يؤمروا بالمعروف، و ينهوا عن المنكر، و تحلل لهم الطيبات، و تحرم عليهم الخبائث، و يوضع عنهم إصرهم و الأغلال التي عليهم أمر نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعلن بنبوته الناس جميعا من غير أن تختص بقوم دون قوم فقال: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا".

و قوله: الذي له ملك السماوات و الأرض لا إله إلا هو يحيي و يميت" صفات وصف الله بها، و هي بمجموعها بمنزلة تعليل يبين بها إمكان الرسالة من الله في نفسها أولا و إمكان عمومها لجميع الناس ثانيا فيرتفع به استيحاش بني إسرائيل أن يرسل إليهم من غير شعبهم و خاصة من الأميين و هم شعب الله و من مزاعمهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، و هم خاصة الله و أبناؤه و أحباؤه، و به يزول استبعاد غير العرب من جهة العصبية القومية أن يرسل إليهم رسول عربي.

و ذلك أن الله الذي اتخذه رسولا هو الذي له ملك السماوات و الأرض و السلطنة العامة عليها، و لا إله غيره حتى يملك شيئا منها فله أن يحكم بما يشاء من غير أن يمنع عن حكمه مانع يزاحمه أو تعوق إرادته إرادة غيره فله أن يتخذ رسولا إلى عباده و أن يرسل رسوله إلى بعض عباده أو إلى جميعهم كيف شاء و هو الذي له الإحياء و الإماتة فله أن يحيي قوما أو الناس جميعا بحياة طيبة سعيدة و السعادة و الهدى من الحياة كما أن الشقاوة و الضلالة موت، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم": الأنفال: 24، و قال: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس": الأنعام: 122، و قال: "إنما يستجيب الذين يسمعون، و الموتى يبعثهم الله": الأنعام: 36.

قوله تعالى: "فآمنوا بالله و رسوله النبي الأمي" إلى آخر الآية تفريع على ما تقدم أي إذا كان الحال هذا الحال فآمنوا بي فإني ذاك الرسول النبي الأمي الذي بشر به في التوراة و الإنجيل، و أنا أومن بالله و لا أكفر به و أومن بكلماته و هي ما قضى به من الشرائع النازلة علي و على الأنبياء السالفين، و اتبعوني لعلكم تفلحون.



هذا ما يقتضيه السياق، و منه يعلم وجه الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله "و رسوله النبي الأمي الذي" الآية فإن الظاهر من السياق أن هذه الآية ذيل الآية السابقة، و هما جميعا من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و وجه الالتفات - كما ظهر مما تقدم - أن يدل بالأوصاف الموضوعة مكان ضمير المتكلم على تعليل الأمر في قوله: "فآمنوا" و قوله: "و اتبعوه لعلكم تهتدون".

و المراد بالاهتداء الاهتداء إلى السعادة الآخرة التي هي رضوان الله و الجنة لا الاهتداء إلى سبيل الحق فإن الإيمان بالله و رسوله و اتباع رسوله بنفسه اهتداء، فيرجع معنى قوله: "لعلكم تهتدون" إلى معنى قوله في الآية السابقة في نتيجة الإيمان و الاتباع: "أولئك هم المفلحون".

قوله تعالى: "و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون" و هذا من نصفة القرآن مدح من يستحق المدح، و حمد صالح أعمالهم بعد ما قرعهم بما صدر عنهم من السيئات فالمراد أنهم ليسوا جميعا على ما وصفنا من مخالفة الله و رسوله، و التزام الضلال و الظلم بل منهم أمة يهدون الناس بالحق و بالحق يعدلون فيما بينهم فالباء في قوله: "بالحق" للآلة و تحتمل الملابسة.

و على هذا فالآية من الموارد التي نسبت الهداية فيها إلى غيره تعالى و غير الأنبياء و الأئمة كما في قوله حكاية عن مؤمن آل فرعون و لم يكن بنبي ظاهرا: "و قال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد": المؤمن: 38.

و لا يبعد أن يكون المراد بهذه الأمة من قوم موسى (عليه السلام) الأنبياء و الأئمة الذين نشئوا فيهم بعد موسى و قد وصفهم الله في كلامه بالهداية كقوله تعالى: "و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون": الم السجدة: 24 و غيره من الآيات و ذلك أن الآية أعني قوله: "أمة يهدون بالحق و به يعدلون" لو حملت على حقيقة معناها من الهداية بالحق و العدل بالحق لم يتيسر لغير النبي و الإمام أن يتلبس بذلك و قد تقدم كلام في الهداية في تفسير قوله تعالى: "قال إني جاعلك للناس إماما": البقرة 124 و قوله: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره": الأنعام: 125.

و غيرهما من الآيات.

قوله تعالى: "و قطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما" إلى آخر الآية.

السبط بحسب اللغة ولد الولد أو ولد البنت.

و الجمع أسباط، و هو في بني إسرائيل بمعنى قوم خاص، فالسبط عندهم بالمنزلة القبيلة عند العرب.

و قد نقل عن ابن الحاجب أن أسباطا في الآية بدل من العدد لا تمييز و إلا لكانوا ستة و ثلاثين سبطا على إرادة أقل الجمع من "أسباطا" و تمييز العدد محذوف للدلالة عليه بقوله: "أسباطا" و التقدير و قطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا هذا.

و ربما قيل: إنه تمييز لكونه بمعنى المفرد و المعنى اثنتي عشرة جماعة مثلا.

و قوله: "و أوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه" الآية الانبجاس هو الانفجار و قيل الانبجاس خروج الماء بقلة، و الانفجار خروجه بكثرة، و ظاهر من قوله: "فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم" أن العيون كانت بعدد الأسباط و أن كل سبط اختصوا بعين من العيون، و أن ذلك كانت عن مشاجرة بينهم و منافسة، و هو يؤيد ما في الروايات من قصتها.

و باقي الآية ظاهر.



و قد عد الله سبحانه في هذه الآيات من معجزات موسى (عليه السلام) و آياته: الثعبان و اليد البيضاء، و سني آل فرعون و نقص ثمراتهم، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم، و فلق البحر، و إهلاك السبعين، و إحياءهم، و انبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، و التظليل بالغمام، و إنزال المن و السلوى، و نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.

و يمكنك أن تضيف إليها التكليم و نزول التوراة، و مسخ بعضهم قردة خاسئين.

و سيجيء تفصيل البحث في قصته (عليه السلام) في تفسير سورة هود إن شاء الله.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن محمد بن سالم بياع القصب عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن عبد الله بن عجلان قال في مرضه الذي مات فيه: أنه لا يموت فمات. فقال: لا غفر الله شيئا من ذنوبه أين ذهب إن موسى اختار سبعين رجلا من قومه فلما أخذتهم الرجفة قال رب: أصحابي أصحابي. قال: إني أبدلك بهم من هو خير لكم منهم فقال: إني عرفتهم و وجدت ريحهم. قال: فبعث الله له أنبياء. أقول: المراد أن الله بدل له بعبد الله بن عجلان أصحابا هم خير منه كما فعل بموسى، و الخبر غريب في بابه و لا يوافق ظاهر الكتاب.

و في البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن سعد بن عبد الله القمي في حديث طويل عن القائم (عليه السلام) قال: قلت: فأخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم. قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح. قال: فهل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحدهم ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى. قال: هي العلة التي أوردها لك برهانا: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، و أنزل عليهم الكتاب و أيدهم بالعصمة إذ هم أعلام الأمم و أهدى للاختيار منهم مثل موسى و عيسى هل يجوز مع وفور عقلهما و كمال علمهما إذا هما بالاختيار أن يقع خيرتهما على المنافق و هما يظنان أنه مؤمن؟ قلت: لا. فقال: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله، و كمال علمه: و نزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه، و وجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لا يشك في إيمانهم و إخلاصهم فوقعت خيرته على المنافقين قال الله عز و جل: "و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا إلى قوله لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة - فأخذتهم الصاعقة بظلمهم". فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح و هو يظن أنه الأصلح دون الأفسد علمنا أن الاختيار ليس إلا لمن يعلم بما تخفي الصدور، و تكن الضمائر و تنصرف عليه السرائر، و أن لا خطر لاختيار المهاجرين و الأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح. أقول: الآية فيها منقولة بالمعنى بمعنى أنها ملفقة من آيات القصة في سورتي الأعراف و النساء.



و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن نوف الحميري قال: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله لموسى: أجعل لكم الأرض مسجدا و طهورا، و أجعل السكينة معكم في بيوتكم، و أجعلكم تقرءون التوراة من ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم و المرأة و الحر و العبد و الصغير و الكبير. فقال موسى: إن الله قد جعل لكم الأرض مسجدا و طهورا. قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس. قال: و يجعل السكينة معكم في بيوتكم. قالوا: لا نريد إلا كما كانت في التابوت. قال: و يجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم و المرأة و الحر و العبد و الصغير و الكبير. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلا نظرا. قال الله: فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة إلى قوله المفلحون. قال موسى: أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم اجعلني من هذه الأمة. قال: إن نبيهم منهم. قال: اجعلني من هذه الأمة قال: إنك لن تدركهم. قال: رب أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم. قال: فأوحى إليه "و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون" قال: فرضي موسى. قال نوف: أ لا تحمدون ربا شهد غيبتكم، و أخذ لكم بسمعكم، و جعل وفادة غيركم لكم. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن نوف البكالي: أن موسى لما اختار من قومه سبعين رجلا قال لهم: فدوا إلى الله و سلوه فكانت لموسى مسألة و لهم مسألة فلما انتهى إلى الطور المكان الذي وعده الله به قال لهم موسى: سلوا الله. قالوا: أرنا الله جهرة. قال: ويحكم تسألون الله هذا مرتين؟ قالوا: هي مسألتنا أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة فصعقوا. فقال موسى: أي رب جئتك بسبعين من خيار بني إسرائيل فارجع إليهم و ليس معي منهم أحد فكيف أصنع ببني إسرائيل؟ أ ليس يقتلوني؟ فقال له: سل مسألتك. قال: أي رب إني أسألك أن تبعثهم، فبعثهم الله، فذهبت مسألتهم و مسألته، و جعلت تلك الدعوة لهذه الأمة. أقول: و إنما أوردنا الروايتين لكونهما بما فيهما من القصة شبيهتين بالموقوفات لكنهما مع الاختلاف لا ينطبقان على شيء مما فيهما من أطراف القصة و نزول الآيات، على ظاهر شيء من الآيات فمسألتهم إنما هي الرؤية و قد ردت إليهم.

و مسألة موسى (عليه السلام) إنما هي بعثهم، و قد أجيبت فبعثوا، و كتابة الرحمة على بني إسرائيل، و قد أجيبت بشرط التقوى و الإيمان بآيات الله، و لم يجعل شيء من وفادتهم لغيرهم، و الخطاب بقوله: "و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون موسى على ما يعطيه السياق.

و نظير الروايتين في عدم الانطباق على الآية ما روي عن ابن عباس: في قوله: "و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة" قال: فلم يعطها موسى قال: "عذابي أصيب به من أشاء إلى قوله المفلحون" و المراد أنه لم يعطها بل أعطيتها هذه الأمة و قد مر أن ظهور الآية في غير ذلك.

و نظير ذلك ما روي عن السدي: في قوله تعالى: "إن هي إلا فتنتك" الآية قال: قال موسى: يا رب إن هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أ رأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا، قال: فأنت إذا أضللتهم، و روى العياشي في تفسيره، مثله عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) مرسلا، و فيه: قال موسى: يا رب و من أخار العجل؟ قال: أنا. قال موسى عنده: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء و تهدي من تشاء. و ذلك أن الآية أعني قوله: "إن هي إلا فتنتك" من كلامه (عليه السلام) في قصة هلاك السبعين، و أين هي من قصة العجل؟ إلا أن يتكرر منه ذلك و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود عن جندب بن عبد الله البجلي قال جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نادى: اللهم ارحمني و محمدا و لا تشرك في رحمتنا أحدا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها و إنسها و بهائمها، و عنده تسعة و تسعون. و فيه، أخرج أحمد و مسلم عن سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، و بها تعطف الوحوش على أولادها، و آخر تسعة و تسعين إلى يوم القيامة. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن سلمان موقوفا و ابن مردويه عن سلمان قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات و الأرض كل رحمة منها طباق ما بين السماء و الأرض فأهبط منها رحمة إلى الأرض فبها تراحم الخلائق، و بها تعطف الوالدة على ولدها، و بها تشرب الطير و الوحوش من الماء، و بها تعيش الخلائق فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين، و زاد تسعة و تسعين رحمة ثم قرأ: "و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون". أقول: و هذا المعنى مروي أيضا من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و الرواية الثانية كأنها نقل بالمعنى للرواية الأولى، و قد أفسد الراوي المعنى بقوله: "فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه" و ليت شعري إذا سلب الرحمة عن غير المتقين من خلقه فبما ذا يبقى و يعيش السماوات و الأرض و الجنة و النار و من فيها و الملائكة و غيرهم و لا رحمة تشملهم.



و الأحسن في التعبير ما ورد في بعض رواياتنا - على ما أذكر - أن الله يومئذ يجمع المائة للمؤمنين، و جمع المائة لهم و استعمالها فيهم غير انتزاعها عن غيرهم و تخصيصها بهم فالأول جائز معقول دون الثاني فافهم ذلك.

و فيه، أخرج الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: و الذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول بها إبليس رجاء أن تصيبه. أقول: و من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ما في معناه.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي بكر الهذلي قال: لما نزلت "و رحمتي وسعت كل شيء" قال إبليس: يا رب و أنا من الشيء فنزلت فسأكتبها "للذين يتقون" الآية فنزعها الله من إبليس. أقول: و الظاهر أنه فرض و تقدير من أبي بكر، و لا ريب في تنعم إبليس بالرحمة العامة التي يشتمل عليها صدر الآية، و حرمانه من الرحمة الخاصة الأخروية التي يتضمنها ذيلها.

في تفسير البرهان، عن نهج البيان روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أي الخلق أعجب إيمانا؟ فقالوا: الملائكة، فقال: الملائكة عند ربهم فما لهم لا يؤمنون؟ فقالوا: الأنبياء. فقال: الأنبياء يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون؟ فقالوا: نحن. فقال: أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون؟ إنما هم قوم يكونون بعدكم فيجدون كتابا في ورق فيؤمنون به، و هذا معنى قوله: "و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون". أقول: و الخبر لا بأس به، و هو من الجري و الانطباق، و في بعض الروايات أن النور هو علي (عليه السلام) و هو أيضا من قبيل الجري أو الباطن.



و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، و افترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، و تفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة. فأما اليهود فإن الله يقول: "و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون" و أما النصارى فإن الله يقول: "منهم أمة مقتصدة" فهذه التي تنجو، و أما نحن فنقول: "و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون" فهذه التي تنجو من هذه الأمة. و في تفسير العياشي، عن أبي الصهبان البكري قال: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) دعا رأس الجالوت و أسقف النصارى فقال: إني سائلكما عن أمر و أنا أعلم به منكما و لا تكتماني. يا رأس الجالوت بالذي أنزل التوراة على موسى، و أطعمهم المن و السلوى، و ضرب لهم في البحر طريقا يبسا، و فجر لهم من الحجر الطوري اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عينا إلا ما أخبرتني على كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ فقال: فرقة واحدة، فقال: كذبت و الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فإن الله يقول: "و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون" فهذه التي تنجو. و في المجمع،: أنهم قوم من وراء الصين و بينهم و بين الصين واد من الرمال لم يغيروا و لم يبدلوا. قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام). أقول: الرواية ضعيفة غير مسلمة، و لا خبر عن هذه الأمة اليهودية الهادية العادلة اليوم، و لو كانوا اليوم لم يكونوا هادين و لا مهتدين لنسخ شريعة موسى بشريعة عيسى (عليه السلام) أولا ثم نسخ شريعتهما جميعا بشريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثانيا، و لذا اضطر بعض من أورد هذه القصة الخرافية فأضاف إليها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل إليهم ليلة المعراج و دعاهم فآمنوا به و علمهم الصلاة.

و قد اختلقوا لهم قصصا عجيبة مختلفة، فعن مقاتل: أن مما فضل الله به محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه عاين ليلة المعراج قوم موسى الذين من وراء الصين، و ذلك أن بني إسرائيل حين عملوا بالمعاصي و قتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس دعوا ربهم و هم بالأرض المقدسة فقالوا: اللهم أخرجنا من بين أظهرهم. فاستجاب لهم فجعل لهم سربا في الأرض فدخلوا فيه، و جعل معهم نهرا يجري، و جعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم فساروا فيه سنة و نصفا، و ذلك من بيت المقدس إلى مجلسهم الذي هم فيه فأخرجهم الله إلى أرض يجتمع فيها الهوام و البهائم و السباع مختلطين بها ليست فيها ذنوب و لا معاص، فأتاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الليلة و معه جبرئيل فآمنوا به و صدقوه و علمهم الصلاة. و قالوا: إن موسى قد بشرهم به. و عن الشعبي قال: إن لله عبادا من وراء الأندلس كما بيننا و بين الأندلس لا يرون أن الله عصاه مخلوق رضراضهم الدر و الياقوت، و جبالهم الذهب و الفضة لا يزرعون و لا يحصدون و لا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها أوراق عراض هي لبوسهم، و لهم شجر على أبوابهم لها ثمر فمنها يأكلون. إلى غير ذلك مما ورد في قصتهم، و هي جميعا مجعولة، و قد عرفت معنى الآية في البيان المتقدم.
<<        الفهرس        >>