جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج8 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


7 سورة الأعراف - 161 - 171

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كلُوا مِنْهَا حَيْث شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطةٌ وَ ادْخُلُوا الْبَاب سجّداً نّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئََتِكمْ سنزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدّلَ الّذِينَ ظلَمُوا مِنهُمْ قَوْلاً غَيرَ الّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمَاءِ بِمَا كانُوا يَظلِمُونَ (162) وَ سئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتى كانَت حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فى السبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سبْتِهِمْ شرّعاً وَ يَوْمَ لا يَسبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كذَلِك نَبْلُوهُم بِمَا كانُوا يَفْسقُونَ (163) وَ إِذْ قَالَت أُمّةٌ مِّنهُمْ لِمَ تَعِظونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبهُمْ عَذَاباً شدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكمْ وَ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ (164) فَلَمّا نَسوا مَا ذُكرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنهَوْنَ عَنِ السوءِ وَ أَخَذْنَا الّذِينَ ظلَمُوا بِعَذَابِ بَئِيسِ بِمَا كانُوا يَفْسقُونَ (165) فَلَمّا عَتَوْا عَن مّا نهُوا عَنْهُ قُلْنَا لهَُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَسِئِينَ (166) وَ إِذْ تَأَذّنَ رَبّك لَيَبْعَثنّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَن يَسومُهُمْ سوءَ الْعَذَابِ إِنّ رَبّك لَسرِيعُ الْعِقَابِ وَ إِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ (167) وَ قَطعْنَهُمْ فى الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصلِحُونَ وَ مِنهُمْ دُونَ ذَلِك وَ بَلَوْنَهُم بِالحَْسنَتِ وَ السيِّئَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَف مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَب يَأْخُذُونَ عَرَض هَذَا الأَدْنى وَ يَقُولُونَ سيُغْفَرُ لَنَا وَ إِن يَأْتهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيهِم مِّيثَقُ الْكِتَبِ أَن لا يَقُولُوا عَلى اللّهِ إِلا الْحَقّ وَ دَرَسوا مَا فِيهِ وَ الدّارُ الاَخِرَةُ خَيرٌ لِّلّذِينَ يَتّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (169) وَ الّذِينَ يُمَسكُونَ بِالْكِتَبِ وَ أَقَامُوا الصلَوةَ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ المُْصلِحِينَ (170) وَ إِذْ نَتَقْنَا الجَْبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنّهُ ظلّةٌ وَ ظنّوا أَنّهُ وَاقِعُ بهِمْ خُذُوا مَا ءَاتَيْنَكُم بِقُوّةٍ وَ اذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلّكمْ تَتّقُونَ (171)

بيان

في الآيات بيان قصص أخرى من قصص بني إسرائيل فسقوا فيها عن أمر الله، و نقضوا ميثاقه فأخذهم الله بعقوبة أعمالهم و سلط عليهم من الظالمين من يسومهم سوء العذاب فهؤلاء أسلافهم و قد خلف من بعدهم أخلاف يشترون بآيات الله ثمنا قليلا و يساهلون في أمر الدين، و هذا حالهم إلا قليل منهم لا يعدون الحق.

قوله تعالى: "و إذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية" إلى آخر الآيتين، القرية هي التي كانت في الأرض المقدسة أمروا بدخولها و قتال أهلها من العمالقة و إخراجهم منها فتمردوا عن الأمر، و ردوا على موسى (عليه السلام) فابتلوا بالتيه، و القصة مذكورة في سورة المائدة آية 20 - 26.

و قوله: "و قولوا حطة و ادخلوا الباب سجدا" الآية تقدم الكلام في نظيره من سورة البقرة آية: 58 - 59، و قوله: "سنزيد المحسنين" في موضع الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال: "نغفر لكم خطيئاتكم" قيل: ثم ما ذا فقال: "سنزيد المحسنين".

قوله تعالى: "و أسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت" إلى آخر الآية.

أي أسأل بني إسرائيل عن حال أهل القرية "التي كانت حاضرة البحر" أي قريبة منه مشرفة عليه من حضر الأمر إذا أشرف عليه و شهده "إذ يعدون" و يتجاوزون حدود ما أمر الله به في أمر "السبت" و تعظيمه و ترك الصيد فيه "إذ تأتيهم حيتانهم" و السمك الذي في ناحيتهم "يوم سبتهم شرعا" جمع شارع و هو الظاهر البين "و يوم لا يسبتون لا تأتيهم" أي إن تجاوزهم عن حدود ما أمر به الله كان إذ كانت الحيتان تأتيهم شرعا يوم منعوا من الصيد و أمروا بالسبت، و أما إذا مضى اليوم و أبيح لهم الصيد و ذلك غير يوم السبت فكان لا تأتيهم الحيتان و كان ذلك من بلاء الله و امتحانه ابتلاهم بذلك لشيوع الفسق بينهم فبعثهم الحرص على صيدها على مخالفة أمر الله سبحانه، و لم يمنعهم تقوى عن التعدي، و لذلك قال: "كذلك نبلوهم" أي نمتحنهم "بما كانوا يفسقون".

قوله تعالى: "و إذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم" إلى آخر الآية، إنما قالت هذه الأمة ما قالت، لأمة أخرى منهم كانت تعظهم و تنهاهم عن مخالفة أمر الله في السبت.

فالتقدير: "و إذ قالت أمة منهم لأمة أخرى كانت تعظهم" حذف للإيجاز و ظاهر كلامهم: "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا" أنهم كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الأمر إلا أنهم تركوا نهيهم عن المنكر فخالطوهم و عاشروهم و لو كان هؤلاء اللائمون من المتعدين الفاسقين لوعظهم أولئك الملومون، و لم يجيبوهم بمثل قولهم: معذرة إلى ربكم إلخ، و أن المتعدين طغوا في تعديهم و تجاهروا في فسقهم فلم يكونوا لينتهوا بنهي ظاهرا غير أن الأمة التي كانت تعظهم لم ييأسوا من تأثير العظة فيهم، و كانوا يرجون منهم الانتهاء لو استمروا في عظتهم، و لا أقل من انتهاء بعضهم و لو بعض الانتهاء، و ليكون ذلك معذرة منهم إلى الله سبحانه بإظهار أنهم غير موافقين لهم في فسقهم منزجرون عن طغيانهم بالتمرد.



و لذلك أجابوا عن قولهم: "لم تعظون" إلخ، بقولهم: "معذرة إلى ربكم و لعلهم يتقون" أي إنما نعظهم ليكون ذلك عذرا إلى ربكم، و لأنا نرجو منهم أن يتقوا هذا العمل.

و في قولهم: "إلى ربكم" حيث أضافوا الرب إلى اللائمين و لم يقولوا: إلى ربنا إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصا بنا بل أنتم أيضا مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه، و يبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه و الوظائف التي أحالها إلى عباده، و أنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكاليف ما هو علينا.

قوله تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء" المراد بنسيانهم ما ذكروا انقطاع تأثير الذكر في نفوسهم و إن كانوا ذاكرين لنفس التذكر حقيقة فإنما الأخذ الإلهي مسبب عن الاستهانة بأمره و الإعراض عن ذكره، بل حقيقة النسيان بحسب الطبع مانع عن فعلية التكليف و حلول العقوبة.

فالإنسان يطوف عليه طائف من توفيق الله يذكره بتكاليف هامة إلهية ثم إن استقام و ثبت، و إن ترك الاستقامة و لم يزجره زاجر باطني و لا ردعه رادع نفساني عدا حدود الله بالمعصية غير أنه في بادىء أمره يتألم تألما باطنيا و يتحرج تحرجا قلبيا من ذلك ثم إذا عاد إليها ثانيا من غير توبة زادت صورة المعصية في نفسه تمكنا، و ضعف أثر التذكير و هان أمره، و كلما عاد إليها و تكررت منه المخالفة زادت تلك قوة و هذه ضعفا حتى يزول أثر التذكير من أصله، ساوى وجوده عدمه فلحق بالنسيان في عدم التأثير، و هو المراد بقوله: "فلما نسوا ما ذكروا" أي زال أثره كأنه منسي زائل، الصورة عن النفس.

و في الآية دلالة على أن الناجين كانوا هم الناهين عن السوء فقط، و قد أخذ الله الباقين، و هم الذين يعدون في السبت و الذين قالوا: "لم تعظون" إلخ و فيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين في ظلمهم و فسقهم حيث تركوا عظتهم و لم يهجروهم.

و في الآية دلالة على سنة إلهية عامة، و هي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع، و عظة إن لم يمكن المنع أو هجره إن لم تمكن العظة أو بطل تأثيرها، مشاركة معهم في ظلمهم، و أن الأخذ الإلهي الشديد كما يرصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم.

قوله تعالى: "فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين" العتو المبالغة في المعصية و القردة جمع القرد و هو الحيوان المعروف، و الخاسىء الطريد البعيد من خسأ الكلب إذا بعد.

و قوله: "فلما عتوا عن ما نهوا عنه" أي عن ترك ما نهوا عنه فإن العتو إنما يكون عن ترك المنهيات لا عن نفسها، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و إذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة" إلى آخر الآية تأذن و أذن بمعنى أعلم، و اللام في قوله: "ليبعثن" للقسم، و المعنى: و اذكر إذ أعلم ربك أنه قد أقسم ليبعثن على هؤلاء الظالمين بعثا يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم و يوليهم سوء العذاب.



و قوله: "إن ربك لسريع العقاب" معناه أن من عقابه ما يسرع إلى الناس كعقاب الطاغي لطغيانه، قال تعالى: "الذين طغوا في البلاد - إلى أن قال - إن ربك لبالمرصاد": الفجر: 14 و الدليل على ما فسرنا به قوله بعده: "و إنه لغفور رحيم" فإن الظاهر أنه لم يؤت به إلا للدلالة على أنه تعالى ليس بسريع العقاب دائما و إلا فمضمون الآية ليس مما يناسب التذليل باسمي الغفور و الرحيم لتمحضه في معنى المؤاخذة و الانتقام فمعنى قوله: "إن ربك لسريع العقاب و إنه لغفور رحيم" إنه تعالى غفور للذنوب رحيم بعباده لكنه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب لاستيجابهم ذلك بطغيان و عتو و نحو ذلك فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه و لا عائق يعوقه.

و لعل هذا هو معنى قول بعضهم: إن معنى قوله "إن ربك لسريع العقاب" سريع العقاب لمن شاء أن يعاقبه في الدنيا، و إن كان الأنسب أن يقال: إن ذلك معنى قوله: "إن ربك لسريع العقاب و إنه لغفور رحيم"، و يرتفع به ما يمكن أن يتوهم أن كونه تعالى سريع العقاب ينافي كونه حليما لا يسرع إلى المؤاخذة.

قوله تعالى: "و قطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون" إلى آخر الآية.

قال: في المجمع،: دون في موضع الرفع بالابتداء، و لكنه جاء منصوبا لتمكنه في الظرفية، و مثله على قول أبي الحسن "لقد تقطع بينكم" هو في موضع الرفع فجاء منصوبا لهذا المعنى، و كذلك في قوله: "يوم القيامة يفصل بينكم" بين في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل، و إن شئت كان التقدير: و منهم جماعة دون ذلك فحذف الموصوف و قامت صفته مقامه.

انتهى.

و المراد بالحسنات و السيئات نعماء الدنيا و ضرائها و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب" إلى آخر الآية، العرض ما لا ثبات له، و منه قوله تعالى: "عرض الحياة الدنيا": النساء: 94 أي ما لا ثبات له من شئونها، و المراد بعرض هذا الأدنى عرض هذه الحياة الدنيا و الدار العاجلة غير أنه أشير إليها بلفظ التذكير لأخذها شيئا ليس له من الخصوصيات إلا أن يشار إليه تجاهلا بخصوصياتها تحقيرا لشأنها كأنها لا يخص بنعت من النعوت يرغب فيها، و قد تقدم نظيره في قول إبراهيم (عليه السلام) على ما حكاه الله.

"هذا ربي هذا أكبر": الأنعام: 78 يريد الشمس.

و قوله: "و يقولون سيغفر لنا" قول جزافي لهم قالوه، و لا معول لهم فيه إلا الاغترار بشعبهم الذي سموه شعب الله كما سموا أنفسهم أبناء الله و أحباءه، و لم يقولوا ذلك لوعد النفس بالتوبة لأن ذلك قيد لا يدل عليه الكلام، و لا أنهم قالوا ذلك رجاء للمغفرة الإلهية فإن للرجاء آثارا لا تلائم هذه المشيئة إذ رجاء الخير لا ينفك عن خوف الشر الذي يقابله و كما أن الرجاء يستدعي شيئا من ثبات النفس و طيبها كذلك الخوف يوجب قلق النفس و اضطرابها و مساءتها فآية الرجاء الصادق توسط النفس بين سكون و اضطراب، و جذب و دفع، و مسرة و مساءة، و أما من توغل في شهوات نفسه و انغمر في لذائذ الدنيا من غير أن يتذكر بعقوبة ما يجنيه و يقترفه ثم إذا ردعه رادع من نفسه أو غيره بما أوعد الله الظالمين، و ذكره شيئا من سوء عاقبة المجرمين قال: إن الله غفور رحيم يتخلص به من اللوم، و يخلص به إلى صافي لذائذه الدنية فليس ما يتظاهر به رجاء صادقا بل أمنية نفسانية كاذبة، و تسويل شيطاني موبق فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا.



و قوله: "و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه" أي لم يقنعوا بما أخذوه من العرض بمرة حتى يكون تركهم ذلك و رجوعهم إلى اتقاء محارم الله نحوا من التوبة، و قولهم: "سيغفر لنا" نوعا من الرجاء يتلبس به التائبون بل كلما وجدوا شيئا من عرض الدنيا أخذوه من غير أن يراقبوا الله تعالى فيه فالجملة أعني قوله: "و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه" في معنى قوله تعالى في وصفهم في موضع آخر: "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه": المائدة: 79.

و قوله: "و درسوا ما فيه" كان الواو للحال، و الجملة حال عن ضمير "عليهم" و قيل الجملة معطوفة على قوله: "ورثوا الكتاب" في صدر الآية، و لا يخلو من بعد.

و المعنى: "فخلف من بعدهم" أي من بعد هؤلاء الأسلاف من بني إسرائيل و حالهم في تقوى الله و اجتناب محارمه ما وصف "خلف ورثوا الكتاب" و تحملوا ما فيه من المعارف و الأحكام و المواعظ و العبر، و كان لازمه أن يتقوا و يختاروا الدار الآخرة، و يتركوا أعراض الدنيا الفانية الصارفة عما عند الله من الثواب الدائم "يأخذون عرض هذا الأدنى" و ينكبون على اللذائذ الفانية العاجلة، و لا يبالون بالمعصية و إن كثرت "و يقولون سيغفر لنا" قولا بغير الحق و لا يرجعون عن المعصية بالمرة و المرتين بل هم على قصد العود إليها كلما أمكن "و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه" و لا يتناهون عما اقترفوه من المعصية.

"أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب" و هو الميثاق المأخوذ عليهم عند حملهم إياه "أن لا يقولوا على الله إلا الحق" و الحال أنهم درسوا ما فيه، و علموا بذلك أن قولهم: "سيغفر لنا" قول بغير الحق ليس لهم أن يتفوهوا به، و هو يجرئهم على معاصي الله و هدم أركان دينه.

"و" الحال أن "الدار الآخرة خير للذين يتقون" لدوام ثوابها و أمنها من كل مكروه "أ فلا تعقلون".

قوله تعالى: "و الذين يمسكون بالكتاب و أقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين" قال في المجمع،: أمسك و مسك و تمسك و استمسك بالشيء بمعنى واحد أي اعتصم به.

انتهى.

و تخصيص إقامة الصلاة بالذكر من بين سائر أجزاء الدين لشرفها و كونها ركنا من الدين يحفظ بها ذكر الله و الخضوع إلى مقامه الذي هو بمنزلة الروح الحية في هيكل الشرائع الدينية.

و الآية تعد التمسك بالكتاب إصلاحا و الإصلاح يقابل الإفساد و هو الإفساد في الأرض أو إفساد المجتمع البشري فيها، و لا تفسد الأرض و لا المجتمع البشري إلا بإفساد طريقة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، و الدين الذي يشتمل عليه الكتاب الإلهي النازل في عصر من الأعصار هو المتضمن لطرق الفطرة بحسب ما يستدعيه استعداد أهله فإن الله سبحانه يذكر في كلامه أن الدين القيم الذي يقوم بحوائج الحياة هي الفطرة التي فطر الناس عليها، و الخلقة التي لا حقيقة لهم وراءها قال: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون": الروم: 30 ثم قال: "إن الدين عند الله الإسلام": آل عمران: 19 و الإسلام هو التسليم لله سبحانه في سنته الجارية في تكوينه المبتنية عليها تشريعه.

فالآيتان - كما ترى - تناديان بأن دين الله سبحانه هو تطبيق الإنسان حياته على ما تقتضيه فيه قوانين التكوين و نواميسه حتى يقف بذلك موقفا تتحراه نفسية النوع الإنساني ثم يسير في مسيرها أي يعود بذلك إنسانا نسميه إنسانا طبيعيا و يتربى تربية يستدعيها ذاته بحسب ما ركب عليه تركيبه الطبيعي.



فما تقتضيه نفسية الإنسان الطبيعية من الخضوع إلى المبدإ الغيبي الذي يقوم بإيجاده و إبقائه و إسعاده، و توفيق شئون حياته مع القوانين الحاكمة في الكون حكومة حقيقية هو الدين المسمى بالإسلام الذي يدعو إليه القرآن و سائر كتب الله السماوية المنزلة على أنبيائه و رسله.

فإصلاح شئون الحياة الإنسانية و تخليصها من كل دخيل خرافي، و وضع الإصر و الأغلال التي اختلقتها الأوهام و الأهواء ثم وضعتها على الناس، جزء معنى الدين المسمى بالإسلام لا أثر من آثاره و حكم من أحكامه حتى تختلف فيه الآراء فيسلمه مسلم، و يرده، راد، و يبحث فيه باحث منصف فيتبع ما أدى إليه جهد نظره.

و بعبارة أخرى: الذي يدعي إليه الناس بمنطق الدين الإلهي هو الشرائع و السنن القائمة بمصالح العباد في حياتهم الدنيوية و الأخروية لا أنه يضع مجموعة من معارف و شرائع ثم يدعي أن المصالح الإنسانية تطابقه و هو يطابقها فافهم ذلك.

و إياك أن تتوهم أن الدين الإلهي مجموع أمور من معارف و شرائع جافة تقليدية لا روح لها إلا روح المجازفة بالاستبداد، و لا لسان لها إلا لسان التأمر الجاف و التحكم الجافي و قد قضى شارعها بوجوب اتباعها و الانقياد لها تجاه ما هيأ لهم بعد الموت من نعيم مخلد للمطيعين منهم، و العذاب المؤبد للعاصين، و لا رابط لها يربطها بالنواميس التكوينية المماسة للإنسان الحاكمة في حياته القائمة بشئونها القيمة بإصلاحها فتعود الأعمال الدينية أغلالا غلت بها أيدي الناس في دنياهم، و أما الآخرة فقد ضمنت إصلاحها إرادة مولوية إلهية فحسب، و ليس للمنتحل بالدين في دنياه من سعادة الحياة إلا ما استلذها بالعادة كمن اعتاد بالأفيون و السم حتى عاد يلتذ بما يتألم به المزاج الطبيعي السالم، و يتألم بما يلتذ به غيره.

فهذا من الجهل بالمعارف الدينية، و الفرية على ساحة شارعة الطاهرة يدفعه الكلام الإلهي فكم من آية تتبرأ من ذلك بتصريح أو تلويح أو بإشارة أو كناية و غير ذلك.

و بالجملة الكتاب الإلهي يتضمن مصالح العباد، و فيه ما يصلح المجتمع الإنساني بإجرائه فيه بل الكتاب الإلهي هو الكتاب الذي يشتمل على ذلك، و الدين الإلهي هو مجموع القوانين المصلحة، و مجموع القوانين المصلحة هو الدين فلا يدعو الدين الناس إلا إلى إصلاح أعمالهم و سائر شئون مجتمعهم و يسمى ذلك إسلاما لله لأن من جرى على مجرى الإنسان الطبيعي الذي خطه له التكوين فقد أسلم للتكوين و وافقه بأعماله فيما يقتضيه و موافقته و السير على المسير الذي مهده و خطه إسلام لله سبحانه في ما يريده منه.

و ليس يدعو الدين إلى متابعة مواد قوانينه و محتوياته ثم يدعي أن في ذلك خيرهم و سعادتهم حتى يكون لشاك أن يشك فيه.

و الآية أعني قوله: "و الذين يمسكون بالكتاب" الآية في نفسها عامة مستقلة لكنها بحسب دخولها في سياق الكلام في بني إسرائيل معتنية بشأنهم، و المراد بالكتاب بهذا النظر التوراة أو هي و الإنجيل.

قوله تعالى: "و إذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة" الآية.

النتق قلع الشيء من أصله، و الظلة هي الغمامة، و ما يستظل بها من نحو السقف، و الباقي ظاهر.

و الآية تقص رفع الطور فوق رءوس بني إسرائيل، و قد تقدمت هذه القصة مكررة في سورتي البقرة و النساء.

بحث روائي

في تفسير القمي، عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن ابن أبي عمير عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) أن قوما من أهل أيلة من قوم ثمود و أن الحيتان كانت سيقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم و قدام أبوابهم في أنهارهم و سواقيهم فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها و يأكلونها فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم الأحبار، و لا يمنعهم العلماء عن صيدها، ثم إن الشيطان أوحى إلى طائفة منهم أنما نهيتم عن أكلها يوم السبت و لم تنهوا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت و أكلوها في ما سوى ذلك من الأيام. فقالت طائفة منهم: الآن نصطادها فعتت و انحازت طائفة أخرى منهم ذات اليمين فقالوا: ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرضوا لخلاف أمره، و اعتزلت طائفة منهم ذات اليسار فسكتت و لم تعظهم، فقالت للطائفة التي وعظتهم: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ فقالت الطائفة التي وعظتهم: معذرة إلى ربكم و لعلهم يتقون، فقال الله عز و جل: فلما نسوا ما ذكروا به يعني لما تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة فقالت الطائفة التي وعظتهم: لا و الله لا نجامعكم و لا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل عليكم البلاء فيعمنا معكم. قال: فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء فنزلوا قريبا من المدينة فباتوا تحت السماء فلما أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت فدقوا فلم يجاوبوا و لم يسمعوا منها حس أحد فوضعوا فيها سلما على سور المدينة ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قرد يتعاونون و لهم أذناب فكسروا الباب فعرفت الطائفة أنسابها من الإنس، و لم يعرف الإنس أنسابها من القردة فقال القوم للقردة: أ لم ننهكم؟. فقال علي (عليه السلام): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إني لأعرف أنسابها من هذه الأمة لا ينكرون و لا يغيرون بل تركوا ما أمروا به فتفرقوا، و قد قال الله: فبعدا للقوم الظالمين، فقال الله: "و أنجينا الذين ينهون عن السوء - و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون":. أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام).

و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس غير أن فيها أن المذكورين في الآية حي من اليهود من أهل أيلة و ظاهره أنهم كانوا من بني إسرائيل و رواية أبي جعفر (عليه السلام) تصرح بأنهم كانوا من قوم ثمود، و ليس من البعيد أن يكونوا قوما من عرب ثمود دخلوا في دين اليهود لقرب دارهم و جوارهم فإن أيلة كما يقال: كانت بلدة بين مصر و المدينة على شاطىء البحر.

و ربما قيل: إن القرية التي أشارت إليها الآية هي مدين، و قيل: هي طبرية، و قيل: هي قرية يقال لها: مقنا، بين مدين و عينونا.

و في رواية ابن عباس التي أشرنا إليها و غيرها مما روي عنه أيضا أنه كان يبكي و يقول: نجا الناهون، و هلك الفاعلون، و لا أدري ما فعل بالساكتين، و في رواية عكرمة: قلت لابن عباس: أي جعلني الله فداك أ لا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه و خالفوهم و قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ قال: فأمرني فكسيت ثوبين غليظين.

يريد أنه استحسن قولي بنجاتهم لكراهتهم فعلهم و اعتقادهم بأنهم معاقبون لا محالة فخلع علي بثوبين، و أخذ بقولي.

و قد أخطأ عكرمة فإن القوم و إن كانوا كرهوا فعلهم و لم يشاركوهم في الصيد المحرم لكنهم اقترفوا معصية هي أعظم من ذلك و هو ترك النهي عن المنكر، و قد نبههم الناهون بذلك إذ قالوا: معذرة إلى ربكم و لعلهم يتقون، و كلامهم يدل على أن المقام لم يكن مقام اليأس عن تأثير الموعظة حتى يسقط بذلك التكليف، و لما يئس منهم الناهون هجروهم و فارقوهم، و لم يهجرهم الآخرون و لم يفارقوهم على ما في الروايات.

على أن الله تعالى قال: "أنجينا الذين ينهون عن السوء و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" فلم يذكر في جانب النجاة إلا الذين ينهون عن السوء و أخذ في جانب الأخذ الذين ظلموا دون الذين صادوا، و لا مانع من شمول "الذين ظلموا" لأولئك التاركين للنهي عن المنكر.

و أما قوله: "فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة" فإن كان معناه عتوا عن ترك ما نهوا عنه كما تقدم عن المفسرين كان هذا العذاب بحسب دلالة هذه الآية مختصا بالصائدين لكنها لا تمنع عموم الآية السابقة للصائدين و الساكتين جميعا لاشتراكهم في الظلم و الفسق، و إن كان معنى الآية الإعراض عما نهوا عنه من غير تقدير الترك و ما بمعناه اختصت الآية ببيان عذاب الساكتين و كان عذاب الصائدين مبينا في الآية السابقة: "فلما نسوا ما ذكروا به" الآية كما يومىء إليه بعض الروايات الآتية.

و في المجمع،: أنه هلكت الفرقتان، و نجت الفرقة الناهية: روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام). أقول: و لا ينافيه نص الآية على مسخ العاتين فإن الهلاك يعم مثل المسخ.

على أن الأخبار متظافرة في أن الممسوخ لا يعيش بعد المسخ إلا أياما ثم يهلك.



و في الكافي، عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن المغيرة عن طلحة بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء" قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا و نجوا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا فمسخوا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا. أقول: و الرواية - كما ترى - مبنية على كون قوله: "فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة" الآية ناظرا إلى عذاب الساكتين دون المرتكبين للصيد المحرم و معنى "عتوا عن ما نهوا" كفوا عن الصيد الذي نهوا عنه و لا حاجة حينئذ إلى تقدير الترك و نحوه في الكلام و يبقى لبيان عذاب الفرقة الأخرى قوله في الآية السابقة.

و لا مانع من هذا المعنى إلا أن مقتضى المقام أن يذكر السبب لعذاب الساكتين كفهم عن موعظة الفاعلين لا عتوهم عما نهوا عنه مع ما في استعمال العتو في مورد الكف و الإعراض من البعد، و الرواية مع ذلك ضعيفة و قد رواها الصدوق بالسند بعينه عن طلحة عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية و فيها: قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا و و رواها العياشي عن طلحة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) في الآية قال: افترق القوم ثلاث فرق فرقة انتهت و اعتزلت، و فرقة أقامت و لم يقارف الذنوب، و فرقة اقترفت الذنوب فلم ينج من العذاب إلا من انتهت قال جعفر: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما صنع بالذين أقاموا و لم يقارفوا الذنوب؟ قال أبو جعفر (عليه السلام): بلغني أنهم صاروا ذرا، و الظاهر أنها جميعا رواية واحدة على ما في سندها من الضعف، و في متنها من التشويش و الاختلاف.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إن الله خص عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتى يعلموا، و لا يردوا ما لم يعلموا قال الله عز و جل: "أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب - أن لا يقولوا على الله إلا الحق" و قال: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله":. أقول: و رواه العياشي عن إسحاق عنه (عليه السلام)، و روي مثله عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي الحسن الأول (عليه السلام). و في تفسير القمي،: في معنى قوله تعالى: "و إذ نتقنا الجبل" الآية قال الصادق (عليه السلام): لما أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه فرفع الله عليهم جبل طور سيناء فقال لهم موسى: إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه و طأطئوا رءوسهم. و في الإحتجاج، عن أبي بصير قال: كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) جالسا في الحرم و حوله جماعة من أوليائه إذ أقبل طاووس اليماني في جماعة من أصحابه. ثم قال لأبي جعفر (عليه السلام): أ تأذن لي في السؤال؟ قال: أذنا لك فاسأل. فسأله عن سؤال و أجابه و كان فيما سأله قال: فأخبرني عن طائر طار و لم يطر قبلها و لا بعدها ذكره الله عز و جل في القرآن، ما هو؟ فقال: طور سيناء أطاره الله عز و جل على بني إسرائيل الذين أظلهم بجناح منه فيه ألوان العذاب حتى قبلوا التوراة، و ذلك قوله عز و جل: "و إذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة و ظنوا أنه واقع بهم" الآية. أقول: و قد روي ما في معنى الرواية الأولى من طرق أهل السنة عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة فكبر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوه عند ذلك. و الرواية الثانية من طرقهم عن ابن عباس في مسائل كتبها هرقل ملك الروم إلى معاوية يسأله عنها فقيل له: لست هناك و إنك متى تخطىء شيئا في كتابك إليه يغتمزه فيك فاكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بها فأرسل ذلك إلى قيصر فقال قيصر: ما يعلم هذا إلا نبي أو أهل بيت نبي.

و اعلم أن في الآية بعض روايات أخر تقدمت في نظيرة الآية من سورة البقرة فراجعها إن شئت.

7 سورة الأعراف - 172 - 174

وَ إِذْ أَخَذَ رَبّك مِن بَنى ءَادَمَ مِن ظهُورِهِمْ ذُرِّيّتهُمْ وَ أَشهَدَهُمْ عَلى أَنفُسِهِمْ أَ لَست بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنّا كنّا عَنْ هَذَا غَفِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنمَا أَشرَك ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَ كنّا ذُرِّيّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَ فَتهْلِكُنَا بمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذَلِك نُفَصلُ الاَيَتِ وَ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

بيان

الآيات تذكر الميثاق من بني آدم على الربوبية و هي من أدق الآيات القرآنية معنى، و أعجبها نظما.

قوله تعالى: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا" أخذ الشيء من الشيء يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه و استقلاله دونه بنحو من الأنحاء، و هو يختلف باختلاف العنايات المتعلقة بها و الاعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام و أخذ الجرعة من ماء القدح و هو نوع من الأخذ، و أخذ المال و الأثاث من زيد الغاصب أو الجواد أو البائع أو المعير و هو نوع آخر، أو أنواع مختلفة أخرى، و كأخذ العلم من العالم و أخذ الأهبة من المجلس و أخذ الحظ من لقاء الصديق و هو نوع و أخذ الولد من والده للتربية و هو نوع إلى غير ذلك.

فمجرد ذكر الأخذ من الشيء لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد، و لذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله: "و إذ أخذ ربك من بني آدم" الدال على تفريقهم و تفصيل بعضهم من بعض، قوله: "من ظهورهم" ليدل على نوع الفصل و الأخذ، و هو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها و لا تنقلب عن تمامها و استقلالها ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئا تاما مستقلا من نوع المأخوذ منه فيؤخذ الولد من ظهر من يلده و يولده، و قد كان جزء ثم يجعل بعد الأخذ و الفصل إنسانا تاما مستقلا من والديه بعد ما كان جزء منهما.

ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر و على هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ و ينفصل كل جزء عما كان جزء منه، و يتفرق الأناسي و ينتشر الأفراد و قد استقل كل منهم عمن سواه و يكون لكل واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها و عليها ما عليها، فهذا مفاد قوله: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" و لو قال: أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم و نحو ذلك بقي المعنى على إبهامه.

و قوله: "و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم" ينبىء عن فعل آخر إلهي تعلق بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض و فصل بين كل واحد منهم و غيره و هو إشهادهم على أنفسهم، و الإشهاد على الشيء هو إحضار الشاهد عنده و إراءته حقيقته ليتحمله علما تحملا شهوديا فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا.

و للنفس في كل ذي نفس جهات من التعلق و الارتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض غير أن قوله: "أ لست بربكم" يوضح ما أشهدوا لأجله و أريد شهادتهم عليه، و هو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة.

فالإنسان و إن بلغ من الكبر و الخيلاء ما بلغ، و غرته مساعدة الأسباب ما غرته و استهوته لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه و لا يستقل بتدبير أمره، و لو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت و سائر آلام الحياة و مصائبها، و لو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية، و الوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها و يحكم فيها ثم هي كالإنسان في الحاجة إلى ما وراءها، و الانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها، و ليس إلى الإنسان أن يسد خلتها و يرفع حاجتها.

فالحاجة إلى رب - مالك مدبر - حقيقة الإنسان، و الفقر مكتوب على نفسه، و الضعف مطبوع على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الإنساني، و العالم و الجاهل و الصغير و الكبير و الشريف و الوضيع في ذلك سواء.

فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل يشاهد من نفسه أن له ربا يملكه و يدبر أمره، و كيف لا يشاهد ربه و هو يشاهد حاجته الذاتية؟ و كيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه؟ فقوله: "أ لست بربكم" بيان ما أشهد عليه، و قوله: "قالوا بلى شهدنا" اعتراف منهم بوقوع الشهادة و ما شهدوه، و لذا قيل: إن الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده و ما يتعلق به وجوده من اللوازم و الأحكام، و معنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض و فرقناهم و ميزنا بعضهم من بعض بالتناسل و التوالد، و أوفقناهم على احتياجهم و مربوبيتهم لنا فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا.

و على هذا يكون قولهم: "بلى شهدنا" من قبيل القول بلسان الحال أو إسناد اللازم القول إلى القائل بالملزوم حيث اعترفوا بحاجاتهم و لزمه الاعتراف بمن يحتاجون إليه، و الفرق بين لسان الحال، و القول بلازم القول: أن الأول انكشاف المعنى عن الشيء لدلالة صفة من صفاته و حال من أحواله عليه سواء شعر به أم لا كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها، و كيف لعب الدهر بهم؟ و عدت عادية الأيام عليهم؟ فأسكنت أجراسهم و أخمدت أنفاسهم، و كما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره و مسكنته و سوء حاله.

و الثاني انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلمه بما يدل عليه بالالتزام.

فعلى أحد هذين النوعين من القول أعني القول بلسان الحال و القول بالاستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى: "قالوا بلى شهدنا" و الأول أقرب و أنسب فإنه لا يكتفي في مقام الشهادة إلا بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام.

و من المعلوم أن هذه الشهادة على أي نحو تحققت فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: "أ لست بربكم" فالظاهر أنه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به، و لذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المساءلة و المجاوبة فإن الكلام الإلهي يكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل، و الإيجاد كلام حقيقي - و إن كان بنحو التحليل - كما تقدم مرارا في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله: "أ لست بربكم" و قولهم: "بلى شهدنا" من ذاك القبيل، و سيجيء للكلام تتمة.

و كيف كان فقوله: "و إذ أخذ ربك من بني آدم" الآية يدل على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض، و إشهاد كل واحد منهم على نفسه، و أخذ الاعتراف على الربوبية منه، و يدل ذيل الآية و ما يتلوه أعني قوله: "أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون" على الغرض من هذا الأخذ و الإشهاد.

و هو على ما يفيده السياق إبطال حجتين للعباد على الله و بيان أنه لو لا هذا الأخذ و الإشهاد و أخذ الميثاق على انحصار الربوبية كان للعباد أن يتمسكوا يوم القيامة بإحدى حجتين يدفعون بها تمام الحجة عليهم في شركهم بالله و القضاء بالنار، على ذلك من الله سبحانه.

و التدبر في الآيتين و قد عطفت إحدى الحجتين على الأخرى بأو الترديدية، و بنيت الحجتان جميعا على العلم اللازم للإشهاد، و نقلتا جميعا عن بني آدم المأخوذين المفرقين يعطي أن الحجتين كل واحدة منهما مبنية على تقدير من تقديري عدم الإشهاد كذلك.



و المراد أنا أخذنا ذريتهم من ظهورهم و أشهدناهم على أنفسهم فاعترفوا بربوبيتنا فتمت لنا الحجة عليهم يوم القيامة، و لو لم نفعل هذا و لم نشهد كل فرد منهم على نفسه بعد أخذه فإن كنا أهملنا الإشهاد من رأس فلم يشهد أحد نفسه و أن الله ربه، و لم يعلم به لأقاموا جميعا الحجة علينا يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيتنا، و لا تكليف على غافل و لا مؤاخذة، و هو قوله تعالى: "أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين".

و إن كنا لم نهمل أمر الإشهاد من رأس، و أشهدنا بعضهم على أنفسهم دون بعض بأن أشهدنا الآباء على هذا الأمر الهام العظيم دون ذرياتهم ثم أشرك الجميع كان شرك الآباء شركا عن علم بأن الله هو الرب لا رب غيره فكانت معصية منهم، و أما الذرية فإنما كان شركهم بمجرد التقليد فيما لا سبيل لهم إلى العلم به لا إجمالا و لا تفصيلا، و متابعة عملية محضة لآبائهم فكان آباؤهم هم المشركون بالله العاصون في شركهم لعلمهم بحقيقة الأمر، و قد قادوا ذريتهم الضعاف في سبيل شركهم بتربيتهم عليه و تلقينهم ذلك، و لا سبيل لهم إلى العلم بحقيقة الأمر و إدراك ضلال آبائهم و إضلالهم إياهم، فكانت الحجة لهؤلاء الذرية على الله يوم القيامة لأن الذين أشركوا و عصوا بذلك و أبطلوا الحق هم الآباء فهم المستحقين للمؤاخذة، و الفعل فعلهم، و أما الذرية فلم يعرفوا حقا حتى يؤمروا به فيعصوا بمخالفته فهم لم يعصوا شيئا و لم يبطلوا حقا، و حينئذ لم تتم حجة على الذرية فلم تتم الحجة على جميع بني آدم، و هذا معنى قوله تعالى: "أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون".

فإن قلت: هنا بعض تقادير أخر لا يفي به البيان السابق كما لو فرض إشهاد الذرية على أنفسهم دون الآباء مثلا أو إشهاد بعض الذرية مثلا كما أن تكامل النوع الإنساني في العلم و الحضارة على هذه الوتيرة يرث كل جيل ما تركه الجيل السابق و يزيد عليه بأشياء فيحصل للاحق ما لم يحصل للسابق.

قلت: على أحد التقديرين المذكورين تتم الحجة على الذرية أو على بعضهم الذين أشهدوا.

و أما الآباء الذين لم يشهدوا فليس عندهم إلا الغفلة المحضة عن أمر الربوبية فلا يستقلون بشرك إذ لم يشهدوا، و لا يسع لهم التقليد إذ لم يسبق عليهم فيه سابق كما في صورة العكس فيدخلون تحت المحتجين بالحجة الأولى: "إنا كنا عن هذا غافلين".

و أما حديث تكامل الإنسان في العلم و الحضارة تدريجا فإنما هو في العلوم النظرية الاكتسابية التي هي نتائج و فروع تحصل للإنسان شيئا فشيئا، و أما شهود الإنسان نفسه و أنه محتاج إلى رب يربه فهو من مواد العلم التي إنما تحصل قبل النتائج، و هو من العلوم الفطرية التي تنطبع في النفس انطباعا أوليا ثم يتفرع عليها الفروع، و ما هذا شأنه لا يتأخر عن غيره حصولا، و كيف لا، و نوع الإنسان إنما يتدرج إلى معارفه و علومه عن الحس الباطني بالحاجة كما قرر في محله.

فالمتحصل من الآيتين أن الله سبحانه فصل بين بني آدم بأخذ بعضهم من بعض ثم أشهدهم جميعا على أنفسهم و أخذ منهم الميثاق بربوبيته فهم ليسوا بغافلين عن هذا المشهد و ما أخذ منهم الميثاق حتى يحتج كلهم بأنهم كانوا غافلين عن ذلك لعدم معرفتهم بالربوبية أو يحتج بعضهم بأنه إنما أشرك و عصى آباؤهم و هم برآء.

و لذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد بهذا الظرف المشار إليه بقوله: "و إذ أخذ ربك" هو الدنيا، و الآيتان تشيران إلى سنة الخلقة الإلهية الجارية على الإنسان في الدنيا فإن الله سبحانه يخرج الذرية الإنسانية من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم و منها إلى الدنيا، و يشهدهم في خلال حياتهم على أنفسهم، و يريهم آثار صنعه و آيات وحدانيته، و وجوه احتياجاتهم المستغرقة لهم من كل جهة الدالة على وجوده و وحدانيته فكأنه يقول لهم عند ذلك: أ لست بربكم، و هم يجيبونه بلسان حالهم: بلى شهدنا بذلك و أنت ربنا لا رب غيرك، و إنما فعل الله سبحانه ذلك لئلا يحتجوا على الله يوم القيامة بأنهم كانوا غافلين عن المعرفة، أو يحتج الذرية بأن آباءهم هم الذين أشركوا، و أما الذرية فلم يكونوا عارفين بها و إنما هم ذرية من بعدهم نشئوا على شركهم من غير ذنب.

و قد طرح القوم عدة من الروايات تدل على أن الآيتين تدلان على عالم الذر، و أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره فخرجوا كالذر فأشهدهم على أنفسهم و عرفهم نفسه، و أخذ منهم الميثاق على ربوبيته فتمت بذلك الحجة عليهم يوم القيامة.

و قد ذكروا وجوها في إبطال دلالة الآيتين عليه و طرح الروايات بمخالفتها لظاهر الكتاب.

1 - أنه لا يخلو إما أن جعل الله هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم عقلاء أو لم يجعلهم كذلك فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد، و أن يفهموا خطاب الله تعالى، و إن جعلهم عقلاء و أخذ منهم الميثاق و بنى صحة التكليف على ذلك وجب أن يذكروا ذلك و لا ينسوه لأن أخذ الميثاق إنما تتم الحجة به على المأخوذ منه إذا كان على ذكر منه من غير نسيان كما ينص عليه قوله تعالى: "أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" و نحن لا نذكر وراء ما نحن عليه من الخلقة الدنيوية الحاضرة شيئا فليس المراد بالآية إلا موقف الإنسان في الدنيا، و ما يشاهده فيه من حاجته إلى رب يملكه و يدبر أمره، و هو رب كل شيء.

2 - أنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير و الجم الغفير من العقلاء أمرا قد كانوا عرفوه و ميزوه حتى لا يذكره و لا واحد منهم، و ليس العهد به بأطول من عهد أهل الجنة بحوادث مضت عليهم في الدنيا و هم يذكرون ما وقع عليهم في الدنيا كما يحكيه تعالى في مواضع من كلامه كقوله: "قال قائل منهم إني كان لي قرين" إلى آخر الآيات: الصافات: 51 و قد حكى نظير ذلك من أهل النار كقوله: "و قالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار": ص. 62 إلى غير ذلك من الآيات.

و لو جاز النسيان على هؤلاء الجماعة مع هذه الكثرة لجاز أن يكون الله سبحانه قد كلف خلقه فيما مضى من الزمن ثم أعادهم ليثيبهم أو ليعاقبهم جزاء لأعمالهم في الخلق الأول و قد نسوا ذلك، و لازم ذلك صحة قول التناسخية أن المعاد إنما هو خروج النفس عن بدنها ثم دخولها في بدن آخر لتجد في الثاني جزاء الأعمال التي عملتها في الأول 3 - ما أورد على الأخبار الناطقة بأن الله سبحانه أخذ من صلب آدم ذريته و أخذ منهم الميثاق، بأن الله سبحانه قال: "أخذ ربك من بني آدم" و لم يقل من آدم و قال: "من ظهورهم" و لم يقل من ظهره، و قال: "ذريتهم" و لم يقل: ذريته ثم أخبر بأنه إنما فعل بهم ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا "إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم" الآية، و هذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول ظاهر الآية أولاد آدم لصلبه.

و من هنا قال بعضهم: إن الآية خاصة ببعض بني آدم غير عامة لجميعهم فإنها لا تشمل آدم و ولده لصلبه، و جميع المؤمنين و من المشركين من ليس له آباء مشركون بل تختص بالمشركين الذين لهم سلف مشرك.

4 - أن تفسير الآية بعالم الذر ينافي قولهم - كما في الآية - "إنما أشرك آباؤنا" لدلالته على وجود آباء لهم مشركين، و هو ينافي وجود الجميع هناك بوجود واحد جمعي.

5 - ما ذكره بعضهم أن الروايات مقبولة مسلمة غير أنها ليست بتأويل للآية، و الذي تقصه من حديث عالم الذر إنما هو أمر فعله الله سبحانه ببني آدم قبل وجودهم في هذه النشأة ليجروا بذلك على الأعراق الكريمة في معرفة ربوبيته كما روي: أنهم ولدوا على الفطرة، و كما قيل: إن نعيم الأطفال في الجنة ثواب إيمانهم بالله في عالم الذر.



و أما الآية فليست تشير إلى ما تشير إليه الروايات فإن الآية تذكر أنه إنما فعل بهم ذلك لتنقطع به حجتهم يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، و لو كان المراد به ما فعل بهم في عالم الذر لكان لهم أن يحتجوا على الله فيقولوا: ربنا إنك أشهدتنا على أنفسنا يوم أخرجتنا من صلب آدم فكنا على يقين بأنك ربنا كما أنا اليوم و هو يوم القيامة - على يقين من ذلك لكنك أنسيتنا موقف الإشهاد في الدنيا التي هي موطن التكليف و العمل، و وكلتنا إلى عقولنا فعرف ربوبيتك من عرفها بعقله، و أنكرها من أنكرها بعقله كل ذلك بالاستدلال فما ذنبنا في ذلك و قد نزعت منا عين المشاهدة، و جهزتنا بجهاز شأنه الاستدلال و هو يخطىء و يصيب؟.

6 - أن الآية لا صراحة لها فيما تدل عليه الروايات لإمكان حملها على التمثيل، و أما الروايات فهي إما مرفوعة أو موقوفة و لا حجية فيها.

هذه جمل ما أوردوه على دلالة الآية و حجية الروايات، و قد زيفها المثبتون لنشاة الذر و هم عامة أهل الحديث و جمع من غيرهم من المفسرين بأجوبة.

فالجواب عن الأول: أن نسيان الموقف و خصوصياته لا يضر بتمام الحجة و إنما المضر نسيان أصل الميثاق و زوال معرفة وحدانية الرب تعالى: و هو غير منسي و لا زائل عن النفس و ذلك يكفي في تمام الحجة أ لا ترى أنك إذا أردت أن تأخذ ميثاقا من زيد فدعوته إليك و أدخلته بيتك، و أجلسته مجلس الكرامة ثم بشرته و أنذرته ما استطعت، و لم تزل به حتى أرضيته فأعطاك العهد و أخذت منه الميثاق فهو مأخوذ بميثاقه ما دام ذاكرا لأصله و إن نسي حضوره عندك و دخوله بيتك و جميع ما جرى بينك و بينه وقت أخذ الميثاق غير أصل العهد.

و الجواب عن الثاني: أن الامتناع من تجويز نسيان الجمع الكثير لذلك مجرد استبعاد من غير دليل على الامتناع مضافا إلى أن أصل المعرفة بالربوبية مذكور غير منسي كما ذكرنا و هو يكفي في تمام الحجة، و أما حديث التناسخية فليس الدليل على امتناع التناسخ منحصرا في استحالة نسيان الجماعة الكثيرة ما مضى عليهم في الخلق الأول حتى لو لم يستحل ذلك صح القول بالتناسخ بل لإبطال القول به دليل آخر كما يعلم بالرجوع إلى محله، و بالجملة لا دليل على استحالة نسيان بعض العوالم في بعض آخر.

و الجواب عن الثالث: أن الآية غير ساكتة عن إخراج ولد آدم لصلبه من صلبه فإن قوله تعالى: "و إذ أخذ ربك من بني آدم" كاف وحده في الدلالة عليه فإن فرض بني آدم فرض إخراجهم من صلب آدم من غير حاجة إلى مئونة زائدة، ثم إخراج ذريتهم من ظهورهم بإخراج أولاد الأولاد من صلب الأولاد، و هكذا، و يتحصل منه أن الله أخرج أولاد آدم لصلبه من صلبه ثم أولادهم من أصلابهم ثم أولاد أولادهم من أصلاب أولادهم حتى ينتهي إلى آخرهم نظير ما يجري عليه الأمر في هذه النشأة الدنيوية التي هي نشأة التوالد و التناسل.

و قد أجاب الرازي عنه في تفسيره، بأن الدلالة على إخراج أولاده لصلبه من صلبه من ناحية الخبر كما أن الدلالة على إخراج أولاد أولاده من أصلاب آبائهم من ناحية الآية فبمجموع الآية و الخبر تتم الدلالة على المجموع.

و هو كما ترى.

و أما الأخبار المشتملة على ذكر إخراج ذرية آدم من صلبه، و أخذ الميثاق منهم فهي في مقام شرح القصة لا في مقام تفسير ألفاظ الآية حتى يورد عليها بعدم موافقة الكتاب أو مخالفته.

و أما عدم شمول الآية لأولاد آدم من صلبه لعدم وجود آباء مشركين لهم و كذا بعض من عداهم فلا يضر شيئا لأن مراد الآية أن الله سبحانه إنما فعل ذلك لئلا يقول المشركون يوم القيامة: إنما أشرك آباؤنا لا أن يقول كل واحد واحد منهم: إنما أشرك آبائي فهذا مما لم يتعلق به الغرض البتة فالقول قول المجموع من حيث المجموع لا قول كل واحد فيئول المعنى إلى أنا لو لم نفعل ذلك لكان كل من أردنا إهلاكه يوم القيامة يقول: لم أشرك أنا و إنما أشرك من كان قبلي و لم أكن إلا ذرية و تابعا لا متبوعا.

و الجواب عن الرابع: يظهر من الجواب عن سابقه و قد دلت الآية و الرواية على أن الله فصل هناك بين الآباء و الأبناء ثم ردهم إلى حال الجمع.

و الجواب عن الخامس: أنه خلاف ظاهر بعض الروايات و خلاف صريح بعض آخر منها، و ما في ذيله من عدم تمام الحجة من جهة عروض النسيان ظهر الجواب عنه من الجواب عن الإشكال الأول.

و الجواب عن السادس: أن استقرار الظهور في الكلام كاف في حجيته، و لا يتوقف ذلك على صفة الصراحة، و إمكان الحمل على التمثيل لا يوجب الحمل عليه ما لم يتحقق هناك مانع عن حمله على ظاهره، و قد تبين أن لا مانع من ذلك.

و أما أن الروايات ضعيفة لا معول عليها فليس كذلك فإن فيها ما هو الصحيح و فيها ما يوثق بصدوره كما سيجيء إن شاء الله تعالى في البحت الروائي التالي.

هذا ملخص ما جرى بينهم من البحث في ما استفيد من الآية من حديث عالم الذر إثباتا و نفيا، و اعتراضا و جوابا، و استيفاء التدبر في الآية و الروايات، و التأمل فيما يرومه المثبتون بإثباتهم و يدفعه المنكرون بإنكارهم يوجب توجيه البحث إلى جهة أخرى غير ما تشاجر فيه الفريقان بإثباتهم و نفيهم.

فالذي فهمه المثبتون من الرواية ثم حملوه على الآية، و انتهضوا لإثباته محصله: أن الله سبحانه بعد ما خلق آدم إنسانا تاما سويا أخرج نطفة التي تكونت في صلبه - ثم صارت هي بعينها أولاده الصلبيين - إلى الخارج من صلبه ثم أخرج من هذه النطف نطفها التي ستتكون أولادا له صلبيين ففصل بين أجزائها و الأجزاء الأصلية التي اشتقت منها ثم من أجزاء هذه النطف أجزاء أخرى هي نطفهاثم من أجزاء الأجزاء أجزاءها و لم يزل حتى أتى آخر جزء مشتق من الأجزاء المتعاقبة في التجزي، و بعبارة أخرى أخرج نطفة آدم التي هي مادة البشر و وزعها بفصل بعض أجزائه من بعض إلى ما لا يحصى من عدد بني آدم بحذاء كل فرد ما هو نصيبه من أجزاء نطفة آدم، و هي ذرات منبثة غير محصورة.

ثم جعل الله سبحانه هذه الذرات المنبثة عند ذلك - أو كان قد جعلها قبل ذلك كل ذرة منها إنسانا تاما في إنسانيته، هو بعينه الإنسان الدنيوي الذي هو جزء المقدم له فالجزء الذي لزيد هناك هو زيد هذا بعينه، و الذي لعمرو هو عمرو هذا بعينه فجعلهم ذوي حياة و عقل و جعل لهم ما يسمعون به و ما يتكلمون به، و ما يضمرون به معاني فيظهرونها أو يكتمونها و عند ذلك عرفهم نفسه فخاطبهم فأجابوه، و أعطوه الإقرار بالربوبية إما بموافقة ما في ضميرهم لما في لسانهم أو بمخالفته ذلك.



ثم إن الله سبحانه ردهم بعد أخذ الميثاق إلى مواطنهم من الأصلاب حتى اجتمعوا في صلب آدم و هي على حياتها و معرفتها بالربوبية و إن نسوا ما وراء ذلك مما شاهدوه عند الإشهاد و أخذ الميثاق، و هم بأعيانهم موجودون في الأصلاب حتى يؤذن لهم في الخروج إلى الدنيا فيخرجون و عندهم ما حصلوه في الخلق الأول من معرفة الربوبية، و هي حكمهم بوجود رب لهم من مشاهدة أنفسهم محتاجة إلى من يملكهم و يدبر أمرهم.

هذا ما يفهمه القوم من الخبر و الآية و يرومون إثباته، و هو مما يدفعه الضرورة و ينفيه القرآن و الحديث بلا ريب، و كيف الطريق إلى إثبات أن ذرة من ذرات بدن زيد - و هو الجزء الذري الذي انتقل من صلب آدم من طريق نطفته إلى ابنه ثم إلى ابن ابنه حتى انتهى إلى زيد - هو زيد بعينه، و له إدراك زيد و عقله و ضميره و سمعه و بصره، و هو الذي يتوجه إليه التكليف، و تتم له الحجة و يحمل عليه العهود و المواثيق، و يقع عليه الثواب و العقاب؟ و قد صح بالحجة القاطعة من طريق العقل و النقل أن إنسانية الإنسان بنفسه التي هي أمر وراء المادة حادث بحدوث هذا البدن الدنيوي، و قد تقدم شطر من البحث فيها.

على أنه قد ثبت بالبحث القطعي أن هذه العلوم التصديقية البديهية و النظرية منها التصديق بأن له ربا يملكه و يدبر أمره تحصل للإنسان بعد حصول و التطورات و الجميع تنتهي إلى الإحساسات الظاهرة و الباطنة، و هي تتوقف على وجود التركيب الدنيوي المادي فهو حال العلوم الحصولية التي منها التصديق بأن له ربا هو القائم برفع حاجته.

على أن هذه الحجة إن كانت متوقفة في تمامها على العقل و المعرفة معا فالعقل مسلوب عن الذرة حين أرجعت إلى موطنه الصلبي حتى تظهر ثانيا في الدنيا، و إن قيل إنه لم يسلب عنها ما تجري في الأصلاب و الأرحام فهو مسلوب عن الإنسان ما بين ولادته و بلوغه أعني أيام الطفولية.

و يختل بذلك أمر الحجة على الإنسان، و إن كانت غير متوقفة عليه بل يكفي في تمامها مجرد حصول المعرفة فأي حاجة إلى الإشهاد و أخذ الميثاق و ظاهر الآية أن الإشهاد و أخذ الميثاق إنما هما لأجل إتمام الحجة فلا محالة يرجع معنى الآية إلى حصول المعرفة فيئول المعنى إلى ما فسرها به المنكرون.

و بتقرير آخر: إن كانت الحجة إنما تتم بمجموع الإشهاد و التعريف و أخذ الميثاق سقطت بنسيان البعض، و قد نسي الإشهاد و التكليم و أخذ الميثاق، و إن كان الإشهاد و أخذ الميثاق جميعا مقدمة لثبوت المعرفة ثم زالت المقدمة و لزمت المعرفة، و بها تمام الحجة تمت الحجة على كل إنسان حتى الجنين و الطفل و المعتوه و الجاهل، و لا يساعد عليه عقل و لا نقل، و إن كانت المعرفة في تمام الحجة بها متوقفة على حصول العقل و البلوغ و نحو ذلك، و قد كانت حصلت في عالم الذر فتمت الحجة ثم زالت و بقيت المعرفة حجة ناقصة ثم كملت ثانيا لبعضهم في الدنيا فتمت الحجة ثانيا بالنسبة إليهم فكما أن لحصول العقل في الدنيا أسبابا تكوينية يحصل بها و هي الحوادث المتكررة من الخير و الشر و حصول الملكة المميزة بينهما من التجارب حصولا تدريجيا ينتهي من جانب إلى حد من الكمال، و من جانب إلى حد من الضعف لا يعبأ به، كذلك المعرفة لها أسباب إعدادية تهيأ الإنسان إلى التلبس بها، و ليست تحصل قبل ذلك، و إذا كانت تحصل في ظرفنا هذا بأسبابها المعدة لها كالعقل فأي حاجة إلى تكوينه تكوينا آخر في سالف من الزمان لإتمام الحجة و الحجة تامة دونه؟ و ما ذا يغني ذلك؟.

على أن هذا العقل الذي لا تتم حجة و لا ينفع إشهاد و لا يصح أخذ ميثاق بدونه حتى في عالم الذر المفروض هو العقل العملي الذي لا يحصل للإنسان إلا في هذا الظرف الذي يعيش فيه عيشة اجتماعية فتتكرر عليه حوادث الخير و الشر، و تهيج عواطفه و إحساساته الباطنية نحو جلب النفع و دفع الضرر فتتعاقب عليه الأعمال عن علم و إرادة فيخطىء و يصيب حتى يتدرب في تمييز الصواب من الخطإ، و الخير من الشر، و النفع من الضر و الظرف الذي يثبتونه أعني ما يصفونه من عالم الذر ليس بموطن العقل العملي إذ ليس فيه شرائط حصوله و أسبابه.

و لو فرضوه موطنا له و فيه أسبابه و شرائطه كما يظهر مما يصفونه تعويلا على ما في ظواهر الروايات أن الله دعاهم هناك إلى التوحيد فأجابه بعضهم بلسان يوافقه قلبه، و أجابه آخرون و قد أضمروا الكفر و بعث إليهم الأنبياء و الأوصياء فصدقهم بعض و كذبهم آخرون و لا يجري ما هاهنا إلا على ما جرى به ما هنالك إلى غير ذلك مما ذكروه كان ذلك إثباتا لنشأة طبيعية قبل هذه النشأة الطبيعية في الدنيا نظير ما يثبته القائلون بالأدوار و الأكوار و احتاج إلى تقديم كينونة ذرية أخرى تتم بها الحجة على من هنالك من الإنسان لأن عالم الذر على هذه الصفة لا يفارق هذا العالم الحيوي الذي نحن فيه الآن فلو احتاج هذا الكون الدنيوي إلى تقديم إشهاد و تعريف حتى يحصل المعرفة و تتم الحجة لاحتاج إليه الكون الذري من غير فرق فارق البتة.

على أن الإنسان لو احتاج في تحقق المعرفة في هذه النشأة الدنيوية إلى تقدم وجود ذري يقع فيه الإشهاد و يوجد فيه الميثاق حتى تثبت بذلك المعرفة بالربوبية لم يكن في ذلك فرق بين إنسان و إنسان فما بال آدم و حواء استثنيا من هذه الكلية؟ فإن لم يحتاجا إلى ذلك لفضل فيهما أو لكرامة لهما ففي ذريتهما من هو أفضل منهما و أكرم! و إن كان لتمام خلقتهما يومئذ فأثبتت فيهما المعرفة من غير حاجة إلى إحضار الوجود الذري فلكل من ذريتهما أيضا خلقة تامة في ظرفه الخاص به فلم لم يؤخر إثبات المعرفة فيهم و لهم إلى تمام خلقتهم بالولادة حتى تتم عند ذلك الحجة؟ و أي حاجة إلى التقديم؟.

فهذه جهات من الإشكال في تحقق الوجود الذري للإنسان على ما فهموه من الروايات لا طريق إلى حلها بالأبحاث العلمية، و لا حمل الآية عليه معها حتى بناء على عادة القوم في تحميل المعنى على الآية إذا دلت عليه الرواية و إن لم يساعد عليه لفظ الآية لأن الرواية القطعية الصدور كالآية مصونة عن أن تنطق بالمحال، و أما الحشوية و بعض المحدثين ممن يبطل حجة العقل الضرورية قبال الرواية، و يتمسك بالآحاد في المعارف اليقينية فلا بحث لنا معهم هذا ما على المثبتين.

بقي الكلام فيما ذكره النافون أن الآية تشير إلى ما عليه حال الإنسان في هذه الحياة الدنيا، و هو أن الله سبحانه أخرج كلا من آحاد الإنسان من الأصلاب و الأرحام إلى مرحلة الانفصال و التفرق، و ركب فيهم ما يعرفون به ربوبيته و احتياجهم إليه كأنه قال لهم إذا وجه وجوههم نحو أنفسهم المستغرقة في الحاجة: أ لست بربكم؟ و كأنهم لما سمعوا هذا الخطاب من لسان الحال قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا بذلك، و إنما فعل الله ذلك لتتم عليهم حجته بالمعرفة و تنقطع حجتهم عليه بعدم المعرفة، و هذا ميثاق مأخوذ منهم طول الدنيا جار ما جرى الدهر و الإنسان يجري معه.

و الآية بسياقها لا تساعد عليه فإنه تعالى افتتح الآية بقوله: "و إذ أخذ ربك" الآية فعبر عن ظرف هذه القضية بإذ و هو يدل على الزمن الماضي أو على أي ظرف محقق الوقوع نحوه كما في قوله: "و إذ قال الله يا عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس - إلى أن قال - قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم": المائدة: 119 فعبر بإذ عن ظرف مستقبل لتحقق وقوعه.



و قوله: "و إذ أخذ ربك" خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو له و لغيره كما يدل عليه قوله: "أن تقولوا يوم القيامة" الآية، إن كان الخطاب متوجها إلينا معاشر السامعين للآيات المخاطبين بها و الخطاب خطاب دنيوي لنا معاشر أهل الدنيا، و الظرف الذي يتكي عليه هو زمن حياتنا في الدنيا أو زمن حياة النوع الإنساني فيها و عمره الذي هو طول إقامته في الأرض، و القصة التي يذكرها في الآية ظرفها عين ظرف وجود النوع في الدنيا فلا مصحح للتعبير عن ظرفها بلفظة "إذ" الدالة على تقدم ظرف القصة على ظرف الخطاب، و لا عناية أخرى في المقام تصحح هذا التعبير من قبيل تحقق الوقوع و نحوه و هو ظاهر.

فقوله: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" في عين أنه يدل على قصة خلقه تعالى النوع الإنساني بنحو التوليد و أخذ الفرد من الفرد، و بث الكثير من القليل كما هو المشهود في نحو تكون الآحاد من الإنسان، و حفظهم وجود النوع بوجود البعض من البعض على التعاقب، يدل على أن للقصة - و هي تنطبق على الحال المشهود - نوعا من التقدم على هذا المشهود من جريان الخلقة و سيرها.

و قد تقدمت استحالة ما افترضوا لهذا التقدم من تقدم هذه الخلقة بنحو تقدما زمانيا بأن يأخذ الله أول فرد من هذا النوع فيأخذ منه مادة النطفة التي منها نسل هذا النوع فيجزؤها أجزاء ذرية بعدد أفراد النوع إلى يوم القيامة ثم يلبس وجود كل فرد بعينه بحياته و عقله و سمعه و بصره و ضميره و ظهره و بطنه و يكسيه وجوده التي هي له قبل أن يسير مسيره الطبيعي فيشهده نفسه و يأخذ منه الميثاق، ثم ينزعه منها و يردها إلى مكانها الصلبي حتى يسير سيره الطبيعي، و ينتهي إلى موطنها الذي لها من الدنيا فقد تقدم بطلان ذلك، و أن الآية أجنبية عنه.

لكن الذي أحال هذا المعنى هو استلزامه وجود الإنسان بما له من الشخصية الدنيوية مرتين في الدنيا، واحدة بعد أخرى المستلزم لكون الشيء غير نفسه بتعدد شخصيته فهو الأصل الذي تنتهي إليه جميع المشكلات السابقة.

و أما وجود الإنسان أو غيره في امتداد مسيره إلى الله و رجوعه إليه في عوالم مختلفة النظام متفاوتة الحكم فليس بمحال، و هو مما يثبته القرآن الكريم و لو كره ذلك الكافرون الذين يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا، و ما يهلكنا إلا الدهر فقد أثبت الله الحياة الآخرة للإنسان و غيره يوم البعث، و فيه هذا الإنسان بعينه، و قد وصفه بنظام و أحكام غير هذه النشأة الدنيوية نظاما و أحكاما، و قد أثبت حياة برزخية لهذا الإنسان بعينه و هي غير الحياة الدنيوية نظاما و حكما، و أثبت بقوله: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21 أن لكل شيء عنده وجودا وسيعا غير مقدر في خزائنه، و إنما يلحقه الأقدار إذا نزله إلى الدنيا مثلا فللعالم الإنساني على سعته سابق وجود عنده تعالى في خزائنه أنزله إلى هذه النشأة.

و أثبت بقوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء": يس 83 و قوله: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر": القمر: 50 و ما يشابههما من الآيات أن هذا الوجود التدريجي الذي للأشياء و منها الإنسان هو أمر من الله يفيضه على الشيء، و يلقيه إليه بكلمة "كن" إفاضة دفعية و إلقاء غير تدريجي فلوجود هذه الأشياء وجهان وجه إلى الدنيا و حكمه أن يحصل بالخروج من القوة إلى الفعل تدريجا، و من العدم إلى الوجود شيئا فشيئا، و يظهر ناقصا ثم لا يزال يتكامل حتى يفني و يرجع إلى ربه، و وجه إلى الله سبحانه و هي بحسب هذا الوجه أمور تدريجية و كل ما لها فهو لها في أول وجودها من غير أن تحتمل قوة تسوقها إلى الفعل.

و هذا الوجه غير الوجه السابق و إن كانا وجهين لشيء واحد، و حكمه غير حكمه و إن كان تصوره التام يحتاج إلى لطف قريحة، و قد شرحناه في الأبحاث السابقة بعض الشرح و سيجيء إن شاء الله استيفاء الكلام في شرحه.

و مقتضى هذه الآيات أن للعالم الإنساني على ما له من السعة وجودا جميعا عند الله سبحانه، و هو الذي يلي جهته تعالى و يفيضه على أفراده لا يغيب فيها بعضهم عن بعض و لا يغيبون فيه عن ربهم و لا هو يغيب عنهم، و كيف يغيب فعل عن فاعله أو ينقطع صنع عن صانعه، و هذا هو الذي يسميه الله سبحانه بالملكوت، و يقول: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين": الأنعام 75 و يشير إليه بقوله: "كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين": التكاثر: 7.

و أما هذا الوجه الدنيوي الذي نشاهده نحن من العالم الإنساني و هو الذي يفرق بين الآحاد، و يشتت الأحوال و الأعمال بتوزيعها على قطعات الزمان، و تطبيقها على مر الليالي و الأيام و يحجب الإنسان عن ربه بصرف وجهه إلى التمتعات المادية الأرضية و اللذائذ الحسية فهو متفرع على الوجه السابق متأخر عنه.

و موقع تلك النشأة و هذه النشأة في تفرعها عليها موقعا كن و يكون في قوله تعالى: "أن نقول له كن فيكون": يس: 82.

و يتبين بذلك أن هذه النشأة الإنسانية الدنيوية مسبوقة بنشأة أخرى إنسانية هي هي بعينها غير أن الآحاد موجودون فيها غير محجوبين عن ربهم يشاهدون فيها وحدانيته تعالى في الربوبية بمشاهدة أنفسهم لا من طريق الاستدلال بل لأنهم لا ينقطعون عنه و لا يفقدونه، و يعترفون به و بكل حق من قبله، و أما قذارة الشرك و ألواث المعاصي فهو من أحكام هذه النشأة الدنيوية دون تلك النشأة التي ليس فيها إلا فعله تعالى القائم به فافهم ذلك.

و أنت إذا تدبرت هذه الآيات ثم راجعت قوله تعالى: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" الآية و أجدت التدبر فيها وجدتها تشير إلى تفصيل أمر تشير هذه الآيات إلى إجماله فهي تشير إلى نشأة إنسانية سابقة فرق الله فيها بين أفراد هذا النوع، و ميز بينهم و أشهدهم على أنفسهم: أ لست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا.

و لا يرد عليه ما أورد على قول المثبتين في تفسير الآية على ما فهموه من معنى عالم الذر من الروايات على ما تقدم فإن هذا المعنى المستفاد من سائر الآيات و النشأة السابقة التي تثبته لا تفارق هذه النشأة الإنسانية الدنيوية زمانا بل هي معها محيطة بها لكنها سابقة عليها السبق الذي في قوله تعالى: "كن فيكون" و لا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة.

و لا يرد عليه ما أوردناه على قول المنكرين في تفسيرهم الآية بحال وجود النوع الإنساني في هذه النشأة الدنيوية من مخالفته لقوله: "و إذ أخذ ربك" ثم التجوز في الإشهاد بإرادة التعريف منه، و في الخطاب بقوله: "أ لست بربكم" بإرادة دلالة الحال، و كذا في قوله: "قالوا بلى" و قوله: "شهدنا" بل الظرف ظرف سابق على الدنيا و هو غيرها، و الإشهاد على حقيقته، و الخطاب على حقيقته.

و لا يرد عليه أنه من قبيل تحميل الآية معنى لا تدل عليه فإن الآية لا تأبى عنه و سائر الآيات تشير إليه بضم بعضها إلى بعض.

و أما الروايات فسيأتي أن بعضها يدل على أصل تحقق هذه النشأة الإنسانية كالآية، و بعضها يذكر أن الله كشف لآدم (عليه السلام) عن هذه النشأة الإنسانية، و أراه هذا العالم الذي هو ملكوت العالم الإنساني، و ما وقع فيه من الإشهاد و أخذ الميثاق كما أرى إبراهيم (عليه السلام) ملكوت السماوات و الأرض.



رجعنا إلى الآية: قوله: "و إذ أخذ ربك" أي و اذكر لأهل الكتاب في تتميم البيان السابق أو و اذكر للناس في بيان ما نزلت السورة لأجل بيانه و هو أن لله عهدا على الإنسان و هو سائله عنه و أن أكثر الناس لا يفون به و قد تمت عليهم الحجة.

اذكر لهم موطنا قبل الدنيا أخذ فيه ربك "من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" فما من أحد منهم إلا استقل من غيره و تميز منه فاجتمعوا هناك جميعا و هم فرادى فأراهم ذواتهم المتعلقة بربهم "و أشهدهم على أنفسهم" فلم يحتجبوا عنه و عاينوا أنه ربهم كما أن كل شيء بفطرته يجد ربه من نفسه من غير أن يحتجب عنه، و هو ظاهر الآيات القرآنية كقوله "و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم": إسراء: 44.

"أ لست بربكم" و هو خطاب حقيقي لهم لا بيان حال و تكليم إلهي لهم فإنهم يفهمون مما يشاهدون أن الله سبحانه يريد به منهم الاعتراف و إعطاء الموثق، و لا نعني بالكلام إلا ما يلقى للدلالة به على معنى مراد، و كذا الكلام في قوله: "قالوا بلى شهدنا".

و قوله: "أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" الخطاب للمخاطبين بقوله: "أ لست بربكم" القائلين: "بلى شهدنا" فهم هناك يعاينون الإشهاد و التكليم من الله و التكلم بالاعتراف من أنفسهم، و إن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة مما عدا المعرفة بالاستدلال، ثم إذا كان يوم البعث و انطوى بساط الدنيا، و انمحت هذه الشواغل و الحجب عادوا إلى مشاهدتهم و معاينتهم، و ذكروا ما جرى بينهم و بين ربهم.

و يحتمل أن يكون الخطاب راجعا إلينا معاشر المخاطبين بالآيات أي إنما فعلنا ببني آدم ذلك حذر أن تقولوا أيها الناس يوم القيامة كذا و كذا، و الأول أقرب و يؤيده قراءة: "أن يقولوا" بلفظ الغيبة.

و قوله: "أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل" هذه حجة الناس إن فرض الإشهاد و أخذ الميثاق من الآباء خاصة دون الذرية كما أن قوله: "أن تقولوا" إلخ حجة الناس إن ترك الجميع فلم يقع إشهاد و لا أخذ ميثاق من أحد منهم.

و من المعلوم أن لو فرض ترك الإشهاد و أخذ الميثاق في تلك النشأة كان لازمه عدم تحقق المعرفة بالربوبية في هذه النشأة إذ لا حجاب بينهم و بين ربهم في تلك النشأة فلو فرض هناك علم منهم كان ذلك إشهادا و أخذ ميثاق، و أما هذه النشأة فالعلم فيها من وراء الحجاب و هو المعرفة من طريق الاستدلال.

فلو لم يقع هناك بالنسبة إلى الذرية إشهاد و أخذ ميثاق كان لازمه في هذه النشأة أن لا يكون لهم سبيل إلى معرفة الربوبية فيها أصلا، و حينئذ لم يقع منهم معصية شرك بل كان ذلك فعل آبائهم، و ليس لهم إلا التبعية العملية لآبائهم و النشوء على شركهم من غير علم فصح لهم أن يقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون.

قوله تعالى: "و كذلك نفصل الآيات و لعلهم يرجعون" تفصيل الآيات تفريق بعضها و تمييزه من بعض ليتبين بذلك مدلول كل منها و لا تختلط وجود دلالتها، و قوله: "و لعلهم يرجعون" عطف على مقدر، و التقدير: لغايات عالية كذا و كذا و لعلهم يرجعون من الباطل إلى الحق.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى حيث خلق الخلق ماء عذبا و ماء مالحا أجاجا فامتزج الماءان فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا فقال لأصحاب اليمين و هم كالذر يدبون: إلى الجنة و لا أبالي و قال لأصحاب الشمال: إلى النار و لا أبالي. ثم قال: أ لست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا - أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. الحديث.

و فيه، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال: أ لست بربكم؟ و فيه المؤمن و الكافر. و في تفسير العياشي، و خصائص السيد الرضي، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال: أتاه ابن الكواء فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن الله تبارك و تعالى هل كلم أحدا من ولد آدم قبل موسى؟ فقال علي (عليه السلام) قد كلم الله جميع خلقه برهم و فاجرهم و ردوا عليه الجواب فثقل ذلك على ابن الكواء و لم يعرفه فقال له: كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: أ و ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى" فقد أسمعهم كلامه و ردوا عليه الجواب كما تسمع في قول الله يا ابن الكواء "قالوا بلى" فقال لهم إني أنا الله لا إله إلا أنا و أنا الرحمن الرحيم فأقروا له بالطاعة و الربوبية، و ميز الرسل و الأنبياء و الأوصياء و أمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أقول: و الرواية كما تقدم و بعض ما يأتي من الروايات يذكر مطلق أخذ الميثاق من بني آدم من غير ذكر إخراجهم من صلب آدم و إراءتهم إياه.

و كان تشبيههم بالذر كما في كثير من الروايات تمثيل لكثرتهم كالذر لا لصغرهم جسما أو غير ذلك، و لكثرة ورود هذا التعبير في الروايات سميت هذه النشأة بعالم الذر.

و في الرواية دلالة ظاهرة على أن هذا التكليم كان تكليما حقيقيا لا مجرد دلالة الحال على المعنى.

و فيما دلالة على أن الميثاق لم يؤخذ على الربوبية فحسب بل على النبوة و غير ذلك، و في كل ذلك تأييد لما قدمناه.

و في تفسير العياشي، عن رفاعة قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" قال: نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق هكذا و قبض يده. أقول: و ظاهر الرواية أنها تفسر الأخذ في الآية بمعنى الإحاطة و الملك.

و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى" قلت: معاينة كان هذا؟ قال: نعم فثبتت المعرفة و نسوا الموقف و سيذكرونه و لو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه فمنهم من أقر بلسانه في الذر و لم يؤمن بقلبه فقال الله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل". أقول: و الرواية ترد على منكري دلالة الآية على أخذ الميثاق في الذر تفسيرهم قوله: "و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم" أن المراد به أنه عرفهم آياته الدالة على ربوبيته، و الرواية صحيحة و مثلها في الصراحة و الصحة ما سيأتي من رواية زرارة و غيره.



و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن زرارة: أن رجلا سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" إلى آخر الآية، فقال و أبوه يسمع: حدثني أبي. إن الله عز و جل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات ثم تركها أربعين صباحا ثم صب عليها الماء المالح الأجاج فتركها أربعين صباحا فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه و شماله و أمرهم جميعا أن يقعوا في النار فدخلها أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا و سلاما، و أبى أصحاب الشمال أن يدخلوها. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر و كان الأمر بدخول النار كناية عن الدخول في حظيرة العبودية و الانقياد للطاعة.

و فيه، بإسناده عن عبد الله بن محمد الحنفي و عقبة جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب فكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، و خلق من أبغض مما أبغض و كان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقيل: و أي شيء الظلال؟ قال: أ لم تر إلى ظلك في الشمس شيء و ليس بشيء ثم بعث معهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله و هو قوله: و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ثم دعوهم إلى الإقرار فأقر بعضهم و أنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها و الله من أحب، و أنكرها من أبغض، و هو قوله: "و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل" ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب. أقول: و الرواية و إن لم تكن مما وردت في تفسير آية الذر غير أنا أوردناها لاشتمالها على قصة أخذ الميثاق، و فيها ذكر الظلال، و قد تكرر ذكر الظلال في لسان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و المراد به - كما هو ظاهر الرواية - وصف هذا العالم الذي هو بوجه عين العالم الدنيوي و بوجه غيره، و له أحكام غير أحكام الدنيا بوجه و عينها بوجه فينطبق على ما وصفناه في البيان المتقدم.

و في الكافي، و تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أجابوا و هم ذر؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه. و زاد العياشي: يعني في الميثاق. أقول: و ما زاده العياشي من كلام الراوي، و ليس المراد بقوله "جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه" دلالة حالهم على ذلك بل لما فهم الراوي من الجواب ما هو من نوع الجوابات الدنيوية استبعد صدوره عن الذر فسأل عن ذلك فأجابه (عليه السلام) بأن الأمر هناك بحيث إذا نزلوا في الدنيا كان ذلك منهم جوابا دنيويا باللسان و الكلام اللفظي و يؤيده قوله (عليه السلام) ما إذا سألهم، و لم يقل: ما لو تكلموا و نحو ذلك.

و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: "أ لست بربكم" قالوا بألسنتهم؟ قال نعم و قالوا بقلوبهم. فقلت: و أين كانوا يومئذ؟ قال: صنع منهم ما اكتفى به. أقول: جوابه (عليه السلام) أنهم قالوا: بلى بألسنتهم و قلوبهم مبني على كون وجودهم يومئذ بحيث لو انتقلوا إلى الدنيا كان ذلك جوابا بلسان على النحو المعهود في الدنيا لكن اللسان و القلب هناك واحد، و لذلك قال (عليه السلام): نعم و بقلوبهم فصدق اللسان، و أضاف إليه القلب.

ثم لما كان في ذهن الراوي أنه أمر واقع في الدنيا و نشأة الطبيعة، و قد ورد في بعض الروايات التي تذكر قصة إخراج الذرية من ظهر آدم: تعيين المكان له و قد روى بعضها هذا الراوي أعني أبا بصير سأله (عليه السلام) عن مكانهم بقوله: و أين كانوا يومئذ، فأجابه (عليه السلام) بقوله: "صنع منهم ما اكتفى به" فلم يجبه بتعيين المكان بل بأن الله سبحانه خلقهم خلقا يصح معه السؤال و الجواب، و كل ذلك يؤيد ما قدمناه في وصف هذا العالم، الرواية كغيرها مع ذلك كالصريح في أن التكليم و التكلم في الآية على الحقيقة دون المجاز بل هي صريحة فيه.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه عن أبي أمامة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: خلق الله الخلق و قضى القضية، و أخذ ميثاق النبيين و عرشه على الماء، فأخذ أهل اليمين بيمينه، و أخذ أهل الشمال بيده الأخرى و كلتا يد الرحمن يمين فقال: يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا: لبيك ربنا، و سعديك. قال: أ لست بربكم؟ قالوا: بلى قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا لبيك ربنا و سعديك قال: أ لست بربكم؟ قالوا: بلى. فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم: رب لم خلطت بيننا؟ قال: و لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم فأهل الجنة أهلها، و أهل النار أهلها. فقال قائل: يا رسول الله فما الأعمال؟ قال: يعمل كل قوم لمنازلهم. فقال عمر بن الخطاب: إذا نجتهد. أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) "و عرشه على الماء" كناية عن تقدم أخذ الميثاق، و ليس المراد به تقدم خلق الأرواح على الأجساد زمانا فإن عليه من الإشكال ما على عالم الذر بالمعنى الذي فهمه جمهور المثبتين، و قد تقدم.

و قوله: (صلى الله عليه وآله وسلم) "يعمل كل قوم لمنازلهم" أي إن كل واحد من المنزلين يحتاج إلى أعمال تناسبه في الدنيا فإن كان العامل من أهل الجنة عمل الخير لا محالة، و إن كان من أهل النار عمل الشر لا محالة، و الدعوة إلى الجنة و عمل الخير لأن عمل الخير يعين منزله في الجنة، و أن عمل الشر يعين منزله في النار لا محالة كما قال تعالى: "و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات": البقرة: 148.

فلم يمنع تعين الوجهة عن الدعوة إلى استباق الخيرات، و لا منافاة بين تعين السعادة و الشقاوة بالنظر إلى العلل التامة و بين عدم تعينها بالنظر إلى اختيار الإنسان في تعيين عمله فإنه جزء العلة، و جزء علة الشيء لا يتعين معه وجود الشيء و لا عدمه بخلاف تمام العلة، و قد تقدم استيفاء هذا البحث في موارد من هذا الكتاب، و آخرها في تفسير قوله تعالى: "كما بدأكم تعودون فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة": الأعراف: 30، و أخبار الطينة المتقدمة من أخبار هذا الباب بوجه.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: "و إذ أخذ ربك من بني آدم" الآية قال: خلق الله آدم و أخذ ميثاقه أنه ربه، و كتب أجله و رزقه و مصيبته ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، و كتب آجالهم و أرزاقهم و مصائبهم. أقول: و قد روي هذا المعنى عن ابن عباس بطرق كثيرة في ألفاظ مختلفة لكن الجميع تشترك في أصل المعنى، و هو إخراج ذرية آدم من ظهره و أخذ الميثاق منهم.



و فيه، أخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك و عن أبي صالح عن ابن عباس، و عن مرة الهمداني عن ابن مسعود و ناس من الصحابة في قوله تعالى: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم". قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي و مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر: فقال: ادخلوا النار و لا أبالي فذلك قوله: "أصحاب اليمين و أصحاب الشمال". ثم أخذ منهم الميثاق فقال: أ لست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين، و طائفة كارهين على وجه التقية فقال هو و الملائكة: شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل. قالوا: فليس أحد من ولد آدم إلا و هو يعرف الله أنه ربه و ذلك قوله عز و جل: "و له أسلم من في السموات و الأرض طوعا و كرها"، و ذلك قوله: "فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين" يعني يوم أخذ الميثاق. أقول: و قد روي حديث الذر كما في الرواية موقوفة و موصولة عن عدة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كعلي (عليه السلام)، و ابن عباس، و عمر بن الخطاب، و عبد الله بن عمر، و سلمان، و أبي هريرة، و أبي أمامة، و أبي سعيد الخدري، و عبد الله بن مسعود، و عبد الرحمن بن قتادة، و أبي الدرداء، و أنس، و معاوية، و أبي موسى الأشعري.

كما روي من طرق الشيعة عن علي و علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمد و الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام)، و من طرق أهل السنة أيضا عن علي بن الحسين و محمد بن علي و جعفر بن محمد (عليهما السلام) بطرق كثيرة فليس من البعيد أن يدعى تواتره المعنوي.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن سعد و أحمد عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي و كان من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الله تبارك و تعالى خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة و لا أبالي، و هؤلاء في النار و لا أبالي. فقال رجل: يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر. أقول: القول في ذيل الرواية نظير القول في ذيل رواية أبي أمامة المتقدمة، و قد فهم الرجل من قوله "هؤلاء في الجنة و لا أبالي، و هؤلاء في النار و لا أبالي" الخبر سقوط الاختيار، فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن هذا قدر منه تعالى و أن أعمالنا في عين أنا نعملها و هي منسوبة إلينا تقع على ما يقع عليه القدر فتنطبق على القدر و ينطبق هو عليها، و ذلك أن الله قدر ما قدر من طريق اختيارنا فنعمل نحن باختيارنا، و يقع مع ذلك ما قدره الله سبحانه لا أنه تعالى أبطل بالقدر اختيارنا، و نفي تأثير إرادتنا و الروايات بهذا المعنى كثيرة.

و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: "حنفاء لله غير مشركين" قال: الحنفية من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال: فطرهم على المعرفة به. قال زرارة: و سألته عن قول الله عز و جل: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى" الآية قال: أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم و أراهم نفسه، و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربه. و قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله عز و جل خالقه، كذلك قوله: "و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله". أقول: و روى وسط الحديث العياشي في تفسيره، عن زرارة بعين اللفظ، و فيه شهادة على ما تقدم من تقرير معنى الإشهاد و الخطاب في الآية خلافا لما ذكره النافون أن المراد بذلك المعرفة بالآيات الدالة على ربوبيته تعالى لجميع خلقه.

و قد روي الحديث في المعاني، بالسند بعينه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) إلا أنه قال: فعرفهم و أراهم صنعه بدل قوله: فعرفهم و أراهم نفسه، و لعله من تغيير اللفظ قصدا للنقل بالمعنى زعما أن ظاهر اللفظ يوهم التجسم، و فيه إفساد اللفظ و المعنى جميعا، و قد عرفت أن الرواية مروية في الكافي، و تفسير العياشي، بلفظ: أراهم نفسه.

و تقدم في حديث ابن مسكان عن الصادق (عليه السلام) قوله: قلت معاينة كان هذا؟ قال: نعم. و قد تقدم أن لا ارتباط للكلام بمسألة التجسم.

و في المحاسن، عن الحسن بن علي بن فضال عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: "و إذ أخذ ربك" الآية قال: ثبتت المعرفة في قلوبهم و نسوا الموقف، و يذكرونه يوما، و لو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه و رازقه. و في الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يرى بالعزل بأسا، يقرأ هذه الآية: "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم - و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى" فكل شيء أخذ الله من الميثاق فهو خارج و إن كان على صخرة صماء:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي شيبة و ابن جرير عنه (عليه السلام)، و روي هذا المعنى أيضا عن سعيد بن منصور و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و اعلم أن الروايات في الذر كثيرة جدا و قد تركنا إيراد أكثرها لوفاء ما أوردنا من ذلك بمعناها، و هنا روايات أخر في أخذ الميثاق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سائر الأنبياء (عليهم السلام) سنوردها في محلها إن شاء الله تعالى.

7 سورة الأعراف - 175 - 179

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِى ءَاتَيْنَهُ ءَايَتِنَا فَانسلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشيْطنُ فَكانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَهُ بهَا وَ لَكِنّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَ اتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكلْبِ إِن تحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث أَوْ تَترُكهُ يَلْهَث ذّلِك مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا فَاقْصصِ الْقَصص لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا وَ أَنفُسهُمْ كانُوا يَظلِمُونَ (177) مَن يهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَ مَن يُضلِلْ فَأُولَئك هُمُ الخَْسِرُونَ (178) وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنّمَ كثِيراً مِّنَ الجِْنِّ وَ الانسِ لهَُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بهَا وَ لهَُمْ أَعْينٌ لا يُبْصِرُونَ بهَا وَ لهَُمْ ءَاذَانٌ لا يَسمَعُونَ بهَا أُولَئك كالأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضلّ أُولَئك هُمُ الْغَفِلُونَ (179)

بيان

قصة أخرى من قصص بني إسرائيل و هي نبأ بلعم بن باعوراء أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتلوه عليهم يتبين به أن مجرد الاتصال بالأسباب الظاهرية العادية لا يكفي في فلاح الإنسان و تحتم السعادة له ما لم يشأ الله ذلك، و أن الله لا يشاء ذلك لمن أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فإن مصيره إلى النار ثم يذكر آية ذلك فيهم و هي أنهم لا يستعملون قلوبهم و أبصارهم و آذانهم فيما ينفعهم، و الآية الجامعة أنهم غافلون.

قوله تعالى: "و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها" إلى آخر الآية معنى إيتاء الآيات على ما يعطيه السياق التلبس من الآيات الأنفسية و الكرامات الخاصة الباطنية بما يتنور به طريق معرفة الله له، و ينكشف له ما لا يبقى له معه ريب في الحق و الانسلاخ خروج الشيء و انتزاعه من جلده، و هو كناية استعارية عن أن الآيات كانت لزمتها لزوم الجلد فخرج منها الخبث في ذاته، و الإتباع كالتبع و الإتباع التعقيب و اقتفاء و الأثر يقال: تبع و أتبع و اتبع، و الكل بمعنى واحد، و الغي و الغواية هي الضلال كأنه خروج من الطريق للقصور عن حفظ المقصد الذي يوصل إليه الطريق ففيه نسيان المقصد و الغاية، فالمتحير في أمره و هو في الطريق غوي، و الخارج عن الطريق و هو ذاكر لمقصده ضال، و هو الأنسب لمورد الآية فإن صاحب النبإ بعد ما انسلخ عن آيات الله و أتبعه الشيطان غاب عنه سبيل الرشد فلم يتمكن من إنجاء نفسه عن ورطة الهلاك، و ربما استعمل كل من الغواية و الضلالة في معنى واحد.

و هو الخروج عن الطريق الموصل إلى الغاية.

و قد اختلف المفسرون في تعيين من هو صاحب النبإ في هذه الآية على أقوال مختلفة سنشير إلى جلها أو كلها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

و الآية - كما ترى - أبهمت اسمه و اقتصرت على الإشارة إلى إجمال قصته لكنها مع ذلك ظاهرة في أنه نبأ واقع لا مجرد تمثيل فلا وقع لقول من قال: إنها مجرد تمثيل من غير نبإ واقع.

و المعنى: "و اتل عليهم" أي على بني إسرائيل أو على الناس خبرا عن أمر عظيم و هو "نبأ" الرجل "الذي آتيناه آياتنا" و كشفنا لباطنه عن علائم و آثار إلهية عظام يتنور له بها حق الأمر "فانسلخ منها" و رفضها بعد لزومها "فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين" فلم يقو على إنجاء نفسه من الهلاك.

قوله تعالى: "و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه" الآية الإخلاد اللزوم على الدوام، و الإخلاد إلى الأرض اللصوق بها و هو كناية عن الميل إلى التمتع بالملاذ الدنيوية و التزامها، و اللهث من الكلب أن يدلع لسانه من العطش.

فقوله: "و لو شئنا لرفعناه بها" أي لو شئنا لرفعناه بتلك الآيات و قربناه إلينا لأن في القرب إلى الله ارتفاعا عن حضيض هذه الدنيا التي هي بما لها من اشتغال الإنسان بنفسها عن الله و آياته أسفل سافلين، و رفعه بتلك الآيات بما أنها أسباب إلهية ظاهرية تفيد اهتداء من تلبس بها لكنها لا تحتم السعادة للإنسان لأن تمام تأثيرها في ذلك منوط بمشيئة الله، و الله سبحانه لا يشاء ذلك لمن أعرض عنه و أقبل إلى غيرها.

و هي الحياة الأرضية اللاهية عن الله و دار كرامته فإن الإعراض عن الله سبحانه و تكذيب آياته ظلم، و قد حق القول منه سبحانه أنه لا يهدي القوم الظالمين، و أن الذين كفروا و كذبوا بآياته أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

و لذلك عقب تعالى قوله: "و لو شئنا لرفعناه بها" بقوله: "لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه" فالتقدير: لكنا لم نشأ ذلك لأنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه و كان ذلك موردا لإضلالنا لا لهدايتنا كما قال تعالى: "و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء": إبراهيم: 27.

و قوله: "فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" أي إنه ذو هذه السجية لا يتركها سواء زجرته و منعته أو تركته و "تحمل" من الحملة لا من الحمل "ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا" فالتكذيب منهم سجية و هيئة نفسانية خبيثة لازمة فلا تزال آياتنا تتكرر على حواسهم و يتكرر التكذيب بها منهم "فاقصص القصص" و هو مصدر أي اقصص قصصا أو اسم مصدر أي اقصص القصة "لعلهم يتفكرون" فينقادوا للحق و ينتزعوا عن الباطل.

قوله تعالى: "ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا و أنفسهم كانوا يظلمون" ذم لهم من حيث وصفهم، و إعلام لهم أنهم لا يضرون شيئا في تكذيب آياته بل ذلك ظلم منهم لأنفسهم إذ يستضر بذلك غيرهم.

قوله تعالى: "من يهد الله فهو المهتدي و من يضلل فأولئك هم الخاسرون" اللام في "المهتدي" و "الخاسرون" يفيد الكمال دون الحصر ظاهرا، و مفاد الآية أن مجرد الاهتداء إلى شيء لا ينفع شيئا و لا يؤثر أثر الاهتداء إلا إذا كانت معه هداية الله سبحانه فهي التي يكمل بها الاهتداء، و تتحتم معها السعادة، و كذلك مجرد الضلال لا يضر ضررا قطعيا إلا بانضمام إضلال الله سبحانه إليه فعند ذلك يتم أثره، و يتحتم الخسران.

فمجرد اتصال الأنسال بأسباب السعادة كظاهر الإيمان و التقوى و تلبسه بذلك لا يورده مورد النجاة، و كذلك اتصاله و تلبسه بأسباب الضلال لا يورده مورد الهلاك و الخسران إلا أن يشاء الله ذلك فيهدي بمشيئته من هدى، و يضل بها من أضل فيئول المعنى إلى أن الهداية إنما تكون هداية حقيقية تترتب عليها آثارها إذا كانت لله فيها مشية، و إلا فهي صورة هداية و ليست بها حقيقة، و كذلك الأمر في الإضلال، و إن شئت فقل: إن الكلام يدل على حصر الهداية الحقيقية في الله سبحانه و كذلك الإضلال و لا يضل به إلا الفاسقين.

قوله تعالى: "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس" إلى آخر الآية.

الذرء هو الخلق، و قد عرف الله سبحانه جهنم غاية لخلق كثير من الجن و الإنس، و لا ينافي ذلك ما عرف في موضع آخر أن الغاية لخلق الخلق هي الرحمة و هي الجنة في الآخرة كقوله تعالى: "إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم": هود: 119 فإن الغرض يختلف معناه بحسب كمال الفعل و نهاية الفعل التي ينتهي إليها.



بيان ذلك أن النجار إذا أراد أن يصنع بابا عمد إلى أخشاب يهيئها له ثم هندسه فيها ثم شرع في النشر و النحت و الخرط حتى أتم الباب فكمال غرضه من إيقاع الفعل على تلك الخشبات هو حصول الباب لا غير، هذا من جهة و من جهة أخرى هو يعلم من أول الأمر أن جميع أجزاء تلك الخشبات ليست تصلح لأن تكون أجزاء للباب فإن للباب هيئة خاصة لا تجامع هيئة الخشبات، و لا بد في تغيير هيئتها من ضيعة بعض الأجزاء لخروجها عن هندسة العمل فصيرورة هذه الأبعاض فضلة يرمى بها داخلة في قصد الصانع مرادة له بإرادة تسمى قصدا ضروريا فللنجار في صنع الباب بالنسبة إلى الأخشاب التي بين يديه نوعان من الغاية: أحدهما الغاية الكمالية و هي أن يصنع منها بابا، و الثاني الغاية التابعة و هي أن يصنع بعضها بابا و يجعل بعضها فضلة لا ينتفع بها و ضيعة يرمى بها، و ذلك لعدم استعدادها لتلبس صورة الباب.

و كذا الزارع يزرع أرضا ليحصد قمحا فلا يخلص لذلك إلى يوم الحصاد إلا بعض ما صرفه من البذر، و يذهب غيره سدى يضيع في الأرض أو تفسده الهوام أو يخصفه المواشي و الجميع مقصودة للزراع من وجه، و المحصول من القمح مقصود من وجه آخر.

و قد تعلقت المشية الإلهية أن يخلق من الأرض إنسانا سويا يعبده و يدخل بذلك في رحمته، و اختلاف الاستعدادات المكتسبة من الحياة الدنيوية على ما لها من مختلف التأثيرات لا يدع كل فرد من أفراد هذا النوع أن يجري في مجراه الحقيقي و يسلك سبيل النجاة إلا من وفق له، و عند ذلك تختلف الغايات و صح أن لله سبحانه غاية في خلقة الإنسان مثلا و هو أن يشملهم برحمته و يدخلهم جنته، و صح أن لله غاية في أهل الخسران و الشقاوة من هذا النوع و هو أن يدخلهم النار و قد كان خلقهم للجنة غير أن الغاية الأولى غاية أصلية كمالية، و الغاية الثانية غاية تبعية ضرورية، و القضاء الإلهي المتعلق بسعادة من سعد و شقاوة من شقى ناظر إلى هذا النوع الثاني من الغاية فإنه تعالى يعلم ما يئول إليه حال الخلق من سعادة أو شقاء فهو مريد لذلك بإرادة تبعية لا أصلية.

و على هذا النوع من الغاية ينزل قوله تعالى: "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس" و ما في هذا المساق من الآيات الكريمة و هي كثيرة.

و قوله: "لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها" إشارة إلى بطلان استعدادهم للوقوع في مجرى الرحمة الإلهية، و الوقوف في مهب النفحات الربانية، فلا ينفعهم ما يشاهدونه من آيات الله، و ما يسمعونه من مواعظ أهل الحق، و ما تلقنه لهم فطرتهم من الحجة و البينة.

و لا يفسد عقل و لا عين و لا أذن في عمله و قد خلقها الله لذلك، و قد قال: "لا تبديل لخلق الله": الروم: 30 إلا أن يكون الذي يغيره هو الله سبحانه فيكون من جملة الخلق لكنه سبحانه لا يغير ما أنعمه على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، قال تعالى "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم": الأنفال: 53.

فالذي أبطل ما عندهم من الاستعداد، و أفسد أعمال قلوبهم و أعينهم و آذانهم هو الله سبحانه فعل بهم ما فعل جزاء بما كسبوا نكالا فهم غيروا نعمة الله بتغيير طريق العبودية فجازاهم الله بالطبع على قلوبهم فلا يفقهون بها، و جعل الغشاوة على أبصارهم فلا يبصرون بها، و الوقر على آذانهم فلا يسمعون بها فهذه آية أنهم مسيرون إلى النار.

و قوله: "أولئك كالأنعام بل هم أضل" نتيجة ما تقدم، و بيان لحالهم فإنهم فقدوا ما يتميز به الإنسان من سائر الحيوان، و هو تمييز الخير و الشر و النافع و الضار بالنسبة إلى الحياة الإنسانية السعيدة من طريق السمع و البصر و الفؤاد.

و إنما شبهوا من بين الحيوان العجم بالأنعام مع أن فيهم خصال السباع الضارية و خصائصها كخصال الأنعام الراعية، لأن التمتع بالأكل و السفاد أقدم و أسبق بالنسبة إلى الطبع الحيواني فجلب النفع أقدم من دفع الضر، و ما في الإنسان من القوى الدافعة الغضبية مقصودة لأجل ما فيه من القوى الجاذبة الشهوية، و غرض النوع بحسب حياته الحيوانية يتعلق أولا بالتغذي و التوليد، و يتحفظ على ذلك بإعمال القوى الدافعة فالآية تجري مجرى قوله تعالى: "و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما يأكل الأنعام و النار مثوى لهم": سورة محمد: 12.

و أما كونهم أكثر أو أشد ضلالا من الأنعام، و لازمه ثبوت ضلال ما في الأنعام فلأن الضلال في الأنعام نسبي غير حقيقي فإنها مهتدية بحسب ما لها من القوى المركبة الباعثة لها إلى قصر الهمة في الأكل و التمتع غير ضالة فيما هيئت لها من سعادة الحياة و لا مستحقة للذم فيما أخذت إليه، و إنما تعد ضالة بقياسها إلى السعادة الإنسانية التي ليست لها و لا جهزت بما تتوسل به إليها.

و أما هؤلاء المطبوع على قلوبهم و أعينهم و آذانهم فالسعادة سعادتهم و هم مجهزون بما يوصلهم إليها و يدلهم عليها من السمع و البصر و الفؤاد لكنهم أفسدوها و ضيعوا أعمالها.

و نزلوها منزلة السمع و البصر و القلب التي في الأنعام، و استعملوها فيما تستعملها فيه الأنعام و هو التمتع من لذائذ البطن و الفرج فهم أكثر أو أشد ضلالا من الأنعام، و إليهم يعود الذم.

و قوله: "أولئك هم الغافلون" نتيجة و بيان حال أخرى لهم و هو أن حقيقة الغفلة هي التي توجد عندهم فإنها بمشية الله سبحانه، ألبسها إياهم بالطبع الذي طبع به على قلوبهم و أعينهم و آذانهم و الغفلة مادة كل ضلال و باطل.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا" الآية: قال: حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): أنه أعطي بلعم بن باعوراء الاسم الأعظم، و كان يدعو به فيستجيب له فمال إلى فرعون فلما مر فرعون في طلب موسى و أصحابه قال فرعون لبلعم: ادع الله على موسى و أصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمر في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عز و جل فقالت ويلك على ما ذا تضربني؟ أ تريد أن أجيء معك لتدعو على نبي الله و قوم مؤمنين؟ و لم يزل يضربها حتى قتلها فانسلخ الاسم من لسانه، و هو قوله: "فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، و لو شئنا لرفعناه بها - و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه - فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" و هو مثل ضربه الله. أقول: قوله (عليه السلام): "و هو مثل ضربه الله" الظاهر أنه يشير إلى نبإ بلعم، و سيجيء الكلام في معنى الاسم الأعظم في الكلام على الأسماء الحسنى إن شاء الله.

و في الدر المنثور، أخرج الفرياني و عبد الرزاق و عبد بن حميد و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و الطبراني و ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود في قوله: "و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها" قال هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أبر. و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: هو بلعم بن باعوراء و في لفظ: بلعام بن عامر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل. أقول: و قد روي كون اسمه بلعم و كونه من بني إسرائيل عن غير ابن عباس و روي عنه غير ذلك.



و في روح المعاني،: عند ذكر القول بأن الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر: أنه كان قرأ الكتب القديمة و علم أن الله تعالى يرسل رسولا، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فاتفق أن خرج إلى البحرين و تنبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام، و قرأ عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ قال: حتى أنظر في أمره. فخرج إلى الشام و قدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام و قال: لو كان نبيا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف و مات به. فأتت أخته الفارعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته. كل عيش و إن تطاول دهرا. صائر مرة إلى أن يزولا. ليتني كنت قبل ما قد بدا لي. في قلال الجبال أرعى الوعولا. إن يوم الحساب يوم عظيم. شاب فيه الصغير يوما ثقيلا. ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت: لك الحمد و النعماء و الفضل ربنا. و لا شيء أعلى منك جدا و أمجد. مليك على عرش السماء مهيمن. لعزته تعنو الوجوه و تسجد. من قصيدة طويلة أتت على آخرها. ثم أنشدته قصيدته التي يقول فيها: وقف الناس للحساب جميعا. فشقي معذب و سعيد. و التي فيها: عند ذي العرش يعرضون عليه. يعلم الجهر و السرار الخفيا. يوم يأتي الرحمن و هو رحيم. إنه كان وعده مأتيا. رب إن تعف فالمعافاة ظني. أو تعاقب فلم تعاقب بريا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أخاك آمن شعره، و كفر قلبه و أنزل الله تعالى الآية. أقول: و القصة مجموعة من عدة روايات، و قد ذكر في المجمع، إجمال القصة و ذكر أن نزول الآية فيه مروي عن عبد الله بن عمر و سعيد بن المسيب و زيد بن أسلم و أبي روق، و الظاهر أن الآيات مكية نزلت بنزول السورة بمكة، و ما ذكروه من باب التطبيق.

و في المجمع،: و قيل: إنه أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "الفاسق" و كان قد ترهب في الجاهلية و لبس المسموح فقدم المدينة فقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذا الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال: فأنا عليها فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لست عليها، و لكنك أدخلت فيها ما ليس منها فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا وحيدا طريدا. فخرج إلى أهل الشام، و أرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح ثم أتى قيصر و أتى بجند ليخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة فمات بالشام وحيدا طريدا. عن سعيد بن المسيب. أقول: و إشكال كون السورة مكية في محله، و قد روي في ذلك قصص لا جدوى في استقصائها.

و فيه، قال أبو جعفر (عليه السلام): الأصل في ذلك بلعم ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة. و في تفسير القمي،: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "لهم قلوب لا يفقهون بها" يقول: طبع الله عليها فلا تعقل "و لهم أعين" عليها غطاء عن الهدى "لا يبصرون بها - و لهم آذان لا يسمعون بها" أي جعل في آذانهم وقرا فلن يسمعوا الهدى. و في الدر المنثور، أخرج البيهقي في الأسماء و الصفات عن عبد الله بن عمر بن العاصي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور يومئذ شيء اهتدى. و من أخطأ ضل. و فيه، أخرج الحكيم الترمذي و ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان و أبو يعلى و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي الدرداء قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات و عقارب و خشاش الأرض، و صنف كالريح في الهواء، و صنف عليهم الحساب و العقاب، و خلق الله الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم قال الله: "لهم قلوب لا يفقهون بها، و لهم أعين لا يبصرون بها - و لهم آذان لا يسمعون بها - أولئك كالأنعام بل هم أضل" و جنس أجسادهم أجساد بني آدم و أرواحهم أرواح الشياطين، و صنف في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله. أقول: و سيأتي الكلام في الجن و الشياطين من الإنس في مقام يناسبه إن شاء الله تعالى.

7 سورة الأعراف - 180 - 186

وَ للّهِ الأَسمَاءُ الحُْسنى فَادْعُوهُ بهَا وَ ذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فى أَسمَئهِ سيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَ مِمّنْ خَلَقْنَا أُمّةٌ يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا سنَستَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْث لا يَعْلَمُونَ (182) وَ أُمْلى لَهُمْ إِنّ كَيْدِى مَتِينٌ (183) أَ وَ لَمْ يَتَفَكّرُوا مَا بِصاحِبهِم مِّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مّبِينٌ (184) أَ وَ لَمْ يَنظرُوا فى مَلَكُوتِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شىْءٍ وَ أَنْ عَسى أَن يَكُونَ قَدِ اقْترَب أَجَلُهُمْ فَبِأَى حَدِيثِ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَن يُضلِلِ اللّهُ فَلا هَادِى لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فى طغْيَنهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

بيان

الآيات متصلة بما قبلها، و هي بمنزلة تجديد البيان لما انتهى إليه الكلام في الآيات السابقة، و ذلك أن الهدى و الضلال يدوران مدار دعوته تعالى بأسمائه الحسنى و الإلحاد فيها، و الناس من منتحلهم و زنديقهم و عالمهم و جاهلهم لا يختلفون بحسب فطرتهم و باطن سريرتهم في أن هذا العالم المشهود متكىء على حقيقة هي المقومة لأعيان أجزائها الناظمة نظامها، و هو الله سبحانه الذي منه يبتدأ كل شيء و إليه يعود كل شيء الذي يفيض على العالم ما يشاهد فيه من جمال و كمال، و هي له و منه.

و الناس في هذا الموقف على ما لهم من الاتفاق على أصل الذات ثلاثة أصناف: صنف يسمونه بما لا يشتمل من المعنى إلا على ما يليق أن ينسب إلى ساحته من الصفات المبينة للكمال، أو النافية لكل نقص و شين، و صنف يلحدون في أسمائه، و يعدلون بالصفات الخاصة به إلى غيره كالماديين و الدهريين الذين ينسبون الخلق و الإحياء و الرزق و غير ذلك إلى المادة أو الدهر، و كالوثنيين الناسبين الخير و النفع إلى آلهتهم، و كبعض أهل الكتاب حيث يصفون نبيهم أو أولياء دينهم بما يختص به تعالى من الخصائص، و يلحق بهم طائفة من المؤمنين حيث يعطون للأسباب الكونية من الاستقلال في التأثير ما لا يليق إلا بالله سبحانه، و صنف يؤمنون به تعالى غير أنهم يلحدون في أسمائه فيثبتون له من صفات النقص و الأفعال الدنية ما هو منزه عنه كالاعتقاد بأن له جسما، و أن له مكانا، و أن الحواس المادية يمكن أن تتعلق به على بعض الشرائط، و أن له علما كعلومنا و إرادة كإرادتنا و قدرة كمقدراتنا، و أن لوجوده بقاء زمانيا كبقائنا، و كنسبة الظلم في فعله أو الجهل في حكمه و نحو ذلك إليه، فهذه جميعا من الإلحاد في أسمائه.

و يرجع الأصناف الثلاثة في الحقيقة إلى صنفين: صنف يدعونه بالأسماء الحسنى و يعبدون الله ذا الجلال و الإكرام، و هؤلاء هم المهتدون بالحق، و صنف يلحدون في أسمائه و يسمون غيره باسمه أو يسمونه باسم غيره: و هؤلاء أصحاب الضلال الذين مسيرهم إلى النار على حسب حالهم في الضلال و طبقاتهم منه، و قد بين الله سبحانه: أن الهداية منه مطلقا فإنها صفة جميلة و له تعالى حقيقتها، و أما الضلال فلا ينسب إليه سبحانه أصله لأنه بحسب الحقيقة عدم اهتداء المحل بهداية الله، و هو معنى عدمي و صفة نقص و أما تثبيته في المحل بعد أول تحققه، و جعله صفة لازمة للمحل بمعنى سلب التوفيق و قطع العطية الإلهية جزاء للضال بما آثر الضلال على الهدى، و كذب بآيات الله فهو من الله سبحانه، و قد نسبه إلى نفسه في كلامه، و ذلك بالاستدراج و الإملاء.

فالآيات تشير إلى أن ما انتهى إليه كلامه سبحانه أن حقيقة الهداية و الإضلال من الله إنما مغزاه و حقيقة معناه أن الأمر يدور مدار دعوته تعالى بالأسماء الحسنى و كلها له، و هو الاهتداء، و الإلحاد في أسمائه، و الناس في ذلك صنفان: مهتد بهداية الله لا يعدل به غيره، و ضال منحرف عن أسمائه مكذب بآياته، و الله سبحانه يسوقهم إلى النار جزاء لهم بما كذبوا بآياته كما قال: "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس" الآية، و ذلك بالاستدراج و الإملاء.

قوله تعالى: "و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها" الاسم بحسب اللغة ما يدل به على الشيء سواء أفاد مع ذلك معنى وصفيا كاللفظ الذي يشار به إلى الشيء لدلالته على معنى موجود فيه، أو لم يفد إلا الإشارة إلى الذات كزيد و عمرو و خاصة المرتجل من، الأعلام و توصيف الأسماء الحسنى - و هي مؤنث أحسن - يدل على أن المراد بها الأسماء التي فيها معنى وصفي دون ما لا دلالة لها إلا على الذات المتعالية فقط لو كان بين أسمائه تعالى ما هو كذلك، و لا كل معنى وصفي، بل المعنى الوصفي الذي فيه شيء من الحسن، و لا كل معنى وصفي حسن بل ما كان أحسن بالنسبة إلى غيره إذا اعتبر مع الذات المتعالية: فالشجاع و العفيف من الأسماء الحسنة لكنهما لا يليقان بساحة قدسه لإنبائهما عن خصوصية جسمانية لا يمكن سلبها عنهما، و لو أمكن لم يكن مانع عن إطلاقهما عليه كالجواد و العدل و الرحيم.

فكون اسم ما من أسمائه تعالى أحسن الأسماء أن يدل على معنى كمالي غير مخالط لنقص أو عدم، مخالطة لا يمكن معها تحرير المعنى من ذلك النقص و العدم و تصفيته، و ذلك في كل ما يستلزم حاجة أو عدما و فقدا كالأجسام و الجسمانيات و الأفعال المستقبحة أو المستشنعة، و المعاني العدمية: فهذه الأسماء بأجمعها محصول لغاتنا لم نضعها إلا لمصاديقها فينا التي لا تخلو عن شوب الحاجة و النقص غير أن منها ما لا يمكن سلب جهات الحاجة و النقص عنها كالجسم و اللون و المقدار و غيرها، و منها ما يمكن فيه ذلك كالعلم و الحياة و القدرة فالعلم فينا الإحاطة بالشيء من طريق أخذ صورته من الخارج بوسائل مادية، و القدرة فينا المنشأة للفعل بكيفية مادية موجودة لعضلاتنا، و الحياة كوننا بحيث نعلم و نقدر بما لنا من وسائل العلم و القدرة فهذه لا تليق بساحة قدسه غير أنا إذا جردنا معانيها عن خصوصيات المادة عاد العلم و هو الإحاطة بالشيء بحضوره عنده، و القدرة هي المنشأة للشيء بإيجاده، و الحياة كون الشيء بحيث يعلم و يقدر، و هذه لا مانع من إطلاقها عليه لأنها معان كمالية خالية عن جهات النقص و الحاجة، و قد دل العقل و النقل أن كل صفة كمالية فهي له تعالى و هو المفيض لها على غيره من غير مثال سابق فهو تعالى عالم قادر حي لكن لا كعلمنا و قدرتنا و حياتنا بل بما يليق بساحة قدسه من حقيقة هذه المعاني الكمالية مجردة عن النقائص.

و قد قدم الخبر في قوله: "و لله الأسماء الحسنى" و هو يفيد الحصر، و جيء بالأسماء محلى باللام، و الجمع المحلى باللام يفيد العموم، و مقتضى ذلك أن كل اسم أحسن في الوجود فهو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد، و إذ كان الله سبحانه ينسب بعض هذه المعاني إلى غيره و يسميه به كالعلم و الحياة و الخلق و الرحمة فالمراد بكونها لله كون حقيقتها له وحده لا شريك له.

و ظاهر الآيات بل نص بعضها يؤيد هذا المعنى كقوله: "إن القوة لله جميعا": البقرة: 165.

و قوله: "فإن العزة لله جميعا": النساء: 139، و قوله: "و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء": البقرة: 255، و قوله: "هو الحي لا إله إلا هو": المؤمن: 66 فلله سبحانه حقيقة كل اسم أحسن لا يشاركه غيره إلا بما ملكهم منه كيفما أراد و شاء.

و يؤيد هذا المعنى ظاهر كلامه أينما ذكر أسماؤه في القرآن كقوله تعالى: "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى": طه: 8 و قوله: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى": إسراء: 110، و قوله: "له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات و الأرض": الحشر: 24 فظاهر الآيات جميعا كون حقيقة كل اسم أحسن لله سبحانه وحده.



و ما احتمله بعضهم أن اللام في "الأسماء" للعهد مما لا دليل عليه و لا في القرائن الحافة بالآيات ما يؤيده غير ما عهده القائل من الأخبار العادة للأسماء الحسنى، و سيجيء الكلام فيها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و قوله: "فادعوه بها" إما من الدعوة بمعنى التسمية كقولنا: دعوته زيدا و دعوتك أبا عبد الله أي سميته و سميتك، و إما من الدعوة بمعنى النداء أي نادوه بها فقولوا: يا رحمن يا رحيم و هكذا.

أو من الدعوة بمعنى العبادة أي فاعبدوه مذعنين أنه متصف بما يدل عليه هذه الأسماء من الصفات الحسنة و المعاني الجميلة.

و قد احتملوا جميع هذه المعاني غير أن كلامه تعالى في مواضع مختلفة يذكر فيها دعاء الرب يؤيد هذا المعنى الأخير كما في الآية السابقة: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" و قوله: "و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين": المؤمن: 60 حيث ذكر أولا الدعاء ثم بدله ثانيا من العبادة إيماء إلى اتحادهما، و قوله: "و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة و هم عن دعائهم غافلون و إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء و كانوا بعبادتهم كافرين": الأحقاف: 6، و قوله: "هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين": المؤمن: 65 يريد إخلاص العبادة.

و يؤيده ذيل الآية: "و ذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون" بظاهره فإنه لو كان المراد بالدعاء التسمية أو النداء دون العبادة لكان الأنسب أن يقال: بما كانوا يصفون كما قال في موضع آخر: "سيجزيهم وصفهم": الأنعام: 139.

فمعنى الآية - و الله أعلم - و لله جميع الأسماء التي هي أحسن فاعبدوه و توجهوا إليه بها، و التسمية و النداء من لواحق العبادة.

قوله تعالى: "و ذروا الذين يلحدون في أسمائه" إلى آخر الآية.

اللحد و الإلحاد بمعنى واحد و هو التطرف و الميل عن الوسط إلى أحد الجانبين، و منه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح الذي في الوسط فقراءة يلحدون بفتح الياء من المجرد، و يلحدون بضم الياء من باب الإفعال بمعنى واحد، و نقل عن بعض اللغويين: أن اللحد بمعنى الميل إلى جانب، و الإلحاد بمعنى الجدال و المماراة.

و قوله: "سيجزون" الآية بالفصل لأنه بمنزلة الجواب لسؤال مقدر كأنه لما قيل: "و ذروا الذين يلحدون في أسمائه" قيل: إلى م يصير حالهم؟ فأجيب: "سيجزون ما كانوا يعملون" و للبحث في الأسماء الحسنى بقايا ستوافيك في كلام مستقل نورده بعد الفراغ عن تفسير الآيات إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون" قد مر بعض ما يتعلق به من الكلام في قوله تعالى: "و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون": الآية 159 من السورة و تختص هذه الآية بأنها لوقوعها في سياق تقسيم الناس إلى ضال و مهتد، و بيان أن الملاك في ذلك دعاؤه سبحانه بأحسن الأسماء اللائقة بحضرته و الإلحاد في أسمائه، تدل على أن النوع الإنساني يتضمن طائفة قليلة أو كثيرة مهتدية حقيقة إذ الكلام في الاهتداء و الضلال الحقيقيين المستندين إلى صنع الله، و من يهدي الله فهو المهتدي و من يضلل فأولئك هم الخاسرون، و الاهتداء الحقيقي لا يكون إلا عن هداية حقيقية، و هي التي لله سبحانه، و قد تقدم في قوله تعالى: "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين": الأنعام: 89، و غيره أن الهداية الحقيقية الإلهية لا تتخلف عن مقتضاها بوجه و توجب العصمة من الضلال، كما أن الترديد الواقع في قوله تعالى: "أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى": يونس: 35.

يدل على أن من يهدي إلى الحق يجب أن لا يكون مهتديا بغيره إلا بالله فافهم ذلك.

و على هذا فإسناد الهداية إلى هذه الأمة لا يخلو عن الدلالة على مصونيتهم من الضلال و اعتصامهم بالله من الزيغ إما بكون جميع هؤلاء المشار إليهم بقوله: "أمة يهدون بالحق" متصفين بهذه العصمة و الصيانة كالأنبياء و الأوصياء، و إما بكون بعض هذه الأمة كذلك و توصيف الكل بوصف البعض نظير قوله تعالى: "و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة": الجاثية: 16، و قوله: "و جعلكم ملوكا": المائدة: 20، و قوله: "لتكونوا شهداء على الناس": البقرة: 143، و إنما المتصف بهذه المزايا بعضهم دون الجميع.

و المراد بالآية - و الله أعلم - أنا لا نأمركم بأمر غير واقع أو خارج عن طوق البشر فإن ممن خلقنا أمة متلبسة بالاهتداء الحقيقي هادين بالحق لأن الله كرمهم بهدايته الخاصة.

قوله تعالى: "و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة فدرجة، و الاستدناء من أمر أو مكان، و قرينة المقام تدل على أن المراد به هنا الاستدناء من الهلاك إما في الدنيا أو في الآخرة.

و تقييد الاستدراج بكونه من حيث لا يعلمون للدلالة على أن هذا التقريب خفي غير ظاهر عليهم بل مستبطن فيما يتلهون فيه من مظاهر الحياة المادية فلا يزالون يقتربون من الهلاك باشتداد مظالمهم فهو تجديد نعمة بعد نعمة حتى يصرفهم التلذذ بها عن التأمل في وبال أمرهم كما مر في قوله تعالى: "ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا": الأعراف: 95، و قال تعالى: "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد": آل عمران: 197.

و من وجه آخر لما انقطع هؤلاء عن ذكر ربهم و كذبوا بآياته سلبوا اطمئنان القلوب و أمنها بالتشبث بذيل الأسباب التي من دون الله، و عذبوا باضطراب النفوس و قلق القلوب و قصور الأسباب و تراكم النوائب، و هم يظنون أنها الحياة ناسين معنى حقيقة الحياة السعيدة فلا يزالون يستزيدون من مهلكات زخارف الدنيا فيزدادون عذابا و هم يحسبونه زيادة في النعمة حتى يردوا عذاب الآخرة و هو أمر و أدهى، فهم يستدرجون في العذاب من لدن تكذيبهم بآيات ربهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

قال تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب": الرعد: 28، و قال: "و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا": طه: 124، و قال: "فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون": التوبة: 55، و هذا معنى آخر من الاستدراج لكن قوله تعالى بعده: "و أملي لهم" لا يلائم ذلك فالمتعين هو المعنى الأول.

قوله تعالى: "و أملي لهم إن كيدي متين" الإملاء هو الإمهال، و قوله: "إن كيدي متين" تعليل لمجموع ما في الآيتين، و في قوله: "و أملي" بعد قوله: "سنستدرجهم" الآية، التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده للدلالة على مزيد العناية بتحريمهم من الرحمة الإلهية و إيرادهم مورد الهلكة.

و أيضا الإملاء هو إمهالهم إلى أجل مسمى.



فيكون في معنى قوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم": الشورى: 14، و هذه الكلمة هي قوله لآدم (عليه السلام) حين إهباطه إلى الأرض: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين": البقرة: 36 و هو القضاء الإلهي و القضاء مختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره، و هذا بخلاف الاستدراج الذي هو إيصال النعمة بعد النعمة و تجديدها فإنها نعم إلهية مفاضة بالوسائط من الملائكة و الأمر فلهذا السبب جيء في الاستدراج بصيغة المتكلم مع الغير، و غير ذلك في الإملاء و في الكيد الذي هو أمر متحصل من الاستدراج و الإملاء إلى لفظ المتكلم وحده.

قوله تعالى: "أ و لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين" في تركيب الكلام اختلاف شديد بينهم، و الذي يستبق إلى الذهن من السياق أن يكون قوله: أ و لم يتفكروا" كلاما تاما سيق للإنكار و التوبيخ ثم قوله: "ما بصاحبهم من جنة" الآية كلاما آخر سيق لبيان صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعواه النبوة، و هو يشير إلى ما يتفكرون فيه كأنه قيل: أ و لم يتفكروا في أنه ما بصاحبهم من جنة الآية حتى يتبين لهم ذلك؟ نعم، ما به من جنة إن هو إلا نذير مبين.

و التعبير عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصاحبهم للإشارة إلى مادة الاستدلال الفكري فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصحبهم و يصحبونه طول حياته بينهم فلو كان به شيء من جنة لبان لهم ذلك البتة فهو فيما جاء به نذير لا مجنون، و الجنة بناء نوع من الجنون على ما قيل و إن كان من الجائز أن يكون المراد به الفرد من الجن بناء على ما يزعمونه أن المجنون يحل فيه بعض الجن فيتكلم من فيه و بلسانه.

قوله تعالى: "أ و لم ينظروا في ملكوت السموات و الأرض" إلى آخر الآية قد مر كرارا أن الملكوت في عرف القرآن على ما يظهر من قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء": يس: 83 هو الوجه الباطن من الأشياء الذي يلي جهة الرب تعالى، و أن النظر إلى هذا الوجه و اليقين متلازمان كما يفهم من قوله: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين": الأنعام: 75.

فالمراد توبيخهم في الإعراض و الانصراف عن الوجه الملكوتي للأشياء لم نسوه و لم ينظروا فيه حتى يتبين لهم أن ما يدعوهم إليه هو الحق؟.

و قوله: "و ما خلق الله من شيء" عطف على موضع السماوات، و قوله "من شيء" بيان لما الموصولة، و معنى الآية: لم لم ينظروا في خلق السماوات و الأرض و أي شيء آخر مما خلقه الله؟ لكن لا من الوجه الذي يلي الأشياء حتى ينتج العلم بخواص الأشياء الطبيعية بل من جهة أن وجوداتها غير مستقلة بنفسها مرتبطة بغيرها محتاجة إلى رب يدبر أمرها و أمر كل شيء، و هو رب العالمين.

و قوله: "و أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم" عطف على قوله: "ملكوت" الآية لكونه في تأويل المفرد و التقدير: أ و لم ينظروا في أنه عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فإن النظر في هذا الاحتمال ربما صرفهم عن التمادي على ضلالهم و غيهم فأغلب ما يصرف الإنسان عن الاشتغال بأمر الآخرة، و يوجه وجهه إلى الاغترار بالدنيا نسيان الموت الذي لا يدري متى يرد رائده، و أما إذا التفت إلى ذلك و شاهد جهله بأجله و أن من المرجو المحتمل أن يكون قد اقترب منهم فإنه يقطع منابت الغفلة و يمنعه عن اتباع الهوى و طول الأمل.

و قوله: "فبأي حديث بعده يؤمنون" الضمير للقرآن على ما يستدعيه السياق، و في الكلام إيئاس من إيمانهم بالمرة أي إن لم يؤمنوا بالقرآن و هو تجليه سبحانه عليهم بكلامه يكلمهم بما يضطر عقولهم بقبوله من الحجج و البراهين و الموعظة الحسنة و هو مع ذلك معجزة باهرة فلا يؤمنون بشيء آخر البتة، و قد أخبر سبحانه أنه طبع على قلوبهم فلا سبيل لهم إلى فقه القول و الإيمان بالحق، و لذلك عقبه بقوله في الآية التالية: "من يضلل الله فلا هادي له" الآية.

قوله تعالى: "من يضلل الله فلا هادي له و يذرهم في طغيانهم يعمهون" العمه الحيرة و التردد في الضلال أو عدم معرفة الحجة، و إنما لم يذكر ما يقابله و هو أن من يهدي فلا مضل له لأن الكلام مسوق لتعليل الآية السابقة: "فبأي حديث" الآية كأنه قيل: لم لا يؤمنون بحديث البتة؟ فقيل: لأن من يضلل الله الآية.

كلام في الأسماء الحسنى في فصول

1 - ما معنى الأسماء الحسنى؟

و كيف الطريق إليها؟ نحن أول ما نفتح أعيننا و نشاهد من مناظر الوجود ما نشاهده يقع إدراكنا على أنفسنا و على أقرب الأمور منا و هي روابطنا مع الكون الخارج من مستدعيات قوانا العاملة لإبقائنا فأنفسنا، و قوانا، و أعمالنا المتعلقة بها هي أول ما يدق باب إدراكنا لكنا لا نرى أنفسنا إلا مرتبطة بغيرها و لا قوانا و لا أفعالنا إلا كذلك، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الإنسان يشاهدها من نفسه و من كل ما يرتبط به من قواه و أعماله و الدنيا الخارجة و، عند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته و يسد خلته، و إليه ينتهي كل شيء، و هو الله سبحانه، و يصدقنا في هذا النظر و القضاء قوله تعالى: "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني".

و قد عجز التاريخ عن العثور على بدء ظهور القول بالربوبية بين الأفراد البشرية بل وجده و هو يصاحب الإنسانية إلى أقدم العهود التي مرت على هذا النوع حتى أن الأقوام الوحشية التي تحاكي الإنسان الأولي في البساطة لما اكتشفوهم في أطراف المعمورة كقطان أميركا و أستراليا وجدوا عندهم القول بقوى عالية هي وراء مستوى الطبيعة ينتحلون بها، و هو قول بالربوبية و إن اشتبه عليهم المصداق فالإذعان بذات ينتهي إليها أمر كل شيء من لوازم الفطرة الإنسانية لا يحيد عنه إلا من انحرف عن إلهام فطرته لشبهة عرضت له كمن يضطر نفسه على الاعتياد بالسم و طبيعته تحذره بإلهامها، و هو يستحسن ما ابتلي به.

ثم إن أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الإلهية أنا نذعن بانتهاء كل شيء إليه، و كينونته و وجوده منه فهو يملك كل شيء لعلمنا أنه لو لم يملكها لم يمكن أن يفيضها و يفيدها لغيره على أن بعض هذه الأشياء مما ليست حقيقته إلا مبنية على الحاجة منبئة عن النقيصة، و هو تعالى منزه عن كل حاجة و نقيصة لأنه الذي إليه يرجع كل شيء في رفع حاجته و نقيصته.

فله الملك - بكسر الميم و بضمها - على الإطلاق، فهو سبحانه يملك ما وجدناه في الوجود من صفة كمال كالحياة و القدرة و العلم و السمع و البصر و الرزق و الرحمة و العزة و غير ذلك.

فهو سبحانه حي، قادر، عليم، سميع، بصير لأن في نفيها إثبات النقص و لا سبيل للنقص إليه، و رازق و رحيم و عزيز و محي و مميت و مبدىء و معيد و باعث إلى غير ذلك لأن الرزق و الرحمة و العزة و الإحياء و الإماتة و الإبداء و الإعادة و البعث له، و هو السبوح القدوس العلي الكبير المتعال إلى غير ذلك نعني بها نفي كل نعت عدمي و كل صفة نقص عنه.

فهذا طريقنا إلى إثبات الأسماء و الصفات له تعالى على بساطته، و قد صدقنا كتاب الله في ذلك حيث أثبت الملك - بكسر الميم - و الملك - بضم الميم - له على الإطلاق في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.

2 - ما هو حد ما نصفه أو نسميه به من الأسماء؟

تبين من الفصل الأول أنا ننفي عنه جهات النقص و الحاجة التي نجدها فيما نشاهده من أجزاء العالم، و هي تقابل الكمال كالموت و الفقد و الفقر و الذلة و العجز و الجهل و نحو ذلك، و معلوم أن نفي هذه الأمور، و هي في نفسها سلبية يرجع إلى إثبات الكمال فإن في نفي الفقر إثبات الغنى، و في نفي الذلة و العجز و الجهل إثبات العزة و القدرة و العلم و هكذا.

و أما صفات الكمال التي نثبتها له سبحانه كالحياة و القدرة و العلم و نحو ذلك فقد عرفت أنا نثبتها بالإذعان بملكه جميع الكمالات المثبتة في دار الوجود غير أنا ننفي عنه تعالى جهات الحاجة و النقص التي تلازم هذه الصفات بحسب وجودها في مصاديقها.

فالعلم في الإنسان مثلا إحاطة حضورية بالمعلوم من طريق انتزاع الصورة و أخذها بقوى بدنية من الخارج و الذي يليق بساحته أصل معنى الإحاطة الحضورية، و أما كونه من طريق أخذ الصورة المحوج إلى وجود المعلوم في الخارج قبلا، و إلى آلات بدنية مادية مثلا فهو من النقص الذي يجب تنزيهه تعالى منه، و بالجملة نثبت له أصل المعنى الثبوتي و نسلب عنه خصوصية المصداق المؤدية إلى النقص و الحاجة.

ثم لما كنا نفينا عنه كل نقص و حاجة.

و من النقص أن يكون الشيء محدودا بحد منتهيا بوجوده إلى نهاية فإن الشيء لا يحد نفسه و إنما يحده غيره الذي يقهره بضرب الحد و النهاية له، و لذلك نفينا عنه كل حد و نهاية فليس سبحانه محدودا في ذاته بشيء و لا في صفاته بشيء و قد قال تعالى: "و هو الواحد القهار": الرعد: 16 فله الوحدة التي تقهر كل شيء من قبله فتحيط به.

و من هنا قضينا أن صفاته تعالى عين ذاته، و كل صفة عين الصفة الأخرى، فلا تمايز إلا بحسب المفهوم، و لو كان علمه غير قدرته مثلا، و كل منهما غير ذاته كما فينا معاشر الإنسان مثلا لكان كل منها يحد الآخر و الآخر ينتهي إليه فكان محدود و حد و متناه و نهاية فكان تركيب و فقر إلى حاد يحدها غيره، تعالى عن ذلك و تقدس، و هذه صفة أحديته تعالى لا ينقسم من جهة من الجهات، و لا يتكثر في خارج و لا في ذهن.

و مما تقدم يظهر فساد قول من قال: إن معاني صفاته تعالى ترجع إلى النفي رعاية لتنزيهه عن صفات خلقه فمعنى العلم و القدرة و الحياة هناك عدم الجهل و العجز و الموت، و كذا في سائر الصفات العليا، و ذلك لاستلزامه نفي جميع صفات الكمال عنه تعالى، و قد عرفت أن سلوكنا الفطري يدفع ذلك، و ظواهر الآيات الكريمة تنافيه: و نظيره القول بكون صفاته زائدة على ذاته أو نفي الصفات و إثبات آثارها و غير ذلك مما قيل في الصفات فكل ذلك مدفوعة بما تقدم من كيفية سلوكنا الفطري، و لتفصيل البحث عن بطلانها محل آخر.

3 - الانقسامات التي لها:

يظهر مما قدمناه من كيفية السلوك الفطري أن من صفات الله سبحانه ما يفيد معنى ثبوتيا كالعلم و الحياة و هي المشتملة على معنى الكمال، و منها ما يفيد معنى السلب و هي التي للتنزيه كالسبوح و القدوس، و بذلك يتم انقسام الصفات إلى قسمين: ثبوتية، و سلبية.

و أيضا من الصفات ما هي عين الذات ليست بزائدة عليها كالحياة و القدرة و العلم بالذات، و هي الصفات الذاتية، و منها ما يحتاج في تحققه إلى فرض تحقق الذات قبلا كالخلق و الرزق و هي الصفات الفعلية، و هي زائدة على الذات منتزعة عن مقام الفعل، و معنى انتزاعها عن مقام أنا مثلا نجد هذه النعم التي نتنعم بها و نتقلب فيها نسبتها إلى الله سبحانه نسبة الرزق المقرر للجيش من قبل الملك إلى الملك فنسميها رزقا، و إذ كان منتهيا إليه تعالى نسميه رازقا، و مثله الخلق و الرحمة و المغفرة و سائر الصفات و الأسماء الفعلية، فهي تطلق عليه تعالى و يسمى هو بها من غير أن يتلبس بمعانيها كتلبسه بالحياة و القدرة و غيرها من الصفات الذاتية، و لو تلبس بها حقيقة لكانت صفات ذاتية غير خارجة من الذات فللصفات و الأسماء انقسام آخر إلى الذاتية و الفعلية.

و لها انقسام آخر إلى النفسية و الإضافية فما لا إضافة في معناها إلى الخارج عن مقام الذات كالحياة نفسي، و ما له إضافة إلى الخارج سواء كان معنى نفسيا ذا إضافة كالصنع و الخلق هي النفسية ذات الإضافة، أو معنى إضافيا محضا كالخالقية و الرازقية هي الإضافية المحضة.

4 - نسب الصفات و الأسماء إلينا و نسبتها فيما بينها:

لا فرق بين الصفة و الاسم غير أن الصفة تدل على معنى من المعاني يتلبس به الذات أعم من العينية و الغيرية، و الاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف.

فالحياة و العلم صفتان، و الحي و العالم اسمان و إذ كان اللفظ لا شأن له إلا الدلالة على المعنى و انكشافه به فحقيقة الصفة و الاسم هو الذي يكشف عنه لفظ الصفة و الاسم فحقيقة الحياة المدلول عليها بلفظ الحياة هي الصفة الإلهية و هي عين الذات، و حقيقة الذات بحياتها التي هي عينها هو الاسم الإلهي، و بهذا النظر يعود الحي و الحياة اسمين للاسم و الصفة و إن كانا بالنظر المتقدم نفس الاسم و نفس الصفة.

و قد تقدم أنا في سلوكنا الفطري إلى الأسماء إنما تفطنا بها من جهة ما شاهدناه في الكون من صفات الكمال فأيقنا من ذلك أن الله سبحانه مسمى بها لما أنه مالكها الذي أفاض علينا بها، و ما شاهدنا فيه من صفات النقص و الحاجة فأيقنا أنه تعالى منزه منها متصف بما يقابلها من صفة الكمال و بها يرفع عنا النقص و الحاجة فيما يرفع، فمشاهدة العلم و القدرة في الكون تهدينا إلى اليقين بأن له سبحانه علما و قدرة يفيض بهما ما يفيضه من العلم و القدرة، و مشاهدة الجهل و العجز في الوجود تدلنا على أنه منزه عنهما متصف بما يقابلهما من العلم و القدرة الذين بهما ترفع حاجتنا إلى العلم و القدرة فيما ترفع، و هكذا في سائرها.

و من هنا يظهر أن جهات الخلقة و خصوصيات الوجود التي في الأشياء ترتبط إلى ذاته المتعالية من طريق صفاته الكريمة أي إن الصفات وسائط بين الذات و بين مصنوعاته فالعلم و القدرة و الرزق و النعمة التي عندنا بالترتيب تفيض عنه سبحانه بما أنه عالم قادر رازق منعم بالترتيب، و جهلنا يرتفع بعلمه، و عجزنا بقدرته، و ذلتنا بعزته، و فقرنا بغناه، و ذنوبنا بعفوه و مغفرته، و إن شئت فقل بنظر آخر هو يقهرنا بقهره و يحدنا بلا محدوديته، و ينهينا بلا نهايته، و يضعنا برفعته، و يذللنا بعزته، و يحكم فينا بما يشاء بملكه - بالضم - و يتصرف فينا كيف يشاء بملكه - بالكسر - فافهم ذلك.

و هذا هو الذي نجري عليه بحسب الذوق المستفاد من الفطرة الصافية فمن يسأل الله الغنى ليس يقول: يا مميت يا مذل أغنني، و إنما يدعوه بأسمائه: الغني و العزيز و القادر مثلا، و المريض الذي يتوجه إليه لشفاء مرضه يقول: يا شافي يا معافي يا رءوف يا رحيم ارحمني و اشفني، و لن يقول: يا مميت يا منتقم يا ذا البطش اشفني: و على هذا القياس.

و القرآن الكريم يصدقنا في هذا السلوك و القضاء، و هو أصدق شاهد على صحة هذا النظر فتراه يذيل آياته الكريمة بما يناسب مضامين متونها من الأسماء الإلهية و يعلل ما يفرغه من الحقائق بذكر الاسم و الاسمين من الأسماء بحسب ما يستدعيه المورد من ذلك.



و القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يستعمل الأسماء الإلهية في تقرير مقاصده، و يعلمنا علم الأسماء من بين ما بلغنا من الكتب السماوية المنسوبة إلى الوحي.

فتبين أنا ننتسب إليه تعالى بواسطة أسمائه، و بأسمائه بواسطة آثارها المنتشرة في أقطار عالمنا المشهود فآثار الجمال و الجلال في هذا العالم هي التي تربطنا بأسماء جماله و جلاله من حياة و علم و قدرة و عزة و عظمة و كبرياء، ثم الأسماء تنسبنا إلى الذات المتعالية التي تعتمد عليها قاطبة أجزاء العالم في استقلالها.

و هذه الآثار التي عندنا من ناحية أسمائه تعالى مختلفة في أنفسها سعة و ضيقا، و هما بإزاء ما في مفاهيمها من العموم و الخصوص فموهبة العلم التي عندنا تنشعب منها شعب السمع و البصر و الخيال و التعقل مثلا، ثم هي و القدرة و الحياة و غيرها تندرج تحت الرزق و الإعطاء و الإنعام و الجود، ثم هي و العفو و المغفرة و نحوها تندرج تحت الرحمة العامة.

و من هنا يظهر أن ما بين نفس الأسماء سعة و ضيقا، و عموما و خصوصا على الترتيب الذي بين آثارها الموجودة في عالمنا فمنها خاصة، و منها عامة، و خصوصها و عمومها بخصوص حقائقها الكاشفة عنها آثارها و عمومها، و تكشف عن كيفية النسب التي بين حقائقها النسب التي بين مفاهيمها فالعلم اسم خاص بالنسبة إلى الحي و عام بالنسبة إلى السميع البصير الشهيد اللطيف الخبير و الرازق خاص بالنسبة إلى الرحمن، و عام بالنسبة إلى الشافي الناصر الهادي، و على هذا القياس.

فللأسماء الحسنى عرض عريض تنتهي من تحت إلى اسم أو أسماء خاصة لا يدخل تحتها اسم آخر ثم تأخذ في السعة و العموم ففوق كل اسم ما هو أوسع منه و أعم حتى تنتهي إلى اسم الله الأكبر الذي يسع وحده جميع حقائق الأسماء و تدخل تحته شتات الحقائق برمتها، و هو الذي نسميه غالبا بالاسم الأعظم.

و من المعلوم أنه كلما كان الاسم أعم كانت آثاره في العالم أوسع، و البركات النازلة منه أكبر و أتم لما أن الآثار للأسماء كما عرفت فما في الاسم من حال العموم و الخصوص يحاذيه بعينه أثره، فالاسم الأعظم ينتهي إليه كل أثر، و يخضع له كل أمر.

5 - ما معنى الاسم الأعظم؟

شاع بين الناس أنه اسم لفظي من أسماء الله سبحانه إذا دعي به استجيب، و لا يشذ من أثره شيء غير أنهم لما لم يجدوا هذه الخاصة في شيء من الأسماء الحسنى المعروفة و لا في لفظ الجلالة اعتقدوا أنه مؤلف من حروف مجهولة تأليفا مجهولا لنا لو عثرنا عليه أخضعنا لإرادتنا كل شيء.

و في مزعمة أصحاب العزائم و الدعوات أن له لفظا يدل عليه بطبعه لا بالوضع اللغوي غير أن حروفه و تأليفها تختلف باختلاف الحوائج و المطالب، و لهم في الحصول عليه طرق خاصة يستخرجون بها حروفا أولا ثم يؤلفونها و يدعون بها على ما يعرفه من راجع فنهم.

و في بعض الروايات الواردة إشعار ما بذلك كما ورد: أن "بسم الله الرحمن الرحيم" أقرب إلى اسم الله الأعظم من بياض العين إلى سوادها، و ما ورد: أنه في آية الكرسي و أول سورة آل عمران، و ما ورد: أن حروفه متفرقة في سورة الحمد يعرفها الإمام و إذا شاء ألفها و دعي بها فاستجيب له. و ما ورد: أن آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف اسم الله الأعظم فأحضر عرش ملكة سبإ عند سليمان في أقل من طرفة عين، و ما ورد: أن الاسم الأعظم على ثلاث و سبعين حرفا قسم الله بين أنبيائه اثنتين و سبعين منها، و استأثر واحدة منها عنده في علم الغيب، إلى غير ذلك من الروايات المشعرة بأن له تأليفا لفظيا.

و البحث الحقيقي عن العلة و المعلول و خواصها يدفع ذلك كله فإن التأثير الحقيقي يدور مدار وجود الأشياء في قوته و ضعفه، و المسانخة بين المؤثر و المتأثر، و الاسم اللفظي إذا اعتبرنا من جهة خصوص لفظه كان مجموعة أصوات مسموعة هي من الكيفيات العرضية، و إذا اعتبر من جهة معناه المتصور كان صورة ذهنية لا أثر لها من حيث نفسها في شيء البتة، و من المستحيل أن يكون صوت أوجدناه من طريق الحنجرة أو صورة خيالية نصورها في ذهننا بحيث يقهر بوجوده وجود كل شيء، و يتصرف فيما نريده على ما نريده فيقلب السماء أرضا و الأرض سماء و يحول الدنيا إلى الآخرة و بالعكس و هكذا، و هو في نفسه معلول لإرادتنا.

و الأسماء الإلهية و اسمه الأعظم خاصة و إن كانت مؤثرة في الكون و وسائط و أسبابا لنزول الفيض من الذات المتعالية في هذا العالم المشهود لكنها إنما تؤثر بحقائقها لا بالألفاظ الدالة في لغة كذا عليها، و لا بمعانيها المفهومة من ألفاظها المتصورة في الأذهان و معنى ذلك أن الله سبحانه هو الفاعل الموجد لكل شيء بما له من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب، لا تأثير اللفظ أو صورة مفهومة في الذهن أو حقيقة أخرى غير الذات المتعالية.

إلا أن الله سبحانه وعد إجابة دعوة من دعاه كما في قوله: "أجيب دعوة الداع إذا دعان": البقرة: 186، و هذا يتوقف على دعاء و طلب حقيقي، و أن يكون الدعاء و الطلب منه تعالى لا من غيره - كما تقدم في تفسير الآية - فمن انقطع عن كل سبب و اتصل بربه لحاجة من حوائجه فقد اتصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته فيؤثر الاسم بحقيقته و يستجاب له، و ذلك حقيقة الدعاء بالاسم فعلى حسب حال الاسم الذي انقطع إليه الداعي يكون حال التأثير خصوصا و عموما، و لو كان هذا الاسم هو الاسم الأعظم انقاد لحقيقته كل شيء و استجيب للداعي به دعاؤه على الإطلاق.

و على هذا يجب أن يحمل ما ورد من الروايات و الأدعية في هذا الباب دون الاسم اللفظي أو مفهومه.

و معنى تعليمه تعالى نبيا من أنبيائه أو عبدا من عباده اسما من أسمائه أو شيئا من الاسم الأعظم هو أن يفتح له طريق الانقطاع إليه تعالى باسمه ذلك في دعائه و مسألته فإن كان هناك اسم لفظي و له معنى مفهوم فإنما ذلك لأجل أن الألفاظ و معانيها وسائل و أسباب تحفظ بها الحقائق نوعا من الحفظ فافهم ذلك.

و اعلم أن الاسم الخاص ربما يطلق على ما لا يسمى به غير الله سبحانه كما قيل به في الاسمين: الله، و الرحمن.

أما لفظ الجلالة فهو علم له تعالى خاص به ليس اسما بالمعنى الذي نبحث عنه، و أما الرحمن فقد عرفت أن معناه مشترك بينه و بين غيره تعالى لما أنه من الأسماء الحسنى، هذا من جهة البحث التفسيري، و أما من حيث النظر الفقهي فهو خارج عن مبحثنا.

6 - عدد الأسماء الحسنى:

لا دليل في الآيات الكريمة على تعين عدد للأسماء الحسنى تتعين به بل ظاهر قوله: "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى": طه: 8، و قوله "و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها": الأعراف: 180، و قوله: "له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات و الأرض": الحشر: 24، و أمثالها من الآيات أن كل اسم في الوجود هو أحسن الأسماء في معناها فهو له تعالى فلا تتحدد أسماؤه الحسنى بمحدد.

و الذي ورد منها في لفظ الكتاب الإلهي مائة و بضعة و عشرون اسما هي.

أ - الإله، الأحد، الأول، الآخر، الأعلى، الأكرم، الأعلم.



أرحم الراحمين، أحكم الحاكمين، أحسن الخالقين، أهل التقوى، أهل المغفرة، الأقرب الأبقى.

ب - البارىء، الباطن، البديع، البر، البصير.

ت - التواب.

ج - الجبار، الجامع.

ح - الحكيم، الحليم، الحي، الحق، الحميد، الحسيب، الحفيظ، الحفي.

خ - الخبير، الخالق، الخلاق، الخير، خير الماكرين، خير الرازقين، خير الفاصلين، خير الحاكمين، خير الفاتحين، خير الغافرين، خير الوارثين، خير الراحمين، خير المنزلين.

ذ - ذو العرش، ذو الطول، ذو الانتقام، ذو الفضل العظيم، ذو الرحمة، ذو القوة، ذو الجلال و الإكرام، ذو المعارج.

ر - الرحمن، الرحيم، الرءوف، الرب، رفيع الدرجات، الرزاق، الرقيب.

س - السميع، السلام، سريع الحساب، سريع العقاب.

ش - الشهيد، الشاكر، الشكور، شديد العقاب، شديد المحال.

ص - الصمد.

ظ - الظاهر.

ع - العليم، العزيز، العفو، العلي، العظيم، علام الغيوب، عالم الغيب و الشهادة.

غ - الغني، الغفور، الغالب، غافر الذنب، الغفار.

ف - فالق الإصباح، فالق الحب و النوى، الفاطر، الفتاح.

ق - القوي، القدوس، القيوم، القاهر، القهار، القريب: القادر، القدير، قابل التوب، القائم على كل نفس بما كسبت.

ك - الكبير، الكريم، الكافي.

ل - اللطيف.

م - الملك، المؤمن، المهيمن، المتكبر، المصور، المجيد، المجيب، المبين المولى، المحيط، المقيت، المتعال، المحيي، المتين، المتقدر، المستعان، المبدىء، مالك الملك.

ن - النصير، النور.

و - الوهاب، الواحد، الولي، الوالي، الواسع، الوكيل، الودود.

ه - الهادي.

و قد تقدم أن ظاهر قوله: "و لله الأسماء الحسنى" و "له الأسماء الحسنى" أن معاني هذه الأسماء له تعالى حقيقة و على نحو الأصالة، و لغيره تعالى بالتبع فهو المالك لها حقيقة، و ليس لغيره إلا ما ملكه الله من ذلك، و هو مع ذلك مالك لما ملكه غيره لم يخرج عن ملكه بالتمليك، فله سبحانه حقيقة العلم مثلا و ليس لغيره منه إلا ما وهبه له و هو مع ذلك له لم يخرج من ملكه و سلطانه.

و من الدليل على الاشتراك المعنوي في ما يطلق عليه تعالى و على غيره من الأسماء و الأوصاف ما ورد من أسمائه تعالى بصيغة أفعل التفضيل كالأعلى و الأكرم فإن صيغة التفضيل تدل بظاهرها على اشتراك المفضل و المفضل عليه في أصل المعنى، و كذا ما ورد بنحو الإضافة كخير الحاكمين و خير الرازقين و أحسن الخالقين لظهوره في الاشتراك.

7 - هل أسماء الله توقيفية؟

تبين مما تقدم أن لا دليل على توقيفية أسماء الله تعالى من كلامه بل الأمر بالعكس، و الذي استدل به على التوقيف من قوله: "و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه" الآية مبني على كون اللام للعهد، و أن يكون المراد بالإلحاد التعدي إلى غير ما ورد من أسمائه من طريق السمع، و كلا الأمرين مورد نظر لما مر بيانه.

و أما ما ورد مستفيضا مما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "أن لله تسعة و تسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة" أو ما يقرب من هذا اللفظ فلا دلالة فيها على التوقيف.

هذا بالنظر إلى البحث التفسيري، و أما البحث الفقهي فمرجعه فن الفقه و الاحتياط في الدين يقتضي الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق السمع، و أما مجرد الإجراء و الإطلاق من دون تسمية فالأمر فيه سهل.

بحث روائي

في التوحيد، بإسناده عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام): أن لله عز و جل تسعة و تسعين اسما من دعا الله بها استجاب له، و من أحصاها دخل الجنة. أقول: و سيجيء نظيره عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و المراد بقوله: "من أحصاها دخل الجنة" الإيمان باتصافه تعالى بجميع ما تدل عليه تلك الأسماء بحيث لا يشذ عنها شاذ.

و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و أحمد و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن خزيمة و أبو عوانة و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الطبراني و أبو عبد الله بن منده في التوحيد و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي في كتاب الأسماء و الصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لله تسعة و تسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر. أقول: رواها عن أبي نعيم و ابن مردويه عنه، و لفظه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لله مائة اسم غير اسم من دعا بها استجاب الله له دعاءه، و عن الدارقطني في الغرائب عنه و لفظه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال عز و جل: لي تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة. و فيه، أخرج أبو نعيم و ابن مردويه عن ابن عباس و ابن عمر قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لله تسعة و تسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة. أقول: و رواه أيضا عن أبي نعيم عن ابن عباس و ابن عمر و لفظه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لله تسعة و تسعون اسما من أحصاها دخل الجنة، و هي في القرآن. أقول: و الرواية تعارض ما سيأتي من روايات الإحصاء حيث إن جميعها مشتملة على أسماء ليست في القرآن بلفظها إلا أن يكون المراد كونها في القرآن بمعناها.



و في التوحيد، بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لله تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة. و هي. الله، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأول، الآخر، السميع، البصير، القدير، القاهر، العلي، الأعلى، الباقي، البديع، الباري، الأكرم، الظاهر الباطن، الحي، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحق، الحسيب، الحميد، الحفي الرب، الرحمن، الرحيم، الذاري، الرازق، الرقيب، الرءوف، الرائي، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، السيد، سبوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الظاهر، العدل، العفو، الغفور، الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتاح، الفالق، القديم، الملك، القدوس، القوي، القريب، القيوم القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنان، المحيط، المبين، المغيث، المصور، الكريم، الكبير الكافي، كاشف الضر، الوتر، النور، الوهاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البر، الباعث، التواب، الجليل، الجواد، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديان، الشكور، العظيم، اللطيف، الشافي. و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و ابن المنذر و ابن حبان و ابن منده و الطبراني و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لله تسعة و تسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة أنه وتر يحب الوتر: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارىء، المصور، الغفار، القهار، الوهاب الرازق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدىء، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال و الإكرام، الوالي، المتعال، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور. و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في الدعاء و الطبراني كلاهما و أبو الشيخ و الحاكم و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لله تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة: أسأل الله الرحمن، الرحيم، الإله، الرب، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارىء، المصور، الحكيم، العليم، السميع، البصير، الحي، القيوم، الواسع، اللطيف، الخبير، الحنان، المنان البديع، الغفور، الودود، الشكور، المجيد، المبدىء، المعيد، النور، البادي و في لفظ: القائم الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، العفو، الغفار، الوهاب، الفرد و في لفظ: القادر الأحد، الصمد، الوكيل، الكافي، الباقي، المغيث، الدائم، المتعال، ذا الجلال و الإكرام، المولى، النصير، الحق، المبين، الوارث، المنير، الباعث القدير و في لفظ: المجيب المحيي، المميت، الحميد و في لفظ: الجميل الصادق، الحفيظ، المحيط، الكبير، القريب، الرقيب، الفتاح، التواب، القديم، الوتر، الفاطر، الرزاق، العلام، العلي، العظيم، الغني، المليك، المقتدر، الأكرم، الرءوف، المدبر، المالك، القاهر، الهادي، الشاكر، الكريم، الرفيع، الشهيد الواحد، ذا الطول، ذا المعارج، ذا الفضل، الخلاق، الكفيل، الجليل. أقول: و ذكر لفظ الجلالة في هذه الروايات المشتملة على الإحصاء لإجراء الأسماء عليه.

و إلا فهو خارج عن العدد.

و فيه، أخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال: سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة و التسعين التي من أحصاها دخل الجنة فقال: هي في القرآن: ففي الفاتحة خمسة أسماء، يا الله يا رب يا رحمن يا رحيم يا مالك، و في البقرة ثلاثة و ثلاثون اسما: يا محيط يا قدير يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم يا تواب يا بصير يا ولي يا واسع يا كافي يا رءوف يا بديع يا شاكر يا واحد يا سميع يا قابض يا باسط يا حي يا قيوم يا غني يا حميد يا غفور يا حليم يا إله يا قريب يا مجيب يا عزيز يا نصير يا قوي يا شديد يا سريع يا خبير. و في آل عمران: يا وهاب يا قائم يا صادق يا باعث يا منعم يا متفضل، و في النساء: يا رقيب يا حسيب يا شهيد يا مقيت يا وكيل يا علي يا كبير، و في الأنعام يا فاطر يا قاهر يا لطيف يا برهان، و في الأعراف: يا محيي يا مميت، و في الأنفال يا نعم المولى يا نعم النصير، و في هود: يا حفيظ يا مجيد يا ودود يا فعالا لما يريد، و في الرعد: يا كبير يا متعال، و في إبراهيم: يا منان يا وارث، و في الحجر: يا خلاق. و في مريم: يا فرد، و في طه: يا غفار، و في قد أفلح: يا كريم، و في النور: يا حق، يا مبين، و في الفرقان: يا هادي، و في سبإ: يا فتاح، و في الزمر: يا عالم، و في غافر: يا غافر يا قابل التوب يا ذا الطول يا رفيع، و في الذاريات: يا رزاق يا ذا القوة يا متين، و في الطور: يا بر. و في اقتربت: يا مليك يا مقتدر، و في الرحمن: يا ذا الجلال و الإكرام يا رب المشرقين يا رب المغربين يا باقي يا محسن، و في الحديد: يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن، و في الحشر: يا ملك يا قدوس يا سلام يا مؤمن يا مهيمن يا عزيز يا جبار يا متكبر يا خالق يا بارىء يا مصور، و في البروج يا مبدىء يا معيد، و في الفجر: يا وتر، و في الإخلاص: يا أحد يا صمد. أقول: و الرواية لا تخلو عن تشويش فإن فيه إدخال لفظ الجلالة في الأسماء التسعة و التسعين و ليس منها، و قد كرر بعض الأسماء كالكبير، و قد ذكر في أولها التسعة و التسعون، و أنهيت إلى مائة و عشرة أسماء، و فيها مع ذلك موضع مناقشات أخر فيما يذكر من وجود الاسم في بعض السور كالفرد في سورة مريم، و البرهان في سورة الأنعام.

إلى غير ذلك.

و على أي حال ظهر لك من هذه الروايات و هي التي عثرنا عليها من الروايات الإحصاء أنها لا تدل على انحصار الأسماء الحسنى فيما تحصيها مع ما فيها من الاختلاف في الأسماء، و ذكر بعض ما ليس في القرآن الكريم بلفظ الاسمية، و ترك بعض ما في القرآن الكريم بلفظ الاسمية بل غاية ما تدل عليه أن من أسماء الله تسعة و تسعين من خاصتها أن من دعا بها استجيب له، و من أحصاها دخل الجنة.

على أن هناك روايات أخرى تدل على كون أسمائه تعالى أكثر من تسعة و تسعين كما سيأتي بعضها، و في الأدعية المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) شيء كثير من أسماء الله غير ما ورد منها في القرآن و أحصي في روايات الإحصاء.

و في الكافي، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت، و باللفظ غير منطق، و بالشخص غير مجسد، و بالتشبيه غير موصوف، و باللون غير مصبوغ منفي عنه الأقطار مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم مستتر غير مستور. فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحدا قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها، و حجب واحدا منها و هو الاسم المكنون و المخزون فهذه الأسماء التي ظهرت فالظاهر هو الله، تبارك، و تعالى، و سخر سبحانه لكل اسم من هذه الأسماء أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها: فهو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، الخالق، البارىء، المصور، الحي، القيوم، لا تأخذه سنة و لا نوم، العليم، الخبير، السميع، الحكيم، العزيز، الجبار، المتكبر، العلي، العظيم، المقتدر، القادر، السلام، المؤمن، المهيمن، البارىء، المنشىء، البديع، الرفيع، الجليل، الكريم، الرازق، المحيي، المميت، الباعث، الوارث. فهذه الأسماء و ما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاثمائة و ستين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة، و هذه الأسماء الثلاثة أركان، و حجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، و ذلك قوله عز و جل: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن - أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى". أقول: قوله (عليه السلام): إن الله تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت "إلخ" هذه الصفات المعدودة صريحة في أن المراد بهذا الاسم ليس هو اللفظ، و لا معنى يدل عليه اللفظ من حيث إنه مفهوم ذهني فإن اللفظ و المفهوم الذهني الذي يدل عليه لا معنى لاتصافه بالأوصاف التي وصفه بها و هو ظاهر، و كذا يأبى عنه ما ذكره في الرواية بعد ذلك فليس المراد بالاسم إلا المصداق المطابق للفظ لو كان هناك لفظ، و من المعلوم أن الاسم بهذا المعنى - و خاصة بالنظر إلى تجزيه بمثل: الله و تبارك و تعالى - ليس إلا الذات المتعالية أو هو قائم بها غير خارج عنها البتة.

فنسبة الخلق إلى هذا الاسم في قوله: "خلق اسما" يكشف عن كون المراد بالخلق غير المعنى المتعارف منه، و أن المراد به ظهور الذات المتعالية ظهورا ينشأ به اسم من الأسماء و حينئذ ينطبق الخبر على ما تقدم بيانه أن الأسماء مترتبة فيما بينها و بعضها واسطة لثبوت بعض، و تنتهي بالآخرة إلى اسم تعينها عين عدم التعين.

و تقيد الذات المتعالية به عين عدم تقيدها بقيد.

و قوله: "فالظاهر هو الله تبارك و تعالى" إشارة إلى الجهات العامة التي تنتهي إليها جميع الجهات الخاصة من الكمال، و يحتاج الخلق إليها من جميع جهات فاقتها و حاجتها، و هي ثلاث: جهة استجماع الذات لكل كمال، و هي التي يدل عليها لفظ الجلالة و جهة ثبوت الكمالات و منشئية الخيرات و البركات، و هي التي يدل عليه اسم تبارك، و جهة انتفاء النقائص و ارتفاع الحاجات و هي التي يدل عليه لفظ تعالى.

و قوله: فعلا منسوبا إليها "أي إلى الأسماء و هو إشارة إلى ما قدمناه من انتشاء اسم من اسم.

و قوله: "حتى تتم ثلاث مائة و ستين اسما" صريح في عدم انحصار الأسماء الإلهية في تسعة و تسعين.

و قوله: "و هذه الأسماء الثلاثة أركان و حجب" إلخ فإن الاسم المكنون المخزون لما كان اسما فهو تعين و ظهور من الذات المتعالية، و إذ كان مكنونا بحسب ذاته غير ظاهر بحسب نفسه فظهوره عين عدم ظهوره و تعينه عين عدم تعينه، و هو ما يعبر عنه أحيانا بقولنا: إنه تعالى ليس بمحدود بحد حتى بهذا الحد العدمي لا يحيط به وصف و لا نعت حتى هذا الوصف السلبي، و هذا بعينه توصيف منا و الذات المتعالية أعظم منه و أكبر.



و لازمه أن يكون اسم الجلالة الكاشف عن الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال اسما من أسماء الذات دونها و دون هذا الاسم المكنون المخزون، و كذا "تبارك" و "تعالى" ثلاثة أسماء معا سدنة و حجابا للاسم المكنون من غير أن يتقدم بعضها بعضا، و هذه الحجاب الثلاثة و الاسم المكنون المحجوب بها جميعا دون الذات، و أما هي فلا ينتهي إليها إشارة و لا يقع عليها عبارة، إذ كلما تحكيه عبارة أو تومىء إليه إشارة اسم من الأسماء محدود بهذا النحو، و الذات المتعالية أعلى منه و أجل.

و قوله: "و ذلك قوله تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" وجه الاستفادة أن الضمير في قوله: "فله" راجع إلى "أي" و هو اسم شرط من الكنايات لا تعين لمعناه إلا عدم التعين، و من المعلوم أن المراد بالله و بالرحمن في الآية هو مصداق اللفظين لا نفسهما فلم يقل ادعوا بالله أو بالرحمن بل ادعوا الله الآية فمدلول الآية أن الأسماء منسوبة قائمة جميعا بمقام لا خبر عنه و لا إشارة إليه إلا بعدم الخبر و الإشارة فافهم ذلك.

و في الرواية أخذ "تبارك" و كذا "تعالى" و كذا "لا تأخذه سنة و لا نوم" من الأسماء و هو مبني على مجرد الدلالة على الذات المأخوذة بصفة من صفاته من غير رعاية المصطلح الأدبي.

و الرواية من غرر الروايات تشير إلى مسألة هي أبعد سمكا من مستوى الأبحاث العامة و الأفهام المتعارفة، و لذلك اقتصرنا في شرح الرواية على مجرد الإشارات و أما الإيضاح التام فلا يتم إلا ببحث مبسوط خارج عن طوق المقام غير أنها لا تبتني على أزيد مما تقدم من البحث عن نسب الأسماء و الصفات إلينا و نسب ما بينها الموضوع في الفصل الرابع من الكلام في الأسماء فعليك بإبقائها حتى تنجلي لك المسألة حق الانجلاء و الله الموفق.

و في البصائر، بإسناده عن الباقر (عليه السلام) قال: إن اسم الله الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا، و إنما عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض فيما بينه و بين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، و عندنا نحن من الاسم اثنان و سبعون حرفا، و حرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم. و فيه، أيضا بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل جعل اسمه الأعظم على ثلاث و سبعون حرفا فأعطى آدم منها خمسة و عشرين حرفا و أعطى نوحا منها خمسة و عشرين حرفا، و أعطى منها إبراهيم ثمانية أحرف، و أعطى موسى منها أربعة أحرف، و أعطى عيسى منها حرفين و كان يحيي بهما الموتى و يبرىء بهما الأكمه و الأبرص، و أعطى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) اثنين و سبعين حرفا، و احتجب حرفا لئلا يعلم ما في نفسه و يعلم ما في نفس غيره ظ. أقول: و في مساق الروايتين بعض روايات أخر، و لا ينبغي أن يرتاب في أن كونه مفرقا إلى ثلاث و سبعين حرفا أو مؤلفا من حروف لا يستلزم كونه بحقيقة مؤلفا من حروف الهجاء كما تقدمت الإشارة إليه، و في الروايتين دلالة على ذلك فإنه يعد الاسم و هو واحد ثم يفرق حروفه بين الأنبياء و يستثني واحدا، و لو كان من قبيل الأسماء اللفظية الدالة بمجموع حروفه على معنى واحد لم ينفع أحدا منهم (عليهم السلام) ما أعطيه شيئا البتة.

و في التوحيد، بإسناده عن علي (عليه السلام) في خطبة له: إن ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف؟ عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله، و بعد كل شيء لا يقال له بعد شاء الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، هو في الأشياء كلها غير متمازج بها و لا بائن عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، جاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة.

أقول: هو (عليه السلام) - كما يشاهد - يثبت في صفاته و أسمائه تعالى أصل المعاني و ينفي خصوصيات المصاديق الممكنة و نواقص المادة، و هو الذي قدمنا بيانه سابقا: و هذه المعاني واردة في أحاديث كثيرة جدا مروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و خاصة ما ورد عن علي و الحسن و الحسين و الباقر و الصادق و الكاظم و الرضا (عليهما السلام) في خطب كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث، و الله الهادي.

و في المعاني، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: فليس له شبه و لا مثل و لا عدل، و لله الأسماء الحسنى التي لا يسمى بها غيره، و هي التي وصفها الله في الكتاب فقال: "فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه" جهلا بغير علم و هو لا يعلم و يكفر و هو يظن أنه يحسن؟ فذلك قوله: "و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون" فهم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها. أقول: و الحديث يؤيد ما قدمناه في معنى كون الأسماء حسنى و الإلحاد فيها، و قوله (عليه السلام): "لا يسمى بها غيره" أي لا يوصف بالمعاني التي جردت لها و صح تسميته بها غيره تعالى كإطلاق الخالق بحقيقة معناه الذي له تعالى لغيره، و على هذا القياس.

و في الكافي، بإسناده إلى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل "و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها" قال: نحن و الله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد إلا بمعرفتنا:. أقول: و رواه العياشي عنه (عليه السلام)، و فيه أخذ الاسم بمعنى ما دل على الشيء سواء كان لفظا أو غيره، و عليه فالأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام) أسماء دالة عليه تعالى وسائط بينه و بين خلقه، و لأنهم في العبودية بحيث ليس لهم إلا الله سبحانه فهم المظهرون لأسمائه و صفاته تعالى.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون" قال هم الأئمة: أقول: و رواه العياشي عن حمران عنه (عليه السلام) قال: و قال محمد بن عجلان عنه (عليه السلام): "نحن هم" و قد تقدم ما يؤيده في البيان المتقدم.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: "و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون" قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل. و في تفسير البرهان، عن موفق بن أحمد عن السري عن ابن المنذر عن الحسين بن سعيد عن أبيه عن أبان بن تغلب عن فضل عن عبد الملك الهمداني عن زادان عن علي قال يفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعون فرقة اثنتان و سبعون في النار، و واحدة في الجنة، و هم الذين قال الله عز و جل في حقهم: "و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون" أنا و شيعتي. أقول: و روى العياشي عن زادان عنه (عليه السلام): مثله، و في آخره: "و هم على الحق" مكان قوله: "أنا و شيعتي".

و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: "و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون، رواية العياشي عن أبي الصهباء عن علي (عليه السلام) ما في معناه، و كذا رواية السيوطي في الدر المنثور بطرق عنه مثله.



و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن السمط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة و يذكره الاستغفار، و إذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار و يتمادى بها، و هو قوله عز و جل: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" بالنعم عند المعاصي. و فيه، بإسناده عن سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" قال: هو العبد يذنب الذنب فيجدد له النعم معه تلهيه تلك النعم عن الاستغفار من ذلك الذنب:. أقول: و رواه أيضا بإسناده عن ابن رئاب عن بعض أصحابنا عنه (عليه السلام) مثله. و فيه، بإسناده عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما روى الناس: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة" قلت: كيف؟ يتفكر؟ قال: يمر بالخربة أو بالدار فيقول أين ساكنوك؟ أين بانوك؟ ما لك لا تتكلمين؟. أقول: و هو من قبيل إراءة بعض المصاديق الظاهرة.

و فيه، بإسناده عن معمر بن خلاد قال سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: ليس العبادة كثرة الصلاة و الصوم. إنما العبادة التفكر في أمر الله عز و جل. و فيه، بإسناده عن الربعي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام): التفكر يدعو إلى البر و العمل به. و فيه، بإسناده عن محمد بن أبي النصر عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أفضل العبادة إدمان التفكر في الله و في قدرته. و في تفسير القمي،: في تفسير قوله تعالى: "و يذرهم في طغيانهم يعمهون" قال: قال نكله إلى نفسه. أقول: و معنى تركهم يعمهون في طغيانهم عدم إعانتهم على أنفسهم و تركهم و إياها بقطع التوفيق فينطبق على الوكول إلى النفس.

7 سورة الأعراف - 187 - 188

يَسئَلُونَك عَنِ الساعَةِ أَيّانَ مُرْساهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبى لا يجَلِّيهَا لِوَقْتهَا إِلا هُوَ ثَقُلَت فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ لا تَأْتِيكمْ إِلا بَغْتَةً يَسئَلُونَك كَأَنّك حَفِىّ عَنهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَ لَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُل لا أَمْلِك لِنَفْسى نَفْعاً وَ لا ضراّ إِلا مَا شاءَ اللّهُ وَ لَوْ كُنت أَعْلَمُ الْغَيْب لاستَكثرْت مِنَ الْخَيرِ وَ مَا مَسنىَ السوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

بيان

في الآيتين إبانة أن علم الساعة من الغيب المختص به تعالى لا يعلمه إلا الله، و لا دليل لتعيين وقتها و الحدس لوقوعها أصلا فلا تأتي إلا بغتة.

و فيه إشارة ما إلى حقيقتها بذكر بعض أوصافها.

قوله تعالى: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها - إلى قوله - إلا هو" الساعة ساعة البعث و الرجوع إلى الله لفصل القضاء العام فاللام للعهد لكنه صار في عرف القرآن و الشرع كالحقيقة في هذا المعنى.

و المرسى اسم زمان و مكان و مصدر ميمي من أرسيت الشيء إذا أثبته، أي متى وقوعها و ثبوتها، و التجلية الكشف و الإظهار يقال جلاه فانجلى أي كشف عنه فانكشف.

فقوله: "لا يجليها لوقتها إلا هو" أي لا يظهرها و لا يكشف عنها في وقتها و عند وقوعها إلا الله سبحانه، و يدل ذلك على أن ثبوتها و وجودها و العلم بها واحد أي إنها محفوظة في مكمن الغيب عند الله تعالى يكشف عنها و يظهرها متى شاء من غير أن يحيط بها غيره سبحانه أو يظهر لشيء من الأشياء، و كيف يمكن أن يحيط بها شيء من الأشياء أو ينكشف عنده، و تحققها و ظهورها يلازم فناء الأشياء، و لا شيء منها يسعه أن يحيط بفناء نفسه أو يظهر له فناء ذاته، و النظام السببي الحاكم في الكون يتبدل عند وقوعها، و هذا العلم الذي يصحبها من هذا النظام.

و من هنا يظهر: أن المراد بقوله: "ثقلت في السموات و الأرض" - و الله أعلم - ثقل علمها في السماوات و الأرض و هو بعينه ثقل وجودها فلا ثمرة لاختلافهم في أن المراد بثقل الساعة فيها ثقل علمها عليها، أو المراد ثقل صفتها على أهل السماوات و الأرض لما فيها من الشدائد و العقاب و الحساب و الجزاء، أو ثقل وقوعها عليهم لما فيها من انطواء السماء و انتشار الكواكب و اجتماع الشمس و القمر و تسيير الجبال، أو أن السماوات و الأرض لا تطيق حملها لعظمتها و شدتها.

و ذلك أنها ثقيلة بجميع ما يرجع إليها من ثبوتها و العلم بها و صفاتها على السماوات و الأرض، و لا تطيق ظهورها لملازمته فناءها و الشيء لا يطيق فناء نفسه.

و من ذلك يظهر أيضا وجه قوله سبحانه: "لا تأتيكم إلا بغتة" فإن البغتة و الفجأة ظهور الشيء من غير أن يعلم به قبل ظهوره، و الساعة لثقلها لا يظهر وصف من أوصافها، و لا جزء من أجزائها قبل ظهورها التام، و لذلك كان ظهورها لجميع الأشياء بغتة.

و من هنا أيضا يظهر معنى تتمة الآية: "يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله" الآية على ما سيأتي.

قوله تعالى: "يسألونك كأنك حفي عنها" إلى آخر الآية، قال الراغب: الحفي العالم بالشيء انتهى و كأنه مأخوذ من حفيت في السؤال إذا ألححت، و قوله: كأنك حفي" متخلل بين يسألونك و الظرف المتعلق به، و الأصل: يسألونك عنها كأنك حفي عالم بها، و هو يلوح إلى أنهم كرروا السؤال و ألحوا عليه، و لذلك كرر السؤال و الجواب بوجه في اللفظ.

ففي قوله ثانيا: "يسألونك كأنك حفي عنها" إشعار أو دلالة على أنهم حسبوا أن جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر ربه أولا: "إنما علمها عند ربي" من قبيل إحالة علم ما لا يعلمه إلى ربه - على ما هو من أدب الدين - و لذا قال: "عند ربي" إشعارا بالعبودية و وظيفتها، و أن قوله: "لا يجليها لوقتها إلا هو" وصف لعظمتها من غير أن يرتبط ذلك بالعلم بوقتها، و لذلك كله كرروا السؤال ليقول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك شيئا أو يعترف بجهله لنفسه.

فأمره الله سبحانه أن يعيد الجواب عليهم: "إنما علمها عند الله" دالا به على أن القول جد و الجواب فصل، فهو من العلم لا من الجهل، و الغرض به إفادة العلم بانحصار علمها فيه تعالى دون الجهل بها، و إحالة علمها إلى ربه عملا بوظيفة العبودية، و لذا بدل قوله في الجواب الأول "عند ربي" في هذا الجواب الثاني إلى قوله "عند الله".

ثم قال: "و لكن أكثر الناس لا يعلمون" يشير به إلى جهلهم بمعنى قوله: "إنما علمها عند ربي" الآية فإنهم لأنسهم بالحس و المحسوس يقيسون كل شيء سمعوه إلى المحسوس، و يعممون حكمه عليه فيظنون أن كل ما وصف لهم بوجه يسع لهم أن يعلموه و يحيطوا به علما، و أنه لو كان هناك أمر أخفي عنهم فإنما يخفى بالكتمان، و لو أظهر لهم أحاطوا به علما كسائر ما عندهم من الأمور المحسوسة، و قد أخطأ قياسهم و اشتبه عليهم فإن بعض ما في الغيب و من جملته الساعة لا يطيق علمه إلا الله سبحانه.

و قد ظهر من الآية أن علم الساعة مما لا يطيقه شيء من الأشياء إلا الله سبحانه، و كذا حقيقة ما له من الأوصاف و النعوت فإن الجميع ثقيلة بثقلها.

قوله تعالى: "قل لا أملك لنفسي نفعا و لا ضرا إلا ما شاء الله" إلى آخر الآية لما كان في سؤالهم الغيب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إيهام أن دعواه النبوة دعوى لعلم الغيب، و لا يعلم الغيب حقيقة غيره تعالى إلا بوحي و تعليم إلهي، أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتبرأ من دعوى العلم بالغيب.

و حقيقة السبب في اختصاص العلم بالغيب به تعالى أن غيره تعالى أيا ما كان محدود الوجود لا سبيل له إلى الخارج منه الغائب عنه من حيث إنه غائب، و لا شيء غير محدود و لا غير متناه محيط بكل شيء إلا الله سبحانه فله العلم بالغيب.

لكن لما كان أولئك السائلون لا يسعهم فهم هذا السبب على ما لهم من الأفهام البسيطة العامية أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكلمهم بما يسعهم فهمه، و هو أن العلم بالغيب يهدي الإنسان إلى كل خير و شر و العادة تأبى أن يعلم أحد الخير و الشر و يهتدي إلى موقعهما ثم لا يستفيد من ذلك لنفسه فالإنسان إذا لم يستكثر من الخير و لم يوق من الشر كيف يعلم الغيب؟.

فقوله في صدر الآية: "قل لا أملك لنفسي" الآية وصف لنفسه بما ينافي نتيجة العلم بالغيب ثم قوله: "و لو كنت أعلم الغيب" الآية بيان نتيجة العلم بالغيب، لينتج من الفصلين عدم علمه بالغيب، ثم قوله: "إن أنا إلا نذير" بيان حقيقة حاله فيما يدعيه من الرسالة من غير أن يكون معها دعوى أخرى.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله "يسألونك عن الساعة أيان مرساها" الآية، قال: قال: إن قريشا بعثوا العاص بن وائل السهمي، و النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط إلى نجران ليتعلموا من علماء اليهود مسائل يسألونها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان فيما سألوا محمدا متى تقوم الساعة أنزل الله تعالى: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها" الآية. و في تفسير العياشي، عن خلف بن حماد عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله يقول في كتابه: "و لو كنت أعلم الغيب - لاستكثرت من الخير و ما مسني السوء" يعني الفقر:. أقول: و رواه أيضا الصدوق في المعاني، بإسناده عن خلف بن حماد عن رجل عنه (عليه السلام)، و رواه الحسين بن بسطام في طب الأئمة، عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام).

7 سورة الأعراف - 189 - 198

هُوَ الّذِى خَلَقَكُم مِّن نّفْسٍ وَحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنهَا زَوْجَهَا لِيَسكُنَ إِلَيهَا فَلَمّا تَغَشاهَا حَمَلَت حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرّت بِهِ فَلَمّا أَثْقَلَت دّعَوَا اللّهَ رَبّهُمَا لَئنْ ءَاتَيْتَنَا صلِحاً لّنَكُونَنّ مِنَ الشكِرِينَ (189) فَلَمّا ءَاتَاهُمَا صلِحاً جَعَلا لَهُ شرَكاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا فَتَعَلى اللّهُ عَمّا يُشرِكُونَ (190) أَ يُشرِكُونَ مَا لا يخْلُقُ شيْئاً وَ هُمْ يخْلَقُونَ (191) وَ لا يَستَطِيعُونَ لهَُمْ نَصراً وَ لا أَنفُسهُمْ يَنصرُونَ (192) وَ إِن تَدْعُوهُمْ إِلى الهُْدَى لا يَتّبِعُوكُمْ سوَاءٌ عَلَيْكمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صمِتُونَ (193) إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَستَجِيبُوا لَكمْ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (194) أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشونَ بهَا أَمْ لهَُمْ أَيْدٍ يَبْطِشونَ بهَا أَمْ لَهُمْ أَعْينٌ يُبْصِرُونَ بهَا أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسمَعُونَ بهَا قُلِ ادْعُوا شرَكاءَكُمْ ثمّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ (195) إِنّ وَلِيِّىَ اللّهُ الّذِى نَزّلَ الْكِتَب وَ هُوَ يَتَوَلى الصلِحِينَ (196) وَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَستَطِيعُونَ نَصرَكمْ وَ لا أَنفُسهُمْ يَنصرُونَ (197) وَ إِن تَدْعُوهُمْ إِلى الهُْدَى لا يَسمَعُوا وَ تَرَاهُمْ يَنظرُونَ إِلَيْك وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)

بيان

الكلام في الآيات جار على ما جرت عليه سائر آيات السورة من مواثيق النوع الإنساني و نقضها على الأغلب الأكثر.

قوله تعالى: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة" إلى آخر الآيتين.

الكلام في الآيتين جار مجرى المثل المضروب لبني آدم في نقضهم موثقهم الذي واثقوه، و ظلمهم بآيات الله.

و المعنى "هو الذي خلقكم" يا معشر بني آدم "من نفس واحدة" هو أبوكم "و جعل منها" أي من نوعها "زوجها ليسكن" الرجل الذي هو النفس الواحدة "إليها" أي إلى الزوج التي هي امرأته "فلما تغشاها" و التغشي هو الجماع "حملت حملا خفيفا" و المحمول النطفة و هي خفيفة "فمرت به" أي استمرت الزوج بحملها تذهب و تجيء و تقوم و تقعد حتى نمت النطفة في رحمها و صارت جنينا ثقيلا أثقلت به الزوج "فلما أثقلت دعوا الله ربهما" و عاهداه و واثقاه "لئن آتيتنا" و رزقتنا ولدا "صالحا" يصلح للحياة و البقاء بكونه إنسانا سويا تام الأعضاء غير ذي عاهة و آفة فإن ذلك هو المرجو للولد حين ولادته و بدء نشوئه دون الصلاح الديني "لنكونن من الشاكرين" لك بإظهار نعمتك، و الانقطاع إليك في أمره لا نميل إلى سبب دونك، و لا نتعلق بشيء سواك.

"فلما آتاهما صالحا" كما سألاه و جعله إنسانا سويا صالحا للبقاء و قرت به أعينهما "جعلا له شركاء فيما آتاهما" من الولد الصالح حيث بعثتهما المحبة و الشفقة عليه أن يتعلقا بكل سبب سواه، و يخضعا لكل شيء دونه مع أنهما كانا قد اشترطا له أن يكونا شاكرين له غير كافرين لنعمته و ربوبيته فنقضا عهدهما و شرطهما.

و هكذا عامة الإنسان إلا من رحمة الله مهتمون بنقض مواثيقهم و خلف وعدهم، و عدم الوفاء بعهدهم مع الله "فتعالى الله عما يشركون".

و القصة - كما ترى - يمكن أن يراد بها بيان حال الأبوين من نوع الإنسان في استيلادهما الولد بالاعتبار العام النوعي فإن كل إنسان فإنه مولود أبويه فالكثرة الإنسانية نتيجة أبوين يولدان ولدا كما في قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل": الحجرات: 13.

و الغالب على حال الأبوين و هما يحبان ولدهما و يشفقان عليه أن ينقطعا طبعا إلى الله في أمر ولدهما و إن لم يلتفتا إلى تفصيل انقطاعهما كما ينقطع راكب البحر إلى الله سبحانه إذا تلاطمت و أخذت أمواجها تلعب به ينقطع إلى ربه و إن لم يعبد ربا قط فإنما هو حال قلبي يضطر الإنسان إليه.

فللأبوين انقطاع إلى ربهما في أمر ولدهما لئن آتيتنا صالحا نرضاه لنكونن من الشاكرين فلما استجاب لهما و آتاهما صالحا جعلا له شركاء و تشبثا في حفظه و تربيته بكل سبب، و لاذا إلى كل كهف.

و يؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: "فتعالى الله عما يشركون" فإن المراد بالنفس و زوجها في صدر الكلام لو كان شخصين من الإنسان بعينهما كآدم و حواء مثلا كان من حق الكلام أن يقال: فتعالى الله عن شركهما أو عما أشركا.



على أنه تعالى يعقب هذه الآية بآيات أخر يذم فيها الشرك و يوبخ المشركين بما ظاهره أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله، و حاشا أن يكون صفي الله آدم يعبد غير الله و قد نص الله سبحانه على أنه اجتباه و هداه، و نص على أن لا سبيل للضلال على من هداه الله و أي ضلال أضل من عبادة غير الله، قال تعالى: "ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى": طه: 122، و قال: "و من يهد الله فهو المهتد": إسراء: 97، و قال: "و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة": الأحقاف: 5 و بذلك يظهر أن الضلال و الشرك غير منسوب إلى آدم و إن لم نقل بنبوته أو قلنا بها و لم نقل بعصمة الأنبياء (عليهم السلام) و إن أريد بالنفس و زوجها في القصة آدم و زوجته كان المراد بشركهما المذكور في الآية أنهما اشتغلا بتربية الولد و اهتما في أمره بتدبير الأسباب و العوامل، و صرفهما ذلك عن بعض ما لهما من التوجه إلى ربهما و الخلوص في ذلك، و من الدليل على ذلك قوله تعالى حكاية عنهما: "لنكونن من الشاكرين" و قد تقدم في تفسير أوائل هذه السورة في قوله: "و لا تجد أكثرهم شاكرين": الآية: 17 أن الشاكرين في عرف القرآن هم المخلصون - بفتح اللام - الذين لا سبيل لإبليس عليهم و لا دبيب للغفلة في قلوبهم فالعتاب المتوجه إليهما في قوله: "فتعالى الله عما يشركون" إنما هو بالشرك بمعنى الاشتغال عن الله بغيره من الأسباب الكونية يوجه خلاف إخلاص القلب له تعالى.

لكن يبقى عليه إتيان قوله: "فتعالى الله عما يشركون" بصيغة الجمع، و تعقيبه بما ظاهره أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله.

و ربما دفعه بعضهم بأن الآية في التخصيص أولا و التعميم ثانيا عكس قوله تعالى: "هو الذي يسيركم في البر و البحر حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم بريح طيبة": يونس 22 حيث خاطب أولا عامتهم بالتسيير ثم خص الكلام براكبي الفلك منهم خاصة، و الآية التي نحن فيها تخص أول القصة بآدم و زوجته فهما المعنيان بقوله: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها" ثم انقضى حديث آدم و زوجته، و خص بالذكر المشركون من بني آدم الذين سألوا ما سألوا، و جعلوا له شركاء فيما آتاهم أي إن كل اثنين منهم يولدان ولدا هذا حالهما من العهد ثم النقض.

و فيه أن قوله: "هو الذي يسيركم" الآية محفوف بقرينة قطعية تدل على المراد و تزيل اللبس بخلاف التدرج من الخصوص إلى العموم في هذه الآية فإنه موقع في اللبس لا يصار إليه في الكلام البليغ، اللهم إلا أن يجعل قوله: "فتعالى الله عما يشركون" إلى آخر الآيات قرينة على ذلك.

و كيف كان فهذا الوجه كالمأخوذ من الوجهين الأولين بحمل صدر الآية على الوجه الثاني و ذيلها على الوجه الأول.

و ربما دفع الاعتراض السابق بأن في الكلام حذفا و إيصالا و التقدير: "فلما آتاهما أي آدم و حواء صالحا جعل أولادهما له شركاء" فحذف المضاف و هو الأولاد، و أقيم المضاف إليه و هو ضمير التثنية المدلول عليه في قوله: "جعلا مقامه".

و فيه أنه لا دليل عليه.

و ربما التزم بعض المفسرين الإشكال، و تسلم أن المراد بهما آدم و زوجته، و أنهما أشركا بالله عملا بروايات وردت في القصة عن بعضهم، و هي موضوعة أو مدسوسة مخالفة للكتاب لا سبيل إلى الأخذ بأمثالها.

قوله تعالى: "أ يشركون ما لا يخلق شيئا و هم يخلقون" إلى آخر الآيات الثلاث.

صدر الآيات و إن احتمل أن يكون المراد الشرك بالأصنام أو بسائر الأسباب غير الله، التي الاعتماد عليها نوع من الشرك لكن ذيلها ظاهر في أن المراد هو الشرك بالأصنام المتخذة آلهة و هي جماد لا يستطيع نصر من يعبدها و لا نصر أنفسها، و لا يشعر بشيء من الدعاء و عدمه.

قوله تعالى: "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم - إلى قوله - يسمعون بها" احتجاج على مضمون الآيات الثلاث السابقة، و المعنى إنما قلنا إنهم مخلوقون لا يقدرون على شيء لأنهم عباد أمثالكم فكما أنكم مخلوقون مدبرون كذلك هم.

و الحجة عليه أنهم لا يستجيبون لكم إن دعوتموهم فادعوهم إن كنتم صادقين في دعواكم أن لهم علما و قدرة و إنما نسب إليهم دعوى كونهم ذوي علم و قدرة لما في دعوتهم من الدلالة على ذلك - و كيف يستجيبون لكم؟ و ليست ما عبأتم لهم من الأرجل و الأيدي ماشية و باطشة، و لا ما صورتم لهم من الأعين و الآذان مبصرة و سامعة لأنهم جمادات.

و في الآيات إطلاق العباد على الجمادات.



قوله تعالى: "قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون" إلى آخر الآيات ثم أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكر عليهم على انتصارهم بأربابهم و آلهتهم بالتحدي و الإعجاز ليستبين سبيله من سبيلهم، و يظهر أن ربه هو الله الذي له كل العلم و القدرة، و أن أربابهم لا يملكون علما ليهتدوا به إلى شيء و لا قدرة لينصروهم في شيء.

فقال: قل لهم ادعوا شركاءكم لنصركم علي ثم كيدوني فلا تنظروني و لا تمهلوني إن ربي ينصرني و يدفع عني كيدكم فإنه الذي نزل الكتاب ليهدي به الناس، و هو يتولى الصالحين من عباده فينصرهم، و هو القائل: إن الأرض يرثها عبادي الصالحون و أنا من الصالحين فينصرني و لا محالة، و أما أربابكم الذين تدعون من دونه فلا يستطيعون نصركم و لا نصر أنفسهم و لا يسمعون و لا يبصرون فلا قدرة لهم و لا علم.

و في الآيات أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أنه من الصالحين و لم يعهد فيما يخبر به القرآن من صلاح الأنبياء مثل ذلك في غيره (صلى الله عليه وآله وسلم).

و فيها التحدي على الأصنام و عبدتهم كما تحدى بذلك غيره من الأنبياء (عليهم السلام).

بحث روائي

في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا (عليه السلام) في حديث: قال له المأمون: فما معنى قوله تعالى: "فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما" فقال الرضا (عليه السلام) إن حواء ولدت لآدم خمس مائة بطن في كل بطن ذكرا و أنثى، و إن آدم و حواء عاهدا الله تعالى و دعواه و قالا: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا من النسل خلقا سويا بريئا من الزمانة و العاهة كان ما آتاهما صنفين: صنفا ذكرانا و صنفا إناثا فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما، و لم يشكراه كشكر أبويهما له عز و جل قال المأمون: أشهد أنك ابن رسول الله حقا. أقول: مرجعه إلى بعض الوجوه السابقة في دفع ما أورد على الآية، و قد وردت في تفسير الآية عدة من الروايات مروية عن سمرة بن جندب و أبي و زيد و ابن عباس فيها أن آدم و حواء لم يكن يعيش لهما ولد فأمرهما الشيطان أو أمر حواء أن يسمياه عبد الحارث حتى يعيش - و كان الحارث اسمه في السماء - و في بعضها: عبد الشمس، و في بعضها: أنه خوفها أن تلد ناقة أو بقرة أو بهيمة أخرى، و شرط لها إن سمته عبد الحارث ولدت إنسانا سويا.

الأحاديث.

و هي موضوعة أو مدسوسة من الإسرائيليات.

و قد روي في المجمع، عن تفسير العياشي عنهم (عليهم السلام): أنه كان شركهما شرك طاعة و لم يكن شرك معصية، و ظاهره أنه جرى على ما يجري عليه تلك الأحاديث فحاله حالها و كيف يفرق بين الطاعة و العبادة و خاصة في مورد إبليس و قد قال تعالى: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني": يس: 61 و مع ذلك فقد ذكر بعضهم أن هذه الروايات لا تدل على أزيد من الإشراك في التسمية، و ليس ذلك بكفر و لا معصية، و اختاره الطبري هذا.

7 سورة الأعراف - 199 - 206

خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِض عَنِ الجَْهِلِينَ (199) وَ إِمّا يَنزَغَنّك مِنَ الشيْطنِ نَزْغٌ فَاستَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنّ الّذِينَ اتّقَوْا إِذَا مَسهُمْ طئفٌ مِّنَ الشيْطنِ تَذَكرُوا فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوَنُهُمْ يَمُدّونهُمْ فى الْغَىِّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَ إِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنّمَا أَتّبِعُ مَا يُوحَى إِلىّ مِن رّبى هَذَا بَصائرُ مِن رّبِّكمْ وَ هُدًى وَ رَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَ إِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاستَمِعُوا لَهُ وَ أَنصِتُوا لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَ اذْكُر رّبّك فى نَفْسِك تَضرّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الاَصالِ وَ لا تَكُن مِّنَ الْغَفِلِينَ (205) إِنّ الّذِينَ عِندَ رَبِّك لا يَستَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسجُدُونَ (206)

بيان

الآيات ختام السورة، و فيها رجوع إلى ذكر معنى الغرض الذي نزلت فيه السورة ففيها أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسيرة الحسنة الجميلة التي تميل إليها القلوب، و تسكن إليها النفوس، و أمره بالتذكر ثم بالذكر أخيرا.

قوله تعالى: "خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين" الأخذ بالشيء هو لزومه أو عدم تركه فأخذ العفو ملازمة الستر على إساءة من أساء إليه، و الإغماض عن حق الانتقام الذي يعطيه العقل الاجتماعي لبعضهم على بعض.

هذا بالنسبة إلى إساءة الغير بالنسبة إلى نفسه و التضييع لحق شخصه، و أما ما أضيع فيه حق الغير بالإساءة إليه فليس مما يسوغ العفو فيه لأنه إغراء بالإثم و تضييع لحق الغير بنحو أشد، و إبطال للنواميس الحافظة للاجتماع، و يمنع عنه جميع الآيات الناهية عن الظلم و الإفساد و إعانة الظالمين و الركون إليهم بل جميع الآيات المعطية لأصول الشرائع و القوانين، و هو ظاهر.

فالمراد بقوله: "خذ العفو" هو الستر بالعفو فيما يرجع إلى شخصه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و على ذلك كان يسير فقد تقدم في بعض الروايات المتقدمة في أدبه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه لم ينتقم من أحد لنفسه قط.

هذا على ما ذكره القوم أن المراد بالعفو ما يسارق المغفرة، و في بعض الروايات الآتية عن الصادق (عليه السلام) أن المراد به الوسط و هو أنسب بالآية و أجمع للمعنى من غير شائبة التكرار الذي يلزم من قوله: "و أعرض عن الجاهلين" على التفسير الأول.

و قوله: "و أمر بالعرف" و العرف هو ما يعرفه عقلاء المجتمع من السنن و السير الجميلة الجارية بينهم بخلاف ما ينكره المجتمع و ينكره العقل الاجتماعي من الأعمال النادرة الشاذة، و من المعلوم أن لازم الأمر بمتابعة العرف أن يكون نفس الآمر مؤتمرا بما يأمر به من المتابعة، و من ذلك أن يكون نفس أمره بنحو معروف غير منكر فمقتضى قوله: "و أمر بالعرف" أن يأمر بكل معروف، و أن لا يكون نفس الأمر بالمعروف على وجه منكر.

و قوله: "و أعرض عن الجاهلين" أمر آخر بالمداراة معهم، و هو أقرب طريق و أجمله لإبطال نتائج جهلهم و تقليل فساد أعمالهم فإن في مقابلة الجاهل بما يعادل جهله إغراء له بالجهل و الإدامة على الغي و الضلال.

قوله تعالى: "و إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" قال الراغب في المفردات،: النزغ دخول في أمر لأجل إفساده، قال: من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي.

انتهى، و قيل: هو الإزعاج و الإغراء و أكثر ما يكون حال الغضب، و قيل: هو من الشيطان أدنى الوسوسة، و المعاني متقاربة، و أقربها من الآية هو الأوسط لمناسبته الآية السابقة الآمرة بالإعراض عن الجاهلين فإن مماستهم الإنسان بالجهالة نوع مداخلة من الشيطان لإثارة الغضب، و سوقه إلى جهالة مثله.

فيرجع معنى الآية إلى أنه لو نزغ الشيطان بأعمالهم المبنية على الجهالة و إساءتهم إليك ليسوقك بذلك إلى الغضب و الانتقام فاستعذ بالله إنه سميع عليم، و الآية مع ذلك عامة خوطب بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قصد بها أمته لعصمته.

قوله تعالى: "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" نحو تعليل للأمر في الآية السابقة و الطائف من الشيطان هو الذي يطوف حول القلب ليلقي إليه الوسوسة أو وسوسته التي تطوف حول القلب لتقع فيه و تستقر عليه، و "من" بيانية على الأول، و نشوئية على الثاني، و مآل المعنيين مع ذلك واحد، و التذكر تفكر من الإنسان في أمور لتهديه إلى نتيجة مغفول عنها أو مجهولة قبله.

و الآية بمنزلة التعليل للأمر بالاستعاذة في الآية السابقة، و المعنى استعذ بالله عند نزغة الشيطان فإن هذا طريق المتقين فهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا أن الله هو ربهم الذي يملكهم و يربيهم يرجع إليه أمرهم فارجعوا إليه الأمر فكفاهم مئونته، و دفع عنهم كيده، و رفع عنهم حجاب الغفلة فإذا هم مبصرون غير مضروب على أبصارهم بحجاب الغفلة.

فالآية - كما عرفت - في معنى قوله: "إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون": النحل: 99.

و قد ظهر أيضا أن الاستعاذة بالله نوع من التذكر لأنها مبنية على أن الله سبحانه و هو ربه هو الركن الوحيد الذي يدفع هذا العدو المهاجم بما له من قوة، و أيضا الاستعاذة نوع من التوكل كما مر.

قوله تعالى: "و إخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون" كان الجملة حالية، و المراد بإخوانهم إخوان المشركين و هم الشياطين كما وقع قوله: "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين": الإسراء: 27 و الإقصار الكف و الانتهاء.

و المعنى: أن الذين اتقوا على هذا الحال من التذكر و الإبصار و الحال أن إخوان المشركين من الشياطين يمدون المشركين في غيهم و يعينونهم ثم لا يكفون عن مدهم و إعانتهم، أو لا يكف المشركون و لا ينتهون عن غيهم.

قوله تعالى: "و إذا لم تأتهم بآية قالوا لو لا اجتبيتها" إلى آخر الآية.

الاجتباء افتعال من الجباية، و قولهم: "لو لا اجتبيتها" كلام منهم جار مجرى التهكم و السخرية و المعنى على ما يعطيه السياق: أنك إذا أتيتهم بآية كذبوا بها و إذا لم تأتهم بآية كما لو أبطأت فيها قالوا: لو لا اجتبيت ما تسميه آية و جمعتها من هنا و هناك فأتيت بها "قل" ليس لي من الأمر شيء "و إنما أتبع ما إلي من ربي هذا" القرآن "بصائر من ربكم" يريد أن يبصركم بها "و هدى و رحمة لقوم يؤمنون".

قوله تعالى: "و إذا قرىء القرآن فاستمعوا له و أنصتوا لعلكم ترحمون" الإنصات السكوت مع استماع، و قيل: هو الاستماع مع سكوت يقال: أنصت الحديث و أنصت له أي استمع ساكتا، و أنصته غيره و أنصت الرجل أي سكت، فالمعنى: استمعوا للقرآن و اسكتوا.

و الآية بحسب دلالتها عامة و إن قيل: إنها نزلت في الصلاة جماعة.

قوله تعالى: "و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول" إلى آخر الآية.

قسم الذكر إلى ما في النفس و دون الجهر من القول: ثم أمر بالقسمين، و أما الجهر من القول في الذكر فمضرب عنه لا لأنه ليس ذكرا بل لمنافاته لأدب العبودية و يدل على ذلك ما ورد: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سار بأصحابه في بعض غزواته فدخلوا واديا موحشا و الليل داج فكان ينادي بعض أصحابه بالتكبير فنهاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال: إنكم لا تدعون غائبا بعيدا.



و التضرع من الضراعة و هو التملق بنوع من الخشوع و الخضوع، و الخيفة بناء نوع من الخوف، و المراد به نوع من الخوف يناسب ساحة قدسه تعالى ففي التضرع معنى الميل إلى المتضرع إليه و الرغبة فيه و التقرب منه، و في الخيفة معنى اتقائه و الرهبة و التبعد عنه، فمقتضى توصيف الذكر بكونه عن تضرع و خيفة أن يكون بحركة باطنية إليه و منه كالذي يحب شيئا و يهابه فيدنو منه لحبه و يتبعد عنه لمهابته، و الله سبحانه و إن كان محض الخير لا شر فيه، و إنما الشر الذي يمسنا هو من قبلنا لكنه تعالى ذو الجلال و الإكرام له أسماء الجمال التي تدعوا إليه و تجذب نحوه كل شيء و له أسماء الجلال التي تقهر و تدفع عنه كل شيء فحق ذكره و هو الله له الأسماء الحسنى كلها أن يكون على ما يقتضيه مجموع أسمائه الجمالية و الجلالية، و هو أن يذكر تعالى تضرعا و خيفة، و رغبا و رهبا.

و قوله: "بالغدو و الآصال" ظاهره أنه قيد لقوله: "و دون الجهر من القول" فيكون الذكر القولي هو الموزع إلى الغدو و الآصال، و ينطبق على بعض الفرائض اليومية.

و قوله: "و لا تكن من الغافلين" تأكيد للأمر بالذكر في أول الآية و لم ينه تعالى عن أصل الغفلة، و إنما نهى عن الدخول في زمرة الغافلين، و هم الموصوفون بالغفلة الذين استقرت فيهم هذه الصفة.

و يتبين بذلك أن الذكر المطلوب المأمور به هو أن يكون الإنسان على ذكر من ربه حينا بعد حين، و يبادر إليه لو عرضت له غفلة منسية، و لا يدع الغفلة تستقر في نفسه، و في الآية التالية: دلالة على ذلك على ما سيجيء.

فمحصل الآية: الأمر بالاستمرار على ذكر الله في النفس تضرعا و خيفة حينا بعد حين، و ذكره بالقول دون الجهر بالغدو و الآصال.

قوله تعالى: "إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون" ظاهر السياق أنه في موضع التعليل للأمر الواقع في الآية السابقة فيكون المعنى: اذكر ربك كذا و كذا فإن الذين عند ربك كذلك أي اذكر ربك كذا لتكون من الذين عند ربك و لا تخرج من زمرتهم.

و يتبين بذلك أن المراد بقوله: "الذين عند ربك" ليس هم الملائكة فقط - على ما فسره كثير من المفسرين - إذ لا معنى لقولنا: اذكر ربك كذا لأن الملائكة يذكرونه كذلك بل مطلق المقربين عنده تعالى على ما يفيده لفظ: "عند ربك" من الحضور من غير غيبة.

و يظهر من الآية أن القرب من الله إنما هو بذكره، فبه يرتفع الحجاب بينه و بين عبده، و إلا فجميع الأشياء متساوية في النسبة إليه من غير اختلاف بينها بقرب أو بعد أو غير ذلك.

و قوله: "لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون" فيه أمور ثلاثة يتصف بها الذكر النفسي كما يتصف بها الذكر القولي فإن للنفس أن تتصف بحال عدم الاستكبار، و بحال تنزيهه تعالى، و بحال السجدة و كمال الخشوع له كما يتصف بها الذكر القولي و يعنون بها العمل الخارجي، فليس التسبيح و السجود مما يختص بالأعضاء من لسان و غيره كما يدل عليه قوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده": إسراء: 44، و قوله: "و النجم و الشجر يسجدان": الرحمن: 6، و قوله: "و لله يسجد ما في السماوات و ما في الأرض": النحل: 49.

و ما في الآية من توصيف القوم بعدم الاستكبار و التسبيح و السجود أخف و أهون مما يشتمل عليه قوله تعالى: "و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون يسبحون الليل و النهار لا يفترون": الأنبياء: 20 و قوله: "فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون": حم السجدة: 38 فإن هذه الآيات ظاهرها الاستمرار الذي لا يتخلله عدم، و لا يتوسطه مناف، و الآية التي نبحث عنها لم يأمر إلا بما لا تثبت معه الغفلة في النفس كما عرفت.

فهذه الآية تأمر بمرتبة من الذكر هي دون ما تتضمنه آيات سورتي الأنبياء و حم السجدة و الله العالم.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن الحسن بن علي بن النعمان عن أبيه عمن سمع أبا عبد الله (عليه السلام) و هو يقول: إن الله أدب رسوله فقال: يا محمد خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين قال: خذ منهم ما ظهر و ما تيسر، و العفو الوسط. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن مكارم الأخلاق عند الله أن تعفو عمن ظلمك و تصل من قطعك، و تعطي من حرمك. ثم تلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "خذ العفو و أمر بالعرف - و أعرض عن الجاهلين". أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق أهل السنة.

و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن إبراهيم بن أدهم قال: لما أنزل الله "خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمرت أن آخذ العفو من أخلاق الناس. و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزلت: "خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف يا رب و الغضب؟ فنزل: "و إما ينزغنك من الشيطان نزغ" الآية. أقول: و في الرواية شيء، و يمكن أن يوجه بما قدمناه في الآية.

و في تفسير القمي،: في الآية قال: إن عرض في قلبك منه شيء و وسوسة فاستعذ بالله إنه سميع عليم. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ: "إذا مسهم طائف" بالألف. و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: "إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا - فإذا هم مبصرون" قال: هو العبد يهم بالذنب ثم يتذكر فيمسك، فذلك قوله: "تذكروا فإذا هم مبصرون": أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير، و علي بن أبي حمزة، و زيد بن أبي أسامة عنه (عليه السلام)، و لفظ الأولين: هو الرجل يهم بالذنب ثم يتذكر فيدعه، و لفظ الأخير: هو الذنب يهم به العبد فيتذكر فيدعه، و في معناه روايات أخر.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأ خلفه قوم فنزلت: "و إذا قرىء القرآن فاستمعوا له و أنصتوا". أقول: و في ذلك عدة روايات من طرق أهل السنة و في بعضها: أنهم كانوا يتكلمون خلفه و هم في الصلاة فنزلت، و في بعضها: أنه كان فتى من الأنصار، و في بعضها رجل.

و في المجمع، بعد ذكر القول: إن الآية نزلت في الصلاة جماعة خلف الإمام: قال: و روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام). و فيه، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: يجب الإنصات للقرآن في الصلاة و غيرها:. أقول: و رواه العياشي عن زرارة عنه (عليه السلام)، و في آخره: و إذا قرىء عندك القرآن وجب عليك الإنصات و الاستماع. و فيه، عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: الرجل يقرأ القرآن و أنا في الصلاة هل يجب على الإنصات و الاستماع؟ قال: نعم إذا قرىء القرآن وجب عليك الإنصات و الاستماع. و في تفسير العياشي، عن أبي كهمش عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قرأ ابن الكواء خلف أمير المؤمنين (عليه السلام): "لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين" فأنصت أمير المؤمنين (عليه السلام). أقول: و الروايات في غير صورة قراءة الإمام محمولة على الاستحباب و تمام البحث في الفقه.



و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أعرف الحزن في وجهه فأخذ بلحيتي فقال: إنا لله و إنا إليه راجعون أتاني جبرئيل آنفا فقال: إنا لله و إنا إليه راجعون قلت: أجل فإنا لله و إنا إليه راجعون فمم ذاك يا جبرئيل؟ فقال: إن أمتك مفتتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير. قلت: فتنة كفر أو فتنة ضلالة؟ قال: كل ذلك سيكون. قلت: و من أين ذاك و أنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال: بكتاب الله يضلون، و أول ذلك من قبل قرائهم و أمرائهم يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون، و تتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. قلت يا جبرئيل فبم يسلم من سلم منهم فقال: بالكف و الصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه و إن منعوه تركوه. و في تفسير القمي،: في معنى قوله: إن الذين عند ربك الآية، يعني الأنبياء و الرسل و الأئمة. تم و الحمد الله.

<<        الفهرس        >>