جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج11 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


11 سورة هود - 100 - 108

ذَلِك مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَى نَقُصهُ عَلَيْك مِنهَا قَائمٌ وَ حَصِيدٌ (100) وَ مَا ظلَمْنَهُمْ وَ لَكِن ظلَمُوا أَنفُسهُمْ فَمَا أَغْنَت عَنهُمْ ءَالِهَتهُمُ الّتى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شىْءٍ لّمّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّك وَ مَا زَادُوهُمْ غَيرَ تَتْبِيبٍ (101) وَ كَذَلِك أَخْذُ رَبِّك إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَ هِىَ ظلِمَةٌ إِنّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شدِيدٌ (102) إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّمَنْ خَاف عَذَاب الاَخِرَةِ ذَلِك يَوْمٌ مجْمُوعٌ لّهُ النّاس وَ ذَلِك يَوْمٌ مّشهُودٌ (103) وَ مَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكلّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شقِىّ وَ سعِيدٌ (105) فَأَمّا الّذِينَ شقُوا فَفِى النّارِ لهَُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شهِيقٌ (106) خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السمَوَت وَ الأَرْض إِلا مَا شاءَ رَبّك إِنّ رَبّك فَعّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَ أَمّا الّذِينَ سعِدُوا فَفِى الجَْنّةِ خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السمَوت وَ الأَرْض إِلا مَا شاءَ رَبّك عَطاءً غَيرَ مجْذُوذٍ (108)

بيان

فيها رجوع إلى القصص السابقة بنظر كلي يلخص سنة الله في عباده و ما يستتبعه الشرك في الأمم الظالمة من الهلاك في الدنيا و العذاب الخالد في الآخرة ليعتبر بذلك أهل الاعتبار.

قوله تعالى: "ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم و حصيد" الإشارة إلى ما تقدم من القصص، و من تبعيضية أي الذي قصصناه عليك هو بعض أخبار المدائن و البلاد أو أهلهم نقصه عليك.

و قوله: "منها قائم و حصيد" الحصد قطع الزرع، شبهها بالزرع يكون قائما و يكون حصيدا، و المعنى إن كان المراد بالقرى نفسها أن من القرى التي قصصنا أنباءها عليك ما هو قائم لم تذهب بقايا آثارها التي تدل عليها بالمرة كقرى قوم لوط حين نزول قصتهم في القرآن كما قال: "و لقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون": العنكبوت: 35 و قال: "و إنكم لتمرون عليهم مصبحين و بالليل أ فلا تعقلون": الصافات: 138، و منها ما انمحت آثاره و انطمست أعلامه كقرى قوم نوح و عاد.

و إن كان المراد بالقرى أهلها فالمعنى أن من تلك الأمم و الأجيال من هو قائم لم يقطع دابرهم البتة كأمة نوح و صالح، و منهم من قطع الله دابرهم كقوم لوط لم ينج منهم إلا أهل بيت لوط و لم يكن لوط منهم.

قوله تعالى: "و ما ظلمناهم و لكن ظلموا أنفسهم" إلى آخر الآية، أي ما ظلمناهم في إنزال العذاب عليهم و إهلاكهم إثر شركهم و فسوقهم و لكن ظلموا أنفسهم حين أشركوا و خرجوا عن زي العبودية، و كلما كان عمل و عقوبة عليه كان أحدهما ظلما إما العمل و إما العقوبة عليه فإذا لم تكن العقوبة ظلما كان الظلم هو العمل استتبع العقوبة.

فمحصل القول أنا عاقبناهم بظلمهم و لذا عقبه بقوله: "فما أغنت عنهم آلهتهم" إلخ... لأن محصل النظم أخذناهم فما أغنت عنهم آلهتهم، فالمفرع عليه هو الذي يدل عليه قوله: "و ما ظلمناهم" إلخ، و المعنى أخذناهم فلم يكفهم في ذلك آلهتهم، التي كانوا يدعونها من دون الله لتجلب إليهم الخير و تدفع عنهم الشر، و لم تغنهم شيئا لما جاء أمر ربك و حكمه بأخذهم أو لما جاء عذاب ربك.

و قوله: "و ما زادوهم غير تتبيب" التتبيب التدمير و الإهلاك من التب و أصله القطع لأن عبادتهم الأصنام كان ذنبا مقتضيا لعذابهم و لما أحسوا بالعذاب و البؤس فالتجئوا إلى الأصنام و دعوها لكشفه و دعاؤها ذنب آخر زاد ذلك في تشديد العذاب عليهم و تغليظ العقاب لهم فما زادوهم غير هلاك.

و نسبة التتبيب إلى آلهتهم مجاز و هو منسوب في الحقيقة إلى دعائهم إياها، و هو عمل قائم بالحقيقة بالداعي لا بالمدعو.

قوله تعالى: "و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى و هي ظالمة إن أخذه أليم شديد" الإشارة إلى ما تقدم من أنباء القرى، و ذلك بعض مصاديق أخذه تعالى بالعقوبة قاس به مطلق أخذه القرى في أنه أليم شديد، و هذا من قبيل التشبيه الكلي ببعض مصاديقه في الحكم للدلالة على أن الحكم عام شامل لجميع الأفراد و هو نوع من فن التشبيه شائع و قوله: "إن أخذه أليم شديد" بيان لوجه الشبه و هو الألم و الشدة.

و المعنى كما أخذ الله سبحانه هؤلاء الأمم الظالمة: قوم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و قوم فرعون أخذا أليما شديدا، كذلك يأخذ سائر القرى الظالمة إذا أخذها فليعتبر بذلك المعتبرون.

قوله تعالى: "إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة" إلى آخر الآية الإشارة إلى ما أنبأه الله من قصص تلك القرى الظالمة التي أخذها بظلمها أخذا أليما شديدا.

و أنبأ أن أخذه كذلك يكون، و في ذلك آية لمن خاف عذاب الحياة الآخرة و علامة تدل على أن الله سبحانه و تعالى سيأخذ في الآخرة المجرمين بأجرامهم، و إن أخذه سيكون أليما شديدا فيوجب اعتباره بذلك و تحرزه مما يستتبع سخط الله تعالى.

و قوله: "ذلك يوم مجموع له الناس" أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم مجموع له الناس فالإشارة إلى اليوم الذي يدل عليه ذكر عذاب الآخرة، "و لذلك أتي بلفظ المذكر" كما قيل، و يمكن أن يكون تذكير الإشارة ليطابق المبتدأ الخبر.

و وصف اليوم الآخر بأنه مجموع له الناس دون أن يقال.

سيجمع أو يجمع له الناس إنما هو للدلالة على أن جمع الناس له من أوصافه المقضية له التي تلزمه و لا تفارقه من غير أن يحتاج إلى الإخبار عنه بخبر.

فمشخص هذا اليوم أن الناس مجموعون لأجله - و اللام للغاية - فلليوم شأن من الشأن لا يتم إلا بجمع الناس بحيث لا يغادر منهم أحد و لا يتخلف عنه متخلف: و للناس شأن من الشأن يرتبط به كل واحد منهم بالجميع، و يمتزج فيه الأول مع الآخر و الآخر مع الأول و يختلط فيه الكل بالبعض و البعض بالكل، و هو حساب أعمالهم من جهة الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية، و بالجملة من حيث السعادة و الشقاوة.

فإن من الواضح أن العمل الواحد من إنسان واحد يرتضع من جميع أعماله السابقة المرتبطة بأحواله الباطنة، و يرتضع منه جميع أعماله اللاحقة المرتبطة أيضا بما له من الأحوال القلبية، و كذلك عمل الواحد بالنسبة إلى أعمال من معه من بني نوعه من حيث التأثير و التأثر، و كذلك أعمال الأولين بالنسبة إلى أعمال الآخرين و أعمال اللاحقين بالنسبة إلى أعمال السابقين، و في المتقدمين أئمة الهدى و الضلال المسئولون عن أعمال المتأخرين، و في المتأخرين الأتباع و الأذناب المسئولون عن غرور متبوعيهم المتقدمين، قال تعالى: "فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين": الأعراف 6، و قال: "و نكتب ما قدموا و آثارهم و كل شيء أحصيناه في إمام مبين": يس: 12.

ثم الجزاء لا يتخلف الحكم الفصل.

و هذا الشأن على هذا النعت لا يتم إلا باجتماع من الناس بحيث لا يشذ منهم شاذ.

و من هنا يظهر أن مسألة الآحاد من الناس في قبورهم و جزاءهم فيها بشيء من الثواب و العقاب على ما تشير إليه آيات البرزخ و تذكره بالتفصيل الأخبار الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) غير ما أخبر الله تعالى به من حساب يوم القيامة و الجزاء المقضي به هناك من الجنة و النار الخالدتين فإن الذي يستقبل الإنسان في البرزخ هو المسألة لتكميل صحيفة أعماله ليدخر لفصل القضاء يوم القيامة، و ما يسكن فيه في البرزخ من جنة أو نار إنما هو كالنزل المعجل للنازل المتهيء للقاء و الحكم، و ليس ما هناك حسابا تاما و لا حكما فصلا و لا جزاء قاطعا كما يشير إليه نظائر قوله.



"النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب": المؤمن: 46، و قوله: "يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون": المؤمن: 72 فترى الآية تعبر عن عذابهم بالعرض على النار ثم يوم القيامة بدخولها و هو أشد العذاب، و تعبر عن عذابهم بالسحب في الحميم ثم بالسجر في النار و هو الاشتعال و قوله تعالى: "بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم و لا هم يحزنون": آل عمران: 170 فالآية صريحة في عالم القبر و لم تذكر حسابا و لا جنة الخلد و إنما ذكرت شيئا من التنعم إجمالا.

و قوله تعالى: "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون": المؤمنون: 100 تذكر الآية أنهم بعد الموت في حياة برزخية متوسطة بين الحياة الدنيوية التي هي لعب و لهو و الحياة الأخروية التي هي حقيقة الحياة كما قال: "و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون": العنكبوت: 64.

و بالجملة الدنيا دار عمل و البرزخ دار تهيؤ للحساب و الجزاء، و الآخرة دار حساب و جزاء، قال تعالى: "يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا": التحريم: 8 فهم يحضرونه بما كسبوه في الدنيا من النور و هيئوه في البرزخ ثم يسألونه يوم القيامة إتمام نورهم و إذهاب ما معهم من بقايا عالم اللهو و اللعب.

و قوله: "و ذلك يوم مشهود" كالمتفرع بظاهره على الجملة السابقة.

"ذلك يوم مجموع له الناس" إذ الجمع يوجب المشاهدة غير أن اللفظ غير مقيد بالناس و إطلاقه يشعر بأنه مشهود لكل من له أن يشهد كالناس و الملائكة و الجن، و الآيات الكثيرة الدالة على حشر الجن و الشياطين و حضور الملائكة هناك يؤيد إطلاق الشهادة كما ذكر.

قوله تعالى: "و ما نؤخره إلا لأجل معدود" أي إن لذلك اليوم أجلا قضى الله أن لا يقع قبل حلول أجله و الله يحكم لا معقب لحكمه و لا راد لقضائه، و لا يؤخر اليوم إلا لأجل يعده فإذا تم العدد و حل الأجل حق القول و وقع اليوم.

قوله تعالى: "يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه" فاعل "يأت" ضمير راجع إلى الأجل السابق الذكر أي يوم يأتي الأجل الذي تؤخر القيامة إليه لا تتكلم نفس إلا بإذنه، قال تعالى: "من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت": العنكبوت: 5.

و ذكر بعضهم كما في المجمع أن المعنى يوم يأتي القيامة و الجزاء، و لازمه إرجاع الضمير إلى القيامة و الجزاء لدلالة سابق الكلام إليه بوجه، و هو تكلف لا حاجة إليه.

و ذكر آخرون - كما في تفسير صاحب المنار - أن المعنى في الوقت الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى فالمراد باليوم في الآية مطلق الوقت أي غير المحدود لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر الذي هو فاعل يأتي.

و هو خطأ لاستلزامه ظرفية اليوم لليوم لعود المعنى حقيقة إلى قولنا: في الوقت الذي يجيء فيه ذلك الوقت المعين أو اليوم الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين، و التفرقة بين اليومين يجعل أحدهما خاصا و معينا و الآخر عاما و مرسلا لا ينفع في دفع محذور ظرفية الشيء لنفسه و مظروفية الزمان - و هو ظرف بذاته - لزمان آخر و هو محال لا ينقلب ممكنا بتغيير اللفظ.

و ما ذكره من التفرقة بين اليومين بالإطلاق و التحديد مجرد تصوير لا تغني شيئا فإن اليوم الذي يأتي فيه ذلك اليوم الموصوف و ذلك اليوم الموصوف متساويان إطلاقا و تحديدا و سعة و ضيقا، نعم ربما يؤخذ الزمان متحدا بما يقع فيه من الحوادث فيصير حادثا من الحوادث و تلغى ظرفيته فيجعل مظروفا لزمان آخر كما يقال يوم الأضحى في شهر ذي الحجة و يوم عاشوراء في المحرم، قال تعالى: "و يوم تقوم الساعة": الجاثية: 27 فإن صحت هذه العناية في الآية أمكن به أن يعود ضمير يأتي إلى اليوم.

و قوله: "لا تكلم نفس إلا بإذنه" أي لا تتكلم نفس ممن حضر إلا بإذن الله سبحانه، و حذف أحد التاءين المجتمعين في المستقبل من باب التفعل شائع قياسي.

و الباء في قوله: "بإذنه" للمصاحبة فالاستثناء في الحقيقة من الكلام لا من المتكلم كما في قوله: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن": النبأ: 38 و المعنى لا تتكلم نفس بشيء من الكلام إلا بالكلام الذي يصاحب إذنه لا كالدنيا يتكلم فيها الواحد منهم بما اختاره و أراده، أذن فيه الله إذن تشريع أم لم يأذن.

و قد ذكرت الصفة أعني عدم تكلم نفس إلا بإذنه من خواص يوم القيامة المعرفة له، و ليست بمختصة به فإنه لا تتكلم أي نفس من النفوس و لا يحدث أي حادث من الحوادث دائما إلا بإذنه من غير أن يختص ذلك بيوم القيامة.

و قد تقدم في بعض أبحاثنا السابقة أن غالب ما ورد في القرآن الكريم من معرفات يوم القيامة في سياق الأوصاف الخاصة به يعمه و غيره كقوله تعالى: "يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء: المؤمن - 16 و قوله يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم: المؤمن: 33 و قوله: "يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله": الانفطار: 19 إلى غير ذلك من الآيات، و من المعلوم أنه تعالى لا يخفى عليه شيء دائما، و ليس لشيء منه عاصم دائما، و لا يملك نفس لنفس شيئا إلا بإذنه دائما، و له الخلق و الأمر دائما.

لكن الذي يهدي إليه التدبر في أمثال قوله تعالى: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد": ق: 22 و قوله حكاية عن المجرمين: "ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون": الم السجدة: 12، و قوله: "و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم - إلى أن قال هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون": يونس: 30 إن يوم القيامة ظرف يجمع الله فيه العباد و يزيل الستر و الحجاب دونهم فيظهر فيه الحقائق ظهورا تاما و ينجلي ما هو وراء غطاء الغيب في هذه النشأة و عند ذلك لا يختلج في صدورهم شك أو ريب، و لا يهجس قلوبهم هاجس، و يعاينون أن الله هو الحق المبين، و يشاهدون أن القوة لله جميعا، و أن الملك و العصمة و الأمر و القهر له وحده لا شريك له.

و تسقط الأسباب عما كان يتوهم لها من الاستقلال في نشأة الدنيا و ينقطع البين و تزول روابط التأثير التي بين الأشياء و عند ذلك تنتثر كواكب الأسباب و تنطمس نجوم كانت تهتدي به الأوهام في ظلماتها، و لا تبقى لذي ملك ملك يستقل به، و لا لذي سلطان و قوة ما يتعزز معه، و لا لشيء ملجأ و ملاذ يلجأ إليه و يلوذ به و يعتصم بعصمته، و لا ستر يستر شيئا عن شيء و يحجبه دونه، و الأمر كله لله الواحد القهار لا يملك إلا هو.

و هذا معنى قوله: "يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء" و قوله: "ما لكم من الله من عاصم" و قوله: "يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله" إلى غير ذلك من الآيات و هي جميعا تنفي ما تزينه أوهام الناس في هذه النشأة الدنيوية التي ليست إلا لهوا و لعبا إن هذه الأسباب تملك معنى التأثير، و تتلبس بأوصاف الملك و السلطنة و القوة و العصمة و العزة و الكرامة تلبسا حقيقيا استقلاليا، و أنها هي المعطية و المانعة و النافعة و الضارة لا بغية في سواها و لا خير فيما عداها.

و من هنا يمكن الاستئناس بمعنى قوله.



"يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه" و قد تكرر هذا المعنى في آيات أخرى بما يقرب من هذا اللفظ كقوله تعالى: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا": النبأ: 38، و قوله: هذا يوم لا ينطقون": المرسلات: 35.

و ذلك أن الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم "يوم تبلى السرائر: الطارق - 9 و يقول: "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله": البقرة: 284 فيبين أن الحساب يومئذ بما في النفوس من الأحوال و الأعراض الحسنة أو السيئة لا بما يستكشف منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيوية.

فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس و مطويات القلوب فهو ظاهر مكشوف الغطاء يوم القيامة، و ما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غدا، و التكلم الذي نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنما هو باستخدام أصوات مؤلفة تدل بنحو من الوضع و الاعتبار على معان تستكن في ضمائرنا، و إنما الباعث لنا على وضعها و تداولها الحاجة الاجتماعية إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلق الحس به.

و التكلم من الأسباب الاجتماعية نتوسل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة و هو متقوم بخروج ما في الأذهان عن إحاطة الإنسان، و لو كنا ممدين بحس ينال المعاني الذهنية و يعاينها كما يهتدي - مثلا البصر إلى الأضواء و الألوان و اللمس إلى الحرارة و البرودة و الخشونة - و الملاسة لم نحتج إلى وضع اللغات و التكلم بها و لا كان بيننا ما يسمى كلمة أو كلاما، و كذا لو كان النوع الإنساني يعيش في حياته الدنيا عيشة انفرادية غير اجتماعية لم يكن من النطق خبر و لا انعقدت له نطفة.

كل ذلك لأن النشأة الدنيا كالمؤلف من شهادة و غيب و هو المحسوس المعاين و ما هو وراء الحس، و الناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عما في ضميرهم من المقاصد و الاطلاع عليه، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحضة في الشهادة مؤلفة من أمور معاينة لم يكن فيها ما يحوج إلى التكلم و النطق و لو تبرعنا إطلاق الكلام على شيء من الحالات الموجودة هناك لكان مصداقه ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم و اطلاع ذلك البعض على ذلك.

و هذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله: "يوم تبلى السرائر"، و هذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: "لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان" إلى أن قال: "يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام:" الرحمن: 41.

فإن قلت فعلى هذا لا معنى لتحقق الكذب و الزور هناك و قد نص القرآن الكريم عليه كما في قوله تعالى: "و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا و الله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم": الأنعام: 24، و قوله تعالى: "يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون: المجادلة - 18.

قلت: هذا من ظهور الملكات كما أن الإنسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكر فيه و يكشف عما في ضميره لنفسه بالتكلم لأنه على شهادة من باطن نفسه لا في غيب، و هو مع ذلك يتصور صورة كلام يدل ما يطالعه من المعاني الذهنية، و ربما يتكلم بلسانه أيضا بما يخطره بباله من أجزاء الفكرة و الباعث له على ذلك ما اعتاده من التكلم و النطق عند ما يلفظ ما في ضميره إلى الغير.

و هؤلاء المشركون و المنافقون لما اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا و عاشوا على كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات و العادات النفسانية و إلا فمن المحال أن يوقف الإنسان عند ربه و هو تعالى يعاين باطنه و ظاهره و أعماله محضرة، و صحيفته منشورة، و الأشهاد قائمة و جوارحه بما عملت ناطقة، و الأسباب و منها الكذب ساقطة هالكة، و قد انقلب سره علانية ثم يكذب رجاء أن يغر الله سبحانه و تعالى فيظهر عليه بحجة مدلسة كاذبة، و ينجو بذلك.

و هذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثم عدم استطاعتهم، قال تعالى: "يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون": القلم: 43 فعدم استطاعتهم للسجود ليس إلا لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم، و لو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت الحجة لهم عليه.

فإن قلت: لو كان كما ذكرت و لم يكن هناك إلى التكلم حاجة و لا له مصداق فما معنى الاستثناء الذي في قوله: "لا تكلم نفس إلا بإذنه" و ما في معناها من الآيات؟ و ما معنى ما تكرر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم.

قلت: لا ريب أن الإنسان و هو في هذه النشأة مختار في أعماله التي منها التكلم فله نسبة متساوية إلى كل فعل من أفعاله و تركه و هما بالقياس إليه سواء، فإذا اقترف الفعل مثلا تعين أحد الجانبين تعينا اضطراريا لا خبر عن الاختيار بعد ذلك، و الآثار الضرورية التي تترتب على الفعل و منها الجزاء الذي يكتسب بالفعل حالها حال الفعل بعد التحقق.

و النشأة الآخرة دار جزاء لا دار عمل فلا خبر هناك عن الاختيار الإنساني و ليس هناك إلا الإنسان و عمله الذي أتى به و قد لزمه لزوما ضروريا، و ما يرتبط به العمل من الصحائف و الأشهاد و ربه الذي إليه يرجع الأمر و بيده الحكم الفصل فإذا دعي استجاب اضطرارا، كما قال تعالى "يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له:" طه: 108 و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى الحق فلا يستجيبون، و إذا تكلم عن سؤال لم يكن من سنخ التكلم الدنيوي الذي كان ناشئا عن اختياره و كاشفا عن أمر خبيء في نفسه فقد ختم على فمه و لا سبيل له إلى التكلم بما يريد، و كيفما يريد، قال تعالى: "اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون": يس: 65، و قال: "هذا يوم لا ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون": المرسلات: 36 فإن العذر إنما يكون في الجزاء الذي فيه شوب اختيار و لتحققه إمكان وجود و عدم و أما العمل السيىء المفروغ منه و الجزاء الذي تعقبه ضرورة فلا مجرى للعذر فيه، قال تعالى: "يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون": التحريم: 7 أي إن جزاءكم نفس عملكم الذي عملتموه، و لا يتغير ذلك بعذر و لا تعلل و إنما كان يتغير لو كان جزاء دنيويا أمره بيد الحاكم المجازي يختار فيه ما يراه و يشاؤه.

و بالجملة: إذا تكلم هو عن سؤال كان تكلمه عن اضطرار إليه و مطابقا لما عنده من العمل الظاهر الذي لا ستر عليه هناك البتة، و لو تكلم كذبا كان ذلك من قبيل ظهور الملكات كما تقدم و عملا من أعماله يظهر ظهورا لا كلاما يعد جوابا لسؤال فيختم على فيه و يستنطق سمعه و بصره و جلده و يده و رجله و يحضر العمل الذي عمله و يستشهد الأشهاد و الله على كل شيء شهيد.



فقد تلخص من جميع ما قدمناه أن معنى قوله: "لا تكلم نفس إلا بإذنه" أن التكلم يومئذ ليس على وتيرة التكلم الدنيوي كشفا اختياريا عما في الضمير بحيث يمكن معه للمتكلم أن يصدق في كلامه أو يكذب فإن هذا التملك الاختياري الذي هو من لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للإنسان في تكلمه و إنما هو منوط بإذن الله و مشيئته، و إن أحسنت التدبر وجدت أن مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار عن تكلم الإنسان و سائر أفعاله و إحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما افتتحنا به الكلام أن خاصة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الأشياء فيه و رجوع الغيب شهادة و عليك بإحكام التدبر في المعارف التي يلقنها الكلام الإلهي في المعاد فإنها معضلة عويصة عميقة.

و ذكر بعضهم أن معنى قوله: "لا تكلم نفس إلا بإذنه" أنها لا تتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه شرعا لأن الناس ملجئون هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح و أما غير القبيح فهو مأذون فيه.

و فيه أنه تخصيص من غير مخصص فاليوم ليس بيوم عمل حتى يؤذن فيه في إتيان الفعل الحسن و لا يؤذن في القبيح، و الإلجاء الذي منشؤه كون الظرف ظرف جزاء لا عمل لا يفرق فيه بين العمل الحسن و القبيح مع كون كليهما اختياريين لأن الحسن و القبح إنما يعنون بهما الأفعال الاختيارية.

على أن الله تعالى يقول: "هذا يوم لا ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون" و من المعلوم أن الإتيان بالأعذار ليس من الفعل القبيح في شيء.

و قال آخرون: إن معنى الآية أنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة و وسيلة إلا بإذنه.

و هذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى: "يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن": طه: 109 و فيه أن ذلك تقييد من غير شاهد عليه و لو كان المراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: لا تكلم نفس عن نفس أو في نفس إلا بإذنه كما وقع في نظيره من قوله: "لا يملك نفس لنفس شيئا".

و قد تحصل مما قدمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلم يوم القيامة و الآيات النافية له.

توضيحه: أن الآيات المتعرضة لمسألة التكلم فيه صنفان: صنف ينفي التكلم أو يثبته لأفراد الناس من غير استثناء كقوله: "لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان": الرحمن: 39، و قوله: "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها": النحل: 111.

و صنف ينفي الكلام على أي نعت كان من صدق أو كذب كقوله: "هذا يوم لا ينطقون": المرسلات: 35، و قوله: "فما لنا من شافعين و لا صديق حميم": الشعراء: 101.

و الصنف الأول يجمع بين طرفيه بمثل قوله تعالى: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن": النبأ: 38 و الصنف الثاني يرتفع التنافي بين طرفيه بالآية المبحوث عنها: "يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه" لكن بالبناء على ما تقدم توضيحه في معنى إناطة التكلم بإذنه حتى يفيد أنهم ملجئون في ما تكلموا به مضطرون إلى ما يأذن الله سبحانه فيه ليس لهم أن يتكلموا بما يختارون و يريدون كما كان لهم ذلك في الدنيا ليكون ذلك مما يختص بيوم القيامة من الوصف.

و بذلك يظهر وجه القصور فيما ذكره صاحب المنار في تفسيره حيث قال في تفسير الآية: و نفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا و المثبتة له مطلقا انتهى.

و قد ذكر قبله آيات فيها مثل قوله: "هذا يوم لا ينطقون" و قوله: "اليوم نختم على أفواههم الآية.

و ذلك أنه - أولا - لم يفرق بين الصنفين من الآيات فأوهم ذلك أن نفي الكلام إلا بإذنه في الآية المبحوث عنها كاف في رفع التنافي بين الآيات مطلقا، و ليس كذلك.

و - ثانيا - لم يبين معنى كون الكلام بإذنه تعالى فتوجه إليه إشكال تخصيص يوم القيامة في الآية بما لا يختص به.

و قد يجاب عن إشكال التنافي بوجه آخر و هو أن يوم القيامة يشتمل على مواقف قد أذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف، و لم يؤذن لهم في الكلام في بعضها، و قد ورد ذلك في بعض الروايات.

و هذا الجواب و إن كان بظاهره متميزا من الوجه السابق إلا أنه لا يستغني عن مسألة الإذن فهو في الحقيقة راجع إليه.

و قد يجاب بأن المراد بعدم التكلم و النطق أنهم لا ينطقون بحجة، و إنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، و لو بعضهم بعضا، و طرح بعضهم الذنوب على بعض، و هذا كما يقول القائل لمن أكثر من الكلام و لا يشتمل على حجة: ما تكلمت بشيء و لا نطقت بشيء فسمي من يتكلم بما لا حجة فيه غير متكلم لأنه لم يأت بحق الكلام الذي كان من الواجب أن يشتمل على حجة فكأنه ليس بكلام فنفي التكلم ناظر إلى عد الكلام الذي لا جدوى فيه غير كلام ادعاء.

و فيه: أنه لو صح فإنما يصح في مثل قوله: "هذا يوم لا ينطقون" و أما مثل قوله: "يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه" فلا يرجع إلى معنى محصل.

و قد يجاب كما نقله الآلوسي عن الغرر و الدرر للمرتضى أن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه، و يؤذن لهم في بعض آخر منه.

و فيه أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله، و على قولهم يكون مثلا معنى قوله: "هذا يوم لا ينطقون" هذا يوم لا ينطقون في بعضه و هو خلاف الظاهر، و يرد نظير الإشكال على الوجه الثاني الذي أجيب فيه عن الإشكال باختلاف المواقف فإن مرجع الوجهين أعني الوجه الثاني و هذا الوجه الرابع واحد و إنما الفرق أن الوجه الثاني يرفع التنافي باختلاف الأمكنة و هذا الوجه يرفعه باختلاف الأزمنة كما أن الوجه الثالث يرفعه باختلاف الكلام باشتماله على الجدوى و عدم اشتماله عليه.

و قد يجاب بما يظهر من قول بعضهم: أن الاستثناء في قوله: "لا تكلم نفس إلا بإذنه" منقطع لا متصل أي لا تتكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى و محصل الوجه أن الممنوع من التكلم يوم القيامة هو الذي يكون بقدرة من الإنسان، و الجائز الواقع ما يكون بإذنه تعالى.

و فيه: أن تكلم الإنسان كسائر أفعاله الاختيارية ليس مستندا إلى قدرته محضا في وقت قط بل هو منسوب إلى قدرته مستمدا من قدرة الله تعالى و إذنه فكلما تكلم الإنسان أو فعل فعلا بقدرته صدر عنه ذلك عن قدرته بمصاحبة من إذن الله تعالى و يعود معنى الاستثناء حينئذ إلى إلغاء جميع الأسباب العاملة في التكلم يوم القيامة إلا واحدا منها هو إذنه تعالى، و يصير الاستثناء متصلا و يرجع إلى ما قدمناه من الوجه أولا أن التكلم الممنوع هو الاختياري منه على حد التكلم الدنيوي، و الجائز ما كان مستندا إلى السبب الإلهي فقط و هو إذنه و إرادته، و الظرف ظرف الاضطرار و الإلجاء لكنهم يرون أن سبب الإلجاء يوم القيامة مشاهدة أهواله فإن الناس ملجئون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف و الإقرار و قول الصدق و اتباع الحق، و قد قدمنا أن السبب في ذلك كون الظرف ظرف جزاء لا عمل و بروز الحقائق عند ذلك.

قوله تعالى: "فمنهم شقي و سعيد" السعادة و الشقاوة متقابلان فسعادة كل شيء أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه و يلتذ به فهي في الإنسان - و هو مركب من روح و بدن - أن ينال الخير بحسب قواه البدنية و الروحية فيتنعم به و يلتذ، و شقاوته أن يفقد ذلك و يحرم منه، فهما بحسب الاصطلاح من العدم و الملكة، و الفرق بين السعادة و الخير إن السعادة هي الخير الخاص بالنوع أو الشخص و الخير أعم.

و ظاهر قوله تعالى: "فمنهم شقي و سعيد" لا تفيد حصر أهل الجمع في الفريقين.



و هو الملائم ظاهرا لتقسيمه تعالى الناس إلى مؤمن و كافر و مستضعف كالأطفال و المجانين و كل من لم تتم عليه الحجة في الدنيا إلا أن الغرض المسرودة له الآيات ليس بيان أصناف الناس بحسب العمل و الاستحقاق بل من حيث شأن هذا اليوم و هو أنه يوم مجموع له الناس و يوم مشهود لا يتخلف عنه أحد، و أنه ينتهي إلى جنة أو نار.

و المستضعفون و إن كانوا صنفا ثالثا بالنسبة إلى من استحق بعمله الجنة و من استحق بعمله النار لكن من الضروري أنهم لا يذهبون سدى و لا يدوم عليهم الحال بالإبهام و الانتظار فهم بالآخرة ملحقون بإحدى الطائفتين: السعداء أو الأشقياء داخلون فيما دخلوا فيه من جنة أو نار، قال تعالى: "و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم": التوبة: 106 و لازم هذا السياق أن ينحصر أهل الجمع في الفريقين: السعداء و الأشقياء فما منهم إلا سعيد أو شقي.

فالآية نظير قوله تعالى في موضع آخر: "و تنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة و فريق في السعير و لو شاء الله لجعلهم أمة و لكن يدخل من يشاء في رحمته و الظالمون ما لهم من ولي و لا نصير": الشورى: 8 حيث إن الجملة "فريق في الجنة و فريق في السعير" بمعونة السياق تفيد الحصر و إن كانت وحدها بمعزل من الدلالة.

و الذي تدل عليه الآية أن من كان هناك من أهل الجمع إما شقي متصف بالشقاء و إما سعيد متلبس بالسعادة و أما إن هذين الوصفين بما ذا ثبتا لموضوعيهما؟ و أنهما هل هما ذاتيان لموصوفيهما أو ثابتان بإرادة أزلية لا يتخلف مرادها عنها أو يثبتان لهما عن اكتساب و عمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتهما؟ فلا نظر في الآية إلى شيء من ذلك غير أن وقوع الآية في سياق الدعوة إلى الإيمان و العمل الصالح، و الندب إلى اختيار الطاعة و ترك المعصية يدل على تيسير سبيل الوصول إلى السعادة كما قال تعالى: "ثم السبيل يسره": عبس: 20.

و بذلك يظهر فساد ما استفاده بعضهم من الآية من لزوم السعادة و الشقاوة للإنسان من حكمه تعالى في الآية بذلك قال الرازي في تفسيره في ذيل الآية: اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد و على بعضهم بأنه شقي، و من حكم الله عليه بحكم و علم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه.

و إلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا و علمه جهلا، و ذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا، و إن الشقي لا ينقلب سعيدا.

قال: و روي عن عمر أنه قال: لما نزل قوله تعالى: "فمنهم شقي و سعيد" قلت: يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: على شيء قد فرغ منه يا عمر و جفت به الأقلام و جرت به الأقدار و لكن كل ميسر لما خلق له. قال و قالت المعتزلة: روي عن الحسن أنه قال: فمنهم شقي بعمله و سعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات.

و أيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله و إنما سعد بعمله و لكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله و قدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا.

انتهي.

و هو من عجيب المغالطة أما الذي سماه دليلا قاطعا فقد غالط فيه بأخذ زمان الحكم زمانا لنتيجته و أثره فمن البديهي أن الحكم الحق الآن باتصاف موضوع ما بصفة في المستقبل لا يستلزم الاتصاف بها إلا في المستقبل لا في زمان الحكم القائم بالحاكم و هو الآن كما أن حكمنا في الليل بأن الهواء مضيء بعد كم ساعة - و هو حكم حق - لا يوجب إضاءة الهواء ليلا.

و حكمنا بأن الصبي سيصبح شيخا فانيا بعد ثمانين سنة، لا يستدعي كونه شيخا فانيا في زمان الحكم.

فقوله: "فمنهم شقي و سعيد" و هو خبر منه تعالى بأن جماعة منهم أشقياء يوم القيامة و آخرون سعداء يوم القيامة أن كان حكما بشقاوتهم و سعادتهم كذلك فإنما هو حكم صادر منه في هذا الآن بأنهم كذا و كذا يوم القيامة و من المسلم أنه لا يتغير عما هو عليه في ظرفه و إلا لزم أن يكون خبره تعالى كذبا و علمه جهلا لا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا و كذا هذا الآن، و لا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا و كذا دائما.

و هو ظاهر.

و ليت شعري ما الذي منعه أن يحكم بمثل هذا الحكم في سائر ما أخبر الله تعالى به من صفات الناس يوم القيامة فيحكم بأنهم مؤمنون دائما أو كافرون دائما و في الجنة قبل يوم القيامة و في النار قبل يوم القيامة لجريان دليله فيها و في غيرها كالشقاوة و السعادة على حد سواء.

و أما ما أورده من الرواية و فيها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "و لكن كل ميسر لما خلق له" فلا دلالة لها على ما ذكره أصلا و سيجيء توضيح ذلك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و أما قوله أخيرا: "لا نزاع أنه إنما شقي بعمله و إنما سعد بعمله و لكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله و قدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا" يريد أن تعلق القضاء بالعمل - و من المحال أن يتخلف متعلقه عما قضى عليه - توجب صيرورته ضروري الثبوت، و يكون الفعل بذلك مجبرا عليه لا اختياريا متساوي الفعل و الترك بالنسبة إلى الفاعل، لا تأثير للفاعل فيه و لا تأثير للعمل في حصول شقاوة أو سعادة، و إنما بين الفاعل و فعله، و بين الفعل و الأثر الحاصل بعده من شقاوة أو سعادة، صحابة اتفاقية جرت عادة الله سبحانه أن يوجد هذا قبل ذلك و ذلك بعد هذا من غير رابطة حقيقية بين الأمرين و لا تأثير حقيقي لأحدهما في الآخر.

و هذه مغالطة أخرى ناشئة من الخلط بين نسبة الوجوب و نسبة الإمكان فإن للعمل علة تامة يجب بها وجوده، و هي إرادة الإنسان، و سلامة أدوات العمل منه، و وجود مادة قابلة للعمل، و الزمان، و المكان، و عدم الموانع و العوائق إلى غير ذلك فإذا اجتمعت و تمت و كملت كان ثبوت العمل ضروريا، فللعمل إليها نسبة هي نسبة الوجوب، و له إلى كل واحد من أجزاء علته التامة و من جملتها إرادة الإنسان نسبة هي نسبة الإمكان فإن العمل لا يجب وجوده بمجرد تحقق الإرادة فقط بل يمكن و إنما يجب لو انضمت إليه بقية أجزاء العلة.

فالعمل المتحقق بضرورة العلة التامة في عين هذا الحال له نسبة الوجوب إلى مجموع العلة التامة، و نسبة الإمكان إلى إرادة الإنسان، و لا تبطل نسبته الوجوبية إلى العلة التامة نسبته الإمكانية إلى إرادة الإنسان، و لا تقلبها عن الإمكان إلى الضرورة بل نسبة العمل إلى الإنسان بالإمكان دائما كما أن نسبته إلى المجموع الحاصل من الإنسان و بقية أجزاء العلة التامة بالوجوب دائما و طرفا الفعل و الترك متساويان بالنسبة إلى الإنسان أبدا كما أن أحد الطرفين من الفعل و الترك متعين بالنظر إلى العلة التامة أبدا.

ينتج أن الفعل اختياري للإنسان في عين أنه لا يخلو في وجوده عن علة تامة موجبة له، و القضاء الحتم من صفاته تعالى الفعلية منتزع عن مقام الفعل و هو سلسلة العلل المترتبة بحسب نظام الوجود، و كون المعلولات ضرورية بالنسبة إلى عللها أي ضرورة كل مقضي بالنسبة إلى ما تعلق به من القضاء الإلهي لا ينافي كونه اختياريا للإنسان نسبته إليه نسبة الإمكان.



فقد بان أنه أخذ نسبة العمل إلى الإنسان نسبة وجوب لا إمكان بتوهم أن كون العمل واجب الثبوت بالقضاء الإلهي يوجب كونه واجب الثبوت بالنسبة إلى الإنسان لا ممكنه.

و بتقرير آخر واضح تعلق علمه تعالى مثلا بأن خشبة كذا ستحرق بالنار يوجب وجوب تحقق الاحتراق المقيد بالنار لأنه الذي تعلق به العلم الحق لا وجوب تحقق الاحتراق مطلقا سواء كانت هناك نار أو لم تكن إذ لم يتحقق علم بهذه الصفة، و كذا علمه تعالى بأن الإنسان سيعمل باختياره و إرادته عملا أو أنه سيشقى لعمل اختياري كذا يوجب وجوب تحقق العمل من طريق اختيار الإنسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء كان هناك اختيار أو لم يكن و سواء كان هناك إنسان أو لم يكن حتى تنقطع به رابطة التأثير بين الإنسان و عمله، و نظيره علمه بأن إنسانا كذا سيشقى بكفره اختياريا يستوجب تحقق الشقوة التي عن الكفر دون الشقوة مطلقة سواء كان هناك كفر أو لا.

فاتضح أن علمه تعالى بعمل الإنسان لا يستوجب بطلان الاختيار و ثبوت الإجبار و إن كان معلومه تعالى لا يتخلف عن علمه له الحكم لا معقب لحكمه.

قوله تعالى: "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق" قال في المجمع، الزفير أول نهاق الحمار و الشهيق آخر نهاقه انتهى.

و قال في الكشاف،: الزفير إخراج النفس و الشهيق رده انتهى.

و قال الراغب في المفردات، الزفير تردد النفس حتى ينتفخ الضلوع منه.

و قال: الشهيق طول الزفير و هو رده و الزفير مده، قال تعالى: "لهم فيها زفير و شهيق" "سمعوا لها تغيظا و زفيرا" و قال تعالى: "سمعوا لها شهيقا" و أصله من جبل شاهق أي متناهي الطول.

انتهي.

و المعاني - كما ترى - متقاربة و كان في الكلام استعارة، و المراد أنهم يردون أنفاسهم إلى صدورهم ثم يخرجونها فيمدونها برفع الصوت بالبكاء و الأنين من شدة حر النار و عظم الكربة و المصيبة كما يفعل الحمار ذلك عند نهيقه.

و كان الظاهر من سياق قوله: "فمنهم شقي و سعيد" أن يقال بعده: فأما الذي شقي ففي النار له فيها زفير و شهيق "إلخ" لكن السياق السابق عليه الذي افتتح به وصف يوم القيامة أعني قوله: "ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود" مبني على الكثرة و الجماعة، و مقتضاها المضي على هيئة الجمع: الذين شقوا و الذين سعدوا، و إنما عبر بقوله، شقي و سعيد لما قيل قبله: "لا تكلم نفس" فاختير المفرد المنكر ليفيد النفي بذلك الاستغراق و العموم فلما حصل الغرض بقوله: "لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي و سعيد" عاد السياق السابق المبني على الكثرة و الجماعة فقيل: "فأما الذين شقوا" بلفظ الجمع إلى آخر الآيات الثلاث.

قوله تعالى: "خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد".

بيان لمكث أهل النار فيها كما أن الآية التالية: "و أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ" بيان لمكث أهل الجنة فيها و تأييد لاستقرارهم في مأواهم.

قال الراغب في المفردات: الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد و بقاؤه على الحالة التي هو عليها، و كل ما يتباطأ عنه التغيير و الفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي: خوالد و ذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها يقال خلد يخلد خلودا قال تعالى: "لعلكم تخلدون" و الخلد - بالفتح فالسكون - اسم للجزء الذي يبقى من الإنسان على حالته فلا يستحيل ما دام الإنسان حيا استحالة سائر أجزائه، و أصل المخلد الذي يبقى مدة طويلة، و منه قيل: رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب، و دابة مخلدة هي التي تبقى ثناياها حتى تخرج رباعيتها ثم استعير للمبقي دائما.

و الخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها قال تعالى: "أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" "أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" "و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها".

و قوله تعالى: "يطوف عليهم ولدان مخلدون" قيل: مبقون بحالتهم لا يعتريهم الفساد، و قيل: مقرطون بخلدة، و الخلدة ضرب من القرطة، و إخلاد الشيء جعله مبقى و الحكم عليه بكونه مبقى، و على هذا قوله سبحانه: "و لكنه أخلد إلى الأرض" أي ركن إليها ظانا أنه يخلد فيها.

انتهي.

و قوله: "ما دامت السماوات و الأرض" نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود و المعنى دائمين فيها دوام السماوات و الأرض لكن الآيات القرآنية ناصة على أن السماوات و الأرض لا تدوم دوام الأبد و هي مع ذلك ناصة على بقاء الجنة و النار بقاء لا إلى فناء و زوال.

و من الآيات الناصة على الأول قوله تعالى: "ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى": الأحقاف: 3، و قوله: "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين": الأنبياء: 104، و قوله: "و السماوات مطويات بيمينه": الزمر: 67، و قوله: "إذا رجت الأرض رجا و بست الجبال بسا فكانت هباء منبثا": الواقعة: 6.

و منها في النص على الثاني قوله تعالى: "جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا": التغابن: 9، و قوله: "و أعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا و لا نصيرا": الأحزاب: 65.

و على هذا يشكل الأمر في الآيتين من جهتين: إحداهما تحديد الخلود المؤبد بمدة دوام السماوات و الأرض و هما غير مؤبدتين لما مر من الآيات.

و ثانيتهما تحديد الأمر الخالد الذي تبتدىء من يوم القيامة و هو كون الفريقين في الجنة و النار و استقرارهما فيهما، بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة و هو السماوات و الأرض، و هذا الإشكال الثاني أصعب من الأول لأنه وارد حتى على من لا يرى الخلود في النار أو في الجنة و النار معا بخلاف الأول.

و الذي يحسم الإشكال أنه تعالى يذكر في كلامه أن في الآخرة أرضا و سماوات و إن كانت غير ما في الدنيا بوجه، قال تعالى: "يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار": إبراهيم: 48، و قال حاكيا عن أهل الجنة: "و قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء": الزمر: 74، و قال يعد المؤمنين و يصفهم: "أولئك لهم عقبى الدار": الرعد: 22.

فللآخرة سماوات و أرض كما أن فيها جنة و نارا و لهما أهلا و قد وصف الله سبحانه الجميع بأنها عنده، و قال: "ما عندكم ينفد و ما عند الله باق": النحل: 96 فحكم بأنها باقية غير فانية.

و تحديد بقاء الجنة و النار و أهلهما بمدة دوام السماوات و الأرض إنما هو من جهة أن السماوات و الأرض مطلقا و من حيث أنهما سماوات و أرض مؤبدة غير فانية، و إنما تفنى هذه السماوات و الأرض التي في هذه الدنيا على النظام المشهود و أما السماوات التي تظل الجنة مثلا و الأرض التي تقلها و قد أشرقت بنور ربها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا تخلو منهما قط، و بذلك يندفع الإشكالان جميعا.



و قد أشار في الكشاف إلى هذا الوجه إجمالا حيث قال: "و الدليل على أن لها سماوات و أرضا قوله سبحانه: "يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات" و قوله سبحانه: "و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء" و لأنه لا بد لأرض الآخرة مما تقلهم و تظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، و كل ما أظلك فهو سماء" انتهى.

و إن كان الوجه الذي أشار إليه ثانيا سخيفا لأنه إثبات للسماء و الأرض من جهة الإضافة و أن الجنة و النار لا بد أن يتصور لهما فوق و تحت فيكون الجنة و النار أصلا و سماؤهما و أرضهما تبعين لهما في الوجود، و لازمه تحديد بقاء سمائهما و أرضهما بمدة دوامها لا بالعكس كما فعل في الآية.

على أن لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقق للجنة و النار أرض و سماء و أما السماوات بلفظ الجمع كما في الآية فلا، فيبقى الإشكال في السماوات على حاله.

و بما تقدم يندفع أيضا ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال: و فيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده و دوامه و من عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب و العقاب فلا يجدي له التشبيه.

انتهي.

و مراده أن الآية تشبه دوام الجنة و النار بأهلهما بدوام السماوات و الأرض فلو كان المراد بهما سماوات الآخرة و أرضها و لا يعرف أكثر الخلق وجودها و دوامها كان ذلك من تشبيه الأجلى بالأخفى و هو غير جائز في الكلام البليغ.

و جوابه: أنا إنما عرفنا دوام الجنة و النار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود سماوات و أرض لهما و كذا أبدية الجميع من كلامه فأي مانع من تحديد إحدى حقيقتين مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالأخرى في كلامه، و إن كانت إحدى الحقيقتين أعرف عند الناس من الأخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج.

و يندفع به أيضا ما ذكره الآلوسي في ذيل هذا البحث أن المتبادر من السماوات و الأرض هذه الأجرام المعهود عندنا فالأولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه انتهى ملخصا.

وجه الاندفاع أن الآيات القرآنية إنما تتبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلية التي تعطيها اللغة و العرف، و أما في مقاصدها و تشخيص المصاديق التي تجري عليها المفاهيم فلا، بل السبيل المتبع فيها هو التدبر الذي أمر به الله سبحانه و إرجاع المتشابه إلى المحكم و عرض الآية على الآية فإن القرآن يشهد بعضه على بعض و ينطق بعضه ببعض و يصدق بعضه بعضا - كما في الروايات - فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول: إنه واحد أحد أو عالم قادر حي مريد سميع بصير أو غير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند العرف من المصاديق بل على ما يفسرها نفس كلامه تعالى و يكشفه التدبر البالغ من معانيها، و قد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.

و قد وردت في الروايات و في كلمات المفسرين توجيهات أخرى للآية نورد منها ما عثرنا عليه و ليكن الذي أوردناه أولها.

الوجه الثاني: أن المراد سماوات الجنة و النار و أرضهما أي ما يظلهما و ما يقلهما فإن كل ما علاك و أظلك فهو سماء و ما استقرت عليه قدمك فهو أرض، و بعبارة أخرى المراد بهما ما هو فوقهما و ما تحتهما.

و هذا هو الوجه الذي ذكره الزمخشري في آخر ما نقلناه من كلامه آنفا، و قد عرفت الإشكال فيه.

على أن هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية بلفظ الجمع كما تقدم.

الوجه الثالث: أن المراد ما دامت الآخرة و هي دائمة أبدا كما أن دوام السماء و الأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، و لعل المراد أن قوله: "ما دامت السماوات و الأرض" موضوع وضع التشبيه كقولك: كلمته تكليم المستهزىء الهازىء به أي مثل تكليم من يستهزىء و يهزأ به.

و فيه: أنه لو أريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع، و لو أريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ.

الوجه الرابع: أن المراد به التبعيد و إفادة الأبدية لا أن المراد به التحديد بمدة بقاء السماوات و الأرض بعينها فإن للعرب ألفاظا كثيرة يستخدمونها في إفادة التأبيد من غير أن يريدوا بها المعاني التي تحت تلك الألفاظ كقولهم: الأمر كذا و كذا ما اختلف الليل و النهار، و ما ذر شارق، و ما طلع نجم، و ما هبت نسيم، و ما دامت السماوات و قد استراحوا إليها و إلى أشباهها ظنا منهم أن هذه الأشياء دائمة باقية لا تبيد أبدا ثم استعملوها كأنها موضوعة للتبعيد.

و فيه: أنهم إنما استعملوها في التأبيد و أكثروا منه ظنا منهم أن هذه الأمور دائمة مؤبدة، و أما من يصرح في كلامه بأنها مؤجلة الوجود منقطعة فانية و يعد الإيمان بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأي صورة تصورت.

كيف لا؟ و قد قال تعالى: "ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى": الأحقاف: 3 و كيف يصح مع ذلك أن يقال: إن الجنة و النار خالدتان أبدا ما دامت السماوات و الأرض.

الوجه الخامس: أن يكون المراد أنهم خالدون بمدة بقاء السماوات و الأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم الله سبحانه على ذلك، و يخلدهم و يؤبد مقامهم، و هذا مثل أن يقال: هم خالدون كذا و كذا سنة، ثم يضيف تعالى إلى ذلك ما لا يتناهى من الزمان كما يقال في قوله تعالى: "لابثين فيها أحقابا": النبأ: 23 أي أحقابا ثم يزادون على ذلك.

و فيه: أنه على الظاهر مبني على استفادة بعض المدة من قوله: "ما دامت السماوات و الأرض" و البعض الآخر الذي لا يتناهى من قوله: "إلا ما شاء ربك" و دلالته على ذلك تتوقف على تقدير أمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلا.

الوجه السادس: أن المراد بالنار و الجنة نار البرزخ و جنتها و هما خالدتان ما دامت السماوات و الأرض، و إذا انتهت مدة بقاء السماوات و الأرض بقيام القيامة خرجوا منها لفصل القضاء في عرصات المحشر.

و فيه: أنه خلاف سياق الآيات فإن الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة و توصيفها بما له من الأوصاف، و من المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنه يوم مجموع له الناس، و أنه يوم مشهود، و أنه يوم إذا أتى لا تكلم نفس إلا بإذنه حتى إذا اتصل بأخص أوصافه و أوضحها و هو الجزاء بالجنة و النار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنة و النار الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به.

على أن الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار قال تعالى: "و حاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب": المؤمن: 46.

الوجه السابع: أن المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان و بالكون في الجنة الكون في ولاية الله فإن ولاية الله هي التي تظهر جنة في الآخرة يتنعم فيها السعداء.

و ولاية الشيطان هي التي تتصور بصورة النار فتعذب المجرمين يوم القيامة كما تفيده الآيات الدالة على تجسم الأعمال.

فالأشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار و ربما خرجوا منها إن أدركتهم العناية و التوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره و المجرم يتوب عن إجرامه، و السعداء يدخلون الجنة بسعادتهم و ربما خرجوا منها إن أضلهم الشيطان و أخلدوا إلى الأرض و اتبعوا أهواءهم كالمؤمن يرتد كافرا و الصالح يعود طالحا.



و فيه: ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإن الآيات تعد ما ليوم القيامة من الأوصاف الخالصة الهائلة المدهشة التي تذوب القلوب و تطير العقول باستماعها و التفكر فيها لتنذر به أولوا الاستكبار و الجحود من الكفار و يرتدع به أهل المعاصي و الذنوب.

فيستبعد أن يذكر فيها أنه يوم مجموع له الناس و يوم مشهود و يوم لا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه ثم يذكر أن الكفار و أهل المعاصي في نار منذ كفروا و أجرموا إلى يوم القيامة، و أهل الإيمان و العمل الصالح في جنة منذ آمنوا و عملوا صالحا فإن هذا البيان لا يلائم السياق - أولا - من جهة أن الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصة به لا ما قبله المنتهي إليه، و - ثانيا - من جهة أن الآيات مسوقة للإنذار و التبشير، و هؤلاء الكفار و المجرمون أهل الاستكبار و الطغيان لا يعبئون بمثل هذه الحقائق المستورة عن حواسهم، و لا يرون لها قيمة، و لا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة و الرجاء لمثل هذه السعادة المعنوية و هو ظاهر، نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن.

و هاهنا وجوه أخر يمكن أن تستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك" طوينا ذكرها هاهنا إيثارا للاختصار لأنها تشترك مع الوجوه الآتية التي سنوردها في تفسير الجملة، ما يرد عليها من الإشكال فنكتف بذلك.

و قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك" استثناء مما سبقه من حديث الخلود في النار، و نظيرتها الجملة الواقعة بعد ذكر الخلود في الجنة، و "ما" في قوله: "ما شاء ربك" مصدرية و التقدير - على هذا - إلا أن يشاء ربك عدم خلودهم و لكن يضعفه قوله بعد: "إن ربك فعال لما يريد" فإن "ما" هاهنا موصولة، و المراد بقوله "ما شاء" و قوله: "ما يريد" واحد.

و إما موصولة و الاستثناء من مدة البقاء المحكوم بالدوام الذي يستفاد من السياق، و المعنى هم خالدون في جميع الأزمنة المستقبلة المتتالية إلا ما شاء ربك من الزمان، أو الاستثناء من ضمير الجمع المستتر في خالدين و المعنى هم جميعا خالدون فيها إلا من شاء الله أن يخرج منها و يدخل في الجنة فيكون تصديقا لما في الأخبار أن المذنبين و العصاة من المؤمنين لا يدومون في النار بل يخرجون منها و يدخلون الجنة بالآخرة للشفاعة، فإن خروج البعض من النار كاف في انتفاض العموم و صحة الاستثناء.

و يبقى الكلام في إيقاع ما في قوله ما شاء على من يعقل و لا ضير فيه و إن لم يكن شائعا لوقوعه في كلامه تعالى كقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء: النساء - 3.

و الكلام في الآية التالية و أما الذين سعدوا إلخ نظير الكلام في هذه الآية لاشتراكهما في السياق غير أن الاستثناء في آية الجنة يعقبه قوله عطاء غير مجذوذ و لازمه أن لا يكون الاستثناء مشيرا إلى تحقق الوقوع فإنه لا يلائم كون الجنة عطاء غير مقطوع بل مشيرا إلى إمكان الوقوع و المعنى أن أهل الجنة فيها أبدا إلا أن يخرجهم الله منها لكن العطية دائمية و هم غير خارجين و الله غير شاء ذلك أبدا.

فيكون الاستثناء مسوقا لإثبات قدرة الله المطلقة و إن قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنة الخالدة و سلطنته لا تنفد و ملكه لا يزول و لا يبطل و إن الزمان بيده و قدرته و إحاطته باقية على ما كانت عليه قبل فله تعالى أن يخرجهم من الجنة و إن وعد لهم البقاء فيها دائما لكنه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده و الله لا يخلف الميعاد.

و الكلام في الاستثناء الواقع في هذه الآية أعني آية النار نظيره في آية الجنة لوحدة السياق بالمقابلة و المحاذاة و إن اختتمت الآية بقوله إن ربك فعال لما يريد و فيه من الإشارة إلى التحقق ما لا يخفى.

فأهل الخلود في النار كأهل الخلود في الجنة لا يخرجون منها أبدا إلا أن يشاء الله سبحانه ذلك لأنه على كل شيء قدير و لا يوجب فعل من الأفعال إعطاء أو منع سلب قدرته على خلافه أو خروج الأمر من يده لأن قدرته مطلقة غير مقيدة بتقدير دون تقدير أو بأمر دون أمر قال تعالى و يفعل الله ما يشاء: إبراهيم - 27 و قال يمحوا الله ما يشاء و يثبت: الرعد - 39 إلى غير ذلك من الآيات.

و لا منافاة بين هذا الوجه و بين ما ورد في الأخبار من خروج بعض المجرمين منها بمشية الله كما لا يخفى.

هذا وجه في الاستثناء و هنا وجوه أخر أنهى الجميع في مجمع البيان، إلى عشرة فليكن ما ذكرناه أولها.

و ثانيهما أنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار و الزيادة من النعيم لأهل الجنة و التقدير إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره لي عليك ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك لأن الكثير لا يستثنى من القليل و على هذا فيكون إلا بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربك كما يقال ما كان معنا رجل إلا زيد أي سوى زيد.

و فيه أنه مبني على عدم إفادة قوله ما دامت السماوات و الأرض الدوام و الأبدية و قد عرفت خلافه.

و ثالثها أن الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر لأنهم ليسوا في جنة و لا نار و مدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت و الحياة لأنه تعالى لو قال خالدين فيها أبدا و لم يستثن لظن الظان أنهم يكونون في النار و الجنة من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة.

فإن قيل كيف يستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها فالجواب أن ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل الدخول فيها.

و فيه أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ على أن هذا الوجه بظاهره مبني على إفادة قوله فمنهم شقي و سعيد الشقاوة و السعادة الجبريتين من غير اكتساب و اختيار و قد عرفت ما فيه.

و رابعها أن الاستثناء الأول متصل بقوله لهم فيها زفير و شهيق و تقديره إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين و لا يتعلق الاستثناء بالخلود و في أهل الجنة متصل بما دل عليه الكلام فكأنه قال لهم فيها نعيم إلا ما شاء ربك من أنواع النعيم و إنما دل عليه قوله عطاء غير مجذوذ.

و فيه أنه قطع لاتصال السياق و وحدته من غير دليل و فيه أخذ إلا الأولى بمعنى سوى و إلا الثانية بمعنى الاستثناء على أنه لا قرينة هناك على تعلق إلا الأولى بقوله لهم فيها زفير و شهيق و لا أن قوله عطاء غير مجذوذ يدل على ما ذكره فإنه إنما يدل على دوام العطاء لا على جميع أنواع العطاء أو بعضها.

ثم أية فائدة في استثناء بعض أنواع النعيم و إظهار ذلك للسامعين و المقام مقام التطميع و التبشير و الظرف ظرف الدعوة و الترغيب فهذا من أسخف الوجوه.

و خامسها أن إلا بمعنى الواو و إلا كان الكلام متناقضا و المعنى خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض و ما شاء ربك من الزيادة على ذلك.

و فيه أن كون إلا بمعنى الواو لم يثبت و إنما ذكره الفراء لكنهم ضعفوه على أن الوجه مبني على عدم إفادة التقدير و التحديد السابق على الاستثناء في الآيتين الدوام و قد عرفت ما فيه.



و سادسها أن المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل التوحيد و هم الذين ضموا إلى إيمانهم و طاعتهم ارتكاب معاص توجب دخول النار فأخبر سبحانه أنهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من إخراجهم منها إلى الجنة و إيصال ثواب طاعاتهم إليهم.

و أما الاستثناء الذي في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضا لأن من ينقل من النار إلى الجنة و يخلد فيها لا بد في الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدم من حاله فكأنه قال إنهم في الجنة خالدين فيها إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار.

قالوا و الذين شقوا في هذا القول هم الذين سعدوا بأعيانهم و إنما أجري علهيم كل من الوصفين في الحال الذي يليق به ذلك فإذا أدخلوا في النار و عوقبوا فيها فهم أهل شقاء و إذا أدخلوا في الجنة و أثبتوا فيها فهم أهل سعادة و نسبوا هذا القول إلى ابن عباس و جابر بن عبد الله و أبي سعيد الخدري من الصحابة و جماعة من التابعين.

و فيه أنه لا يلائم السياق فإنه تعالى بعد ما ذكر في صفة يوم القيامة أنه يوم مجموع له الناس قسم أهل الجمع إلى قسمين بقوله فمنهم شقي و سعيد و من المعلوم أن قوله فأما الذين شقوا إلخ و قوله و أما الذين سعدوا مبدوين بأما التفصيلية مسوقان لتفصيل ما أجمل في قوله فمنهم شقي و سعيد و لازم ذلك كون المراد بالذين شقوا جميع أهل النار لا طائفة منهم خاصة و المراد بالذين سعدوا جميع أصحاب الجنة لا خصوص من أخرج من النار و أدخل الجنة.

اللهم إلا أن يقال المراد بقوله فمنهم شقي و سعيد أيضا وصف طائفة خاصة بأعيانهم كما أن المراد بالذين شقوا و الذين سعدوا طائفة واحدة بأعيانهم و المعنى أن بعض أهل الجمع شقي و سعيد معا و هم الذين أدخلوا النار و استقروا فيها خالدين ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك أن يخرجهم منها و يدخلهم الجنة و يسعدهم بها فيخلدوا فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا مقدارا من الزمان كانوا فيه أشقياء ساكنين في النار قبل أن يدخلوا الجنة.

لكن ينتقل ما قدمناه من الإشكال حينئذ إلى ما ادعي من معنى قوله فمنهم شقي و سعيد فالسياق الظاهر في وصف أهل الجمع عامة لا يساعد على إرادة طائفة خاصة منهم بقوله فمنهم شقي و سعيد أولا ثم تفصيل حالهم بتفريقهم و هم جماعة واحدة بعينهم و إيرادهم في صورة موضوعين اثنين لحكمين مع تحديدين بدوام السماوات و الأرض ثم استثناءين ليس المراد بهما إلا واحد و أي فائدة في هذا التفصيل دون أن يورث لبسا في المعنى و تعقيدا في النظم و يمكن أن يقرر هذا الوجه على وجه التعميم بأن يقال المراد بقوله فمنهم شقي و سعيد تقسيم عامة أهل الجمع إلى الشقي و السعيد و المراد بقوله الذين شقوا جميع أهل النار و بقوله الذين سعدوا جميع أصحاب الجنة و يكون المراد بالاستثناء في الموضعين استثناء حال الفساق من أهل التوحيد الذين يخرجهم الله تعالى من النار و يدخلهم الجنة و حينئذ يسلم من جل ما كان يرد على الوجه السابق من الإشكال.

و سابعها أن التعليق بالمشية إنما هو على سبيل التأكيد للخلود و التبعيد للخروج لأن الله سبحانه لا يشاء إلا خلودهم على ما حكم به فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لأنه لا يشاء أن يخرجهم منها.

و هذا الوجه يشارك الوجه الأول في دعوى أن الاستثناء في الموردين غير مسوق لنقض الخلود غير أن الوجه الأول يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان إطلاق القدرة الإلهية و هذا الوجه يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان أن الخلود لا ينتقض بسبب من الأسباب إلا أن يشاء الله انتقاضه و لن يشاء أصلا.

و هذا هو وجه الضعف فيه فإن قوله و لن يشاء أصلا لا دليل عليه هب أن قوله في أهل الجنة عطاء غير مجذوذ يشعر أو يدل على ذلك لكن قوله إن ربك فعال لما يريد لا يشعر به و لا يدل عليه لو لم يشعر بخلافه كما هو ظاهر.

و ثامنها أن المراد به استثناء الزمان الذي سبق فيه طائفة من أهل النار دخولها قبل طائفة و كذا في الطوائف الذين يدخلون الجنة فإنه تعالى يقول و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا و سيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا فالزمرة منهم يدخل بعد الزمرة و لا بد أن يقع بينهما تفاوت في الزمان و هو الذي يستثنيه تعالى بقوله إلا ما شاء ربك و نقل الوجه عن سلام بن المستنير البصري.

و فيه أن الظاهر من قوله: "ففي النار خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض" و كذا في قوله: "ففي الجنة خالدين" إلخ أن الوصف ناظر إلى مدة الكون في النار أو الجنة من جهة النهاية لا من جهة البداية.

على أن المبدأ للاستقرار في النار أو في الجنة على أي حال هو يوم القيامة، و لا يتفاوت الحال في ذلك من جهة دخول زمرة بعد زمرة و التفاوت الزماني الحاصل من ذلك.

و تاسعها: أن المعنى كونهم خالدين في النار معذبين فيها مدة كونهم في القبور ما دامت السماوات و الأرض في الدنيا، و إذا فنيتا و عدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، و قوله: "إلا ما شاء ربك" استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، نقله في مجمع البيان، عن شيخنا أبي جعفر الطوسي في تفسيره ناقلا عن جمع من أصحابنا في تفاسيرهم.

و فيه: أن مرجعه إلى الوجه الثاني المبني على أخذ "إلا" بمعنى سوى مع اختلاف ما في التقرير، و قد عرفت ما يرد عليه.

و عاشرها: أن المراد إلا من شاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار فالاستثناء من الضمير العائد إلى الذين شقوا، و التقدير فأما الذين شقوا فكائنون في النار إلا من شاء ربك، و الظاهر أن هذا القائل يوجه الاستثناء في ناحية أهل الجنة "و أما الذين سعدوا - إلى قوله - إلا ما شاء ربك" بأن المراد به أهل التوحيد الخارجون من النار إلى الجنة كما تقدم في بعض الوجوه السابقة، و المعنى أن السعداء في الجنة خالدين فيها إلا الفساق من أهل التوحيد فإنهم في النار ثم يخرجون فيدخلون الجنة، و نسب الوجه إلى أبي مجاز.

و فيه: أن ما ذكره إنما يجري في أول الاستثنائين فالثاني من الاستثناءين لا بد أن يوجه بوجه آخر، و هو كائنا ما كان يوجب انتقاض وحدة السياق في الآيتين.

على أن العصاة من المؤمنين الذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا يدخلهم النار من رأس لا يعفى عنهم جزافا و إنما يعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة فيصيرون بذلك سعداء فيدخلون في الآية الثانية: "و أما الذين سعدوا ففي الجنة" إلخ من غير أن يدخلوا في زمرة الأشقياء ثم يستثنوا لعدم دخولهم النار، و بالجملة هم ليسوا بأشقياء حتى يستثنوا بل سعداء داخلون في الجنة من أول.

و قوله: "إن ربك فعال لما يريد" تعليل للاستثناء، و تأكيد لثبوت قدرته تعالى مع العمل على حال إطلاقها كما تقدم.



قوله تعالى: "و أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ" قرىء سعدوا بالبناء للمجهول و بالبناء للمعلوم و الثاني أوفق باللغة لأن مادة سعد لازمة في المعروف من استعمالهم لكن الأول و هو سعدوا بالبناء للمجهول مع كون "شقوا" في الآية السابقة بالبناء للمعلوم لا يخلو عن إشارة لطيفة إلى أن السعادة و الخير من الله سبحانه و الشر الملحق بهم هو من عندهم كما قال تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا": النور: 21.

و الجذ: هو القطع و عطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، وعده تعالى الجنة عطاء غير مجذوذ مع سبق الاستثناء من الخلود بقوله: "إلا ما شاء ربك" من أحسن الشواهد على أن مراده باستثناء المشية إثبات بقاء إطلاق قدرته و أنه مالك الأمر لا يخرج زمامه من يده قط.

و يجري في هذه الآية جميع ما تقدم من الأبحاث المشابهة في الآية السابقة إلا ما كان من الوجوه مبنيا على كون المستثنى في قوله: "إلا ما شاء ربك" من دخل النار أولا ثم خرج منها إلى الجنة ثانيا، و ذلك أن من الجائز أن يخرج من نار الآخرة بعض من دخله لكن لا يخرج من جنة الآخرة و هي جنة الخلد أحد ممن دخلها جزاء أبدا، و هو كالضروري من الكتاب و السنة، و قد تكاثرت الآيات و الروايات في ذلك بحيث لا يرتاب في دلالتها على ذلك ذو ريب، و إن كانت دلالة الكتاب على خروج بعض من في النار منها ليس بذاك الوضوح.

قال في مجمع البيان، في وجوب دخول أهل الطاعة الجنة و عدم جواز خروجهم منها: لإجماع الأمة على أن من استحق الثواب فلا بد أن يدخل الجنة، و أنه لا يخرج منها بعد دخوله فيها.

انتهي.

مسألة "وجوب دخول أهل الثواب الجنة" مبنية على قاعدة عقلية مسلمة و هي أن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد لأن الذي تعلق به الوعد حق للموعود له، و عدم الوفاء به إضاعة لحق الغير و هو من الظلم و أما الوعيد فهو جعل حق للموعد على التخلف الذي يوعد به له، و ليس من الواجب لصاحب الحق أن يستوفي حقه بل له أن يستوفي و له أن يترك و الله سبحانه وعد عباده المطيعين الجنة بإطاعتهم، و أوعد العاصين النار بعصيانهم فمن الواجب أن يدخل أهل الطاعة الجنة توفية للحق الذي جعله لهم على نفسه، و أما عقاب العاصين فهو حق جعله لنفسه عليهم فله أن يعاقبهم فيستوفي حقه و له أن يتركهم بترك حق نفسه.

و أما مسألة عدم الخروج من الجنة بعد دخولها فهو مما تكاثرت عليه الآيات و الروايات، و الإجماع الذي ذكره مبني على الذي تسلموه من دلالة الكتاب و السنة أو العقل على ذلك، و ليس بحجة مستقلة.

بحث روائي

في الدر المنثور،: أخرج البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: "و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى - و هي ظالمة إن أخذه أليم شديد" و فيه،: أخرج الترمذي و حسنه و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت: "فمنهم شقي و سعيد" قلت: يا رسول الله فعلام نعمل، على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ منه، و جرت به الأقلام يا عمر، و لكن كل ميسر لما خلق له أقول: و هذا اللفظ مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق متعددة من طرق أهل السنة كما في صحيح البخاري عن عمران بن الحصين قال: قلت يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟ قال: "كل ميسر لما خلق له" و فيه، أيضا عن علي كرم الله وجهه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):، أنه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار. قالوا: أ لا نتكل؟ قال: اعملوا "فكل ميسر لما خلق له" و قرأ: "فأما من أعطى و اتقى" إلخ.

و لتوضيح ذلك نقول: إنه لا يخفى على ذي مسكة أن كلا من الحوادث الجارية في هذا العالم من أعيان و آثارها ما لم يلبس لباس التحقق و الوجود فهو على حد الإمكان و للإمكان نسبة إلى الوجود و العدم معا، فالخشبة ما لم تصر رمادا بالاحتراق لها إمكان أن تصير رمادا و أن لا تصير، و المني ما لم يصر إنسانا بالفعل فلها إمكان الإنسانية أي أنها تحمل استعداد أن يصير إنسانا إن اجتمع معها بقية أجزاء العلة الموجبة للإنسانية و استعداد أن يبطل فيصير شيئا غير الإنسان.

و إذا تلبس بلباس الوجود و صار مثلا رمادا بالفعل و إنسانا بالفعل بطل عند ذلك عنه الإمكان الذي كان ينسبه إلى الرماد و غيره معا و إلى الإنسان و عدمه معا، و صار إنسانا فحسب يمتنع غيره و رمادا يمتنع مع هذه الفعلية غيره.

و بهذا يتضح أنا إذا أخذنا الفعليات و نسبناها إلى عللها الموجبة لها و هكذا نسبنا عللها إلى علل العلل كان العالم بهذه النظرة سلسلة من الفعليات لا يتغير شيء منها عما هو عليه، و بطل الإمكانات و الاستعدادات و الاختيارات جميعا، و إذا نظرنا إلى الأمور من جهة الإمكانات و الاستعدادات التي تحملها بالنسبة إلى غايات حركاتها لم يخرج شيء من الأشياء المادية من حيز الإمكان و مستقر الاختيار.

فللكون وجهان: وجه ضرورة و فعلية يتعين فيه كل جزء من أجزائه من عين أو أثر عين، و لا يقبل أي إبهام و تردد، و أي تغيير و تبديل و هو الوجه الذي تقوم فيه المسببات بأسبابها الموجبة و المعلولات بعللها التامة التي لا تنفك عن مقتضياتها و لا تتخلف معلولاتها عنها و لا تنفع في تغييرها عما هي عليه حيلة، و لا في تبديلها سعي و لا حركة.

و وجه آخر هو وجه الإمكان و صورة الاستعداد و القابلية لا يتعين بحسبه شيء إلا بعد الوقوع، و لا يخرج عن الإبهام و الإجمال إلا بعد التحقق، و عليه يقوم ناموس الاختيار، و به يتقوم السعي و الحركات، و يبتني العمل و الاكتساب، و إليه تركن التعاليم و التربية و الخوف و الرجاء و الأماني و الأهواء، و به تنجح الدعوة و الأمر و النهي و يصح الثواب و العقاب.

و من الضروري أن الوجهين لا يتدافعان في الوجود و لا يبطل أحدهما الآخر فللفعلية ظرفها و للإمكان و الاستعداد ظرفه كما لا يدفع إبهام الحادثة الفلانية تعينها بعد التحقق، و لا تعينها بعده إبهامها قبله.

و الوجه الأول هو وجه القضاء الإلهي، و لا يبطل تعيين الحوادث بحسبه عدم تعينها بحسب ظرف الدعوة و العمل و الاكتساب، و سنستوفي البحث في ذلك عند ما نضع الكلام في القضاء و القدر فيما يناسبه من الموضع إن شاء الله تعالى.

و لنرجع إلى الأحاديث: التأمل في سياقها يعطي أنهم فهموا من كتابه السعادة و الشقاوة و الجنة و النار و جريان القلم بذلك، الضرورة و الوجوب، و توهموا من ذلك أولا لزوم بطلان المقدمات الموصلة إلى الغايات، و ارتفاع الروابط بين المسببات و أسبابها، و أنه إذا قضي للإنسان بالجنة تحتم له ذلك سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحا أو اقترف سيئا.

و توهموا ثانيا أن تلك المقدمات و الأسباب نظائر للغايات و المسببات واقعة تحت القضاء مكتوبة محتومة فلا يبقى للاختيار معنى و لا للسعي و الاكتساب مجال.



و الذي وقع في الأحاديث من سؤالهم كقولهم: "يا رسول الله فعلام نعمل، على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟" و قولهم: "يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟" و قولهم: "أ لا نتكل؟" أي أ لا نترك العمل اتكالا على ما كتبه الله كتابه لا تتغير و لا تتبدل؟ كل ذلك يشير إلى التوهم الأول، و كأن الذي كانوا يشاهدونه في أنفسهم من صفة الاختيار و الاستطاعة صرفهم عن الإشارة إلى ثاني التوهمين و إن كان ناشبا على قلوبهم فإنهما متلازمان.

و قد أجاب (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سؤالهم بقوله: "كل ميسر لما خلق له" و هو مأخوذ من قوله تعالى في صفة خلق الإنسان: "ثم السبيل يسره": عبس: 20 أي أن كلا من أهل الجنة الذي خلقه الله لها، و من أهل النار الذي خلقه الله لها كما قال: "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس": الأعراف: 179.

له غاية في خلقه و قد يسره الله السبيل إلى تلك الغاية و سهل له السلوك منه إليها.

فبين الإنسان الذي كتبت له الجنة و بين الجنة سبيل لا مناص من قطعه للوصول إليها، و بينه و بين النار التي كتبت له كذلك، و سبيل الجنة هو الإيمان و التقوى، و سبيل النار هو الشرك و المعصية، فالإنسان الذي كتب الله له الجنة إنما كتب له الجنة التي سبيلها الإيمان و التقوى فلا بد من سلوكه، و لم يكتب له الجنة سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحا أو سيئا، و كذلك الذي كتب له النار إنما كتب له النار من طريق الشرك و المعصية لا مطلقا.

و لذلك أعقب (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "كل ميسر لما خلق له" - على ما في رواية علي (عليه السلام) - بتلاوة قوله تعالى: "فأما من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى و أما من بخل و استغنى و كذب بالحسنى فسنيسره للعسرى": الليل: 10.

فالمتوقع لإحدى الغايتين من غير طريقه كالطامع في الشبع من غير أكل أو الري من غير شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة فإنما الدار دار سعي و حركة لا تنال فيها غاية إلا بسلوك و نقله، قال تعالى و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و إن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى": النجم، 41.

و لم يهمل (صلى الله عليه وآله وسلم) الجواب عن ثاني التوهمين حيث عبر بالتيسير فإن التيسير هو التسهيل، و من المعلوم أن التسهيل إنما يتحقق في أمر لا ضرورة تحتمه و لا وجوب يعينه و يسد باب عدمه، و لو كان سبيل الجنة ضروري السلوك حتمي القطع على الإطلاق للإنسان الذي كتبت له، كان ثابتا لا يتغير، و لم يكن معنى لتيسيره و تسهيل سلوكه له و هو ظاهر.

فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، "كل ميسر لما خلق له" يدل على أن لما يئول إليه أمر الإنسان من السعادة و الشقاء وجهين وجه ضرورة و قضاء حتم لا يتغير عن سبيل مثله، و وجه إمكان و اختيار ميسر للإنسان يسلك إليه بالعمل و الاكتساب، و الدعوة الإلهية إنما تتوجه إليه من الوجه الثاني دون الوجه الأول.

و قد تقدم كلام في الجبر و الاختيار في تفسير قوله، "و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة، 26 في الجزء الأول من الكتاب.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن قتادة:، أنه تلا هذه الآية، "فأما الذين شقوا" فقال، حدثنا أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "يخرج قوم من النار" و لا نقول كما قال أهل حروراء.

أقول: و قوله: "و لا نقول كما قال أهل حروراء" هو من كلام قتادة، و أهل حروراء قوم من الخوارج، و هم يقولون بخلود من دخل النار فيها.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "فأما الذين شقوا إلى قوله إلا ما شاء ربك" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد الأهوازي في كتاب الزهد بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجهنميين فقال: كان أبو جعفر يقول: يخرجون منها فينتهي بهم إلى عين عند باب الجنة تسمى عين الحيوان فينضح عليهم من مائها فينبتون كما ينبت الزرع تنبت لحومهم و جلودهم و شعورهم: أقول: و رواه أيضا بإسناده عن عمر بن أبان عنه (عليه السلام): و المراد بالجهنميين طائفة خاصة من أهل النار و هم أهل التوحيد الخارجون منها بالشفاعة، و يسمون الجهنميين، لا عامة أهل النار كما يدل عليه ما سيأتي.

و فيه،: عنه بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن أناسا يخرجون من النار. حتى إذا صاروا حمما أدركتهم الشفاعة. قال: فينطلق بهم إلى نهر يخرج من مرشح أهل الجنة فيغتسلون فيه فتنبت لحومهم و دماؤهم، و يذهب عنهم قشف النار، و يدخلون الجنة يقولون أهل الجنة الجهنميين فينادون بأجمعهم: اللهم أذهب عنا هذا الاسم قال: فيذهب عنهم. ثم قال يا أبا بصير إن أعداء علي هم المخلدون في النار و لا تدركهم الشفاعة.

و فيه،: عنه بإسناده عن عمر بن أبان قال: سمعت عبدا صالحا يقول في الجهنميين: إنهم يدخلون النار بذنوبهم، و يخرجون بعفو الله.

و فيه،: عنه بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إنهم يقولون: لا تعجبون من قوم يزعمون أن الله يخرج قوما من النار ليجعلهم من أهل الجنة مع أولياء الله؟ فقال: أ ما يقرءون قول الله تبارك و تعالى: "و من دونهما جنتان" أنها جنة دون جنة و نار دون نار. إنهم لا يساكنون أولياء الله فقال: بينهما و الله منزلة، و لكن لا أستطيع أن أتكلم، إن أمرهم لأضيق من الحلقة، إن القائم إذا قام بدأ بهؤلاء.

أقول: قوله: "إن القائم" إلخ، أي إذا ظهر بدأ بهؤلاء المستهزءين بأهل الحق انتقاما.

و في تفسير العياشي، عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قوله: "خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض - إلا ما شاء ربك" قال: هذه في الذين يخرجون من النار.

و فيه،: عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "فمنهم شقي و سعيد" قال: في ذكر أهل النار استثنى، و ليس في ذكر أهل الجنة استثنى "و أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض - إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ".

أقول: يشير (عليه السلام) إلى أن الاستثناء بالمشية في أهل الجنة لما عقبه الله بقوله.

"عطاء غير مجذوذ" لم يكن استثناء دالا على إخراج بعض أهل الجنة منها، و إنما يدل على إطلاق القدرة بخلاف الاستثناء في أهل النار فإنه معقب بقوله: "إن ربك فعال لما يريد" المشعر بوقوع الفعل، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك.

و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن السدي: في قوله: "فأما الذين شقوا" الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشية الله فنسخها فأنزل الله بالمدينة: "إن الذين كفروا و ظلموا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم طريقا" إلى آخر الآية فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها و أوجب لهم خلود الأبد، و قوله: "و أما الذين سعدوا" الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشية الله ما نسخها فأنزل بالمدينة: "و الذين آمنوا و عملوا الصالحات سندخلهم جنات إلى قوله ظلا ظليلا" فأوجب لهم خلود الأبد.

أقول: ما ذكره من نسخ الآيتين زعما منه أنهما تدلان على الانقطاع قد عرفت خلافه.

على أن النسخ في مثل الموردين لا ينطبق على عقل و لا نقل.

على أن ذلك لا يوافق الصريح من آية الجنة.



على أن خلود الفريقين مذكور في كثير من السور المكية كالأنعام و الأعراف و غيرهما.

و فيه، أخرج ابن المنذر عن الحسن عن عمر قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه.

و فيه، أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، و قرأ: "فأما الذين شقوا".

و فيه، أخرج ابن المنذر و أبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية: "خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك" قال: و قال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها.

أقول: ما ورد في الروايات الثلاث من أقوال الصحابة و لا حجة فيها على غيرهم، و لو فرضت روايات موقوفة لكانت مطروحة بمخالفة الكتاب و قد قال تعالى في الكفار: "و ما هم بخارجين من النار": البقرة: 167.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه بلغنا أنه يأتي على جهنم حتى. يصفق أبوابها. فقال: لا و الله إنه الخلود. قلت: "خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض - إلا ما شاء ربك" فقال: هذه في الذين يخرجون من النار.

أقول: و الروايات الدالة على خلود الكفار في النار من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا، و قد قدمنا بحثا فلسفيا في خلود العذاب و انقطاعه في ذيل قوله: "و ما هم بخارجين من النار": البقرة: 167 في الجزء الأول من الكتاب.

11 سورة هود - 109 - 119

فَلا تَك فى مِرْيَةٍ مِّمّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَ إِنّا لَمُوَفّوهُمْ نَصِيبهُمْ غَيرَ مَنقُوصٍ (109) وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسى الْكتَب فَاخْتُلِف فِيهِ وَ لَوْ لا كلِمَةٌ سبَقَت مِن رّبِّك لَقُضىَ بَيْنهُمْ وَ إِنهُمْ لَفِى شكٍ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110) وَ إِنّ ُكلاً لّمّا لَيُوَفِّيَنهُمْ رَبّك أَعْمَلَهُمْ إِنّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاستَقِمْ كَمَا أُمِرْت وَ مَن تَاب مَعَك وَ لا تَطغَوْا إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَ لا تَرْكَنُوا إِلى الّذِينَ ظلَمُوا فَتَمَسكُمُ النّارُ وَ مَا لَكم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمّ لا تُنصرُونَ (113) وَ أَقِمِ الصلَوةَ طرَفىِ النهَارِ وَ زُلَفاً مِّنَ الّيْلِ إِنّ الحَْسنَتِ يُذْهِبنَ السيِّئَاتِ ذَلِك ذِكْرَى لِلذّكِرِينَ (114) وَ اصبرْ فَإِنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيّةٍ يَنهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فى الأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِّمّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَ اتّبَعَ الّذِينَ ظلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مجْرِمِينَ (116) وَ مَا كانَ رَبّك لِيُهْلِك الْقُرَى بِظلْمٍ وَ أَهْلُهَا مُصلِحُونَ (117) وَ لَوْ شاءَ رَبّك لجََعَلَ النّاس أُمّةً وَحِدَةً وَ لا يَزَالُونَ مخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَن رّحِمَ رَبّك وَ لِذَلِك خَلَقَهُمْ وَ تَمّت كلِمَةُ رَبِّك لأَمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِينَ (119)

بيان

لما فصل تعالى فيما قصة لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) قصص الأمم الغابرة و ما أداهم إليه شركهم و فسقهم و جحودهم لآيات الله و استكبارهم عن قبول الحق الذي كان يدعوهم إليه أنبياؤهم و ساقهم إلى الهلاك و عذاب الاستئصال ثم إلى عذاب النار الخالد في يوم مجموع له الناس، ثم لخص القول في أمرهم في الآيات السابقة.

أمر في هذه الآيات نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعتبر هو و من معه بذلك، و يستيقنوا أن الشرك بالله و الفساد في الأرض لا يهدي الإنسان إلا إلى الهلاك و البوار فعليهم أن يلزموا طريق العبودية و يمسكوا بالصبر و الصلاة و لا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار و ما لهم من دون الله من أولياء ثم لا ينصرون، و يعلموا أن كلمة الله هي العليا، و كلمة الذين كفروا السفلى و إن مهلتهم فيما يمهلهم الله ليس إلا لتحقيق كلمة الحق التي سبقت منه و ستتم بما يجازيهم به يوم القيامة.

قوله تعالى: "فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم" إلخ تفريع لما تقدم من تفصيل قصص الأمم الماضية التي ظلموا أنفسهم باتخاذ الشركاء و الفساد في الأرض فأخذهم الله بالعذاب، و المشار إليهم بقوله: "هؤلاء" هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله: "ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم" أي إنهم يعبدونها تقليدا كآبائهم فالآخرون يسلكون الطريق الذي سلكه الأولون من غير حجة، و المراد بنصيبهم ما هو حظهم قبال شركهم و فسقهم.

و قوله: "غير منقوص" حال من النصيب و فيه تأكيد لقوله: "لموفوهم" فإن التوفية تأدية حق الغير بالتمام و الكمال، و فيه إيئاس الكافرين من العفو الإلهي.

و معنى الآية: فإذا سمعت قصص الأولين و أنهم كانوا يعبدون آلهة من دون الله و يكذبون بآياته، و علمت سنة الله تعالى فيهم و أنها الهلاك في الدنيا و المصير إلى النار الخالدة في الآخرة لا تكن في شك و مرية من عبادة هؤلاء الذين هم قومك ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم على التقليد من غير حجة و لا بينة، و إنا سنعطيهم ما هو نصيبهم من جزاء أعمالهم من غير أن ننقص من ذلك شيئا بشفاعة أو عفو كيفما كان.

و يمكن أن يكون المراد بآبائهم، الأمم الماضية الهالكة دون آباء العرب بعد إسماعيل مثلا و ذلك أن الله سماهم آباء لهم أولين كما في قوله: "أ فلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين": المؤمنون: 68 و هذا أنسب و أحسن و المعنى - على هذا - فلا تكن في شك من عبادة قومك ما يعبد هؤلاء إلا كمثل عبادة أولئك الأمم الهالكة الذين هم آباؤهم، و لا شك أنا سنعطيهم حظهم من الجزاء كما فعلنا ذلك بآبائهم.

قوله تعالى: "و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم و إنهم لفي شك منه مريب" لما كانت هذه الآيات مسوقة للاعتبار بالقصص المذكورة في السورة، و كانت القصص نفسها سردت ليتعظ بها القوم و يقضوا بالحق في اتخاذهم شركاء لله سبحانه، و تكذيبهم بآيات الله و رمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى.



تعرض في هذه الآيات - المسوقة للاعتبار - لأمر اتخاذهم الآلهة و تكذيب القرآن فذكر تعالى أن عبادة القوم للشركاء كعبادة أسلافهم من الأمم الماضية لها و سينالهم العذاب كما نال أسلافهم و إن اختلافهم في كتاب الله كاختلاف أمة موسى (عليه السلام) فيما آتاه الله من الكتاب و أن الله سيقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فقوله: "و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه" إشارة إلى اختلاف اليهود في التوراة بعد موسى.

و قوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم" كرر سبحانه في كتابه ذكر أن اختلاف الناس في أمر الدنيا أمر فطروا عليها لكن اختلافهم في أمر الدين لا منشأ له إلا البغي بعد ما جاءهم العلم، قال تعالى: "و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا": يونس: 19 و قال: "و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم": آل عمران: 19، و قال: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم": البقرة: 213.

و قد قضى الله سبحانه أن يوفي الناس أجر ما عملوه و جزاء ما اكتسبوه، و كان مقتضاه أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه حينما اختلفوا لكنه تعالى قضى قضاء آخر أن يمتعهم في الأرض إلى يوم القيامة ليعمروا به الدنيا، و يكتسبوا في دنياهم لأخراهم كما قال: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين": البقرة: 36، و مقتضى هذين القضاءين أن يؤخر القضاء بين المختلفين في دين الله و كتابه بغيا، إلى يوم القيامة.

فإن قلت: فما بال الأمم الماضية أهلكهم الله لظلمهم فهلا أخرهم إلى يوم القيامة لكلمة سبقت منه.

قلت: ليس منشأ إهلاكهم كفرهم و لا معاصيهم و بالجملة مجرد اختلافهم في أمر الدين حتى يعارضه القضاء الآخر و يؤخره إلى يوم القيامة، بل قضاء آخر ثالث يشير إليه قوله سبحانه: "و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون": يونس: 47.

و بالجملة قوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم" يشير إلى أن اختلاف الناس في الكتاب ملتقى قضاءين من الله سبحانه يقتضي أحدهما الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و يقتضي الآخر أن يمتعهم الله إلى يوم القيامة فلا يجازيهم بأعمالهم، و مقتضى ذلك كله أن يتأخر عذابهم إلى يوم القيامة.

و قوله: "و إنهم لفي شك منه مريب" الإرابة إلقاء الشك في القلب، فتوصيف الشك بالمريب من قبيل قوله: "ظلا ظليلا" و "حجابا مستورا" و "حجرا محجورا" و غير ذلك، و يفيد تأكدا لمعنى الشك.

و الظاهر أن مرجع الضمير في قوله: "و إنهم" أمة موسى و هم اليهود، و حق لهم أن يشكوا فيه فإن سند التوراة الحاضرة ينتهي إلى ما كتبه لهم رجل من كهنتهم يسمى عزراء عند ما أرادوا أن يرجعوا من بابل بعد انقضاء السبي إلى الأرض المقدسة، و قد أحرقت التوراة قبل ذلك بسنين عند إحراق الهيكل فانتهاء سندها إلى واحد يوجب الريب فيها طبعا و نظيرها الإنجيل من جهة سنده.

على أن التوراة الحاضرة يوجد فيها أشياء لا ترضى الفطرة الإنسانية أن تنسبها إلى كتاب سماوي و مقتضاه الشك فيها.

و أما إرجاع الضمير في قوله: "و إنهم" إلى مشركي العرب، و في قوله: "منه" إلى القرآن كما فعله بعض المفسرين فبعيد من الصواب لأن الله سبحانه قد أتم الحجة عليهم في صدر السورة أنه كتابه المنزل من عنده على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تحدى بمثل قوله: "قل فأتوا بعشر سور من مثله مفتريات" و لا معنى مع ذلك لإسناد شك إليهم.



قوله تعالى: "و إن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير" لفظة إن هي المشبهة بالفعل و اسمها قوله: "كلا" منونا مقطوعا عن الإضافة و التقدير كلهم أي المختلفين، و خبرها قوله: "ليوفينهم" و اللام و النون لتأكيد الخبر، و قوله: "لما" مؤلف من لام تدل على القسم و ما مشددة تفصل بين اللامين، و تفيد مع ذلك تأكيدا، و جواب القسم محذوف يدل عليه خبر إن.

و المعنى - و الله أعلم - و إن كل هؤلاء المختلفين أقسم ليوفينهم و يعطينهم ربك أعمالهم أي جزاءها أنه بما يعملون من أعمال الخير و الشر خبير.

و نقل في روح المعاني، عن أبي حيان عن ابن الحاجب أن "لما" في الآية هي لما الجازمة و حذف مدخولها شائع في الاستعمال يقال: خرجت و لما، و سافرت و لما.

ثم قال: و الأولى على هذا أن يقدر: لما يوفوها أي و إن كلا منها لما يوفوا أعمالهم ليوفينهم ربك إياها.

و هذا وجه وجيه.

و لأهل التفسير في مفردات الآية و نظمها أبحاث أدبية طويلة لا يهمنا منها أزيد مما أوردناه، و من شاء الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير.

قوله تعالى: "فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنه بما تعملون بصير" يقال: قام كذا و ثبت و ركز بمعنى واحد كما ذكره الراغب و غيره، و الظاهر أن الأصل المأخوذ به في ذلك قيام الإنسان و ذلك أن الإنسان في سائر حالاته و أوضاعه غير القيام كالقعود و الانبطاح و الجثو و الاستلقاء و الانكباب لا يقوى على جميع ما يرومه من الأعمال كالقبض و البسط و الأخذ و الرد و سائر ما الإنسان مهيمن عليه بالطبع لكنه إذا قام على ساقه قياما كان على أعدل حالاته الذي يسلطه على عامة أعماله من ثبات و حركة و أخذ و رد و إعطاء و منع و جلب و دفع، و ثبت مهيمنا على ما عنده من القوى و أفعالها، فقيام الإنسان يمثل شخصيته الإنسانية بما له من الشئون.

ثم استعير في كل شيء لأعدل حالاته الذي يسلط معه على آثاره و أعماله فقيام العمود أن يثبت على طوله و قيام الشجر أن يركز على ساقه متعرقا بأصله في الأرض، و قيام الإناء المحتوي على مائع أن يقف على قاعدته فلا يهراق ما فيه و قيام العدل أن ينبسط على الأرض، و قيام السنة و القانون أن تجري في البلاد.

و الإقامة جعل الشيء قائما أي جعله بحال يترتب عليه جميع آثاره بحيث لا يفقد شيئا منها كإقامة العدل و إقامة السنة و إقامة الصلاة و إقامة الشهادة، و إقامة الحدود، و إقامة الدين و نحو ذلك.

و الاستقامة طلب القيام من الشيء و استدعاء ظهور عامة آثاره و منافعه فاستقامة الطريق اتصافه بما يقصد من الطريق كالاستواء و الوضوح و عدم إضلاله من ركبه، و استقامة الإنسان في أمر أن يطلب من نفسه القيام به و إصلاحه بحيث لا يتطرق إليه فساد و لا نقص، و يأتي تاما كاملا، قال تعالى: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه": حم السجدة: 6 أي قوموا بحق توحيده في ألوهيته، و قال: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا": حم السجدة: 30 أي ثبتوا على ما قالوا في جميع شئون حياتهم لا يركنون في عقائدهم و أخلاقهم و أعمالهم إلا إلى ما يوافق التوحيد و يلائمه أي يراعونه و يحفظونه في عامة ما يواجههم في باطنهم و ظاهرهم.

و قال: "فأقم وجهك للدين حنيفا": الروم: 30 فإن المراد بإقامة الوجه إقامة النفس من حيث تستقبل العمل و تواجهه، و إقامة الإنسان نفسه في أمر هي استقامته فيه فافهم.



فقوله: "فاستقم كما أمرت" أي كن ثابتا على الدين موفيا حقه طبق ما أمرت بالاستقامة، و قد أمر به في قوله: "و أن أقم وجهك للدين حنيفا و لا تكونن من المشركين": يونس: 105، و قوله: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون": الروم: 30.

قال في روح المعاني،: أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها و هذا يقتضي أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بوحي آخر و لو غير متلو كما قاله غير واحد، و الظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة، و هي لزوم المنهج المستقيم و هو المتوسط بين الإفراط و التفريط، و هي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم و العمل و سائر الأخلاق.

انتهي.

أما احتماله أن يكون هناك وحي آخر غير متلو يشير إليه قوله تعالى: "كما أمرت" أي استقم كما أمرت سابقا بالاستقامة فبعيد عن سنة القرآن و حاشا أن يعتمد بالبيان القرآني على أمر مجهول أو أصل مستور غير مذكور، و قد عرفت أن الإشارة بذلك على ما أمره الله به من إقامة وجهه للدين حنيفا، و إقامة الوجه للدين هو الاستقامة في الدين، و قد ورد قوله: "أقم وجهك للدين" - كما عرفت - في سورتين كلتاهما مكيتان، و سورة يونس التي هي إحداهما نازلة قبل هذه السورة قطعا و إن لم يسلم ذلك في السورة الأخرى التي هي سورة الروم.

و أما قوله: "إن المراد بقوله: "استقم" الدوام على الاستقامة و هي لزوم المنهج المستقيم المتوسط بين الإفراط و التفريط فقد عرفت أن معنى استقامة الإنسان في أمر ثبوته على حفظه و توفية حقه بتمامه و كماله، و استقامة الإنسان مطلقا ركوزه و ثبوته لما يرد عليه من الوظائف بتمام قواه و أركانه بحيث لا يترك شيئا من قدرته و استطاعته لغى لا أثر له.

و لو كان المراد بالأمر بالاستقامة هو الأمر بلزوم الاعتدال بين الإفراط و التفريط لكان الأنسب أن يردف هذا الأمر بالنهي عن الإفراط و التفريط معا مع أنه تعالى عقبه بقوله: "و لا تطغوا" فنهى عن الإفراط فقط، و هو بمنزلة عطف التفسير لقوله: "فاستقم كما أمرت و من تاب معك" و هذا أحسن شاهد على أن المراد بقوله: "فاستقم" إلخ الأمر بإظهار الثبات على العبودية و لزوم القيام بحقها، ثم نهى عن تعدي هذا الطور و الاستكبار عن الخضوع لله و الخروج بذلك عن زي العبودية فقيل: "و لا تطغوا" كما فعل ذلك الأمم الماضية، و لم يكونوا مبتلين إلا بالإفراط دون التفريط و الاستكبار دون التذلل.

و قوله: "و من تاب معك" عطف على الضمير المستكن في "استقم" أي استقم أنت و من تاب معك أي استقيموا جميعا و إنما أخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم و أفرده بالذكر معهم تشريفا لمقام النبوة، و على ذلك تجري سنته تعالى في كلامه كقوله تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون": البقرة: 285 و قوله: "يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه": التحريم: 8.

على أن الأمر الذي تقيد به قوله: "فاستقم" أعني قوله: "كما أمرت" يختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يشاركه فيه غيره فإن ما ذكر من مثل قوله: "فأقم وجهك للدين" "إلخ" خاص به فلو قيل: فاستقيموا لم يصح تقييده بالأمر السابق.



و المراد بمن تاب مع النبي المؤمنون الذين رجعوا إلى الله بالإيمان و إطلاق التوبة على أصل الإيمان - و هو رجوع من الشرك - كثير الورود في القرآن كقوله تعالى: "و يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك": المؤمن: 7 إلى غير ذلك.

و قوله: "و لا تطغوا" أي لا تتجاوزوا حدكم الذي خطته لكم الفطرة و الخلقة و هو العبودية لله وحده كما تجاوزه الذين قبلكم فأفضاهم إلى الشرك و ساقهم إلى الهلكة، و الظاهر أن الطغيان بهذا المعنى مأخوذ من طغى الماء إذا جاوز حده، ثم استعير لهذا الأمر المعنوي الذي هو طغيان الإنسان في حياته لتشابه الأثر و هو الفساد.

و قوله: "إنه بما تعملون بصير" تعليل لمضمون ما تقدمه، و معنى الآية اثبت على دين التوحيد و الزم طريق العبودية من غير تزلزل و تذبذب، و ليثبت الذين آمنوا معك، و لا تتعدوا الحد الذي حد لكم لأن الله بصير بما تعملون فيؤاخذكم لو خالفتم أمره.

و في الآية الكريمة من لحن التشديد ما لا يخفى فلا يحس فيها بشيء من آثار الرحمة و أمارات الملاطفة و قد تقدمها من الآيات ما يتضمن من حديث مؤاخذة الأمم الماضية و القرون الخالية بأعمالهم و استغناء الله سبحانه عنهم ما تصعق له النفوس و تطير القلوب.

غير ما في قوله: "فاستقم كما أمرت" من أفراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذكر و إخراجه من بين المؤمنين تشريفا لمقامه لكن ذلك يفيد بلوغ التشديد في حقه فإن تخصيصه قبلا بالذكر يوجب توجه هول الخطاب و روع التكليم من مقام العزة و الكبرياء إليه وحده عدل ما يتوجه إلى جميع الأمة إلى يوم القيامة كما وقع نظير التشديد في قوله تعالى: "و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف المماة": إسراء: 75.

و لذلك ذكر أكثر المفسرين أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "شيبتني سورة هود" ناظر إلى هذه الآية، و سيوافيك الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" قال في الصحاح،: ركن إليه كنصر، ركونا: مال و سكن، و الركن بالضم الجانب الأقوى.

و الأمر العظيم و العز و المنعة انتهى و عن لسان العرب، مثله، و عن المصباح، أن الركون هو الاعتماد على الشيء.

و قال الراغب:، ركن الشيء جانبه الذي يسكن إليه، و يستعار للقوة، قال تعالى: "لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد" و ركنت إلى فلان أركن بالفتح و الصحيح أن يقال: ركن يركن - كنصر - و ركن يركن كعلم - قال تعالى: "و لا تركنوا إلى الذين ظلموا" و ناقة مركنة الضرع له أركان تعظمه و المركن الإجابة، و أركان العبادات جوانبها التي عليها مبناها، و بتركها بطلانها.

انتهى و هذا قريب مما ذكره في المصباح،.

و الحق أنه الاعتماد على الشيء عن ميل إليه لا مجرد الاعتماد فحسب و لذلك عدي بإلى لا بعلى و ما ذكره أهل اللغة تفسير له بالأعم من معناه على ما هو دأبهم.



فالركون إلى الذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم إما في نفس الدين كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه التي يضرهم إفشاؤها و إما في حياة دينية كان يسمح لهم بنوع من المداخلة في إدارة أمور المجتمع الديني بولاية الأمور العامة أو المودة التي تقضي إلى المخالطة و التأثير في شئون المجتمع أو الفرد الحيوية.

و بالجملة الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا بنوع من الاعتماد و الاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير و يغيرهما عن الوجهة الخالصة، و لازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل أو إحياء حق بإحياء باطل و بالآخرة إماتة الحق لإحيائه.

و الدليل على هذا الذي ذكرنا أنه تعالى جمع في خطابه في هذه الآية الذي هو من تتمة الخطاب في الآية السابقة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين المؤمنين من أمته، و الشئون التي له و لأمته هي المعارف الدينية و الأخلاق و السنن الإسلامية في تبليغها و حفظها و إجرائها و الحياة الاجتماعية بما يطابقها، و ولاية أمور المجتمع الإسلامي، و انتحال الفرد بالدين و استنانه بسنة الحياة الدينية فليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا لأمته أن يركنوا في شيء من ذلك إلى الذين ظلموا.

على أن من المعلوم أن هاتين الآيتين كالنتيجة المأخوذة من قصص القرى الظالمة التي أخذهم الله بظلمهم و هما متفرعتان عليها ناظرتان إليها، و لم يكن ظلم هؤلاء الأمم الهالكة في شركهم بالله تعالى و عبادة الأصنام فحسب بل كان مما ذمه الله من فعالهم اتباع الظالمين و الفساد في الأرض بعد إصلاحها و هو الاستنان بالسنن الظالمة التي يقيمها الولاة الجائرون، و يستن بها الناس و هم بذلك ظالمون.

و من المعلوم أيضا من السياق أن الآيتين مترتبتان في غرضهما فالأولى تنهى عن أن يكونوا من أولئك الذين ظلموا، و الثانية تنهى أن يقتربوا منهم و يميلوا إليهم و يعتمدوا في حقهم على باطلهم فقوله: "لا تركنوا إلى الذين ظلموا" نهي عن الميل إليهم و الاعتماد عليهم و البناء على باطلهم في أمر أصل الدين و الحياة الدينية جميعا.

و وقوع الآيتين موقع النتيجة المتفرعة على ما تقدم من القصص المذكورة يفيد أن المراد بالذين ظلموا في الآية ليس من تحقق منه الظلم تحققا ما و إلا لعم جميع الناس إلا أهل العصمة و لم يبق للنهي حينئذ معنى، و ليس المراد بالذين ظلموا الظالمين أي المتلبسين بهذا الوصف المستمرين في ظلمهم فإن لإفادة الفعل الدال على مجرد التحقق معنى الصفة الدالة على التلبس و الاستمرار أسبابا لا يوجد في المقام منها شيء و لا دلالة لشيء على شيء جزافا.

بل المراد بالذين ظلموا أناس حالهم في الظلم حال أولئك الذين قصهم الله في الآيات السابقة من الأمم الهالكة، و كان الشأن في قصتهم أنه تعالى أخذ الناس جملة واحدة في قبال الدعوة الإلهية المتوجهة إليهم ثم قسمهم إلى من قبلها منهم و إلى من ردها ثم عبر عمن قبلها بالذين آمنوا في بضعة مواضع من القصص المذكورة و عمن ردها بالذين ظلموا و ما يقرب منه في أكثر من عشر مواضع كقوله: "و لا تخاطبني في الذين ظلموا" و قوله: "و أخذت الذين ظلموا الصيحة" و قوله: "و تلك عاد جحدوا بآيات ربهم و عصوا رسله و اتبعوا أمر كل جبار عنيد" و قوله: "ألا إن ثمود كفروا ربهم" و قوله: "ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود" إلى غير ذلك.



فقد عبر سبحانه عن ردهم و قبولهم قبال الدعوة الإلهية و بالقياس إليها بالفعل الماضي الدال على مجرد التحقق و الوقوع، و أما في الخارج من مقام القياس و النسبة فإن التعبير بالصفة كقوله: "و قيل بعدا للقوم الظالمين" و قوله: "و ما هي من الظالمين" و قوله: "و لا تتولوا مجرمين" إلى غير ذلك و هو كثير.

و مقتضى مقام القياس و النسبة إلى الدعوة قبولا و ردا أن يكتفي بمجرد الوقوع و التحقق، و يبين أنهم وسموا بإحدى السمتين: الإيمان أو الظلم، و لا حاجة إلى ذكر الاتصاف و الاستمرار بالتلبس فمفاد قوله: ظلموا و عصوا و اتبعوا أمر فرعون أنهم وسموا بسمة الظلم و العصيان و اتباع أمر فرعون، و معنى نجينا الذين آمنوا نجينا الذين اتسموا بسمة الإيمان و تعلموا بعلامته.

فكان التعبير بالماضي كافيا في إفادة أصل الاتسام المذكور و إن كان مما يلزمه الاتصاف، و بعبارة أخرى الذين ظلموا من قوم نوح صاروا بذلك ظالمين لكن العناية إنما تعلقت بحسب المقام بتحقق الظلم منهم لا بصيرورته وصفا لهم لا يفارقهم بعد ذلك، و لذا ترى أنه كلما خرج الكلام عن مقام القياس و النسبة بوجه عاد إلى التعبير بالصفة كقوله: "بعدا للقوم الظالمين" و قوله: "و لا تكن مع الكافرين" فافهم ذلك.

و من هنا يظهر ما في تفسير القوم قوله: "الذين ظلموا" حيث أخذه بعضهم دالا على مجرد تحقق ظلم ما، و آخرون بمعنى الوصف أي لا تركنوا إلى الظالمين، قال صاحب المنار في تفسيره،: فسر الزمخشري "الذين ظلموا" بقوله: أي إلى الذين وجد منهم الظلم و لم يقل: إلى الظالمين، و حكى أن الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له، فقال؟ هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم انتهى.

و معنى هذا أن الوعيد في الآية يشمل من مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل أي ظلم كان، و هذا غلط أيضا و إنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه فهم كالذين كفروا في الآيات الكثيرة التي يراد بها فريق الكافرين لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي و حسبك منه قوله تعالى: "إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون": البقرة: 6، و المخاطبون بالنهي هم المخاطبون في الآية السابقة بقوله: "فاستقم كما أمرت و من تاب معك".

و قد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة به في الآيات 37، 67، 94، و عبر عنهم فيها بالظالمين أيضا كقوله: "و قيل بعدا للقوم الظالمين" فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف و التعبير بالذي و صلته فإنهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد - انتهى.

أما قول صاحب الكشاف: "إن المراد بالذين ظلموا" الذين وجد منهم الظلم و لم يقل: "إلى الظالمين" فهو كذلك لكنه لا ينفعه فإن التعبير بالفعل في ما قررناه من المقام و إن كان لا يفيد أزيد من تحقق المعنى الحدثي و وقوعه لكنه ينطبق على معنى الوصف كما في قوله تعالى: "فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى": النازعات: 41 حيث عبر بالفعل و هو منطبق على معنى الصفة.



و أما قول صاحب المنار: "إنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه" فتحكم محض، و أي دليل يدل على قصور الآية عن الشمول للظالمين من أهل الكتاب و قد ذكرهم الله أخيرا في زمرة الظالمين باختلافهم في كتاب الله بغيا، و قد نهى الله عن ولايتهم و شدد فيه حتى قال: "و من يتولهم منكم فإنه منهم": المائدة: 51، و قال في ولاية مطلق الكافرين، "و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء": آل عمران: 28.

و أي مانع يمنع الآية أن تشمل الظالمين من هذه الأمة و فيهم من هو أشقى من جبابرة عاد و ثمود و أطغى من فرعون و هامان و قارون.

و مجرد كون الإسلام عند نزول السورة مبتلى بقريش و مشركي مكة و حواليها لا يوجب تخصيصا في اللفظ فإن خصوص المورد لا يخصص عموم اللفظ فالآية تنهى عن الركون إلى كل من اتسم بسمة الظلم، أي من كان مشركا أو موحدا مسلما أو من أهل الكتاب.

و أما قوله: إن المراد بقوله: "إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" المعنى الوصفي و إن كان فعلا أي الكافرون لا كل فرد من الناس وقع من كفر في الماضي.

ففيه أنا بينا في الكلام على تلك الآية و في مواضع أخرى تقدمت في الكتاب أن الآية خاصة بالكفار من صناديد قريش الذين شاقوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بادىء أمره حتى كفاه الله إياهم و أفناهم ببدر و غيره، و أنهم المسمون بالذين كفروا.

و ليست الآية عامة، و لو كانت الآية عامة و كان المراد بالذين كفروا هم الكافرين كما قاله لم تصدق الآية فيما تخبر به فما أكثر من آمن من الكافرين حتى من كفار مكة بعد نزول هذه الآية.

و لو قيل: إن المراد بهم الذين لم يؤمنوا إلى آخر عمرهم لم تفد الآية شيئا إذ لا معنى لقولنا: إن الكافرين الذين لا يؤمنون إلى آخر عمرهم لا يؤمنون فلا مناص من أخذها آية خاصة غير عامة، و كون المراد بالذين كفروا طائفة خاصة بأعيانهم.

و قد ذكرنا فيما تقدم أن "الذين آمنوا" أيضا فيما لا دليل في المورد يدل على خلافه اسم تشريفي لمن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول دعوته الحقة، و بهم تختص خطابات "يا أيها الذين آمنوا" في القرآن و إن شاركهم غيرهم في الأحكام.

و أما قوله في آخر كلامه: و قد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة به و عبر عنهم فيها بالظالمين أيضا فلا فرق بين التعبيرين "إلخ" و محصله أن التعبير عنهم تارة بالذين ظلموا و تارة بالظالمين دليل على أن المراد بالكلمتين واحد.

ففيه أنه خفي عليه وجه العناية الكلامية الذي تقدمت الإشارة إليه و اتحاد مصداق اللفظتين لا يوجب وحدة العناية المتعلقة بهما.

فالمحصل من مضمون الآية نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته عن الركون إلى من اتسم بسمة الظلم بأن يميلوا إليهم و يعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية فهذا هو المراد بقوله: "و لا تركنوا إلى الذين ظلموا".

و قوله: "فتمسكم النار" تفريع على الركون أي عاقبة الركون هو مس النار، و قد جعلت عاقبة الركون إلى ظلم أهل الظلم مس النار و عاقبة نفس الظلم النار، و هذا هو الفرق بين الاقتراب من الظلم و التلبس بالظلم نفسه.

و قوله: "و ما لكم من دون الله من أولياء" في موضع الحال من مفعول "فتمسكم" أي تمسكم النار في حال ليس لكم فيها من دون الله من أولياء و هو يوم القيامة الذي يفقد فيه الإنسان جميع أوليائه من دون الله.



أو حال الركون إن كان المراد بالنار العذاب، و المراد بقوله: "ثم لا تنصرون" نفي الشفاعة على الأول و الخذلان الإلهي على الثاني.

و التعبير بثم في قوله: "ثم لا تنصرون" للدلالة على اختتام الأمر على ذلك بالخيبة و الخذلان كأنه قيل: تمسكم النار و ليس لكم إلا الله فتدعونه فلا يجيبكم و تستنصرونه فلا ينصركم فيئول أمركم إلى الخسران و الخيبة و الخذلان.

و قد تحصل مما تقدم من الأبحاث في الآية أمور: الأول: أن المنهي عنه في الآية إنما هو الركون إلى أهل الظلم في أمر الدين أو الحياة الدينية كالسكوت في بيان حقائق الدين عن أمور يضرهم أو ترك فعل ما لا يرتضونه أو توليتهم المجتمع و تقليدهم الأمور العامة أو إجراء الأمور الدينية بأيدهم و قوتهم و أشباه ذلك.

و أما الركون و الاعتماد عليهم في عشرة أو معاملة من بيع و شرى و الثقة بهم و ائتمانهم في بعض الأمور فإن ذلك كله غير مشمول للنهي الذي في الآية لأنها ليست بركون في دين أو حياة دينية، و قد وثق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما خرج من مكة ليلا إلى الغار برجل مشرك استأجر منه راحلة للطريق و ائتمنه ليوافيه بها في الغار بعد ثلاثة أيام و كان يعامل هو و كذا المسلمون بمرأى و مسمع منه الكفار و المشركين.

الثاني: أن الركون المنهي عنه في الآية أخص من الولاية المنهي عنها في آيات أخرى كثيرة فإن الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثر من دينهم أو أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم و هم أعداء الدين، و أما الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينية على ظلمهم فهو أخص من الولاية موردا أي أن كل مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلي، و بروز الأثر في الركون بالفعل و في الولاية أعم مما يكون بالفعل.

و يظهر من جمع من المفسرين أن الركون المنهي عنه في الآية هو الولاية المنهي عنها في آيات أخر.

قال صاحب المنار في تفسيره، بعد ما نقل عن الزمخشري قوله: إن النهي في الآية متناول للانحطاط في هواهم و الانقطاع إليهم و مصاحبتهم و مجالستهم و زيارتهم و مداهنتهم و الرضا بأعمالهم، و التشبه بهم و التزيي بزيهم، و مد العين إلى زهرتهم، و ذكرهم بما فيه تعظيم لهم، و تأمل قوله: "و لا تركنوا" فإن الركون هو الميل اليسير، و قوله: "إلى الذين ظلموا" أي إلى الذين وجد منهم الظلم، و لم يقل: إلى الظالمين.

انتهي.

أقول: كل ما أدغمه في النهي عن الركون إلى الذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي للمؤمن اجتراحه، و قد يكون من لوازم الركون الحقيرة و لكن لا يصح أن يجعل شيء منه تفسيرا للآية مرادا منها، و المخاطب الأول بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و السابقون الأولون إلى التوبة من الشرك و الإيمان معه، و لم يكن أحد منهم مظنة للانقطاع بظلمة المشركين، و الانحطاط في هواهم، و الرضا بأعمالهم.

إلى آخر ما أطنب فيه.

و قد ناقض فيه نفسه أولا حيث اعترف بكون بعض الأمور المذكورة من لوازم الركون لكنه استحقرها و نفى شمول الآية لها، و المعصية كلها عظيمة لا يستهان بها غير أن أكثر المفسرين هذا دأبهم لا ينقبضون عن نسبة بعض المساهلات إلى بيانه تعالى.



و أفسد من ذلك قوله: إن المخاطب الأول بهذا النهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و السابقون الأولون و لم يكونوا مظنة للانقطاع إلى ظلمة المشركين و الانحطاط في هواهم و الرضا بأعمالهم إلخ فإن فيه أولا: أن الخطاب خطاب واحد موجه إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلى أمته، و لا أول فيه و لا ثاني، و تقدم بعض المخاطبين على بعض زمانا لا يوجب قصور الخطاب عن شمول بعض ما في اللاحقين مما ليس في السابقين إذا شمله اللفظ.

و ثانيا: أن عدم كون المخاطب مظنة للمعصية لا يمنع من توجيه النهي إليه و خاصة النواهي الصادرة عن مقام التشريع و إنما يمنع عن تأكيده و الإلحاح عليه و قد نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عما هو أعظم من الركون إلى الذين ظلموا كالشرك بالله و عن ترك تبليغ بعض أوامره و نواهيه، قال تعالى: "و لقد أوحي إليك و إلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين": الزمر: 65، و قال: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته": المائدة: 67، و قال: "يا أيها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين إن الله كان عليما حكيما و اتبع ما يوحى إليك من ربك": الأحزاب: 2 و لا يظن به (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشرك بربه البتة، و لا أن لا يبلغ ما أنزل إليه من ربه أو يطيع الكافرين و المنافقين أو لا يتبع ما يوحى إليه من ربه إلى غير ذلك من النواهي.

و كذا السابقون الأولون نهوا عن أمور هي أعظم من الركون المذكور أو مثله كقوله: "و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" نزلت في أهل بدر و فيهم السابقون الأولون و قد وصف بعضهم بقوله: "الذين ظلموا" و هو أشد لحنا من قوله: "و لا تركنوا إلى الذين ظلموا"، و كعدة من النواهي الواردة في كلامه في قصص بدر و أحد و حنين، و النواهي الموجهة إلى نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكل ذلك مما لم يكن يظن بالسابقين الأولين أن يبتلوا به على أن بعضهم ابتلي ببعضها بعد.

الثالث: أن الآية بما لها من السياق المؤيد بإشعار المقام إنما تنهى عن الركون إلى الذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحق أو حياتهم الدينية على شيء من ظلمهم و هو أن يراعوا في قولهم الحق و عملهم الحق جانب ظلمهم و باطلهم حتى يكون في ذلك إحياء للحق بسبب إحياء الباطل، و مآله إلى إحياء حق بإماتة حق آخر كما تقدمت الإشارة إليه.

و أما الميل إلى شيء من ظلمهم و إدخاله في الدين أو إجراؤه في المجتمع الإسلامي أو في ظرف الحياة الشخصية فليس من الركون إلى الظالمين بل هو دخول في زمرة الظالمين.

و قد اختلط هذا الأمر على كثير من المفسرين فأوردوا في المقام أبحاثا لا تمس الآية أدنى مس، و قد أغمضنا عن إيرادها و البحث في صحتها و سقمها إيثارا للاختصار و من أراد الوقوف عليها فليراجع تفاسيرهم.

قوله تعالى: "و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات" إلخ، طرفا النهار هو الصباح و المساء و الزلف جمع زلفى كقرب جمع قربى لفظا و معنى على ما قيل، و هو وصف ساد مسد موصوفه كالساعات و نحوها، و التقدير و ساعات من الليل أقرب من النهار.



و المعنى أقم الصلاة في الصباح و المساء و في ساعات من الليل هي أقرب من النهار، و ينطبق من الصلوات الخمس اليومية على صلاة الصبح و العصر و هي صلاة المساء و المغرب و العشاء الآخرة، وقتهما زلف من الليل كما قاله بعضهم، أو على الصبح و المغرب و وقتهما طرفا النهار و العشاء الآخرة و وقتها زلف من الليل كما قاله آخرون، و قيل غير ذلك.

لكن البحث لما كان فقهيا كان المتبع فيه ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل بيته (عليهم السلام) من البيان، و سيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله: "إن الحسنات يذهبن السيئات" تعليل لقوله: "و أقم الصلاة" و بيان أن الصلوات حسنات واردة على نفوس المؤمنين تذهب بآثار المعاصي و هي ما تعتريها من السيئات، و قد تقدم كلام في هذا الباب في مسألة الحبط في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و قوله: "ذلك ذكرى للذاكرين" أي هذا الذي ذكر و هو أن الحسنات يذهبن السيئات على رفعة قدرة تذكار للمتلبسين بذكر الله تعالى من عباده.

قوله تعالى: "و اصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين" ثم أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر بعد ما أمره بالصلاة كما جمع بينهما في قوله: "و استعينوا بالصبر و الصلاة": البقرة: 45 و ذلك أن كلا منهما في بابه من أعظم الأركان أعني الصلاة في العبادات، و الصبر في الأخلاق و قد قال تعالى في الصلاة: "و لذكر الله أكبر": العنكبوت: 45 و قال في الصبر: "إن ذلك لمن عزم الأمور": الشورى: 43.

و اجتماعهما أحسن وسيلة يستعان بها على النوائب و المكاره فالصبر يحفظ النفس عن القلق و الجزع و الانهزام، و الصلاة توجهها إلى ناحية الرب تعالى فتنسى ما تلقاه من المكاره، و قد تقدم بيان في ذلك في تفسير الآية 45 من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب.

و إطلاق الأمر بالصبر يعطي أن المراد به الأعم من الصبر على العبادة و الصبر عن المعصية و الصبر عند النائبة، و على هذا يكون أمرا بالصبر على جميع ما تقدم من الأوامر و النواهي أعني قوله: "فاستقم" "و لا تطغوا" "و لا تركنوا" "و أقم الصلاة".

لكن أفراد الأمر و تخصيصه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفيد أنه صبر في أمر يختص به و إلا قيل: و "اصبروا" جريا على السياق، و هذا يؤيد قول من قال: إن المراد اصبر على أذى قومك في طريق دعوتك إلى الله سبحانه و ظلم الظالمين منهم، و أما قوله: "و أقم الصلاة" فإنه ليس أمرا بما يخصه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصلاة بل أمر بإقامته الصلاة بمن تبعه من المؤمنين جماعة فهو أمر لهم جميعا بالصلاة فافهم ذلك.

و قوله: "فإن الله لا يضيع أجر المحسنين" تعليل للأمر بالصبر.

قوله تعالى: "فلو لا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض" إلخ لو لا بمعنى هلا و إلا يفيد التعجيب و التوبيخ، و المعنى هلا كان من القرون التي كانت من قبلكم و قد أفنيناها بالعذاب و الهلاك أولوا بقية أي قوم باقون ينهون عن الفساد في الأرض ليصلحوا بذلك فيها و يحفظوا أمتهم من الاستئصال.

و قوله: "إلا قليلا ممن أنجينا منهم" استثناء من معنى النفي في الجملة السابقة فإن المعنى: من العجب أنه لم يكن من القرون الماضية مع ما رأوا من آيات الله و شاهدوا من عذابه بقايا ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا من العذاب و الهلاك منهم فإنهم كانوا ينهون عن الفساد.



و قوله: "و اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه و كانوا مجرمين" بيان حال الباقي منهم بعد الاستثناء و هم أكثرهم و عرفهم بأنهم الذين ظلموا و بين أنهم اتبعوا لذائذ الدنيا التي أترفوا فيها و كانوا مجرمين.

و قد تحصل بهذا الاستثناء و هذا الباقي الذي ذكر حالهم تقسيم الناس إلى صنفين مختلفين: الناجون بإنجاء الله و المجرمون و لذلك عقبه بقوله: "و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك".

قوله تعالى: "و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون" أي لم يكن من سنته تعالى إهلاك القرى التي أهلها مصلحون لأن ذلك ظلم و لا يظلم ربك أحدا فقوله: "بظلم" قيد توضيحي لا احترازي، و يفيد أن سنته تعالى عدم إهلاك القرى المصلحة لكونه من الظلم "و ما ربك بظلام للعبيد".

قوله تعالى: "و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك - إلى قوله - أجمعين" الخلف خلاف القدام و هو الأصل فيما اشتق من هذه المادة من المشتقات يقال: خلف أباه أي سد مسده لوقوعه بعده، و أخلف وعده أي لم يف به كأنه جعله خلفه، و مات و خلف ابنا أي تركه خلفه، و استخلف فلانا أي طلب منه أن ينوب عنه بعد غيبته أو موته أو بنوع من العناية كاستخلاف الله تعالى آدم و ذريته في الأرض، و خالف فلان فلانا و تخالفا إذا تفرقا في رأي أو عمل كأن كلا منهما يجعل الآخر خلفه، و تخلف عن أمره إذا أدبر و لم يأتمر به، و اختلف القوم في كذا إذا خالف بعضهم بعضا فيه فجعله خلفه، و اختلف القوم إلى فلان إذا دخلوا عليه واحدا بعد واحد، و اختلف فلان إلى فلان إذا دخل عليه مرات كل واحدة بعد أخرى.

ثم الاختلاف و يقابله الاتفاق من الأمور التي لا يرتضيها الطبع السليم لما فيه من تشتيت القوى و تضعيفها و آثار أخرى غير محمودة من نزاع و مشاجرة و جدال و قتال و شقاق كل ذلك يذهب بالأمن و السلام غير أن نوعا منه لا مناص منه في العالم الإنساني و هو الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى فإن التركيبات البدنية مختلفة في الأفراد و هو يؤدي إلى اختلاف الاستعدادات البدنية و الروحية و بانضمام اختلاف الأجواء و الظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق و السنن و الآداب و المقاصد و الأعمال النوعية و الشخصية في المجتمعات الإنسانية، و قد أوضحت الأبحاث الاجتماعية أن لو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني و لا طرفة عين.

و قد ذكره الله تعالى في كتابه و نسبه إلى نفسه حيث قال: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا": الزخرف: 32.

و لم يذمه تعالى في شيء من كلامه إلا إذا صحب هوى النفس و خالف هدى العقل.

و ليس منه الاختلاف في الدين فإن الله سبحانه يذكر أنه فطر الناس على معرفته و توحيده و سوى نفس الإنسان فألهمها فجورها و تقواها، و أن الدين الحنيف هو من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، و لذلك نسب الاختلاف في الدين في مواضع من كلامه إلى بغي المختلفين فيه و ظلمهم "فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم".



و قد جمع الله الاختلافين في قوله: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - و هذا هو الاختلاف الأول في الحياة و المعيشة - و ما اختلف فيه - و هذا هو الاختلاف الثاني في الدين - إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه": البقرة: 213 فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف.

و الذي ذكره بقوله: "و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" يريد به رفع الاختلاف من بينهم و توحيدهم على كلمة واحدة يتفقون فيه، و من المعلوم أنه ناظر إلى ما ذكره تعالى في الآيات السابقة على هذه الآية من اختلافهم في أمر الدين و انقسامهم إلى طائفة أنجاهم الله و هم قليل و طائفة أخرى و هم الذين ظلموا.

فالمعنى أنهم و إن اختلفوا في الدين فإنهم لم يعجزوا الله بذلك و لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة لا يختلفون في الدين فهو نظير قوله: "و على الله قصد السبيل و منها جائر و لو شاء لهداكم أجمعين": النحل: 9 و قوله: "أ فلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا": الرعد: 31.

و على هذا فقوله: "و لا يزالون مختلفين" إنما يعني به الاختلاف في الدين فحسب فإن ذلك هو الذي يذكر لنا أن لو شاء لرفعه من بينهم، و الكلام في تقدير: لو شاء الله لرفع الاختلاف من بينهم لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما.

على أن قوله: "إلا من رحم ربك" يصرح أنه رفعه عن طائفة رحمهم، و الاختلاف في غير الدين لم يرفعه الله تعالى حتى عن الطائفة المرحومة، و إنما رفع عنهم الاختلاف الديني الذي يذمه و ينسبه إلى البغي بعد العلم بالحق.

و قوله: "إلا من رحم ربك" استثناء من قوله: "و لا يزالون مختلفين" أي الناس يخالف بعضهم بعضا في الحق أبدا إلا الذين رحمهم الله فإنهم لا يختلفون في الحق و لا يتفرقون عنه، و الرحمة هي الهداية الإلهية كما يفيده قوله: "فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه": البقرة: 213.

فإن قلت: معنى اختلاف الناس أن يقابل بعضهم بعضا بالنفي و الإثبات فيصير معنى قوله: "و لا يزالون مختلفين" أنهم منقسمون دائما إلى محق و مبطل، و لا يصح حينئذ ورود الاستثناء عليه إلا بحسب الأزمان دون الأفراد و ذلك أن انضمام قوله: "إلا من رحم ربك" إليه يئول المعنى إلى مثل قولنا: إنهم منقسمون دائما إلى مبطلين و محقين إلا من رحم ربك منهم فإنهم لا ينقسمون إلى قسمين، بل يكونون محقين فقط، و من المعلوم أن المستثنين منهم هم المحقون فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا: إن منهم مبطلين و محقين و المحقون محقون لا مبطل فيهم، و هذا كلام لا فائدة فيه.

على أنه لا معنى لاستثناء المحقين من حكم الاختلاف أصلا و هم من الناس المختلفين، و الاختلاف قائم بهم و بالمبطلين معا.

قلت: الاختلاف المذكور في هذه الآية و سائر الآيات المتعرضة له الذامة لأهله إنما هو الاختلاف في الحق و مخالفة البعض للبعض في الحق و إن كانت توجب كون بعض منهم على الحق و على بصيرة من الأمر لكنه إذا نسب إلى المجموع و هو المجتمع كان لازمه ارتياب المجتمع و تفرقهم عن الحق و عدم اجتماعهم عليه و تركهم إياه بحياله، و مقتضاه اختفاء الحق عنهم و ارتيابهم فيه.



و الله سبحانه إنما يذم الاختلاف من جهة لازمة هذا و هو التفرق و الإعراض عن الحق و الآيات تشهد بذلك فإنه تعالى يذم فيها جميع المختلفين باختلافهم لا المبطلين من بينهم فلو لا أن المراد بالمختلفين أهل الآراء أو الأعمال المختلفة التي تفرقهم عن الحق لم يصح ذلك.

و من أحسن ما يؤيده قوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه": الشورى: 13 حيث عبر عن الاختلاف بالتفرق، و كذا قوله: "و إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله": الأنعام: 153 و هذا أوضح دلالة من سابقه فإنه يجعل أهل الحق الملازمين لسبيله خارجا من أهل التفرق و الاختلاف.

و لذلك ترى أنه سبحانه في غالب ما يذكر اختلافهم في الكتاب يردفه بارتيابهم فيه كقوله فيما مرت من الآيات: "و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم و إنهم لفي شك منه مريب": آية - 110 من السورة و قد كرر هذا المعنى في مواضع من كلامه.

و قال تعالى: "عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون": النبأ: 3 أي يأتي فيه كل بقول يبعدهم من الحق فيتفرقون و قال: "إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون": الذاريات: 10 أي قول لا يقف على وجه و لا يبتني على علم بل الخرص و الظن هو الذي أوجده فيكم.

و في هذا المعنى قوله تعالى: "يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل و تكتمون الحق و أنتم تعلمون": آل عمران: 71 فإن هذا اللبس المذموم منهم إنما كان بإظهار قول يشبه الحق و ليس به و هو إلقاء التفرق الذي يختفي به الحق.

فالمراد باختلافهم إيجادهم أقوالا و آراء يتفرقون بها عن الحق و يظهر بها الريب فهم لاتباعهم أهواءهم المخالفة للحق يظهرون آراءهم الباطلة في صور متفرقة تضاهي صورة الحق ليحجبوه عن أفهام الناس بغيا و عدوانا بعد علمهم بالحق فهو اختلافهم في الحق بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.

و يتبين بما تقدم على طوله أن الإشارة بقوله: "و لذلك خلقهم" إلى الرحمة المدلول عليه بقوله: "إلا من رحم ربك" و التأنيث اللفظي في لفظ الرحمة لا ينافي تذكير اسم الإشارة لأن المصدر جائز الوجهين، قال تعالى: "إن رحمة الله قريب من المحسنين": الأعراف: 56 و ذلك لأنك عرفت أن هذا الاختلاف بغي منهم يفرقهم عن الحق و يستره و يظهر الباطل و لا يجوز كون الباطل غاية حقيقية للحق تعالى في خلقه، و لا معنى لأن يوجد الله سبحانه العالم الإنساني ليبغوا و يميتوا الحق و يحيوا الباطل فيهلكهم ثم يعذبهم بنار خالدة، فالقرآن الكريم يدفع هذا بجميع بياناته.

على أن سياق الآيات - مع الغض عما ذكر - يدفع ذلك فإنها في مقام بيان أن الله تعالى يدعو الناس برأفته و رحمته إلى ما فيه خيرهم و سعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما و لا شرا، و لكنهم بظلمهم و اختلافهم في الحق يستنكفون عن دعوته، و يكذبون بآياته، و يعبدون غيره، و يفسدون في الأرض فيستحقون العذاب، و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون، و لا أن يخلقهم ليبغوا و يفسدوا فيهلكهم فالذي منه هو الرحمة و الهداية، و الذي من بغيهم و اختلافهم و ظلمهم يرجع إليهم أنفسهم، و هذا هو الذي يعطيه سياق الآيات.



و كون الرحمة أعني الهداية غاية مقصودة في الخلقة إنما هو لاتصالها بما هو الغاية الأخيرة و هو السعادة كما في قوله حكاية عن أهل الجنة: "و قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا": الأعراف: 43 و هذا نظير عد العبادة غاية لها لاتصالها بالسعادة في قوله: "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون": الذاريات: 56.

و قوله: "و تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين" أي حقت كلمته تعالى و أخذت مصداقها منهم بما ظلموا و اختلفوا في الحق من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، و الكلمة هي قوله: "لأملأن جهنم" إلخ.

و الآية نظيره قوله: "و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين": الم السجدة: 13 و الأصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله تعالى إلى إبليس لعنه الله إذ قال: "فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين": ص: 85 و الآيات متحدة المضمون يفسر بعضها بعضا.

هذه جملة ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين و قد تلخص بذلك: أولا أن المراد بقوله: "و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" توحيدهم برفع التفرق و الخلاف من بينهم و قيل: إن المراد هو الإلجاء إلى الإسلام و رفع الاختيار لكنه ينافي التكليف و لذلك لم يفعل و نسب إلى قتادة، و قيل: المعنى لو شاء لجمعكم في الجنة لكنه أراد بكم أعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثوابا لأعمالكم، و نسب إلى أبي مسلم.

و أنت خبير بأن سياق الآيات لا يساعد على شيء من المعنيين.

و ثانيا: أن المراد بقوله: "و لا يزالون مختلفين" دوامهم على الاختلاف في الدين و معناه التفرق عن الحق و ستره بتصويره في صور متفرقة باطلة تشبه الحق.

و قال بعضهم: هو الاختلاف في الأرزاق و الأحوال و بالجملة الاختلاف غير الديني و نسب إلى الحسن.

و قد عرفت أنه أجنبي من سياق الآيات السابقة.

و قال آخرون: إن معنى "مختلفين" يخلف بعضهم بعضا في تقليد أسلافهم و تعاطي باطلهم، و هو كسابقه أجنبي من مساق الآيات و فيها قوله: "و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه" الآية.

و ثالثا: أن المراد بقوله: "إلا من رحم" إلا من هداه الله من المؤمنين.

و رابعا: أن الإشارة بقوله: "و لذلك خلقهم" إلى الرحمة و هي الغاية التي أرادها الله من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم.

و ذكر بعضهم.

أن المعنى خلقهم للاختلاف و نسب إلى الحسن و عطاء.

و قد عرفت أنه سخيف ردي جدا نعم لو جاز عود ضمير "خلقهم" إلى الباقي من الناس بعد الاستثناء جاز عد الاختلاف غاية لخلقهم و كانت الآية قريبة المضمون من قوله: "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس": الآية الأعراف: 179.

و ذكر آخرون: أن الإشارة إلى مجموع ما يدل عليه الكلام من مشيته تعالى في خلقهم مستعدين للاختلاف و التفرق في علومهم و معارفهم و آرائهم و شعورهم و ما يتبع ذلك من إرادتهم و اختيارهم في أعمالهم و من ذلك الدين و الإيمان و الطاعة و العصيان، و بالجملة الغاية هو مطلق الاختلاف أعم مما في الدين أو في غيره.

و نسب إلى ابن عباس بناء على ما روي عنه أنه قال: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، و فريقا لا يرحم فيختلف، و إلى مالك بن أنس إذ قال في معنى الآية: خلقهم ليكون فريق في الجنة و فريق في السعير، و قد عرفت ما فيه من وجوه السخافة فلا نطيل بالإعادة.



و خامسا: أن المراد بتمام الكلمة هو تحققها و أخذها مصداقها.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و إن كلا لما ليوفينهم ربك" الآية قال: قال (عليه السلام): في القيامة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: "فاستقم كما أمرت و من تاب معك" قال: شمروا شمروا فما رؤي ضاحكا.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "فاستقم كما أمرت" الآية قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية كانت أشد عليه و لا أشق من هذه الآية، و لذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله. شيبتني هود و الواقعة.

أقول: و الحديث مشهور في بعض الألفاظ شيبتني هود و أخواتها، و عدم اشتمال الواقعة على ما يناظر قوله: "فاستقم كما أمرت" الآية يبعد أن تكون إليه الإشارة في الحديث، و المشترك فيه بين السورتين حديث القيامة و الله أعلم.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لا تركنوا" الآية قال: قال (عليه السلام): ركون مودة و نصيحة و طاعة:. أقول: و رواه أيضا في المجمع، مرسلا عنهم (عليهم السلام).

و في تفسير العياشي، عن عثمان بن عيسى عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): "و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" قال: أما إنه لم يجعلها خلودا و لكن "تمسكم النار" فلا تركنوا إليهم.

أقول: أي و لكن قال: تمسكم النار فجعله مسا.

و فيه، عن جرير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "أقم الصلاة طرفي النهار" و طرفاه المغرب و الغداة "و زلفا من الليل" و هي صلاة العشاء الآخرة.

و في التهذيب، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث في الصلوات الخمس اليومية: و قال تعالى في ذلك "أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل" و هي صلاة العشاء الآخرة.

أقول: الحديث لا يخلو من ظهور في تفسير طرفي النهار بما قبل الظهر و ما بعدها ليشمل أوقات الخمس.

و في المعاني، بإسناده عن إبراهيم بن عمر عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "إن الحسنات يذهبن السيئات" قال: صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب النهار:. أقول: و الحديث مروي في الكافي، و تفسير العياشي، و أمالي المفيد، و أمالي الشيخ،: و في المجمع، عن الواحدي بإسناده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها فهزه حتى تحات ورقه ثم قال: يا أبا عثمان أ لا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: و لم تفعله قال هكذا فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه، ثم قال: أ لا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا؟ قلت: و لم فعلته؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق. ثم قرأ هذه الآية: و أقم الصلاة إلى آخرها:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن الطيالسي و أحمد و الدارمي و ابن جرير و الطبراني و البغوي في معجمه، و ابن مردويه غير مسلسل:.



و فيه، عنه بإسناده عن الحارث عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت ذنبا، فأعرض عنه فلما قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أ ليس قد صليت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنها كفارة ذنبك:. أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي أمامة و معاذ بن جبل و ابن عباس و بريدة و واثلة بن الأسقع و أنس و غيرهم و في سرد القصة اختلاف ما في ألفاظهم، و رواه الترمذي و غيره عن أبي اليسر و هو صاحب القصة:.

و في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما (عليهما السلام) يقول: إن عليا (عليه السلام) أقبل على الناس فقال: أي آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قال: حسنة و ليست إياها. فقال بعضهم: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله" قال: حسنة و ليست إياها. و قال بعضهم: "و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم - ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" قال: حسنة و ليست إياها. قال: ثم أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ قالوا: لا و الله ما عندنا شيء. قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أرجى آية في كتاب الله: "و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل" و قرأ الآية كلها، و قال: يا علي و الذي بعثني بالحق بشيرا و نذيرا إن أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل بوجهه و قلبه لم ينفتل عن صلاته و عليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه فإذا أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس. ثم قال: يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما ظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم؟ أ كان يبقى في جسده درن؟ فكذلك و الله الصلوات الخمس لأمتي:. أقول: و قد روي المثل المذكور في آخر الحديث من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريرة و أنس و جابر و أبي سعيد الخدري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و فيه، عن إبراهيم الكرخي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا فلان من أين جئت؟ قال: و لم يقل في جوابه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): جئت من هنا و هاهنا. انظر بما تقطع به يومك فإن معك ملكا موكلا يحفظ و يكتب ما تعمل فلا تحتقر سيئة و إن كانت صغيرة فإنها ستسوؤك يوما، و لا تحتقر حسنة فإنه ليس شيء أشد طلبا من الحسنة أنها تدرك الذنب العظيم القديم فتحذفه و تسقطه و تذهب به بعدك، و ذلك قول الله "إن الحسنات يذهبن السيئات - ذلك ذكرى للذاكرين" و فيه، عن سماعة بن مهران قال: سأل أبا عبد الله (عليه السلام) رجل من أهل الجبال عن رجل أصاب مالا من أعمال السلطان فهو يتصدق منه و يصل قرابته و يحج ليغفر له ما اكتسب، و هو يقول: إن الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة و لكن الحسنة تكفر الخطيئة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن خلط الحلال حراما فاختلطا جميعا فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيقوم فيتوضأ فيحسن الوضوء و يصلي فيحسن الصلاة إلا غفرت له ما بينها و بين الصلاة التي كانت قبلها من ذنوبه.

أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة من أراد استقصاءها فليراجع جوامع الحديث.



و فيه، أخرج الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و الديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل عن تفسير هذه الآية: "و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون" فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و أهلها ينصف بعضهم بعضا.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: "و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك" فقال: كانوا أمة واحدة فبعث الله النبيين ليتخذ علهيم الحجة:. أقول: و رواه الصدوق في المعاني، عنه (عليه السلام) مثله.

و في المعاني، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون" قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: و سألته عن قوله عز و جل: "و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم" قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم.

و في تفسير القمي، عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" يعني آل محمد و أتباعهم يقول الله: "و لذلك خلقهم" يعني أهل الرحمة لا يختلفون في الدين.

و في تفسير العياشي، عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون" قال: خلقهم للعبادة. قال: قلت: قوله: "و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم" قال: نزلت هذه بعد تلك.

أقول: يشير إلى كون الآية الثانية أعني قوله: "إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم" لكونها خاصة ناسخة للآية الأولى العامة، و قد تقدم في الكلام على النسخ أنه في عرفهم (عليهم السلام) أعم مما اصطلح عليه علماء الأصول، و الآيات الخاصة التكوينية ظاهرة في حكمها على الآيات العامة فإن العوامل و الأسباب الخاصة أنفذ حكما من العامة فافهمه.
<<        الفهرس        >>