جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج11 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



11 سورة هود - 120 - 123
وَ كُلاً نّقُص عَلَيْك مِنْ أَنبَاءِ الرّسلِ مَا نُثَبِّت بِهِ فُؤَادَك وَ جَاءَك فى هَذِهِ الْحَقّ وَ مَوْعِظةٌ وَ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَ قُل لِّلّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنّا عَمِلُونَ (121) وَ انتَظِرُوا إِنّا مُنتَظِرُونَ (122) وَ للّهِ غَيْب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكلْ عَلَيْهِ وَ مَا رَبّك بِغَفِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (123)

بيان

الآيات تلخص للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القول في غرض السورة المسرودة له آياتها، و تنبئه أن السورة تبين له حق القول في المبدأ و المعاد و سنة الله الجارية في عباده فهي بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعليم للحق، و بالنسبة إلى المؤمنين موعظة و ذكرى، و بالنسبة إلى الكافرين المستنكفين عن الإيمان قطع خصام، فقل لهم آخر ما تحاجهم: اعملوا بما ترون و نحن عاملون بما نراه، و ننتظر جميعا صدق ما قص الله علينا من سنته الجارية في خلقه من إسعاد المصلحين و إشقاء المفسدين، و تختم بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بعبادته و التوكل عليه لأن الأمر كله إليه.

قوله تعالى: "و كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك" إلى آخر الآية أي و كل القصص نقص عليك تفصيلا أو إجمالا، و قوله: "من أنباء الرسل" بيان لما أضيف إليه كل، و قوله: "ما نثبت به فؤادك" عطف بيان للأنباء أشير به إلى فائدة القصص بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تثبيت فؤاده و حسم مادة القلق و الاضطراب منه.

و المعنى نقص عليك أنباء الرسل لنثبت به فؤادك و نربط جأشك في ما أنت عليه من سلوك سبيل الدعوة إلى الحق، و النهضة على قطع منابت الفساد، و المحنة من أذى قومك.

ثم ذكر تعالى من فائدة السورة ما يعمه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قومه مؤمنين و كافرين فقال فيما يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من فائدة نزول السورة: "و جاءك في هذه الحق" و الإشارة إلى السورة أو إلى الآيات النازلة فيها أو الإنباء على وجه، و مجيء الحق فيها هو ما بين الله تعالى في ضمن القصص و قبلها و بعدها من حقائق المعارف في المبدأ و المعاد و سنته تعالى الجارية في خلقه بإرسال الرسل و نشر الدعوة ثم إسعاد المؤمنين في الدنيا بالنجاة، و في الآخرة بالجنة، و إشقاء الظالمين بالأخذ في الدنيا و العذاب الخالد في الآخرة.

و قال فيما يرجع إلى المؤمنين: "و موعظة و ذكرى للمؤمنين" فإن فيما ذكر فيها من حقائق المعارف تذكرة للمؤمنين يذكرون بها ما نسبوه من علوم الفطرة في المبدأ و المعاد و ما يرتبط بهما، و فيما ذكر فيها من القصص و العبر موعظة يتعظون بها.

قوله تعالى: "و قل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون و انتظروا إنا منتظرون و هذا فيما يرجع إلى غير المؤمنين يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يختم الحجاج معهم و يقطع خصامهم بعد ما تلا القصص عليهم بهذه الجمل فيقول لهم: أما إذا لم تؤمنوا و لم تنقطعوا عن الشرك و الفساد بما ألقيت إليكم من التذكرة و العبر و لم تصدقوا بما قصه الله من أنباء الأمم و أخبر به من سنته الجارية فيهم فاعملوا على ما أنتم عليه من المكانة و المنزلة، و بما تحسبونه خيرا لكم إنا عاملون، و انتظروا ما سيستقبلكم من عاقبة عملكم إنا منتظرون فسوف تعرفون صدق النبإ الإلهي و كذبه.

و هذا قطع للخصام و نوع تهديد أورده الله في القصص الماضية قصة نوح و هود و صالح (عليهما السلام)، و في قصة شعيب (عليه السلام) حاكيا عنه: "و يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و من هو كاذب و ارتقبوا إني معكم رقيب": آية 93 من السورة.

قوله تعالى: "و لله غيب السماوات و الأرض و إليه يرجع الأمر كله" لما كان أمره تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمرهم بالعمل بما تهوى أنفسهم و الانتظار، و إخبارهم بأنه و من آمن معه عاملون و منتظرون، في معنى أمره و من تبعه بالعمل و الانتظار عقبه بهاتين الجملتين ليكون على طيب من النفس و ثبات من القلب من أن الدائرة ستكون له عليهم.

و المعنى فاعمل و انتظر أنت و من تبعك فغيب السماوات و الأرض الذي يتضمن عاقبة أمرك و أمرهم إنما يملكه ربك الذي هو الله سبحانه دون آلهتهم التي يشركون بها و دون الأسباب التي يتوكلون عليها حتى يديروا الدائرة لأنفسهم و يحولوا العاقبة إلى ما ينفعهم، و إلى ربك الذي هو الله يرجع الأمر كله فيظهر من غيبه عاقبة الأمر على ما شاءه و أخبر به، فالدائرة لك عليهم، و هذا من عجيب البيان.

و من هنا يظهر وجه تبديل قوله: "ربك" المكرر في هذه الآيات بلفظ الجلالة "الله" لأن فيه من الإشعار بالإحاطة بكل ما دق و جل ما ليس في غيره، و المقام يقتضي الاعتماد و الالتجاء إلى ملجإ لا يقهره قاهر و لا يغلب عليه غالب، و هو الله سبحانه و لذلك ترى أنه يعود بعد انقضاء هذه الجمل إلى ما كان يكرره من صفة الرب، و هو قوله: "و ما ربك بغافل عما تعملون".

قوله تعالى: "فاعبده و توكل عليه" الظاهر أنه تفريع لقوله: "و إليه يرجع الأمر كله" أي إذا كان الأمر كله مرجوعا إليه تعالى فلا يملك غيره شيئا و لا يستقل بشيء فاعبده سبحانه و اتخذه وكيلا في جميع الأمور و لا تتوكل على شيء من الأسباب دونه لأنها أسباب بتسبيبه غير مستقلة دونه، فمن الجهل الاعتماد على شيء منها.

و ما ربك بغافل عما تعملون فلا يجوز التساهل في عبادته و التوكل عليه.


12 سورة يوسف - 1 - 3
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الر تِلْك ءَايَت الْكِتَبِ الْمُبِينِ (1) إِنّا أَنزَلْنَهُ قُرْءَناً عَرَبِيّا لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نحْنُ نَقُص عَلَيْك أَحْسنَ الْقَصصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْءَانَ وَ إِن كنت مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَفِلِينَ (3)

بيان

غرض السورة بيان ولاية الله لعبده الذي أخلص إيمانه له تعالى إخلاصا و امتلأ بمحبته تعالى لا يبتغي له بدلا و لم يلو إلى غيره تعالى من شيء، و أن الله تعالى يتولى هو أمره فيربيه أحسن تربية فيورده مورد القرب و يسقيه فيرويه من مشرعه الزلفى فيخلصه لنفسه و يحييه حياة إلهية و إن كانت الأسباب الظاهرة أجمعت على هلاكه، و يرفعه و إن توفرت الحوادث على ضعته، و يعزه و إن دعت النوائب و رزايا الدهر إلى ذلته و حط قدره.

و قد بين تعالى ذلك بسرد قصة يوسف الصديق (عليه السلام).

و لم يرد في سور القرآن الكريم تفصيل قصة من القصص باستقصائها من أولها إلى آخرها غير قصته (عليه السلام)، و قد خصت السورة بها من غير شركة ما من غيرها.

فقد كان (عليه السلام) عبدا مخلصا في عبوديته فأخلصه الله لنفسه و أعزه بعزته و قد تجمعت الأسباب على إذلاله و ضعته فكلما ألقته في إحدى المهالك أحياه الله تعالى من نفس السبيل التي كانت تسوقه إلى الهلاكة: حسده إخوته فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس دراهم معدودة فذهب به ذلك إلى مصر و أدخله في بيت الملك و العزة، راودته التي هو في بيتها عن نفسه و اتهمته عند العزيز و لم تلبث دون أن اعترفت عند النسوة ببراءته ثم اتهمته و أدخلته السجن فكان ذلك سبب قربه عند الملك، و كان قميصه الملطخ بالدم الذي جاءوا به إلى أبيه يعقوب أول يوم هو السبب الوحيد في ذهاب بصره فصار قميصه بعينه و قد أرسله بيد إخوته من مصر إلى أبيه آخر يوم هو السبب في عود بصره إليه، و على هذا القياس.

و بالجملة كلما نازعه شيء من الأسباب المخالفة أو اعترضه في طريق كماله جعل الله تعالى ذلك هو السبب في رشد أمره و نجاح طلبته، و لم يزل سبحانه يحوله من حال إلى حال حتى آتاه الحكم و الملك و اجتباه و علمه من تأويل الأحاديث و أتم نعمته عليه كما وعده أبوه.

و قد بدأ الله سبحانه قصته بذكر رؤيا رآها في بادىء الأمر و هو صبي في حجر أبيه و الرؤيا من المبشرات ثم حقق بشارته و أتم كلمته فيه بما خصه به من التربية الإلهية، و هذا هو شأنه تعالى في أوليائه كما قال تعالى: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم": يونس: 64.

و في قوله تعالى بعد ذكر رؤيا يوسف و تعبير أبيه (عليه السلام) لها: "لقد كان في يوسف و إخوته آيات للسائلين" إشعار بأنه كان هناك قوم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عما يرجع إلى هذه القصة، و هو يؤيد ما ورد أن قوما من اليهود بعثوا مشركي مكة أن يسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبب انتقال بني إسرائيل إلى مصر و قد كان يعقوب (عليه السلام) ساكنا في أرض الشام فنزلت السورة.

و على هذا فالغرض بيان قصته (عليه السلام) و قصة آل يعقوب، و قد استخرج تعالى ببيانه ما هو الغرض العالي منها و هو طور ولاية الله لعباده المخلصين كما هو اللائح من مفتتح السورة و مختتمها، و السورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها، و ما ورد في بعض الروايات عن ابن عباس أن أربعا من آياتها مدنية، و هي الآيات الثلاث التي في أولها، و قوله "لقد كان في يوسف و إخوته آيات للسائلين" مدفوع بما تشتمل عليه من السياق الواحد.

قوله تعالى: "الر تلك آيات الكتاب المبين" الإشارة بلفظ البعيد للتعظيم و التفخيم، و الظاهر أن يكون المراد بالكتاب المبين هذا القرآن المتلو و هو مبين واضح في نفسه و مبين موضح لغيره ما ضمنه الله تعالى من المعارف الإلهية و حقائق المبدأ و المعاد.

و قد وصف الكتاب في الآية بالمبين لا كما في قوله في أول سورة يونس: "تلك آيات الكتاب الحكيم" لكون هذه السورة نازلة في شأن قصة آل يعقوب و بيانها، و من المحتمل أن يكون المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ.

قوله تعالى: "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" الضمير للكتاب بما أنه مشتمل على الآيات الإلهية و المعارف الحقيقية، و إنزاله قرآنا عربيا هو إلباسه في مرحلة الإنزال لباس القراءة و العربية، و جعله لفظا متلوا مطابقا لما يتداوله العرب من اللغة كما قال تعالى في موضع آخر "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم": الزخرف: 4.

و قوله: "لعلكم تعقلون" من قبيل توسعة الخطاب و تعميمه فإن السورة مفتتحة بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "تلك آيات الكتاب"، و على ذلك يجري بعد كما في قوله: "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك" إلخ.

فمعنى الآية - و الله أعلم - أنا جعلنا هذا الكتاب المشتمل على الآيات في مرحلة النزول ملبسا بلباس اللفظ العربي محلى بحليته ليقع في معرض التعقل منك و من قومك أو أمتك، و لو لم يقلب في وحيه في قالب اللفظ المقرو أو لم يجعل عربيا مبينا لم يعقل قومك ما فيه من أسرار الآيات بل اختص فهمه بك لاختصاصك بوحيه و تعليمه.

و في ذلك دلالة ما على أن لألفاظ الكتاب العزيز من جهة تعينها بالاستناد إلى الوحي و كونها عربية دخلا في ضبط أسرار الآيات و حقائق المعارف، و لو أنه أوحى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعناه و كان اللفظ الحاكي له لفظه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في الأحاديث القدسية مثلا أو ترجم إلى لغة أخرى خفي بعض أسرار آياته البينات عن عقول الناس و لم تنله أيدي تعقلهم و فهمهم.

و عنايته تعالى فيما أوحى من كتابه باللفظ مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه كيف؟ و قد قسمه إلى المحكمات و المتشابهات و جعل المحكمات أم الكتاب ترجع إليها المتشابهات قال تعالى: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات": آل عمران: 7 و قال تعالى أيضا: "و لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين": النحل 103.

قوله تعالى: "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن و إن كنت من قبله لمن الغافلين" قال الراغب في المفردات،: القص تتبع الأثر يقال: قصصت أثره، و القصص الأثر قال: فارتدا على آثارهما قصصا، و قالت لأخته قصيه.

قال: و القصص الأخبار المتتبعة قال تعالى: لهو القصص الحق.

في قصصهم عبرة، و قص عليه القصص، نقص عليك أحسن القصص.

انتهى فالقصص هو القصة و أحسن القصص أحسن القصة و الحديث، و ربما قيل: إنه مصدر بمعنى الاقتصاص.

فإن كان اسم مصدر فقصة يوسف (عليه السلام) أحسن قصة لأنها تصف إخلاص التوحيد في العبودية، و تمثل ولاية الله سبحانه لعبده و أنه يربيه بسلوكه في صراط الحب و رفعه من حضيض الذلة إلى أوج العزة، و أخذه من غيابة جب الإسارة و مربط الرقية و سجن النكال و النقمة إلى عرش العزة و سرير الملك.

و إن كان مصدرا فالاقتصاص عن قصته بالطريق الذي اقتص سبحانه به أحسن الاقتصاص لأنه اقتصاص لقصة الحب و الغرام بأعف ما يكون و أستر ما يمكن.

و المعنى - و الله أعلم - نحن نقص عليك أحسن القصص بسبب وحينا هذا القرآن إليك و أنك كنت قبل اقتصاصنا عليك هذه القصة من الغافلين عنها.

12 سورة يوسف - 4 - 6
إِذْ قَالَ يُوسف لأَبِيهِ يَأَبَتِ إِنى رَأَيْت أَحَدَ عَشرَ كَوْكَباً وَ الشمْس وَ الْقَمَرَ رَأَيْتهُمْ لى سجِدِينَ (4) قَالَ يَبُنىّ لا تَقْصص رُءْيَاك عَلى إِخْوَتِك فَيَكِيدُوا لَك كَيْداً إِنّ الشيْطنَ لِلانسنِ عَدُوّ مّبِينٌ (5) وَ كَذَلِك يجْتَبِيك رَبّك وَ يُعَلِّمُك مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك وَ عَلى ءَالِ يَعْقُوب كَمَا أَتَمّهَا عَلى أَبَوَيْك مِن قَبْلُ إِبْرَهِيمَ وَ إِسحَقَ إِنّ رَبّك عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

بيان

تذكر الآيات رؤيا رآها يوسف و قصها على أبيه يعقوب (عليهما السلام) فعبرها أبوه له و نهاه أن يقصها على إخوته، و هذه الرؤيا بشرى بشر الله سبحانه يوسف بها ليكون مادة روحية لتربيته تعالى عبده في صراط الولاية و القرب من ربه، و هي بمنزلة المدخل في قصته (عليه السلام).

قوله تعالى: "إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين" لم يذكر يعقوب (عليه السلام) باسمه بل كنى عنه بالأب للدلالة على ما بينهما من صفة الرحمة و الرأفة و الشفقة كما يدل عليه ما في الآية التالية: "قال يا بني لا تقصص" إلخ.

و قوله: "رأيت" و "رأيتهم" من الرؤيا و هي ما يشاهده النائم في نومته أو الذي خمدت حواسه الظاهرة بإغماء أو ما يشابهه، و يشهد به قوله في الآية التالية: "لا تقصص رؤياك على إخوتك" و قوله في آخر القصة: "يا أبت هذا تأويل رؤياي".

و تكرار ذكر الرؤية لطول الفصل بين قوله "رأيت" و قوله "لي ساجدين" و من فائدة التكرير الدلالة على أنه إنما رآهم مجتمعين على السجود جميعا لا فرادى.

على أن ما حصل له من المشاهدة نوعان مختلفان فمشاهدة أشخاص الكواكب و الشمس و القمر مشاهدة أمر صوري و مشاهدة سجدتهم و خضوعهم و تعظيمهم له مشاهدة أمر معنوي.

و قد عبر عن الكواكب و النيرين في قوله: "رأيتهم لي ساجدين" بما يختص بأولى العقل - ضمير الجمع المذكر و جمع المذكر السالم - للدلالة على أن سجدتهم كانت عن علم و إرادة كما يسجد واحد من العقلاء لآخر.

و قد افتتح سبحانه قصته (عليه السلام) بذكر هذه الرؤيا التي أراها له و هي بشرى له تمثل له ما سيناله من الولاية الإلهية و يخص به من اجتباء الله إياه و تعليمه تأويل الأحاديث و إتمام نعمته عليه، و من هناك تبتدىء التربية الإلهية له لأن الذي بشر به في رؤياه لا يزال نصب عينيه في الحياة لا يتحول من حال إلى حال، و لا ينتقل من شأن إلى شأن، و لا يواجه نائبة، و لا يلقى مصيبة، إلا و هو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها موطن نفسه على الصبر عليها.

و هذه هي الحكمة في أن الله سبحانه يخص أولياءه بالبشرى بجمل ما سيكرمهم به من مقام القرب و منزلة الزلفى كما في قوله: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون - إلى أن قال - لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة": يونس: 64.

قوله تعالى: "قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين" ذكر في المفردات،: أن الكيد ضرب من الاحتيال، و قد يكون مذموما و ممدوحا و إن كان يستعمل في المذموم أكثر و كذلك الاستدراج و المكر.

انتهي.

و قد ذكروا أن الكيد يتعدى بنفسه و باللام.

و الآية تدل على أن يعقوب لما سمع ما قصة عليه يوسف من الرؤيا أيقن بما يدل عليه أن يوسف (عليه السلام) سيتولى الله أمره و يرفع قدره، يسنده على أريكة الملك و عرش العزة، و يخصه من بين آل يعقوب بمزيد الكرامة فأشفق على يوسف (عليه السلام) و خاف من إخوته عليه و هم عصبة أقوياء أن لو سمعوا الرؤيا - و هي ظاهرة الانطباق على يعقوب (عليه السلام) و زوجه و أحد عشر من ولده غير يوسف، و ظاهرة الدلالة على أنهم جميعا سيخضعون و يسجدون ليوسف - حملهم الكبر و الأنفة أن يحسدوه فيكيدوا له كيدا ليحولوا بينه و بين ما تبشره به رؤياه.

و لذلك خاطب يوسف (عليه السلام) خطاب الإشفاق كما يدل عليه قوله: "يا بني" بلفظ التصغير، و نهاه عن اقتصاص رؤياه على إخوته قبل أن يعبرها له و ينبئه بما تدل عليه رؤياه من الكرامة الإلهية المقضية في حقه، و لم يقدم النهي على البشارة إلا لفرط حبه له و شدة اهتمامه به و اعتنائه بشأنه، و ما كان يتفرس من إخوته أنهم يحسدونه و أنهم امتلئوا منه بغضا و حنقا.

و الدليل على بلوغ حسدهم و ظهور حنقهم و بغضهم قوله: "لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا" فلم يقل: إني أخاف أن يكيدوا، أو لا آمنهم عليك بتفريع الخوف من كيدهم أو عدم الأمن من جهتهم بل فرع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم و أكد تحقق الكيد منهم بالمصدر - المفعول المطلق - إذ قال: "فيكيدوا لك كيدا" ثم أكد ذلك بقوله ثانيا في مقام التعليل: "إن الشيطان للإنسان عدو مبين" أي إن لكيدهم سببا آخر منفصلا يؤيد ما عندهم من السبب الذي هو الحسد و يثيره و يهيجه ليؤثر أثره السيىء و هو الشيطان الذي هو عدو للإنسان مبين لا خلة بينه و بينه أبدا يحمل الإنسان بوسوسته و تسويله على أن يخرج من صراط الاستقامة و السعادة إلى سبيل عوج فيه شقاء دنياه و آخرته فيفسد ما بين الوالد و ولده و ينزع بين الشقيق و شقيقه و يفرق بين الصديق و صديقه ليضلهم عن الصراط.

فكأن المعنى: قال يعقوب ليوسف (عليهما السلام): يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنهم يحسدونك و يغتاظون من أمرك فيكيدونك عندئذ بنزغ و إغراء من الشيطان و قد تمكن من قلوبهم و لا يدعهم يعرضوا عن كيدك فإن الشيطان للإنسان عدو مبين.

قوله تعالى: "و كذلك يجتبيك ربك و يعلمك من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليك و على آل يعقوب" إلى آخر الآية الاجتباء من الجباية و هي الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض إذا جمعته فيه، و منه جباية الخراج أي جمعه قال تعالى: "يجبى إليه ثمرات كل شيء": القصص: 57 ففي معنى الاجتباء جمع أجزاء الشيء و حفظها من التفرق و التشتت، و فيه سلوك و حركة من الجابي نحو المجبي فاجتباه الله سبحانه عبدا من عباده هو أن يقصده برحمته و يخصه بمزيد كرامته فيجمع شمله و يحفظه من التفرق في السبل المتفرقة الشيطانية المفرقة للإنسان و يركبه صراطه المستقيم و هو أن يتولى أمره و يخصه بنفسه فلا يكون لغيره فيه نصيب كما أخبر تعالى بذلك في يوسف (عليه السلام) إذ قال: "إنه من عبادنا المخلصين": الآية 24 من السورة.

و قوله: "و يعلمك من تأويل الأحاديث" التأويل هو ما ينتهي إليه الرؤيا من الأمر الذي تتعقبه، و هو الحقيقة التي تتمثل لصاحب الرؤيا في رؤياه بصورة من الصور المناسبة لمداركه و مشاعره كما تمثل سجدة أبوي يوسف و إخوته الأحد عشر في صورة أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر و خرورها أمامه ساجدة له، و قد تقدم استيفاء البحث عن معنى التأويل في تفسير قوله تعالى.

"فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله" الآية: آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب.

و الأحاديث جمع الحديث و ربما أريد به الرؤى لأنها من حديث النفس فإن نفس الإنسان تصور له الأمور في المنام كما يصور المحدث لسماعه الأمور في اليقظة فالرؤيا حديث مثله و منه يظهر ما في قول بعضهم: إن الرؤى سميت أحاديث باعتبار حكايتها و التحديث بها و هو كما ترى.

و كذا ما قيل: إنها سميت أحاديث لأنها من حديث الملك إن كانت صادقة و من حديث الشيطان إن كانت كاذبة.



انتهي.

و فيه أنها ربما لم تستند إلى ملك و لا إلى شيطان كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجية عارضة لنائم تأخذه حمى أو سخونة اتفاقية فتحكيها نفسه في صورة حمام يستحم فيه أو حر قيظ و نحوهما أو يتسلط عليه برد فتحكيه نفسه بتصوير الشتاء و نزول الثلج و نحوهما.

و رده بعضهم بأنه يخالف الواقع فإن رؤيا يوسف ليس فيها حديث و كذا رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر انتهى.

و قد اشتبه عليه معنى الحديث و ظن أن المراد بقولهم: إن الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان، الحديث على نحو التكليم باللفظ، و ليس كذلك بل المراد أن المنام يصور له القصة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما أن تصوره المتكلم اللافظ يصور ذلك بصورة لفظية يستدل بها السامع على الأصل المراد و هذا كما يقال لمن يقصد أمرا و يعزم على فعل أو ترك أنه حدثه نفسه أن يفعل كذا أو يترك كذا أي أنه يصوره فأراد فعله أو تركه كأن نفسه حدثته بأنه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا، و بالجملة معنى كون الرؤيا من الأحاديث أنها من قبيل تصور الأمور للنائم كما يتصور الأنباء و القصص بالتحديث اللفظي فهي حديث إما ملكي أو شيطاني أو نفسي كما تقدم لكن الحق أنها من أحاديث النفس بالمباشرة، و سيجيء استيفاء البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا.

لكن الظاهر المتحصل من قصته (عليه السلام) المسرودة في هذه السورة أن الأحاديث التي علمه الله تعالى تأويلها أعم من أحاديث الرؤيا، و إنما هي الأحاديث أعني الحوادث و الوقائع التي تتصور للإنسان أعم من أن تتصور له في يقظة أو منام فإن بين الحوادث و الأصول التي تنشأ هي منها و الغايات التي تنتهي إليها اتصالا لا يسع إنكاره، و بذلك يرتبط بعضها ببعض فمن الممكن أن يهتدي عبد بإذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل الأحاديث و الحقائق التي تنتهي هي إليها.

و يؤيده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف (عليه السلام)، و تأويل يوسف لرؤيا نفسه و رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا عزيز مصر و فيما يرجع إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله: "قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي": الآية 37 من السورة، و كذا قوله: "فلما ذهبوا به و أجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب و أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون": الآية 15 من السورة و سيوافيك توضيحه إن شاء الله تعالى.

و قوله: "و يتم نعمته عليك و على آل يعقوب" قال الراغب في المفردات،: النعمة بالكسر فالسكون الحالة الحسنة، و بناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة و الركبة، و النعمة بالفتح فالسكون التنعم و بناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة و الشتمة، و النعمة للجنس تقال للقليل و الكثير.

قال: و الإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، و لا يقال إلا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين فإنه لا يقال: أنعم فلان على فرسه، قال تعالى: "أنعمت عليهم" "و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه" و النعماء بإزاء الضراء.

قال: و النعيم النعمة الكثيرة قال تعالى: "في جنات النعيم" و قال تعالى: "جنات النعيم"، و تنعم تناول ما فيه النعمة و طيب العيش، يقال: نعمه تنعيما فتنعم أي لين عيش و خصب قال تعالى: "فأكرمه و نعمه" و طعام ناعم و جارية ناعمة انتهى.

ففي الكلمة - كما ترى شيء - من معنى اللين و الطيب و الملاءمة فكأنها مأخوذة من النعومة و هي الأصل في معناها، و قد اختص استعمالها بالإنسان لأن له عقلا يدرك به النافع من الضار فيستطيب النافع و يستلئمه و يتنعم به بخلاف غيره الذي لا يميز ما ينفعه مما يضره، كما أن المال و الأولاد و غيرهما مما يعد نعمة يكون نعمة لواحد و نقمة لآخر و نعمة للإنسان في حال و نقمة في أخرى.

و لذا كان القرآن الكريم لا يعد هذه العطايا الإلهية كالمال و الجاه و الأزواج و الأولاد و غير ذلك نعمة بالنسبة إلى الإنسان إلا إذا وقعت في طريق السعادة و منصبغة بصبغة الولاية الإلهية تقرب الإنسان إلى الله زلفى، و أما إذا وقعت في طريق الشقاء و تحت ولاية الشيطان فإنما هي نقمة و ليست بنعمة، و الآيات في ذلك كثيرة.

نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهي نعمة منه و فضل و رحمة لأنه خير يفيض الخير و لا يريد في موهبته شرا و لا سوء، و هو رءوف رحيم غفور ودود، قال تعالى: "و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها": إبراهيم: 34 و الخطاب في الآية لعامة الناس، و قال تعالى: "و ذرني و المكذبين أولي النعمة و مهلهم قليلا": المزمل: 11، و قال تعالى: "ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم": الزمر: 49 فهذه و أمثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى لكنها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى "لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد": إبراهيم: 7.

و بالجملة إذا كان الإنسان في ولاية الله كان جميع الأسباب التي يتسبب بها في استبقاء الحياة و التوصل إلى السعادة نعما إلهية بالنسبة إليه، و إن كان في ولاية الشيطان تبدلت الجميع نقما و هي جميعا من الله سبحانه نعم و إن كانت مكفورا بها.

ثم إن وسائل الحياة إن كانت ناقصة لا تفي بجميع جهات السعادة في الحياة كانت نعمة كمن أوتي مالا و سلب الأمن و السلام فلا يتمكن من أن يتمتع به كما يريده و متى و أينما يريده، و إذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك تمام النعمة.

فقوله: "و يتم نعمته عليك و على آل يعقوب" يريد أن الله أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم لكنه يتم ذلك في حقك و في حق آل يعقوب و هم يعقوب و زوجه و سائر بنيه كما كان رآه في رؤياه.

و قد جعل يوسف (عليه السلام) أصلا و آل يعقوب معطوفا عليه إذ قال: "عليك و على آل يعقوب" كما يدل عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجودا له و رأى آل يعقوب في هيئة الشمس معها القمر و أحد عشر كوكبا سجدا له.

و قد ذكر الله تعالى مما أتم به النعمة على يوسف (عليه السلام) أنه آتاه الحكم و النبوة و الملك و العزة في مصر مضافا إلى أن جعله من المخلصين و علمه من تأويل الأحاديث، و مما أتم به النعمة على آل يعقوب أنه أقر عين يعقوب بابنه يوسف (عليهما السلام)، و جاء به و بأهله جميعا من البدو و رزقهم الحضارة بنزول مصر.

و قوله: "كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم و إسحاق" أي نظير ما أتم النعمة من قبل على إبراهيم و إسحاق و هما أبواك فإنه آتاهما خير الدنيا و الآخرة فقوله: "من قبل" متعلق بقوله: "أتمها" و ربما احتمل كونه ظرفا مستقرا وصفا لقوله "أبويك" و التقدير كما أتمها على أبويك الكائنين من قبل.

و "إبراهيم و إسحاق" بدل أو عطف بيان لقوله "أبويك" و فائدة هذا السياق الإشعار بكون النعمة مستمرة موروثة في بيت إبراهيم من طريق إسحاق حيث أتمها الله على إبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف (عليه السلام) و سائر آل يعقوب.



و معنى الآية: و كما رأيت في رؤياك يخلصك ربك لنفسه بإنقائك من الشرك فلا يكون فيك نصيب لغيره، و يعلمك من تأويل الأحاديث و هو ما يئول إليه الحوادث المصورة في نوم أو يقظة و يتم نعمته هذه و هي الولاية الإلهية بالنزول في مصر و اجتماع الأهل و الملك و العزة عليك و على أبويك و إخوتك و إنما يفعل ربك بك ذلك لأنه عليم بعباده خبير بحالهم حكيم يجري عليهم ما يستحقونه فهو عليم بحالك و ما يستحقونه من غضبه.

و التدبر في الآية الكريمة يعطي: أولا: أن يعقوب أيضا كان من المخلصين و قد علمه الله من تأويل الأحاديث فإنه (عليه السلام) أخبر كما في هذه الآية بتأويل رؤيا يوسف و ما كان ليخبر عن خرص و تخمين دون أن يعلمه الله ذلك.

على أن الله بعد ما حكى عنه لبنيه "يا بني لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة" إلخ قال في حقه: "و إنه لذو علم لما علمناه و لكن أكثر الناس لا يعلمون".

على أنه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه أنه قال: "لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي" فأخبر أنه من تأويل الحديث و قد علمه ذلك ربه ثم علل التعليم بقوله: "إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله و بالآخرة هم كافرون و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء" إلخ فأخبر أنه مخلص - بفتح اللام - لله كآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب نقي الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا و لذلك علمه ربه فيما علمه تأويل الأحاديث، و الاشتراك في العلة - كما ترى - يعطي أن آباءه الكرام إبراهيم و إسحاق و يعقوب كهو مخلصون لله معلمون من تأويل الأحاديث.

و يؤيده قوله تعالى في موضع آخر: "و اذكر عبادنا إبراهيم و إسحاق و يعقوب أولي الأيدي و الأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار: ص: 46 و يعطي أن العلم بتأويل الأحاديث من فروع الإخلاص لله سبحانه.

و ثانيا: أن جميع ما أخبر به يعقوب (عليه السلام) منطبق على متن ما رآه يوسف (عليه السلام) من الرؤيا و هو سجدة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا له و ذلك أن سجدتهم له و فيهم يعقوب الذي هو من المخلصين و لا يسجد إلا لله وحده تكشف عن أنهم إنما سجدوا أمام يوسف لله و لم يأخذوا يوسف إلا قبلة كالكعبة التي يسجد إليها و لا يقصد بذلك إلا الله سبحانه فلم يكن عند يوسف و لا له إلا الله تعالى، و هذا هو كون العبد مخلصا - بفتح اللام - لربه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شيء كما يومىء إليه يوسف بقوله: "ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء" و قد تقدم آنفا أن العلم بتأويل الأحاديث متفرع على الإخلاص.

و من هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه: "و كذلك - أي كما رأيت نفسك مسجودا لها - يجتبيك ربك - أي يخلصك لنفسه - و يعلمك من تأويل الأحاديث".

و كذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا و هي أجرام سماوية رفيعة المكان ساطعة الأنوار واسعة المدارات تدل على أنهم سترتفع مكانتهم و يعلوا كعبهم في حياتهم الإنسانية السعيدة، و هي الحياة الدينية العامرة للدنيا و الآخرة و يمتازون في ذلك من غيرهم.

و من هنا مضى يعقوب في حديثه و قال: "و يتم نعمته عليك - أي وحدك متميزا من غيرك كما رأيت نفسك كذلك - و على آل يعقوب - أي علي و على زوجي و ولدي جميعا كما رأيتنا مجمتمعين متقاربي الصور - كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم و إسحاق إن ربك عليم حكيم".

و ثالثا: أن المراد بإتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة و ضم الدنيا إلى الآخرة، و لا تنافي بين نسبة إتمام النعمة إلى الجميع و بين اختصاص الاجتباء و تعليم تأويل الأحاديث بيعقوب و يوسف (عليهما السلام) من بينهم لأن النعمة و هي الولاية مختلفة الدرجات متفاوتة المراتب، و حيث نسبت إلى الجميع يأخذ كل منهم نصيبه منها.

على أن من الجائز أن ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على أجزاء بعضها قائم بمعنى ذلك الأمر كما في قوله: "و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و رزقناهم من الطيبات": الجاثية: 16 و إيتاء الكتاب و الحكم و النبوة مختص ببعضهم دون جميعهم بخلاف الرزق من الطيبات.

و رابعا: أن يوسف كان هو الوسيلة في إتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب و لذلك جعله يعقوب أصلا في الحديث و عطف عليه غيره حتى ميزه من بين آله و أفرده بالذكر حيث قال: "و يتم نعمته عليك و على آل يعقوب".

و لذلك أيضا نسب هذه العناية و الرحمة إلى ربه حيث قال مرة بعد مرة: "ربك" و لم يقل: "يجتبيك الله" و لا "أن الله عليم حكيم فهذا كله يشهد بأنه هو الأصل في إتمام النعمة على آل يعقوب، و أما أبواه إبراهيم و إسحاق فإن التعبير بما يشعر بالتنظير: "كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم و إسحاق" يخرجهما من تحت أصالة يوسف فافهم ذلك.

بحث روائي

في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تأويل هذه الرؤيا أنه سيملك مصر و يدخل عليه أبواه و إخوته. فأما الشمس فأم يوسف راحيل، و القمر يعقوب، و أما أحد عشر كوكبا فإخوته، فلما دخلوا عليه سجدوا شكرا لله وحده حين نظروا إليه، و كان ذلك السجود لله.

و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس: في قوله تعالى: "أحد عشر كوكبا" قال: إخوته "و الشمس" قال: أمه "و القمر" قال: أبوه، و لأمه راحيل ثلث الحسن.

أقول: و الروايتان - كما ترى - تفسران الشمس بأمه و القمر بأبيه و لا تخلوان من ضعف، و ربما روي أن التي دخلت عليه بمصر هي خالته دون أمه فقد ماتت أمه قبل ذلك، و كذلك وردت في التوراة.

و في تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام): كان له أحد عشر أخا، و كان له من أمه أخ واحد يسمى بنيامين. قال: فرآى يوسف هذه الرؤيا و له تسع سنين فقصها على أبيه فقال: يا بني لا تقصص الآية.

أقول: و في بعض الروايات أنه كان يومئذ ابن سبع سنين و في التوراة أنه كان ابن ست عشر سنة.

و هو بعيد.

و في قصة الرؤيا روايات أخرى سيجيء بعضها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

12 سورة يوسف - 7 - 21
لّقَدْ كانَ فى يُوسف وَ إِخْوَتِهِ ءَايَتٌ لِّلسائلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسف وَ أَخُوهُ أَحَب إِلى أَبِينَا مِنّا وَ نحْنُ عُصبَةٌ إِنّ أَبَانَا لَفِى ضلَلٍ مّبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسف أَوِ اطرَحُوهُ أَرْضاً يخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صلِحِينَ (9) قَالَ قَائلٌ مِّنهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسف وَ أَلْقُوهُ فى غَيَبَتِ الْجُب يَلْتَقِطهُ بَعْض السيّارَةِ إِن كُنتُمْ فَعِلِينَ (10) قَالُوا يَأَبَانَا مَا لَك لا تَأْمَنّا عَلى يُوسف وَ إِنّا لَهُ لَنَصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَب وَ إِنّا لَهُ لَحَفِظونَ (12) قَالَ إِنى لَيَحْزُنُنى أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخَاف أَن يَأْكلَهُ الذِّئْب وَ أَنتُمْ عَنْهُ غَفِلُونَ (13) قَالُوا لَئنْ أَكلَهُ الذِّئْب وَ نَحْنُ عُصبَةٌ إِنّا إِذاً لّخَسِرُونَ (14) فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَن يجْعَلُوهُ فى غَيَبَتِ الجُْب وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَ هُمْ لا يَشعُرُونَ (15) وَ جَاءُو أَبَاهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَأَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَستَبِقُ وَ تَرَكنَا يُوسف عِندَ مَتَعِنَا فَأَكلَهُ الذِّئْب وَ مَا أَنت بِمُؤْمِنٍ لّنَا وَ لَوْ كنّا صدِقِينَ (17) وَ جَاءُو عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سوّلَت لَكُمْ أَنفُسكُمْ أَمْراً فَصبرٌ جَمِيلٌ وَ اللّهُ الْمُستَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (18) وَ جَاءَت سيّارَةٌ فَأَرْسلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قَالَ يَبُشرَى هَذَا غُلَمٌ وَ أَسرّوهُ بِضعَةً وَ اللّهُ عَلِيمُ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَ شرَوْهُ بِثَمَنِ بخْسٍ دَرَهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزّهِدِينَ (20) وَ قَالَ الّذِى اشترَاهُ مِن مِّصرَ لامْرَأَتِهِ أَكرِمِى مَثْوَاهُ عَسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتّخِذَهُ وَلَداً وَ كذَلِك مَكّنّا لِيُوسف فى الأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَ اللّهُ غَالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لَكِنّ أَكثرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)

بيان

شروع في القصة بعد ذكر البشارة التي هي كالمقدمة الملوحة إلى إجمال الغاية التي تنتهي إليها القصة، و الآيات تتضمن الفصل الأول من فصول القصة و فيه مفارقة يوسف ليعقوب (عليهما السلام) و خروجه من بيت أبيه إلى استقراره في بيت العزيز بمصر، و قد حدث خلال هذه الأحوال أن ألقاه إخوته في البئر، و أخرجته السيارة منها، و باعه إخوته من السيارة، و هم حملوه إلى مصر و باعوه من العزيز فبقي عنده.

قوله تعالى: "لقد كان في يوسف و إخوته آيات للسائلين" شروع في القصة و فيه التنبيه على أن القصة مشتملة على آيات إلهية دالة على توحيد الله سبحانه، و أنه هو الولي يلي أمور عباده المخلصين حتى يرفعهم إلى عرش العزة، و يثبتهم في أريكة الكمال فهو تعالى الغالب على أمره يسوق الأسباب إلى حيث يشاء لا إلى حيث يشاء غيره و يستنتج منها ما يريد لا ما هو اللائح الظاهر منها.

فهذه إخوة يوسف (عليه السلام) حسدوا أخاهم و كادوه و ألقوه في قعر بئر ثم شروه من السيارة عبدا يريدون بذلك أن يسوقوه إلى الهلاك فأحياه الله بعين هذا السبب اللائح منه الهلاك.

و أن يذللوه فأعزه الله بعين سبب التذليل، و وضعوه فرفعه الله بعين سبب الوضع و الخفض، و أن يحولوا حب أبيهم إلى أنفسهم فيخلوا لهم وجه أبيهم فعكس الله الأمر، و ذهبوا ببصر أبيهم حيث نعوا إليه يوسف بقميصه الملطخ بالدم فأعاد الله إليه بصره بقميصه الذي جاء به إليه البشير و ألقاه على وجهه.

و لم يزل يوسف (عليه السلام) كلما قصده قاصد بسوء أنجاه الله منه و جعل فيه ظهور كرامته و جمال نفسه، و كلما سير به في مسير أو ركب في سبيل يهديه إلى هلكة أو رزية هداه الله بعين ذلك السبيل إلى غاية حسنة و منقبة شريفة ظاهرة، و إلى ذلك يشير يوسف (عليه السلام) حيث يعرف نفسه لإخوته و يقول: "أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين": الآية 91 من السورة، و يقول لأبيه بحضرة من إخوته: "يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا و قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن و جاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي" ثم تأخذه الجذبية الإلهية فيقبل بكلية نفسه الوالهة إلى ربه و يعرض عن غيره فيقول: "رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة": الآية 101 من السورة.

و في قوله تعالى: "للسائلين" دلالة على أنه كان هناك جماعة سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن القصة أو عما يرجع بوجه إلى القصة فأنزلت في هذه السورة.

قوله تعالى: "إذ قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين" ذكر في المجمع، أن العصبة هي الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض، و يقع على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر، و قيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، و لا واحد له من لفظه كالقوم و الرهط و النفر.

انتهي.



و قوله: "إذ قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا" القائلون هم أبناء يعقوب ما خلا يوسف و أخاه الذي ذكروه معه، و كانت عدتهم عشرة و هم رجال أقوياء بيدهم تدبير بيت أبيهم يعقوب و إدارة مواشيه و أمواله كما يدل عليه قولهم: "و نحن عصبة".

و قولهم: "ليوسف و أخوه" بنسبته إلى يوسف مع أنهم جميعا أبناء ليعقوب و إخوة فيما بينهم يشعر بأن يوسف و أخاه هذا كانا أخوين لأم واحدة و أخوين لهؤلاء القائلين لأب فقط، الروايات تذكر أن اسم أخي يوسف هذا "بنيامين"، و السياق يشهد أنهما كانا صغيرين لا يقومان بشيء من أمر بيت يعقوب و تدبير مواشيه و أمواله.

و قولهم: "و نحن عصبة" أي عشرة أقوياء مشدود ضعف بعضنا بقوة بعض، و هو حال عن الجملة السابقة يدل على حسدهم و حنقهم لهما و غيظهم على أبيهم يعقوب في حبه لهما أكثر منهم، و هو بمنزلة تمام التعليل لقولهم بعده: "إن أبانا لفي ضلال مبين".

و قولهم: "إن أبانا لفي ضلال مبين" قضاء منهم على أبيهم بالضلال و يعنون بالضلال الاعوجاج في السليقة و فساد السيرة دون الضلال في الدين.

أما أولا: فلأن ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم إنهم جماعة إخوان أقوياء متعاضدون متعصب بعضهم لبعض يقومون بتدبير شئون أبيهم الحيوية و إصلاح معاشه و دفع كل مكروه يواجهه، و يوسف و أخوه طفلان صغيران لا يقويان من أمور الحياة على شيء، و ليس كل منهما إلا كلا عليه و عليهم، و إذا كان كذلك كان توغل أبيهم في حبهما و اشتغاله بكليته بهما دونهم و إقباله عليهما بالإعراض عنهم طريقة معوجة غير مرضية فإن حكمة الحياة تستدعي أن يهتم الإنسان بكل من أسبابه و وسائله على قدر ما له من التأثير، و قصر الإنسان اهتمامه على من هو كل عليه و لا يغني عنه طائلا، و الإعراض عمن بيده مفاتيح حياته و أزمة معاشه ليس إلا ضلالا من صراط الاستقامة و اعوجاجا في التدبير، و أما الضلال في الدين فله أسباب أخر كالكفر بالله و آياته و مخالفة أوامره و نواهيه.

و أما ثانيا: فلأنهم كانوا مؤمنين بالله مذعنين بنبوة أبيهم يعقوب كما يظهر من قولهم: "و تكونوا من بعده قوما صالحين" و قولهم أخيرا: "يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا": الآية 97 من السورة و قولهم ليوسف أخيرا: "تالله لقد آثرك الله علينا" و غير ذلك، و لو أرادوا بقولهم: "إن أبانا لفي ضلال مبين" ضلاله في الدين لكانوا بذلك كافرين.

و هم مع ذلك كانوا يحبون أباهم و يعظمونه و يوقرونه، و إنما فعلوا بيوسف ما فعلوا ليخلص لهم حب أبيهم كما قالوا: "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم" فهم - كما يدل عليه هذا السياق - كانوا يحبونه و يحبون أن يخلص لهم حبه، و لو كان خلاف ذلك لانبعثوا بالطبع إلى أن يبدءوا بأبيهم دون أخيهم و أن يقتلوا يعقوب أو يعزلوه أو يستضعفوه حتى يخلو لهم الجو و يصفو لهم الأمر ثم الشأن في يوسف عليهم أهون.

و لقد جبهوا أباهم أخيرا بمثل قولهم هذا حين قال لهم: "إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم": الآية 95 من السورة، و من المعلوم أن ليس المراد به الضلال في الدين بل الإفراط في حب يوسف و المبالغة في أمره بما لا ينبغي.



و يظهر من الآية و ما يرتبط بها من الآيات أنه كان يعقوب (عليه السلام) يسكن البدو و كان له اثنا عشر ابنا و هم أولاد علة، و كان عشرة منهم كبارا هم عصبة أولو قوة و شدة يدور عليهم رحى حياته و يدبر بأيديهم أمور أمواله و مواشيه، و كان اثنان منهم صغيرين أخوين لأم واحدة في حجر أبيهما و هما يوسف و أخوه لأمه و أبيه، و كان يعقوب (عليه السلام) مقبلا إليهما يحبهما حبا شديدا لما يتفرس في ناصيتهما من آثار الكمال و التقوى لا لهوى نفساني فيهما كيف؟ و هو من عباد الله المخلصين الممدوح بمثل قوله تعالى: "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار": ص: 46 و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك.

فكان هذا الحب و الإيثار يثير حسد سائر الإخوة لهما و يؤجج نائرة الأضغان منهم عليهما و يعقوب (عليه السلام) يتفرس ذلك و يبالغ في حبهما و خاصة في حب يوسف و كان يخافهم عليه و لا يرضى بخلوتهم به و لا يأمنهم عليه و ذلك يزيد في حسدهم و غيظهم فصار يتفرس من وجوههم الشر و المكر كما مرت استفادته من قوله فيكيدوا لك كيدا" حتى رأى يوسف الرؤيا و قصها لأبيه فزاد بذلك إشفاق أبيه عليه و ازداد حبه له و وجده فيه، و أوصاه أن يكتم رؤياه و لا يخبر إخوته بها لعله يأمن بذلك كيدهم لكن التقدير غلب تدبيره.

فاجتمع الكبار من بني يعقوب و تذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من أمر أبيهم و ما يصنعه بيوسف و أخيه حيث يشتغل بهما عنهم و يؤثرهما عليهم و هما طفلان صغيران لا يغنيان عنه بطائل و هم عصبة أولو قوة و شدة أركان حياته و أياديه الفعالة في دفع كل رزية عادية و جلب منافع المعيشة و إدارة الأموال و المواشي، و ليس من حسن السيرة و استقامة الطريقة إيثار هذين الضعيفين على ضعفهما على أولئك العصبة القوية على قوتهم فذموا سيرة أبيهم و حكموا بأنه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه.

و لم يريدوا برمي أبيهم بالضلال الضلال في الدين حتى يكفروا بذلك بل الضلال في مشيته الاجتماعية كما توفرت بذلك شواهد الآيات و قد تقدمت الإشارة إليها.

و بذلك يظهر ما في مختلف التفاسير من الانحراف في تقرير معنى الآية: منها: ما ذكره بعضهم أن هذا الحكم منهم بضلال أبيهم عن طريق العدل و المساواة جهل مبين و خطأ كبير لعل سببه اتهام إياه بإفراطه في حب أمهما من قبل فيكون مثاره الأول اختلاف الأمهات بتعدد الزوجات و لا سيما الإماء منهن و هو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم و كانا أصغر أولاده.

قال: و من فوائد القصة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد و تربيتهم على المحبة و العدل، و إنقاء وقوع التحاسد و التباغض بينهم و منه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له و محاباة لأخيه بالهوى، و قد نهى عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقا، و منه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله تعالى بالمواهب الفطرية كمكارم الأخلاق و التقوى و العلم و الذكاء.

و ما كان يعقوب بالذي يخفى عليه هذا و ما نهى يوسف عن قص رؤياه عليهم إلا من علمه بما يجب فيه، و لكن ما يفعل الإنسان بغريزته و قلبه و روحه؟ أ يستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه؟ كلا.

انتهي.

أما قوله: إن منشأ حسدهم و بغيهم اختلاف الأمهات و خاصة الإماء منهن "إلخ" ففيه: أن استدعاء اختلاف الأمهات اختلاف الأولاد و إن كان مما لا يسوغ إنكاره، و وجود ذلك في المورد محتمل، لكن السبب المذكور في كلامه تعالى لذلك غير هذا، و لو كان هو السبب الوحيد لفعلوا بأخي يوسف ما فعلوا به و لم يقنعوا به.



و أما قوله: "و هو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم" و مفاده أن محبة يعقوب ليوسف إنما كانت رقة و ترحما غريزيا منه لصغرهما كما هو المشهود من الآباء بالنسبة إلى صغار أولادهم ما داموا صغارا فإذا كبروا انتقلت إلى من هو أصغر منهم.

ففيه: أن هذا النوع من الحب المشوب بالرقة و الترحم مما يسلمه الكبار للصغار و ينقطعون عن مزاحمتهم و معارضتهم في ذلك، ترى كبراء الأولاد إذا شاهدوا زيادة اهتمام الوالدين بصغارهم و ضعفائهم و اعترضوا بأن ذلك خلاف التعديل و التسوية فأجيبوا بأنهم صغار ضعفاء يجب أن يرق لهم و يرحموا و يعانوا حتى يصلحوا للقيام على ساقهم في أمر الحياة سكتوا و انقطعوا عن الاعتراض و أقنعهم ذلك.

فلو كانت صورة حب يعقوب ليوسف و أخيه صورة الرقة و الرأفة و الرحمة لهما لصغرهما و هي التي يعهدها كل من العصبة في نفسه و يذكرها من أبيه له في حال صغره لم يعيبوها و لم يذموا أباهم عليها و لكان قولهم "و نحن عصبة" دليلا عليهم يدل على ضلالهم في نسبة أبيهم إلى الضلال لا دليلا لهم يدل على ضلال أبيهم في زيادة حبه لهما.

على أنهم قالوا لأبيهم حينما كلموا أباهم في أمر يوسف: "ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون" و من المعلوم أن إكرامه ليوسف و ضمه إليه و مراقبته له و عدم أمن أحد منهم عليه، أمر وراء المحبة بالرقة و الرحمة له و لصغره و ضعفه.

و أما قوله: و ما كان يعقوب يخفى عليه هذا إلى آخر ما قال و معناه أن هوى يعقوب في ابنه صرفه عن الواجب في تربية أولاده على علم منه بأن ذلك خلاف العدل و الإنصاف و أنه سيدفعه إلى بلوى في أولاده ثم تعذيره بأن مخالفة هوى القلب و علقة الروح مما لا يستطيعه الإنسان.

ففيه أنه إفساد للأصول المسلمة العقلية و النقلية التي يستنتج منها حقائق مقامات الأنبياء و العلماء بالله من الصديقين و الشهداء و الصالحين و ما بني عليه البحث عن كرائم الأخلاق أن الإنسان بحسب فطرته في سعة من التخلق بها و محق الرذائل النفسانية التي أصلها و أساسها اتباع هوى النفس و إيثار مرضاة الله سبحانه على كل مرضاة و بغية، و هذا أمر نرجوه من كل من ارتاض بالرياضات الخلقية من أهل التقوى و الورع فما الظن بالأنبياء ثم بمثل يعقوب (عليه السلام) منهم.

و ليت شعري إذا لم يكن في استطاعة الإنسان أن يخالف هوى نفسه في أمثال هذه الأمور فما معنى هذه الأوامر و النواهي الجمة في الدين المتعلقة بها و هل هي إلا مجازفة صريحة.

على أن فيما ذكره إزراء لمقامات أنبياء الله و أوليائه و حطا لمواقفهم العبودية إلى درجة المتوسطين من الناس أسراء هوى أنفسهم الجاهلين بمقام ربهم، و قد عرف سبحانه الأنبياء بمثل قوله "و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم" الأنعام: 87 و قال في يعقوب و أبويه إبراهيم و إسحاق (عليهما السلام): "و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاء و كانوا لنا عابدين": الأنبياء: 73، و قال فيهم أيضا: "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار": ص 46.

فأخبر أنه هداهم إلى مستقيم صراطه و لم يقيد ذلك بقيد، و أنه اجتباهم و جمعهم و أخلصهم لنفسه فهم مخلصون - بفتح اللام - لله سبحانه لا يشاركه فيهم مشارك.



فلا يبتغون إلا ما يريده من الحق و لا يؤثرون على مرضاته مرضاة غيره سواء كان ذلك الغير أنفسهم أو غيره، و قد كرر سبحانه في كلامه حكاية إغواء بني آدم عن الشيطان و استثنى المخلصين: "لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين": ص 83.

فالحق أن يعقوب إنما كان يحب يوسف و أخاه في الله سبحانه لما كان يتفرس منهما التقوى و الكمال و من يوسف خاصة ما كانت تدل عليه رؤياه أن الله سيجتبيه و يعلمه من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليه و على آل يعقوب، و لم يكن حبه هوى البتة.

و منها ما ذكره بعضهم أن مرادهم من قولهم: "إن أبانا لفي ضلال مبين" ضلاله في الدين، و قد عرفت أن سياق الآيات الكريمة يدفعه.

و يقابل هذا القول بوجه قول آخرين: إن إخوة يوسف كانوا أنبياء و إنما نسبوا أباهم إلى الضلال في سيرته و العدول في أمرهم عن العدل و الاستقامة، و إذا اعترض عليهم بما ارتكبوه من المعصية و الظلم في أخيهم و أبيهم.

أجابوا عنه بأن ذلك كانت معصية صغيرة صدرت عنهم قبل النبوة أو لا بأس به بناء على جواز صدور الصغائر عن الأنبياء قبل النبوة و ربما أجيب بجواز أن يكونوا حين صدور المعصية صغارا مراهقين و من الجائز صدور أمثال هذه الأمور عن الأطفال المراهقين.

و هذه أوهام مدفوعة، و ليس قوله تعالى: "و أوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط: النساء: 163 الظاهر في نبوة الأسباط صريحا في إخوة يوسف.

و الحق أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء بل كانوا أولاد أنبياء حسدوا يوسف و أذنبوا بما ظلموا يوسف الصديق ثم تابوا إلى ربهم و أصلحوا و قد استغفر لهم يعقوب و يوسف (عليه السلام) كما حكى الله عن أبيهم قوله: "سوف أستغفر لكم ربي": الآية: 98 من السورة بعد قولهم: "يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين" و عن يوسف قوله: "يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين": الآية: 92 من السورة بعد اعترافهم له بقولهم: "و إن كنا لخاطئين".

و منها: قول بعضهم: إن إخوة يوسف إنما حسدوه بعد ما قص عليهم رؤياه و قد كان يعقوب نهاه أن يقص رؤياه على إخوته و الحق أن الرؤيا إنما أوجبت زيادة حسدهم و قد لحق بهم الحسد قبل ذلك كما مر بيانه.

قوله تعالى: "اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين" تتمة قول إخوة يوسف و الآية تتضمن الفصل الثاني من مؤامرتهم في مؤتمرهم الذي عقدوه في أمر يوسف ليرسموا بذلك خطة تريح نفوسهم منه كما ذكره تعالى بقوله: "و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون": الآية 102 من السورة.

و قد ذكر الله سبحانه متن مؤامرتهم في هذه الآيات الثلاث: "قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة - إلى قوله - إن كنتم فاعلين".

فأوردوا أولا ذكر مصيبتهم في يوسف و أخيه إذ صرفا وجه يعقوب عنهم إلى أنفسهما و جذبا نفسه إليهما عن سائر الأولاد فصار يلتزمها و لا يعبأ بغيرهما ما فعلوا، و هذه محنة حالة بهم توعدهم بخطر عظيم في مستقبل الأمر فيه سقوط شخصيتهم و خيبة مسعاهم و ذلتهم بعد العزة و ضعفهم بعد القوة، و هو انحراف من يعقوب في سيرته و طريقته.



ثم تذاكروا ثانيا في طريق التخلص من الرزية بطرح كل منهم ما هيأه من الخطة و يراه من الرأي فأشار بعضهم إلى لزوم قتل يوسف، و آخرون إلى طرحه أرضا بعيدة لا يستطيع معه العود إلى أبيه و اللحوق بأهله فينسى بذلك اسمه و يمحو رسمه فيخلو وجه أبيهم لهم و ينبسط حبه و حبائه فيهم.

ثم اتفقوا على ما يقرب من الرأي الثاني و هو أن يلقوه في قعر بئر ليلتقطه بعض السيارة و يذهبوا به إلى بعض البلاد النائية البعيدة فينقطع بذلك خبره و يعفى أثره.

فقوله تعالى: "اقتلوا يوسف" حكاية لأحد الرأيين منهم في أمره، و في ذكرهم يوسف وحده - و قد ذكروا في مفتتح كلامهم في المؤامرة يوسف و أخاه معا: "ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا" - دليل على أنه كان مخصوصا بمزيد حب يعقوب و بلوغ عنايته و اهتمامه و إن كان أخوه أيضا محبوا بالحب و الإكرام من بينهم و كيف لا؟ و يوسف هو الذي رأى الرؤيا و بشر بأخص العنايات الإلهية و الكرامات الغيبية، و قد كان أكبرهما و الخطر المتوجه من قبله إليهم أقرب مما من قبل أخيه، و لعل في ذكر الأخوين معا إشارة إلى حب يعقوب لأمهما الموجب لحبه بالطبع لهما و تهييج حسد الإخوة و غيظهم و حقدهم بالنسبة إليهما.

و قوله: "أو اطرحوه أرضا" حكاية رأيهم الثاني فيه، و المعنى صيروه أو غربوه في أرض لا يقدر معه على العود إلى بيت أبيه فيكون كالمقتول ينقطع أثره و يستراح من خطره كإلقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء و نظير ذلك.

و الدليل عليه تنكير "أرض" و لفظ الطرح الذي يستعمل في إلقاء الإنسان المتاع أو الأثاث الذي يستغني عنه و لا ينتفع به للإعراض عنه.

و في نسبة الرأيين بالترديد إليهم، دليل على أن مجموع الرأيين كان هو المرضي عند أكثر الإخوة حتى قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف إلخ.

و قوله: "يخل لكم وجه أبيكم" أي افعلوا به أحد الأمرين حتى يخلو لكم وجه أبيكم و هو كناية عن خلوص حبه لهم بارتفاع المانع الذي يجلب الحب و العطف إلى نفسه كأنهم و يوسف إذا اجتمعوا و أباهم حال يوسف بينه و بينهم و صرف وجهه إلى نفسه فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم و اختص حبه بهم و انحصر إقباله عليهم.

و قوله: "و تكونوا من بعده قوما صالحين" أي و تكونوا من بعد يوسف أو من بعد قتله أو نفيه - و المال واحد - قوما صالحين بالتوبة من هذه المعصية.

و في هذا دليل على أنهم كانوا يرونه ذنبا، و إثما، و كانوا يحترمون أمر الدين و يقدسونه لكن غلبهم الحسد و سولت لهم أنفسهم اقتراف الذنب و ارتكاب المظلمة و آمنهم من عقوبة الذنب بتلقين طريق يمكنهم من الاقتراف من غير لزوم العقوبة الإلهية و هو أن يقترفوا الذنب ثم يتوبوا.

و هذا من الجهل فإن التوبة التي شأنها هذا الشأن غير مقبولة البتة فإن من يوطن نفسه من قبل على المعصية ثم التوبة منها لا يقصد بتوبته الرجوع إلى الله و الخضوع لمقامه حقيقة بل إنما يقصد المكر بربه في دفع ما أوعده من العذاب و العقوبة مع المخالفة لأمره أو نهيه، فتوبته ذيل لما وطن عليه نفسه أولا: أن يذنب فيتوب فهي في الحقيقة تتمة ما رامه أولا من نوع المعصية و هو الذنب الذي تعقبه توبة و ليست رجوعا إلى ربه بالندم على ما فعل.

و قد تقدم البحث عن معنى التوبة في تفسير قوله تعالى: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة" الآية:. النساء: 17 في الجزء الرابع من الكتاب.



و قيل المراد بالصلاح في الآية صلاح الأمر من حيث سعادة الحياة الدنيا و انتظام الأمور فيها و المعنى و تكونوا من بعده قوما صالحين بصلاح أمركم مع أبيكم.

قوله تعالى: "قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين" الجب هو البئر التي لم يطو أي لم يبن داخلها بالحجارة، و إن بني بها سميت البئر طويا، و الغيابة بفتح الغين المنهبط من الأرض الذي يغيب ما فيه من الأنظار و غيابة الجب قعره الذي لا يرى لما فيه من الظلمة.

و قد اختار هذا القائل الرأي الثاني المذكور في الآية السابقة الذي يشير إليه قوله: "أو اطرحوه أرضا" إلا أنه قيده بما يؤمن معه القتل أو أمر آخر يؤدي إلى هلاكه كأن يلقى في بئر و يترك فيها حتى يموت جوعا أو ما يشاكل ذلك، فما أبداه من الرأي يتضمن نفي يوسف من الأرض من غير أن يتسبب إلى هلاكه بقتل أو موت أو نقص يشبهه فيكون إهلاكا لذي رحم، و هو أن يلقى في بعض الآبار التي على طريق المارة حتى يعثروا به عند الاستقاء فيأخذوه و يسيروا به إلى بلاد نائية تعفو أثره و تقطع خبره، و السياق يشهد بأنهم ارتضوا هذا الرأي إذ لم يذكر رد منهم بالنسبة إليه و قد جرى عملهم عليه كما هو مذكور في الآيات التالية.

و اختلف المفسرون في اسم هذا القائل بعد القطع بأنه كان أحد إخوته لقوله تعالى "قال قائل منهم" فقيل: هو روبين ابن خالة يوسف، و قيل: هو يهوذا، و قد كان أسنهم و أعقلهم، و قيل: هو لاوى، و لا يهمنا البحث فيه بعد ما سكت القرآن عن تعريفه باسمه لعدم ترتب فائدة هامة عليه.

و ذكر بعضهم: أن تعريف الجب باللام يدل على أنه كان جبا معهودا فيما بينهم.

و هو حسن لو لم يكن اللام للجنس، و قد اختلفوا أيضا في أن هذا الجب أين كان؟ هو على أقوال مختلفة لا يترتب على شيء منها فائدة طائلة.

قوله تعالى: "قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون" أصل "لا تأمنا" لا تأمننا ثم أدغم بالإدغام الكبير.

و الآية تدل على أن الإخوة أجمعوا على قول القائل: لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجب، و أجمعوا على أن يمكروا بأبيهم فيأخذوا يوسف و يفعلوا به ما عزموا عليه و قد كان أبوهم لا يأمنهم على يوسف و لا يخليه و إياهم فكان من الواجب قبلا أن يزكوا أنفسهم عند أبيهم و يجلوا قلبه من كدر الشبهة و الارتياب حتى يتمكنوا من أخذه و الذهاب به.

و لذلك جاءوا أباهم و خاطبوه بقولهم: "يا أبانا - و فيه إثارة للعطف و الرحمة و إيثار للمودة - ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون" أي و الحال أنا لا نريد به إلا الخير و لا نبتغي إلا ما يرضيه و يسره.

ثم سألوه ما يريدونه و هو أن يرسله معهم إلى مرتعهم الذي كانوا يخرجون إليه ماشيتهم و غنمهم ليرتع و يلعب هناك، و هم حافظون له فقالوا: "أرسله معنا" إلخ.

قوله تعالى: "أرسله معنا غدا يرتع و يلعب و إنا له لحافظون" الرتع هو توسع الحيوان في الرعي و الإنسان في التنزه و أكل الفواكه و نحو ذلك.



و قولهم "أرسله معنا غدا يرتع و يلعب" اقتراح لمسئولهم كما تقدمت الإشارة إليه و قولهم: "و إنا له لحافظون" أكدوه بوجوه التأكيد: إن و اللام و الجملة الاسمية على وزان قولهم: "و إنا له لناصحون" كما يدل أن كل واحدة من الجملتين تتضمن نوعا من التطيب لنفس أبيهم كأنهم قالوا: ما لك لا تأمنا على يوسف فإن كنت تخاف عليه إيانا معشر الإخوة كأن نقصده بسوء فإنا له لناصحون و إن كنت تخاف عليه غيرنا مما يصيبه أو يقصده بسوء كان يدهمه المكروه و نحن مساهلون في حفظه و مستهينون في كلاءته فإنا له لحافظون.

فالكلام مسوق على ترتيبه الطبعي: ذكروا أولا أنه في أمن من ناحيتهم دائما ثم سألوا أن يرسله معهم غداة غد ثم ذكروا أنهم حافظون له ما دام عندهم، و بذلك يظهر أن قولهم: "و إنا له لناصحون" تأمين له دائمي من ناحية أنفسهم، و قولهم: "و إنا له لحافظون" تأمين له موقت من غيرهم.

قوله تعالى: "قال إني ليحزنني أن تذهبوا به و أخاف أن يأكله الذئب و أنتم عنه غافلون" هذا ما ذكر أبوهم جوابا لما سألوه، و لم ينف عن نفسه أنه لا يأمنهم عليه و إنما ذكر ما يأخذه من الحالة النفسانية لو ذهبوا به فقال و قد أكد كلامه: "إني ليحزنني أن تذهبوا به" و قد كشف عن المانع أنه نفسه التي يحزنها ذهابهم به و لا ذهابهم به الموجب لحزنه تلطفا في الجواب معهم و لئلا يهيج ذلك عنادهم و لجاجهم و هو من لطائف النكت.

و اعتذر إليهم في ذلك بقوله: "و أخاف أن يأكله الذئب و أنتم عنه غافلون" و هو عذر موجه فإن الصحاري ذوات المراتع التي تأوي إليها المواشي و ترتع فيها الأغنام لا تخلو طبعا من ذئاب أو سباع تقصدها و تكمن فيها للافتراس و الاصطياد فمن الجائز أن يقبلوا على بعض شأنهم و يغفلوا عنه فيأكله الذئب.

قوله تعالى: "قالوا لئن أكله الذئب و نحن عصبة إنا إذا لخاسرون" تجاهلوا لأبيهم كأنهم لم يفقهوا إلا أنه يأمنهم عليه لكن يخاف أن يأكله الذئب على حين غفلة منهم فردوه رد منكر مستغرب، و ذكروا لتطيب نفسه أنهم جماعة أقوياء متعاضدون ذوو بأس و شدة، و أقسموا بالله إن أكل الذئب إياه و هم عصبة يقضي بخسرانهم و لن يكونوا خاسرين البتة، و إنما أقسموا - كما يدل عليه لام القسم - ليطيبوا نفسه و يذهبوا بحزنه فلا يمنعهم من الذهاب به، و هذا شائع في الكلام "و في الكلام وعد ضمني منهم له أنهم لن يغفلوا" لكنهم لم يلبثوا يوما حتى كذبوا أنفسهم فيما أقسموا له و أخلفوه ما وعدوه إذ قالوا: "يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب" الآية.

قوله تعالى: "و لما ذهبوا به و أجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب قال الراغب: أجمعت على كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا أمركم و شركاءكم.

قال: و يقال أجمع المسلمون على كذا اتفقت آراؤهم عليه.

انتهي.

و في المجمع،: أجمعوا أي عزموا جميعا أن يجعلوه في غيابة الجب أي قعر البئر و اتفقت دواعيهم عليه فإن من دعاه داع واحد إلى الشيء لا يقال فيه أنه أجمع عليه فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي.

انتهي.

و الآية تشعر بأنهم أقنعوا أباهم بما قالوا له من القول و أرضوه أن لا يمنعهم أن يخرجوا يوسف معهم إلى الصحراء فحملوه معهم لإنفاذ ما أزمعوا عليه من إلقائه في غيابة الجب.



و جواب لما محذوف للدلالة على فجاعة الأمر و فظاعته، و هي صنعة شائعة في الكلام ترى المتكلم يصف أمرا فظيعا كقتل فجيع يحترق به القلب و لا يطيقه السمع فيشرع في بيان أسبابه و الأحوال التي تؤدي إليه فيجري في وصفه حتى إذا بلغ نفس الحادثة سكت سكوتا عميقا ثم وصف ما بعد القتل من الحوادث فيدل بذلك على أن صفة القتل بلغت من الفجاعة مبلغا لا يسع المتكلم أن يصرح به و لا يطيق السامع أن يسمعه.

فكأن الذي يصف القصة - عز اسمه - لما قال: "و لما ذهبوا به و أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب" سكت مليا و أمسك عن ذكر ما فعلوا به أسى و أسفا لأن السمع لا يطيق وعي ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبي ابن الأنبياء و لم يأت بجرم يستحق به شيئا مما ارتكبوه فيه و هم إخوته و هم يعلمون مبلغ حب أبيه النبي الكريم يعقوب له فيا قاتل الله الحسد يهلك شقيقا مثل يوسف الصديق بأيدي إخوته، و يثكل أبا كريما مثل يعقوب بأيدي أبنائه، و يزين بغيا شنيعا كهذا في أعين رجال ربوا في حجر النبوة و نشئوا في بيت الأنبياء.

و لما حصل الغرض بالسكوت عن جواب لما جرى سبحانه في ذيل القصة فقال: "و أوحينا إليه" إلخ.

قوله تعالى: "و أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون" الضمير ليوسف و ظاهر الوحي أنه من وحي النبوة، و المراد بأمرهم هذا إلقاؤهم إياه في غيابة الجب، و كذا الظاهر أن جملة "و هم لا يشعرون" حال من الإيحاء المدلول عليه بقوله: "و أوحينا" "إلخ" و متعلق "لا يشعرون" هو الأمر أي لا يشعرون بحقيقة أمرهم هذا أو الإيحاء أي و هم لا يشعرون بما أوحينا إليه.

و المعنى - و الله أعلم - و أوحينا إلى يوسف أقسم لتخبرنهم بحقيقة أمرهم هذا و تأويل ما فعلوا بك فإنهم يرونه نفيا لشخصك و إنساء لاسمك و إطفاء لنورك و تذليلا لك و حطا لقدرك و هو في الحقيقة تقريب لك إلى أريكة العزة و عرش المملكة و إحياء لذكرك و إتمام لنورك و رفع لقدرك و هم لا يشعرون بهذه الحقيقة و ستنبئهم بذلك و هو قوله لهم و قد اتكى على أريكة العزة و هم قيام أمامه يسترحمونه بقولهم: "يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين" إذ قال: "هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون - إلى أن قال - أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا" إلخ.

انظر إلى موضع قوله: "هل علمتم" فإنه إشارة إلى أن هذا الذي تشاهدونه اليوم من الحال هو حقيقة ما فعلتم بيوسف، و قوله: "إذ أنتم جاهلون" فإنه يحاذي من هذه الآية التي نحن فيها قوله: "و هم لا يشعرون".

و قيل: في معنى الآية وجوه أخر: منها: أنك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك، و هو الذي أخبرهم به في مصر و هم لا يعرفونه ثم عرفهم نفسه.

و منها: أن المراد بإنبائه إياهم مجازاتهم بسوء ما فعلوا كمن يتوعد من أساء إليه فيقول: لأنبئنك و لأعرفنك.

و منها: قول بعضهم كما روي عن ابن عباس أن المراد بإنبائه إياهم بأمرهم ما جرى له مع إخوته بمصر حيث رآهم فعرفهم و هم له منكرون فأخذ جاما فنقره فظن فقال: إن هذا الجام يخبرني أنكم كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجب و بعتموه بثمن بخس.



و هذه وجوه لا تخلو من سخافة و الوجه ما قدمناه، و قد كثر ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى في معنى بيان حقيقة العمل كقوله تعالى: "إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون": المائدة: 105 و قوله: "و سوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون": المائدة: 14 و قوله: "يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا": المجادلة: 6 إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة.

و منها: قول بعضهم إن المعنى و أوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك و هم لا يشعرون بهذا الوحي.

و هذا الوجه غير بعيد لكن الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد و لا حاجة إليه ظاهرا.

و منها: قول بعضهم: إن معنى الآية لتخبرنهم برقي حياتك و عزتك و ملكك بأمرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم و يذلهم لك و يجعل رؤياك حقا و هم لا يشعرون يومئذ بما آتاك الله.

و عمدة الفرق بين هذا القول و ما قدمناه من الوجه أن في هذا القول صرف الإنباء عن الإنباء الكلامي إلى الإنباء بالحال الخارجي و الوضع العيني، و لا موجب له بعد ما حكاه سبحانه عنه قوله: "هل علمتم ما فعلتم بيوسف" إلخ.

قوله تعالى: "و جاءوا أباهم عشاء يبكون" العشاء آخر النهار، و قيل: من صلاة المغرب إلى العتمة، و إنما كانوا يبكون ليلبسوا الأمر على أبيهم فيصدقهم فيما يقولون و لا يكذبهم.

قوله تعالى: "قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب" إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: أصل السبق التقدم في السير نحو "فالسابقات سبقا" و الاستباق التسابق و قال: "إنا ذهبنا نستبق" "و استبقا الباب"

انتهي.

و قال الزمخشري في الكشاف،: نستبق أي نتسابق، و الافتعال و التفاعل يشتركان كالانتضال و التناضل و الارتماء و الترامي و غير ذلك، و المعنى نتسابق في العدو أو في الرمي.

انتهي.

و قال صاحب المنار في تفسيره،: إنا ذهبنا نستبق أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره فالاستباق تكلف السبق و هو الغرض من المسابقة و التسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب.

و قد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق، و منه "فاستبقوا الخيرات" فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، و قوله الآتي في هذه السورة "و استبقا الباب" كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه، و صيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى، و لم يفطن الزمخشري علامة اللغة و من تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى.

أقول: و الذي مثل به من قوله تعالى: "فاستبقوا الخيرات" من موارد الغلب فإن من المندوب شرعا أن لا يؤثر الإنسان غيره على نفسه في الخيرات و المثوبات و القربات و أن يتقدم على من دونه في حيازه البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهرا على التسابق و كذا قوله تعالى: "و استبقا الباب" فإن المراد به قطعا أن كلا منها كان يريد أن يسبق الآخر إلى الباب هذا ليفتحه و هذه لتمنعه من الفتح و هو معنى التسابق فالحق أن معنيي الاستباق و التسابق متحدان صدقا على المورد، و في الصحاح،: سابقته فسبقته سبقا و استبقنا في العدو أي تسابقنا.

انتهي.

و في لسان العرب،: سابقته فسبقته، و استبقنا في العدو، أي تسابقنا.

انتهي.



و لعل الوجه في تصادق استبق و تسابق أن نفس السبق معنى إضافي في نفسه، وزنة "افتعل" تفيد تأكد معنى "فعل" و إمعان الفاعل في فعله و أخذه حلية لنفسه كما يشاهد في مثل كسب و اكتسب و حمل و احتمل و صبر و اصطبر و قرب و اقترب و خفي و اختفى و جهد و اجتهد و نظائرها، و طرو هذه الخصوصية على معنى السبق على ما به من الإضافة يفيد جهد الفاعل أن يخص السبق لنفسه و لا يتم إلا مع تسابق في المورد.

و قوله: "بمؤمن لنا" أي بمصدق لقولنا، و الإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء قال تعالى: "فآمن له لوط": العنكبوت: 26.

و المعنى - أنهم حينما جاءوا أباهم عشاء يبكون - قالوا لأبيهم: يا أبانا إنا معشر الإخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمي - و لعله كان في عدو - فإن ذلك أبلغ في إبعادهم من رحلهم و متاعهم و كان عنده يوسف على ما ذكروا - و تركنا يوسف عند رحلنا و متاعنا فأكله الذئب، و من خيبتنا و مسكنتنا أنك لست بمصدق لنا فيما نقوله و نخبر به و لو كنا صادقين فيه.

و قولهم: "و ما أنت بمؤمن لنا و لو كنا صادقين" كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الأسباب و انسدت عليه طرق الحيلة، للدلالة على أن كلامه غير موجه عند من يعتذر إليه و عذره غير مسموع و هو يعلم بذلك لكنه مع ذلك مضطر أن يخبر بالحق و يكشف عن الصدق و إن كان غير مصدق فيه، فهو كناية عن الصدق في المقال.

قوله تعالى: "و جاءوا على قميصه بدم كذب" الكذب بالفتح فالكسر مصدر أريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بين الكذب.

و في الآية إشعار بأن القميص و عليه دم - و قد نكر الدم للدلالة على هوان دلالته و ضعفها على ما وصفوه - كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فإن من افترسته السباع و أكلته لم تترك له قميصا سالما غير ممزق.

و هذا شأن الكذب لا يخلو الحديث الكاذب و لا الأحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه و تناقض بين أطرافه أو شواهد من أوضاع و أحوال خارجية تحف به و تنادي بالصدق و تكشف القناع عن قبيح سريرته و باطنه و إن حسنت صورته.

كلام في أن الكذب لا يفلح

من المجرب أن الكذب لا يدوم على اعتباره و إن الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو ادعاه، و الوجه فيه أن الكون يجري على نظام يرتبط به بعض أجزائه ببعض بنسب و إضافات غير متغيرة و لا متبدلة فلكل حادث من الحوادث الخارجية الواقعة لوازم و ملزومات متناسبة لا ينفك بعضها من بعض، و لها جميعا فيما بينها أحكام و آثار يتصل بعضها ببعض، و لو اختل واحد منها لاختل الجميع و سلامة الواحد تدل على سلامة السلسلة.

و هذا قانون كلي غير قابل لورود الاستثناء عليه.

فلو انتقل مثلا جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه أن يفارق المكان الأول و يبتعد منه و يغيب عنه و عن كل ما يلازمه و يتصل به و يخلو عنه المكان الأول و يشغل به الثاني و أن يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم، و لو اختل واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلا للمكان الأول اختلت جميع اللوازم المحتفة به.

و ليس في وسع الإنسان و لا أي سبب مفروض إذا ستر شيئا من الحقائق الكونية بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات و الملزومات المرتبطة به أو أن يخرجها عن محالها الواقعية أو يحرفها عن مجراها الكونية فإن ألقى سترا على واحدة منها ظهرت الأخرى و إلا فالثالثه و هكذا.



و من هنا كانت الدولة للحق و إن كانت للباطل جولة، و كانت القيمة للصدق و إن تعلقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى: "إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار": الزمر: 3 و قال: "إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب": المؤمن: 28.

و قال: "إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون": النحل: 116 و قال: "بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج": ق: 5 و ذلك أنهم لما عدوا الحق كذبا بنوا على الباطل و اعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض أجزائه بعضا و يدفع طرف منه طرفا.

قوله تعالى: "قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون" هذا جواب يعقوب و قد فوجىء بنعي ابنه و حبيبه يوسف دخلوا عليه و ليس معهم يوسف و هم يبكون يخبرونه أن يوسف قد أكله الذئب و هذا قميصه الملطخ بالدم، و قد كان يعلم بمبلغ حسدهم له و هم قد انتزعوه من يده بإلحاح و إصرار و جاءوا بقميصه و عليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه و أخبروا به.

فأضرب عن قولهم: "إنا ذهبنا نستبق" إلخ بقوله: "بل سولت لكم أنفسكم أمرا" و التسويل الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمرا، و أبهم الأمر و لم يعينه ثم أخبر أنه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم و ينتقم منهم لنفسه انتقاما و إنما يكظم ما هجم نفسه كظما.

فقوله: "بل سولت لكم أنفسكم أمرا" تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف و بيان أنه على علم من أن فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع و إنما يستند إلى مكر مكروه و تسويل من أنفسهم لهم، و الكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله: "فصبر جميل" إلى آخر الآية.

و قوله فصبر جميل مدح للصبر و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبب و التقدير: سأصبر على ما أصابني فإن الصبر جميل و تنكير الصبر و حذف صفته و إبهامها للإشارة إلى فخامة أمره و عظم شأنه أو مرارة طعمه و صعوبة تحمله.

و قد فرع قوله: "فصبر جميل" على ما تقدم للإشعار بأن الأسباب التي أحاطت به و أفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسمع له معها إلا أن يسلك سبيل الصبر، و ذلك أنه (عليه السلام) فقد أحب الناس إليه يوسف و هو ذا يذكر له أنه صار أكلة للذئب و هذا قميصه ملطخا بالدم و هو يرى أنهم كاذبون فيما يخبرونه به، و يرى أن لهم صنعا في افتقاده و مكرا في أمره و لا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف و التجسس مما آل إليه أمره و أين هو؟ و ما حاله؟ فإنما أعوانه على أمثال هذه النوائب و أعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنما هم أبناؤه و هم عصبة أولوا قوة و شدة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة و وقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ و بما ذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلا الصبر.



غير أن الصبر ليس هو أن يتحمل الإنسان ما حمله من الرزية و ينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادا مطلقا كالأرض الميتة التي تطؤها الأقدام و تلعب بها الأيدي فإن الله سبحانه طبع الإنسان على دفع المكروه عن نفسه و جهزه بما يقدم به على النوائب و الرزايا ما استطاع، و لا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإلهية بل الصبر هو الاستقامة في القلب و حفظ النظام النفساني الذي به يستقيم أمر الحياة الإنسانية من الاختلال، و ضبط الجمعية الداخلية من التفرق و التلاشي و نسيان التدبير و اختباط الفكر و فساد الرأي فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره، و غيرهم المنهزمون عند أول هجمة ثم لا يلوون على شيء.

و من هنا يعلم أن الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة و كسر سورتها إلا أنه ليس تمام السبب في إعادة العافية و إرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصن به الإنسان لدفع العدو المهاجم، و أما عود نعمة الأمن و السلامة و حرية الحياة فربما احتاج إلى سبب آخر يجر إليه الفوز و الظفر، و هذا السبب في ملة التوحيد هو الله عز سلطانه فعلى الإنسان الموحد إذا نابته نائبة و نزلت عليه مصيبة أن يتحصن أولا بالصبر حتى لا يختل ما في داخله من النظام العبودي و لا يتلاشى معسكر قواه و مشاعره ثم يتوكل على ربه الذي هو فوق كل سبب راجيا أن يدفع عنه الشر و يوجه أمره إلى غاية صلاح حاله، و الله سبحانه غالب على أمره، و قد تقدم شيء من هذا البحث في تفسير قوله تعالى: "و استعينوا بالصبر و الصلاة": البقرة: 45 في الجزء الأول من الكتاب.

و لهذا كله لما قال يعقوب (عليه السلام): "فصبر جميل" عقبه بقوله: "و الله المستعان على ما تصفون" فتمم كلمة الصبر بكلمة التوكل نظير ما أتى به في قوله في الآيات المستقبلة: "فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم": الآية 83 من السورة.

فقوله: "و الله المستعان على ما تصفون" - و هو من أعجب الكلام - بيان لتوكله على ربه يقول: إني أعلم أن لكم في الأمر مكرا و إن يوسف لم يأكله ذئب لكني لا أركن في كشف كذبكم و الحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة التي لا تغني طائلا بغير إذن من الله و لا أتشحط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر و أوكل ربي أن يظهر على ما تصفون أن يوسف قد قضى نحبه و صار أكلة لذئب.

فظهر أن قوله: "و الله المستعان على ما تصفون" دعاء في موقف التوكل و معناه: اللهم إني توكلت عليك في أمري هذا فكن عونا لي على ما يصفه بني هؤلاء، و الكلمة مبنية على توحيد الفعل فإنها مسوقة سوق الحصر و معناها أن الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لي غيره فإنه (عليه السلام) كان يرى أن لا حكم حقا إلا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه: "إن الحكم إلا لله عليه توكلت"، و لتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل: سأصبر و لم يقل و الله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه و ذكر اسم ربه و إن الأمر منوط بحكمه الحق و هو من كمال توحيده و هو مستغرق في وجده و أسفه و حزنه ليوسف غير أنه ما كان يحب يوسف و لا يتوله فيه و لا يجد لفقده إلا لله و في الله.

قوله تعالى: "و جاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام و أسروه بضاعة و الله عليم بما يعملون" قال الراغب: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره.

انتهي.

و قال: دلوت الدلو إذا أرسلتها، و أدليتها إذا أخرجتها.

انتهي.

و قيل بالعكس، و قال: الإسرار خلاف الإعلان.

انتهي.



و قوله: "قال يا بشرى هذا غلام" إيراده بالفصل مع أنه متفرع وقوعا على إدلاء الدلو للدلالة على أنه كان أمرا غير مترقب الوقوع فإن الذي يترقب وقوعه عن الإدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم و لذا قال: "قال يا بشرى" و نداء البشرى كنداء الأسف و الويل و نظائرهما للدلالة على حضوره و جلاء ظهوره.

و قوله: "و الله عليم بما يعملون" مفاده ذم عملهم و الإبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، و يمكن أن يكون المراد به أن ذلك إنما كان بعلم من الله أراد بذلك أن يبلغ يوسف مبلغه الذي قدر له فإنه لو لم يخرج من الجب و لم يسر بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما أوتيه من الملك و العزة.

و معنى الآية: و جاءت جماعة مارة إلى هناك فأرسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه في الجب ثم لما أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام - و قد تعلق يوسف بالحبل فخرج - فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع و التجارة و الحال أن الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو أن ذلك كان بعلمه تعالى و كان يسير يوسف هذا المسير ليستقر في مستقر العزة و الملك و النبوة.

قوله تعالى: "و شروه بثمن بخس دراهم معدودة و كانوا فيه من الزاهدين" الثمن البخس هو الناقص عن حق القيمة، و دراهم معدودة أي قليلة و الوجه فيه - على ما قيل - إنهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها و لا يعدون إلا القليلة منها و المراد بالدراهم النقود الفضية الدائرة بينهم يومئذ، و الشراء هو البيع، و الزهد هو الرغبة عن الشيء أو هو كناية عن الاتقاء.

و الظاهر من السياق أن ضميري الجمع في قوله: "و شروه" "و كانوا" للسيارة و المعنى أن السيارة الذين أخرجوه من الجب و أسروه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص و هي دراهم معدودة قليلة و كانوا يتقون أن يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم.

و معظم المفسرين على أن الضميرين لإخوة يوسف و المعنى أنهم باعوا يوسف من السيارة بعد أن ادعوا أنه غلام لهم سقط في البئر و هم إنما حضروا هناك لإخراجه من الجب فباعوه من السيارة و كانوا يتقون ظهور الحال.

أو أن أول الضميرين للإخوة و الثاني للسيارة و المعنى أن الإخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة و كانت السيارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد و الرغبة لئلا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون أن الأمر لا يخلو من مكر و إن الغلام ليس فيه سيماء العبيد.

و سياق الآيات لا يساعد على شيء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيارة و لم يقع للإخوة بعد ذلك ذكر صريح حتى يعود ضمير "و شروه" و "كانوا" أو أحدهما إليهم على أن ظاهر قوله في الآية التالية: "و قال الذي اشتراه من مصر" أنه اشتراه متحقق بهذا الشراء.

و أما ما ورد في الروايات "أن إخوة يوسف حضروا هناك و أخذوا يوسف منهم بدعوى أنه عبدهم سقط في البئر ثم باعوه منهم بثمن بخس" فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات و لا أنه يدفع الروايات.

و ربما قيل: إن الشراء في الآية بمعنى الاشتراء و هو مسموع و هو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق.

قوله تعالى: "و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا" السياق يدل على أن السيارة حملوا يوسف معهم إلى مصر و عرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض أهل مصر و أدخله في بيته.



و قد أعجبت الآيات في ذكر هذا الذي اشتراه و تعريفه فذكر فيها أولا بمثل قوله تعالى: "و قال الذي اشتراه من مصر" فأنبأت أنه كان رجلا من أهل مصر، و ثانيا بمثل قوله: "و ألفيا سيدها لدى الباب" فعرفته بأنه كان سيدا مصمودا إليه، و ثالثا بمثل قوله: "و قال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه" فأوضحت أنه كان عزيزا في مصر يسلم له أهل المدينة العزة و المناعة، ثم أشارت إلى أنه كان له سجن و هو من شئون مصدرية الأمور و الرئاسة بين الناس، و علم بذلك أن يوسف كان ابتيع أول يوم لعزيز مصر و دخل بيت العزة.

و بالجملة لم يعرف الرجل كل مرة في كلامه تعالى إلا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصة، و لم يكن لأول مرة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنه كان رجلا من أهل مصر و بها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله: "و قال الذي اشتراه من مصر".

و كيف كان، الآية تنبىء على إيجازها بأن السيارة حملوا يوسف معهم و أدخلوه مصر و شروه من بعض أهلها فأدخله بيته و وصاه امرأته قائلا: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.

و العادة الجارية تقضي أن لا يهتم السادة و الموالي بأمر أرقائهم دون أن يتفرسوا في وجه الرقيق آثار الأصالة و الرشد، و يشاهد في سيماه الخير و السعادة، و على الخصوص الملوك و السلاطين و الرؤساء الذين كان يدخل كل حين في بلاطاتهم عشرات و مئات من أحسن أفراد الغلمان و الجواري فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه و لا ليتولهوا كل من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه و رجاء الانتفاع به أو اتخاذه ولدا معنى عميق و على الأخص من جهة أنه أمر بذلك امرأته و سيدة بيته و ليس من المعهود أن تباشر الملكات و العزيزات جزئيات الأمور و سفاسفها و لا أن تتصدى السيدات المنيعة مكانا، أمور العبيد و الغلمان.

نعم: إن يوسف (عليه السلام) كان ذا جمال بديع يبهر العقول و يوله الألباب، و كان قد أوتي مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل، و هذه صفات لا تنمو في الإنسان إلا و أعراقها ناجمة فيه أيام صباوته و آثارها لائحة من سيماه من بادىء أمره.

فهذه هي التي جذبت نفس العزيز إلى يوسف - و هو طفل صغير - حتى تمنى أن ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من أخص الناس به ينتفع به في أموره الهامة و مقاصده العالية أو يدخل في أرومته و يكون ولدا له و لامرأته بالتبني فيعود وارثا لبيته.

و من هنا يمكن أن يستظهر أن العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته و لذلك ترجى أن يتبنى هو و زوجته يوسف.

فقوله: "و قال الذي اشتراه من مصر" أي العزيز "لامرأته" و هي العزيزة "أكرمي مثواه" أي تصدي بنفسك أمره و اجعلي له مقاما كريما عندك "عسى أن ينفعنا" في مقاصدنا العالية و أمورنا الهامة "أو نتخذه ولدا" بالتبني.

قوله تعالى: "و كذلك مكنا ليوسف في الأرض و لنعلمه من تأويل الأحاديث و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون" قال في المفردات، المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء قال و يقال: مكنته و مكنت له فتمكن، قال تعالى: "و لقد مكناكم في الأرض" "و لقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه" "أ و لم نمكن لهم" "و نمكن لهم في الأرض" قال: قال الخليل: المكان مفعل من الكون، و لكثرته في الكلام أجرى مجرى فعال فقيل: تمكن و تمسكن مثل تمنزل.

انتهي.

فالمكان هو مقر الشيء من الأرض، و الإمكان و التمكين الإقرار و التقرير في المحل، و ربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشيء من الأمور المعنوية كالمكانة في العلم و عند الناس و يقال: أمكنته من الشيء فتمكن منه أي أقدرته فقدر عليه و هو من قبيل الكناية.



و لعل المراد من تمكين يوسف في الأرض إقراره فيه بما يقدر معه على التمتع من مزايا الحياة و التوسع فيها بعد ما حرم عليه إخوته القرار على وجه الأرض فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من أرض إلى أرض و يتغرب عن أرضه و مستقر أبيه.

و قد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصته مرتين إحداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجب و تسيير السيارة إياه إلى مصر و بيعه من العزيز و هو قوله في هذه الآية "و لقد مكنا ليوسف في الأرض" و ثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز و انتصابه على خزائن أرض مصر حيث قال تعالى: "و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء": الآية 56 من السورة و العناية في الموضعين واحدة.

و قوله: "و كذلك مكنا ليوسف في الأرض" الإشارة إلى ما ذكره من إخراجه من الجب و بيعه و استقراره في بيت العزيز فإن كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الذي حصل له من دخوله في بيت العزيز و استقراره فيه على أهنإ عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشيء بنفسه ليدل به على غزاره الأوصاف المذكورة له و ليس من القسم المذموم من تشبيه الشيء بنفسه كقوله: كأننا و الماء من حولنا.

قوم جلوس حولهم ماء.

بل المراد أن ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الذي وصفناه و أخبرنا عنه فهو يتضمن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمنه ما حدثناه فهو تلطف في البيان بجعل الشيء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزاره أوصافه و أهميتها و تعلق النفس بها كما هو شأن التشبيه.

و من هذا الباب قوله تعالى: "ليس كمثله شيء": الشورى: 11 و قوله تعالى: "لمثل هذا فليعمل العاملون": الصافات: 61 و المراد أن كل ما اتصف من الصفات بما اتصف به الله سبحانه لا يشبهه و لا يماثله شيء، و إن كل ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنة و ماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به.

و إن كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلي ببعض أفراده ليدل به على أن سائر الأفراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكل ببعض أجزائه للدلالة على أن الأجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصة خروجه من الجب و دخوله مصر و استقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإن إخوته حسدوه و حرموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجب و سلبوه نعمة التمتع في وطنه في البادية و باعوه من السيارة ليغربوه من أهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببا يتوسل به إلى التمكن و الاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثم تعلقت به امرأة العزيز و راودته هي و نسوة مصر ليوردنه في الصبوة و الفحشاء فصرف الله عنه كيدهن و جعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه و صدقه في إيمانه ثم بدا لهم أن يجعلوه في السجن و يسلبوا عنه حرية معاشرة الناس و المخالطة لهم فتسبب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع و لا يدفعه دافع.



و بالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى: "كذلك يضل الله الكافرين": المؤمن 74 و قوله: "كذلك يضرب الله الأمثال": الرعد: 17 أي إن إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى، و ضربه الأمثال أبدا على هذا النحو من المثل المضروب و هو أنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.

و قوله: "و لنعلمه من تأويل الأحاديث" بيان لغاية التمكين المذكور و اللام للغاية، و هو معطوف على مقدر و التقدير: مكنا له في الأرض لنفعل به كذا و كذا و لنعلمه من تأويل الأحاديث و إنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات أخر لا يسعها مقام التخاطب، و من هذا القبيل قوله تعالى: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين": الأنعام: 75 و نظائره.

و قوله: "و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون" الظاهر أن المراد بالأمر الشأن و هو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى: "يدبر الأمر": يونس: 3، و إنما أضيف إليه تعالى لأنه مالك كل أمر كما قال تعالى: "ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين: الأعراف: 54.

و المعنى أن كل شأن من شئون الصنع و الإيجاد من أمره تعالى و هو تعالى غالب عليه و هو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو يتمرد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى و يفوته قال تعالى: "إن الله بالغ أمره": الطلاق: 3.

و بالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلا السمع و الطاعة و لكن أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أن الأسباب الظاهرة مستقلة في تأثيرها فعاله برءوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحولها عن وجهتها شيء و قد أخطئوا.

بحث روائي



في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: صليت مع علي بن الحسين (عليهما السلام) الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلما فرغ من صلاته و تسبيحه نهض إلى منزله و أنا معه فدعا مولاة له تسمى سكينة فقال لها: لا يعبر على بابي سائل إلا أطعمتموه فإن اليوم يوم الجمعة. قلت: ليس كل من يسأل مستحقا فقال: يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقا فلا نطعمه و نرده فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب و آله أطعموهم. إن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدق به و يأكل هو و عياله منه، و إن سائلا مؤمنا صواما محقا له عند الله منزلة و كان مجتازا غريبا اعتر على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم. يهتف بذلك على بابه مرارا قد جهلوا حقه و لم يصدقوا قوله. فلما أيس أن يطعموه و غشيه الليل استرجع و استعبر و شكى جوعه إلى الله و بات طاويا و أصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله و بات يعقوب و آل يعقوب شباعا بطانا، و أصبحوا و عندهم من فضل طعامهم. قال: فأوحى الله عز و جل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلة استجررت بها غضبي، و استوجبت بها أدبي و نزول عقوبتي و بلواي عليك و على ولدك يا يعقوب إن أحب أنبيائي إلي و أكرمهم علي من رحم مساكين عبادي و قربهم إليه و أطعمهم و كان لهم مأوى و ملجأ. يا يعقوب ما رحمت دميال عبدي المجتهد في عبادته القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لما اعتر ببابك عند أوان إفطاره و يهتف بكم أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئا فاسترجع و استعبر و شكى ما به إلي، و بات جائعا و طاويا حامدا و أصبح لي صائما و أنت يا يعقوب و ولدك شباع و أصبحت و عندكم فضل من طعامكم. أ و ما علمت يا يعقوب إن العقوبة و البلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ و ذلك حسن النظر مني لأوليائي و استدراج مني لأعدائي. أما و عزتي لأنزلن بك بلواي، و لأجعلنك و ولدك غرضا لمصابي، و لأؤدبنك بعقوبتي فاستعدوا لبلواي و ارضوا بقضائي و اصبروا للمصائب. فقلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام): جعلت فداك متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال: في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب و آل يعقوب شباعا، و بات فيها دميال طاويا جائعا فلما رأى يوسف الرؤيا و أصبح يقصها على أبيه يعقوب اغتم يعقوب لما سمع من يوسف و بقي مغتما فأوحى الله إليه أن استعد للبلاء فقال يعقوب ليوسف: لا تقصص رؤياك على إخوتك فإني أخاف أن يكيدوا لك كيدا فلم يكتم يوسف رؤياه، و قصها على إخوته. قال علي بن الحسين (عليهما السلام): إن أول بلوى نزل بيعقوب و آل يعقوب الحسد ليوسف لما سمعوا منه الرؤيا. قال: فاشتدت رقة يعقوب على يوسف و خاف أن يكون ما أوحى الله عز و جل إليه من الاستعداد للبلاء إنما هو في يوسف خاصة فاشتدت رقته عليه من بين ولده. فلما رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف، و تكرمته إياه، و إيثاره إياه عليهم اشتد ذلك عليهم و بدا البلاء فيهم فتأمروا فيما بينهم و "قالوا ليوسف و أخوه - أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين - اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم - و تكونوا من بعده قوما صالحين" أي تتوبون. فعند ذلك "قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون" فقال يعقوب "إني ليحزنني أن تذهبوا به - و أخاف أن يأكله الذئب و أنتم عنه غافلون" فانتزعه مقدرا حذرا عليه منه أن يكون البلوى من الله عز و جل على يعقوب من يوسف خاصة لموقعه في قلبه و حبه له. قال: فغلب قدرة الله و قضاؤه و نافذ أمره في يعقوب و يوسف و إخوته فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه و لا يوسف و ولده، فدفعه إليهم و هو لذلك كاره متوقع البلوى من الله في يوسف. فلما خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من أيديهم و ضمه إليه و اعتنقه و بكى و دفعه إليهم فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم و لا يدفعه إليهم فلما أمعنوا به أتوا به غيضة أشجار فقالوا: نذبحه و نلقيه تحت هذه الشجرة فيأكله الذئب الليلة فقال كبيرهم: "لا تقتلوا يوسف" و لكن "ألقوه في غيابة الجب - يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين. فانطلقوا به إلى الجب فألقوه فيه و هم يظنون أنه يغرق فيه فلما صار في قعر الجب ناداهم: يا ولد رومين أقرءوا يعقوب السلام مني فلما رأوا كلامه، قال بعضهم لبعض: لا تزولوا من هاهنا حتى تعلموا أنه قد مات فلم يزالوا بحضرته حتى أيسوا "و رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب". فلما سمع مقالتهم استرجع و استعبر و ذكر ما أوحى الله عز و جل إليه من الاستعداد للبلاء فصبر و أذعن للبلوى و قال لهم: "بل سولت لكم أنفسكم أمرا" و ما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب من قبل أن أرى تأويل رؤياه الصادقة. قال أبو حمزة: ثم انقطع حديث علي بن الحسين (عليهما السلام) عند هذا. قال أبو حمزة: فلما كان من الغد غدوت إليه و قلت له: جعلت فداك إنك حدثتني أمس بحديث ليعقوب و ولده ثم قطعته فيما كان من قصة إخوة يوسف و قصة يوسف بعد ذاك؟ فقال: إنهم لما أصبحوا قالوا: انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف: أ مات أم هو حي؟. فلما انتهوا إلى الجب وجدوا بحضرة الجب سيارة و قد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلق بدلوه فقال لأصحابه: يا بشرى هذا غلام فلما أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف فقالوا: هذا عبدنا سقط منا أمس في هذا الجب و جئنا اليوم لنخرجه فانتزعوه من أيديهم و نحوا به ناحية فقالوا له: إما أن تقر لنا أنك عبد لنا فنبيعك بعض السيارة أو نقتلك فقال لهم يوسف: لا تقتلوني و اصنعوا ما شئتم. فأقبلوا به إلى السيارة فقالوا: من يشتري منكم هذا العبد منا؟ فاشتراه رجل منهم بعشرين درهما و كان إخوته فيه من الزاهدين و سار به الذي اشتراه من البدو حتى أدخله مصر فباعه الذي اشتراه من البدو من ملك مصر و ذلك قول الله عز و جل: "و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته - أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا". قال أبو حمزة: فقلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام): ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجب؟ فقال: ابن تسع سنين فقلت: كم كان بين منزل يعقوب يومئذ و بين مصر فقال: مسيرة اثنا عشر يوما.

الحديث.

أقول: و للحديث ذيل سنورده في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى و فيه نكات ربما لم تلائم ظاهر ما تقدم من بيان الآيات لكنها ترتفع بأدنى تأمل.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الأنبياء على خمسة أنواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به، و منهم من ينبأ في منامه مثل يوسف و إبراهيم (عليهما السلام)، و منهم من يعاين، و منهم من نكت في قلبه و يوقر في أذنه.

و فيه، عن أبي خديجة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما ابتلي يعقوب بيوسف أنه ذبح كبشا سمينا و رجل من أصحابه يدعى بيوم بقوم محتاج لم يجد ما يفطر عليه فأغفله و لم يطعمه فابتلي بيوسف، و كان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادي: من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب، فإذا كان المساء نادى من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب.

و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون" يقول: لا يشعرون أنك أنت يوسف. أتاه جبرئيل و أخبره بذلك.

و فيه، و في رواية أبي الجارود: في قول الله: "و جاءوا على قميصه بدم كذب" قال: إنهم ذبحوا جديا على قميصه.

و في أمالي الشيخ، بإسناده: في قوله عز و جل: "فصبر جميل" قال: بلا شكوى.

أقول: و كان الرواية عن الصادق (عليه السلام) بقرينة كونه مسبوقا بحديث عنه، و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن حيان بن جبلة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في المضامين السابقة روايات أخر.

12 سورة يوسف - 22 - 34
وَ لَمّا بَلَغَ أَشدّهُ ءَاتَيْنَهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِك نجْزِى الْمُحْسِنِينَ (22) وَ رَوَدَتْهُ الّتى هُوَ فى بَيْتِهَا عَن نّفْسِهِ وَ غَلّقَتِ الأَبْوَب وَ قَالَت هَيْت لَك قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنّهُ رَبى أَحْسنَ مَثْوَاى إِنّهُ لا يُفْلِحُ الظلِمُونَ (23) وَ لَقَدْ هَمّت بِهِ وَ هَمّ بهَا لَوْ لا أَن رّءَا بُرْهَنَ رَبِّهِ كذَلِك لِنَصرِف عَنْهُ السوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَ استَبَقَا الْبَاب وَ قَدّت قَمِيصهُ مِن دُبُرٍ وَ أَلْفَيَا سيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَت مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِك سوءاً إِلا أَن يُسجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِىَ رَوَدَتْنى عَن نّفْسى وَ شهِدَ شاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كانَ قَمِيصهُ قُدّ مِن قُبُلٍ فَصدَقَت وَ هُوَ مِنَ الْكَذِبِينَ (26) وَ إِن كانَ قَمِيصهُ قُدّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَت وَ هُوَ مِنَ الصدِقِينَ (27) فَلَمّا رَءَا قَمِيصهُ قُدّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنّهُ مِن كيْدِكُنّ إِنّ كَيْدَكُنّ عَظِيمٌ (28) يُوسف أَعْرِض عَنْ هَذَا وَ استَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنّكِ كنتِ مِنَ الخَْاطِئِينَ (29) وَ قَالَ نِسوَةٌ فى الْمَدِينَةِ امْرَأَت الْعَزِيزِ تُرَوِدُ فَتَاهَا عَن نّفْسِهِ قَدْ شغَفَهَا حُباّ إِنّا لَنرَاهَا فى ضلَلٍ مّبِينٍ (30) فَلَمّا سمِعَت بِمَكْرِهِنّ أَرْسلَت إِلَيهِنّ وَ أَعْتَدَت لهَُنّ مُتّكَئاً وَ ءَاتَت كلّ وَحِدَةٍ مِّنهُنّ سِكِّيناً وَ قَالَتِ اخْرُجْ عَلَيهِنّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبرْنَهُ وَ قَطعْنَ أَيْدِيهُنّ وَ قُلْنَ حَش للّهِ مَا هَذَا بَشراً إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَت فَذَلِكُنّ الّذِى لُمْتُنّنى فِيهِ وَ لَقَدْ رَوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاستَعْصمَ وَ لَئن لّمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسجَنَنّ وَ لَيَكُوناً مِّنَ الصغِرِينَ (32) قَالَ رَب السجْنُ أَحَب إِلىّ مِمّا يَدْعُونَنى إِلَيْهِ وَ إِلا تَصرِف عَنى كَيْدَهُنّ أَصب إِلَيهِنّ وَ أَكُن مِّنَ الجَْهِلِينَ (33) فَاستَجَاب لَهُ رَبّهُ فَصرَف عَنْهُ كَيْدَهُنّ إِنّهُ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

بيان

تتضمن الآيات قصته (عليه السلام) أيام لبثه في بيت العزيز و قد ابتلي فيها بحب امرأة العزيز له و مراودتها إياه عن نفسه، و مني بتعلق نساء المدينة به و مراودتهن إياه عن نفسه، و كان ذلك بلوى، و قد ظهر خلال ذلك من عفة نفسه و طهارة ذيله أمر عجيب، و من تولهه في محبة ربه ما هو أعجب.

قوله تعالى: "و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين" بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد به قوى بدنه و تتقوى به أركانه بذهاب آثار الصباوة، و يأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سن الكهولة التي عندها يكمل العقل و يتم الرشد.

و الظاهر أن المراد به الانتهاء إلى أول سن الشباب دون التوسط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالأربعين، و الدليل عليه قوله تعالى في موسى (عليه السلام): "و لما بلغ أشده و استوى آتيناه حكما و علما": القصص: 14 حيث دل على التوسط فيه بقوله: "استوى"، و قوله: "حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك" الآية: الأحقاف: 15 فلو كان بلوغ الأشد هو بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله: "بلغ".

فلا مجال لما ذكره بعضهم: أن المراد ببلوغ الأشد بلوغ الثلاثين أو الثلاث و الثلاثين، و كذا ما قاله آخرون إن المراد به بلوغ الأربعين و هو سن الأربعين.

على أن من المضحك أن تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه و ريعان عمره حتى إذا بلغ الأربعين من عمره و أشرف على الشيخوخة تعلقت به و راودته عن نفسه.

و قوله: "آتيناه حكما" الحكم هو القول الفصل و إزالة الشك و الريب من الأمور القابلة للاختلاف - على ما يتحصل من اللغة - و لازمه إصابة النظر في عامة المعارف الإنسانية الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الأخلاق النفسانية و الشرائع و الآداب المرتبطة بالمجتمع البشري.

و بالنظر إلى قوله (عليه السلام) لصاحبيه في السجن: "إن الحكم إلا لله": الآية 40 من السورة، و قوله بعد: "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان": الآية 41 من السورة يعلم أن هذا الحكم الذي أوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله، و هذا هو الذي سأله إبراهيم (عليه السلام) من ربه إذ قال: "رب هب لي حكما و ألحقني بالصالحين": الشعراء: 83.

و قوله: "و علما" و هذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان و أي مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أن الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفساني و لا تسويل شيطاني كيف؟ و الذي آتاهما هو الله سبحانه و قد قال تعالى: "و الله غالب على أمره": الآية 21 من السورة، و قال: "إن الله بالغ أمره": الطلاق: 3 فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب و الشك، و ما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا البتة.



ثم من المعلوم أن هذه المواهب الإلهية ليست بأعمال جزافية و لا لغوا أو عبثا منه تعالى فالنفوس التي تؤتى هذا الحكم و العلم لا تستوي هي و النفوس الخاطئة في حكمها المنغمرة في جهلها، و قد قال تعالى: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا": الأعراف: 58 و إلى ذلك الإشارة بقوله: "و كذلك نجزي المحسنين" حيث يدل على أن هذا الحكم و العلم اللذين آتاهما الله إياه لم يكونا موهبتين ابتدائيتين لا مستدعي لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين.

و ليس من البعيد أن يستفاد من قوله: "و كذلك نجزي المحسنين" إن الله تعالى يجزي كل محسن - على اختلاف صفات الإحسان - شيئا من الحكم و العلم يناسب موقعه في الإحسان و قد قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به": الحديد: 28 و قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس": الأنعام: 122.

و هذا العلم المذكور في الآية يتضمن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الأحاديث فإنه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة: "و لنعلمه من تأويل الأحاديث" و قوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن: "ذلكما مما علمني ربي" فافهم ذلك.

قوله تعالى: "و راودته التي هو في بيتها عن نفسه و غلقت الأبواب و قالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون" قال في المفردات،: الرود هو التردد في طلب الشيء برفق و منه الرائد لطالب الكلاء، قال: و الإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء، قال: و المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود، و راودت فلانا عن كذا، قال تعالى: "هي راودتني عن نفسي" و قال: "تراود فتاها عن نفسه" أي تصرفه عن رأيه، و على ذلك قوله: "و لقد راودته عن نفسه" "سنراود عنه أباه" انتهى.

و في المجمع،: المراودة المطالبة بأمر بالرفق و اللين ليعمل به و منه المرود لأنه يعمل به، و لا يقال في المطالبة بدين: راوده، و أصله من راد يرود إذا طلب المرعى، و في المثل: الرائد لا يكذب أهله، و التغليق إطباق الباب بما يعسر فتحه، و إنما شدد ذلك لتكثير الإغلاق أو للمبالغة في الإيثاق، انتهى.

و هيت لك اسم فعل بمعنى هلم، و معاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله.

و الآية الكريمة "و راودته التي هو في بيتها عن نفسه و غلقت الأبواب و قالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون" على ما فيها من الإيجاز تنبىء عن إجمال قصة المراودة غير أن التدبر في القيود المأخوذة فيها و السياق الذي هي واقعة فيه و سائر ما يلوح من أطراف قصته الموردة في السورة يجلي عن حقيقة الحال و يكشف القناع عن تفصيل ما خبىء من الأمر.

يوسف: هو ذا طفل صغير حولته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد و لعله لم يسأل إلا عن اسمه، و لم يتكلم إلا أن قال: اسمي يوسف أو قيل عنه ذلك و لم يلح من لهجته إلا أنه كان قد نشأ بين العبريين، و لم يسأل عن بيته و نسبه فليس للعبيد بيوت و لم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقاء أنساب و هو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلم بشيء و كم من حديث بين جوانحه فلم يعرف نسبه إلا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن "و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب" و لا كشف عما في سره من توحيد العبودية لله بين أولئك الوثنيين إلا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله: "معاذ الله إنه ربي" إلخ.



هو اليوم حليف الصمت و السكوت لكن قلبه مليء بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر مما بثه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد و معنى العبودية ثم ما بشر به من الرؤيا أن الله سيخلصه لنفسه و يلحقه بآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب، و ليس ينسى ما فعله به إخوته ثم ما وعده به ربه في غيابة الجب حين ما انقطع عن كافة الأسباب: أنه تحت الولاية الإلهية و التربية الربوبية معني بأمره و سينبأ إخوته بأمرهم هذا و هم لا يشعرون.

فكان (عليه السلام) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد إلا على خير و لا يواجه إلا جميلا.

و هذا هو الذي هون عليه ما نزل به من النوائب، و تواتر عليه من المحن و البلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك و لم يجزع و لم يضل الطريق و قد ذكر ذلك لإخوته حين عرفهم نفسه بقوله: "إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين": الآية 90 من السورة.

فلم يزل يوسف (عليه السلام) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربه و يمعن قلبه في لطيف الإشارات إليه، و يزداد كل يوم حبا بما يجده من شواهد الولاية و يشاهد أن ربه هو القائم على كل نفس بما كسبت و هو على كل شيء شهيد حتى تمكنت المحبة الإلهية منه و استقر الوله و الهيمان في سره فكان همه في ربه لا يشغله عنه شاغل و لا يصرفه عنه صارف و لا طرفة عين، و هذا بمكان من الوضوح لمن تدبر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله: "معاذ الله إنه ربي" و قوله: "ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء" و قوله: "إن الحكم إلا لله" و قوله: "أنت وليي في الدنيا و الآخرة" و غير ذلك كما سنبين إن شاء الله تعالى.

فهذا ما عند يوسف (عليه السلام) فقد كان شبحا ما وراءه إلا محبة إلهية أنسته نفسه و شغلته عن كل شيء، و صورة معناها أنها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم يشاركه فيه أحد.

و لم يظهر للعزيز منه أول يوم إذ حل في بيته إلا أنه غلام صغير عبري مملوك له غير أن قوله لامرأته: "أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا" يكشف أنه شاهد منه وقارا و تمكينا و تفرس فيه عظمة و كبرياء نفسانية أطمعته في أن ينتفع به أو يلحقه بنفسه بالتبني على ما في يوسف من عجيب الجمال و الحسن.

امرأة العزيز: امرأة العزيز و هي عزيزة مصر "وصاها العزيز يوسف أن تكرم مثواه و أعلمها أن له فيه إربة و أمنية فلم تزل تجتهد في إكرام يوسف و تحسن مثواه و تهتم بأمره لا كما يهتم في أمر رقيق مملوك بل كما يعنى بأمر جوهر كريم أو قطعة كبد و تحبه لبديع جماله و غزير كماله و تزداد كلما مضت الأيام حبا إلى حب حتى إذا بلغ الحلم و استوى على مستوى الرجال لم تملك نفسها دون أن تعشقه و تذل على ما لها من مناعة الملك و العزة و عصمة العفة و الخدارة تجاه هواه القاطن بسرها الآخذ بمجامع قلبها.

و قد كان يوسف يلازمها في العشرة و لا يفارق بينها من جانب و كانت عزيزة لا يثني أمرها و لا ترد عزيمتها و كانت فيما تزعم سيدة يوسف و هو عبدها المملوك لا يسعه إلا أن يطيعها و ينقاد لها، و لبيوت الملوك و الأعزة أن تحتال لشتى مقاصدها و مآربها بأنواع الحيل و المكايد فإن عامة الأسباب و إن عزت و امتنعت ميسرة لها، و كانت العزيزة ذات جمال و زينة فإن حريم الملوك لا تدخلها كل شوهاء دميمة و لا تحل بها إلا غوان ذوات حسن فتانات.



و العادة تحكم أن هذه الأسباب - و قد اجتمعت على عزيزة مصر - أسعرت في سرها كل لهيب، و أججت كل نار حتى استغرقت في حب يوسف و تولهت في غرامه و اشتغلت به عن كل شيء، و قد أحاط بقلبها من كل جانب، هو أول منطقها إذا تكلمت و في ضميرها إذا سكتت فلا هم لها إلا يوسف و لا بغية لها إلا فيه "قد شغفها حبا" و ليوسف الجمال الذي يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين محب واله و أدام النظر إليه مهيم ذو غرام.

يوسف و امرأة العزيز: لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها و تمنيها بوصال يوسف و الظفر بما تبتغيه منه و تلاطفه في عشرته و تشفع ذلك بما لربات الحسن و الزينة من الغنج و الدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده، و لعل الذي كانت تشاهده من صبر يوسف و سكوته كان يغرها فيما ترومه و يغريها عليه.

حتى إذا تاقت نفسها له و بلغت بها و أعيتها المذاهب خلت به في بيتها و قد غلقت الأبواب فلم يبق فيه إلا هي و يوسف.

و هي لا تشك أن سيطيعها يوسف في أمرها و لا يمتنع عليها لما كانت و لا تزال تراه بالسمع و الطاعة، و تشاهد أن الأوضاع و الأحوال الحاضرة تقضي بفوزها و نيلها ما تريده منه.

فتى واله في حبه و فتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أما هي فمشغوفة بحب يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها و تتوسل إلى ذلك بتغليق الأبواب و مراودته عن نفسه و الاعتماد على ما لها من العزة و الملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر "هيت لك" لتقهره على ما تريده منه.

و أما هو فقد استغرق في حب ربه و أخلص و صفى ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه و حضرة منه يشاهد فيه جماله و جلاله و قد طارت الأسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجح بالأسباب و لا يركن إلى الأعضاد.

ترى أنها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب و المراودة و الأمر بقولها: "هيت لك" و أما هو فقد قابلها بقوله: "معاذ الله" فلم يجبها بتهديد و لم يقل: إني أخاف العزيز أو لا أخونه أو إني من بيت النبوة و الطهارة أو إن عفتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، و لم يقل إني أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك، و لو كان قلبه متعلقا بشيء من الأسباب الظاهرة لذكره و بدأ به عند مفاجأة الشدة و نزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان.

بل استمسك بعروة التوحيد و أجاب بالعياذ بالله فحسب و لم يكن في قلبه أحد سوى ربه و لا تعدى بصره إياه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة الإلهية و أولهه في ربه فأنساه الأسباب كلها حتى أنساه نفسه فلم يقل إني أعوذ منك بالله أو ما يؤدي معناه، و إنما قال "معاذ الله" و كم من الفرق بين قوله هذا و بين قول مريم للروح لما تمثل لها بشرا سويا: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا": مريم: 18.

و أما قوله لها ثانيا: "إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون" فإنه يوضح كلمة التوحيد الذي أفاده بقوله: "معاذ الله" و يجليه، يقول: إن الذي أشاهده أن إكرامك مثواي عن قول العزيز لك "أكرمي مثواه" فعل من ربي و إحسان منه إلي فربي أحسن مثواي و إن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الذي يجب علي أن أعوذ به و ألوذ إليه، و إنما أعوذ به لأن إجابتك فيما تسألين و ارتكاب هذه المعصية ظلم و لا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه.



فقد أفاد (عليه السلام) بقوله: "إنه ربي أحسن مثواي" أولا: أنه موحد لا يرى شرك الوثنية فليس ممن يتخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع الله أربابا أخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأن الله هو ربه لا رب سواه.

و ثانيا: أنه ليس ممن يوحد الله سبحانه قولا و يشرك به فعلا بإعطاء الاستقلال لهذه الأسباب الظاهرة تؤثر ما تؤثر بإذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب فعلا جميلا لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز أنها هي التي أكرمت مثواه عن وصية العزيز و أنها و بعلها ربان له يتوليان أمره يرى هو أن الله سبحانه هو الذي أحسن مثواه و أنه ربه الذي يتولى تدبير أمره فعليه أن يعوذ به.

و ثالثا: أنه إنما تعوذ بالله مما تدعوه إليه لأنه ظلم لا يفلح المتلبس به و لا يهتدي إلى سعادته و لا يتمكن في حضرة الأمن عند ربه كما قال تعالى حكاية عن جده إبراهيم (عليه السلام): "الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون": الأنعام: 82.

و رابعا: أنه مربوب - أي مملوك مدبر - لله سبحانه ليس له من الأمر شيء، و لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا إلا ما شاء الله له أو أحب أن يأتي به و لذلك لم يرد ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله: "معاذ الله" إلخ فلم يقل: لا أفعل ما تأمريننى به و لم يقل: لا أرتكب كذا، و لم يقل: أعوذ بالله منك، و ما يشابه ذلك حذرا من دعوى الحول و القوة، و إشفاقا من وسمة الشرك و الجهالة اللهم إلا ما في قوله: "إنه ربي أحسن مثواي" حيث أشار فيه إلى نفسه مرتين و ليس فيه إلا تثبيت المربوبية و تأكيد الذلة و الحاجة، و لهذه العلة بعينها بدل الإكرام إحسانا فأتى حذاء قول العزيز: "أكرمي مثواه" بقوله: "أحسن مثواي" لما في الإكرام من الإشعار باحترام الشخصية و تعظيمها.

و بالجملة الواقعة و إن كانت مراجعة و مغالبة بين امرأة العزيز و يوسف (عليه السلام) بحسب ظاهر الحال فهي كانت تنازعا بين حب و هيمان إلهي و عشق و غرام حيواني يتشاجران في يوسف كل منهما يجذبه إلى نفسه، و كانت كلمة الله هي العليا فأخذته الجذبة السماوية الإلهية و دافعت عنه المحبة الإلهية و الله غالب على أمره.

فقوله تعالى: "و راودته التي هو في بيتها عن نفسه" يدل على أصل المراودة، و الإتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على أن الأوضاع و الأحوال كانت لها عليه و أن الأمر كان عليه شديدا، و كذا قوله: "و غلقت الأبواب" حيث عبر بالتغليق و هو يدل على المبالغة و علق الغلق بالأبواب و هو جمع محلى باللام و كذا قوله: "و قالت هيت لك" حيث عبر بالأمر المولوي الدال على إعمال المولوية و السيادة مع إشعاره بأنها هيأت له من نفسها ما ليس بينه و بين طلبتها إلا مجرد إقبال من يوسف و لا بين يوسف - على ما هيأت من العلل و الشرائط و نظمتها بزعمها و بين الإقبال عليها شيء حائل غير أن الله كان أقرب إلى يوسف من نفسه و من العزيزة امرأة العزيز، و لله سبحانه العزة جميعا.



و قوله: "قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي" إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذ بالله يقول: "أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه لأنه ربي الذي تولى أمري و أحسن مثواي و جعلني بذلك سعيدا مفلحا و لو اقترفت هذا الظلم لتغربت به عن الفلاح و خرجت به من تحت ولايته.

و قد راعى (عليه السلام) في كلامه هذا أدب العبودية كله كما تقدم و قد أتى أولا بلفظة "الجلالة" ثم بصفة الربوبية ليدل به على أنه لا يعبد ربا غير الله ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

و احتمل عدة من المفسرين أن يكون الضمير في قوله: "إنه ربي أحسن مثواي" للشأن، و المراد أن ربي و مولاي و هو العزيز - بناء على ظاهر الأمر فقد اشترى يوسف من السيارة - أحسن مثواي حيث أمركم بإكرام مثواي، و لو أجبتك على ما تسألين لكان ذلك خيانة له و ما كنت لأخونه.

و نظير الوجه قول بعضهم: إن الضمير عائد إلى العزيز و هو اسم إن و خبرها قوله: ربي، و قوله: أحسن مثواي، خبر بعد خبر.

و فيه أنه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: إنه لا يفلح الخائنون كما قال للرسول و هو في السجن: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين": الآية - 52 من السورة و لم: يقل إني لم أظلمه بالغيب.

على أنه (عليه السلام) لم يكن ليعد العزيز ربا لنفسه، و هو حر غير مملوك له و إن كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر، و قد قال لأحد صاحبيه في السجن: "اذكرني عند ربك": الآية 42 من السورة، و قال لرسول الملك: "ارجع إلى ربك": الآية 51 من السورة و لم يعبر عن الملك بلفظ ربي على عادتهم في ذكر الملوك، و قال أيضا لرسول الملك: "اسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم" حيث يأخذ الله سبحانه ربا لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربا للرسول.

و يؤيد ما ذكرنا أيضا قوله في الآية التالية: "لو لا أن رءا برهان ربه".

قوله تعالى: "و لقد همت به و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلصين" التدبر البالغ في أطراف القصة و إمعان النظر فيما محتف به الجهات و الأسباب و الشرائط العاملة فيها يعطي أن نجاة يوسف منها لم تكن إلا أمرا خارقا للعادة و واقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.

فقد كان يوسف (عليه السلام) رجلا و من غريزة الرجال الميل إلى النساء، و كان شابا بالغا أشده و ذلك أوان غليان الشهوة و ثوران الشبق، و كان ذا جمال بديع يدهش العقول و يسلب الألباب و الجمال و الملاحة يدعو إلى الهوى و الترح، و كان مستغرقا في النعمة و هنيء العيش محبورا بمثوى كريم و ذلك من أقوى أسباب التهوس و الإتراف، و كانت الملكة فتاة فائقة الجمال و كذلك تكون حرم الملوك و العظماء.



و كانت لا محالة متزينة بما يأخذ بمجامع كل قلب، و هي عزيزة مصر و هي عاشقة والهة تتوق إليها النفوس و تتوق نفسها إليه، و كانت لها سوابق الإكرام و الإحسان و الإنعام ليوسف و ذلك كله مما يقطع اللسان و يصمت الإنسان، و قد تعرضت له و دعته إلى نفسها و الصبر مع التعرض أصعب، و قد راودته هذه الفتانة و أتت فيها بما في مقدرتها من الغنج و الدلال، و قد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه و الصبر معها أصعب و أشق، و كانت عزيزة لا يرد أمرها و لا يثنى رأيها، و هي ربته خصه بها العزيز، و كانا في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة التي تبهر العيون و تدعو إلى كل عيش هنيء.

و كانا في خلوة و قد غلقت الأبواب و أرخت الستور، و كان لا يأمن الشر مع الامتناع، و كان في أمن من ظهور الأمر و انهتاك الستر لأنها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر و التعمية، و لم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كان مفتاحا لعيش هنيء طويل، و كان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة و المعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة و أمانيها كالملك و العزة و المال.

فهذه أسباب و أمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صماء لأذابتها و لم يكن هناك مما يتوهم مانعا إلا الخوف من ظهور الأمر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز.

أما الخوف من ظهور الأمر فقد مر أنه كان في أمن منه.

و لو كان بدأ من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تؤوله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشيء و قلبت العقوبة ليوسف حتى سجن.

و أما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عما هو أعظم من الزنا و أشد إثما فإنهم كانوا أبناء إبراهيم و إسحاق و يعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم.

شرافة النسب من أن يهموا بقتله و يلقوه في غيابت الجب و يبيعوه من السيارة بيع العبيد و يثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي (عليه السلام) فبكى حتى ابيضت عيناه.

و أما قبح الخيانة و حرمتها فهو من القوانين الاجتماعية و القوانين الاجتماعية إنما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة، و ذلك إنما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوة المجرية و الحكومة العادلة، و أما لو أغفلت القوة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفي الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين كما سنتكلم فيه عن قريب.

فلم يكن عند يوسف (عليه السلام) ما يدفع به عن نفسه و يظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه إلا أصل التوحيد و هو الإيمان بالله.

و إن شئت فقل المحبة الإلهية التي ملأت وجوده و شغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلا و لا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده التدبر في القصة.

و لنرجع إلى متن الآية.

فقوله تعالى: "و لقد همت به و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلصين" لا ريب أن الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة، و السياق يعطي أن المراد بصرف السوء و الفحشاء عنه إنجاؤه مما أريد منه و سئل بالمراودة و الخلوة، و أن المشار إليه بقوله: "كذلك" هو ما يشتمل عليه قوله: "أن رءا برهان ربه".

فيئول معنى قوله: "كذلك لنصرف" إلى آخر الآية إلى أنه (عليه السلام) لما كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء و الفحشاء بما رأى من برهان ربه فرؤية برهان ربه هي السبب الذي صرف الله سبحانه به السوء و الفحشاء عن يوسف (عليه السلام).



و لازم ذلك أن يكون الجزاء المقدر لقوله: "لو لا أن رءا برهان ربه" هو ارتكاب السوء و الفحشاء، و لازم ذلك أن يكون "لو لا أن رءا" إلخ قيدا لقوله: "و هم بها" و ذلك يقتضي أن يكون المراد بهمه بها نظير همها به هو القصد إلى المعصية و يكون حينئذ همه بها داخلا تحت الشرط، و المعنى أنه لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها و أوشك أن يرتكب فإن "لو لا" و إن كانت ملحقة بأدوات الشرط و قد منع النحاة تقدم جزائها عليها قياسا على إن الشرطية إلا أن قوله: "و هم بها" ليس جزاء لها بل هو مقسم به بالعطف على قوله: "و لقد همت به" و هو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا: و الله لأضربنه إن يضربني و المعنى: و الله إن يضربني أضربه.

و معنى الآية: و الله لقد همت به و الله لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها و أوشك أن يقع في المعصية، و إنما قلنا: أوشك أن يقع، و لم نقل: وقع لأن الهم - كما قيل - لا يستعمل إلا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى: "و هموا بما لم ينالوا": التوبة: 74، و قوله: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا": آل عمران: 122، و قول صخر: أهم بأمر الحزم لا أستطيعه.

و قد حيل بين العير و النزوان.

فلو لا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهم و الاقتراب دون الارتكاب و الاقتراف، و قد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: "لنصرف عنه السوء و الفحشاء" و لم يقل: لنصرفه من السوء و الفحشاء فتدبر فيه.

و من هنا يظهر أن الأنسب أن يكون المراد بالسوء هو الهم بها و الميل إليها كما أن المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة و هي الزنا فهو (عليه السلام) لم يفعل و لم يكد، و لو لا ما أراه الله من البرهان لهم و كاد أن يفعل، و هذا المعنى هو الذي يؤيده ما قدمناه من الاعتبار و التأمل في الأسباب و العوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه.

فقوله تعالى: "و لقد همت به" اللام فيه للقسم، و المعنى و أقسم لقد قصدت يوسف بما تريده منه و لا يكون الهم إلا بأن تشفع الإرادة بشيء من العمل.

و قوله: "و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه" معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة، و المعنى أقسم لو لا رؤيته برهان ربه لهم بها و كاد أن يجيبها لما تريده منه.

و البرهان هو السلطان و يراد به السبب المفيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة قال تعالى: "فذانك برهانان من ربك إلى فرعون و ملئه": القصص: 32، و قال: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم": النساء: 174، و قال: "أ إله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين": النمل: 64 و هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق و لا تدع ريبا لمرتاب.

و الذي رآه يوسف (عليه السلام) من برهان ربه و إن لم يوضحه كلامه تعالى كل الإيضاح لكنه - على أي حال - كان سببا من أسباب اليقين لا يجامع الجهل و الضلال بتاتا، و يدل على أنه كان من قبيل العلم قول يوسف (عليه السلام) فيما يناجي ربه كما سيأتي: "و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين": الآية 33 من السورة، و يدل على أنه ليس من العلم المتعارف بحسن الأفعال و قبحها و مصلحتها و مفسدتها إن هذا النوع من العلم قد يجامع الضلال و المعصية و هو ظاهر قال تعالى: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم": الجاثية: 23 و قال: "و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم": النمل: 14.

فالبرهان الذي أراه به و هو الذي يريه الله عباده المخلصين نوع من العلم المكشوف و اليقين المشهود تطيعه النفس الإنسانية طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلا، و سنورد فيه بعض الكلام إن شاء الله تعالى.



و قوله: "كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء" اللام في "لنصرف" للغاية أو التعليل و المآل واحد و "كذلك" متعلق بقوله "لنصرف" و الإشارة إلى ما ذكر من رؤية برهان ربه، و السوء هو الذي يسوء صدوره من العبد بما هو عبد و هو مطلق المعصية أو الهم بها، و الفحشاء هو ارتكاب الأعمال الشنيعة كالزنا، و قد تقدم أن ظاهر السياق انطباق السوء و الفحشاء على الزنا و الهم به.

و المعنى: الغاية - أو السبب - في أن رءا برهان ربه هي أن نصرف عنه الفحشاء و الهم بها.

و من لطيف الإشارة في الآية ما في قوله: "لنصرف عنه السوء و الفحشاء" حيث أخذ السوء و الفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفا عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنه كان فيه ما يقتضي اقترافهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، و هو ينافي شهادته تعالى بأنه من عباده المخلصين و هم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركه فيهم شيء فلا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أي داع يدعو من دون الله سبحانه.

و قوله: "إنه من عبادنا المخلصين" في مقام التعليل لقوله: "كذلك لنصرف" "إلخ" و المعنى: عاملنا يوسف كذلك لأنه من عبادنا المخلصين، و هم يعاملون هذه المعاملة.

و يظهر من الآية أن من شأن المخلصين من عباد الله أن يروا برهان ربهم، و إن الله سبحانه يصرف كل سوء و فحشاء عنهم فلا يقترفون معصية و لا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه، و هذه هي العصمة الإلهية.

و يظهر أيضا أن هذا البرهان سبب علمي يقيني لكن لا من العلوم المتعارفة المعهودة لنا.

و للمفسرين من العامة و الخاصة في تفسير الآية أقوال مختلفة:


1 منها: ما ذكره بعضهم و نسب إلى ابن عباس و مجاهد و قتادة و عكرمة و الحسن و غيرهم: أن المعنى أنها همت بالفاحشة و أنه هم بمثله لو لا أن رءا برهان ربه لفعل.

و قد وصفوا همه (عليه السلام) بما يجل عنه مقام النبوة و يتنزه عنه ساحة الصديق فذكروا أنه قصدها بالفاحشة و دنا منها حتى حل السراويل و جلس منها مجلس الخاتن فأدركه برهان من ربه أبطل الشهوة و نجاة من الهلكة، و ذكروا في وصف هذا البرهان أمورا كثيرة مختلفة.

قال الغزالي في تفسيره لهذه السورة: اختلفوا فيه - يعني في البرهان - ما هو؟ قال بعضهم: إن طائرا وقع على كتفه فقال في أذنه: لا تفعله فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء.

و قيل: إنه رأى يعقوب عاضا على إصبعه، و هو يقول: يا يوسف أ ما تراني: و قال الحسن البصري: رآها و هي تغطي شيئا فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: أغطي وجه صنمي لئلا يراني فقال يوسف: أنت تستحيين الجماد الذي لا يعقل و لا يرى فأنا أولى أن أستحيي ممن يراني و يعلم سري و علانيتي.

قال أرباب اللسان: إنه نودي في سره يا يوسف اسمك مكتوب في ديوان الأنبياء، و تريد أن تفعل فعل السفهاء.

و قيل: رأى كفا قد خرج من الحائط مكتوب عليها: و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا.

و قيل: انفرج سقف البيت فرأى صورة حسنة تقول: يا رسول العصمة لا تفعل فإنك معصوم.

و قيل: نكس رأسه فرأى على الأرض مكتوبا: و من يعمل سوءا يجز به.

و قيل: أتاه ملك و مسح جناحيه على ظهره فخرجت شهوته من أصابع رجليه.

و قيل: رأى الملك في البيت و هو يقول: أ لست هاهنا؟ و قيل: وقع بينهما حجاب فلا يرى أحد صاحبه.

و قيل: رأى جارية من جواري الجنة فتحير من حسنها فقال لها: لمن أنت؟ قالت: لمن لا يزني.

و قيل: جاز عليه طائر فناداه: يا يوسف لا تعجل فإنها لك حلال و لك خلقت.



و قيل: رأى ذلك الجب الذي كان بحذائه و عليه ملك قائم يقول يا يوسف أ نسيت هذا الجب.

و قيل: رأى زليخا على صورة قبيحة فهرب منها.

و قيل رأى شخصا فقال: يا يوسف انظر إلى يمينك فنظر فرأى ثعبانا أعظم ما يكون فقال: الزاني في بطني غدا فهرب منه.

انتهي.

و مما قيل فيه أنه تمثل له يعقوب فضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من أطراف أنامله رواه في الدر المنثور، عن مجاهد و عكرمة و ابن جبير إلى غير ذلك من الوجوه المختلفة التي أوردها في التفسير بالمأثور.

و الجواب عنه مضافا إلى أنه (عليه السلام) كان نبيا ذا عصمة إلهية تحفظه من المعصية، و قد تقدم إثبات ذلك، أن الذي أورده الله تعالى من كرائم صفاته و إخلاص عبوديته لا يبقى شكا في أنه أطهر ساحة و أرفع منزلة من أن ينسب إليه أمثال هذه الألواث فقد ذكر تعالى أنه من عباده الذين أخلصهم لنفسه و اجتباهم لعبوديته و آتاهم حكما و علما، و علمه من تأويل الأحاديث، و أنه كان عبدا متقيا صبورا في الله غير خائن و لا ظالم و لا جاهل، و كان من المحسنين و قد ألحقه بآبائه الصالحين إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

و كيف يستقيم هذه المقامات العالية و الدرجات الرفيعة إلا لإنسان طاهر في وجدانه منزه في أركانه صالح في أعماله مستقيم في أحواله.

و أما من ذهب لوجهه في معصية الله و هم بما هو من أفحش الإثم في دين الله و هو زنا ذات البعل و خيانة من أحسن إليه أبلغ الإحسان في عرضه و أصر عليه حتى حل التكة و جلس منها مجلس الرجل من المرأة فأتته لصرفه آية بعد آية فلم ينصرف، و ازدجر بنداء بعد نداء من كل جانب فلم يستحي و لم يكف حتى ضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من رءوس أصابعه، و شاهد ثعبانا أعظم ما يكون من عن يمينه فذعر منه و هرب من هول ما رأى، فمثله أحرى به أن لا يسمى إنسانا فضلا أن يتكىء على أريكة النبوة و الرسالة، و يأتمنه الله على وحيه، و يسلم إليه مفاتيح دينه، و يؤتيه حكمه و علمه و يلحقه بمثل إبراهيم الخليل.

لكن هؤلاء المتعلقين بهذه الأقاويل المختلفة و الإسرائيليات و الآثار الموضوعة إذ يتهمون جده إبراهيم (عليه السلام) في زوجته سارة لا يبالون أن يتهموا نجله (عليه السلام) في زوجة غيره.

قال في الكشاف،: و قد فسر هم يوسف بأنه حل الهميان و جلس منها مجلس المجامع، و بأنه حل تكة سراويله و قعد بين شعبها الأربع و هي مستلقية على قفاها و فسر البرهان بأنه سمع صوتا إياك و إياها فلم يكترث له فسمعه ثانيا فلم يعمل به فسمع ثالثا: أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضا على أنملته، و قيل ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله.

و قيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل ما نقص من شهوته حين هم، و قيل.



صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له، و قيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد و لا معصم مكتوب فيها: "و إن عليكم لحافظين كراما كاتبين" فلم ينصرف ثم رأى فيها: "و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا" فلم ينته ثم رأى فيها: "و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" فلم ينجع فيه فقال الله لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل و هو يقول: يا يوسف أ تعمل عمل السفهاء و أنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟.

و قيل: رأى تمثال العزيز، و قيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته و قالت: أستحيي منه أن يرانا فقال يوسف: استحييت ممن لا يسمع و لا يبصر و لا أستحيي من السميع البصير العليم بذات الصدور؟.

و هذا و نحوه مما يورده أهل الحشو و الجبر الذين دينهم بهت الله تعالى و أنبيائه، و أهل العدل و التوحيد ليسوا من مقالاتهم و رواياتهم بحمد الله بسبيل.

و لو وجدت من يوسف (عليه السلام) أدنى زلة لنعيت عليه و ذكرت توبته و استغفاره كما نعيت على آدم زلته، و على داود و على نوح و على أيوب و على ذي النون و ذكرت توبتهم و استغفارهم كيف و قد أثنى عليه و سمي مخلصا؟.

فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض و أنه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوة و العزم ناظرا في دليل التحريم و وجه القبح حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه و مصدق لها، و لم يقتصر إلا على استيفاء قصته، و ضرب سورة كاملة عليها ليجعل له لسان صدق في الآخرين كما جعله لجده الخليل إبراهيم (عليه السلام).

و ليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة و طيب الإزار و التثبت في مواقع العثار.

فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله في القعود بين شعب الزانية و في حل تكته للوقوع عليها، و في أن ينهاه ربه ثلاث مرات، و يصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن و بالتوبيخ العظيم و بالوعيد الشديد و بالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه و هو جاثم في مربضه لا يتحلحل و لا ينتهي و لا يتنبه حتى يتداركه الله بجبريل و بإجباره، و لو أن أوقح الزناة و أشطرهم و أحدهم حدقة أجلحهم وجها لقي بأدنى ما لقي به مما ذكروا لما بقي له عرق ينبض و لا عضو يتحرك فيا له من مذهب ما أفحشه و من ضلال ما أبينه.

انتهي.

و ما أحسن ما قال بعض أهل التفسير في ذم أصحاب هذا القول إنهم يتهمونه (عليه السلام) في هذه الواقعة و قد شهد ببراءته و طهارته كل من لها تعلق ما بها فالله سبحانه يشهد بذلك إذ يقول: "إنه من عبادنا المخلصين" و الشاهد الذي شهد له من أهلها إذ قال: "إن كان قميصه قد من قبل" إلى آخر الآيتين، و العزيز إذ قال لامرأته.

"إنه من كيدكن" و امرأة العزيز إذ قالت: "الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين" و النسوة إذ قلن: "حاش لله ما علمنا عليه من سوء" و يوسف ينفي ذلك عن نفسه و قد سماه الله صديقا إذ قال: "إني لم أخنه بالغيب".

و عمدة السبب في تعاطيهم هذا القول أمران: أحدهما: إفراطهم في الركون إلى الآثار و قبول الحديث كيفما كان و إن خالف صريح العقل و محكم الكتاب فلعبت بأحلامهم الإسرائيليات و ما يلحق بها من الأخبار الموضوعة المدسوسة، و أنستهم كل حق و حقيقة و صرفتهم عن المعارف الحقيقية.



و لذلك تراهم لا يرون لمعارف الدين محتدا وراء الحس، و لا للمقامات المعنوية الإنسانية كالنبوة و الولاية و العصمة و الإخلاص أصلا إلا الوضع و الاعتبار نظائر المقامات الوهمية الاعتبارية الدائرة في مجتمع الإنسان الاعتباري التي ليست لها وراء التسمية و المواضعة حقيقة تتكىء عليها و تطمئن إليها.

فيقيسون نفوس الأنبياء الكرام على سائر النفوس العامية التي تنقلب بين الأهواء و بلغت بها الجهالة و الخساسة فإن ارتقت فإنما ترتقي إلى منزلة التقوى و رجاء الثواب و خوف العقاب تصيب كثيرا و تخطىء و إن لحقت بها عصمة إلهية في مورد أو موارد فإنما هي قوة حاجزة بين الإنسان و المعصية لا تعمل عملها إلا بإبطال سائر الأسباب و القوى التي جهز بها الإنسان و إلجاء الإنسان و اضطراره إلى فعل الجميل و اقتراف الحسنة، و لا جمال لفعل و لا حسن لعمل و لا مدح لإنسان مع الإلجاء و الاضطرار و للكلام تتمة سنوردها في بحث يختص به.

الثاني: ظاهر قوله تعالى: "و لقد همت به و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه" بناء على ما ذكره النحاة أن جزاء "لو لا" لا يتقدم عليها قياسا على إن الشرطية، و على هذا يصير قوله "و هم بها" جملة تامة غير متعلقه بالشرط، و جواب لو لا قولنا "لفعل" أو ما يشبه ذلك و التقدير: و لقد همت امرأة العزيز بيوسف و هم يوسف بها لو لا أن رءا برهان ربه لفعل، و هو المطلوب.

و قد عرفت فساد ذلك و إن الجملتين معا أعني قوله: "و لقد همت به" و قوله: "و هم بها" قسميتان، و إن جزاء لو لا في معنى الجملة الثانية حذف لدلالتها عليه، و الكلام على تقدير: و أقسم لقد همت به و أقسم لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها نظير قولهم: و الله لأضربنه إن ضربني.

على أن الذي قدروه من المعنى كان الأنسب به أن يقال: "و لو لا أن رءا برهان ربه" بالوصل، و لا وجه ظاهرا من جهة السياق يوجه به الفصل.

2 - و من الأقوال في الآية أن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع و انتزاع الغريزة قال في الكشاف،: فإن قلت كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية و قصد إليها؟ قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة و نازعت إليها عن شهوة الشباب و قرمه ميلا يشبه الهم به و القصد إليه و كما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول و العزائم، و هو يكسر ما به و يرده بالنظر إلى برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم.

و لو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء و شدته، و لو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين.

و يجوز أن يريد بقوله: "و هم بها" و شارف أن يهم بها كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل و مشافهته كأنه شرع فيه.

ثم قال: فإن قلت: لم جعلت جواب لو لا محذوفا يدل عليه هم بها، و هلا جعلته هو الجواب مقدما.

قلت: لأن لو لا لا يتقدم عليها جوابها من قبل أنه في حكم الشرط، و للشرط صدر الكلام و هو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، و لا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض، و أما حذف بعضها إذا دل الدليل عليه فجائز.



فإن قلت: فلم جعلت لو لا متعلقة بهم بها وحده؟ و لم تجعلها متعلقة بجملة قوله: "و لقد همت به و هم بها" لأن الهم لا يتعلق بالجواهر و لكن بالمعاني فلا بد من تقدير المخالطة و المخالطة لا تكون إلا باثنين معا فكأنه قيل: و لقد هما بالمخالطة لو لا أن منع مانع أحدهما.

قلت: نعم ما قلت و لكن الله سبحانه قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال: "و لقد همت به و هم بها" فكان إغفاله إلغاء له فوجب أن يكون التقدير: و لقد همت بمخالطته و هم بمخالطتها، على أن المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، و توصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها لو لا أن رءا برهان ربه فترك التوصل إلى حظه من الشهوة فلذلك كانت "لو لا" حقيقة بأن تعلق بهم بها وحده انتهى.

و لخصه البيضاوي في تفسيره، حيث قال: المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع و منازعة الشهوة لا القصد الاختياري و ذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح و الأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفة الهم كقولك: قتلته لو لم أخف الله.

انتهي.

و رد هذا القول بأنه مخالف لما ثبت في اللغة من معنى الهم و هو القصد إلى الفعل مع مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد أو شروع في بعض مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم إليه و أما مجرد ميل الطبع و منازعة القوة الشهوانية فليس يسمى هما البتة و الهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم، و الطبع و إن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هما.

أقول: هذا إنما يصلح جوابا لقولهم: إن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع و منازعة الشهوة، و أما تجويزه أن يكون المراد بالهم الإشراف على الهم فلا، بل هو قول على حدة في معنى الآية و هو أن يفرق بين الهمين المذكورين فالمراد بهمها القصد العمدي إلى المخالطة و بهمه إشرافه (عليه السلام) على الهم بها من دون تحقق للهم بالفعل و القرينة عليه هو وصفه تعالى إياه بما فيه مدح بالغ، و لو كان همه حقيقيا بالقصد العمدي إلى مخالطتها كان فعلا مذموما لا يتعلق به مدح أصلا فمن هنا يعلم أن المراد بهمه (عليه السلام) إشرافه على الهم لا الهم بالفعل.

و الجواب: أنه معنى مجازي لا يصار إليه إلا مع عدم إمكان الحمل على المعنى الحقيقي، و قد تقدم أنه بمكان من الإمكان.

على أن الذي ذكروه في معنى رؤيته برهان ربه و أن المراد بها الرجوع إلى الحجة العقلية القاضية بوجوب الانتهاء عن النواهي الشرعية و المحارم الإلهية معنى بعيد من اللفظ إذ الرؤية لا تستعمل إلا في الإبصار الحسي أو المشاهدة القلبية التي هي بمنزلتها أو أظهر منها، و أما مجرد التفكر العقلي فلا يسمى رؤية البتة.

3 - و من الأقوال في الآية: أن المراد بالهمين مختلف فهمها هو قصدها مخالطته و همه بها هو قصده أن يضربها للدفاع عن نفسه، و الدليل على التفرقة بين الهمين شهادته تعالى على أنه من عباده المخلصين و قيام الحجة عقلا على عصمة الأنبياء (عليهم السلام).



قال في مجمع البيان،: إن الهم في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة لأنه قال: "و لقد همت به و هم بها" فعلق الهم بهما و ذاتاهما لا يجوز أن يراد و يعزم عليهما لأن الموجود الباقي لا يصح أن يراد و يعزم عليه فإذا حملنا الهم في الآية على العزم فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به.

و قد أمكن أن نعلق عزمه بغير القبيح، و نجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه فكأنه قال: و لقد همت بالفاحشة منه و أرادت ذلك و هم يوسف بضربها و دفعها عن نفسه كما يقال هممت بفلان أي بضربه و إيقاع مكروه به.

و على هذا فيكون معنى رؤية البرهان أن الله سبحانه أراه برهانا على أنه إن أقدم على ما هم به أهلكه أهلها أو قتلوه أو ادعت عليه المراودة على القبيح و قذفته بأنه دعاها إليه و ضربها لامتناعها منه، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء و الفحشاء اللذين هما القتل و ظن اقتراف الفاحشة به، و يكون التقدير: لو لا أن رءا برهان ربه لفعل ذلك، و يكون جواب لو لا محذوفا كما حذف في قوله تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته و إن الله رءوف رحيم" انتهى موضع الحاجة.

و الجواب: أنه قول لا بأس به لكنه مبني على التفرقة بين الهمين و هو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن حملهما على معنى واحد و قد عرفت إمكان ذلك.

على أن لازمه أن يكون المراد بالبرهان الذي رآه ما يدل على أنه إن ضربها استتبع ذلك هلاكه أو مصيبة أخرى تصيبه و يكون المراد بالسوء و الفحشاء القتل و التهمة - كما أشار إليه في المجمع، - و هذا خلاف ما يستفاد من السياق قطعا.

و أما ما ذكره في المجمع، من عدم جواز إرادة العزم على المخالطة من الهمين معا، و محصله أن الهم إنما يتعلق بمن لا ينقاد للعازم الهام فيما يريده، و إذا فرض تحقق الهم من أحد الطرفين لم يصح تحققه مع ذلك من الطرف الآخر إذ لا معنى لتعلق الإرادة بالمريد و الطلب من الطالب و بعث من هو مبعوث بالفعل.

ففيه أنه لا مانع من تحقق الهم من الطرفين إذا فرض تحققهما دفعة واحدة من دون سبق و لحوق أو قارن ذلك عناية زائدة كإنسانين يريدان الاقتراب و الاجتماع فربما يثبت أحدهما و يتحرك إليه الآخر، و ربما يتحركان و يقتربان و يتدليان معا و جسمين يريدان الانجذاب و الاتصال فربما يجذب أحدهما و ينجذب إليه الآخر و ربما يتجاذبان و يتدانيان.

4 - و من الأقوال في الآية: أن المراد بالهم في الموردين معا الهم بالضرب و الدفاع فهي لما راودته و ردها بالامتناع و الاستنكاف ثارت منها داعية الغضب و الانتقام و هاج في باطنها الوجد الممزوج بالسخط و الأسف فهمت به لتضربه على تمرده من امتثال ما أمرته به، و هو لما شاهد ذلك استعد للدفاع عن نفسه و ضربها إن مستها بسوء غير أن ضربه إياها و مقاومته لدفعها لما كان ربما يتهمه في أنه راودها عن نفسه و دعاها إلى الفحشاء أراه الله سبحانه بفضله برهانا فهم منه ذلك و ألهم أن يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت ليفتحه و يخرج من عندها فعقبته فاستبقا الباب.

و لا مساغ لحمل الهم على الهم بالمخالطة أما في قوله: "و لقد همت به" فلان الهم لا يكون إلا بفعل للهام، و الوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به، و إنما نصيبها منه قبولها لمن يطلبه منها بتمكينه منه.

هذا أولا.



على أن يوسف لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمى قبولها لطلبه و رضاها بتمكينه منه هما لها فإن نصوص الآيات قبل هذه الآية و بعدها تبرئة من ذلك بل من وسائله و مقدماته أيضا.

و هذا ثانيا.

على أن ذلك لو وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: و لقد هم بها و همت به لأن الأول هو المقدم في الطبع و الوضع و هو الهم الحقيقي، و الهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه.

و هذا ثالثا.

على أنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة عليه ليس عندها أدنى تردد فيه و لا مانع منه يعارض المقتضي له، فإذن لا يصح أن يقال: إنها همت به مطلقا حتى لو فرض جدلا أنه كان قبولا لطلبه و مواتاة له إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، و أما الهم بمعنى قصدها له بالضرب تأديبا فيصح ذلك فيه بأهون تقدير.

و هذا رابعا.

انتهى ملخصا مما أورده صاحب المنار في تفسيره،.

و الجواب: أنه يشارك القول السابق في معنى همه بها فيرد عليه ما أوردناه على سابقه، و أما ما يختص به أن المراد بهمها به قصدها إياه بضرب و نحوه فمما لا دليل عليه أصلا، و أما مجرد اتفاق ذلك في بعض نظائر القصة فليس يوجب حمل الكلام عليه من غير قرينة تدل على ذلك.

و أما ما ذكره في استبعاد أن يراد من قوله: "و لقد همت به" الهم على المخالطة أو عدم صحته فوجوه سخيفة جدا فإن من المعلوم أن هذه المخالطة تتألف عادة من حركات و سكنات شأن المرأة فيها الفعل دون الانفعال و العمل دون القبول فلو همت به بضم أو ما يناظره ليلتهب بذلك ما خمدت من نار غريزته الكامنة، و تلجئه إلى إجابتها فيما تريده منه صح أن يقال: إنها همت به أي بمخالطته و ليس من الواجب أن يفسر همها به بقصدها خصوص ما هي قابلة له حتى لا يصح به إطلاق الهم عليه.

و أما ما ذكره أخيرا أنها كانت جازمة غير مترددة فلا يصح أن يراد بهمها الهم على ما تريده من المخالطة ففيه أنها إنما كانت جازمة في إرادتها منه و عزيمتها عليه، و أما في تحقق الفعل و وقوعه على ما قدرته فلا كيف؟ و قد شاهدت من يوسف الامتناع و الإباء عن مراودتها، و إنما همت به لما قابلها بالاستنكاف و لا جزم لها مع ذلك بإجابته لها و مطاوعته لما أرادته منه و هو ظاهر.

5 - و من الأقوال في الآية: حمل الكلام على التقديم و التأخير و يكون التقدير: و لقد همت به و لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها، و لما رءا برهان ربه لم يهم بها، و يجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لو لا أني تداركتك، و قد كنت قتلت لو لا أني خلصتك، و المعنى: لو لا تداركي لهلكت - و لو لا تخليصي لقتلت و إن كان لم يقع هلاك و قتل، و مثله قول الشاعر: فلا تدعني قومي ليوم كريهة.

لئن لم أعجل ضربة أو أعجل.

و في القرآن الكريم: "إن كادت لتبدي به لو لا أن ربطنا على قلبها" نسبه في المجمع، إلى أبي مسلم المفسر.



و الجواب: أنه إن كان المراد به ما ربما يقوله المفسرون: إن في القرآن تقديما و تأخيرا فإنما ذلك فيما يكون هناك جمل متعددة بعضها متقدمة على بعضها بالطبع فأهمل النظم و اكتفى بمجرد العد من غير ترتيب لعناية تعلقت به كما قيل في قوله تعالى: "و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب": هود: 71 إنه من التقديم و التأخير، و إن التقدير: فبشرناها فضحكت و أما قوله: "و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه" فالمعنى يختلف فيه بالتقديم و التأخير فهو إذا قدم كان هما مطلقا من غير تقييد لعدم جواز كونه جوابا للو لا مقدما عليها على ما ذكروه، و إذا أخر كان هما مقيدا بالشرط.

و إن كان المراد أنه جواب للو لا مقدم عليها فالنحاة لا يجوزونه قياسا على إن الشرطية و يؤولون ما سمع من ذلك اللهم إلا أن يكون ذلك خلافا منه لهم لعدم الدليل على هذا القياس، و لا موجب لتأويل ما ورد في الكلام مما ظاهره ذلك.

6 - و من الأقوال في الآية: ما ذكروا أنها أول ما همت به في منامها و هم بها لأنه رآها في منامه فعند ذلك علم أنها له فلذلك هم بها.

أورده الغزالي في تفسيره، قال: و هذا وجه حسن لأن الأنبياء كانوا معصومين لا يقصدون المعاصي.

انتهي.

و الجواب أنه إن أريد به أن قوله: "و هم بها" حكاية ما رآه يوسف (عليه السلام) في المنام فهو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، و إن أريد به أنه (عليه السلام) رآها في المنام و هم بها فيه، و اعتقد من هناك أنها له و خاصة بناء على أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم هم بها في اليقظة في مجلس المراودة بالمضي على اعتقاده فيها فأدركته رؤية برهان من ربه يبين له أنه قد أخطأ في زعمه ففيه إثبات خطإ الأنبياء في تلقي الوحي، و ليس ذلك بأقل محذورا من تجويز إقدامهم على المعاصي.

على أن الآية السابقة - و قد عد فيها المخالطة ظلما لا يفلح صاحبه و استعاذ بالله منه - تناقض ذلك فكيف يزعم أنها له و هو يعده ظلما و يستعيذ منه بالله سبحانه؟.

فهذه عمدة الأقوال في الآية و هي مع ما قدمناه أولا ترتقي إلى سبعة أو ثمانية، و قد علمت أن معنى رؤية البرهان يختلف بحسب اختلاف الأقوال فمن قائل إنه سبب يقيني شاهده يوسف (عليه السلام)، و من قائل إنه الآيات و الأمور التي ظهرت له فردعته عن اقتراف الخطيئة، و من قائل إنه العلم بحرمة الزنا و عذابه، و من قائل إنه ملكة العفة، و من قائل إنه العصمة و الطهارة و قد عرفت ما هو الحق منها و سنعود إليه في كلام خاص به بعد تمام البحث عن الآيات إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و استبقا الباب و قدت قميصه من دبر" الاستباق هو التسابق و قد تقدم، و القد القط هو الشق إلا أن القد هو الشق طولا و القط هو الشق عرضا، و الدبر و القبل كالخلف و الأمام.

و السياق يعطي أن استباقها كان لغرضين مختلفين فكان يوسف (عليه السلام) يريد أن يفتحه و يتخلص منها بالخروج من البيت، و امرأة العزيز كانت تريد أن تسبقه إليه فتمنعه من الفتح و الخروج لعلها تفوز بما تريده منه، و إن يوسف سبقها إلى الباب فاجتذبته من قميصه من الوراء فقدته و لم ينقد إلا لأنه كان في حال الهرب مبتعدا منها و إلا لم ينشق طولا.

و قوله: "و ألفيا سيدها لدى الباب" الإلفاء الوجدان يقال: ألفيته كذا أي وجدت و المراد بسيدها زوجها.

قيل: إنه جري على عرف مصر و قد كانت النساء بمصر يلقبن زوجهن بالسيد، و هو مستمر إلى هذا الزمان.



قوله تعالى: "قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم" لما ألفيا سيدها لدى الباب انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق، و إنما أوجد هذا الموقف وجود العزيز لدى الباب و حضورهما و الهيئة هذه الهيئة عنده، و يتكفل ما جرى في هذا الموقف قوله: "و ألفيا سيدها لدى الباب" إلى تمام خمس آيات.

فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه و تسأله أن يجازيه فذكرت أنه أراد بها سوءا و عليه أن يسجنه أو يعذبه عذابا أليما لكنها لم تصرح بذلك و لا بشيء من أطراف الواقعة بل كنت و أتت بحكم عام عقلائي يتضمن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء فقالت: "ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم" فلم يصرح باسم يوسف و هو المريد، و لا باسم نفسها و هي الأهل، و لا باسم السوء و هو الزنا بذات البعل كل ذلك تأدبا في حضرة العزيز و تقديسا لساحته.

و لم يتعين الجزاء بل رددته بين السجن و العذاب الأليم لأن قلبها الواله إليه المليء بحبه ما كان يساعدها على التعيين فإن في الإبهام نوعا من الفرج إلا أن في تعبيرها بقولها: "بأهلك" نوعا من التحريض عليه و تهييجه على مؤاخذته و لم يكن ذلك إلا كيدا منها للعزيز بالتظاهر بالوجد و الأسى لئلا يتفطن بواقع الأمر فيؤاخذها أما إذا صرفته عن نفسها المجرمة فإن صرفه عن مؤاخذة يوسف (عليه السلام) لم يكن صعبا عليها تلك الصعوبة.

قوله تعالى: "قال هي راودتني عن نفسي" لم يبدأ يوسف (عليه السلام) بالقول أدبا مع العزيز و صونا لها أن يرميها بالجرم لكن لما اتهمته بقصدها بالسوء لم ير بدا دون أن يصرح بالحق فقال: "هي راودتني عن نفسي" و في الكلام دلالة على القصر و هي من قصر القلب أي لم أردها بالسوء بل هي التي أرادت ذلك فراودتني عن نفسي.

و في كلامه هذا - و هو خال عن أقسام التأكيد كالقسم و نحوه - دلالة على سكون نفسه (عليه السلام) و طمأنينته و أنه لم يحتشم و لم يجزع و لم يتملق حين دعوى براءته مما رمته به إذ كان لم يأت بسوء و لا يخافها و لا ما اتهمته و قد استعاذ بربه حين قال: "معاذ الله".

قوله تعالى: "و شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين" إلى آخر الآيتين.

لما كانت الشهادة في معنى القول كان قوله: "إن كان قميصه" "إلخ" بمنزلة مقول القول بالنسبة إليه فلا حاجة إلى تقدير القول قبل قوله: "إن كان قميصه" "إلخ"، و قد قيل: إن هذا القول لما أدى مؤدى الشهادة عبر عنه بلفظ الشهادة.

و قد أشار هذا الشاهد إلى دليل ينحل به العقدة و يتضح طريق القضية فتكلم فقال: "إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين" فإن من البين أن أحدهما صادق في دعواه و الآخر كاذب، و كون القد من قبل يدل على منازعتهما و مصارعتهما بالمواجهة فالقضاء لها عليه، و إن كان قميصه قد من دبر فكذبت و هو من الصادقين فإن كون القد من دبر يدل على هربه منها و تعقيبها إياه و اجتذابها له إلى نفسها فالقضاء له عليها.

و هو ظاهر.

و أما من هذا الشاهد؟ فقد اختلف فيه المفسرون فقال بعضهم: كان رجلا حكيما أشار للعزيز بما أشار كما عن الحسن و قتادة و عكرمة، و قيل: كان رجلا و هو ابن عم المرأة و كان جالسا مع زوجها لدى الباب، و قيل: لم يكن من الإنس و لا الجن بل خلقا من خلق الله كما عن مجاهد، و رد بمنافاته الصريحة لقوله تعالى: "من أهلها".



و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) و بعض طرق أهل السنة أنه كان صبيا في المهد من أهلها، و سيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

و الذي ينبغي أن ينظر فيه أن الذي أتى به هذا الشاهد بيان عقلي و دليل فكري يؤدي إلى نتيجة هي القاضية لأحد هذين المتداعيين على الآخر، و مثل هذا لا يسمى شهادة عرفا فإنها هي البيان المتعمد على الحس أو ما في حكمه و بالجملة القول الذي لا يعتمد على التفكير و التعقل كما في قوله: "شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم": حم السجدة: 20، و قوله: "قالوا نشهد إنك لرسول الله": المنافقون: 1 فإن الحكم بصدق الرسالة و إن كان في نفسه مستندا إلى التفكر و التعقل لكن المراد بالشهادة تأدية ما عنده من الحق المعلوم قطعا من غير ملاحظة كونه عن تفكر و تعقل كما في موارد يعبر عنه فيها بالقول و نحوه.

فليس من البعيد أن يكون في التعبير عن قول هذا القائل بمثل "و شهد شاهد" إشارة إلى كون ذلك كلاما صدر عنه من غير ترو و فكر فيكون شهادة لعدم اعتماده على تفكر و تعقل لا قولا يعبر به عرفا عن البيان الذي يبتني على ترو و تفكر، و بهذا يتأيد ما ورد من الرواية أنه كان صبيا في المهد فقد كان ذلك بنوع من الإعجاز أيد الله سبحانه به قول يوسف (عليه السلام).

قوله تعالى: "فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم" أي فلما رأى العزيز قميص يوسف و الحال أنه مقدود مشقوق من خلف، قال إن الأمر من كيدكن معاشر النساء إن كيدكن عظيم فمرجع الضمائر معلوم من السياق.

و نسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنه إنما صدر منها بما أنها من النساء، و كيدهن معهود معروف، و لذا استعظمه و قال ثانيا: "إن كيدكن عظيم" و ذلك أن الرجال أوتوا من الميل و الانجذاب إليهن ما ليس يخفى و أوتين من أسباب الاستمالة و الجلب ما في وسعهن أن يأخذن بمجامع قلوب الرجال و يسخرن أرواحهم بجلوات فتانة و أطوار سحارة تسلب أحلامهم، و تصرفهم إلى إرادتهن من حيث لا يشعرون و هو الكيد و إرادة الإنسان بالسوء و مفاد الآية أن العزيز لما شاهد أن قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف (عليه السلام) على امرأته.

قوله تعالى: "يوسف أعرض عن هذا و استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين" من مقول قول العزيز أي إنه بعد ما قضى له عليها أمر يوسف أن يعرض عن الأمر و أمر امرأته أن تستغفر لذنبها و من خطيئتها.

فقوله: "يوسف أعرض عن هذا" يشير إلى ما وقع من الأمر و يعزم على يوسف أن يعرض عنه و يفرضه كأن لم يكن فلا يحدث به و لا يذيعه، و لم يرد في كلامه تعالى ما يدل على أن يوسف (عليه السلام) حدث به أحدا و هو الظن به (عليه السلام) كما نرى أنه لم يظهر حديث المراودة للعزيز حتى اتهمته بسوء القصد فذكر الحق عند ذلك لكن كيف يخفى حديث استمر عهدا ليس بالقصير، و قد استولى عليها الوله و سلب منها الغرام كل حلم و حزم، و لم تكن المراودة مرة أو مرتين و الدليل على ذلك ما سيأتي من قول النسوة: "امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا".



و قوله: "و استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين" يقرر لها الذنب و يأمرها أن تستغفر ربها لذلك الذنب لأنها كانت بذلك من أهل الخطيئة، و لذلك قيل: "من الخاطئين" و لم يقل من الخاطئات.

و هذا كله من كلام العزيز على ما يعطيه السياق لا من كلام الشاهد لأنه قضاء و حكم و القضاء للعزيز لا للشاهد.

و من الخطإ قول بعضهم: إن معنى "و استغفري لذنبك" سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك انتهى.

بناء على أن الجملة من كلام الشاهد لا من كلام العزيز و كذا قول آخر: معناه: استغفري الله من ذنبك و توبي إليه فإن الذنب كان منك لا من يوسف فإنهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادة الأصنام.

انتهي.

و ذلك أن الوثنيين يقرون بالله سبحانه في خالقيته لكنهم لا يعبدون إلا الآلهة و الأرباب من دون الله سبحانه - و قد تقدم الكلام في ذلك في الجزء السابق من الكتاب - على أن الآية لا تشتمل إلا على قوله: "و استغفري" من دون أن يذكر المتعلق، و هو ربها المعبود لها في مذهبها.

و ربما قيل: إن الآية تدل على أن العزيز كان فاقدا للغيرة، و الحق أن الذي تدل عليه أنه كان شديد الحب لامرأته.

قوله تعالى: "و قال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين" قصة نسوة مصر مع يوسف في بيت العزيز تتضمنها الآية إلى تمام ست آيات.

و الذي يعطيه التدبر فيها بما ينضم إليها من قرائن الأحوال و ما يستوجبه طبع القصة أنه لما كان من أمر يوسف و العزيزة ما كان، شاع الخبر في المدينة تدريجا، و صارت النساء و هن سيدات المدينة يتحدثن به في مجامعهن و محافلهم فيما بينهن و يعيرن بذلك عزيزة مصر و يعبنها أنها تولهت إلى فتاها و افتتنت به و قد أحاط بها حبا فظلت تراوده عن نفسه، و ضلت به ضلالا مبينا.

و كان ذلك مكرا منهن بها على ما في طبع أكثر النساء من الحسد و العجب فإن المرأة تغلبه العواطف الرقيقة و الإحساسات اللطيفة و ركوز لطف الخلقة و جمال الطبيعة فيها مشعوفة القلب بالزينة و الجمال متعلقة الفؤاد برسوم الدلال، و يورث ذلك فيها و خاصة في الفتيات إعجابا بالنفس و حسدا للغير.

و بالجملة كان تحديثهن بحديث الحب و المراودة مكرا منهن بالعزيزة - و فيه بعض السلوة لنفوسهن و الشفاء لغليل صدورهن - و لما يرين يوسف، و لا شاهدن منه ما شاهدته العزيزة فولها و هتك سترها و إنما كن يتخيلن شيئا و يقايسن قياسا، و أين الرواية من الدراية و البيان من العيان.

و شاع التحديث به في المسامرات حق بلغ الخبر امرأة العزيز تلك التي لا هم لها إلا أن تفوز في طلب يوسف و بلوغ ما تريد منه و لا تعبأ في حبه بشيء من الملك و العزة إلا لأن تتوصل به إلى حبه لها و ميله إليها و إنجاحه لطلبتها فاستيقظت من رقدتها و علمت بمكرهن بها فأرسلت إليهن للحضور لديها و أنهن سيدات و نساء أشراف المدينة و أركان البلاد ممن له رابطة المعاشرة مع بيت العزيز أو لياقة الحضور فيه.

فتهيأن للحضور و تبرزن بأحسن الجمال و أوقع الزينة على ما هو الدأب في أمثال هذه الاحتفالات من أمثال هؤلاء السيدات، و كل تتمنى أن ترى يوسف و تشاهد ما عنده من الحسن الذي أوقع على العزيزة ما أوقع و فضحها.



و العزيزة لا هم لها يومئذ إلا أن تريهن يوسف حتى يعذرنه و يشتغلن عنها بأنفسهن فتتخلص من لسانهن فتأمن مكرهن، و هي لا تعبأ بافتتانهن بيوسف و لا تخاف عليه منهن لأنها - على ما تزعم - مولاته و صاحبته و مالكة أمره، و هو فتاها المخصوص بها، و هي تعلم أن يوسف ليس بالذي يرغب فيهن أو يصبو إليهن و هو لا ينقاد لها فيما تريده منه بما عنده من الاستعصام و الاعتزاز عن هذه الأهواء و الأميال.

ثم لما حضرن عند العزيزة و أخذن مقاعدهن، و وقع الأنس و جرت المحادثة و المفاوضة و أخذن في التفكه آتت كل واحد منهن سكينا و قد هيأت لهن و قدمت إليهن الفاكهة، عند ذلك أمرت يوسف أن يخرج إليهن و قد كان مستورا عنهن.

فلما طلع يوسف عليهن و وقعت عليه أعينهن طارت عقولهن و طاحت أحلامهن و لم يدرين دون أن قطعن أيديهن مكان الفاكهة التي فيها لما دخل عليهن من البهت و الذهول، و هذه خاصة الوله و الفزع فإن نفس الإنسان إذا انجذبت إلى شيء مما تفرط في حبه أو تخافه و تهوله اضطربت و بهتت ففاجأها الموت أو سلبت الشعور اللازم في تدبير القوى و الأعضاء و تنظيم الأمر، فربما أقدم مسرعا إلى الخطر الذي أدهشه لقاؤه و ربما نسي الفرار فبقي كالجماد الذي لا حراك به، و ربما يفعل غير ما هو قاصده و فاعله اختباطا، و نظائرها في جانب الحب كثيرة و حكايات المغرمين و المتولهين من العشاق مشهورة.

و كان هذا هو الفرق بين العزيزة و بينهن فإن استغراقها في حب يوسف إنما حصل لها تدريجا، و أما نساء المدينة فإنهن فوجئن به دفعة فغشيت قلوبهن غاشية الجمال، و غادرهن الحب ففضحهن و أطار عقلهن و أضل رأيهن فنسين الفاكهة و قطعن أيديهن و تركن كل تجلد و اصطبار، و أبدين ما في أنفسهن من وله الحب، و قلن: "حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم".

هذا و هن في بيت العزيز و هو بيت يجب فيه التحفظ على كل أدب و وقار، و كان يجب أن يتقينها و يحتشمن موقعها و هن شريفات ذوات جمال و ذوات بعولة و ذوات خدر و ستر و هذه كلها جهات مانعة عن الخلاعة و التهتك، و هن لم ينسين ما كن بالأمس يتحدثن به و يلمن و يذممن امرأة العزيز في حبها ليوسف و هما في بيت واحد منذ سنين.

فكان من الواجب على كل منهن أن تتقي صواحبها فلا تتهتك و هن يعلمن ما انجر إليه أمر امرأة العزيز من سوء الذكر و فضاحة الشهرة هذا كله و يوسف واقف أمامهن يسمع قولهن و يشاهد صنعهن.

لكن الذي شاهدنه على المفاجأة من حسن يوسف نسخ ما قدرنه من قبل في أنفسهن و بدل مجلس الأدب و الاحتشام حفلة عيش لا يكتم محتفلوها من أنفسهم ضميرا، و لا يبالي حضارها ما قيل أو يقال فيهم و لم يلبثن دون أن قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم" و قد قلن غير بعيد: "امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين".

و كلامهن هذا بعد قولهن ذاك إعذار منهن فمفاده أن الذي كنا نقوله قبل إنما هو حق لو كان هذا بشرا و ليس به و إنما يذم الإنسان و يعاب لو ابتلي بهوى بشر و مراودته و كان في وسعه أن يكتفي عنه بما يكافئه و يغني عنه، و أما الجمال الذي لا يعادله جمال، و يسلب كل حزم و اختيار، فلا لوم على هواه.

و لا ذم في غرامه.



و لهذا انقلب المجلس دفعة، و انقطعت قيود الاحتشام فانبسطن و تظاهرن بالقول في حسن يوسف و كل تتكلم بما في ضميرها منه، و قالت امرأة العزيز: "فذلكن الذي لمتنني فيه و لقد راودته عن نفسه فاستعصم" فأبدت سرا ما كانت تعترف به قبل ثم هددت يوسف تجلدا و حفظا لمقامها عندهن و طمعا في مطاوعته و انقياده: "و لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن و ليكونا من الصاغرين".

و أما يوسف فلم يأخذه شيء من تلك الوجوه الحسان بألحاظها الفتانة و لا التفت إلى شيء من لطيف كلامهن و نعيم مراودتهن أو هائل تهديدها فقد كان وجهة نفسه جمال فوق كل جمال، و جلال يذل عنده كل عزة و جلال فلم يكلمهن بشيء و لم يلتفت إلى ما كانت امرأة العزيز تسمعه من القول، و إنما رجع إلى ربه فقال: "رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين".

و كلامه هذا إذا قيس إلى ما قاله لامرأة العزيز وحدها في مجلس المراودة: "معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون" دل بسياقه على أن هذا المقام كان أشق و أمر على يوسف (عليه السلام) إذ كان بالأمس يقاوم هم امرأة العزيز و يعالج كيدها وحدها، و قد توجهت إليه اليوم همهن و مكايدهن جميعا، و كان ما بالأمس واقعة في خلوة على تستر منها، و هي و هن اليوم متجاهرات في حبه متظاهرات في إغوائه ملجآت على مراودته، و جميع الأسباب و المقتضيات اليوم قاضية لهن عليه أشد مما كانت عليه بالأمس.

و لذا تضرع إلى ربه سبحانه في دفع كيدهن هاهنا، و اكتفى بالاستعاذة إليه سبحانه هناك فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.

و لنرجع إلى البحث عن الآيات.

فقوله تعالى: "و قال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها" إلخ، النسوة اسم جمع للمرأة و تقييد بقوله: في المدينة تفيد أنهن كن من جهة العدد أو الشأن بحال تؤثر قولهن في شيوع الفضيحة.

و امرأة العزيز هي التي كان يوسف في بيتها و قد راودته عن نفسه و العزيز معناه معروف، و قد كان يلقب به السيد الذي اشترى يوسف من السيارة و كان يلقب به الرؤساء بمصر كما لقب به يوسف بعد ما جعل على خزائن الأرض.

و في قوله: "تراود" دلالة على الاستمرار و هو أفحش المراودة، و الفتى الغلام الشاب و المرأة فتاة، و قد شاع تسمية العبد فتى و كأنه بهذه العناية أضيف إلى ضميرها فقيل: "فتاها".

و في المفردات،: "شغفها حبا" أي أصاب شغاف قلبها أي باطنه.

عن الحسن، و قيل: وسطه.

عن أبي علي، و هما يتقاربان انتهى.

و شغاف القلب غلافه المحيط به.

و المعنى: و قال عدة من نساء المدينة لا يخلو قولهن من أثر فيها و في حقها: امرأة تستمر في مراودة عبدها عن نفسه و لا يحري بها ذلك لأنها مرأة و من القحة أن تراود المرأة الرجل بل ذاك - إن كان - من طبع الرجال و أنها امرأة العزيز فهي عزيزة مصر فمن الواجب الذي لا معدل عنه أن تراعي شرف بيتها و عزة زوجها و مكانة نفسها، و إن الذي علقت به عبدها من الشنيع أن يتوله مثلها و هي عزيزة مصر بعبد عبراني من جملة عبيده، و أنها أحبته و تعدت ذلك إلى مراودته فامتنع من إجابتها فلم تنته حتى ألحت و استمرت على مراودته و ذلك أقبح و أشنع و أمعن في الضلال.

و لذلك عقبن قولهن: "امرأة العزيز تراود" إلخ بقولهن: "إنا لنراها في ضلال مبين".

قوله تعالى: "فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن و اعتدت لهن متكأ و آتت كل واحدة منهن سكينا" قال في المجمع،: المكر هو الفتل بالحيلة على ما يراد من الطلبة.

انتهي.



و تسمية هذا القول منهن مكرا بامرأة العزيز لما فيه من فضاحتها و هتك سترها من ناحية رقيباتها حسدا و بغيا، و إنما أرسلت إليهن لتريهن يوسف و تبتليهن بما ابتليت به نفسها فيكففن عن لومها و يعذرنها في حبه.

و على هذا إنما سمي قولهن مكرا و نسب السمع إليه لأنه صدر منهن حسدا و بغيا لغاية فضاحتها بين الناس.

و قيل: إنما كان قولهن مكرا لأنهن جعلنه ذريعة إلى لقاء يوسف لما سمعن من حسنه البديع فإنما قلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز فترسل إليهن ليحضرن عندها فتريهن إياه ليعذرنها فيما عزلنها له فيتخذن ذلك سبيلا إلى أن يراودنه عن نفسه هذا، و الوجه الأول أقرب إلى سياق الآيات.

و قوله: "أرسلت إليهن" معناه معلوم و هو كناية عن الدعوة إلى الحضور عندها.

و قوله: "و اعتدت لهن متكأ و آتت كل واحدة منهن سكينا" الإعتاد الإعداد و التهيئة أي أعدت و هيأت، و المتكأ بضم الميم و تشديد التاء اسم المفعول من الاتكاء، و المراد به ما يتكأ عليه من نمرق أو كرسي كما كان معمولا في بيوت العظماء.

و فسر المتكأ بالأترج و هو نوع من الفاكهة كما قرىء في الشواذ "متكأ" بالضم فالسكون و هو الأترج و قرىء "متكأ" بضم الميم و تشديد التاء من غير همز.

و قوله: "و آتت كل واحدة منهن سكينا" أي لقطع ما يرون أكله من الفاكهة كالأترج أو ما يشابهه من الفواكه المأكولة بالقطع و قوله: "و قالت اخرج عليهن" أي أمرت يوسف أن يخرج عليهن و هن خاليات الأذهان فارغات القلوب مشتغلات بأخذ الفاكهة و قطعها، و في اللفظ دلالة على أنه (عليه السلام) كان غائبا عنهن و كان في مخدع هناك أو بيت آخر في داخل بيت المأدبة الذي كن فيه فإنها قالت: "اخرج عليهن" و لو كان في خارج من البيت لقالت: "ادخل عليهن".

و في السياق دلالة على أن هذا التدبير كان مكرا منها تجاه مكرهن ليفتضحن به فيعذرنها فيما عذلنها و قد أصابت في رأيها حيث نظمت برنامج الملاقاة فاعتدت لهن متكأ و آتت كل واحدة منهن سكينا، و أخفت يوسف عن أعينهن ثم فاجأتهن بإظهاره دفعة لهن ليغبن عن عقولهن، و يندهشن بذاك الجمال البديع و يأتين بما لا يأتي به ذو شعور البتة و هو تقطيع الأيدي مكان الفواكه لا من الواحدة و الثنتين منهن بل من الجميع.

قوله تعالى: "فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن و قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم" الإكبار الإعظام و هو كناية عن اندهاشهن و غيبتهن عن شعورهن و إرادتهن بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكوني العام و هو خضوع الصغير للكبير و قهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته و كبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد و الأفكار فأنساها و صار يتخبط في أعماله.

و لذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن أيديهن تقطيعا مكان الفاكهة التي كن يردن قطعها، و في صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال: قتل القوم تقتيلا و موتهم الجدب تمويتا.



و قوله: "و قلن حاش لله" تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف و هذا كقوله تعالى: "ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم": النور: 16 و هو من أدب الكلام عند المليين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه و تبرئة لأحد يبدأ فينزه الله سبحانه ثم يشتغل بتنزيه من أريد تنزيهه فهن لما أردن تنزيهه (عليه السلام) بقولهن "ما هذا بشرا" إلخ، بدأن بتنزيهه تعالى، ثم أخذن ينزهنه.

و قوله: "ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم" نفي أن يكون يوسف (عليه السلام) بشرا و إثبات أنه ملك كريم، و هذا بناء على ما يعتقده المليون و منهم الوثنيون أن الملائكة موجودات شريفة هم مبادىء كل خير و سعادة في العالم منهم يترشح كل حياة و علم و حسن و بهاء و سرور و سائر ما يتمنى و يؤمل من الأمور ففيهم كل جمال صوري و معنوي، و إذا مثلوا تخيلوا في حسن لا يقدر بقدر، و يتصوره أصحاب الأصنام في صور إنسانية حسنة بهية.

و لعل هذا هو السبب في قولهن: "إن هذا إلا ملك كريم" حيث لم يصفنه بما يدل على حسن الوجه و جمال المنظر مع أن الذي فعل بهن ما فعل هو حسن وجهه و اعتدال صورته بل سمينه ملكا كريما لتكون فيه إشارة إلى حسن صورته و سيرته معا، و جمال خلقه و خلقه و ظاهره و باطنه جميعا.

و الله أعلم.

و تقدم قولهن هذا على قول امرأة العزيز: "فذلكن الذي لمتنني فيه" يدل على أنهن لم يفهمن بهذا الكلام إعذار لامرأة العزيز في حبها له و تيمها و غرامها به، و إنما كان ذلك اضطرارا منهن على الثناء عليه و إظهارا قهريا لانجذاب نفوسهن و توله قلوبهن إليه فقد كان فيه فضاحتهن، و لم تقل امرأة العزيز: "فذلكن الذي لمتنني فيه" إلا بعد ما فضحتهن فعلا و قولا بتقطيع الأيدي و تنزيه الحسن فلم يبق لهن إلا أن يصدقنها فيما تقول و يعذرنها فيما تفعل.

قوله تعالى: "قالت فذلكن الذي لمتنني فيه و لقد راودته عن نفسه فاستعصم" إلى آخر الآية، الكلام في موضع دفع الدخل كان قائلا يقول: فما ذا قالت امرأة العزيز لهن؟ فقيل: "قالت فذلكن الذي لمتنني فيه".

و قد فرعت كلامها على ما تقدمه من قولهن و فعلهن و أشارت إلى شخص الذي لمنها فيه و وصفته بأنه الذي لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها و عزة زوجها و عفة نفسها في حبه، و عذرا قبال لومهن إياها في مراودته، و أقوى البيان أن يحال السامع إلى العيان، و من هذا الباب قوله تعالى "أ هذا الذي يذكر آلهتكم": الأنبياء: 36، و قوله: "ربنا هؤلاء أضلونا": الأعراف: 38.

ثم اعترفت بالمراودة و ذكرت لهن أنها راودته لكنه أخذ بالعفة و طلب العصمة، و إنما استرسلت و أظهرت لهن ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التوله فيه فبثت الشكوى لهن و نبهت يوسف أنها غير تاركته فليوطن نفسه على طاعتها فيما تأمر به، و هذا معنى قولها: "و لقد راودته عن نفسه فاستعصم".

ثم ذكرت لهن ما عزمت عليه من إجباره على الموافقة و سياسته لو خالفت فقالت: "و لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن و ليكونا من الصاغرين" و قد أكدت الكلام بوجوه من التأكيد كالقسم و النون و اللام و نحوها ليدل على أنها عزمت على ذلك عزيمة جازمة، و عندها ما يجبره على ما أرادته و لو استنكف فليوطن نفسه على السجن بعد الراحة، و الصغار و الهوان بعد الإكرام و الاحترام، و في الكلام تجلد و نوع تعزز و تمنع بالنسبة إليهن و نوع تنبيه و تهديد بالنسبة إلى يوسف (عليه السلام).



و هذا التهديد الذي يتضمنه قولها: "و لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن و ليكونا من الصاغرين" أشد و أهول مما سألته زوجها يوم المراودة بقولها: "ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم".

أما أولا: فلأنها رددت الجزاء هناك بين السجن و العذاب الأليم و جمع هاهنا بين الجزاءين و هو السجن و الكون من الصاغرين.

و أما ثانيا فلأنها هاهنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها، و كلامها كلام من لا يتردد فيما عزم عليه و لا يرجع عما جزم به.

و قد حققت أنها تملك قلب زوجها و تقدر أن تصرفه مما يريده إلى ما تريده، و تقوى على التصرف في أمره كيفما شاءت؟.

قوله تعالى: "قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين" قال الراغب في المفردات،: صبا فلان يصبو صبوا و صبوة إذا نزع و اشتاق و فعل فعل الصبيان، قال تعالى: "أصب إليهن و أكن من الجاهلين" انتهى و في المجمع،: الصبوة لطافة الهوى.

انتهي.

تفاوضت امرأة العزيز و النسوة فقالت و قلن و استرسلن في بت ما في ضمائرهن و يوسف (عليه السلام) واقف أمامهن يدعونه و يراودنه عن نفسه لكن يوسف (عليه السلام) لم يلتفت إليهن و لا كلمهن و لا بكلمة بل رجع إلى ربه الذي ملك قلبه بقلب لا مكان فيه إلا له و لا شغل له إلا به "و قال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه" إلخ.

و قوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن و أن يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بإلقائه في السجن، و إنما هو بيان حال لربه و أنه عن تربية إلهية يرجح عذاب السجن في جنب الله على لذة المعصية و البعد منه، فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به و راودته عن نفسه: "معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون" ففي الكلامين معا تمنع و تعزز بالله، و إنما الفرق أنه يخاطب بأحدهما امرأة العزيز و بالآخر ربه القوي العزيز و ليس شيء من الكلامين دعاء البتة.

و في قوله: "رب السجن أحب إلي" إلخ، نوع توطئة لقوله "و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن" إلخ، الذي هو دعاء في صورة بيان الحال.

فمعنى الآية: رب إني لو خيرت بين السجن و بين ما يدعونني إليه لاخترت السجن على غيره و أسألك أن تصرف عني كيدهن فإنك إن لا تصرف عني كيدهن أنتزع و أمل إليهن و أكن من الجاهلين فإني إنما أتوقى شرهن بعلمك الذي علمتنيه و تصرف به عني كيدهن فإن أمسكت عن إفاضته علي صرت جاهلا و وقعت في مهلكة الصبوة و الهوى.

و قد ظهر من الآية بمعونة السياق: أولا: أن قوله: "رب السجن أحب إلي" إلخ، ليس دعاء من يوسف (عليه السلام) على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالإعراض عنهن و الرجوع إليه، و معنى "أحب إلي" أني أختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت، و ليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه إلا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الإنساني و النفس الأمارة.

و إن قوله تعالى: "فاستجاب له ربه" إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله: "و إلا تصرف عني كيدهن" إلخ، من معنى الدعاء.

و يؤيده تعقيبه بقوله: "فصرف عنه كيدهن"، و ليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم.



و من الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن: "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين" و لو كان دعاء بالسجن و استجابة الله سبحانه و قدر له السجن لم يكن التعبير بثم و فصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم.

و ثانيا: أن النسوة دعونه و راودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها و راودته عن نفسه، و أما أنهن دعونه إلى أنفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالأمرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثم أسرت كل واحدة منهن داعية إياه إلى نفسها فالآية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله: "و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن" إذ لو لا دعوة منهن إلى أنفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهن.

و الذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك: "ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن - إلى أن قال - قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين": الآيات: 50 - 52 من السورة.

أنهن دعينه إلى امرأة العزيز و قد أشركهن في القصة ثم قال: "لم أخنه بالغيب" و لم يقل: لم أخن بالغيب و لا قال: لم أخنه و غيره فتدبر فيه.

و مع ذلك فمن المحال عادة أن يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن و يدهش عقولهن و يقطعن أيديهن ثم ينسللن انسلالا و لا يتعرض له أصلا و يذهبن لوجوههن بل العادة قاضية أنهن ما فارقن المجلس إلا و هن متيمات فيه والهات لا يصبحن و لا يمسين إلا و هو همهن و فيه هواهن يفدينه بالنفس و يطمعنه بأي زينة في مقدرتهن و يعرضن له أنفسهن و يتوصلن إلى ما يردنه منه بكل ما يستطعن.

و هو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله: "رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن" فإنه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه الخبير بحاله السميع لمقاله إلا لشدة الأمر عليه و إحاطة المحنة و المصيبة من ناحيتهن به.

و ثالثا: أن تلك القوة القدسية التي استعصم بها يوسف (عليه السلام) كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه، و ليست الأمر الدفعي المفروغ عنه و إلا لانقطعت الحاجة إليه تعالى، و لذا عبر عنه بقوله: "و إلا تصرف عني" و لم يقل: و إن لم تصرف عني و إن كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات.

و لذلك أيضا قال تعالى: "فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن" إلخ فنسب دفع الشر عنه إلى استجابة و صرف جديد.

و رابعا: أن هذه القوة القدسية من قبيل العلوم و المعارف و لذا قال (عليه السلام): "و أكن من الجاهلين" و لم يقل: و أكن من الظالمين، كما قال لامرأة العزيز: "إنه لا يفلح الظالمون" أو أكن من الخائنين كما قال للملك: "و أن الله لا يهدي كيد الخائنين" و قد فرق في نحو الخطاب بينهما و بين ربه فخاطبهما بظاهر الأمر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال: إنه ظلم و الظالم لا يفلح، و إنه خيانة و الله لا يهدي كيد الخائن، و خاطب ربه بحقيقة الأمر و هو أن الصبوة إليهن من الجهل.

و ستوافيك حقيقة الحال في هذين الأمرين في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله تعالى.



قوله تعالى: "فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم" أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال: "و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن" إنه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم.

أبحاث حول التقوى الديني و درجاته
<<        الفهرس        >>