جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج11 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


في فصول

1 - القانون و الأخلاق الكريمة و التوحيد:

لا يسعد القانون إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة و الأخلاق الكريمة لا تتم إلا بالتوحيد فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية و تتفرع بالأخلاق الكريمة، و هذه الفروع هي التي تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع، قال تعالى: "أ لم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار": إبراهيم: 26.

فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل و هو التوحيد لا محالة و أكل تؤتيه كل حين بإذن ربها" و هو العمل الصالح، و فرع و هو الخلق الكريم كالتقوى و العفة و المعرفة و الشجاعة و العدالة و الرحمة و نظائرها.

و قال تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه": الفاطر: 10 فجعل سعادة الصعود إلى الله و هو القرب منه تعالى للكلم الطيب و هو الاعتقاد الحق و جعل العمل الذي يصلح له و يناسبه هو الذي يرفعه و يمده في صعوده.

بيان ذلك: أن من المعلوم أن الإنسان لا يتم له كماله النوعي و لا يسعد في حياته التي لا بغية له أعظم من إسعادها إلا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة و التنوع و ليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعا.

و هذا هو الذي أحوج الإنسان الاجتماعي إلى أن يتسنن بسنن و قوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة و الفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ثم يبادلوا أعمالهم فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله و يقدره وزنه الاجتماعي من غير أن يظلم القوي المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز.

و من المسلم أن هذه السنن و القوانين لا تثبت مؤثرة إلا بسنن و قوانين أخرى جزائية تهدد المتخلفين عن السنن و القوانين المتعدين على حقوق ذوي الحقوق، و تخوفهم بالسيئة قبال السيئة و بأخرى تشوقهم و ترغبهم في عمل الخيرات و تضمن إجراء الجميع القوة الحاكمة التي تحكم فيهم و تتسيطر عليهم بالعدل و الصدق.

و إنما تتحقق هذه الأمنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم و قوية على المجرم، و أما إذا جهلت و وقع الأجرام على جهل منها أو غفلة - و كم له من وجود - فلا مانع يمنع من تحققه، و القوانين لا أيدي لها تبطش بها، و كذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة و العمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشد قوة ضاعت القوانين و فشت التخلفات و التعديات على حقوق الناس، و الإنسان - كما مر مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب - مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه و لو أضر غيره.

و يشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى أزمة جميع الأمور فاستضعف الناس و سلب منهم القدرة على رده إلى العدل و تقويمه بالحق فصار ذا قوة و شوكة لا يقاوم في قوته و لا يعارض في إرادته.



و التواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة و الطواغيت و تحكماتهم الجائرة على الناس، و هو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.

فالقوانين و السنن و إن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، و أحكام الجزاء و إن كانت بالغة في شدتها لا تجري على رسلها في المجتمع و لا تسد باب الخلاف و طريق التخلف إلا بأخلاق فاضلة إنسانية تقطع دابر الظلم و الفساد كملكة اتباع الحق و احترام الإنسانية و العدالة و الكرامة و الحياة و نشر الرحمة و نظائرها.

و لا يغرنك ما تشاهده من القوة و الشوكة في الأمم الراقية و الانتظام و العدل الظاهر فيما بينهم و لم يوضع قوانينهم على أسس أخلاقية حيث لا ضامن لإجرائها فإنهم أمم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم إلا نفع الأمة و خيرها و لا يدفع إلا ما يضر أمته، و لا هم لأمته إلا استرقاق سائر الأمم الضعيفة و استدرارهم، و استعمار بلادهم، و استباحة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم فلم يورثهم هذا التقدم و الرقي إلا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات فقامت الأمة اليوم مقام الفرد بالأمس، و هجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرية و الشرافة و العدالة و الفضيلة و لا يراد بها إلا الرقية و الخسة و الظلم و الرذيلة.

و بالجملة السنن و القوانين لا تأمن التخلف و الضيعة إلا إذا تأسست على أخلاق كريمة إنسانية و استظهرت بها.

ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع و لا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد و هو الإيمان بأن للعالم - و منه الإنسان - إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شيء، و لا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها و سيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه و يعاقب المسيء بإساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين.

و من المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، و كان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم و لو لا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية و التلذذ بلذائذ الحياة المادية، و أقصى ما يمكنه أن يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية أن يفكر في نفسه أن من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي و للاجتماع من الفساد، و إن من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي، و يثني عليه الناس و يمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية.



أما ثناء الناس و تقديرهم العمل فإنما يجري في أمور هامة علموا بها أما الجزئيات و ما لم يعلموا بها كالأعمال السرية فلا وقاء يقيها و أما الذكر الجاري و الاسم السامي و يؤثر غالبا فيما فيه تفدية و تضحية من الأمور كالقتل في سبيل الوطن و بذل المال و الوقت في ترفيع مباني الدولة و نحو ذلك فليس ممن يبتغيه و يذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلا اعتقادا خرافيا إذ لا إنسان - على هذا - بعد الموت و الفوت حتى يعود إليه شيء من النفع بثناء أو حسن ذكر و أي عاقل يشتري تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه و ليس عنده بعد الموت إلا البطلان و الاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه و التفات.

فقد تبين أن شيئا عن هذه الأمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد، و لا أن يخلفه في صد الإنسان عن المعصية و نقض السنن و القوانين و خاصة إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس و خاصة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم أنه كان شرها و بغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (عليه السلام)، و قد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته و بين اتهام المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (عليه السلام) - و لا كان من الحري أن يمنعه - شيء إلا العلم بمقام ربه.

2 - يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة و إن شئت فقل:

إنه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة: الخوف و الرجاء و الحب، قال تعالى: "في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور": الحديد: 20 فعلى المؤمن أن يتنبه لحقيقة الدنيا و هي أنها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فعليه أن لا يجلعها غاية لأعماله في الحياة، و أن يعلم أن له وراءها دارا و هي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله، و هي عذاب شديد للسيئات يجب أن يخافه و يخاف الله فيه، و مغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها و يرجو الله فيها، و رضوان من الله يجب أن يقدمه لرضى نفسه.

و طباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة و اختيارها فبعضهم و هو الغالب يغلب على نفسه الخوف، و كلما فكر فيما أوعد الله الظالمين و الذين ارتكبوا المعاصي و الذنوب من أنواع العذاب الذي أعد لهم زاد في نفسه خوفا و لفرائصه ارتعادا و يساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.

و بعضهم يغلب على نفسه الرجاء و كلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات من النعمة و الكرامة و حسن العاقبة زاد رجاء و بالغ في التقوى و التزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة و الجنة.

و طائفة ثالثا و هم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه و إنما يعبدونه لأنه أهل للعبادة و ذلك لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى و الصفات العليا فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم و إرادتهم و رضاهم و كل شيء غيرهم، و يدبر الأمر وحده و ليسوا إلا عباد الله فحسب، و ليس للعبد إلا أن يعبد ربه، و يقدم مرضاته و إرادته على مرضاته و إرادته، فهم يعبدون الله و لا يريدون في شيء من أعمالهم فعلا أو تركا إلا وجهه، و لا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم، و لا إلى ثواب يرجيهم، و إن خافوا عذابه و رجوا رحمته، و إلى هذا يشير قوله (عليه السلام): "ما عبدتك خوفا من نارك و لا رغبة في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك".



و هؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم و محضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية و ذلك أنهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه، و قد سمى نفسه بأحسن الأسماء و وصف ذاته بكل صفة جميلة و من خاصة النفس الإنسانية أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق و قال تعالى: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه": الأنعام: 102 ثم قال: "الذي أحسن كل شيء خلقه": الم السجدة: 7 فأفاد أن الخلقة تدور مدار الحسن و أنهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة أن ما خلقه من شيء آية تدل عليه و إن في السماوات و الأرض لآيات لأولي الألباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى و لا يحكي شيئا من جماله و جلاله.

فالأشياء من جهة أنواع خلقها و حسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى و يحمده و يثني على حسنه الذي لا يفنى، و من جهة ما فيها من أنواع النقص و الحاجة تدل على غناه المطلق و تسبح و تنزه ساحة القدس و الكبرياء كما قال تعالى: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده": إسراء: 44.

فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربهم و عرفها لهم و هو أنها آيات له و علامات لصفات جماله و جلاله، و ليس لها من النفسية و الأصالة و الاستقلال إلا أنها كمرائي تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي و بفقرها و حاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، و بذلتها و استكانتها ما فوقها من العزة و الكبرياء، و لا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزة و العظمة و يغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه و كل شيء، و يمحو رسم الأهواء و الأميال النفسانية عن باطنه، و يبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلا الله عز اسمه قال تعالى: "و الذين آمنوا أشد حبا لله": البقرة: 165.

و لذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفا و طريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فإن الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أن من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة و الكرامة، و لو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده و لا حام حول معرفته، و قد تقدمت الرواية - عن الصادق (عليه السلام): "هل الدين إلا الحب" و قوله (عليه السلام) في حديث: "و إني أعبده حبا له و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون" الحديث، و إنما كان أهل الحب مطهرين لتنزههم عن الأهواء النفسانية و الألواث المادية فلا يتم الإخلاص في العبادة إلا من طريق الحب.

3 - كيف يورث الحب الإخلاص؟

عبادته تعالى: خوفا من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك و هو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة فالزاهد من شأنه أن يتجنب المحرمات أو ما في معنى الحرام أعني ترك الواجبات، و عبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الأفعال و هو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة و الجنة فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب و هو ترك الحرام، و الطريقان معا إنما يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لرب الدين.

و أما محبة الله سبحانه فإنها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا و زينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس و ما لها من حظوظ و آمال، و تقصر القلب في التعلق به تعالى و بما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولي و سائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فإن حب الشيء حب لآثاره.

فهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه الله و يبغض منها ما يبغضه الله و يرضى برضا الله و لرضاه و يغضب بغضب الله و لغضبه، و هو النور الذي يضيء له طريق العمل، قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس": الأنعام: 122.



و الروح الذي يشير إليه بالخيرات و الأعمال الصالحات، قال تعالى: "و أيدهم بروح منه": المجادلة: 22 و هذا هو السر في أنه لا يقع منه إلا الجميل و الخير و يتجنب كل مكروه و شر.

و أما الموجودات الكونية و الحوادث الواقعة فإنه لا يقع بصره على شيء منها خطير أو حقير، كثير أو يسير إلا أحبه و استحسنه لأنه لا يرى منها إلا أنها آيات محضة تجلى له ما وراءها من الجمال المطلق و الحسن الذي لا يتناهى العاري من كل شين و مكروه.

و لذلك كان هذا الإنسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه و لذة و ابتهاج لا ألم و لا حزن معه، و أمن لا خوف معه، فإن هذه العوارض السوء إنما تطرأ عن إدراك للسوء و ترقب للشر و المكروه، و من كان لا يرى إلا الخير و الجميل و لا يجد إلا ما يجري على وفق إرادته و رضاه فلا سبيل للغم و الحزن و الخوف و كل ما يسوء الإنسان و يؤذيه إليه بل ينال من السرور و الابتهاج و الأمن ما لا يقدره و لا يحيط به إلا الله سبحانه و هذا أمر ليس في وسع النفوس العادية أن تتعقله و تكتنهه إلا بنوع من التصور الناقص.

و إليه يشير أمثال قوله تعالى: "إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون": يونس: 63، و قوله: "الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون": الأنعام: 82.

و هؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم و بين ربهم شيء مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين، و يكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه و بينهم كما يشير إليه قوله تعالى: "كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين و ما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون": المطففين: 21، و قوله تعالى: "كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم": التكاثر: 6 و قد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم": المائدة: 105 في الجزء السادس من الكتاب.

و بالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لأمره إذ لا يرون إلا خيرا و لا يشاهدون إلا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة و الأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه لله قال تعالى: "هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين": المؤمن: 65.

4 - و أما إخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوبا إليه تعالى فإن العبد لا يملك من نفسه شيئا إلا بالله، و الله سبحانه هو المالك لما ملكه إياه فإخلاصه دينه - و إن شئت فقل: إخلاصه نفسه لله هو إخلاصه تعالى إياه لنفسه.



نعم هاهنا شيء و هو أن الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة و اعتدال الخلقة فنشئوا من بادىء الأمر بأذهان وقادة و إدراكات صحيحة و نفوس طاهرة و قلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة و سلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد و الكسب بل أعلى و أرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع و المزاحمات و الظاهر أن هؤلاء هم المخلصون - بالفتح - لله في عرف القرآن.

و هؤلاء هم الأنبياء و الأئمة، و قد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه و أخلصهم لحضرته، قال تعالى: "و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم": الأنعام: 87، و قال: "هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج": الحج: 78.

و آتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب و ارتكاب المعاصي، و تمتنع معه صدور شيء منها عنهم صغيرة أو كبيرة، و بهذا يمتاز العصمة من العدالة فإنهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.

و قد تقدم آنفا أن من خاصة هؤلاء القوم أنهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم، و الله سبحانه يصدق ذلك بقوله: "سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين": الصافات: 160، و إن المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلا ما يريده الله و ينصرفوا عن المعاصي و الله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله: "قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين": ص: 83.

و من الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) "و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يضرونك من شيء و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما": النساء: 113 و قد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.

و قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): "قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين": يوسف: 33 و قد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.

و يظهر من ذلك أولا: أن هذا العلم يخالف سائر العلوم في أن أثره العملي و هو صرف الإنسان عما لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فإن الصرف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى: "و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم": النمل 14: و قال: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم": الجاثية: 23، و قال: "فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم": الجاثية: 17.

و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: "سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين": الصافات: 160، و ذلك أن هؤلاء المخلصين من الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة بأسمائه تعالى و صفاته من طريق السمع، و قد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضا، و الآية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به أولئك المخلصون فليس إلا أن العلم غير العلم و إن كان متعلق العلمين واحدا من وجه.



و ثانيا: أن هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية و لا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار كيف؟ و العلم من مبادىء الاختيار، و مجرد قوة العلم لا يوجب إلا قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سما قاتلا من حينه فإنه يمتنع باختياره من شربه قطعا و إنما يضطر الفاعل و يجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل و الترك من الإمكان إلى الامتناع.

و يشهد على ذلك قوله: "و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون": الأنعام: 88 تفيد الآية أنهم في إمكانهم أن يشركوا بالله و إن كان الاجتباء و الهدى الإلهي مانعا من ذلك، و قوله: "يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته": المائدة: 67 إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنما ينصرف عن المعصية بنفسه و اختياره و إرادته و نسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

و لا ينافي ذلك أيضا ما يشير إليه كلامه تعالى و يصرح به الأخبار أن ذلك من الأنبياء و الأئمة بتسديد من روح القدس فإن النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان و نسبة الضلال و الغواية إلى الشيطان و تسويله فإن شيئا من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا إلى اختياره و إرادته فافهم ذلك.

نعم هناك قوم زعموا أن الله سبحانه إنما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره و إرادته بل من طريق منازعة الأسباب و مغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها و يحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القوي الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.

و بعض هؤلاء و إن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا و أشباهه أنهم يرون أن حاجة الأشياء إلى البارىء الحق سبحانه إنما هي في حدوثها، و أما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب إلا أنه لما كان أقدر و أقوى من كل شيء كان له أن يتصرف في الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء من منع أو إطلاق و إحياء أو إماتة و معافاة أو تمريض و توسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبدا عن شر مثلا أرسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه و يغير مجرى إرادته مثلا عن الشر إلى الخير أو أراد أن يضل عبدا لاستحقاقه ذلك سلط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر و إن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار و الاضطرار.

و هذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير و الشر مشاهدة عيان أنه ليس هناك سبب آخر يغايرنا و ينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها و إرادة مترتبة عليه قائمين بها فالذي يثبته السمع و العقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك و الشيطان سبب طولي لا عرضي و هو ظاهر.

مضافا إلى أن المعارف القرآنية من التوحيد و ما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله، و قد تقدم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الأبحاث السالفة.

بحث روائي



في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن السجاد (عليه السلام) في حديث تقدم صدره في البحث الروائي السابق. قال (عليه السلام): و كان يوسف من أجمل أهل زمانه فلما راهق يوسف راودته امرأة الملك عن نفسه فقال: معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون فغلقت الأبواب عليها و عليه و قالت: لا تخف و ألقت نفسها عليه فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فالفيا سيدها لدى الباب قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال: فهم الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف: ما أردت بأهلك سوءا بل هي راودتني عن نفسي فسل هذا الصبي أينا راود صاحبه عن نفسه؟ قال: كان عندها من أهلها صبي زائر لها فأنطق الله الصبي لفصل القضاء فقال: أيها الملك انظر إلى قميص يوسف فإن كان مقدودا من قدامه فهو الذي راودها، و إن كان مقدودا من خلفه فهي التي راودته. فلما سمع الملك كلام الصبي و ما اقتصه أفزعه ذلك فزعا شديدا فجيء بالقميص فنظر إليه فلما رآه مقدودا من خلفه قال لها: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. و قال ليوسف: أعرض عن هذا و لا يسمعه منك أحد و اكتمه. قال: فلم يكتمه يوسف و أذاعه في المدينة حتى قلن نسوة منهن: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه فبلغها ذلك فأرسلت إليهن، و هيأت لهن طعاما و مجلسا ثم أتتهن بأترنج و آتت كل واحدة منهن سكينا ثم قالت ليوسف اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن و قلن ما قلن يعني النساء فقالت لهن: هذا الذي لمتنني فيه تعني في حبه. و خرجن النسوة من تحتها فأرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى عليهن و قال: إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين و صرف الله عنه كيدهن. فلما شاع أمر يوسف و امرأة العزيز و النسوة في مصر بدا للملك بعد ما سمع قول الصبي ليسجنن يوسف فسجنه في السجن و دخل السجن مع يوسف فتيان، و كان من قصتهما و قصة يوسف ما قصه الله في الكتاب. قال أبو حمزة: ثم انقطع حديث علي بن الحسين (عليهما السلام).

أقول و روى ما في معناه العياشي في تفسيره عن أبي حمزة عنه (عليه السلام) باختلاف يسير، و قوله (عليه السلام): "قال معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون" تفسير بقرينة المحاذاة لقوله في الآية: "إنه ربي أحسن مثواي" إلخ و هو يؤيد ما قدمناه في بيان الآية أن الضمير إلى الله سبحانه لا إلى عزيز مصر كما ذهب إليه أكثر المفسرين فافهم ذلك.

و قوله: فأبى عليهن و قال: "إلا تصرف عني" إلخ ظاهر في أنه (عليه السلام) لم يأخذ قوله: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه" جزءا من الدعاء فيوافق ما قدمناه في بيان الآية أنه ليس بدعاء.

و في العيون، بإسناده عن حمدان عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون: قال: بلى و ذكر الحديث إلى أن قال فيه: فأخبرني عن قول الله تعالى: "و لقد همت به و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه" فقال الرضا (عليه السلام): لقد همت به و لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها لكنه كان معصوما، و المعصوم لا يهم بذنب و لا يأتيه. و لقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنه قال: همت بأن تفعل و هم بأن لا يفعل فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.

أقول: تقدم أن ابن الجهم هذا لا يخلو عن شيء لكن صدر الحديث أعني جواب الرضا (عليه السلام) يوافق ما قدمناه في بيان الآية و أما ما نقله عن جده الصادق (عليه السلام) "أنها همت بأن تفعل و هم بأن لا يفعل" فلعل المراد به ما ذكره الرضا (عليه السلام) من الجواب لقبوله الانطباق عليه و لعل المراد به همه بقتلها كما يؤيده الحديث الآتي فينطبق على بعض الاحتمالات المتقدمة في بيان الآية.

و فيه، بإسناده عن أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام و من الديانات من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد إلا و قد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا. قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال: يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء؟ فقال: نعم. فقال له فما تقول في قوله عز و جل في يوسف: "و لقد همت به و هم بها"؟ فقال له: أما قوله تعالى في يوسف: "و لقد همت به و هم بها" فإنها همت بالمعصية و هم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظيم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها و الفاحشة. و هو قوله عز و جل: "كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء" و السوء القتل و الفحشاء الزنا.



و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب: في قوله: "و لقد همت به و هم بها" قال: طمعت فيه و طمع فيها، و كان من الطمع أن هم بحل التكة فقامت إلى صنم مكلل بالدر و الياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها و بينه فقال: أي شيء تصنعين؟ فقالت: أستحيي من إلهي أن يراني على هذه الصورة فقال يوسف (عليه السلام): تستحين من صنم لا يأكل و لا يشرب، و لا أستحيي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تنالينها مني أبدا. و هو البرهان الذي رأى.

أقول: و الرواية من الموضوعات كيف؟ و كلامه و كلام سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مشحون بذكر عصمة الأنبياء و مذهبهم في ذلك مشهور.

على أن سترها الصنم و انتقاله من ذلك إلى ما ذكره لها من الحجة لا يعد من رؤية البرهان، و قد ورد هذا المعنى في عدة روايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) لكنها آحاد لا تعويل عليها.

نعم لا يبعد أن تقوم المرأة إلى ستر صنم كان هناك فتنزع نفس يوسف (عليه السلام) إلى مشاهدة آية التوحيد عند ذلك فيرتفع الحجاب بينه و بين ساحة الكبرياء فيرى ما يصرفه عن كل سوء و فحشاء كما كان له ذلك من قبل، و قد قال تعالى في حقه: إنه من عبادنا المخلصين.

فإن صح شيء من هذه الروايات فليكن هذا معناه.

و فيه،: أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: حين هم بها فسجن، و حين قال: "اذكرني عند ربك" فلبث في السجن بضع سنين فأنساه الشيطان ذكر ربه. و حين قال: "إنكم لسارقون" قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.

أقول: و الرواية تخالف صريح كلامه تعالى حيث يذكر أن الله اجتباه و أخلصه لنفسه و أن الشيطان لا سبيل له إلى من أخلصه الله لنفسه و كيف يستقيم لمن هم على أفحش معصية و أنساه الشيطان ذكر ربه ثم كذب في مقاله فعاقبه الله بالسجن ثم بلبثه فيه بضع سنين و جبه بالسرقة أن يعده الله صديقا من عباده المخلصين و المحسنين، و يذكر أنه آتاه الحكم و العلم و اجتباه و أتم عليه نعمته، و على هذا السبيل روايات جمة رواها في الدر المنثور، و قد تقدم نقل شطر منها عند بيان الآيات، و لا تعويل على شيء منها.

و فيه، أخرج أحمد و ابن جرير و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تكلم أربعة و هم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، و شاهد يوسف، و صاحب جريح، و عيسى بن مريم.

و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "قد شغفها حبا" يقول: قد حجبها حبه عن الناس فلا تعقل غيره، و الحجاب هو الشغاف، و الشغاف هو حجاب القلب.

و فيه، في حديث جمعها النسوة و تقطيعهن أيديهن قال: فما أمسى يوسف (عليه السلام) في ذلك اليوم حتى بعثت إليه كل امرأة رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه - و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن - و أكن من الجاهلين فاستجاب له ربه - فصرف عنه كيدهن.

الحديث.

12 سورة يوسف - 35 - 42

ثُمّ بَدَا لهَُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الاَيَتِ لَيَسجُنُنّهُ حَتى حِينٍ (35) وَ دَخَلَ مَعَهُ السجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنى أَرَاخ أَعْصِرُ خَمْراً وَ قَالَ الاَخَرُ إِنى أَرَاخ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسى خُبزاً تَأْكلُ الطيرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاك مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمّا عَلّمَنى رَبى إِنى تَرَكْت مِلّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ هُم بِالاَخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ (37) وَ اتّبَعْت مِلّةَ ءَابَاءِى إِبْرَهِيمَ وَ إِسحَقَ وَ يَعْقُوب مَا كانَ لَنَا أَن نّشرِك بِاللّهِ مِن شىْءٍ ذَلِك مِن فَضلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَ عَلى النّاسِ وَ لَكِنّ أَكثرَ النّاسِ لا يَشكُرُونَ (38) يَصحِبىِ السجْنِ ءَ أَرْبَابٌ مّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ اللّهُ الْوَحِدُ الْقَهّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلا أَسمَاءً سمّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَ ءَابَاؤُكم مّا أَنزَلَ اللّهُ بهَا مِن سلْطنٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا للّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيّاهُ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لَكِنّ أَكثرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يَصحِبىِ السجْنِ أَمّا أَحَدُكُمَا فَيَسقِى رَبّهُ خَمْراً وَ أَمّا الاَخَرُ فَيُصلَب فَتَأْكلُ الطيرُ مِن رّأْسِهِ قُضىَ الأَمْرُ الّذِى فِيهِ تَستَفْتِيَانِ (41) وَ قَالَ لِلّذِى ظنّ أَنّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكرْنى عِندَ رَبِّك فَأَنساهُ الشيْطنُ ذِكرَ رَبِّهِ فَلَبِث فى السجْنِ بِضعَ سِنِينَ (42)

بيان

تتضمن الآيات شطرا من قصته (عليه السلام) و هو دخوله السجن و مكثه فيه بضع سنين و هو مقدمة تقربه التام عند الملك و نيله عزة مصر، و فيه دعوته في السجن إلى دين التوحيد، و قد جاء ببيان عجيب، و إظهاره لأول مرة أنه من أسرة إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

قوله تعالى "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين" البداء هو ظهور رأي بعد ما لم يكن يقال؟ بدا لي في أمر كذا أي ظهر لي فيه رأي جديد، و الضمير في قوله: "لهم" إلى العزيز و امرأته و من يتلوهما من أهل الاختصاص و أعوان الملك و العزة.

و المراد بالآيات الشواهد و الأدلة الدالة على براءة يوسف (عليه السلام) و طهارة ذيله مما اتهموه به كشهادة الصبي و قد القميص من خلفه و استباقهما الباب معا، و لعل منها تقطيع النسوة أيديهن برؤيته و استعصامه عن مراودتهن إياه عن نفسه و اعتراف امرأة العزيز لهن أنها راودته عن نفسه فاستعصم.

و قوله: "ليسجننه" اللام فيه للقسم أي أقسموا و عزموا ليسجننه البتة، و هو تفسير للرأي الذي بدا لهم، و يتعلق به قوله: "حتى حين" و لا يخلو من معنى الانتظار بالنظر إلى قطع حين عن الإضافة و المعنى على هذا ليسجننه حتى ينقطع حديث المراودة الشائع في المدينة و ينساه الناس.

و معنى الآية: ثم ظهر للعزيز و من يتلوه من امرأته و سائر مشاوريه رأي جديد في يوسف من بعد ما رأوا هذه الآيات الدالة على براءته و عصمته و هو أن يسجنوه حينا من الزمان حتى ينسى حديث المراودة الذي يجلب لهم العار و الشين و أقسموا على ذلك.

و يظهر بذلك أنهم إنما عزموا على ذلك لمصلحة بيت العزيز و صونا لأسرته عن هوان التهمة و العار، و لعل من غرضهم أن يتحفظوا على أمن المدينة العام و لا يخلوا الناس و خاصة النساء أن يفتتنوا به فإن هذا الحسن الذي أوله امرأة العزيز و السيدات من شرفاء المدينة و فعل بهم ما فعل من طبعه أن لا يلبث دون أن يقيم في المدينة بلوى.

لكن الذي يظهر من قوله في السجن لرسول الملك: "ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن" إلى آخر ما قال، ثم قول الملك لهن: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه، و قولهن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء ثم قول امرأة العزيز: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين، كل ذلك يدل على أن المرأة ألبست الأمر بعد على زوجها و أرابته في براءة يوسف (عليه السلام) فاعتقد خلاف ما دلت عليه الآيات أو شك في ذلك، و لم يكن ذلك إلا عن سلطة تامة منها عليه و تمكن كامل من قلبه و رأيه.

و على هذا فقد كان سجنه بتوسل أو بأمر منها لتدفع بذلك تهمة الناس عن نفسها و تؤدب يوسف لعله ينقاد لها و يرجع إلى طاعتها فيما كانت تأمره به كما هددته به بمحضر من النسوة بقولها: "و لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن و ليكونا من الصاغرين".

قوله تعالى: "و دخل معه السجن فتيان" إلى آخر الآية الفتى العبد و سياق الآيات يدل على أنهما كانا عبدين من عبيد الملك، و قد وردت به الروايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.



و قوله: "قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا" فصل قوله: "قال أحدهما" للدلالة على الفصل بين حكاية الرؤيا و بين الدخول كما يشعر به ما في السياق من قوله: "أراني" و خطابه له بصاحب السجن.

و قوله: "أراني" لحكاية الحال الماضية كما قيل، و قوله: "أعصر خمرا" أي أعصر عنبا كما يعصر ليتخذ خمرا فقد سمي العنب خمرا باعتبار ما يؤول إليه.

و المعنى أصبح أحدهما و قال ليوسف (عليه السلام) إني رأيت فيما يرى النائم إني أعصر عنبا للخمر.

و قوله: "و قال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه" أي تنهشه و هي رؤيا أخرى ذكرها صاحبه.

و قوله: "نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين" أي قالا نبئنا بتأويله فاكتفى عن ذكر الفعل بقوله: "قال" "و قال" و هذا من لطائف تفنن القرآن، و الضمير في قوله: "بتأويله" راجع إلى ما يراه المدلول عليه بالسياق، و في قوله: "إنا نراك من المحسنين" تعليل لسؤالهما التأويل و "نراك" أي نعتقدك من المحسنين لما نشاهد فيك من سيماهم، و إنما أقبلا عليه في تأويل رؤياهما لإحسانه، لما يعتقد عامة الناس أن المحسنين الأبرار ذوو قلوب طاهرة و نفوس زاكية فهم ينتقلون إلى روابط الأمور و جريان الحوادث انتقالا أحسن و أقرب إلى الرشد من انتقال غيرهم.

و المعنى: قال أحدهما ليوسف: إني رأيت فيما يرى النائم كذا و قال الآخر: إني رأيت كذا، و قالا له: أخبرنا بتأويل ما رآه كل منا لأنا نعتقد من المحسنين، و لا يخفى لهم أمثال هذه الأمور الخفية لزكاء نفوسهم و صفاء قلوبهم.

قوله تعالى: "قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما" لما أقبل صاحبا السجن على يوسف (عليه السلام) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها عن حسن ظن به من جهة ما كانا يشاهدان منه سيماء المحسنين اغتنم (عليه السلام) الفرصة في بث ما عنده من أسرار التوحيد و الدعوة إلى ربه سبحانه الذي علمه ذلك فأخبرهما أنه عليم بذلك بتعليم من ربه خبير بتأويل الأحاديث و توسل بذلك إلى الكشف عن سر التوحيد و نفي الشركاء ثم أول رؤياهما.

فقال أولا: لا يأتيكما طعام ترزقانه - و أنتما في السجن - إلا نبأتكما بتأويله - أي بتأويل ذاكما الطعام و حقيقته و ما يؤول إليه أمره - فأنا خبير بذلك فليكن آية لصدقي فيما أدعوكما إليه من دين التوحيد.

هذا على تقدير عود الضمير في قوله: "بتأويله" إلى الطعام، و يكون عليه إظهارا منه (عليه السلام) لآية نبوته نظير قول المسيح (عليه السلام) لبني إسرائيل: "و أنبؤكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين": آل عمران: 49، و يؤيد هذا المعنى بعض الروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) كما سيأتي في بحث روائي إن شاء الله تعالى.

و أما على تقدير عود ضمير "بتأويله" إلى ما رأياه من الرؤيا فقوله: "لا يأتيكما طعام" إلخ، وعد منه لهما تأويل رؤياهما و وعد بتسريعه غير أن هذا المعنى لا يخلو من بعد بالنظر إلى السياق.



قوله تعالى: "ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله و هم بالآخرة هم كافرون و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب" بين (عليه السلام) أن العلم و التنبؤ بتأويل الأحاديث ليس من العلم العادي الاكتسابي في شيء بل هو مما علمه إياه ربه ثم علل ذلك بتركه ملة المشركين و اتباعه ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب أي رفضه دين الشرك و أخذه بدين التوحيد.

و المشركون من أهل الأوثان يعتقدون بالله سبحانه و يثبتون يوم الجزاء بالقول بالتناسخ كما تقدم في الجزء السابق من الكتاب لكن دين التوحيد يحكم أن الذي يقدر له شركاء في التأثير أو في استحقاق العبادة ليس هو الله و كذا عود النفوس بعد الموت بأبدان أخرى تتنعم فيها أو تعذب ليس من المعاد في شيء، و لذلك نفى (عليه السلام) عنهم الإيمان بالله و بالآخرة، و أكد كفرهم بالآخرة بتكرار الضمير حيث قال: "و هم بالآخرة هم كافرون" و ذلك لأن من لا يؤمن بالله فأحرى به أن لا يؤمن برجوع العباد إليه.

و هذا الذي يقصه الله سبحانه من قول يوسف (عليه السلام): "و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب" هو أول ما أنبأ في مصر نسبه و أنه من أهل بيت إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليهما السلام).

قوله تعالى: "ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون" أي لم يجعل الله سبحانه لنا أهل البيت سبيلا إلى أن نشرك به شيئا و منعنا من ذلك، ذلك المنع من فضل الله و نعمته علينا أهل البيت و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون فضله تعالى بل يكفرون به.

و أما أنه تعالى جعلهم بحيث لا سبيل لهم إلى أن يشركوا به فليس جعل إجبار و إلجاء بل جعل تأييد و تسديد حيث أنعم عليهم بالنبوة و الرسالة و الله أعلم حيث يجعل الرسالة فاعتصموا بالله عن الشرك و دانوا بالتوحيد.

و أما أن ذلك من فضل الله عليهم و على الناس فلأنهم أيدوا بالحق و هو أفضل الفضل و الناس في وسعهم أن يرجعوا إليهم فيفوزوا باتباعهم و يهتدوا بهداهم.

و أما أن أكثر الناس لا يشكرون فلأنهم يكفرون بهذه النعمة و هي النبوة و الرسالة فلا يعبئون بها و لا يتبعون أهلها أو لأنهم يكفرون بنعمة التوحيد و يتخذون لله سبحانه شركاء من الملائكة و الجن و الإنس يعبدونهم من دون الله.

هذا ما ذكره أكثر المفسرين في معنى الآية.

و يبقى عليه شيء و هو أن التوحيد و نفي الشركاء ليس مما يرجع فيه إلى بيان النبوة فإنه مما يستقل به العقل و تقضي به الفطرة فلا معنى لعده فضلا على الناس من جهة الاتباع بل هم و الأنبياء في أمر التوحيد على مستوى واحد و شرع سواء و لو كفروا بالتوحيد فإنما كفروا لعدم إجابتهم لنداء الفطرة لا لعدم اتباع الأنبياء.



لكن يجب أن يعلم أنه كما أن من الواجب في عناية الله سبحانه أن يجهز نوع الإنسان مضافا إلى الهامة من طريق العقل الخير و الشر و التقوى و الفجور بما يدرك به أحكام دينه و قوانين شرعه و هو سبيل النبوة و الوحي، و قد تكرر توضيحه في أبحاثنا السابقة كذلك من الواجب في عنايته أن يجهز أفرادا منه بنفوس طاهرة و قلوب سليمة مستقيمة على فطرتها الأصلية لازمة لتوحيده ممتنعة عن الشرك به يستبقي به أصل التوحيد عصرا بعد عصر و يحيى به روح السعادة جيلا بعد جيل، و البرهان عليه هو البرهان على النبوة و الوحي فإن الواحد من الإنسان العادي لا يمتنع عليه الشرك و نسيان التوحيد، و الجائز على الواحد جائز على الجميع و في تلبس الجميع بالشرك فساد النوع في غايته و بطلان الغرض الإلهي في خلقته.

فمن الواجب أن يكون في النوع رجال متلبسون بإخلاص التوحيد يقومون بأمره و يدافعون عنه و ينبهون الناس عن رقدة الغفلة و الجهالة بإلقاء حججه و بث شواهده و آياته و بينهم و بين الناس رابطة التعليم و التعلم دون السوق و الاتباع.

و هذه النفوس إن كانت فهي نفوس الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام)، و في خلقهم و بعثهم فضل من الله سبحانه عليهم بتعليم توحيده لهم، و على الناس بنصب من يذكرهم الحق الذي تقضي به فطرتهم و يدافع عن الحق تجاه غفلتهم و ضلالتهم فإن اشتغال الناس بالأعمال المادية و مزاولتهم للأمور الحسية تجذبهم إلى اللذات الدنيوية و تحرضهم على الإخلاد إلى الأرض فتبعدهم عن المعنويات و تنسيهم ما في فطرهم من المعارف الإلهية، و لو لا رجال متألهون متولهون في الله الذين أخلصهم بخالصة ذكرى الدار في كل برهة من الزمان لأحيطت الأرض بالعماء، و انقطع السبب الموصول بين الأرض و السماء، و بطلت غاية الخلقة، و ساخت الأرض بأهلها.

و من هنا يظهر أن الحق أن تنزل الآية على هذه الحقيقة فيكون معنى الآية: لم يجعل لنا بتأييد من الله سبيل إلى أن نشرك بالله شيئا، ذلك أي كوننا في أمن من الشرك من فضل الله علينا لأنه الهدى الذي هو سعادة الإنسان و فوزه العظيم.

و على الناس لأن في ذلك تذكيرهم إذا نسوا و تنبيههم إذا غفلوا، و تعليمهم إذا جهلوا، و تقويمهم إذا عوجوا و لكن أكثر الناس لا يشكرون الله بل يكفرون بهذا الفضل فلا يعبئون به و لا يقبلون عليه بل يعرضون عنه.

هذا.

و ذكر بعضهم في معنى الآية: أن المشار إليه بقوله: "ذلك من فضل الله علينا" إلخ، هو العلم بتأويل الأحاديث.

و هو كما ترى بعيد من سياق الآية.

قوله تعالى: "يا صاحبي السجن أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار" لفظة الخير بحسب الوزن صفة من قولهم: خار يخار خيرة إذا انتخب و اختار أحد شيئين يتردد بينهما من حيث الفعل أو من حيث الأخذ بوجه فالخير منهما هو الذي يفضل على الآخر في صفة المطلوبية فيتعين الأخذ به فخير الفعلين هو المطلوب منهما الذي يتعين القيام به و خير الشيئين هو المطلوب منهما من جهة الأخذ به كخير المالين من جهة التمتع به و خير الدارين من جهة سكناها و خير الإنسانين من جهة مصاحبته، و خير الرأيين من جهة الأخذ به، و خير الإلهين من جهة عبادته، و من هنا ذكر أهل الأدب أن الخير في الأصل "أخير" أفعل تفضيل، و الحقيقة أنه صفة مشبهة تفيد بحسب المادة ما يفيده أفعل التفضيل من الفضل في القياس.



و بما مر يتبين أن قوله (عليه السلام): "أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار" إلخ مسوق لبيان الحجة على تعينه تعالى للعبادة إذا فرض تردد الأمر بينه و بين سائر الأرباب التي تدعى من دون الله لا لبيان أنه تعالى هو الحق الموجود دون غيره من الأرباب أو أنه تعالى هو الإله الذي تنتهي إليه الأشياء بدءا و عودا دونها أو غير ذلك فإن الشيء إنما يسمى خيرا من جهة طلبه و تعيينه بالأخذ به بنحو فقوله (عليه السلام): أ هو خير أم سائر الأرباب يريد به السؤال عن تعين أحد الطرفين من جهة الأخذ به و الأخذ بالرب هو عبادته.

ثم إنه (عليه السلام) سمى آلهتهم أربابا متفرقين لأنهم كانوا يعبدون الملائكة و هم عندهم صفات الله سبحانه أو تعينات ذاته المقدسة التي تستند إليها جهات الخير و السعادة في العالم فيفرقون بين الصفات بتنظيمها طولا و عرضا و يعبدون كلا بما يخصه من الشأن فهناك إله العلم و إله القدرة و إله السماء و إله الأرض و إله الحسن و إله الحب و إله الأمن و الخصب و غير ذلك، و يعبدون الجن و هم مبادىء الشر في العالم كالموت و الفناء و الفقر و القبح و الألم و الغم و غير ذلك، و يعبدون أفرادا كالكملين من الأولياء و الجبابرة من السلاطين و الملوك و غيرهم، و هم جميعا متفرقون من حيث أعيانهم و من حيث أصنامهم و التماثيل المتخذة لهم المنصوبة للتوجه بها إليهم.

و قابل الأرباب المتفرقين بذكر الله عز اسمه و وصفه بالواحد القهار حيث قال: "أم الله الواحد القهار" فالكلمة تفيد بحسب المعنى خلاف ما يفيده قوله: "أ أرباب متفرقون" لضرورة التقابل بين طرفي الترديد.

فالله علم بالغلبة يراد به الذات المقدسة الإلهية التي هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه و وجود لا يتطرق العدم و الفناء إليه، و الوجود الذي هذا شأنه لا يمكن أن يفرض له حد محدود و لا أمد ممدود لأن كل محدود فهو معدوم وراء حده، و الممدود باطل بعد أمده فهو تعالى ذات غير محدود و وجود غير متناه بحب، و إذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض له صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلى كونه تعالى محدودا غير موجود في ظرف الصفة و فاقرا لا يجد الصفة في ذاته و لم يمكن أيضا فرض المغايرة و البينونة بين صفاته الذاتية كالحياة و العلم و القدرة لأن ذلك يؤدي إلى وجود حدود في داخل الذات لا يوجد ما في داخل حد في خارجه فيتغاير الذات و الصفات و يتكثر جميعا و يحد، و هذا كله مما اعترفت به الوثنية على ما بأيدينا من معارفهم.

فمما لا يتطرق إليه الشك عند المثبتين لوجود الإله سبحانه لو تفطنوا أن الله سبحانه موجود في نفسه ثابت بذاته لا موجود بهذا النعت غيره، و إن ما له من صفات الكمال فهو عينه غير زائد عليه و لا بعض صفات كماله صفات زائد على بعض فهو علم و قدرة و حياة بعينه.

فهو تعالى أحدي الذات و الصفات أي أنه واحد في وجوده بذاته ليس قباله شيء إلا موجودا به لا مستقلا بالوجود و واحد في صفاته أي ليس هناك صفة له حقيقية إلا أن تكون عين الذات فهو الذي يقهر كل شيء لا يقهره شيء.

و الإشارة إلى هذا كله هي التي دعته (عليه السلام) أن يصف الله سبحانه بالواحد القهار حيث قال: "أم الله الواحد القهار" أي أنه تعالى واحد لكن لا واحد عددي إذا أضيف إليه آخر صار اثنين بل واحد لا يمكن أن يفرض قباله ذات إلا و هي موجودة به لا بنفسها و لا أن يفرض قباله صفة له إلا و هي عينه و إلا صارت باطلة كل ذلك لأنه بحث غير محدود بحد و لا منته إلى نهاية.



و قد تمت الحجة على الخصم منه (عليه السلام) في هذا السؤال بما وصف الأرباب بكونهم متفرقين، و إياه تعالى بالواحد القهار لأن كون ذاته المتعالية واحدا قهارا يبطل التفرقة - أي تفرقة مفروضة - بين الذات و الصفات، فالذات عين الصفات و الصفات بعضها عين بعض فمن عبد الذات عبد الذات و الصفات و من عبد علمه فقد عبد ذاته، و إن عبد علمه و لم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه و لا ذاته و على هذا القياس.

فإذا فرض تردد العبادة بين أرباب متفرقين و بين الله الواحد القهار تعالى و تقدس تعينت عبادته دونهم إذ لا يمكن فرض أرباب متفرقين و لا تفرقة في العبادة.

نعم يبقى هناك شيء و هو الذي يعتمد عليه عامة الوثنية من أن الله سبحانه أجل و أرفع ذاتا من أن تحيط به عقولنا أو يناله أفهامنا فلا يمكننا التوجه إليه بعبادته و لا يسعنا التقرب منه بعبوديته و الخضوع له، و الذي يسعنا هو أن نتقرب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته الشريفة التي هي مؤثرات في تدبير النظام العالمي حتى يقربونا منه و يشفعوا لنا عنده فأشار (عليه السلام) في الشطر الثاني من كلامه أعني قوله: "ما تعبدون من دونه إلا أسماء" إلخ إلى دفعه.

قوله تعالى: "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه" إلخ، بدأ (عليه السلام) بخطاب صاحبيه في السجن أولا ثم عمم الخطاب للجميع لأن الحكم مشترك بينهما و بين غيرهما من عبدة الأوثان.

و نفي العبادة إلا عن الأسماء كناية عن أنه لا مسميات وراء هذه الأسماء فتقع العبادة في مقابل الأسماء كلفظة إله السماء و إله الأرض و إله البحر و إله البر و الأب و الأم و ابن الإله و نظائر ذلك.

و قد أكد كون هذه الأسماء ليس وراءها مسميات بقوله: "أنتم و آباؤكم" فإنه في معنى الحصر أي لم يضع هذه الأسامي أحد غيركم بل أنتم و آباؤكم وضعتموها، ثم أكده ثانيا بقوله: "ما أنزل الله بها من سلطان" و السلطان هو البرهان لتسلطه على العقول أي ما أنزل الله بهذه الأسماء أو بهذه التسمية من برهان يدل على أن لها مسميات وراءها، و حينئذ كان يثبت لها الألوهية أي المعبودية فصحت عبادتكم لها.

و من الجائز أن يكون ضمير "بها" عائدا إلى العبادة أي ما أنزل الله حجة على عبادتها بأن يثبت لها شفاعة و استقلالا في التأثير حتى تصح عبادتها و التوجه إليها فإن الأمر إلى الله على كل حال.

و إليه أشار بقوله بعده: "إن الحكم إلا لله".

و هو أعني قوله: "إن الحكم إلا لله" مما لا ريب فيه البتة إذ الحكم في أمر ما لا يستقيم إلا ممن يملك تمام التصرف، و لا مالك للتصرف و التدبير في أمور العالم و تربية العباد حقيقة إلا الله سبحانه فلا حكم بحقيقة المعنى إلا له.

و هو أعني قوله: "إن الحكم إلا لله" مفيد فيما قبله و ما بعده صالح لتعليلهما معا، أما فائدته في قوله قبل: "ما أنزل الله بها من سلطان" فقد ظهرت آنفا، و أما فائدته في قوله بعد: "أمر ألا تعبدوا إلا إياه" فلأنه متضمن لجانب إثبات الحكم كما أن قوله قبل: "ما أنزل الله بها من سلطان" متضمن لجانب السلب، و حكمه تعالى نافذ في الجانبين معا فكأنه لما قيل: "ما أنزل الله بها من سلطان" قيل: "فما ذا حكم به في أمر العبادة" فقيل: "أمر ألا تعبدوا إلا إياه" و لذلك جيء بالفعل.



و معنى الآية - و الله أعلم - ما تعبدون من دون الله إلا أسماء خالية عن المسميات لم يضعها إلا أنتم و آباؤكم من غير أن ينزل الله سبحانه من عنده برهانا يدل على أن لها شفاعة عند الله أو شيئا من الاستقلال في التأثير حتى يصح لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها، أو طمعا في خيرها أو خوفا من شرها.

و أما قوله: "ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون" فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله و نفي الشريك عنه، و القيم هو القائم بالأمر القوي على تدبيره أو القائم على ساقه غير المتزلزل و المتضعضع، و المعنى أن دين التوحيد وحده هو القوي على إدارة المجتمع و سوقه إلى منزل السعادة، و الدين المحكم غير المتزلزل الذي فيه الرشد من غير غي و الحقية من غير بطلان، و لكن أكثر الناس لأنسهم بالحس و المحسوس و انهماكهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب و استقامة العقل لا يعلمون ذلك، و إنما يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة معرضون.

أما أن التوحيد دين فيه الرشد و مطابقة الواقع فيكفي في بيانه ما أقامه (عليه السلام) من البرهان، و أما أنه هو القوي على إدارة المجتمع الإنساني فلأن هذا النوع إنما يسعد في مسير حياته إذا بنى سنن حياته و أحكام معاشه على مبنى حق مطابق للواقع فسار عليها لا إذا بناها على مبنى باطل خرافي لا يعتمد على أصل ثابت.

فقد بان من جميع ما تقدم أن الآيتين جميعا أعني قوله: "يا صاحبي السجن" - إلى قوله - "ألا تعبدوا إلا إياه" برهان واحد على توحيد العبادة، محصله أن عبادة المعبود أن كانت لألوهيته في نفسه و وجوب وجوده بذاته فالله سبحانه في وجوده واحد قهار لا يتصور له ثان و لا مع تأثيره مؤثر آخر فلا معنى لتعدد الآلهة، و إن كانت لكون آلهة غير الله شركاء له شفعاء عنده فلا دليل على ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه بل الدليل على خلافه فإن الله حكم من طريق العقل و بلسان أنبيائه أن لا يعبد إلا هو.

و بذلك يظهر فساد ما أورده البيضاوي في تفسيره تبعا للكشاف أن الآيتين تتضمنان دليلين على التوحيد فما في الأولى و هو قوله: "أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار" دليل خطابي، و ما في الثانية و هو قوله: "ما تعبدون من دونه إلا أسماء" إلخ برهان تام.

قال البيضاوي: و هذا من التدرج في الدعوة و إلزام الحجة بين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة و يعبدونها لا تستحق الإلهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات و إما بالغير و كلا القسمين منتف عنهما ثم نص على ما هو الحق القويم و الدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره و لا يرتضي العلم دونه.

انتهي.

و لعل الذي حدأه إلى ذلك ما في الآية الأولى من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان الخطابي، و قد فاته ما فيها من قيد "الواحد القهار" و قد عرفت تقرير ما تتضمنه الآيتان من البرهان، و أن الذي ذكره من معنى الآية الثانية هو مدلول مجموع الآيتين دون الثانية فحسب.



و ربما يقرر مدلول الآيتين برهانين على التوحيد بوجه آخر ملخصه أن الله الواحد الذي يقهر بقدرته الأسباب المتفرقة التي تفعل في الكون و يسوقها على تلائم آثارها المتفرقة المتنوعة بعضها مع بعض حتى ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الأطراف كما هو المشهود من وحدة النظام و توافق الأسباب خير من أرباب متفرقين تترشح منها لتفرقها و مضادتها أنظمة مختلفة و تدابير متضادة تؤدي إلى انفصام وحدة النظام الكوني و فساد التدبير الواحد العمومي.

ثم الآلهة المعبودة من دون الله أسماء لا دليل على وجود مسمياتها في الخارج بتسميتكم لا من جانب العقل و لا من جانب النقل لأن العقل لا يدل إلا على التوحيد و الأنبياء لم يؤمروا من جهة الوحي إلا بأن لا يعبد إلا الله وحده.

انتهي.

و هذا التقرير - كما ترى - ينزل الآية الأولى على معنى قوله تعالى "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا": الأنبياء: 22، و يعمم الآية الثانية على نفي ألوهية آلهة إلا الله بذاتها و نفي ألوهيتها من جهة إذن الله في شفاعتها.

و يرد عليه أولا: أن فيه تقييدا لإطلاق قوله: "القهار" من غير مقيد فإن الله سبحانه كما يقهر الأسباب في تأثيرها يقهر كل شيء في ذاته و صفته و آثاره فلا ثاني له في وجوده و لا ثاني له في استقلاله في نفسه و في تأثيره فلا يتأتى مع وحدته القاهرة على الإطلاق أن يفرض شيء يستقل عنه في وجوده، و لا أمر يستقل عنه في أمره، و الإله الذي يفرض دونه إما مستقل عنه في ذاته و آثار ذاته جميعا و إما مستقل عنه في آثار ذاته فحسب، و كلا الأمرين محال كما ظهر.

و ثانيا: أن فيه تعميما لخصوص الآية الثانية من غير معمم فإن الآية - كما عرفت - تنيط كونها آلهة بإذن الله و حكمه كما هو ظاهر قوله: "ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله" إلخ و من الواضح أن هذه الألوهية المنوطة بإذنه تعالى و حكمه ألوهية شفاعة لا ألوهية ذاتية أي ألوهية بالغير لا ما هو أعم من الألوهية بالذات و بالغير جميعا.

قوله تعالى: "يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا و أما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" معنى الآية ظاهر، و قرينة المناسبة قاضية بأن قوله: "أما أحدكما" إلخ، تأويل رؤيا من قال منهما: "إني أراني أعصر خمرا" و قوله: "و أما الآخر" إلخ، تأويل لرؤيا الآخر.

و قوله: "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" لا يخلو من إشعار بأن الصاحبين أو أحدهما كذب نفسه في دعواه الرؤيا و لعله الثاني لما سمع تأويل رؤياه بالصلب و أكل الطير من رأسه، و يتأيد بهذا ما ورد من الرواية من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن الثاني من الصاحبين قال له: إني كذبت فيما قصصت عليك من الرؤيا فقال (عليه السلام): "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" أي إن التأويل الذي استفتيتما فيه مقضي مقطوع لا مناص عنه.

قوله تعالى: "و قال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين" الضمائر في قوله: "قال" و "ظن" و "لبث" راجعة إلى يوسف أي قال يوسف للذي ظن هو أنه سينجو منهما: اذكرني عند ربك بما يثير رحمته لعله يخرجني من السجن.

و إطلاق الظن على اعتقاده مع تصريحه لهما بأنه من المقضي المقطوع به و تصريحه بأن ربه علمه تأويل الأحاديث لعله من إطلاق الظن على مطلق الاعتقاد و له نظائر في القرآن كقوله تعالى: "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم": البقرة: 46.

و أما قول بعضهم: إن إطلاق الظن على اعتقاده يدل على أنه إنما أول ما أول عن اجتهاد منه.



يفسده ما قدمنا الإشارة إليه أنه صرح لهما بعلمه في قوله: "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" و الله سبحانه أيد ذلك بقوله: "و لنعلمه من تأويل الأحاديث" و هذا ينافي الاجتهاد الظني.

و قد احتمل أن يكون ضمير "ظن" راجعا إلى الموصول أي قال يوسف لصاحبه الذي ظن ذلك الصاحب أنه ناج منهما.

و هذا المعنى لا بأس به إن ساعده السياق.

و قوله: "فأنساه الشيطان ذكر ربه" إلخ، الضميران راجعان إلى "الذي" أي فأنسى الشيطان صاحبه الناجي أن يذكره لربه أو عند ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين و البضع ما دون العشرة فإضافة الذكر إلى ربه من قبيل إضافة المصدر إلى معموله المعدى إليه بالحرف أو إلى المظروف بنوع من الملابسة.

و أما إرجاع الضميرين إلى يوسف حتى يفيد أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله سبحانه فتعلق بذيل غيره في نجاته من السجن فعوقب على ذلك فلبث في السجن بضع سنين كما ذكره بعضهم و ربما نسب إلى الرواية.

فمما يخالف نص الكتاب فإن الله سبحانه نص على كونه (عليه السلام) من المخلصين و نص على أن المخلصين لا سبيل للشيطان إليهم مضافا إلى ما أثنى الله عليه في هذه السورة.

و الإخلاص لله لا يستوجب ترك التوسل بالأسباب فإن ذلك من أعظم الجهل لكونه طمعا فيما لا مطمع فيه بل إنما يوجب ترك الثقة بها و الاعتماد عليها و ليس في قوله: "اذكرني عند ربك" ما يشعر بذلك البتة.

على أن قوله تعالى بعد آيتين: "و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة" إلخ، قرينة صالحة على أن الناسي هو الساقي دون يوسف.

بحث روائي

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات - ليسجننه حتى حين" فالآيات شهادة الصبي و القميص المخرق من دبر و استباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب، فلما عصاها لم تزل مولعة بزوجها حتى حبسه. و دخل معه السجن فتيان يقول: عبدان للملك أحدهما خباز و الآخر صاحب الشراب، و الذي كذب و لم ير المنام هو الخباز.

و ذكر الحديث علي بن إبراهيم القمي قال: و وكل الملك بيوسف رجلين يحفظانه فلما دخل السجن قالوا له: ما صناعتك؟ قال: أعبر الرؤيا. فرأى أحد الموكلين في منامه كما قال يعصر خمرا. قال يوسف: تخرج و تصير على شراب الملك و ترتفع منزلتك عنده، و قال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، و لم يكن رأى ذلك فقال له يوسف: أنت يقتلك الملك و يصلبك و تأكل الطير من رأسك، فضحك الرجل و قال: إني لم أر ذلك فقال يوسف كما حكى الله: "يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا - و أما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه - قضي الأمر الذي فيه تستفتيان". فقال أبو عبد الله (عليه السلام) في قوله: "إنا نراك من المحسنين" قال: كان يقوم على المريض، و يلتمس للمحتاج، و يوسع على المحبوس فلما أراد من يرى في نومه يعصر خمرا الخروج من الحبس قال له يوسف: "اذكرني عند ربك" فكان كما قال الله: "فأنساه الشيطان ذكر ربه".

أقول: و في الرواية اضطراب لفظي، و ظاهرها أن صاحبيه في السجن لم يكونا مسجونين و إنما كانا موكلين عليه من قبل الملك، و لا يلائم ذلك ظاهر قوله تعالى: "و قال للذي ظن أنه ناج منهما" و قوله: "قال الذي نجا منهما".



و في تفسير العياشي، عن سماعة: عن قول الله: "اذكرني عند ربك" قال: هو العزيز.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى.

أقول: و رواه عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لفظه: "رحم الله يوسف لو لم يقل: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن طول ما لبث" و روي مثله عن عكرمة و الحسن و غيرهما.

و روى ما في معناه العياشي في تفسيره، عن طربال و عن ابن أبي يعقوب و عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و لفظ الأخير قال: "قال الله ليوسف: أ لست الذي حببتك إلى أبيك و فضلتك على الناس بالحسن؟ أ و لست الذي سقت إليك السيارة فأنقذتك و أخرجتك من الجب؟ أ و لست الذي صرفت عنك كيد النسوة؟ فما حملك على أن ترفع رعية أو تدعو مخلوقا هو دوني؟ فالبث لما قلت بضع سنين، و قد تقدم أن هذه و أمثالها روايات تخالف نص الكتاب.

و مثلها ما في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: قوله: "اذكرني عند ربك" و قوله لإخوته: "إنكم لسارقون" و قوله: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" فقال له جبرئيل: و لا حين هممت؟ فقال: "و ما أبرىء نفسي" و في الرواية نسبة الفرية و الكذب الصريح إلى الصديق (عليه السلام).

و في بعض هذه الروايات أن عثراته الثلاث هي همه بها، و قوله: اذكرني عند ربك، و قوله: إنكم لسارقون.

و الله سبحانه يبرئه من هذه المفتريات بنص كتابه.

12 سورة يوسف - 43 - 57

وَ قَالَ الْمَلِك إِنى أَرَى سبْعَ بَقَرَتٍ سِمَانٍ يَأْكلُهُنّ سبْعٌ عِجَافٌ وَ سبْعَ سنبُلَتٍ خُضرٍ وَ أُخَرَ يَابِستٍ يَأَيهَا الْمَلأُ أَفْتُونى فى رُءْيَىَ إِن كُنتُمْ لِلرّءْيَا تَعْبرُونَ (43) قَالُوا أَضغَث أَحْلَمٍ وَ مَا نحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلَمِ بِعَلِمِينَ (44) وَ قَالَ الّذِى نجَا مِنهُمَا وَ ادّكَرَ بَعْدَ أُمّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسف أَيهَا الصدِّيقُ أَفْتِنَا فى سبْع بَقَرَتٍ سِمَانٍ يَأْكلُهُنّ سبْعٌ عِجَافٌ وَ سبْع سنبُلَتٍ خُضرٍ وَ أُخَرَ يَابِستٍ لّعَلى أَرْجِعُ إِلى النّاسِ لَعَلّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصدتمْ فَذَرُوهُ فى سنبُلِهِ إِلا قَلِيلاً مِّمّا تَأْكلُونَ (47) ثمّ يَأْتى مِن بَعْدِ ذَلِك سبْعٌ شِدَادٌ يَأْكلْنَ مَا قَدّمْتُمْ لهَُنّ إِلا قَلِيلاً مِّمّا تحْصِنُونَ (48) ثمّ يَأْتى مِن بَعْدِ ذَلِك عَامٌ فِيهِ يُغَاث النّاس وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَ قَالَ المَْلِك ائْتُونى بِهِ فَلَمّا جَاءَهُ الرّسولُ قَالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّك فَسئَلْهُ مَا بَالُ النِّسوَةِ الّتى قَطعْنَ أَيْدِيهُنّ إِنّ رَبى بِكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطبُكُنّ إِذْ رَوَدتّنّ يُوسف عَن نّفْسِهِ قُلْنَ حَش للّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سوءٍ قَالَتِ امْرَأَت الْعَزِيزِ الْئََنَ حَصحَص الْحَقّ أَنَا رَوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ وَ إِنّهُ لَمِنَ الصدِقِينَ (51) ذَلِك لِيَعْلَمَ أَنى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنّ اللّهَ لا يهْدِى كَيْدَ الخَْائنِينَ (52) وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسى إِنّ النّفْس لأَمّارَةُ بِالسوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبى إِنّ رَبى غَفُورٌ رّحِيمٌ (53) وَ قَالَ الْمَلِك ائْتُونى بِهِ أَستَخْلِصهُ لِنَفْسى فَلَمّا كلّمَهُ قَالَ إِنّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنى عَلى خَزَائنِ الأَرْضِ إِنى حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَ كَذَلِك مَكّنّا لِيُوسف فى الأَرْضِ يَتَبَوّأُ مِنهَا حَيْث يَشاءُ نُصِيب بِرَحمَتِنَا مَن نّشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَ لأَجْرُ الاَخِرَةِ خَيرٌ لِّلّذِينَ ءَامَنُوا وَ كانُوا يَتّقُونَ (57)

بيان

تتضمن الآيات قصة خروجه (عليه السلام) من السجن و نيله عزة مصر و الأسباب المؤدية إلى ذلك، و فيها تحقيق الملك ثانيا في اتهامه و ظهور براءته التام.

قوله تعالى: "و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف" إلى آخر الآية.

رؤيا للملك يخبر بها الملأ و الدليل عليه قوله: "يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي" و قوله: "إني أرى" حكاية حال ماضية، و من المحتمل أنها كانت رؤيا متكررة كما يحتمل مثله في قوله سابقا: "إني أراني أعصر خمرا" "إني أراني أحمل" إلخ.

و السمان جمع سمينة و العجاف جمع عجفاء بمعنى المهزولة، قال في المجمع: و لا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف و القياس في جمعه العجف بضم العين و سكون الجيم كالحمراء و الخضراء و البيضاء على حمر و خضر و بيض، و قال غيره: إن ذلك من قبيل الاتباع و الجمع القياسي عجف.

و الإفتاء إفعال من الفتوى و الفتيا، قال في المجمع،: الفتيا الجواب عن حكم المعنى و قد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا

انتهي.

و قوله: "تعبرون" من العبر و هو بيان تأويل الرؤيا و قد يسمى تعبيرا، و هو على أي حال مأخوذ من عبور النهر و نحوه كان العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل، و هو حقيقة الأمر التي تمثلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصة مألوفة له.

قال في الكشاف، في قوله: "سبع بقرات سمان" إلخ فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للمميز و هو بقرات دون المميز و هو سبع و إن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت: إذا أوقعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات و هي السمان منهن لا بجنسهن، و لو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن.

فإن قلت: هلا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟ قلت: التمييز موضوع لبيان الجنس و العجاف وصف لا يقع البيان به وحده فإن قلت: فقد يقال: ثلاثة فرسان و خمسة أصحاب قلت: الفارس و الصاحب و الراكب و نحوها صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها و جاز فيها ما لم يجز في غيرها، أ لا تراك لا تقول: عندي ثلاثة ضخام و أربعة غلاظ.

انتهي.

و قال أيضا: فإن قلت: هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟ قلت: الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان و العجاف و السنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الآخر السبع، و يكون قوله: "و أخر يابسات" بمعنى و سبعا أخر.

فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله: "و أخر يابسات" على "سنبلات خضر" فيكون مجرور المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافع و هو أن عطفها على سنبلات خضر يقتضي أن يدخل في حكمها فيكون معها مميزا للسبع المذكورة، و لفظ الأخر يقتضي أن يكون غير السبع بيانه أنك تقول: عندي سبعة رجال قيام و قعود بالجر فيصح لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بقيام و قعود على أن بعضهم قيام و بعضهم قعود فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام و آخرين قعود تدافع ففسد.



انتهي.

و كلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج أزيد من الظن بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها أما وجوب الدلالة من الكلام فلا البتة.

و معنى الآية: و قال ملك مصر لملئه إني أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات مهازيل و أرى سبع سنبلات خضر و سنبلات أخر يابسات يا أيها الملأ بينوا لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.

قوله تعالى: "قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين" الأحلام جمع حلم بضمتين و قد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه و كان الأصل في معناه ما يتصور للإنسان من داخل نفسه من غير توصله إليه بالحس، و منه تسمية العقل حلما لأنه استقامة التفكر، و منه أيضا الحلم لزمان البلوغ قال تعالى.

"و إذا بلغ الأطفال منكم الحلم": النور: 59 أي زمان البلوغ، بلوغ العقل، و منه الحلم بكسر الحاء بمعنى الأناءة ضد الطيش و هو ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب و عدم المعاجلة في العقوبة فإنه إنما يكون عن استقامة التفكر.

و ذكر الراغب: أن الأصل في معناه الحلم بكسر الحاء، و لا يخلو من تكلف.

و قال الراغب: الضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان و جمعه أضغاث، قال تعالى: "و خذ بيدك ضغثا" و به شبه الأحلام المختلفة التي لا تتبين حقائقها "قالوا أضغاث أحلام" حزم أخلاط من الأحلام

انتهي.

و تسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث الأحلام كأنه بعناية دعوى كونها صورا متفرقة مختلطة مجتمعة من رؤى مختلفة لكل واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت و اختلطت عسر للمعبر الوقوف على تأويلها، و الإنسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى أخرى و منهما إلى ثالثة و هكذا فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام و امتنع الوقوف على حقيقتها و يدل على ما ذكرنا من العناية التعبير بأضغاث أحلام بتنكير المضاف و المضاف إليه معا كما لا يخفى.

على أن الآية أعني قوله: "و قال الملك إني أرى" إلخ، غير صريحة في كونه رؤيا واحدة و في التوراة أنه رأى البقرات السمان و العجاف في رؤيا و السنبلات الخضر و اليابسات في رؤيا أخرى.

و قوله: "و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين" إن كان الألف و اللام للعهد فالمعنى و ما نحن بتأويل هذه المنامات التي هي أضغاث أحلام بعالمين.

و إن كان لغير العهد و الجمع المحلى باللام يفيد العموم فالمعنى و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنما نعبر غير أضغاث الأحلام منها، و على أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه أضغاث أحلام و بين نفيهم العلم بتأويل الأحلام عن أنفسهم، و لو كان المراد بالأحلام الأحلام الصحيحة فحسب كان كل من شطري كلامهم يغني عن الآخر.

و معنى الآية قالوا أي قال الملأ للملك: ما رأيته أضغاث أحلام و أخلاط من منامات مختلفة و ما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنما نعلم تأويل الرؤى الصالحة.



قوله تعالى: "و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون" الأمة الجماعة التي تقصد لشأن و يغلب استعمالها في الإنسان، و المراد بها هاهنا الجماعة من السنين و هي المدة التي نسي فيها هذا القائل و هو ساقي الملك أن يذكر يوسف عند ربه و قد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين.

و المعنى: و قال الذي نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه و ادكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين أول رؤياه: أنا أنبئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتى أخبركم بتأويل ذلك.

و خطاب الجمع في قوله: "أنبئكم" و قوله "فأرسلون" تشريك لمن حضر مع الملك و هم الملأ من أركان الدولة و أعضاد المملكة الذين يلون أمور الناس، و الدليل عليه قوله الآتي: "لعلي أرجع إلى الناس" كما سيأتي.

قوله تعالى: "يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان" إلى آخر الآية، في الكلام حذف و تقدير إيجازا، و التقدير: فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال: يا يوسف أيها الصديق أفتنا في رؤيا الملك و ذكر الرؤيا و ذكر أن الناس في انتظار تأويله و هذا الأسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم.

سمى يوسف صديقا و هو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبر به منامه و منام صاحبه في السجن و أمور أخرى شاهدها من فعله و قوله في السجن، و قد أمضى الله سبحانه كونه صديقا بنقله ذلك من غير رد.

و قد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرح أنه رؤيا فقال: "أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات" لأن قوله: "أفتنا" و هو سؤال الحكم الذي يؤدي إليه نظره، و كون المعهود فيما بينه و بين يوسف تأويل الرؤيا، و كذا ذيل الكلام يدل على ذلك و يكشف عنه.

و قوله: "لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون" لعل الأول تعليل لقوله: "أفتنا" و لعل الثاني تعليل لقوله "أرجع" و المراد أفتنا في أمر هذه الرؤيا ففي إفتائك رجاء أن أرجع به إلى الناس و أخبرهم بها و في رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة و الجهالة.

و من هنا يظهر أن قوله: "أرجع" في معنى أرجع بذلك فمن المعلوم أنه لو أفتى فيه فرجع المستفتي إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما ألقي إليه من التأويل فافهم ذلك.

و في قوله أولا: "أفتنا" و ثانيا: "لعلي أرجع إلى الناس" دلالة على أنه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك و الملأ و لم يكن يسأله لنفسه حتى يعلمه ثم يخبرهم به بل ليحمله إليهم و لذلك لم يخصه يوسف بالخطاب بل عم الخطاب له و لغيره فقال: "تزرعون" إلخ.

و في قوله: "إلى الناس" إشعار أو دلالة على أن الناس كانوا في انتظار أن يرتفع بتأويله حيرتهم، و ليس إلا أن الملأ كانوا هم أولياء أمور الناس و خيرتهم في الأمر خيرة الناس أو أن الناس أنفسهم كانوا على هذا الحال لتعلقهم بالملك و اهتمامهم برؤياه لأن الرؤيا ناظرة غالبا إلى ما يهتم به الإنسان من شئون الحياة و الملوك إنما يهتمون بشئون المملكة و أمور الرعية.

قوله تعالى: "قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون" قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى: "و سخر لكم الشمس و القمر دائبين" و الدأب العادة المستمرة دائما على حاله قال تعالى: "كدأب آل فرعون" أي كعادتهم التي يستمرون عليها.



انتهى و عليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرة، و قيل: هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجد و اجتهاد، و يمكن أن يكون حالا أي تزرعون دائبين مستمرين أو مجدين مجتهدين فيه.

ذكروا أن "تزرعون" خبر في معنى الإنشاء، و كثيرا ما يؤتى بالأمر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنه واقع يخبر عنه كقوله تعالى: "تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله": الصف: 11، و الدليل عليه قوله بعد: "فما حصدتم فذروه في سنبله"، قيل: و إنما أمر بوضعه و تركه في سنبله لأن السنبل لا يقع فيه سوس و لا يهلك و إن بقي مدة من الزمان، و إذا ديس و صفي أسرع إليه الهلاك.

و المعنى: ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلا يهلك و احفظوه كذلك إلا قليلا و هو ما تأكلون في هذه السنين.

قوله تعالى: "ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون" الشداد جمع شديد من الشدة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب و المجاعة من الصعوبة و الحرج على الناس أو هو من شد عليه إذا كر، و هذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله: "يأكلن ما قدمتم لهن".

و عليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كان هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم و أكلهم فيقدمون إليها ما ادخروه عندهم من الطعام فتأكله و تنصرف عنهم.

و الإحصان الإحراز و الإدخار، و المعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحرزون و تدخرون.

قوله تعالى: "ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون" يقال: غاثه الله و أغاثه أي نصره، و يغيثه بفتح الياء و ضمها أي ينصره و هو من الغوث بمعنى النصرة و غاثهم الله يغيثهم من الغيث و هو المطر، فقوله: "فيه يغاث الناس" إن كان من الغوث كان معناه: ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة و رفع الجدب و المجاعة و إنزال النعمة و البركة، و إن كان من الغيث كان معناه: يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم.

و هذا المعنى الثاني أنسب بالنظر إلى قوله بعده: "و فيه يعصرون" و لا يصغى إلى قول من يدعي: أن المعنى الأول هو المتبادر من سياق الآية إلا على قراءة "يعصرون" بالبناء للمجهول و معناه يمطرون.

و ما أورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني أنه لا ينطبق على مورد الآية فإن خصب مصر إنما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالأمطار لا تؤثر فيها أثرا.

رد عليه بأن الفيضان نفسه لا يكون إلا بالمطر الذي يمده في مجاريه من بلاد السودان.

على أن من الجائز أن يكون "يغاث" مأخوذا من الغيث بمعنى النبات، قال في لسان العرب،: و الغيث الكلاء ينبت من ماء السماء

انتهي.

و هذا أنسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله: "و فيه يعصرون".

و قوله: "و فيه يعصرون" من العصر و هو إخراج ما في الشيء من ماء أو دهن بالضغط كإخراج ماء العنب و التمر للدبس و غيره و إخراج دهن الزيت و السمسم للائتدام و الاستصباح و غيرهما، و يمكن أن يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع أنعامهم كما فسره بعضهم به.



و المعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت أراضيهم - أو يمطرون أو ينصرون - و فيه يتخذون الأشربة و الأدهنة من الفواكه و البقول أو يحلبون ضروع أنعامهم.

و فيه كناية عن توفر النعمة عليهم و على أنعامهم و مواشيهم.

قال البيضاوي في تفسيره،: و هذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة، و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة، و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، و لعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب أو بأن السنة الإلهية أن يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم.

انتهى و ذكر غيره نحوا مما ذكره.

و قال صاحب المنار في تفسيره، في الآية: و المراد أن هذا العام عظيم الخصب و الإقبال يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة و الإتراف، و الإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأول بعد سني الشدة و الجدب دون ذلك فهذا التخصيص و التفصيل لم يعرفه يوسف إلا بوحي من الله عز و جل لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل.

انتهي.

و الذي أرى أنهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا و تأويلها سبيل المساهلة و المسامحة و ذلك أنا إذا تدبرنا في كلامه (عليه السلام) في التأويل أعني قوله: "تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون" وجدناه (عليه السلام) لم يبن كلامه على أساس إخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثم السنين السبع المجدبة، و لو أنه أراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقول مثلا: يأتي عليكم سبع مخصبات ثم يأتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثم إذا سئل عن دفع هذه المخمصة و طريق النجاة من هذه المهلكة العامة، قال: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلى آخر ما قال.

بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل و بين أن أمره بذلك توطئة و تقدمة للتخلص عما يهددهم من المجاعة و المخمصة و هو ظاهر، و هذا دليل على أن الذي رآه الملك من الرؤيا إنما كان مثال ما يجب عليه من اتخاذ التدبير لإلجاء الناس من مصيبة الجدب، و إشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسئوليته في أمر رعيته و هو أن يسمن بقرات سبعا لتأكلهن بقرات مهازيل ستشد عليهم و يحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوس و تصفية لذلك.

فكأن نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدد الأرض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة و المجدبة أي الرزق الذي يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثم حكت ما في السبع الأول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن و ما في السبع الآخر في صورة الهزال، و حكت نفاد ما ادخروه في السبع الأولى في السبع الثانية بأكل العجاف للسمان، و حكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر.

و لم يزد يوسف (عليه السلام) في تأويله على ذلك شيئا إلا أمورا ثلاثة: أحدها ما استثناه بقوله: "إلا قليلا مما تأكلون" و ليس جزء من التأويل و إنما هو إباحة و بيان لمقدار التصرف الجائز فيما يجب أن يذروه في سنبله.



و ثانيها: قوله: "إلا قليلا مما تحصنون" و هو الذي يجب أن يدخروه للعام الذي فيه يغاث الناس و فيه يعصرون ليتخذ بذرا و مددا احتياطيا، و كأنه (عليه السلام) أخذه من قوله في حكاية الرؤيا: "يأكلهن سبع عجاف" حيث لم يقل: أكلتهن بل عبر عن اشتغالهن بأكلهن و لما يفنيهن بأكل كلهن و لو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد لرأى أنهن أكلتهن عن آخرهن.

و ثالثها: قوله: "ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون" و الظاهر أنه (عليه السلام) استفاده من عدد السبع الذي تكرر في البقرات السمان و العجاف و السنبلات الخضر، و قوله: "ثم يأتي من بعد ذلك عام" و إن كان إخبارا صورة عن المستقبل لكنه كناية عن أن هذا العام الذي سيستقبلهم بعد مضي السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في أمر الزرع و الإدخار، و لا تكليف فيه يتوجه إليهم بالنسبة إلى أرزاق الناس.

و لعله لهذه الثلاثة غير السياق فقال: "فيه يغاث الناس و فيه يعصرون" و لم يقل: فيه تغاثون و فيه تعصرون بالجري على نحو الخطاب في الآيتين السابقتين ففيه إشارة إلى أن الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في أمر معاشهم و تصديكم لإدارة أرزاقهم بل يغاثون و يعصرون لنزول النعمة و البركة في سنة مخصبة.

و من هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار، في كلامه المتقدم أن هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (عليه السلام) إلا بوحي من الله لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل.

انتهي.

فإن تبدل سني الجدب بسنة الخصب مما يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه، و أما ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزية بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ البتة.

و مما ذكرنا أيضا تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الآية بالسبع حيث قيل: "و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات" حيث عرفت أن الرؤيا لا تجلي نفس حادثة الخصب و الجدب، و إنما تجلي ما هو التكليف العملي قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك إشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك.

و مما تقدم يظهر أيضا أن الأنسب أن يكون المراد بقوله: "يغاث" و قوله: "يعصرون" الإمطار أو إعشاب الكلاء و حلب المواشي لأن ذلك هو المناسب لما رآه في منامه من البقرات السبع سمانا و عجافا فإن هذا هو المعهود، و منه يظهر وجه تخصيص الغيث و العصر بالذكر في هذه الآية، و الله أعلم.

قوله تعالى: "و قال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم" في الكلام حذف و إضمار إيجازا، و التقدير - على ما يدل عليه السياق و الاعتبار بطبيعة الأحوال - و جاء الرسول و هو الساقي فنبأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا و قال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به.

و ظاهر أن الذي أنبأهم به من جدب سبع سنين متوالية كان أمرا عظيما، و الذي أشار إليه من الرأي البين الصواب أعظم منه و أغرب عند الملك المهتم بأمر أمته المعتني بشئون مملكته، و قد أفزعه ما سمع و أدهشه، و لذلك أمر بإحضاره ليكلمه و يتبصر بما يقوله مزيد تبصر، و يشهد بهذا ما حكاه الله تعالى من تكليمه إياه بقوله: "فلما جاءه و كلمه" إلخ.



و لم يكن أمره بإتيانه به إشخاصا له بل إطلاقا من السجن و إشخاصا للتكليم و، لو كان إشخاصا و إحضارا لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (عليه السلام) أن يستنكف عن الحضور بل أجبر عليه إجبارا بل كان إحضارا عن عفو و إطلاق فوسعه أن يأتي الحضور و يسأله أن يقضي فيه بالحق، و كانت نتيجة هذا الإباء و السؤال أن يقول الملك ثانيا: ائتوني به أستخلصه لنفسي بعد ما قال أولا: ائتوني به.

و قد راعى (عليه السلام) أدبا بارعا في قوله للرسول: "ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن" فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه و ليس يريد إلا أن يقضي بينه و بينها، و إنما أشار إلى النسوة اللاتي راودنه، و لم يذكرهن أيضا بسوء إلا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته و لا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة و فحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيما.

و لم يذكرهن بشيء من المكروه إلا ما في قوله: "إن ربي بكيدهن عليم" و ليس إلا نوعا من بث الشكوى لربه.

و ما ألطف قوله في صدر الآية و ذيلها حيث يقول للرسول: "ارجع إلى ربك فاسأله" ثم يقول: "إن ربي بكيدهن عليم" و فيه نوع من تبليغ الحق، و ليكن فيه تنبه لمن يزعم أن مراده من "ربي" فيما قال لامرأة العزيز: "إنه ربي أحسن مثواي" هو زوجها، و أنه يسميه ربا لنفسه.

و ما ألطف قوله: "ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن" و البال هو الأمر الذي يهتم به يقول: ما هو الأمر العظيم و الشأن الخطير الذي أوقعهن فيما وقعن فيه، و ليس إلا هواهن فيه و ولههن في حبه حتى أنساهن أنفسهن فقطعن الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا فليفكر الملك في نفسه أن الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدا، و الكف عن معاشقتهن و الامتناع من إجابتهن بما يردنه و هن يفدينه بالأنفس و الأموال أعظم، و لم يكن المراودة بالمرة و المرتين و لا الإلحاح و الإصرار يوما أو يومين و لن تتيسر المقاومة و الاستقامة تجاه ذلك إلا لمن صرف الله عنه السوء و الفحشاء ببرهان من عنده.

قوله تعالى: "قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء" الآية، قال الراغب: الخطب الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب قال تعالى: "فما خطبك يا سامري" "فما خطبكم أيها المرسلون".

انتهي.

و قال أيضا: حصحص الحق أي وضح و ذلك بانكشاف ما يظهره، و حص و حصحص نحو كف و كفكف و كب و كبكب، و حصة قطع منه إما بالمباشرة و إما بالحكم - إلى أن قال - و الحصة القطعة من الجملة، و يستعمل استعمال النصيب.

انتهي.

و قوله: "قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟" جواب عن سؤال مقدر على ما في الكلام من حذف و إضمار إيجازا - كل ذلك يدل عليه السياق - و التقدير: كان سائلا يسأل فيقول: فما الذي كان بعد ذلك؟ و ما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك و بلغه ما قاله يوسف و سأله من القضاء فأحضر النسوة و سألهن عما يهم من شأنهن في مراودتهن ليوسف: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: "حاش لله ما علمنا عليه من سوء" فنزهنه عن كل سوء، و شهدن أنهن لم يظهر لهن منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه.

و ذكرهن كلمة التنزيه: "حاش لله" نظير تنزيههن حينما رأينه لأول مرة: "حاش لله ما هذا بشرا" يدل على بلوغه (عليه السلام) النهاية في النزاهة و العفة فيما علمنه كما أنه كان بالغا في الحسن.



و الكلام في فصل قوله: "قالت امرأة العزيز" نظير الكلام في قوله "قال ما خطبكن" و قوله: "قلن حاش لله" فعند ذلك تكلمت امرأة العزيز و هي الأصل في هذه الفتنة و اعترفت بذنبها و صدقت يوسف (عليه السلام) فيما كان يدعيه من البراءة قالت: الآن حصحص و وضح الحق و هو أنه: أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها و كذبت نفسها في اتهامه بالمراودة، و لم تقنع بذلك بل برأته تبرئة كاملة أنه لم يراود و لا أجابها في مراودتها بالطاعة.

و اتضحت بذلك براءته (عليه السلام) من كل وجه، و في قول النسوة و قول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من: "ما علمنا عليه من سوء" مع كلمة التنزيه: "حاش لله" في قولهن، و اعترافها بالذنب في سياق الحصر: "أنا راودته عن نفسه" و شهادتها بصدقه مؤكدة بأن و اللام و الجملة الاسمية: "و إنه لمن الصادقين" و غير ذلك في قولها.

و هذا ينفي عنه (عليه السلام) كل سوء أعم من الفحشاء و المراودة لها و أي ميل و نزعة إليها و كذب و افتراء، بنزاهه من حسن اختياره.

قوله تعالى: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين" من كلام يوسف (عليه السلام) على ما يدل عليه السياق، و كأنه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كل سوء و اعتراف امرأة العزيز بالذنب و شهادتها بصدقه و قضاء الملك ببراءته.

و حكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله": البقرة: 285 أي قالوا لا نفرق "إلخ"، و قوله: "و إنا لنحن الصافون و إنا لنحن المسبحون": الصافات: 166.

و على هذا فالإشارة بقوله: "ذلك" إلى إرجاع الرسول إلى الملك و سؤاله القضاء، و الضمير في "ليعلم" و "لم أخنه" عائد إلى العزيز و المعنى إنما أرجعت الرسول إلى الملك و سألته أن يحقق الأمر و يقضي بالحق ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته و ليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.

يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع و السؤال غايتين: أحدهما: أن يعلم العزيز أنه لم يخنه و تطيب نفسه منه و يزول عنها و عن أمره أي شبهة و ريبة.

و الثاني: أن يعلم أن الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته و أنه سيفتضح لا محالة سنة الله التي قد خلت في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلا فإن الخيانة من الباطل، و الباطل لا يدوم و سيظهر الحق عليه ظهورا، و لو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتي قطعن أيديهن و أخذن بالمراودة و لا امرأة العزيز فيما فعلت و أصرت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين.

و كان الغرض من الغاية الثانية: "و أن الله لا يهدي كيد الخائنين" و تذكيره و تعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر و هو أن يعلم الملك أنه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب و لا يخون في شيء البتة كان جديرا بأن يؤتمن على كل شيء نفسا كان أو عرضا أو مالا.

و بهذا الامتياز البين يتهيأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إياه و هو قوله بعد أن أشخص عند الملك: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".

و الآية ظاهرة في أن هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الذي أشير إليه بقوله: "و ألفيا سيدها لدى الباب" و قوله: "و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه".



و قد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية و التي بعدها تتمة قول امرأة العزيز: "الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين" و سيأتي الكلام عليه.

قوله تعالى: "و ما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم" تتمة كلام يوسف (عليه السلام) و ذلك أن قوله: "أني لم أخنه بالغيب" كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول و القوة و هو (عليه السلام) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولا و لا قوة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول و القوة عن نفسه و نسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه، و تسوية نفسه بسائر النفوس التي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمارة بالسوء فقال: "و ما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي" فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام): "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله": هود: 88.

فقوله: "و ما أبرىء نفسي" إشارة إلى قوله: "أني لم أخنه بالغيب" و أنه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه و تزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه، و علل ذلك بقوله "إن النفس لأمارة بالسوء" أي إن النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها و وفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء، و إنما تكف عن أمرها بالسوء و دعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء و توفقها لصالح العمل.

و من هنا يظهر أن قوله: "إلا ما رحم ربي" يفيد فائدتين؟.

إحداهما: تقييد إطلاق قوله: "إن النفس لأمارة بالسوء" فيفيد أن اقتراف الحسنات الذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس و ليس يقع عن إلجاء و إجبار من جانبه تعالى.

و ثانيتهما: الإشارة إلى أن تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه.

و قد علل الحكم بقوله: "إن ربي غفور رحيم" فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأن المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع و الرحمة يظهر بها الأمر الجميل، و مغفرته تعالى كما تمحو الذنوب و آثارها كذلك تستر النقائض و تبعاتها و تتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب، قال تعالى.

"فمن اضطر غير باغ و لا عاد فإن ربك غفور رحيم": الأنعام: 145 و قد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.

و من لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عز اسمه بلفظ "ربي" فقد كرره ثلاثا حيث قال: "إن ربي بكيدهن عليم" "إلا ما رحم ربي" "إن ربي غفور رحيم" لأن هذه الجمل تتضمن نوع إنعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه و هو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين، و أما قوله: "و أن الله لا يهدي كيد الخائنين" فهو خال عن هذه النسبة و لذلك عبر بلفظ الجلالة.



و قد ذكر جمع من المفسرين أن الآيتين أعني قوله: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" "إلخ" من تمام كلام امرأة العزيز، و المعنى على هذا أن امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها و شهدت بصدقه قالت: "ذلك" أي اعترافي بأني راودته عن نفسه و شهادتي بأنه من الصادقين "ليعلم" إذا بلغه عني هذا الكلام "أني لم أخنه بالغيب" بل اعترفت بأن المراودة كانت من قبلي أنا و أنه كان صادقا "و أن الله لا يهدي كيد الخائنين" كما أنه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة و بالسجن بضع سنين حتى أظهر صدقه في قوله و طهارة ذيله و براءة نفسه و فضحني أمام الملك و الملأ و لم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن "و ما أبرىء نفسي" من السوء مطلقا فإني كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره "إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم".

و هذا وجه رديء جدا أما أولا: فلأن قوله: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام أن يقال: و ليعلم أني أخنه بالغيب - بصيغة الأمر - فإن قوله "ذلك" على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب و شهادتها بصدقه فقوله: "لم أخنه بالغيب" إن كان عنوانا لاعترافها و شهادتها مشارا به إلى ذلك خلى الكلام عن الفائدة فإن محصل معناه حينئذ: إنما اعترفت و شهدت ليعلم أني اعترفت و شهدت له بالغيب.

مضافا إلى أن ذلك يبطل معنى الاعتراف و الشهادة لدلالته على أنها إنما اعترفت و شهدت ليسمع يوسف ذلك و يعلم به، لا لإظهار الحق و بيان حقيقة الأمر.

و إن كان عنوانا لأعمالها طول غيبة إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنما اعترفت و شهدت له ليعلم أني لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن و لبث في السجن بضع سنين مضافا إلى أن اعترافها و شهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه و هو ظاهر.

و أما ثانيا: فلانه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف إن الله لا يهدي كيد الخائنين، و قد ذكرها يوسف به أول حين إذ راودته عن نفسه فقال: "إنه لا يفلح الظالمون".

و أما ثالثا: فلأن قولها: "و ما أبرىء نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن" يناقض قولها: "لم أخنه بالغيب" كما لا يخفى مضافا إلى أن قوله: "إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم" على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحري أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء و هي تعبد الأصنام.

و ذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير "ليعلم" و "لم أخنه" إلى العزيز و هو زوجها فهي كأنها تقول: ذاك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا، و أن كل ما وقع أني راودته عن نفسه فاستعصم و امتنع فبقي عرض زوجي مصونا و شرفه محفوظا، و لئن برئت يوسف من الإثم فما أبرىء منه نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

و فيه: أن الكلام لو كان من كلامها و هي تريد أن تطيب به نفس زوجها و تزيل أي ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإن قولها.

"الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين" إنما يفيد العلم بأنها راودته عن نفسه، و أما شهادتها أنه امتنع و لم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، و كان من الممكن أنها إنما شهدت له لتطيب نفس زوجها و تزيل ما عنده من الشك و الريب فاعترافها و شهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنها لم تخنه بالغيب.

مضافا إلى أن قوله: "و ما أبرىء نفسي" إلخ يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها: "أنا راودته عن نفسه" و ظاهر السياق خلافه.

على أن بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه.



قوله تعالى: "و قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين" يقال: استخلصه أي جعله خالصا، و المكين صاحب المكانة و المنزلة، و في قوله: "فلما كلمه" حذف للإيجاز و التقدير: فلما أتي به إليه و كلمه قال إنك اليوم "إلخ" و في تقييد الحكم باليوم إشارة إلى التعليل، و المعنى أنك اليوم و قد ظهر من مكارم أخلاقك في التجنب عن السوء و الفحشاء و الخيانة و الظلم، و الصبر على كل مكروه و صغار في سبيل طهارة نفسك، و اختصاصك بتأييد من ربك غيبي و علم بالأحاديث و الرأي و الحزم و الحكمة و العقل لدينا ذو مكانة و أمانة، و قد أطلق قوله: "مكين أمين" فأفاد بذلك عموم الحكم.

و المعنى: و قال الملك ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي و خاصة لي فلما أتي به إليه و كلمه قال له إنك اليوم و قد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة و أمانة مطلقة يمكنك من كل ما تريد و يأتمنك على جميع شئون الملك و في ذلك حكم صدارته.

قوله تعالى: "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" لما عهد الملك ليوسف أنك اليوم لدينا مكين أمين و أطلق القول سأله يوسف (عليه السلام) أن ينصبه على خزائن الأرض و يفوض إليه أمرها، و المراد بالأرض أرض مصر.

و لم يسأله ما سأل إلا ليتقلد بنفسه إدارة أمر الميرة و أرزاق الناس فيجمعها و يدخرها للسنين السبع الشداد التي سيستقبل الناس و تنزل عليهم جدبها و مجاعتها و يقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بين الناس و إعطاء كل منهم ما يستحقه من الميرة من غيره حيف.

و قد علل سؤاله ذلك بقوله: "إني حفيظ عليم" فإن هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدى مقاما هو سائله و لا غنى عنهما له، و قد أجيب إلى ما سأل و اشتغل بما كان يريده كل ذلك معلوم من سياق الآيات و ما يتلوها.

قوله تعالى: "و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء و لا نضيع أجر المحسنين" التمكين هو الإقدار و التبوء أخذ المكان.

و الإشارة بقوله: "كذلك" إلى ما ساقه من القصة بما انتهى إلى نيله (عليه السلام) عزة مصر، و هو حديث السجن و قد كانت امرأة العزيز هددته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزة، و على هذا النمط كان يجري أمره (عليه السلام) أكرمه أبوه فحسده إخوته فكادوا به بإلقائه في غيابة الجب و بيعه من السيارة ليذلوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز، و كادت به امرأة العزيز و نسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثم كادت به بالسجن لصغاره فتسبب الله بذلك لعزته.

و للإشارة إلى أمر السجن و حبسه و سلبه حرية الاختلاط و العشرة، قال تعالى: "و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء" أي رفعنا عنه حرج السجن الذي سلب منه إطلاق الإرادة فصار مطلق المشية له أن يتبوأ في أي بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز و وصاه امرأته: "و كذلك مكنا ليوسف في الأرض و لنعلمه من تأويل الأحاديث و الله غالب على أمره".

و بهذه المقايسة يظهر أن قوله هاهنا: "نصيب برحمتنا من نشاء" في معنى قوله هناك: "و الله غالب على أمره" و إن المراد أن الله سبحانه إذا شاء أن يصيب برحمته أحدا لم يغلب في مشيته و لا يسع لأي مانع مفروض أن يمنع من إصابته.

و لو وسع لسبب أن يبطل مشية الله في أحد لوسع في يوسف الذي تعاضدت الأسباب القاطعة و تظاهرت لخفضه فرفعه الله و لإذلاله فأعزه الله، إن الحكم إلا لله.

و قوله: "و لا نضيع أجر المحسنين" إشارة إلى أن هذا التمكين أجر أوتيه يوسف (عليه السلام)، و وعد جميل للمحسنين جميعا أن الله لا يضيع أجرهم.



قوله تعالى: "و لأجر الآخرة خير للذين آمنوا و كانوا يتقون" أي لأولياء الله من عباده فهو وعد جميل أخروي لأوليائه تعالى خاصة و كان يوسف (عليه السلام) منهم.

و الدليل على أنه لا يعم عامة المؤمنين الجملة الحالية: "و كانوا يتقون" الدالة على أن هذا الإيمان و هو حقيقة الإيمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى مستمر حقيقي و هذا التقوى لا يتحقق من غير إيمان فهو إيمان بعد إيمان و تقوى و هو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة": يونس: 64.

بحث روائي

في تفسير القمي،: ثم إن الملك رأى رؤيا فقال لوزرائه إني رأيت في نومي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف أي مهازيل و رأيت سبع سنبلات خضر و أخر يابسات و قال أبو عبد الله (عليه السلام): سبع سنابل ثم قال: يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون فلم يعرفوا تأويل ذلك. فذكر الذي كان على رأس الملك رؤياه التي رآها، و ذكر يوسف بعد سبع سنين، و هو قوله: "و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة" أي بعد حين "أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون" فجاء إلى يوسف فقال: "، أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان - يأكلهن سبع عجاف - و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات". قال يوسف: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون أي لا تدوسوه فإنه يفسد في طول سبع سنين و إذا كان في سنبله لا يفسد ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن في السبع سنين الماضية قال الصادق (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون أي يمطرون. و قال أبو عبد الله (عليه السلام). قرأ رجل على أمير المؤمنين (عليه السلام) "ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون" على البناء للفاعل فقال ويحك أي شيء يعصرون يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال: إنما نزلت: و فيه يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة، و الدليل على ذلك قوله: "و أنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا". فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك يعني إلى الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. فجمع الملك النسوة فقال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز: "الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه - و إنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل ثم قالت: و ما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء - إلا ما رحم ربي. فقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما نظر إلى يوسف قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين فاسأل حاجتك قال: اجعلني على خزائن الأرض - إني حفيظ عليم يعني الكناديج و الأنابير فجعله عليها، و هو قوله: "و كذلك مكنا ليوسف في الأرض - يتبوأ منها حيث يشاء".



أقول: قوله: و قرأ الصادق (عليه السلام): "سبع سنابل" في رواية العياشي عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أنه قرأ: "سبع سنبلات" و قوله (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن أي إن التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب، و قوله (عليه السلام): إنما نزلت: و فيه يعصرون أي يمطرون، أي بالبناء للمفعول و منه يعلم أنه (عليه السلام) يأخذ قوله: يغاث من الغيث دون الغوث و روى هذا المعنى أيضا العياشي في تفسيره عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و قوله: "أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل" ظاهر في أخذ قوله: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" إلى آخر الآيتين من كلام امرأة العزيز و قد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدم.

و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عجبت لصبر أخي يوسف و كرمه و الله يغفر له حيث أرسل إليه ليستفتي في الرؤيا و إن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج، و عجبت من صبره و كرمه و الله يغفر له أتي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره و لو كنت أنا لبادرت الباب و لكنه أحب أن يكون له العذر.

أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق أخرى و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) ما في تفسير العياشي عن أبان عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدثته حتى أشترط عليه أن يخرجني من السجن و عجبت لصبره عن شأن امرأة الملك حتى أظهر الله عذره.

أقول: و هذا النبوي لا يخلو من شيء فإن فيه أحد المحذورين إما الطعن في حسن تدبير يوسف (عليه السلام) و توصله إلى الخروج من السجن و قد أحسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرد الخروج منه و لا هم لامرأة العزيز و نسوة مصر إلا في مراودته عن نفسه و إلجائه إلى موافقة هواهن و هو القائل: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، و إنما كان يريد الخروج في جو يظهر فيه براءته و تيأس منه امرأة العزيز و النسوة، و يوضع في موضع يليق به من المكانة و المنزلة.

و لذا أنبأ و هو في السجن أولا: بما هو وظيفة الملك الواجبة إثر رؤياه من جمع الأرزاق العامة و ادخارها فتوصل به إلى قول الملك "ائتوني به" ثم لما أمر بإخراجه أبى إلا أن يحكم بينه و بين النسوة حكما بالقسط فتوصل به إلى قوله: "ائتوني به أستخلصه لنفسي" و هذا أحسن تدبير يتصور لما كان يبتغيه من العزة في مصر و بسط العدل و الإحسان في الأرض.

مضافا إلى ما ظهر للملك و ملئه في خلال هذه الأحوال من عظيم صبره و عزمه في الأمور و تحمله الأذى في جنب الحق و علمه الغزير و حكمه القويم.

و إما الطعن في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حاشاه أن يقول: إنه لو كان مكان يوسف طاش و لم يصبر مع الاعتراف بأن الحق كان معه في صبره، و هو اعتراف بأن من شأنه أن لا يصبر فيما يجب الصبر فيه، و حاشاه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر الناس بشيء و ينسى نفسه، و قد صبر و تحمل الأذى في جنب الله قبل الهجرة و بعدها من الناس حتى أثنى الله عليه بمثل قوله: "و إنك لعلى خلق عظيم".

و في الدر المنثور، أيضا أخرج الحاكم في تاريخه و ابن مردويه و الديلمي عن أنس قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية: "ذلك ليعلم - أني لم أخنه بالغيب" قال: لما قالها يوسف قال له جبريل: يا يوسف اذكر همك. قال: و ما أبرىء نفسي.



أقول: و هذا المعنى مروي في عدة روايات بألفاظ متقاربة ففي رواية ابن عباس: لما قالها يوسف "فغمزه جبريل فقال: و لا حين هممت بها؟" و في رواية عن حكيم بن جابر: "فقال له جبريل: و لا حين حللت السراويل؟" و نحو من ذلك في روايات أخر عن مجاهد و قتادة و عكرمة و الضحاك و ابن زيد و السدي و الحسن و ابن جريح و أبي صالح و غيرهم.

و قد تقدم في البيان السابق أن هذه و أمثالها من موضوعات الأخبار مخالفة لنص الكتاب، و حاشا مقام يوسف الصديق (عليه السلام) أن يكذب بقوله: "لم أخنه بالغيب ثم يصلح ما أفسده بغمز من جبريل.

قال في الكشاف،: و لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أن يوسف حين قال: إني لم أخنه بالغيب قال له جبريل: و لا حين هممت بها؟ و قالت له امرأة العزيز: و لا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف؟ و ذلك لتهالكهم على بهت الله و رسوله.

انتهي.

و في تفسير العياشي، عن سماعة قال: سألته عن قول الله: "ارجع إلى ربك" الآية يعني العزيز.

أقول: و في تفسير البرهان، عن الطبرسي في كتاب النبوة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن إلياس قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: و أقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلما مضت تلك السنون و أقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم و الدنانير حتى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلا صار في ملك يوسف. و باعهم في السنة الثانية بالحلي و الجواهر حتى لم يبق بمصر و ما حولها حلي و لا جواهر إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة الثالثة بالدواب و المواشي حتى لم يبق بمصر و ما حولها دابة و لا ماشية إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتى لم يبق. بمصر و ما حولها عبد و لا أمة إلا صار في ملكه و باعهم في السنة الخامسة بالدور و الفناء حتى لم يبق في مصر و ما حولها دار و لا فناء إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار حتى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حر إلا صار عبدا ليوسف. فملك أحرارهم و عبيدهم و أموالهم و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما و علما و تدبيرا، ثم قال يوسف للملك: ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصر و ما حولها؟ أشر علينا برأيك فإني لم أصلحهم لأفسدهم، و لم أنجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم و لكن الله أنجاهم بيدي قال الملك: الرأي رأيك. قال يوسف: إني أشهد الله و أشهدك أيها الملك إني قد أعتقت أهل مصر كلهم، و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت عليك الملك و خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي و لا تحكم إلا بحكمي. قال له الملك: إن ذلك توبتي و فخري أن لا أسير إلا بسيرتك و لا أحكم إلا بحكمك و لولاك ما توليت عليك و لا اهتديت له و قد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام، و أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أنك رسوله فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين.

أقول: و الروايات في هذا المقام كثيرة أغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الآيات و لذلك تركنا نقلها.



و في تفسير العياشي، قال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما يجوز أن يزكي الرجل نفسه؟ قال نعم إذا اضطر إليه أ ما سمعت قول يوسف: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" و قول العبد الصالح: إني لكم ناصح أمين.

أقول: الظاهر أن المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه: "و أبلغكم رسالات ربي و أنا لكم ناصح أمين": الأعراف: 68.

و في العيون، بإسناده عن العياشي قال حدثنا محمد بن نصر عن الحسن بن موسى قال: روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنه أنكر ذلك عليه. فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): أيما أفضل النبي أو الوصي: فقال: لا بل النبي. قال: فأيما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال: لا بل مسلم. قال: فإن عزيز مصر كان مشركا و كان يوسف نبيا، و إن المأمون مسلم و أنا وصي و يوسف سأل العزيز أن يوليه حتى قال: استعملني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، و المأمون أجبرني على ما أنا فيه. قال: و قال في قوله: "حفيظ عليم" قال: حافظ على ما في يدي عالم بكل لسان: أقول: و قوله: استعملني على خزائن الأرض نقل الآية بالمعنى، و رواه العياشي في تفسيره، و روي آخر الحديث في المعاني، أيضا عن فضل بن أبي قرة عن الصادق (عليه السلام).

12 سورة يوسف - 58 - 62

وَ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسف فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَ لَمّا جَهّزَهُم بجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونى بِأَخٍ لّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنى أُوفى الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لّمْ تَأْتُونى بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَ لا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سنرَوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ إِنّا لَفَعِلُونَ (61) وَ قَالَ لِفِتْيَنِهِ اجْعَلُوا بِضعَتهُمْ فى رِحَالهِِمْ لَعَلّهُمْ يَعْرِفُونهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

بيان

فصل آخر مختار من قصة يوسف (عليه السلام) يذكر الله تعالى فيه مجيء إخوته إليه في خلال سني الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب، و كان ذلك مقدمة لضم يوسف (عليه السلام) أخاه من أمه - و هو المحسود المذكور في قوله تعالى حكاية عن الإخوة ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة - إليه ثم تعريفهم نفسه و نقل بيت يعقوب (عليه السلام) من البدو إلى مصر.

و إنما لم يعرفهم نفسه ابتداء لأنه أراد أن يلحق أخاه من أمه إلى نفسه و يرى إخوته من أبيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما و من الله عليهما أثر تقواهما و صبرهما على ما آذوهما عن الحسد و البغي ثم يشخصهم جميعا، و الآيات الخمس تتضمن قصة دخولهم مصر و اقتراحه أن يأتوا بأخيهم من أبيهم إليه إن عادوا إلى اشتراء الطعام و الميرة و تقبلهم ذلك.

قوله تعالى: "و جاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم و هم له منكرون" في الكلام حذف كثير و إنما ترك الاقتصاص له لعدم تعلق غرض هام به، و إنما الغرض بيان لحوق أخي يوسف من أمه به و إشراكه معه في النعمة و المن الإلهي ثم معرفتهم بيوسف و لحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصته و ما جرى عليه بعد عزة مصر.

و الذي جاء إليه من إخوته هم العصبة ما خلا أخيه من أمه فإن يعقوب (عليه السلام) كان يأنس به و لا يخلي بينه و بينهم بعد ما كان، من أمر يوسف ما كان و الدليل على ذلك كله ما سيأتي من الآيات.

و كان بين دخولهم هذا على أخيهم يوسف و بين انتصابه على خزائن الأرض و تقلده عزة مصر بعد الخروج من السجن أكثر من سبع سنين فإنهم إنما جاءوا إليه في بعض السنين المجدبة و قد خلت السبع السنون المخصبة، و لم يروه منذ سلموه إلى السيارة يوم أخرج من الجب و هو صبي و قد مر عليه سنون في بيت العزيز و لبث بضع سنين في السجن و تولى أمر الخزائن منذ أكثر من سبع سنين، و هو اليوم في زي عزيز مصر لا يظن به أنه رجل عبري من غير القبط، و هذا كله صرفهم عن أن يظنوا به أنه أخوهم و يعرفوه لكنه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوة كما قال تعالى: "و جاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم و هم له منكرون".

قوله تعالى: "و لما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم أ لا ترون إني أوفي الكيل و أنا خير المنزلين" قال الراغب في المفردات،: الجهاز ما يعد من متاع و غيره، و التجهيز حمل ذلك أو بعثه.

انتهي.

فالمعنى و لما حملهم ما أعد لهم من الجهاز و الطعام الذي باعه منهم أمرهم بأن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم و قال ائتوني "إلخ".

و قوله: "أ لا ترون إني أوفي الكيل - أي لا أبخس فيه و لا أظلمكم بالاتكاء على قدرتي و عزتي - و أنا خير المنزلين" أكرم النازلين بي و أحسن مثواهم، و هذا تحريض لهم أن يعودوا إليه ثانيا و يأتوا إليه بأخيهم من أبيهم كما أن قوله في الآية التالية: "فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي و لا تقربون" تهديد لهم لئلا يعصوا أمره، و كما أن قولهم في الآية الآتية: "سنراود عنه أباه و إنا لفاعلون" تقبل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام).

ثم من المعلوم أن قوله (عليه السلام) أوان خروجهم: "ائتوني بأخ لكم من أبيكم" مع ما فيه من التأكيد و التحريض و التهديد ليس من شأنه أن يورد كلاما ابتدائيا من غير مقدمة و توطئة تعمي عليهم و تصرفهم أن يتفطنوا أنه يوسف أو يتوهموا فيه ما يريبهم في أمره.

و هو ظاهر.

و قد أورد المفسرون في القصة من مفاوضته لهم و تكليمه إياهم أمورا كثيرة لا دليل على شيء منها من كلامه تعالى في سياق القصة و لا أثر يطمأن إليه في أمثال المقام.

و كلامه تعالى خال عن التعرض لذلك، و إنما الذي يستفاد منه أنه سألهم عن خطبهم فأخبروه و هم عشرة أنهم إخوة و أن لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه أبوه و لا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحب العزيز أن يأتوا به إليه فيراه.

قوله تعالى: "فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي و لا تقربون" الكيل بمعنى المكيل و هو الطعام، و لا تقربون أي لا تقربوني بدخول أرضي و الحضور عندي للامتيار و اشتراء الطعام.

و معنى الآية ظاهر، و هو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدم.

قوله تعالى: "قالوا سنراود عنه أباه و إنا لفاعلون" المراودة كما تقدم هي الرجوع في أمر مرة بعد مرة بالإلحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (عليه السلام) "سنراود عنه أباه" دليل على أنهم قصوا عليه قصته أن أباهم يضن به و لا يرضى بمفارقته له و يأبى أن يبتعد منه لسفر أو أي غيبة، و في قولهم: "أباه" و لم يقولوا: أبانا تأييد لذلك.

و قولهم: "و إنا لفاعلون" أي فاعلون للإتيان به أو للمراودة لحمله معهم و الإتيان به إليه، و معنى الآية ظاهر، و فيه تقبل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام) كما تقدم.

قوله تعالى: "و قال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون" الفتيان جمع الفتى و هو الغلام، و قال الراغب: البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال: أبضع بضاعة و ابتضعها، قال تعالى: "هذه بضاعتنا ردت إلينا" و قال تعالى: "ببضاعة مزجاة" و الأصل في هذه الكلمة البضع - بفتح الباء - و هو جملة من اللحم يبضع أي يقطع - قال - و فلان بضعة مني أي جار مجرى بعض جسدي لقربه مني - قال - و البضع بالكسر المنقطع من العشرة، و يقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة و قيل: بل هو فوق الخمس و دون العشرة.

انتهي.

و الرحال جمع رحل و هو الوعاء و الأثاث، و الانقلاب الرجوع.

و معنى الآية: و قال يوسف (عليه السلام) لغلمانه: اجعلوا مالهم و بضاعتهم التي قدموها ثمنا لما اشتروه من الطعام في أوعيتهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا و رجعوا إلى أهلهم - و فتحوا الأوعية - لعلهم يرجعون إلينا و يأتوا بأخيهم فإن ذلك يقع في قلوبهم و يطمعهم إلى الرجوع و التمتع من الإكرام و الإحسان.

12 سورة يوسف - 63 - 82

فَلَمّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قَالُوا يَأَبَانَا مُنِعَ مِنّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكتَلْ وَ إِنّا لَهُ لَحَفِظونَ (63) قَالَ هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كمَا أَمِنتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيرٌ حَفِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّحِمِينَ (64) وَ لَمّا فَتَحُوا مَتَعَهُمْ وَجَدُوا بِضعَتَهُمْ رُدّت إِلَيهِمْ قَالُوا يَأَبَانَا مَا نَبْغِى هَذِهِ بِضعَتُنَا رُدّت إِلَيْنَا وَ نَمِيرُ أَهْلَنَا وَ نحْفَظ أَخَانَا وَ نَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِك كيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكمْ حَتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنى بِهِ إِلا أَن يحَاط بِكُمْ فَلَمّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَ قَالَ يَبَنىّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوَبٍ مّتَفَرِّقَةٍ وَ مَا أُغْنى عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شىْءٍ إِنِ الحُْكْمُ إِلا للّهِ عَلَيْهِ تَوَكلْت وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُتَوَكلُونَ (67) وَ لَمّا دَخَلُوا مِنْ حَيْث أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مّا كانَ يُغْنى عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شىْءٍ إِلا حَاجَةً فى نَفْسِ يَعْقُوب قَضاهَا وَ إِنّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلّمْنَهُ وَ لَكِنّ أَكثرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَ لَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسف ءَاوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنى أَنَا أَخُوك فَلا تَبْتَئس بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمّا جَهّزَهُم بجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقَايَةَ فى رَحْلِ أَخِيهِ ثمّ أَذّنَ مُؤَذِّنٌ أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسرِقُونَ (70) قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِم مّا ذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صوَاعَ الْمَلِكِ وَ لِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فى الأَرْضِ وَ مَا كُنّا سرِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزؤُهُ إِن كُنتُمْ كذِبِينَ (74) قَالُوا جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزؤُهُ كَذَلِك نجْزِى الظلِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثمّ استَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِك كِدْنَا لِيُوسف مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فى دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَن يَشاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَتٍ مّن نّشاءُ وَ فَوْقَ كلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِن يَسرِقْ فَقَدْ سرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ فَأَسرّهَا يُوسف فى نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لهَُمْ قَالَ أَنتُمْ شرّ مّكاناً وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَأَيهَا الْعَزِيزُ إِنّ لَهُ أَباً شيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكانَهُ إِنّا نَرَاك مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَعَنَا عِندَهُ إِنّا إِذاً لّظلِمُونَ (79) فَلَمّا استَيْئَسوا مِنْهُ خَلَصوا نجِيّا قَالَ كبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَ مِن قَبْلُ مَا فَرّطتُمْ فى يُوسف فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْض حَتى يَأْذَنَ لى أَبى أَوْ يحْكُمَ اللّهُ لى وَ هُوَ خَيرُ الحَْكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَأَبَانَا إِنّ ابْنَك سرَقَ وَ مَا شهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَ مَا كنّا لِلْغَيْبِ حَفِظِينَ (81) وَ سئَلِ الْقَرْيَةَ الّتى كنّا فِيهَا وَ الْعِيرَ الّتى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَ إِنّا لَصدِقُونَ (82)

بيان

الآيات تقتص رجوع إخوة يوسف (عليه السلام) من عنده إلى أبيهم و إرضاءهم أباهم أن يرسل معهم أخا يوسف من أمه للاكتيال ثم مجيئهم ثانيا إلى يوسف و أخذ يوسف أخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك.

قوله تعالى: "فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل و إنا له لحافظون" الاكتيال أخذ الطعام كيلا إن كان مما يكال، قال الراغب: الكيل كيل الطعام يقال: كلت له الطعام إذا توليت له ذلك، و كلته الطعام إذا أعطيته كيلا، و اكتلت عليه إذا أخذت منه كيلا، قال تعالى: "ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس - يستوفون - و إذا كالوهم".

و قوله: "قالوا يا أبانا منع منا الكيل" أي لو لم نذهب بأخينا و لم يذهب معنا إلى مصر، بدليل قوله: "فأرسل معنا أخانا" فهو إجمال ما جرى بينهم و بين عزيز مصر من أمره بمنعهم من الكيل أن لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، يقصونه لأبيهم و يسألونه أن يرسله معهم ليكتالوا و لا يحرموا.

و قولهم: "أخانا" إظهار رأفة و إشفاق لتطييب نفس أبيهم من أنفسهم كقولهم: "و إنا له لحافظون" بما فيه من التأكيد البالغ.

قوله تعالى: "قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا و هو أرحم الراحمين" قال في المجمع،: الأمن اطمئنان القلب إلى سلامة الأمر يقال: أمنه يأمنه أمنا انتهى فقوله: "هل آمنكم عليه" إلخ، أي هل اطمأن إليكم في ابني هذا إلا مثل ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان.

و محصله أنكم تتوقعون مني أن أثق فيه بكم و تطمئن نفسي إليكم كما وثقت بكم و اطمأننت إليكم في أخيه من قبل و تعدونني بقولكم: "و إنا له لحافظون" أن تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم: "و إنا له لحافظون" و قد أمنتكم بمثل هذا الأمن على يوسف فلم تغنوا عني شيئا و جئتم بقميصه الملطخ بالدم أن الذئب أكله و أمني لكم على هذا الأخ مثل أمني على أخيه من قبل أمن لمن لا يغني أمنه و الاطمئنان إليه شيئا و لا بيده حفظ ما سلم إليه و اؤتمن له.

و قوله: "فالله خير حافظا و هو أرحم الراحمين" تفريع على سابق كلامه: "هل آمنكم عليه" إلخ، و تفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان إليكم في أمره لغا لا أثر له و لا يغني شيئا فخير الاطمئنان و الاتكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه، و إذا تردد الأمر بين التوكل عليه و التفويض إليه و بين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعين.

و قوله: "و هو أرحم الراحمين" في موضع التعليل لقوله: "فالله خير حافظا" أي إن غيره تعالى ربما أمن في أمر و اؤتمن عليه في أمانة سلم له فلم يرحم المؤتمن و ضيع الأمانة لكنه سبحانه أرحم الراحمين لا يترك الرحمة في محل الرحمة و يترحم العاجز الضعيف الذي فوض إليه أمرا و توكل عليه، و من يتوكل على الله فهو حسبه.



و من هنا يظهر أن مراده (عليه السلام) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة أنه سبب مستقل في سببيته غير مغلوب البتة بخلاف سائر الأسباب و إن كان الأمر كذلك قال تعالى: "و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره": الطلاق: 3 كيف و الاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الذي يتنزه عنه ساحة الأنبياء، و قد نص تعالى على أن يعقوب (عليه السلام) من المخلصين أهل الاجتباء و أنه من الأئمة الهداة المهديين، و هو (عليه السلام) يعترف في قوله: "إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل" أنه أمنهم على يوسف و لو كان من الشرك لم يقدم عليه البتة.

على أنه أمنهم على أخي يوسف أيضا بعد ما أعطوه موثقا من الله تعالى كما تدل عليه الآيات التالية.

بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة أنه تعالى متصف بصفات كريمة يؤمن معها أن يستغش عباده المتوكلين عليه المسلمين له أمورهم فإنه رءوف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم و يجمع الجميع أنه أرحم الراحمين على أنه لا يغلب في أمره لا يقهر في مشيته، و أما الناس إذا أمنوا على أمر و اطمأن إليهم في شيء فإنهم أسراء الأهواء و ملاعب الهوسات النفسانية ربما أخذتهم كرامة النفس و شيمة الوفاء و صفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه و لا يخونوه و ربما خانوا و لم يحفظوا.

على أنهم لا استقلال لهم في قدرة و لا استغناء لهم في قوة و إرادة.

و بالجملة مراده (عليه السلام) أن الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لأنه تعالى أرحم الراحمين لا يخون عبده فيما أمنه عليه و اطمأن فيه إليه بخلاف الناس فإنهم ربما لم يفوا لعهد الأمانة و لم يرحموا المؤتمن المتوسل بهم فخانوه، و لذلك لما كلف بنيه ثانيا أن يؤتوه موثقا من الله قال: "إن تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم" فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ و هو حفظه إذا أحيط بهم فإنه فوق استطاعتهم و مقدرتهم و ليسوا بمسئولين عنه، و إنما سألهم الموثق في إتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل و النفي و نحو ذلك فافهم ذلك.

و مما تقدم يظهر أن في قوله (عليه السلام): "و هو أرحم الرحمين" نوع تعريض لهم و تلويح إلى أنهم لم يستوفوا الرحم - أو لم يرحموه أصلا - في أمر يوسف حين أمنهم عليه، و الآية على أي حال في معنى الرد لما سألوه.

قوله تعالى: "و لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم" إلى آخر الآية.

البغي هو الطلب و يستعمل كثيرا في الشر و منه البغي بمعنى الظلم و البغي بمعنى الزنا، و قال في المجمع،: الميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد و يقال: مرتهم أميرهم ميرا: إذا أتيتهم بالميرة، و مثله: امترتهم امتيارا.

انتهي.

و قوله: "يا أبانا ما نبغي" استفهام أي لما فتحوا متاعهم و وجدوا بضاعتهم ردت إليهم و كان ذلك دليلا على إكرام العزيز لهم و أنه غير قاصد بهم سوءا و قد سلم إليهم الطعام و رد إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا و درا راجعوا أباهم و قالوا: يا أبانا ما الذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد أوفى لنا الكيل و رد إلينا ما بذلناه من البضاعة ثمنا.

فقولهم: "يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا" أرادوا به تطييب نفس أبيهم ليرضى بذهاب أخيهم معهم لأنه في أمن من العزيز و هم يحفظونه كما وعدوه و "لذلك عقبوه بقولهم: "و نمير أهلنا و نحفظ أخانا و نزداد كيل بعير ذلك كيل يسير" أي سهل.



و ربما قيل: إن "ما" في قوله: "ما نبغي" للنفي أي ما نطلب بما أخبرناك من العزيز و إكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردت إلينا، و كذا قيل: إن اليسير بمعنى القليل أي إن الذي جئنا به إليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى أن نضيف إليه كيل بعير أخينا.

قوله تعالى: "قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل" الموثق بكسر الثاء ما يوثق به و يعتمد عليه، و الموثق من الله هو أمر يوثق به و يرتبط مع ذلك بالله و إيتاء موثق إلهي و إعطاؤه هو أن يسلط الإنسان على أمر إلهي يوثق به كالعهد و اليمين بمنزلة الرهينة، و المعاهد و المقسم بقوله عاهدت الله أن أفعل كذا أو بالله لأفعلن كذا يراهن كرامة الله و حرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له، و لو لم يف بما قال خسر في رهينته و هو مسئول عند الله لا محالة.

و الإحاطة من حاط بمعنى حفظ و منه الحائط للجدار الذي يدور حول المكان ليحفظه و الله سبحانه محيط بكل شيء أي مسلط عليه حافظ له من كل جهة لا يخرج و لا شيء من أجزائه من قدرته، و أحاط به البلاء و المصيبة أي نزل به على نحو انسدت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه، و منه قولهم: أحيط به أي هلك أو فسد أو انسدت عليه طرق النجاة و الخلاص قال تعالى: "و أحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها": الكهف: 42، و قال: "و ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين": يونس: 22 و منه قوله في الآية: "إلا أن يحاط بكم" أي أن ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كل استطاعة و قدرة فلا يسعكم الإتيان به إلي.

و الوكالة نوع تسلط على أمر يعود إلى الغير ليقوم به، و توكيل الإنسان غيره في أمر تسليطه عليه ليقوم في إصلاحه مقامه، و التوكل عليه اعتماده و الاطمئنان إليه في أمر، و توكيله تعالى و التوكل عليه في الأمور ليس بعناية أنه خالق كل شيء و مالكه و مدبره بل بعناية أنه أذن في نسبة الأمور إلى مصادرها و الأفعال إلى فواعلها و ملكها إياها بنحو من التمليك و هي فاقدة للأصالة و الاستقلال في التأثير و الله سبحانه هو السبب المستقل القاهر لكل سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الإنسان أمرا و توصل إليه بالأسباب العادية التي بين يديه أن يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقل بتدبير الأمر و ينفي الاستقلال و الأصالة عن نفسه و عن الأسباب التي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكل عليه سبحانه.

فليس التوكل هو قطع الإنسان أو نفيه نسبة الأمور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه و عن الأسباب و إرجاع الاستقلال و الأصالة إليه تعالى مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلة التي إلى نفسه و إلى الأسباب.

و لذلك نرى أن يعقوب (عليه السلام) فيما تحكيه الآيات من توكله على الله لم يلغ الأسباب و لم يهملها بل تمسك بالأسباب العادية فكلم أولا بنيه في أخيهم ثم أخذ منهم موثقا من الله ثم توكل على الله و كذا فيما وصاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرقة ثم توكله على ربه تعالى.

فالله سبحانه على كل شيء وكيل من جهة الأمور التي لها نسبة إليها كما أنه ولي لها من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها و هي عاجزة عن القيام بها بحول و قوة، و أنه رب كل شيء من جهة أنه المالك المدبر لها.



و معنى الآية: "قال" يعقوب لبنيه: "لن أرسله" أي أخاكم من أم يوسف "معكم حتى تؤتون" و تعطوني "موثقا من الله" أثق به و أعتمد عليه من عهد أو يمين "لتأتنني به" و اللام للقسم و لما كان إيتاؤهم موثقا من الله إنما كان يمضي و يفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم و قدرتهم استثنى فقال "إلا أن يحاط بكم" و تسلبوا الاستطاعة و القدرة "فلما آتوه موثقهم" من الله "قال" يعقوب "الله على ما نقول وكيل" أي إنا قاولنا جميعا فقلت و قلتم و توسلنا بذلك إلى هذه الأسباب العادية للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشيء فليأت به كما التزم و إن تخلف فليجازه الله و ينتصف منه.

قوله تعالى: "و قال يا بني لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة" إلى آخر الآية، هذه كلمة ألقاها يعقوب (عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله و تجهزوا و استعدوا للرحيل، و من المعلوم من سياق القصة أنه خاف على بنيه و هم أحد عشر عصبة - لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفا واحدا لأنه كان من المعلوم أنه سيشخصهم إليه فيصطفون عنده صفا واحدا و هم أحد عشر إخوة لأب واحد - بل إنما كان يخاف عليهم أن يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرق به جمعهم من قتل أو أي نازلة أخرى.

و قوله بعده: "و ما أغنى عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله" لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنه كان يخاف ذلك جدا فكأنه (عليه السلام) - و الله أعلم - أحس حينما تجهزوا للسفر و اصطفوا أمامه للوداع إحساس إلهام أن جمعهم و هم على هذه الهيئة الحسنة سيفرق و ينقص من عددهم فأمرهم أن لا يتظاهروا بالإجماع كذلك و حذرهم عن الدخول من باب واحد و عزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم و النقص في عددهم.

ثم رجع إلى إطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الذي ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا أصيلا مستقلا - و لا مؤثر في الوجود بالحقيقة إلا الله سبحانه - فقيد كلامه بما يصلحه فقال مخاطبا لهم: "و ما أغنى عنكم من الله من شيء" ثم علله بقوله "إن الحكم إلا لله" أي لست أرفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما أمرتكم به من السبب الذي تتقون به نزول النازلة و تتوسلون به إلى السلامة و العافية و لا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة فإن هذه الأسباب لا تغني من الله شيئا و لا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقا إلا لله بل هذه أسباب ظاهريه إنما تؤثر إذا أراد الله لها أن تؤثر.

و لذلك عقب كلامه هذا بقوله: "عليه توكلت و عليه فليتوكل المتوكلون" أي إن هذا سبب أمرتكم باتخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء و توكلت مع ذلك على الله في أخذ هذا السبب و في سائر الأسباب التي أخذتها في أموري، و على هذا المسير يجب أن يسير كل رشيد غير غوي يرى أنه لا يقوى باستقلاله لإدارة أموره و لا أن الأسباب العادية باستقلالها تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه أن يلتجىء في أموره إلى وكيل يصلح شأنه و يدبر أمره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الذي لا يقهره شيء الغالب الذي لا يغلبه شيء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

و قد تبين بالآية أولا معنى التوكل و أنه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكل و الموكل.

و ثانيا: أن هذه الأسباب العادية لما لم تكن مستقلة في تأثيرها و لا غنية في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية أن يتوكل مع التوسل إليها على سبب وراءها ليتم لها التأثير و يكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد و الصواب لا أن يهمل الأسباب التي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فإنه من الغي و الجهل.



و ثالثا: أن ذاك السبب الذي يجب التوكل عليه في الأمور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإنه الله لا إله إلا هو رب كل شيء و هذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل عليه قوله: "و على الله فليتوكل المتوكلون".

قوله تعالى: "و لما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها" إلى آخر الآية.

الذي يعطيه سياق الآيات السابقة و اللاحقة و التدبر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم حينما ودعوه للرحيل، و إنما اتخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرسه من نزول مصيبة بهم تفرق جمعهم و تنقص من عددهم كما أشير إليه في الآية السابقة لكن اتخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدى ذلك إلى تفرق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شيء.

لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنه جعل هذا السبب الذي تخلف عن أمره و أدى إلى تفرق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإن يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلا كبيرهم إلى أبيهم ثم عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذللون لعزته فعرفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتصلوا به.

فقوله: "ما كان يغني عنهم من الله من شيء" أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الذي اتخذه وسيلة لتخلصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئا البتة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل أخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.

و قوله: "إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها" قيل: إن "إلا" بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فرد إليه ولده الذي فقده و هو يوسف.

و لا يبعد أن يكون "إلا" استثنائية فإن قوله: "ما كان يغني عنهم من الله من شيء" في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئا أو لم ينفعهم جميعا شيئا و لم يقض الله لهم جميعا به حاجة إلا حاجة في نفس يعقوب، و قوله: "قضاها" استئناف و جواب سؤال كان سائلا يسأل فيقول: ما ذا فعل بها؟ فأجيب بقوله: "قضاها".

و قوله: "و إنه لذو علم لما علمناه" الضمير ليعقوب أي إن يعقوب لذو علم بسبب ما علمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إياه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنه علم موهبي غير اكتسابي و قد تقدم أن إخلاص التوحيد يؤدي إلى مثل هذه العناية الإلهية، و يؤيد ذلك أيضا قوله تعالى بعده: "و لكن أكثر الناس لا يعلمون" إذ لو كان من العلم الاكتسابي الذي يحكم بالأسباب الظاهرية و يتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.



و الجملة: "و إنه لذو علم لما علمناه" إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبي لا يضل في هدايته و لا يخطىء في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أن في قوله: "و إنه لذو علم لما علمناه" إلخ، تصديقا ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.

هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات و للمفسرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله: "ما كان يغني عنهم - إلى قوله - قضاها" إنه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئا أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأن الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.

و قول بعضهم: إن المعنى أن الله لو قدر أن تصيبهم العين لإصابتهم و هم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين.

و قول بعضهم: إن معنى قوله: "و إنه لذو علم لما علمناه" إلخ إنه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إياه و لكن أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.

و قول بعضهم: إن اللام في "لما علمناه" للتقوية و المعنى أنه يعلم ما علمناه فيعمل به لأن من علم شيئا و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم.

إلى غير ذلك من أقاويلهم.

قوله تعالى: "و لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون" الإيواء إليه ضمه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.

و معنى الآية: "و لما دخلوا على يوسف" بعد دخولهم مصر "آوى" و قرب "إليه أخاه" الذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و أمه "قال" له "إني أنا أخوك" أي يوسف الذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدر "فلا تبتئس" و لا تغتم "بما كانوا" أي الإخوة "يعملون" من أنواع الأذى و المظالم التي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من أم أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنه كيد لحبسك عندي.

و ظاهر السياق أنه عرفه نفسه بإسرار القول إليه و سلاه على ما عمله الإخوة و طيب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم إن معنى قوله: إني أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنه كان له أخ من أمه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من أمه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنه أراد أن يطيب نفسه.

و ذلك أنه ينافيه ما في قوله: "إني أنا أخوك" من وجوه التأكيد و ذلك إنما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنه هو يوسف.

على أنه ينافي أيضا ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه: "أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا" فإنه إنما يناسب ما إذا علم أخوه أنه أخوه فاعتز بعزته كما لا يخفى.

قوله تعالى: "فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون" السقاية الظرف الذي يشرب فيه، و الرحل ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كل واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصة و فصله الله تعالى و جعل ذلك مقدمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه و هما منعمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.



و قوله: "ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون" الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لأمه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شيء كثير، و هذا الأمر الذي سمي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائما بواحد منهم و هو أخو يوسف لأمه لكن عدم تعينه بعد من بينهم كان مجوزا لخطابهم جميعا بأنكم سارقون فإن معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أن السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممن لا يتعين إلا بعد الفحص و التفتيش.

و من المعلوم من السياق أن أخا يوسف لأمه كان عالما بهذا الكيد مستحضرا منه و لذلك لم يتكلم من أول الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرفه يوسف أنه أخاه و سلاه و طيب نفسه فليس إلا أن يوسف (عليه السلام) كان عرفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنه إنما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنما كان اتهاما في نظر الإخوة و أما بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدية و تهمة حقيقة بل توصيفا صوريا فحسب لمصلحة لازمة جازمة.

فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرم شرعا، على أن القائل هو المؤذن الذي أذن بذلك.

و ذكر بعض المفسرين: أن القائل: "إنكم لسارقون.

بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أن يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.

و قال بعضهم: إن يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنما عنى به أنكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجب، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسر.

و قال بعضهم: إن الجملة استفهامية، و التقدير: أ إنكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.

قوله تعالى: "قالوا و أقبلوا عليهم ما ذا تفقدون" الفقد - كما قيل - غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله: "قالوا" للإخوة و هم العير، و قوله: "ما ذا تفقدون" مقول القول و الضمير في قوله: "عليهم" ليوسف و فتيانه كما يدل عليه السياق.

و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أن المنادي إنما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.

قوله تعالى: "قالوا نفقد صواع الملك و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم" الصواع بالضم السقاية و قيل: إن الصواع هو الصاع الذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمي تارة سقاية و أخرى صواعا، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال: "و لمن جاء به" و قال: "ثم استخرجها".

و الحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أن الأثقال المحمولة في الظاهر كالشيء المحمول على الظهر تختص باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختص باسم الحمل بفتح الحاء.

و قال في المجمع،: الزعيم و الكفيل و الضمين نظائر و الزعيم أيضا القائم بأمر القوم و هو الرئيس.

و لعل القائل: "نفقد صواع الملك" هو فتيان يوسف و القائل: "و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم" يوسف (عليه السلام) نفسه لأنه هو الرئيس الذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أما فتيانه فقالوا: نفقد صواع الملك، و أما يوسف فقال: و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم، و هذه جعالة.



و ظاهر بعض المفسرين: أن قوله: "و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم" تتمة قول المؤذن: "أيتها العير إنكم لسارقون" و على هذا فقوله: "قالوا و أقبلوا عليهم - إلى قوله - صواع الملك" معترض.

قوله تعالى: "قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين" المراد بالأرض أرض مصر و هي التي جاءوها و معنى الآية ظاهر.

و في قولهم: "لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض" دلالة على أنهم فتشوا و حقق في أمرهم أول ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة أخرى فسألوا عن شأنهم و محلهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيد ما ورد في بعض الروايات أن يوسف أظهر لهم أنه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أن لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

و قولهم: "و ما كنا سارقين" نفي أن يكونوا متصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.

قوله تعالى: "قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين" أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.

و الكلام في قولهم: "إن كنتم كاذبين" في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم: "إنكم لسارقون" و قد تقدم.

قوله تعالى: "قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين" مرادهم أن جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أن من سرق مالا يصير عبدا لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنة يعقوب (عليه السلام) كما يدل عليه قولهم: "كذلك نجزي الظالمين" أي هؤلاء الظالمين و هم السراق لكنهم عدلوا عنه إلى قولهم: "جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه" للدلالة على أن السرقة إنما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحققت السرقة إلا السارق بعينه من غير أن يتعدى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثم للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.

قوله تعالى: "فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه" فيه تفريع على ما تقدم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذرا من أن يتنبهوا و يتفطنوا أنه هو الذي وضعها في رحل أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقر الجزاء عليه لكونها في رحله.

قوله تعالى: "كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله" إلى آخر الآية.

الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لأمه من عصبة إخوته، و قد كان كيدا لأنه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علمه به طريق التوصل إلى أخذ أخيه.

و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال: "كذلك كدنا ليوسف".

و ليس كل كيد بمنفي عنه تعالى و إنما تتنزه ساحة قدسه عن الكيد الذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.



و قوله: "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله" بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنته الجارية في أرض مصر طريق يؤدي إلى أخذه، و لا أن السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثم إعلام أنهم سارقون حتى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أن جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.

و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.

و من هنا يظهر أن الاستثناء يفيد أنه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشق، و كان ذلك متداولا في كثير من السنن القومية و سياسات الملوك.

و قوله: "نرفع درجات من نشاء و فوق كل ذي علم عليم" امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله: "كذلك كدنا ليوسف" و كان امتنانا عليه.

و في قوله: "و فوق كل ذي علم عليم" بيان أن العلم من الأمور التي لا يقف على حد ينتهي إليه بل كل ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

و ينبغي أن يعلم أن ظاهر قوله: "ذي علم" هو العلم الطارىء على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة "ذي" من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أن وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.

على أن الجملة "و فوق كل ذي علم عليم" إنما تصدق فيما أمكن هناك فرض "فوق" و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حد لذاته و لا نهاية.

و لا يبعد أن يكون قوله: "و فوق كل ذي علم عليم" إشارة إلى كونه تعالى فوق كل ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه أورد في هيئة النكرة صونا للسان عن تعريفه للتعظيم.

قوله تعالى: "قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل" إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتهم بالسرقة لأنهما كانا من أم واحدة، و المعنى أنهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنه كان له أخ و قد تحققت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية أمهما و نحن مفارقوهما في الأم.

و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفا: "و ما كنا سارقين" لأنهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلا لم يكن ينفعهم البتة فقولهم: "فقد سرق أخ له من قبل" يناقضه و هو ظاهر.

على أنهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن أمور مؤسفة كثيرة فيما بينهم.

و بهذا يتضح بعض الاتضاح معنى قول يوسف: "أنتم شر مكانا" كما أن الظاهر أن قوله: "أنتم شر مكانا" إلى آخر الآية كالبيان لقوله: "فأسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم" و كما أن قوله: "و لم يبدها لهم" عطف تفسير لقوله: "فأسرها يوسف في نفسه".



و المعنى - و الله أعلم - "فأسرها" أي أخفى هذه الكلمة التي قالوها أي لم يتعرض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبين حقيقة الحال بل "أسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم" و كان هناك قائلا يقول: كيف أسرها في نفسه فأجيب أنه "قال: أنتم شر مكانا" و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كله "و الله أعلم بما تصفون" إنه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذبهم في وصفهم و لم ينفه.

و ذكر بعض المفسرين أن معنى قوله: "أنتم شر مكانا" إلخ: أنكم أسوأ حالا منه لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أ سرق أخ له من قبل أم لا.

و فيه: أن من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله: "أنتم شر مكانا" لكن الكلام فيما تلقاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلا بما تقدم.

و ربما ذكر بعضهم أن التي أسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته: "أنتم شر مكانا" فلم يخاطبهم بها ثم جهر بقوله: "و الله أعلم بما تصفون" و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.

قوله تعالى: "قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين" سياق الآيات يدل على أنهم إنما قالوا هذا القول لما شاهدوا أنه استحق الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، و كلموا العزيز في ذلك أن يأخذ أي من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتهم ليرجعوه إلى أبيه.

و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوة و الإحسان من العزيز.

قوله تعالى: "قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون" رد منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا" إلى آخر الآية قال في المجمع،: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس.

قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.

و النجي القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه: "و قربناه نجيا" و إنما جاز ذلك لأنه مصدر وصف به، و المناجاة المسارة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنه رفع السر من كل واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسما و مصدرا قال سبحانه: "و إذ هم نجوى" أي يتناجون، و قال في المصدر: "إنما النجوى من الشيطان" و جمع النجي أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحى عن موضعه.

انتهي.

و الضمير في قوله: "فلما استيئسوا منه" ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى "فلما استيئسوا" أي إخوة يوسف "منه" أي من يوسف أن يخلي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه "خلصوا" و خرجوا من بين الناس إلى فراغ "نجيا" يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.

"قال كبيرهم" مخاطبا لسائرهم "أ لم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله" ألا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلا بأخيكم، "و من قبل" هذه الواقعة "ما فرطتم" أي تفريطكم و تقصيركم "في" أمر "يوسف" عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردوه إليه سالما فألقيتموه في الجب ثم بعتموه من السيارة ثم أخبرتم أباكم أنه أكله الذئب.



"فلن أبرح الأرض" أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحى و لن أفارق أرض مصر "حتى يأذن لي أبي" برفعه اليد عن الموثق الذي واثقته به "أو يحكم الله لي و هو خير الحاكمين" فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة التي سدت لي كل باب و ذلك إما بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.

أما أنا فأختار البقاء هاهنا و أما أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: "ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق و ما شهدنا إلا بما علمنا و ما كنا للغيب حافظين" قيل المراد بقوله: "و ما شهدنا إلا بما علمنا" إنا لم نشهد في شهادتنا هذه: "إن ابنك سرق" إلا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أن السارق يؤخذ بسرقته و يسترق إلا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته و يسترق؟ و إنما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أولهما.

و قوله: "و ما كنا للغيب حافظين" قيل أي لم نكن نعلم أن ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترق و إنما كنا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.

و الحق أن المراد بالغيب كونه سارقا مع جهلهم بها و معنى الآية إن ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلا بما علمنا و ما كنا نعلم أنه سرق السقاية و أنه سيؤخذ بها حتى نكف عن تلك الشهادة فما كنا نظن به ذلك.

قوله تعالى: "و أسأل القرية التي كنا فيها و العير التي أقبلنا فيها و إنا لصادقون" أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتى لا يبقى لك أدنى ريب في أنا لم نفرط في أمره بل أنه سرق فاسترق.

فالمراد بالقرية التي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير التي أقبلوا فيها القافلة التي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثم أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقبوا عرض السؤال بقولهم: "و إنا لصادقون" أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.

12 سورة يوسف - 83 - 92

قَالَ بَلْ سوّلَت لَكُمْ أَنفُسكُمْ أَمْراً فَصبرٌ جَمِيلٌ عَسى اللّهُ أَن يَأْتِيَنى بِهِمْ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكيمُ (83) وَ تَوَلى عَنهُمْ وَ قَالَ يَأَسفَى عَلى يُوسف وَ ابْيَضت عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكرُ يُوسف حَتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَلِكِينَ (85) قَالَ إِنّمَا أَشكُوا بَثى وَ حُزْنى إِلى اللّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (86) يَبَنىّ اذْهَبُوا فَتَحَسسوا مِن يُوسف وَ أَخِيهِ وَ لا تَايْئَسوا مِن رّوْح اللّهِ إِنّهُ لا يَايْئَس مِن رّوْح اللّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ (87) فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَأَيهَا الْعَزِيزُ مَسنَا وَ أَهْلَنَا الضرّ وَ جِئْنَا بِبِضعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يجْزِى الْمُتَصدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسف وَ أَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَهِلُونَ (89) قَالُوا أَ ءِنّك لأَنت يُوسف قَالَ أَنَا يُوسف وَ هَذَا أَخِى قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَن يَتّقِ وَ يَصبرْ فَإِنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ ءَاثَرَك اللّهُ عَلَيْنَا وَ إِن كنّا لَخَطِئِينَ (91) قَالَ لا تَثرِيب عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّحِمِينَ (92)

بيان

الآيات تتضمن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانيا من مصر و إخبارهم إياه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثا إلى مصر و تحسسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.

قوله تعالى: "قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم" في المقام حذف كثير يدل عليه قوله: "ارجعوا إلى أبيكم فقولوا" إلى آخر الآيتين و التقدير و لما رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سولت لكم أنفسكم أمرا "إلخ".

و قوله: "قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا" حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيبا لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبرا يحتف بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله: "بل سولت لكم أنفسكم أمرا" رميا بالمظنة بل ليس إلا أنه وجد بفراسة إلهية أن هذه الواقعة ترتبط و تتفرع على تسويل نفساني منهم إجمالا و كذلك كان الأمر فإن الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفساني منهم.

و من هنا يظهر أنه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الذي توقف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله: "عسى الله أن يأتيني بهم جميعا" فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أن ترجيه رجوع بنيه الثلاثة مبني على صبره الجميل قبال ما سولت لهم أنفسهم أمرا.

فالمعنى - و الله أعلم - أن هذه الواقعة مما سولت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعا.

و من هنا يظهر أن قولهم: إن المعنى: ما عندي أن الأمر على ما تصفونه بل سولت لكم أنفسكم أمرا فيما أظن، ليس في محله.

و قوله: "عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم" ترج مجرد لرجوعهم جميعا مع ما فيه من الإشارة إلى أن يوسف حي لم يمت - على ما يراه - و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله: "إنه هو العليم الحكيم" بل بمثل قولنا: إنه هو السميع العليم أو الرءوف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.

بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إن واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة التي أخذت مني ابنين آخرين إنما هما لأمر ما سولته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعا و يتم نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه أنه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدر الأمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.



و الاسمان: العليم الحكيم هما اللذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليهما السلام) لأول مرة أول رؤياه فقال: "إن ربك عليم حكيم" ثم ذكرهما يوسف ليعقوب (عليهما السلام) ثانيا حيث رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا فقال: "يا أبت هذا تأويل رؤياي - إلى أن قال - هو العليم الحكيم".

قوله تعالى: "و تولى عنهم و قال يا أسفى على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم" قال الراغب في المفردات،: الأسف الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكل واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - و قوله تعالى: "فلما آسفونا انتقمنا منهم" أي أغضبونا قال أبو عبد الله الرضا: إن الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون فجعل رضاهم رضاه و غضبهم غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة.

انتهي.

و قال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم احتباس النفس و يعبر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى: "إذ نادى و هو مكظوم" و كظم الغيظ حبسه قال تعالى: "و الكاظمين الغيظ"، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شده بعد ملئه مانعا لنفسه.

انتهي.

و قوله: "و ابيضت عيناه من الحزن" ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي: "اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا": الآية 93 من السورة يشهد بأنه كناية عن ذهاب البصر.

و معنى الآية: "ثم تولى" و أعرض يعقوب (عليه السلام) "عنهم" أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله: بل سولت لكم أنفسكم أمرا "و قال: يا أسفى" و يا حزني "على يوسف و ابيضت عيناه" و ذهب بصره "من الحزن" على يوسف "فهو كظيم" حابس غيظه متجرع حزنه لا يتعرض لبنيه بشيء.

قوله تعالى: "قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين" الحرض و الحارض المشرف على الهلاك و قيل: هو الذي لا ميت فينسى و لا حي فيرجي، و المعنى الأول أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنى و لا يجمع لأنه مصدر.

و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكف عنه حتى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنهم إنما قالوه رقة بحاله و رأفة به، و لعلهم إنما تفوهوا به تبرما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصة من جهة أنه كان يكذبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسفه أنه يشكوهم كما ربما يؤيده قوله: "إنما أشكوا" إلخ.

قوله تعالى: "قال إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون" قال في المجمع،: البث الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه، و كل شيء فرقته فقد بثثته و منه قوله: "و بث فيها من كل دابة" انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.



و الحصر الذي في قوله: "إنما أشكوا" إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أني لست أشكو بثي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقل زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثهم و حزنهم عند المصائب، و إنما أشكو بثي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.

و في قوله: "و أعلم من الله ما لا تعلمون" إشارة إجمالية إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.

قوله تعالى: "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه و لا تيئسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" قال في المجمع،: التحسس - بالحاء - طلب الشيء بالحاسة و التجسس - بالجيم - نظيره و في الحديث: لا تحسسوا و لا تجسسوا، و قيل إن معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر "متى ادن منه ينأى عنه و يبعد".

و قيل: التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عباس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسس في الخير و التجسس في الشر.

انتهي.

و قوله: "و لا تيئسوا من روح الله" الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيب و يكنى به عن الحالة التي هي ضد التعب و هي الراحة و ذلك أن الشدة التي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصور اختناقا و كظما للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفسا و روحا لقولهم يفرج الهم و ينفس الكرب فالروح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة بإذن الله و مشيته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أن الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيته و لا معقب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام): "أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام): "و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون": الحجر: 56، و قد عد اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

و معنى الآية - ثم قال يعقوب لبنيه آمرا لهم - "يا بني اذهبوا فتحسسوا" من يوسف و أخيه" الذي أخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلكم تظفرون بهما "و لا تيئسوا من روح الله" و الفرج الذي يرزقه الله بعد الشدة "أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" الذين لا يؤمنون بأن الله يقدر أن يكشف كل غمة و ينفس عن كل كربة.

قوله تعالى: "فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة" إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لما دخلوا على يوسف قالوا "إلخ".

كانت لهم - على ما يدل عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.

إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنهم عرفوا بالكذب و سجل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.

و ثانيتهما: أن يخلي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحوا عليه فأبى العزيز حتى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.



و لذلك لما حضروا عند يوسف العزيز و كلموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلل و الخضوع و بالغوا في رقة الكلام استرحاما و استعطافا فذكروا أولا ما مسهم و أهلهم من الضر و سوء الحال ثم ذكروا قلة ما أتوا به من البضاعة ثم سألوه إيفاء الكيل، و أما حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدق عليهم و إنما يتصدق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترق مال العزيز ظاهرا ثم حرضوه بقولهم: "إن الله يجزي المتصدقين" و هو في معنى الدعاء.

فمعنى الآية: "يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر" و أحاط بنا جميعا المضيقة و سوء الحال "و جئنا" إليك "ببضاعة مزجاة" و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنه نهاية ما في وسعنا "فأوف لنا الكيل و تصدق علينا" و كأنهم يريدون به أخاهم أو إياه و الطعام "إن الله يجزي المتصدقين" خيرا.

و قد بدءوا القول بخطاب "يا أيها العزيز" و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدق عليهم و هو من أمر السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممن لا يستحق ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفوا أمام عزيز مصر.

و عند ذلك تمت الكلمة الإلهية أنه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله: "هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه" و عرفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنه بمصر طول هذه المدة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلة و المسكنة و هو متك على أريكة العزة.

قوله تعالى: "قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون" إنما يخاطب المخطىء المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله: "إذ أنتم جاهلون" و فيه تلقين عذر.

فقوله: "هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه" مجرد تذكير لعملهم بهما من غير توبيخ و مؤاخذة ليعرفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوة.

قوله تعالى: "قالوا ء إنك لأنت يوسف قال أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا" إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أن الشواهد القطعية قامت على تحقق مضمونها و إنما يستفهم لمجرد الاعتراف فحسب.

و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم: "ء إنك لأنت يوسف" مؤكدا بإن و اللام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله: "أنا يوسف و هذا أخي" و إنما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن من الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال: "قد من الله علينا".

ثم أخبر عن سبب المن الإلهي بحسب ظاهر الأسباب فقال: "إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين" و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنه يتحقق بالتقوى و الصبر.

قوله تعالى: "قالوا تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين" الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضد الصواب و الخاطىء و المخطىء من خطأ خطأ و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطإ و تفضيل الله يوسف عليهم.



قوله تعالى: "قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين" التثريب التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنما قيد نفي التثريب باليوم ليدل على مكانة صفحه و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر أوتي النبوة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و إن الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أول يوم: "ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين".

ثم دعا لهم و استغفر بقوله: "يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين" و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الذين ظلموه جميعا و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم لا جميعهم كما يستفاد من قوله تعالى الآتي: "قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم" و سيجيء إن شاء الله تعالى.

بحث روائي



في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يحدث: قال: لما فقد يعقوب يوسف (عليهما السلام) اشتد حزنه عليه و بكاؤه حتى ابيضت عيناه من الحزن و احتاج حاجة شديدة و تغيرت حالته، و كان يمتار القمح من مصر لعياله في السنة مرتين: للشتاء و الصيف، و إنه بعث عدة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر فرفع لهم رفقة خرجت. فلما دخلوا على يوسف و ذلك بعد ما ولاه العزيز مصر فعرفهم يوسف و لم يعرفه إخوته لهيبة الملك و عزته فقال لهم: هلموا بضاعتكم قبل الرفاق، و قال لفتيانه عجلوا لهؤلاء الكيل و أوفهم فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم و لا تعلموهم بذلك ففعلوا ثم قال لهم يوسف: قد بلغني أنه قد كان لكم أخوان من أبيكم فما فعلا؟ قالوا: أما الكبير منهما فإن الذئب أكله، و أما الصغير فخلفناه عند أبيه و هو به ضنين و عليه شفيق. قال: فإني أحب أن تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتاروا فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي و لا تقربون قالوا: سنراود عنه أباه و إنا لفاعلون. فلما رجعوا إلى أبيهم و فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم قالوا: يا أبانا ما نبغي؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا و كيل لنا كيل قد زاد حمل بعير فأرسل معنا أخانا نكتل و إنا له لحافظون قال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل. فلما احتاجوا بعد ستة أشهر بعثهم يعقوب و بعث معهم بضاعة يسيرة و بعث معهم ابن يامين و أخذ عنهم بذلك موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم أجمعين فانطلقوا مع الرفاق حتى دخلوا على يوسف فقال: هل معكم ابن يامين؟ قالوا: نعم هو في الرحل قال لهم: فأتوني به و هو في دار الملك قد خلا وحده فأدخلوه عليه فضمه إليه و بكى و قال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما تراني أعمل و اكتم ما أخبرتك به و لا تحزن و لا تخف. ثم أخرجه إليهم و أمر فتيانه أن يأخذوا بضاعتهم و يعجلوا لهم الكيل فإذا فرغوا جعلوا المكيال في رحل ابن يامين ففعلوا به ذلك و ارتحل القوم مع الرفقة فمضوا فلحقهم يوسف و فتيته فنادوا فيهم قال: أيتها العير إنكم لسارقون، قالوا و أقبلوا عليهم: ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه. قال: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فقال لهم يوسف: ارتحلوا عن بلادنا. قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا و قد أخذ علينا موثقا من الله لنرد به إليه فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين إن فعلت، قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده فقال كبيرهم: إني لست أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي. و مضى إخوة يوسف حتى دخلوا على يعقوب فقال لهم: فأين ابن يامين؟ قالوا: ابن يامين سرق مكيال الملك فأخذه الملك بسرقته فحبس عنده فاسأل أهل القرية و العير حتى يخبروك بذلك فاسترجع و استعبر و اشتد حزنه حتى تقوس ظهره.

و فيه، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: صواع الملك الطاس الذي يشرب فيه.

أقول: و في بعض الروايات أنه كان قدحا من ذهب و كان يكتال به يوسف (عليه السلام).

و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في نسخة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له و أنا عنده إن سالم بن حفصة روى عنك أنك تكلم على سبعين وجها لك منها المخرج. قال: ما يريد سالم مني؟ أ يريد أن أجيء بالملائكة فوالله ما جاء بهم النبيون، و لقد قال إبراهيم: إني سقيم و و الله ما كان سقيما و ما كذب، و لقد قال إبراهيم: بل فعله كبيرهم و ما فعله كبيرهم و ما كذب، و لقد قال يوسف: أيتها العير إنكم لسارقون و الله ما كانوا سرقوا و ما كذب.

و فيه، عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله في يوسف: "أيتها العير إنكم لسارقون قال: إنهم سرقوا يوسف من أبيه أ لا ترى أنه قال لهم حين قالوا و أقبلوا عليهم ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لم يقولوا: سرقتم صواع الملك إنما عنى أنكم سرقتم يوسف من أبيه.

و في الكافي، بإسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف "أيتها العير إنكم لسارقون" فقال: و الله ما سرقوا و ما كذب، و قال إبراهيم: "بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون" فقال: و الله ما فعل و ما كذب. قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما عندكم فيها يا صيقل؟ قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم. قال: فقال: إن الله أحب اثنين و أبغض اثنين أحب الخطو فيما بين الصفين و أحب الكذب في الإصلاح، و أبغض الخطو في الطرقات و أبغض الكذب في غير الإصلاح، إن إبراهيم إنما قال: بل فعله كبيرهم إرادة الإصلاح و دلالة على أنهم لا يفعلون، و قال يوسف إرادة الإصلاح.

أقول: قوله (عليه السلام) إنه أراد الإصلاح لا ينافي ما في الرواية السابقة أنه أراد به سرقهم يوسف من أبيه فكون ظاهر الكلام مما لا يطابق الواقع غير كون المتكلم مريدا به معنى صحيحا في نفسه غير مفهوم منه في ظرف التخاطب، و الدليل على ذلك قوله (عليه السلام) إنه أراد الإصلاح و دل على أنهم لا يفعلون حيث جمع بين المعنيين و للفظ بحسب أحدهما - و هو الثاني - مطابق دون الآخر فافهمه و ارجع إلى ما قدمناه في البيان.

و في معنى الأحاديث الثلاثة الأخيرة أخبار أخر مروية في الكافي، و المعاني، و تفسيري العياشي، و القمي،.



و في تفسير العياشي، عن إسماعيل بن همام قال: قال الرضا (عليه السلام): في قول الله تعالى: "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل - فأسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم" قال: كان لإسحاق النبي منطقة يتوارثها الأنبياء و الأكابر، و كانت عند عمة يوسف، و كان يوسف عندها و كانت تحبه فبعث إليه أبوه أن ابعثه إلي و أرده إليك فبعثت إليه أن دعه عندي الليلة لأشمه ثم أرسله إليك غدوة فلما أصبحت أخذت المنطقة فربطها في حقوه و ألبسته قميصا فبعثت به إليه و قالت: سرقت المنطقة فوجدت عليه، و كان إذا سرق أحد في ذلك الزمان دفع إلى صاحب السرقة فأخذته فكان عندها.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل" قال: سرق يوسف (عليه السلام) صنما لجده أبي أمه من ذهب و فضة فكسره و ألقاه في الطريق فعيره بذلك إخوته.

أقول: و الرواية السابقة أقرب إلى الاعتماد، و قد رويت بطرق أخرى عن الأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و يؤيدها ما روي بغير واحد من طرق أهل البيت و طرق غيرهم: أن السجان قال ليوسف: إني لأحبك فقال: لا تحبني فإن عمتي أحبتني فنسبت إلي السرقة و أبي أحبني فحسدني إخوتي و ألقوني في الجب، و امرأة العزيز أحبتني فألقوني في السجن.

و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "إنا نراك من المحسنين" قال: كان يوسف يوسع المجلس و يستقرض المحتاج و يعين الضعيف.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب التمحيص عن جابر قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما الصبر الجميل؟ قال: ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى أحد من الناس إن إبراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان عابد من العباد في حاجة فلما رآه الراهب حسبه إبراهيم فوثب إليه فاعتنقه ثم قال: مرحبا بخليل الرحمن فقال له يعقوب: لست بخليل الرحمن و لكن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال له الراهب: فما الذي بلغ بك ما أرى من الكبر؟ قال: الهم و الحزن و السقم. قال: فما جاز عتبة الباب حتى أوحى الله إليه: يا يعقوب شكوتني إلى العباد فخر ساجدا عند عتبة الباب يقول: رب لا أعود فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك فلا تعد إلى مثلها فما شكى شيئا مما أصابه من نوائب الدنيا إلا أنه قال يوما: "إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله - و أعلم من الله ما لا تعلمون".

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من بث لم يصبر ثم قرأ "إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله".

أقول: و رواه أيضا عن ابن عدي و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): و في الكافي، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول يعقوب لبنيه: "اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه" إنه كان يعلم أنه حي و قد فارقهم منذ عشرين سنة؟ قال: نعم. قلت: كيف علم؟ قال: إنه دعا في السحر و قد سأل الله أن يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه تربال و هو ملك الموت فقال له تربال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال: أخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟ فقال: بل أقبضها متفرقة روحا روحا. قال: فمر بك روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنه حي فعند ذلك قال لولده: "اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه".



أقول: و رواه في المعاني، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبيه عنه (عليه السلام) و فيه: قال يعني يعقوب لملك الموت: أخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريق؟ قال: يقبضها أعواني متفرقة و تعرض علي مجتمعة قال: فأسألك بإله إبراهيم و إسحاق و يعقوب هل عرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنه حي.

و في الدر المنثور، أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره و ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج بعد الشدة و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و أبو الشيخ و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و فيه: أتى جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام و يقول لك: أبشر و ليفرح قلبك فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين فإن أحب عبادي إلي الأنبياء و المساكين. و تدري لم أذهبت بصرك و قوست ظهرك و صنع إخوة يوسف به ما صنعوا؟ إنكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين و هو صائم فلم تطعموه منه شيئا. فكان يعقوب (عليه السلام) إذا أراد الغداء أمر مناديا ينادي ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب و إذا كان صائما أمر مناديا فنادى ألا من كان صائما من المساكين فليفطر مع يعقوب.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "فالله خير حافظا" الآية: ورد في الخبر: أن الله سبحانه قال: فبعزتي لأردنهما إليك من بعد ما توكلت علي.

12 سورة يوسف - 93 - 102

اذْهَبُوا بِقَمِيصى هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبى يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونى بِأَهْلِكمْ أَجْمَعِينَ (93) وَ لَمّا فَصلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنى لأَجِدُ رِيحَ يُوسف لَوْ لا أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللّهِ إِنّك لَفِى ضلَلِك الْقَدِيمِ (95) فَلَمّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدّ بَصِيراً قَالَ أَ لَمْ أَقُل لّكمْ إِنى أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَأَبَانَا استَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَطِئِينَ (97) قَالَ سوْف أَستَغْفِرُ لَكُمْ رَبى إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ (98) فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسف ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قَالَ ادْخُلُوا مِصرَ إِن شاءَ اللّهُ ءَامِنِينَ (99) وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلى الْعَرْشِ وَ خَرّوا لَهُ سجّداً وَ قَالَ يَأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبى حَقّا وَ قَدْ أَحْسنَ بى إِذْ أَخْرَجَنى مِنَ السجْنِ وَ جَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نّزَغَ الشيْطنُ بَيْنى وَ بَينَ إِخْوَتى إِنّ رَبى لَطِيفٌ لِّمَا يَشاءُ إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الحَْكِيمُ (100) رَب قَدْ ءَاتَيْتَنى مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلّمْتَنى مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ أَنت وَلىِّ فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ تَوَفّنى مُسلِماً وَ أَلْحِقْنى بِالصلِحِينَ (101) ذَلِك مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْك وَ مَا كُنت لَدَيهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يمْكُرُونَ (102)

بيان

ختام قصة يوسف (عليه السلام) و تتضمن الآيات أمر يوسف إخوته بحمل قميصه إلى أبيه و إتيانهم إليه بأهلهم أجمعين ثم دخولهم مصر و لقاؤه أبويه.

قوله تعالى: "اذهبوا بقميصي هذا و ألقوه على وجه أبي يأت بصيرا و أتوني بأهلكم أجمعين" تتمة كلام يوسف (عليه السلام) يأمر فيه إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه فيلقوه على وجهه ليشفي الله به عينيه و يأتي بصيرا بعد ما صار من كثرة الحزن و البكاء ضريرا لا يبصر.

و هذا آخر العنايات البديعة التي أظهرها الله سبحانه في حق يوسف (عليه السلام) على ما يقصه في هذه السورة مما غلب الله الأسباب فحولها إلى خلاف الجهة التي كانت تجري إليها حسده إخوته فاستذلوه و غربوه عن مستقره بإلقائه في الجب و بيعه من السيارة بثمن بخس فجعل الله سبحانه هذا السبب بعينه سببا لقراره في بيت عزيز مصر في أكرم مثوى ثم أقره في أريكة عزة تضرع إليه أمامها إخوته بقولهم "يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين".

ثم أحبته امرأة العزيز و نسوة مصر فراودنه عن نفسه ليوردنه في مهلكة الفجور فحفظه الله و جعل ذلك سببا لظهور براءة ساحته و كمال عفته، ثم استذلوه فسجنوه فجعله الله سببا لعزته و ملكه.

و جاء إخوته إلى أبيه يوم ألقوه في غيابة الجب بقميصه الملطخ بالدم فأخبروه بموته كذبا فكان القميص سببا لحزن أبيه و بكائه في فراق ابنه حتى ابيضت عيناه و ذهب بصره فرد الله سبحانه به بصره إليه و بالجملة اجتمعت الأسباب على خفضه و أراد الله سبحانه رفعه فكان ما أراده الله دون الذي توجهت إليه الأسباب و الله غالب على أمره.

و قوله: "و أتوني بأهلكم أجمعين" أمر منه بانتقال بيت يعقوب من يعقوب و أهله و بنيه و ذراريه جميعا من البدو إلى مصر و نزولهم بها.

قوله تعالى: "و لما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون" الفصل القطع و الانقطاع و التفنيد تفعيل من الفند بفتحتين و هو ضعف الرأي، و المعنى لما خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر و انقطعت عنها قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه: إني لأجد ريح يوسف لو لا أن ترموني بضعف الرأي أي إني لأحس بريحه و أرى أن اللقاء قريب و من حقه أن تذعنوا بما أجده لو لا أن تخطئوني لكن من المحتمل أن تفندوني فلا تذعنوا بقولي.

قوله تعالى: "قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم" القديم مقابل الجديد و المراد به المتقدم وجودا، و هذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده، و هو من سيء حظهم في هذه القصة تفوهوا بمثله في بدء القصة إذ قالوا: "إن أبانا لفي ضلال مبين" و في ختمها و هو قولهم هذا: "تالله إنك لفي ضلالك القديم".



و الظاهر أن مرادهم بالضلال هاهنا هو مرادهم بالضلال هناك و هو المبالغة في حب يوسف و ذلك أنهم كانوا يرون أنهم أحق بالحب من يوسف و هم عصبة إليهم تدبير بيته و الدفاع عنه لكن أباهم قد ضل عن مستوى طريق الحكمة و قدم عليهم في الحب طفلين صغيرين لا يغنيان عنه شيئا فأقبل بكله إليهما و نسيهم، ثم لما فقد يوسف جزع له و لم يزل يجزع و يبكي حتى ذهبت عيناه و تقوس ظهره.

فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتى يصيروا بذلك كافرين:.

أما أولا: فلأن ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصة يشهد على أنهم كانوا موحدين على دين آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليهما السلام).

و أما ثانيا: فلأن المقام هاهنا و كذا في بدء القصة حين قالوا: إن أبانا لفي ضلال مبين" لا مساس له بالضلال في الدين حتى يحتمل رميهم أباهم فيه، و إنما يمس أمرا عمليا حيويا و هو حب أب لبعض أولاده و تقديمه في الكرامة على آخرين فهو المعنى بالضلال.

قوله تعالى: "فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال أ لم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون" البشير حامل البشارة و كان حامل القميص و قوله "أ لم أقل لكم إني أعلم" يشير (عليه السلام) إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف: "إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون"، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين" القائلون بنو يعقوب بدليل قولهم: "يا أبانا" و يريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف و أخيه، و أما يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.

قوله تعالى: "قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم" أخر (عليه السلام) الاستغفار لهم كما هو مدلول قوله: "سوف أستغفر لكم ربي" و لعله إنما أخره ليتم له النعمة بلقاء يوسف و تطيب نفسه به كل الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثم يستغفر لهم و في بعض الأخبار: أنه أخره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء و سيجيء إن شاء الله.

قوله تعالى: "فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه و قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" في الكلام حذف و التقدير فخرج يعقوب و آله من أرضهم و ساروا إلى مصر و لما دخلوا "إلخ".

و قوله: "آوى إليه أبويه" فسروه بضمهما إليه، و قوله: "و قال ادخلوا مصر إلخ.

ظاهر في أن يوسف خرج من مصر لاستقبالهما و ضمهما إليه هناك ثم عرض لهما دخول مصر إكراما و تأدبا و قد أبدع (عليه السلام) في قوله: "إن شاء الله آمنين" حيث أعطاهم الأمن و أصدر لهم حكمه على سنة الملوك و قيد ذلك بمشية الله سبحانه للدلالة على أن المشية الإنسانية لا تؤثر أثرها كسائر الأسباب إلا إذا وافقت المشية الإلهية على ما هو مقتضى التوحيد الخالص، و ظاهر هذا السياق أنه لم يكن لهم الدخول و الاستقرار في مصر إلا بجواز من ناحية الملك، و لذا أعطاهم الأمن في مبتدإ الأمر.

و قد ذكر سبحانه "أبويه" و المفسرون مختلفون في أنهما كانا والديه أباه و أمه حقيقة أو أنهما يعقوب و زوجه خالة يوسف بالبناء على أن أمه ماتت و هو صغير، و لا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيد أحد المحتملين غير أن الظاهر من الأبوين هما الحقيقيان.

و معنى الآية "فلما دخلوا" أي أبواه و إخوته و أهلهم "على يوسف" و ذلك في خارج مصر "آوى" و ضم "إليه أبويه و قال" لهم مؤمنا لهم "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين".



قوله تعالى: "و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي" إلى آخر الآية، العرش هو السرير العالي و يكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك و يختص به، و الخرور السقوط على الأرض و البدو البادية فإن يعقوب كان يسكن البادية.

و قوله: "و رفع أبويه على العرش" أي رفع يوسف أبويه على عرش الملك الذي كان يجلس عليه و مقتضى الاعتبار و ظاهر السياق أنهما رفعا على العرش بأمر من يوسف تصداه خدمه لا هو بنفسه كما يشعر به قوله: "و خروا له سجدا" فإن الظاهر أن السجدة إنما وقعت لأول ما طلع عليهم يوسف فكأنهم دخلوا البيت و اطمأن بهم المجلس ثم دخل عليهم يوسف فغشيهم النور الإلهي المتلألىء من جماله البديع فلم يملكوا أنفسهم دون أن خروا له سجدا.

و قوله: "و خروا له سجدا" الضمير ليوسف كما يعطيه السياق فهو المسجود له، و قول بعضهم: إن الضمير لله سبحانه نظرا إلى عدم جواز السجود لغير الله لا دليل عليه من جهة اللفظ، و قد وقع نظيره في القرآن الكريم في قصة آدم و الملائكة قال تعالى: "و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس:" طه: 116.

و الدليل على أنها لم تكن منهم سجدة عبادة ليوسف أن بين هؤلاء الساجدين يعقوب (عليه السلام) و هو ممن نص القرآن الكريم على كونه مخلصا - بالفتح - لله لا يشرك به شيئا، و يوسف (عليه السلام) - و هو المسجود له - منهم بنص القرآن و هو القائل لصاحبيه في السجن: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء و لم يردعهم.

فليس إلا أنهم إنما أخذوا يوسف آية لله فاتخذوه قبلة في سجدتهم و عبدوا الله بها لا غير كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلي إليها فيعبد بها الله دون الكعبة، و من المعلوم أن الآية من حيث إنها آية لا نفسية لها أصلا فليس المعبود عندها إلا الله سبحانه و تعالى، و قد تكرر الكلام في هذا المعنى فيما تقدم من أجزاء الكتاب.

و من هنا يظهر أن ما ذكروه في توجيه الآية كقول بعضهم: إن تحية الناس يومئذ كانت هي السجدة كما أنها في الإسلام السلام، و قول بعضهم: إن سنة العظيم كانت إذ ذاك السجدة و لم ينه عنها لغير الله بعد كما في الإسلام، و قول بعضهم: كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعله الأعاجم كل ذلك غير وجيه.

قوله تعالى: "قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا" إلى آخر الآية لما شاهد (عليه السلام) سجدة أبويه و إخوته الأحد عشر ذكر الرؤيا التي رأى فيها أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر له ساجدين و أخبر بها أباه و هو صغير فأولها له، فأشار إلى سجودهم له و قال: "يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها - أي الرؤيا - ربي حقا".

ثم أثنى على ربه شاكرا له فقال: "و قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن" فذكر إحسان ربه به في إخراجه من السجن و هو ضراء و بلاء دفعه الله عنه بتبديله سراء و نعمة من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيله العزة و الملك.

و لم يذكر إخراجه من الجب قبل ذلك لحضور إخوته عنده و كان لا يريد أن يذكر ما يسوؤهم ذكره كرما و فتوة بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن أن يشار به إليه من غير أن يتضمن طعنا فيهم و شنآنا فقال: "و جاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي" و النزغ هو الدخول في أمر لإفساده.



و المراد: و قد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني و بين إخوتي فكان من الأمر ما كان فأدى ذلك إلى فراق بيني و بينكم فساقني ربي إلى مصر فأقرني في أرغد عيش و أرفع عزة و ملك ثم قرب بيننا بنقلكم من البادية إلي في دار المدنية و الحضارة.

يعني أنه كانت نوائب نزلت بي إثر إفساد الشيطان بيني و بين إخوتي و مما أخصه بالذكر من بينها فراق بيني و بينكم ثم رزية السجن فأحسن بي ربي و دفعها عني واحدة بعد أخرى و لم يكن من المحن و الحوادث العادية بل رزايا صماء و عقودا لا تنحل لكن ربي نفذ فيها بلطفه و نفوذ قدرته فبدلها أسباب حياة و نعمة بعد ما كانت أسباب هلاك و شقاء و لهذه الثلاثة الأخيرة عقب قوله: "و قد أحسن بي" إلخ بقوله: "إن ربي لطيف لما يشاء".

فقوله: "إن ربي لطيف لما يشاء" تعليل لإخراجه من السجن و مجيئهم من البدو، و يشير به إلى ما خصه الله به من العناية و المنة و إن البلايا التي أحاطت به لم تكن لتنحل عقدتها أو لتنحرف عن مجراها لكن الله لطيف لما يشاء نفذ فيها فجعل عوامل الشدة عوامل رخاء و راحة و أسباب الذلة و الرقية وسائل عزة و ملك.

و اللطيف من أسمائه تعالى يدل على حضوره و إحاطته تعالى بما لا سبيل إلى الحضور فيه و الإحاطة به من باطن الأشياء و هو من فروع إحاطته تعالى بنفوذ القدرة و العلم قال تعالى: "أ لا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير": الملك: 14 و الأصل في معناه الصغر و الدقة و النفوذ يقال: لطف الشيء بالضم يلطف لطافة إذا صغر و دق حتى نفذ في المجاري و الثقب الصغار، و يكنى به عن الإرفاق و الملاءمة و الاسم اللطف.

و قوله: "هو العليم الحكيم" تعليل لجميع ما تقدم من قوله: "يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا" إلخ، و قد علل (عليه السلام) الكلام و ختمه بهذين الاسمين محاذاة لأبيه حيث تكلم في رؤياه و قال: "و كذلك يجتبيك ربك - إلى أن قال - إن ربك عليم حكيم" و ليس يبعد أن يفيد اللام في قوله: "العليم الحكيم" معنى العهد فيفيد تصديقه لقول أبيه (عليه السلام) و المعنى: و هو ذاك العليم الحكيم الذي وصفته لي يوم أولت رؤياي.

قوله تعالى: "رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث" إلى آخر الآية لما أثنى (عليه السلام) على ربه و عد ما دفع عنه من الشدائد و النوائب أراد أن يذكر ما خصه به من النعم المثبتة و قد هاجت به المحبة الإلهية و انقطع بها عن غيره تعالى فترك خطاب أبيه و انصرف عنه و عن غيره ملتفتا إلى ربه و خاطب ربه عز اسمه فقال: "رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث".

و قوله: "فاطر السموات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة" إضراب و ترق في الثناء، و رجوع منه (عليه السلام) إلى ذكر أصل الولاية الإلهية بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجلية كإخراجه من السجن و المجيء بأهله من البدو و إيتائه من الملك و تعليمه من تأويل الأحاديث فإن الله سبحانه رب فيما دق و جل معا، ولي في الدنيا و الآخرة جميعا.



و ولايته تعالى أعني كونه قائما كل شيء في ذاته و صفاته و أفعاله منشأها إيجاده تعالى إياها جميعا و إظهاره لها من كتم العدم فهو فاطر السماوات و الأرض و لذا يتوجه إليه تعالى قلوب أوليائه و المخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الذي يفيد وجوده تعالى لذاته و إيجاده لغيره قال تعالى: "قالت رسلهم أ في الله شك فاطر السموات و الأرض": إبراهيم: 10.

و لذا بدأ به يوسف (عليه السلام) - و هو من المخلصين - في ذكر ولايته فقال: "فاطر السموات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة" أي إني تحت ولايتك التامة من غير أن يكون لي صنع في نفسي و استقلال في ذاتي و صفاتي و أفعالي أو أملك لنفسي شيئا من نفع أو ضر أو موت أو حياة أو نشور.

و قوله: "توفني مسلما و ألحقني بالصالحين" لما استغرق (عليه السلام) في مقام الذلة قبال رب العزة و شهد بولايته له في الدنيا و الآخرة سأله سؤال المملوك المولى عليه أن يجعله كما يستدعيه ولايته عليه في الدنيا و الآخرة و هو الإسلام ما دام حيا في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة فإن كمال العبد المملوك أن يسلم لربه ما يريده منه ما دام حيا و لا يظهر منه ما يكرهه و لا يرتضيه فيما يرجع إليه من الأعمال الاختيارية و أن يكون صالحا لقرب مولاه لائقا لمواهبه السامية فيما لا يرجع إلى العبد و اختياره، و هو سؤاله (عليه السلام) الإسلام في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة و هو الذي منحه الله سبحانه لجده إبراهيم (عليه السلام): "و لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين": البقرة: 131.

و هذا الإسلام الذي سأله (عليه السلام) أقصى درجات الإسلام و أعلى مراتبه، و هو التسليم المحض لله سبحانه، و هو أن لا يرى العبد لنفسه و لا لآثار نفسه شيئا من الاستقلال حتى لا يشغله شيء من نفسه و لا صفاتها و لا أعمالها من ربه، و إذا نسب إليه تعالى كان إخلاصه عبده لنفسه.

و مما تقدم يظهر أن قوله: "توفني مسلما" سؤال منه لبقاء الإخلاص و استمرار الإسلام ما دام حيا و بعبارة أخرى أن يعيش مسلما حتى يتوفاه الله فهو كناية عن أن يثبته الله على الإسلام حتى يموت، و ليس يراد به أن يموت في حال الإسلام و لو لم يكن قبل ذلك مسلما، و لا سؤالا للموت و هو مسلم حتى يكون المعنى أني مسلم فتوفني.

و يتبين بذلك فساد ما روي عن عدة من قدماء المفسرين أن قوله: "توفني مسلما" دعاء منه يسأل به الموت من الله سبحانه حتى قال بعضهم: لم يسأل أحد من الأنبياء الموت من الله و لا تمناه إلا يوسف (عليه السلام).

قوله تعالى: "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون" الإشارة إلى نبإ يوسف (عليه السلام)، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير الجمع لإخوة يوسف و الإجماع العزم و الإرادة.

و قوله: "و ما كنت لديهم" إلخ، حال من ضمير الخطاب من "إليك" و قوله: "نوحيه إليك و ما كنت" إلى آخر الآية بيان لقوله: "ذلك من أنباء الغيب" و المعنى أن نبأ يوسف من أنباء الغيب فإنا نوحيه إليك و الحال أنك ما كنت عند إخوة يوسف إذ عزموا على أمرهم و هم يمكرون في أمر يوسف.

بحث روائي



في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل قال: قال يوسف لإخوته: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا بقميصي هذا" الذي بلته دموع عيني "فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا" لو قد نشر ريحي "و أتوني بأهلكم أجمعين" و ردهم إلى يعقوب في ذلك اليوم، و جهزهم بجميع ما يحتاجون إليه فلما فصلت عيرهم من مصر وجد يعقوب ريح يوسف فقال لمن بحضرته من ولده إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون. قال: و أقبل ولده يحثون السير بالقميص فرحا و سرورا بما رأوا من حال يوسف و الملك الذي آتاه الله و العز الذي صاروا إليه في سلطان يوسف، و كان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيام فلما أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا، و قال لهم: ما فعل ابن يامين؟ قالوا: خلفناه عند أخيه صالحا. قال: فحمد الله يعقوب عند ذلك، و سجد لربه سجدة الشكر و رجع إليه بصره و تقوم له ظهره، و قال لولده: تحملوا إلى يوسف في يومكم هذا بأجمعكم فساروا إلى يوسف و معهم يعقوب و خالة يوسف "ياميل" فأحثوا السير فرحا و سرورا فساروا تسعة أيام إلى مصر.

أقول: كون امرأة يعقوب التي سارت معه إلى مصر و هي أم بنيامين خالة يوسف لا أمه الحقيقية وقعت في عدة الروايات و ظاهر الكتاب و بعض الروايات أنها كانت أم يوسف و أنه و بنيامين كانا أخوين لأم و إن لم يكن ظهورا يدفع به تلك الروايات.

و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "و لما فصلت العير قال أبوهم - إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون" قال: وجد يعقوب ريح يوسف حين فصلت من مصر و هو بفلسطين من مسيرة عشرة ليال.

أقول: و قد ورد في عدة روايات من طرق العامة و الخاصة أن القميص الذي أرسله يوسف إلى يعقوب (عليهما السلام) كان نازلا من الجنة، و أنه كان قميص إبراهيم أنزله إليه جبريل حين ألقي في النار فألبسه إياه فكانت عليه بردا و سلاما ثم أورثه إسحاق ثم ورثه يعقوب ثم جعله يعقوب تميمة و علقه على يوسف حين ولد فكان على عنقه حتى أخرجه يوسف من التميمة ففاحت ريح الجنة فوجدها يعقوب، و هذه أخبار لا سبيل لنا إلى تصحيحها مضافا إلى ما فيها من ضعف الأسناد.

و مثلها روايات أخرى من الفريقين تتضمن كتابا كتبه يعقوب إلى يوسف و هو يحسبه عزيز آل فرعون لاستخلاص بنيامين يذكر فيها أنه ابن إسحاق ذبيح الله الذي أمر الله جده إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم.

و قد تقدم في الجزء السابق من الكتاب أن الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق.

و في تفسير العياشي، عن نشيط بن ناصح البجلي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أ كان إخوة يوسف أنبياء؟ قال: لا و لا بررة أتقياء و كيف؟ و هم يقولون لأبيهم: تالله إنك لفي ضلالك القديم.

أقول: و في الروايات من طرق أهل السنة و في بعض الضعاف من روايات الشيعة أنهم كانوا أنبياء، و هذه الروايات مدفوعة بما ثبت من طريق الكتاب و السنة و العقل من عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، و ما ورد في الكتاب مما ظاهره كون الأسباط أنبياء كقوله تعالى: "و أوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط": النساء: 163 غير صريح في كون المراد بالأسباط هم إخوة يوسف، و الأسباط تطلق على جميع الشعوب من بني إسرائيل الذين ينتهي نسبهم إلى يعقوب (عليه السلام) قال تعالى: "و قطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما": الأعراف: 160.

و في الفقيه، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول يعقوب لبنيه: "سوف أستغفر لكم ربي" قال: أخرهم إلى السحر من ليلة الجمعة.

أقول: و في هذا المعنى بعض روايات أخر، و في الدر المنثور، عن ابن جرير و أبي الشيخ عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قول أخي يعقوب لبنيه: "سوف أستغفر لكم ربي" يقول: حتى يأتي ليلة الجمعة.

و في الكافي، بإسناده عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار، و تلا هذه الآية في قول يعقوب "سوف أستغفر لكم ربي" أخرهم إلى السحر.



أقول: و روي نظيره في الدر المنثور، عن أبي الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل لم أخر يعقوب بنيه في الاستغفار؟ قال: أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب.

و قد تقدم في بيان الآيات كلام في وجه التأخير و لقد أقبل يوسف (عليه السلام) على إخوته حين عرفوه بالفتوة و الكرامة من غير أن يجبههم بأدنى ما يسوؤهم و لازم ذلك أن يعفو عنهم و يستغفر لهم بلا مهل و لم يكن موقف يعقوب معهم حين ارتد إليه بصره بإلقاء القميص عليه ذاك الموقف.

و في تفسير القمي، حدثني محمد بن عيسى: أن يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضها على أبي الحسن، و كان أحدها: أخبرني عن قول الله: "و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا" أ سجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟. فأجاب أبو الحسن (عليه السلام): أما سجود يعقوب و ولده ليوسف فإنه لم يكن ليوسف و إنما كان ذلك من يعقوب و ولده طاعة لله و تحية ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم و لم يكن لآدم و إنما كان ذلك منهم طاعة لله و تحية لآدم فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا لله تعالى لاجتماع شملهم أ لم تر أنه يقول في شكره ذلك الوقت: رب قد آتيتني من الملك - و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات و الأرض - أنت وليي في الدنيا و الآخرة توفني مسلما - و ألحقني بالصالحين. الحديث.

أقول: و قد تقدم بعض الكلام في سجدتهم ليوسف في بيان الآيات، و ظاهر الحديث أن يوسف أيضا سجد معهم كما سجدوا و قد استدل عليه بقول يوسف في شكره: رب قد آتيتني من الملك "إلخ" و في دلالته على ذلك إبهام.

و قد روى الحديث العياشي في تفسيره، عن محمد بن سعيد الأزدي صاحب موسى بن محمد بن الرضا (عليه السلام): قال لأخيه: إن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فأخبرني عن قول الله: "و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا" أ سجد يعقوب و ولده ليوسف؟. قال: فسألت أخي عن ذلك فقال: أما سجود يعقوب و ولده ليوسف فشكرا لله تعالى لاجتماع شملهم أ لا ترى أنه يقول في شكر ذلك الوقت: "رب قد آتيتني من الملك - و علمتني من تأويل الأحاديث" الآية.

و ما رواه العياشي أوفق بلفظ الآية و أسلم من الإشكال مما رواه القمي.

و في تفسير العياشي، عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "و رفع أبويه على العرش" قال: العرش السرير، و في قوله: "و خروا له سجدا" قال: كان سجودهم ذلك عبادة لله.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: فسار تسعة أيام إلى مصر فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه فقبله و بكى، و رفع خالته على سرير الملك ثم دخل منزله فادهن و اكتحل و لبس ثياب العز و الملك ثم رجع إليهم و في نسخة ثم خرج إليهم فلما رأوه سجدوا جميعا إعظاما و شكرا لله فعند ذلك قال: "يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل إلى قوله - بيني و بين إخوتي".

قال: و لم يكن يوسف في تلك العشرين السنة يدهن و لا يكتحل و لا يتطيب و لا يضحك و لا يمس النساء حتى جمع الله ليعقوب شمله، و جمع بينه و بين يعقوب و إخوته".



و في الكافي، بإسناده عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن (عليه السلام) عنه قال: قلت له: جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب و يلبس الخشن و يخشع. فقال: أ ما علمت أن يوسف نبي ابن نبي كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب فكان يجلس في مجالس آل فرعون يحكم فلم يحتج الناس إلى لباسه و إنما احتاجوا إلى قسطه. و إنما يحتاج من الإمام في أن إذا قال صدق، و إذا وعد أنجز، و إذا حكم عدل لأن الله لا يحرم طعاما و لا شرابا من حلال و حرم الحرام قل أو كثر و قد قال الله: "قل من حرم زينة الله - التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق".

و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر بعد ما جمع الله ليعقوب شمله، و أراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة؟ قال: عاش حولين. قلت: فمن كان يومئذ الحجة لله في الأرض؟ يعقوب أم يوسف؟ قال: كان يعقوب الحجة و كان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس ثم كان يوسف ابن يعقوب الحجة.

أقول: و الروايات في قصته (عليه السلام) كثيرة اقتصرنا منها بما فيها مساس بالآيات الكريمة على أن أكثرها لا يخلو من تشوش في المتن و ضعف في السند.

و مما ورد في بعضها أن الله سبحانه جعل النبوة من آل يعقوب في صلب لاوي و هو الذي منع إخوته عن قتل يوسف حيث قال: "لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجب" الآية و هو القائل لإخوته حين أخذ يوسف أخاه باتهام السرقة: "فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي و هو خير الحاكمين" فشكر الله له ذلك.

و مما ورد في عدة منها أن يوسف (عليه السلام) تزوج بامرأة العزيز و هي التي راودته عن نفسه، و ذلك بعد ما مات العزيز في خلال تلك السنين المجدبة، و لا يبعد أن يكون ذلك شكرا منه تعالى لها حين صدقت يوسف بقولها: "الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين" لو صح الحديث.

كلام في قصة يوسف في فصول

1 - قصته في القرآن:

هو يوسف النبي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل كان أحد أبناء يعقوب الاثني عشر و أصغر إخوته غير أخيه بنيامين أراد الله سبحانه أن يتم عليه نعمته بالعلم و الحكم و العزة و الملك و يرفع به قدر آل يعقوب فبشره و هو صغير برؤيا رآها كان أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر ساجدة له فذكر ذلك لأبيه فوصاه أبوه أن لا يقص رؤياه على إخوته فيحسدوه ثم أول رؤياه أن الله سيجتبيه و يعلمه من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليه و على آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم و إسحاق.

كانت هذه الرؤيا نصب عين يوسف آخذة بمجامع قلبه، و لا يزال تنزع نفسه إلى حب ربه و التوله إليه على ما به من علو النفس و صفاء الروح و الخصائص الحميدة، و كان ذا جمال بديع يبهر القول و يدهش الألباب.

و كان يعقوب يحبه حبا شديدا لما يشاهد فيه من الجمال البديع و يتفرس فيه من صفاء السريرة و لا يفارقه و لا ساعة فثقل ذلك على إخوته الكبار و اشتد حسدهم له حتى اجتمعوا و تآمروا في أمره فمن مشير على قتله، و من قائل: اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين، ثم اجتمع رأيهم على ما أشار به عليهم بعضهم و هو أن يلقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة و عقدوا على ذلك.

فلقوا أباهم و كلموه أن يرسل يوسف معهم غدا يرتع و يلعب و هم له حافظون فلم يرض به يعقوب و اعتذر أنه يخاف أن يأكله الذئب فلم يزالوا به يراودونه حتى أرضوه و أخذوه منه و ذهبوا به معهم إلى مراتع أغنامهم بالبر فألقوه في جب هناك و قد نزعوا قميصه.



ثم جاءوا بقميصه ملطخا بدم كذب إلى أبيهم و هو يبكون فأخبروه أنهم ذهبوا اليوم للاستباق و تركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب و هذا قميصه الملطخ بدمه.

فبكى يعقوب و قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون، و لم يقل ذلك إلا بتفرس إلهي ألقي في روعه، و لم يزل يعقوب يذكر يوسف و يبكي عليه و لا يتسلى عنه بشيء حتى ابيضت عيناه من الحزن و هو كظيم.

و مضى بنوه يراقبون الجب حتى جاءت سيارة فأرسلوا واردهم للاستقاء فأدلى دلوه فتعلق يوسف بالدلو فخرج فاستبشروا به فدنى منهم بنو يعقوب و ادعوا أنه عبد لهم ثم ساوموهم حتى شروه بثمن بخس دراهم معدودة.

و سارت به السيارة إلى مصر و عرضوه للبيع فاشتراه عزيز مصر و أدخله بيته و قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا و ذلك لما كان يشاهد في وجهه من آثار الجلال و صفاء الروح على ما له من الجمال البديع فاستقر يوسف في بيت العزيز في كرامة و أهنإ عيش، و هذا أول ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف و عزيز ولايته له حيث توسل إخوته بإلقائه في الجب و بيعه من السيارة إلى إماتة ذكره و تحريمه كرامة الحياة في بيت أبيه أما إماتة الذكر فلم ينسه أبوه قط، و أما مزية الحياة فإن الله سبحان بدل له بيت الشعر و عيشة البدوية قصرا ملكيا و حياة حضرية راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا أن يحطوه و يضعوه، و على ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث.

و عاش يوسف في بيت العزيز في أهنإ عيش حتى كبر و بلغ أشده و لم يزل تزكو نفسه و يصفو قلبه و يشتغل بربه حتى توله في حبه و أخلص له فصار لا هم له إلا فيه فاجتباه الله و أخلصه لنفسه و آتاه حكما و علما و كذلك يفعل بالمحسنين.

و عشقته امرأة العزيز و شغفها حبه حتى راودته عن نفسه و غلقت الأبواب و دعته إلى نفسها و: "قالت هيت.

لك فامتنع يوسف و اعتصم بعصمة إلهية و قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، و استبقا الباب و اجتذبته و قدت قميصه من خلف و ألفيا سيدها لدى الباب فاتهمت يوسف بأنه كان يريد بها سوءا و أنكر يوسف ذلك غير أن العناية الإلهية أدركته فشهد صبي هناك في المهد ببراءته فبرأه الله.

ثم ابتلي بحب نساء مصر و مراودتهن و شاع أمر امرأة العزيز حتى آل الأمر إلى دخوله السجن، و قد توسلت امرأة العزيز بذلك إلى تأديبه ليجيبها إلى ما تريد، و العزيز إلى أن يسكت هذه الأراجيف الشائعة التي كانت تذهب بكرامة بيته و تشوه جميل ذكره.

فدخل يوسف السجن و دخل معه السجن فتيان للملك فذكر أحدهما أنه رأى في منامه أنه يعصر خمرا و الآخر رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، و سألاه أن يؤول منامهما فأول رؤيا الأول أنه سيخرج فيصير ساقيا للملك، و رؤيا الثاني أنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه فكان كما قال: و قال يوسف للذي رأى أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين.



و بعد بضع من السنين رأى الملك رؤيا هالته فذكرها لملإه و قال: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا أضغاث أحلام، و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، و عند ذلك ادكر الساقي يوسف و تعبيره لمنامه فذكر ذلك للملك و استأذنه أن يراجع السجن و يستفتي يوسف في أمر الرؤيا فأذن له في ذلك و أرسله إليه.

و لما جاءه و استفتاه في أمر الرؤيا و ذكر أن الناس ينتظرون أن يكشف لهم أمرها قال: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحسنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون.

فلما سمع الملك ما أفتى به يوسف أعجبه ذلك و أمر بإطلاقه و إحضاره و لما جاءه الرسول لتنفيذ أمر الملك أبى الخروج و الحضور إلا أن يحقق الملك ما جرى بينه و بين النسوة و يحكم بينه و بينهن و لما أحضرهن و كلمهن في أمره اتفقن على تبرئته من جميع ما اتهم به و قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء، و قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين فاستعظم الملك أمره في علمه و حكمه و استقامته و أمانته فأمر بإطلاقه و إحضاره معززا و قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما حضر و كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين و قد محصت أحسن التمحيص و اختبرت أدق الاختبار.

قال يوسف: اجعلني على خزائن الأرض أرض مصر إني حفيظ عليم حتى أهيىء الدولة في هذه السنين السبع المخصبة التي تجري على الناس لإنجائهم مما يهددهم من السنين السبع المجدبة فأجابه الملك على ذلك فقام يوسف بالأمر و أمر بإجادة الزرع و إكثاره و جمع الطعام و الميرة و حفظه في المخازن بالحزم و التدبير حتى إذا دهمهم السنون المجدبة وضع فيهم الأرزاق و قسم بينهم الطعام حتى أنجاهم الله بذلك من المخمصة، و في هذه السنين انتصب يوسف لمقام عزة مصر، و استولى على سرير الملك فكان السجن طريقا له يسلك به إلى أريكة العزة و الملك بإذن الله، و قد كانوا تسببوا به إلى إخماد ذكره، و إنسائه من قلوب الناس، و إخفائه من أعينهم.

و في بعض تلك السنين المجدبة دخل على يوسف إخوته لأخذ الطعام فعرفهم و هم له منكرون فاستفسرهم عن شأنهم و عن أنفسهم فذكروا له أنهم أبناء يعقوب و أنهم أحد عشر أخا أصغرهم عند أبيهم يأنس به و لا يدعه يفارقه قط فأظهر يوسف أنه يشتاق أن يراه فيعرف ما باله يخصه أبوه بنفسه فأمرهم أن يأتوه به إن رجعوا إليه ثانيا للامتيار، و زاد في إكرامهم و إيفاء كيلهم فأعطوه العهد بذلك، و أمر فتيانه أن يدسوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون.

و لما رجعوا إلى أبيهم حدثوه بما جرى بينهم و بين عزيز مصر و أنه منع منهم الكيل إلا أن يرجعوا إليه بأخيهم بنيامين فامتنع أبوهم من ذلك و لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم فراجعوا أباهم و ذكروا له ذلك و أصروا على إرسال بنيامين معهم إلى مصر و هو يأبى حتى وافقهم على ذلك بعد أن أخذ منهم موثقا من الله ليأتنه به إلا أن يحاط بهم.

ثم تجهزوا ثانيا و سافروا إلى مصر و معهم بنيامين و لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه و عرفه نفسه و قال: إني أنا أخوك و أخبره أنه يريد أن يحبسه عنده فعليه أن لا يبتئس بما سيشاهد من الكيد.



و لما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه فأذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا - و أقبلوا عليهم - ما ذا تفقدون قالوا: نفقد صواع الملك و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين. قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي السارق فيما بيننا فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ثم أمر بالقبض عليه و استرقه بذلك.

فراجعه إخوته في إطلاقه حتى سألوه أن يأخذ أحدهم مكانه رحمة بأبيه الشيخ الكبير فلم ينفع فرجعوا إلى أبيهم آيسين غير أن كبيرهم قال لهم: أ لم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله و من قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي و هو خير الحاكمين فبقي بمصر و ساروا.

فلما رجعوا إلى أبيهم و قصوا عليه القصص قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ثم تولى عنهم و قال، يا أسفى على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم فلما لاموه على حزنه الطويل و وجده ليوسف قال: إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون ثم قال لهم: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه و لا تيأسوا من روح الله فإني أرجو أن تظفروا بهما.

فسار نفر منهم إلى مصر و استأذنوا على يوسف فلما شخصوا عنده تضرعوا إليه و استرحموه في أنفسهم و أهلهم و أخيهم الذي استرقه قائلين: يا أيها العزيز قد مسنا و أهلنا الضر بالجدب و السنة و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا بأخينا الذي تملكته بالاسترقاق إن الله يجزي المتصدقين.

و عند ذلك حقت كلمته تعالى ليعزن يوسف بالرغم من استذلالهم له و ليرفعن قدره و قدر أخيه و ليضعن الباغين الحاسدين لهما فأراد يوسف أن يعرفهم نفسه و قال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا: أ إنك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا أنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين فاعترفوا بذنبهم و شهدوا أن الأمر إلى الله يعز من يشاء و يذل من يشاء و أن العاقبة للمتقين و أن الله مع الصابرين.

فقابلهم يوسف بالعفو و الاستغفار و قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و قربهم إليه و زاد في إكرامهم.

ثم أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم و يذهبوا بقميصه فيلقوه على وجه أبيه يأت بصيرا فتجهزوا للسير و لما فصلت العير قال يعقوب لمن عنده من بنيه: إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون قال من عنده من بنيه: تالله إنك لفي ضلالك القديم، و لما جاءه البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا فرد الله سبحانه إليه بصره بعين ما ذهب به و هو القميص قال يعقوب لبنيه: أ لم أقل لكم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال: سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور رحيم.

ثم تجهزوا للمسير إلى يوسف و استقبلهم يوسف و ضم إليه أبويه و أعطاهم الأمن و أدخلهم دار الملك و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا يعقوب و امرأته و أحد عشر من ولده، قال يوسف يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ثم شكر الله على لطيف صنعه في دفع النوائب العظام عنه و إيتائه الملك و العلم.



و بقي آل يعقوب بمصر، و كان أهل مصر يحبون يوسف حبا شديدا لفضل نعمته عليهم و حسن بلائه فيهم، و كان يدعوهم إلى دين التوحيد و ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليهما السلام) كما ورد في قصة السجن و في سورة المؤمن.

2 - ما أثنى الله عليه و منزلته المعنوية:

- كان (عليه السلام) من المخلصين و كان صديقا و كان من المحسنين، و قد آتاه الله حكما و علما و علمه من تأويل الأحاديث و قد اجتباه الله و أتم نعمته عليه و ألحقه بالصالحين سورة يوسف و أثنى عليه بما أثنى على آل نوح و إبراهيم (عليه السلام) من الأنبياء و قد ذكره فيهم سورة الأنعام.

3 - قصته في التوراة الحاضرة:

قالت التوراة: و كان بنو يعقوب اثني عشرة: بنو ليئة رأوبين بكر يعقوب و شمعون و لاوي و يهودا و يساكر و زنولون، و ابنا راحيل يوسف، و بنيامين، و ابنا بلهة جارية راحيل دان، و نفتالي، و ابنا زلفة جارية ليئة جاد، و أشير.

هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فدان أرام.

قالت يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إخوته الغنم و هو غلام عند بني بلهة و بني زلفة امرأتي أبيه، و أتى يوسف بنميمتهم الردية إلى أبيهم، و أما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته فصنع له قميصا ملونا فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه و لم يستطيعوا أن يكلموه بسلام.

و حلم يوسف حلما فأخبر إخوته فازدادوا أيضا بغضا له فقال لهم: اسمعوا هذا الحلم الذي حلمت: فها نحن حازمون حزما في الحفل و إذا حزمتي قامت و انتصبت فاحتاطت حزمكم و سجدت لحزمتي.

فقال له إخوته أ لعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا تسلطا، و ازدادوا أيضا بغضا له من أجل أحلامه و من أجل كلامه.

ثم حلم أيضا حلما آخر و قصه على إخوته فقال: إني قد حلمت حلما أيضا و إذا الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا ساجدة لي، و قصه على أبيه و على إخوته فانتهره أبوه و قال له: ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل يأتي أنا و أمك و إخوتك لنسجد لك إلى الأرض فحسده إخوته و أما أبوه فحفظ الأمر.

و مضى إخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم فقال إسرائيل ليوسف: أ ليس إخوتك يرعون عند شكيم؟ تعال فأرسلك إليهم، فقال له: ها أنا ذا فقال له: اذهب انظر سلامة إخوتك و سلامة الغنم و رد لي خبرا فأرسله من وطاء حبرون فأتى إلى شكيم فوجده رجل و إذا هو ضال في الحفل فسأله الرجل قائلا: ما ذا تطلب؟ فقال: أنا طالب إخوتي أخبرني أين يرعون؟ فقال الرجل: قد ارتحلوا من هنا لأني سمعتهم يقولون: لنذهب إلى دوثان فذهب يوسف وراء إخوته فوجدهم في دوثان.

فلما أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض: هو ذا هذا صاحب الأحلام قادم فلآن هلم نقتله و نطرحه في إحدى هذه الآبار و نقول: وحش ردي أكله فنرى ما ذا يكون أحلامه؟ فسمع رأوبين و أنقذه من أيديهم و قال: لا نقتله و قال لهم رأوبين: لا تسفكوا دما اطرحوه في هذه البئر التي في البرية و لا تمدوا إليه يدا لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه و أخذوه و طرحوه في البئر و أما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء.



ثم جلسوا ليأكلوا طعاما فرفعوا عيونهم و نظروا و إذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، و جمالهم حاملة كتيراء و بلسانا و لادنا ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا و نخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه للإسماعيليين و لا تكن أيدينا عليه لأنه أخونا و لحمنا فسمع له إخوته.

و اجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف و أصعدوه من البئر و باعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر، و رجع رأوبين إلى البئر و إذا يوسف ليس في البئر فمزق ثيابه ثم رجع إلى إخوته و قال: الولد ليس موجودا، و أنا إلى أين أذهب؟.

فأخذوا قميص يوسف و ذبحوا تيسا من المعزى و غمسوا القميص في الدم، و أرسلوا القميص الملون و أحضروه إلى أبيهم و قالوا: وجدنا هذا، حقق أ قميص ابنك هو أم لا؟ فتحققه و قال: قميص ابني وحش ردي أكله افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه و وضع مسحا على حقويه و ناح على ابنه أياما كثيرة فقام جميع بنيه و جميع بناته ليعزوه فأبى أن يتعزى و قال: إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية و بكى عليه أبوه.

قالت التوراة: و أما يوسف فأنزل إلى مصر و اشتراه - فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط رجل مصري - من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك، و كان الرب مع يوسف - فكان رجلا ناجحا و كان في بيت سيده المصري.

و رأى سيده أن الرب معه، و أن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده - فوجد يوسف نعمة في عينيه و خدمه فوكله إلى بيته - و دفع إلى يده كل ما كان له، و كان من حين وكله على بيته - و على كل ما كان له أن الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف، و كانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت - و في الحفل فترك كل ما كان له في يد يوسف - و لم يكن معه يعرف شيئا إلا الخبز الذي يأكل، و كان يوسف حسن الصورة و حسن المنظر.

و حدث بعد هذه الأمور - أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف - و قالت: اضطجع معي فأبى - و قال لامرأة سيده: هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت - و كل ماله قد دفعه إلي ليس هو في هذا البيت، و لم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته - فكيف أصنع هذا الشر العظيم؟ و أخطىء إلى الله؟ و كان إذ كلمت يوسف يوما فيوما - أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها.

ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله - و لم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت - فأمسكته بثوبه قائلة: اضطجع معي - فترك ثوبه في يدها و هرب و خرج إلى خارج، و كان لما رأت أنه ترك ثوبه في يدها و هرب إلى خارج - أنها نادت أهل بيتها و كلمتهم قائلة: انظروا! قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا.

دخل إلي ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم، و كان لما سمع أني رفعت صوتي - و صرخت أنه ترك ثوبه بجانبي و هرب و خرج إلى خارج.

فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته - فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة: دخل إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني - و كان لما رفعت صوتي - و صرخت أنه ترك ثوبه بجانبي و هرب إلى خارج.

فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة - بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أن غضبه حمي - فأخذ يوسف سيده و وضعه في بيت السجن - المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه، و كان هناك في بيت السجن.



و لكن الرب كان مع يوسف و بسط إليه لطفا - و جعل نعمة له في عيني رئيس بيت السجن - فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى - الذين في بيت السجن، و كل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل، و لم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئا البتة مما في يده - لأن الرب كان معه، و مهما صنع كان الرب ينجحه.

ثم ساقت التوراة قصة صاحبي السجن و رؤياهما و رؤيا فرعون مصر - و ملخصه أنهما كانا رئيس سقاة فرعون و رئيس الخبازين - أذنباه فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند يوسف - فرأى رئيس السقاة في منامه أنه يعصر خمرا، و الآخر أن الطير تأكل من طعام حمله على رأسه - فاستفتيا يوسف فعبر رؤيا الأول - برجوعه إلى سقي فرعون شغله السابق، و الثاني بصلبه و أكل الطير من لحمه، و سأل الساقي أن يذكره عند فرعون - لعله يخرج من السجن لكن الشيطان أنساه ذلك.

ثم بعد سنتين رأى فرعون في منامه - سبع بقرات سمان حسنة المنظر خرجت من نهر - و سبع بقرات مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشاطىء - فأكلت المهازيل السمان فاستيقظ فرعون - ثم نام فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة - و سبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها - فأكلت الرقيقة السمينة فهال فرعون ذلك - و جمع سحرة مصر و حكمائها - و قص عليهم رؤياه فعجزوا عن تعبيره.

و عند ذلك ادكر رئيس السقاة يوسف - فذكره لفرعون و ذكر ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام - فأمر فرعون بإحضاره - فلما أدخل عليه كلمه - و استفتاه فيما رآه في منامه مرة بعد أخرى - فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد - قد أخبر الله فرعون بما هو صانع: البقرات السبع الحسنة في سبع سنين - و سنابل سبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد، و البقرات السبع الرقيقة القبيحة - التي طلعت وراءها هي سبع سنين - و السنابل السبع الفارغة الملفوحة بالريح الشرقية - يكون سبع سنين جوعا.

هو الأمر الذي كلمت به فرعون - قد أظهر الله لفرعون و ما هو صانع، هو ذا سبع سنين قادمة شعبا عظيما في كل أرض مصر - ثم تقوم بعدها سبع سنين جوعا - فينسى كل السبع في أرض مصر و يتلف الجوع الأرض، و لا يعرف السبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده - لأنه يكون شديدا جدا، و أما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين - فلأن الأمر مقرر من عند الله و الله مسرع لصنعه.

فلآن لينظر فرعون رجلا بصيرا و حكيما - و يجعله على أرض مصر يفعل فرعون فيوكل نظارا على الأرض - و يأخذ خمس غلة أرض مصر في سبع سني الشبع - فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة - و يخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما في المدن - و يحفظونه فيكون الطعام ذخيرة للأرض - لسبع سني الجوع التي تكون في أرض مصر - فلا تنقرض الأرض بالجوع.

قالت التوراة ما ملخصه - أن فرعون استحسن كلام يوسف و تعبيره و أكرمه - و أعطاه إمارة المملكة في جميع شئونها - و خلع عليه بخاتمه و ألبسه ثياب بوص - و وضع طوق ذهب في عنقه - و أركبه في مركبته الخاصة و نودي أمامه: أن اركعوا، و أخذ يوسف يدبر الأمور في سني الخصب - ثم في سني الجدب أحسن إدارة.



ثم قالت التوراة ما ملخصه - أنه لما عمت السنة أرض كنعان - أمر يعقوب بنيه أن يهبطوا إلى مصر - فيأخذوا طعاما فساروا و دخلوا على يوسف - فعرفهم و تنكر لهم و كلمهم بجفاء و سألهم من أين جئتم؟ قالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاما - قال يوسف: بل جواسيس أنتم جئتم إلى أرضنا لتفسدوها - قالوا: نحن جميعا أبناء رجل واحد في كنعان - كنا اثني عشر أخا فقد منا واحد - و بقي أصغرنا ها هو اليوم عند أبينا، و الباقون بحضرتك - و نحن جميعا أمناء لا نعرف الفساد و الشر.

قال يوسف: لا و حياة فرعون نحن نراكم جواسيس - و لا نخلي سبيلكم حتى تحضرونا أخاكم الصغير - حتى نصدقكم فيما تدعون فأمر بهم فحبسوا ثلاثة أيام - ثم أحضرهم و أخذ من بينهم شمعون و قيده أمام عيونهم - و أذن لهم أن يرجعوا إلى كنعان و يجيئوا بأخيهم الصغير.

ثم أمر أن يملأ أوعيتهم قمحا و ترد فضة كل واحد منهم إلى عدله - ففعل فرجعوا إلى أبيهم و قصوا عليه القصص - فأبى يعقوب أن يرسل بنيامين معهم - و قال.

أعدمتموني الأولاد يوسف مفقود و شمعون مفقود - و بنيامين تريدون أن تأخذوه لا يكون ذلك أبدا - و قال: قد أسأتم في قولكم للرجل: إن لكم أخا تركتموه عندي قالوا: إنه سأل عنا و عن عشيرتنا قائلا: هل أبوكم حي بعد؟ و هل لكم أخ آخر - فأخبرناه كما سألنا و ما كنا نعلم أنه سيقول.

جيئوا إلي بأخيكم.

فلم يزل يعقوب يمتنع - حتى أعطاه يهودا الموثق أن يرد إليه بنيامين - فأذن في ذهابهم به معهم، و أمرهم أن يأخذوا من أحسن متاع الأرض هدية إلى الرجل - و أن يأخذوا معهم أصرة الفضة - التي ردت إليهم في أوعيتهم ففعلوا.

و لما وردوا مصر لقوا وكيل يوسف على أموره - و أخبروه بحاجتهم و أن بضاعتهم ردت إليهم في رحالهم - و عرضوا له هديتهم فرحب بهم و أكرمهم - و أخبرهم أن فضتهم لهم و أخرج إليهم شمعون الرهين - ثم أدخلهم على يوسف فسجدوا له و قدموا إليه هديتهم - فرحب بهم و استفسرهم عن حالهم و عن سلامة أبيهم - و عرضوا عليه أخاهم الصغير فأكرمه و دعا له - ثم أمر بتقديم الطعام فقدم له وحده، و لهم وحدهم و لمن عنده من المصريين وحدهم.

ثم أمر وكيله أن يملأ أوعيتهم طعاما - و أن يدس فيها هديتهم - و أن يضع طاسة في عدل أخيهم الصغير ففعل - فلما أضاء الصبح من غد شدوا الرحال على الحمير و انصرفوا.

فلما خرجوا من المدينة - و لما يبتعدوا قال لوكيله أدرك القوم و قل لهم: بئس ما صنعتم جازيتم الإحسان بالإساءة - سرقتم طاس سيدي الذي يشرب فيه - و يتفأل به فتبهتوا من استماع هذا القول، و قالوا: حاشانا من ذلك، هو ذا الفضة التي وجدناها في أفواه عدالنا جئنا بها إليكم من كنعان - فكيف نسرق من بيت سيدك فضة أو ذهبا، من وجد الطاس في رحله يقتل - و نحن جميعا عبيد سيدك - فرضي بما ذكروا له من الجزاء فبادروا إلى عدولهم، و أنزل كل واحد منهم عدله و فتحه - فأخذ يفتشها و ابتدأ من الكبير - حتى انتهى إلى الصغير و أخرج الطاس من عدله.

فلما رأى ذلك إخوته مزقوا ثيابهم - و رجعوا إلى المدينة و دخلوا على يوسف - و أعادوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذنب - و عليهم سيماء الصغار و الهوان و الخجل - فقال: حاشا أن نأخذ إلا من وجد متاعنا عنده، و أما أنتم فارجعوا بسلام إلى أبيكم.



فتقدم إليه يهوذا و تضرع إليه و استرحمه - و ذكر له قصتهم مع أبيهم - حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين - فسألوا أباهم ذلك فأبى أشد الإباء - حتى آتاه يهوذا الميثاق على أن يرد بنيامين إليه - و ذكر أنهم لا يستطيعون أن يلاقوا أباهم - و ليس معهم بنيامين، و أن أباهم الشيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته - ثم سأله أن يأخذه مكان بنيامين عبدا لنفسه و يطلق بنيامين - لتقر بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من أمه يوسف.

قالت التوراة: فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده - فصرخ أخرجوا كل إنسان عني فلم يقف أحد عنده - حين عرف يوسف إخوته بنفسه فأطلق صوته بالبكاء - فسمع المصريون و سمع بيت فرعون، و قال يوسف لإخوته: أنا يوسف أ حي أبي بعد؟ فلما يستطيع إخوته أن يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه.

و قال يوسف لإخوته: تقدموا إلي، فتقدموا فقال: أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر - و الآن لا تتأسفوا و لا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا - لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم - لأن للجوع في الأرض الآن سنتين و خمس سنين أيضا - لا يكون فيها فلاحة و لا حصاد - فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض - و ليستبقي لكم نجاة عظيمة فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا - بل الله و هو قد جعلني أبا لفرعون و سيدا لكل بيته - و متسلط على كل أرض مصر.

أسرعوا و أصعدوا إلى أبي و قولوا له - هكذا يقول ابنك يوسف: أنزل إلي لا تقف فتسكن في أرض جاسان - و تكون قريبا مني أنت و بنوك و بنو بيتك - و غنمك و بقرك و كل ما لك، و أعولك هناك لأنه يكون أيضا خمس سنين جوعا - لئلا تفتقر أنت و بيتك و كل ما لك، و هو ذا عيونكم ترى و عينا أخي بنيامين - أن فمي هو الذي يكلمكم، و تخبرون أني بكل مجدي في مصر و بكل ما رأيتم و تستعجلون - و تنزلون بأبي إلى هنا ثم وقع على عين بنيامين أخيه و بكى، و بكى بنيامين على عنقه و قبل جميع إخوته و بكى عليهم.

ثم قالت التوراة: ما ملخصه - أنه جهزهم أحسن التجهيز و سيرهم إلى كنعان - فجاءوا أباهم و بشروه بحياة يوسف - و قصوا عليه القصص فسر بذلك و سار بأهله جميعا إلى مصر - و هم جميعا سبعون نسمة و وردوا أرض جاسان من مصر - و ركب يوسف إلى هناك يستقبل أباه - و لقيه قادما فتعانقا و بكى طويلا - ثم أنزله و بنيه و أقرهم هناك - و أكرمهم فرعون إكراما بالغا و آمنهم - و أعطاهم ضيعة في أفضل بقاع مصر - و عالهم يوسف ما دامت السنون المجدبة - و عاش يعقوب في أرض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنة.

هذا ما قصته التوراة من قصة يوسف فيما يحاذي القرآن أوردناها ملخصه إلا في بعض فقرأتها لمسيس الحاجة.

كلام في الرؤيا في فصول

1 - الاعتناء بشأنها.

كان الناس كثير العناية بأمر الرؤى و المنامات منذ عهود قديمة لا يضبط لها بدء تاريخي، و عند كل قوم قوانين و موازين متفرقة متنوعة يزنون بها المنامات و يعبرونها بها و يكشفون رموزها، و يحلون بها مشكلات إشاراتها فيتوقعون بذلك خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا بزعمهم.

و قد اعتني بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه (عليه السلام) قال: فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر - إلى أن قال - و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا": الصافات: 105.

و منها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف (عليه السلام): "إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين": يوسف: 4.



و منها رؤيا صاحبي يوسف في السجن: "قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا و قال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين": يوسف: 36.

و منها رؤيا الملك: "و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي": يوسف: 43.

و منها رؤيا أم موسى قال تعالى: "إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم": طه: 39 على ما ورد في الروايات أنه كان رؤيا.

و منها ما ذكر من رؤى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا و لو أراكهم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم في الأمر": الأنفال: 43، و قال: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون": الفتح: 27 و قال: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس": الإسراء: 60.

و قد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تصدق ذلك و تؤيده.

لكن الباحثين من علماء الطبيعة من أوربا لا يرون لها حقيقة و لا للبحث عن شأنها و ارتباطها بالحوادث الخارجية وزنا علميا إلا بعضهم من علماء النفس ممن اعتنى بأمرها، و احتج عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تنبىء عن حوادث مستقبلة أو أمور خفية إنباء عجيبا لا سبيل إلى حمله على مجرد الاتفاق و الصدفة، و هي منامات كثيرة جدا مروية بطرق صحيحة لا يخالطها شك، كاشفة عن حوادث خفية أو مستقبلة أوردها في كتبهم.

2 - و للرؤيا حقيقة.

ما منا واحد إلا و قد شاهد من نفسه شيئا من الرؤى و المنامات دله على بعض الأمور الخفية أو المشكلات العلمية أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو الشر أو قرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل، و لا سبيل إلى حمل ذلك على الاتفاق و انتفاء أي رابطة بينها و بين ما ينطبق عليها من التأويل.

و خاصة في المنامات الصريحة التي لا تحتاج إلى تعبير.

نعم مما لا سبيل أيضا إلى إنكاره أن الرؤيا أمر إدراكي و للخيال فيها عمل، و المتخيلة من القوى الفعالة دائما ربما تدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحس كاللمس و السمع، و ربما تأخذ صورا بسيطة أو مركبة من الصور و المعاني المخزونة عندها فتحلل المركبات كتفصيل صورة الإنسان التامة إلى رأس و يد و رجل و غير ذلك و تركب البسائط كتركيبها إنسانا مما اختزن عندها من أجزائه و أعضائه فربما ركبته بما يطابق الخارج و ربما ركبته بما لا يطابقه كتخيل إنسان لا رأس له أو له عشرة رءوس.

و بالجملة للأسباب و العوامل الخارجية المحيطة بالبدن كالحر و البرد و نحوها و الداخلية الطارئة عليه كأنواع الأمراض و العاهات و انحرافات المزاج و امتلاء المعدة و التعب و غيرها تأثير في المتخيلة فلها تأثير في الرؤيا.

فترى أن من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيرانا مؤججة أو الشتاء و الجمد و نزول الثلوج، و أن من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام و بركان الماء و نزول الأمطار و نحو ذلك، و أن من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوشة لا ترجع إلى طائل.



و كذلك الأخلاق و السجايا الإنسانية شديدة التأثير في نوع تخيله فالذي يحب إنسانا أو عملا لا ينفك بتخيله في يقظته و يراه في نومته و الضعيف النفس الخائف الذعران إذا فوجىء بصوت يتخيل إثره أمور هائلة لا إلى غاية، و كذلك البغض و العداوة و العجب و الكبر و الطمع و نظائرها كل منها يجر الإنسان إلى تخيله صور متسلسلة تناسبه و تلائمه، و قل ما يسلم الإنسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه.

و لذلك كان أغلب الرؤى و المنامات من التخيلات النفسانية التي ساقها إليها شيء من الأسباب الخارجية و الداخلية الطبيعية و الخلقية و نحوها فلا تحكي النفس بحسب الحقيقة إلا كيفية عمل تلك الأسباب و أثرها فيها فحسب لا حقيقة لها وراء ذلك.

و هذا هو الذي ذكره منكرو حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في إدراك الإنسان.

و من المسلم ما أورده غير أنه لا ينتج إلا أن كل الرؤيا ليس ذا حقيقة و هو غير المدعى و هو أن كل منام ليس ذا حقيقة فإن هناك منامات صالحة و رؤيا صادقة تكشف عن حقائق و لا سبيل إلى إنكارها و نفي الرابطة بينها و بين الحوادث الخارجية و الأمور المستكشفة كما تقدم.

فقد ظهر مما بينا أن جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى أن هذه الإدراكات المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الإنسانية في المنام و هي المسماة بالرؤى لها أصول و أسباب تستدعي وجودها للنفس و ظهورها للخيال و هي على اختلافها تحكي و تمثل بأصولها و أسبابها التي استدعتها فلكل منام تأويل و تعبير غير أن تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في البدن في حال النوم، و تأويل بعضها السبب الخلقي و بعضها أسباب متفرقة اتفاقية كمن يأخذه النوم و هو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهنا له.

و إنما البحث في نوع واحد من هذه المنامات، و هي لرؤى التي لا تستند إلى أسباب خارجية طبيعية، أو مزاجية أو اتفاقية و لا إلى أسباب داخلية خلقية أو غير ذلك، و لها ارتباط بالحوادث الخارجية.

و الحقائق الكونية.

3 - المنامات الحقة.

المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية و خاصة المستقبلة منها لما كان أحد طرفي الارتباط أمرا معدوما بعد كمن يرى أن حادثة كذا وقعت ثم وقعت بعد حين كما رأى.

و لا معنى للارتباط الوجودي بين موجود و معدوم، أو أمرا غائبا عن النفس لم يتصل بها من طريق شيء من الحواس كمن رأى أن في مكان كذا دفينا فيه من الذهب المسكوك كذا و من الفضة كذا في وعاء صفته كذا و كذا ثم مضى إليه و حفر كما دل عليه فوجده كما رأى، و لا معنى للارتباط الإدراكي بين النفس و بين ما هو غائب عنها لم ينله شيء من الحواس.

و لذا قيل: إن الارتباط إنما استقر بينها و بين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة و من طريق سببها بنفسها.

توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة و هو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه و الأشياء الموجودة فيها صور مادية تجري على نظام الحركة و السكون و التغير و التبدل.

و ثانيها: عالم المثال و هو فوق عالم الطبيعة وجودا، و فيه صور الأشياء بلا مادة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعة و إليها تعود، و له مقام العلية و نسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة.

و ثالثها: عالم العقل و هو فوق عالم المثال وجودا و فيه حقائق الأشياء و كلياتها من غير مادة طبيعية و لا صورة، و له نسبة السببية لما في عالم المثال.



و النفس الإنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال و عالم العقل فإذا نام الإنسان و تعطل الحواس انقطعت النفس طبعا عن الأمور الطبيعية الخارجية و رجعت إلى عالمها المسانخ لها و شاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد و الإمكان.

فإن كانت النفس كاملة متمكنة من إدراك المجردات العقلية أدركتها و استحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية و النورية، و إلا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور و الأشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة، و نحكي مفهوم العظمة بالجبل، و مفهوم الرفعة و العلو بالسماء و ما فيها من الأجرام السماوية و نحكي الكائد المكار بالثعلب و الحسود بالذئب و الشجاع بالأسد إلى غير ذلك.

و إن لم تكن متمكنة من إدراك المجردات على ما هي عليها و الارتقاء إلى عالمها توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها و أسبابها من غير أن تتصرف فيها بشيء من التغيير، و يتفق ذلك غالبا في النفوس السليمة المتخلقة بالصدق و الصفاء، و هذه هي المنامات الصريحة.

و ربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الإزدواج بالاكتساء و التلبس، و الفخار بالتاج و العلم بالنور و الجهل بالظلمة و خمود الذكر بالموت، و ربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى و انتقالنا من تصور النار إلى تصور الجمد و من تصور الحياة إلى تصور الموت و هكذا، و من أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أن رجلا رأى في المنام أن بيده خاتما يختم به أفواه الناس و فروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال: إنك ستصير مؤذنا في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك.

و قد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم انقساما أوليا إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مئونة، و منامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال و الانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده، و هذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولي للنفس كرد التاج إلى الفخار، و رد الموت إلى الحياة و الحياة إلى الفرج بعد الشدة و رد الظلمة إلى الجهل و الحيرة أو الشقاء.

ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشيء إلى ما يناسبه أو يضاده و وقفت في المرة و المرتين مثلا بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة.

و ثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كان تنتقل مثلا من الشيء إلى ضده و من الضد إلى مثله و من مثل الضد إلى ضد المثل و هكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود، و هذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الأحلام و لا تعبير لها لتعسره أو تعذره.

و قد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية: و هي المنامات الصريحة و لا تعبير لها لعدم الحاجة إليه، و أضغاث الأحلام و لا تعبير فيها لتعذره أو تعسره و المنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية و التمثيل و هي التي تقبل التعبير.

هذا إجمال ما أورده علماء النفس من قدمائنا في أمر الرؤيا و استقصاء البحث فيها أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن.

4 - و في القرآن ما يؤيد ذلك -:

قال تعالى: "و هو الذي يتوفاكم بالليل": الأنعام: 60، و قال: "الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى": الزمر: 42 و ظاهره أن النفوس متوفاة و مأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعا من الرجوع يضاهي الموت.

و قد أشير في كلامه إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم (عليه السلام) و رؤيا أم موسى و بعض رؤى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و من القسم الثاني ما في قوله تعالى: "قالوا أضغاث أحلام" الآية: يوسف: 44 و من القسم الثالث رؤيا يوسف و مناما صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.
<<        الفهرس        >>