جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج13 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


17 سورة الإسراء - 40 - 55

أَ فَأَصفَاكُم رَبّكم بِالْبَنِينَ وَ اتخَذَ مِنَ الْمَلَئكَةِ إِنَثاً إِنّكمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَ لَقَدْ صرّفْنَا فى هَذَا الْقُرْءَانِ لِيَذّكّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُوراً (41) قُل لّوْ كانَ مَعَهُ ءَالهَِةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِى الْعَرْشِ سبِيلاً (42) سبْحَنَهُ وَ تَعَلى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيراً (43) تُسبِّحُ لَهُ السمَوَت السبْعُ وَ الأَرْض وَ مَن فِيهِنّ وَ إِن مِّن شىْءٍ إِلا يُسبِّحُ بحَمْدِهِ وَ لَكِن لا تَفْقَهُونَ تَسبِيحَهُمْ إِنّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَ إِذَا قَرَأْت الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَك وَ بَينَ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ حِجَاباً مّستُوراً (45) وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَ فى ءَاذَانهِمْ وَقْراً وَ إِذَا ذَكَرْت رَبّك فى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلّوْا عَلى أَدْبَرِهِمْ نُفُوراً (46) نحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَستَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَستَمِعُونَ إِلَيْك وَ إِذْ هُمْ نجْوَى إِذْ يَقُولُ الظلِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مّسحُوراً (47) انظرْ كَيْف ضرَبُوا لَك الأَمْثَالَ فَضلّوا فَلا يَستَطِيعُونَ سبِيلاً (48) وَ قَالُوا أَ ءِذَا كُنّا عِظماً وَ رُفَتاً أَ ءِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمّا يَكبرُ فى صدُورِكمْ فَسيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِى فَطرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ فَسيُنْغِضونَ إِلَيْك رُءُوسهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَستَجِيبُونَ بحَمْدِهِ وَ تَظنّونَ إِن لّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً (52) وَ قُل لِّعِبَادِى يَقُولُوا الّتى هِىَ أَحْسنُ إِنّ الشيْطنَ يَنزَغُ بَيْنهُمْ إِنّ الشيْطنَ كانَ لِلانسنِ عَدُوّا مّبِيناً (53) رّبّكمْ أَعْلَمُ بِكمْ إِن يَشأْ يَرْحَمْكمْ أَوْ إِن يَشأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مَا أَرْسلْنَك عَلَيهِمْ وَكيلاً (54) وَ رَبّك أَعْلَمُ بِمَن فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضلْنَا بَعْض النّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً (55)

بيان

في الآيات تعقيب مسألة التوحيد و توبيخ المشركين على اتخاذهم الآلهة و نسبة الملائكة الكرام إلى الأنوثية، و أنهم لا يتذكرون بما يلقي إليهم القرآن من حجج الوحدانية، و لا يفقهون الآيات بل يستهزءون بالرسول و بما يلقى إليهم من أمر البعث و يسيئون القول في أمر الله و غير ذلك.

قوله تعالى: "أ فأصفاكم ربكم بالبنين و اتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما" الإصفاء الإخلاص قال في المجمع،: تقول: أصفيت فلانا بالشيء إذا آثرته به.

انتهي.

خطاب لمن يقول منهم: إن الملائكة بنات الله أو بعضهم بنات الله و الاستفهام للإنكار، و لعله بدل البنات من الإناث لكونهم يعدون الأنوثة من صفات الخسة.

و المعنى إذا كان سبحانه ربكم لا رب غيره و هو الذي يتولى أمر كل شيء فهل تقولون إنه آثركم بكرامة لم يتكرم به هو نفسه و هو أنه خصكم بالبنين و لم يتخذ لنفسه من الولد إلا الإناث و هم الملائكة الكرام الذين تزعمون أنهم إناث إنكم لتقولون قولا عظيما من حيث استتباعه التبعة السيئة.

قوله تعالى: "و لقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا و ما يزيدهم إلا نفورا" قال في المفردات،: الصرف رد الشيء من حالة إلى حالة أو إبداله بغيره.

قال: و التصريف كالصرف إلا في التكثير، و أكثر ما يقال في صرف الشيء من حالة إلى حالة و من أمر إلى أمر، و تصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال قال تعالى: "و صرفنا الآيات "و صرفنا فيه من الوعيد" و منه تصريف الكلام و تصريف الدراهم.

انتهي.

و قال: النفر الانزعاج من الشيء و إلى الشيء كالفزع إلى الشيء و عن الشيء يقال: نفر عن الشيء نفورا قال تعالى: "ما زادهم إلا نفورا" "و ما يزيدهم إلا نفورا" انتهى.

فقوله: "و لقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا" معناه بشهادة السياق: و أقسم لقد رددنا الكلام معهم في أمر التوحيد و نفي الشريك من وجه إلى وجه و حولناه من لحن إلى لحن في هذا القرآن فأوردناه بمختلف العبارات و بيناه بأقسام البيانات ليتذكروا و يتبين لهم الحق.

و قوله: "و ما يزيدهم إلا نفورا" أي ما يزيدهم التصريف إلا انزعاجا كلما استؤنف جيء ببيان جديد أورثهم نفرة جديدة.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة تنبيها على أنهم غير صالحين للخطاب و التكليم بعد ما كان حالهم هذا الحال.

قال في المجمع،: فإن قيل: إذا كان المعلوم أنهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن فما المعنى في إنزاله؟ و ما وجه الحكمة فيه؟ قيل: الحكمة فيه إلزام الحجة و قطع المعذرة في إظهار الدلائل التي تحسن التكليف، و إنه يصلح عند إنزاله جماعة ما كانوا يصلحون عند عدم إنزاله، و لو لم ينزل لكان هؤلاء الذين ينفرون عن الإيمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمة اقتضت إنزاله لهذه المعاني، و إنما ازدادوا نفورا عند مشاهدة الآيات و الدلائل لاعتقادهم أنها شبه و حيل و قلة تفكرهم فيها.

انتهي.



و قوله: إنه لو لم ينزل لكانوا يفسدون بفساد أعظم من النفور لا يخلو من شيء فإن ازدياد النفور يبلغ بهم إلى الجحود و معاندة الحق و الصد عنه و لا فساد أعظم منه في باب الدعوة.

لكن ينبغي أن يعلم أن الكفر و الجحود و النفور عن الحق و العناد معه كما كانت تضر أصحابها و يوردهم مورد الهلاك فهي تنفع أرباب الإيمان و الرضا بالحق و التسليم له إذ لو لم يتحقق لهذه الخصال الحسنة و الصفات الجميلة مقابلات لم تتحقق لها كينونة فافهم ذلك.

فمن الواجب في الحكمة أن تتم الحجة ثم تزيد في تمامها حتى يظهر من الشقي كل ما في وسعه من الشقاء، و يتخذ السعداء بمختلف مساعيهم من الدرجات ما يحاذي دركات الأشقياء و قد قال تعالى: "كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا": الآية: 20 من السورة.

قوله تعالى: "قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا" أعرض عن مخاطبتهم فصرف الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يكلمهم في أمر التوحيد و نفي الشريك.

و الذي يقولون به أن هناك آلهة دون الله يتولون جهات التدبير في العالم على اختلاف مراتبهم و الواحد منهم رب لما يدبره كإله السماء و إله الأرض و إله الحرب و إله قريش.

و إذ كانوا شركاء من جهة التدبير لكل واحد منهم الملك على حسب ربوبيته و الملك من توابع الخلق الذي يختص به سبحانه حتى على معتقدهم 1 كان الملك مما يقبل في نفسه أن يقوم به غيره تعالى و حب الملك و السلطنة ضروري لكل موجود كانوا بالضرورة طالبين أن ينازعوه في ملكه و ينتزعوه من يده حتى ينفرد الواحد منهم بالملك و السلطنة، و يتعين بالعزة و الهيمنة تعالى الله عن ذلك.

فملخص الحجة أنه لو كان معه آلهة كما يقولون و كان يمكن أن ينال غيره تعالى شيئا من ملكه الذي هو من لوازم ذاته الفياضة لكل شيء و حب الملك و السلطنة مغروز في كل موجود بالضرورة لطلب أولئك الآلهة أن ينالوا ملكه فيعزلوه عن عرشه و يزدادوا ملكا على ملك لحبهم ذلك ضرورة لكن لا سبيل لأحد إليه تعالى عن ذلك.

فقوله: "إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا" أي طلبوا سبيلا إليه ليغلبوه على ما له من الملك، و التعبير عنه تعالى بذي العرش و هو من الصفات الخاصة بالملك للدلالة على أن ابتغاءهم السبيل إليه إنما هو لكونه ذا العرش و هو ابتغاء سبيل إلى عرشه ليستقروا عليه.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم إن الحجة في الآية هي في معنى الحجة التي في قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" الآية: الأنبياء: 22 في غير محله.

و ذلك أن الحجتين مختلفتان في مقدماتهما فالحجة التي في الآية التي نحن فيها تسلك إلى نفي الشريك من جهة ابتغاء الآلهة السبيل إلى ذي العرش و طلبهم الغلبة عليه بانتزاع الملك منه، و التي في آية الأنبياء تسلك من جهة أن اختلاف الآلهة في ذواتهم يؤدي إلى اختلافهم في التدبير و ذلك يؤدي إلى فساد النظام فالحق أن الحجة التي فيما نحن فيه غير الحجة التي في آية الأنبياء، و التي تقرب من حجة آية الأنبياء ما في قوله: "إذا لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض": المؤمنون: 91.



و كذا ما نقل عن بعض قدماء المفسرين: أن المراد من ابتغائهم سبيلا إلى ذي العرش طلبهم التقرب و الزلفى منه لعلوه عليهم، و تقريب الحجة أنه لو كان معه آلهة كما يقولون لطلبوا التقرب منه تعالى و الزلفى لديه لعلمهم بعلوه و عظمته، و الذي كان حاله هذا الحال لا يكون إلها فليسوا بآلهة.

في غير محله لشهادة السياق على خلافه كوصفه تعالى بذي العرش و قوله بعد: "سبحانه و تعالى عما يقولون" إلخ فإنه ظاهر في أن لما قدروه من ثبوت الآلهة المستلزم لابتغائهم سبيلا إلى الله محذورا عظيما لا تحتمله ساحة العظمة و الكبرياء مثل كون ملكه في معرض ابتغاء سبيل إليه و تهاجم غيره عليه و كونه لا يأبى بحسب طبعه أن يبتز و ينتقل إلى من دونه.

قوله تعالى: "سبحانه و تعالى عما يقولون علوا كبيرا" التعالي هو العلو البالغ و لهذا وصف المفعول المطلق أعني "علوا" بقوله: "كبيرا" فالكلام في معنى تعالى تعاليا: و الآية تنزيه له تعالى عما يقولونه من ثبوت الآلهة و كون ملكه و ربوبيته مما يمكن أن يناله غيره.

قوله تعالى: "تسبح له السموات السبع و الأرض و من فيهن و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم" إلخ الآية و ما قبلها و إن كانت واقعة موقع التعظيم كقوله: "و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه" لكنها تفيد بوجه في الحجة المتقدمة فإنها بمنزلة المقدمة المتممة لقوله: "لو كان معه آلهة كما يقولون" إلخ فإن الحجة بالحقيقة قياس استثنائي و الذي بمنزلة الاستثناء هو ما في الآية من تسبيح الأشياء له سبحانه كأنه قيل: لو كان معه آلهة لكان ملكه في معرض المنازعة و المهاجمة لكن الملك من السماوات و الأرض و من فيهن ينزهه عن ذلك و يشهد أن لا شريك له في الملك فإنها لم تبتدىء إلا منه و لا تنتهي إلا إليه و لا تقوم إلا به و لا تخضع سجدا إلا له فلا يتلبس بالملك و لا يصلح له إلا هو فلا رب غيره.

و من الممكن أن تكون الآيتان أعني قوله: "سبحانه و تعالى عما يقولون علوا كبيرا. تسبح له السموات" إلخ جميعا في معنى الاستثناء و التقدير لو كان معه آلهة لطلبوا مغالبته و عزله من ملكه لكنه سبحانه ينزه ذاته عن ذلك بذاته الفياضة التي يقوم به كل شيء و تلزمه الربوبية من غير أن يفارقه أو ينتقل إلى غيره، و كذلك ملكه و هو عالم السماوات و الأرض و من فيهن ينزهنه سبحانه بذواتها المسبحة له حيث إنها قائمة الذات به لو انقطعت أو حجبت عنه طرفة عين فنت و انعدمت فليس معه آلهة و لا أن ملكه و ربوبيته مما يمكن أن يبتغيه غيره فتأمل فيه.

و كيف كان فقوله: "تسبح له السموات السبع و الأرض و من فيهن" يثبت لأجزاء العالم المشهود التسبيح و أنها تسبح الله و تنزهه عما يقولون من الشريك و ينسبون إليه.

و التسبيح تنزيه قولي كلامي و حقيقة الكلام الكشف عما في الضمير بنوع من الإشارة إليه و الدلالة عليه غير أن الإنسان لما لم يجد إلى إرادة كل ما يريد الإشارة إليه من طريق التكوين طريقا التجأ إلى استعمال الألفاظ و هي الأصوات الموضوعة للمعاني، و دل بها على ما في ضميره، و جرت على ذلك سنة التفهيم و التفهم، و ربما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده أو رأسه أو غيرهما، و ربما استعان على ذلك بكتابة أو نصب علامة.



و بالجملة فالذي يكشف به عن معنى مقصود قول و كلام و قيام الشيء بهذا الكشف قول منه و تكليم و إن لم يكن بصوت مقروع و لفظ موضوع، و من الدليل عليه ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام و القول و الأمر و الوحي و نحو ذلك مما فيه معنى الكشف عن المقاصد و ليس من قبيل القول و الكلام المعهود عندنا معشر المتلسنين باللغات و قد سماه الله سبحانه قولا و كلاما.

و عند هذه الموجودات المشهودة من السماء و الأرض و من فيهما ما يكشف كشفا صريحا عن وحدانية ربها في ربوبيته و ينزهه تعالى عن كل نقص و شين فهي تسبح الله سبحانه.

و ذلك أنها ليست لها في أنفسها إلا محض الحاجة و صرف الفاقة إليه في ذاتها و صفاتها و أحوالها.

و الحاجة أقوى كاشف عما إليه الحاجة لا يستقل المحتاج دونه و لا ينفك عنه فكل من هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده و نقصه في ذاته عن موجده الغني في وجوده التام الكامل في ذاته و بارتباطه بسائر الموجودات التي يستعين بها على تكميل وجوده و رفع نقائصه في ذاته أن موجده هو ربه المتصرف في كل شيء المدبر لأمره.

ثم النظام العام الجاري في الأشياء الجامع لشتاتها الرابط بينها يكشف عن وحدة موجدها، و أنه الذي إليه بوحدته يرجع الأشياء و به بوحدته ترتفع الحوائج و النقائص فلا يخلو من دونه من الحاجة، و لا يتعرى ما سواه من النقيصة و هو الرب لا رب غيره و الغني الذي لا فقر عنده و الكمال الذي لا نقص فيه.

فكل واحد من هذه الموجودات يكشف بحاجته و نقصه عن تنزه ربه عن الحاجة و براءته من النقص حتى أن الجاهل المثبت لربه شركاء من دونه أو الناسب إليه شيئا من النقص و الشين تعالى و تقدس يثبت بذلك تنزهه من الشريك و ينسب بذلك إليه البراءة من النقص فإن المعنى الذي تصور في ضمير هذا الإنسان و اللفظ الذي يلفظه لسانه و جميع ما استخدمه في تأدية هذا المقصود كل ذلك أمور موجودة تكشف بحاجتها الوجودية عن رب واحد لا شريك له و لا نقص فيه.

فمثل هذا الإنسان الجاحد في كون جحوده اعترافا مثل ما لو ادعى إنسان أن لا إنسان متكلما في الدنيا و شهد على ذلك قولا فإن شهادته أقوى حجة على خلاف ما ادعاه و شهد عليه و كلما تكررت الشهادة على هذا النمط و كثر الشهود تأكدت الحجة من طريق الشهادة على خلافها.

فإن قلت: مجرد الكشف عن التنزه لا يسمى تسبيحا حتى يقارن القصد و القصد مما يتوقف على الحياة و أغلب هذه الموجودات عادمة للحياة كالأرض و السماء و أنواع الجمادات فلا مخلص من حمل التسبيح على المجاز فتسبيحها دلالتها بحسب وجودها على تنزه ربها.

قلت: كلامه تعالى مشعر بأن العلم سار في الموجودات مع سريان الخلقة فلكل منها حظ من العلم على مقدار حظه من الوجود، و ليس لازم ذلك أن يتساوى الجميع من حيث العلم أو يتحد من حيث جنسه و نوعه أو يكون عند كل ما عند الإنسان من ذلك أو أن يفقه الإنسان بما عندها من العلم قال تعالى حكاية عن أعضاء الإنسان: "قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء": حم السجدة: 21 و قال "فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين": حم السجدة: 11 و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و سيوافيك كلام مستقل في ذلك إن شاء الله تعالى.

و إذا كان كذلك فما من موجود مخلوق إلا و هو يشعر بنفسه بعض الشعور و هو يريد بوجوده إظهار نفسه المحتاجة الناقصة التي يحيط بها غنى ربه و كماله لا رب غيره فهو يسبح ربه و ينزهه عن الشريك و عن كل نقص ينسب إليه.



و بذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الآية على مطلق الدلالة مجازا فالمجاز لا يصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة، و نظيره قول بعضهم: إن تسبيح بعض هذه الموجودات قالي حقيقي كتسبيح الملائكة و المؤمنين من الإنسان و تسبيح بعضها حالي مجازي كدلالة الجمادات بوجودها عليه تعالى و لفظ التسبيح مستعمل في الآية على سبيل عموم المجاز، و قد عرفت ضعفه آنفا.

و الحق أن التسبيح في الجميع حقيقي قالي غير أن كونه قاليا لا يستلزم أن يكون بألفاظ موضوعة و أصوات مقروعة كما تقدمت الإشارة إليه و قد تقدم في آخر الجزء الثاني من الكتاب كلام في الكلام نافع في المقام.

فقوله تعالى: "تسبح له السموات السبع و الأرض و من فيهن" يثبت لها تسبيحا حقيقيا و هو تكلمها بوجودها و ما له من الارتباط بسائر الموجودات الكائنة و بيانها تنزه ربها عما ينسب إليه المشركون من الشركاء و جهات النقص.

و قوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده" تعميم التسبيح لكل شيء و قد كانت الجملة السابقة عدت السماوات السبع و الأرض و من فيهن، و تزيد عليها بذكر الحمد مع التسبيح فتفيد أن كل شيء كما يسبحه تعالى كذلك يحمده بالثناء عليه بجميل صفاته و أفعاله.

و ذلك أنه كما أن عند كل من هذه الأشياء شيئا من الحاجة و النقص عائدا إلى نفسه كذلك عنده من جميل صنعه و نعمته تعالى شيء راجع إليه تعالى موهوب من لدنه، و كما أن إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها و نقصها و كشف عن تنزه ربها عن الحاجة و النقص، و هو تسبيحها كذلك إبرازها لنفسها إبراز لما عندها من جميل فعل ربها الذي وراءه جميل صفاته تعالى فهو حمدها فليس الحمد إلا الثناء على الجميل الاختياري فهي تحمد ربها كما تسبحه و هو قوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده".

و بلفظ آخر إذا لوحظ الأشياء من جهة كشفها عما عند ربها بإبرازها ما عندها من الحاجة و النقص مع ما لها من الشعور بذلك كان ذلك تسبيحا منها، و إذا لوحظت من جهة كشفها ما لربها بإظهارها ما عندها من نعمة الوجود و سائر جهات الكمال فهو حمد منها لربها و إذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفة جمال أو جلال مع قطع النظر عن علمها و شعورها بما تكشف عنه كان ذلك دلالة منها عليه تعالى و هي آياته.

و هذا نعم الشاهد على أن المراد بالتسبيح في الآية ليس مجرد دلالتها عليه تعالى بنفي الشريك و جهات النقص فإن الخطاب في قوله: "و لكن لا تفقهون تسبيحهم" إما للمشركين و إما للناس أعم من المؤمن و المشرك و هم على أي حال يفقهون دلالة الأشياء على صانعها مع أن الآية تنفي عنهم الفقه.

و لا يصغى إلى قول من قال: إن الخطاب للمشركين و هم لعدم تدبرهم فيها و قلة انتفاعهم بها كان فهمهم بمنزلة العدم، و لا إلى دعوى من يدعي أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفقه الجميع تغليبا.

و ذلك لأن تنزيل الفهم منزلة العدم أو جعل البعض كالجميع لا يلائم مقام الاحتجاج و هو سبحانه يخاطبهم في سابق الآية بالحجة على التنزيه على أن هذا النوع من المسامحة بالتغليب و نحوه لا يحتمله كلامه تعالى.

و أما ما وقع في قوله بعد هذه الآية: "و إذا قرأت القرآن" إلى آخر الآيات من نفي الفقه عن المشركين فليس يؤيد ما ذكروه فإن الآيات تنفي عنهم فقه القرآن و هو غير نفي فقه دلالة الأشياء على تنزهه تعالى إذ بها تتم الحجة عليهم.



فالحق أن التسبيح الذي تثبته الآية لكل شيء هو التسبيح بمعناه الحقيقي و قد تكرر في كلامه تعالى إثباته للسماوات و الأرض و من فيهن و ما فيهن و فيها موارد لا تحتمل إلا الحقيقة كقوله تعالى: "و سخرنا مع داود الجبال يسبحن و الطير": الأنبياء: 79، و قوله: "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي و الإشراق": ص: 18، و يقرب منه قوله: "يا جبال أوبي معه و الطير": سبأ: 10 فلا معنى لحملها على التسبيح بلسان الحال.

و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن للأشياء تسبيحا و منها روايات تسبيح الحصى في كف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيوافيك بعضها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله: "إنه كان حليما غفورا" أي يمهل فلا يعاجل بالعقوبة و يغفر من تاب و رجع إليه، و في الوصفين دلالة على تنزهه تعالى عن كل نقص فإن لازم الحلم أن لا يخاف الفوت، و لازم المغفرة أن لا يتضرر بالمغفرة و لا بإفاضة الرحمة فملكه و ربوبيته لا يقبل نقصا و لا زوالا.

و قد قيل في وجه هذا التذييل إنه إشارة إلى أن الإنسان في قصوره عن فهم هذا التسبيح الذي لا يزال كل شيء مشتغلا به حتى نفسه بجميع أركان وجوده بأبلغ بيان، مخطىء من حقه أن يؤاخذ به لكن الله سبحانه بحلمه و مغفرته لا يعاجله و يعفو عن ذلك إن شاء.

و هو وجه حسن و لازمه أن يكون الإنسان في وسعه أن يفقه هذا التسبيح من نفسه و من غيره، و لعلنا نوفق لبيانه إن شاء الله في موضع يليق به.

قوله تعالى: "و إذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا" ظاهر توصيف الحجاب بالمستور أنه حجاب مستور عن الحواس على خلاف الحجابات المتداولة بين الناس المعمولة لستر شيء عن شيء فهو حجاب معنوي مضروب بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه قار للقرآن حامل له و بين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يحجبه عنهم فلا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة ما عنده من معارف القرآن و يؤمنوا به و لا أن يذعنوا بأنه رسول من الله جاءهم بالحق، و لذلك تولوا عنه إذا ذكر الله وحده و بالغوا في إنكار المعاد و رموه بأنه رجل مسحور، و الآيات التالية تؤيد هذا المعنى.

و إنما وصف المشركين بقوله: "الذين لا يؤمنون بالآخرة" لأن إنكار الآخرة يلغو معه الإيمان بالله وحده و بالرسالة فالكفر بالمعاد يستلزم الكفر بجميع أصول الدين، و ليكون تمهيدا لما سيذكر من إنكارهم البعث.

و المعنى: إذا قرأت القرآن و تلوته عليهم جعلنا بينك و بين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة - و في توصيفهم بذلك ذم لهم - حجابا معنويا محجوبا عن فهمهم فلا يسعهم أن يسمعوا ذكره تعالى وحده، و لا أن يعرفوك بالرسالة الحقة، و لا أن يؤمنوا بالمعاد و يفقهوا حقيقته.

و للقوم في قوله: "حجابا مستورا" أقوال أخر فعن بعضهم أن "مفعول" فيه للنسب أي حجابا ذا ستر نظير قولهم: رجل مرطوب و مكان مهول و جارية مغنوجة أي ذو رطوبة و ذو هول و ذات غنج، و منه قوله تعالى: "وعده مأتيا" أي ذا إتيان و الأكثر في ذلك أن يجيء على فاعل كلابن و تامر.

و عن الأخفش أن "مفعول" ربما ورد بمعنى فاعل كميمون و مشئوم بمعنى يامن و شائم كما أن "فاعل" ربما ورد بمعنى مفعول كماء دافق أي مدفوق فمستور بمعنى ساتر.

و عن بعضهم أن ذلك من الإسناد المجازي و المستور بحسب الحقيقة هو ما وراء الحجاب لا نفسه.

عن بعضهم أنه من قبيل الحذف و الإيصال و أصله حجابا مستورا به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم.



و قيل: المعنى حجابا مستورا بحجاب آخر أي بحجب متعددة و قيل المعنى حجابا مستورا كونه حجابا بمعنى أنهم لا يدرون أنهم لا يدرون و الثلاثة الأخيرة أسخف الوجوه.

قوله تعالى: "و جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا و إذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا" الأكنة جمع كن بالكسر و هو على ما ذكره الراغب ما يحفظ فيه الشيء و يستر به عن غيره، و الوقر الثقل في السمع، و في المجمع،: النفور جمع نافر، و هذا الجمع قياس في كل فاعل اشتق من فعل مصدره على فعول مثل ركوع و سجود و شهود.

انتهي.

و قوله: "و جعلنا على قلوبهم أكنة" إلخ كالبيان للحجاب المذكور سابقا أي أغشينا قلوبهم بأغشية و حجب حذار أن يفقهوا القرآن و جعلنا في آذانهم وقرا و ثقلا أن يسمعوه فهم لا يسمعون القرآن سمع قبول و لا يفقهونه فقه إيمان و تصديق كل ذلك مجازاة لهم بما كفروا و فسقوا.

و قوله: "و إذا ذكرت ربك في القرآن وحده" أي على نعت التوحيد و نفي الشريك ولوا على أدبارهم نافرين و أعرضوا عنه مستدبرين.

قوله تعالى: "نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك" إلى آخر الآية، النجوى مصدر و لذا يوصف به الواحد و المثنى و المجموع و المذكر و المؤنث و هو لا يتغير في لفظه.

و الآية بمنزلة الحجة على ما ذكر في الآية السابقة أنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا فقوله: "نحن أعلم بما يستمعون به" إلخ ناظر إلى جعل الوقر و قوله: "و إذ هم نجوى" إلخ ناظر إلى جعل الأكنة.

يقول تعالى: نحن أعلم بآذانهم التي يستمعون بها إليك و بقلوبهم التي ينظرون بها في أمرك - و كيف لا؟ و هو تعالى خالقها و مدبر أمرها فإخباره أنه جعل على قلوبهم أكنة و في آذانهم وقرا أصدق و أحق بالقبول - فنحن أعلم بما يستمعون به و هو آذانهم في وقت يستمعون إليك، و نحن أعلم أي بقلوبهم إذ هم نجوى إذ يناجي بعضهم بعضا متحرزين عن الإجهار و رفع الصوت و هم يرون الرأي إذ يقول الظالمون أي يقول القائلون منهم و هم ظالمون في قولهم - إن تتبعون إلا رجلا مسحورا و هذا تصديق أنهم لم يفقهوا الحق.

و في الآية إشعار بل دلالة على أنهم كانوا لا يأتونه (صلى الله عليه وآله وسلم) لاستماع القرآن علنا حذرا من اللائمة و إنما يأتونه متسترين مستخفين حتى إذا رأى بعضهم بعضا على هذا الحال تلاوموا بالنجوى خوفا أن يحس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون بموقفهم فقال بعضهم لبعض: إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، و بهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول بهذا المعنى، و سنورده إن شاء الله في البحث الروائي الآتي.

قوله تعالى: "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا" المثل بمعنى الوصف، و ضرب الأمثال التوصيف بالصفات و معنى الآية ظاهر، و هي تفيد أنهم لا مطمع في إيمانهم كما قال تعالى: "و سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون": يس: 10.

قوله تعالى: "و قالوا ء إذا كنا عظاما و رفاتا ء إنا لمبعوثون خلقا جديدا" قال في المجمع،: الرفات ما تكسر و بلي من كل شيء، و يكثر بناء فعال في كل ما يحطم و يرضض يقال: حطام و دقاق و تراب و قال المبرد: كل شيء مدقوق مبالغ في دقه حتى انسحق فهو رفات.

انتهي.



في الآية مضي في بيان عدم فقههم بمعارف القرآن حيث استبعدوا البعث و هو من أهم ما يثبته القرآن و أوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحي و العقل حتى وصفه الله في مواضع من كلامه بأنه "لا ريب فيه" و ليس لهم حجة على نفيه غير أنهم استبعدوه استبعادا.

و من أعظم ما يزين في قلوبهم هذا الاستبعاد زعمهم أن الموت فناء للإنسان و من المستبعد أن يتكون الشيء عن عدم بحت كما قالوا: أ إذا كنا عظاما و رفاتا بفساد أبداننا عن الموت حتى إذا لم يبق منها إلا العظام ثم رمت العظام و صارت رفاتا أ إنا لفي خلق جديد نعود أناسي كما كنا؟ ذلك رجع بعيد و لذلك رده سبحانه إليهم بتذكيرهم القدرة المطلقة و الخلق الأول كما سيأتي.

قوله تعالى: "قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم" جواب عن استبعادهم، و قد عبروا في كلامهم بقولهم: "ء إذا كنا" فأمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديدا "إلخ" مما تبديله إلى الإنسان أبعد و أصعب عندهم من تبديل العظام الرفات إليه.

فيكون إشارة إلى أن القدرة المطلقة الإلهية لا يشقها شيء تريد تجديد خلقه سواء أ كان عظاما و رفاتا أو حجارة أو حديدا أو غير ذلك.

و المعنى: قل لهم ليكونوا شيئا أشد من العظام و الرفات حجارة أو حديدا أو مخلوقا آخر من الأشياء التي تكبر في صدورهم و يبالغون في استبعاد أن يخلق منه الإنسان - فليكونوا ما شاءوا فإن الله سيعيد إليهم خلقهم الأول و يبعثهم.

قوله تعالى: "فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة" أي فإذا أجبت عن استبعادهم بأنهم مبعوثون أياما كانوا و إلى أي حال و صفة تحولوا سيسألونك و يقولون من يعيدنا إلى ما كنا عليه من الخلقة الإنسانية؟ فاذكر لهم الله سبحانه و ذكرهم من وصفه بما لا يبقى معه لاستبعادهم محل و هو فطره إياهم أول مرة و لم يكونوا شيئا و قل: يعيدكم الذي خلقكم أول مرة.

ففي تبديل لفظ الجلالة من قوله: "الذي فطركم أول مرة" إثبات الإمكان و رفع الاستبعاد بإراءة المثل.

قوله تعالى: "فسينغضون إليك رءوسهم و يقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا" قال الراغب: الإنغاض تحريك الرأس نحو الغير كالمتعجب منه.

انتهي.

و المعنى: فإذا قرعتهم بالحجة و ذكرتهم بقدرة الله على كل شيء و فطرة إياهم أول مرة وجدتهم يحركون إليك رءوسهم تحريك المستهزىء المستخف بك المستهين له و يقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا فإنه لا سبيل إلى العلم به و هو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله لكن وصف اليوم معلوم بإعلامه تعالى و لذا وصفه لهم واضعا الصفة مكان الوقت فقال: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده، الآية.

قوله تعالى: "يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده و تظنون إن لبثتم إلا قليلا" "يوم" منصوب بفعل مضمر أي تبعثون يوم كذا و كذا و الدعوة هي أمره تعالى لهم أن يقوموا ليوم الجزاء و استجابتهم هي قبولهم الدعوة الإلهية، و قوله: "بحمده" حال من فاعل تستجيبون و التقدير تستجيبون متلبسين بحمده أي حامدين له تعدون البعث و الإعادة منه فعلا جميلا يحمد فاعله و يثنى عليه لأن الحقائق تنكشف لكم اليوم فيتبين لكم أن من الواجب في الحكمة الإلهية أن يبعث الناس للجزاء و أن تكون بعد الأولى أخرى.



و قوله: "و تظنون إن لبثتم إلا قليلا" أي تزعمون يوم البعث أنكم لم تلبثوا في القبور بعد الموت إلا زمانا قليلا و ترون أن اليوم كان قريبا منكم جدا.

و قد صدقهم الله في هذه المزعمة و أن خطأهم فيما ضربوا له من المدة قال تعالى: "قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون": المؤمنون، 114، و قال: "و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث": الروم: 56 إلى غير ذلك من الآيات.

و في التعرض لقوله: "و تظنون إن لبثتم إلا قليلا" تعريض لهم في استبطائهم اليوم و استهزائهم به، و تأييد لما مر من رجاء قربه في قوله: "قل عسى أن يكون قريبا" أي و أنكم ستعدونه قريبا، و كذا في قوله: "فتستجيبون بحمده" تعريض لهم في استهزائهم به و تعجبهم منه أي و أنكم ستحمدونه يوم البعث و أنتم اليوم تستبعدونه و تستهزءون بأمره.

قوله تعالى: "قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم" إلخ يلوح من السياق أن المراد بعبادي هم المؤمنون فالإضافة للتشريف، و قوله: "قل لعبادي يقولوا" إلخ أي مرهم أن يقولوا فهو أمر و جواب أمر مجزوم، و قوله: "التي هي أحسن" أي الكلمة التي هي أحسن، و هو اشتمالها على الأدب الجميل و تعريها عن الخشونة و الشتم و سوء الأمر.

الآية و ما بعدها من الآيتين ذات سياق واحد، و خلاصة مضمونها الأمر بإحسان القول و لزوم الأدب الجميل في الكلام تحرزا عن نزغ الشيطان، و ليعلموا أن الأمر إلى مشية الله لا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يرفع القلم عن كل من آمن به و انتسب إليه و يتأهل للسعادة، فله ما يقول، و له أن يحرم غيره كل خير و يسيء القول فيه فما للإنسان إلا حسن سريرته و كمال أدبه، و قد فضل الله بذلك بعض الأنبياء على بعض و خص داود بإيتاء الزبور الذي فيه أحسن القول و جميل الثناء على الله سبحانه.

و من هنا يظهر أن المؤمنين قبل الهجرة ربما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول و يخاشنونهم بالكلام و ربما جبهوهم بأنهم أهل النار، و أنهم معشر المؤمنين أهل الجنة ببركة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان ذلك يهيج المشركين عليهم و يزيد في عداوتهم و يبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم و تعذيبهم و إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و العناد مع الحق.

فأمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمرهم بقول التي هي أحسن و المقام مناسب لذلك فقد تقدم آنفا حكاية إساءة الأدب من المشركين إلى النبي و تسميتهم إياه رجلا مسحورا و استهزائهم بالقرآن و بما فيه من معارف المبدإ و المعاد، و هذا هو وجه اتصال الآيات الثلاث بما قبلها و اتصال بعض الثلاث ببعض فافهم ذلك.

فقوله: "و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن" أمر بالأمر و المأمور به قول الكلمة التي هي أحسن فهو نظير قوله: "و جادلهم بالتي هي أحسن": النحل: 125 و قوله: إن الشيطان ينزغ بينهم" تعليل للأمر، و قوله: "إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا" تعليل لنزغ الشيطان بينهم.



و ربما قيل: إن المراد بقول التي هي أحسن الكف عن قتال المشركين و معاملتهم بالسلم و الخطاب للمؤمنين بمكة قبل الهجرة فالآية نظيرة قوله: "و قولوا للناس حسنا": البقرة: 83 على ما ورد في أسباب النزول، و أنت خبير بأن سياق التعليل في الآية لا يلائمه.

قوله تعالى: "ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم و ما أرسلناك عليهم وكيلا" قد تقدم أن الآية و ما بعدها تتمة السياق السابق، و على ذلك فصدر الآية من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أمر بإلقائه على المؤمنين بقوله: "قل لعبادي يقولوا" إلخ و ذيل الآية خطاب للنبي خاصة فلا التفات في الكلام.

و يمكن أن يكون الخطاب في صدر الآية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين جميعا بتغليب جانب خطابه على غيبتهم، و هذا أنسب بسياق الآية السابقة و تلاحق الكلام، و الكلام لله جميعا.

و كيف كان فقوله: "ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم" في مقام تعليل الأمر السابق ثانيا، و يفيد أنه يجب على المؤمنين أن يتحرزوا من إغلاظ القول على غيرهم و القضاء بما الله أعلم به من سعادة أو شقاء كأن يقولوا: فلان سعيد بمتابعة النبي و فلان شقي و فلان من أهل الجنة و فلان من أهل النار و عليهم أن يرجعوا الأمر و يفوضوه إلى ربهم فربكم - و الخطاب للنبي و غيره - أعلم بكم و هو يقضي فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب إن يشأ يرحمكم و لا يشاء ذلك إلا مع الإيمان و العمل الصالح على ما بينه في كلامه أو إن يشأ يعذبكم و لا يشاء ذلك إلا مع الكفر و الفسوق، و ما جعلناك أيها النبي عليهم وكيلا مفوضا إليه أمرهم حتى تختار لمن تشاء ما تشاء فتعطي هذا و تحرم ذاك.

و من ذلك يظهر أن الترديد في قوله: "إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم" باعتبار المشية المختلفة باختلاف الموارد بالإيمان و الكفر و العمل الصالح و الطالح و أن قوله: "و ما أرسلناك عليهم وكيلا" لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الانتساب إلى قبول دينه نظير قوله: "ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به": النساء: 123 و قوله: "إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم": البقرة: 62 و آيات أخرى في هذا المعنى.

و في الآية أقوال أخر تركنا التعرض لها لعدم الجدوى.

قوله تعالى: "و ربك أعلم بمن في السموات و الأرض و لقد فضلنا بعض النبيين على بعض و آتينا داود زبورا" صدر الآية توسعة في معنى التعليل السابق كأنه قيل: و كيف لا يكون أعلم بكم و هو أعلم بكم و هو أعلم بمن في السماوات و الأرض و أنتم منهم.

و قوله: "و لقد فضلنا بعض النبيين على بعض" كأنه تمهيد لقوله: "و آتينا داود زبورا" و الجملة تذكر فضل داود (عليه السلام) بكتابه الذي هو زبور و فيه أحسن الكلمات في تسبيحه و حمده تعالى، و فيه تحريض للمؤمنين أن يرغبوا في أحسن القول و يتأدبوا بالأدب الجميل في المحاورة و الكلام.

و لهم في تفسير الآية أقوال أخرى تركنا التعرض لها و من أرادها فليراجع المطولات.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لو كان معه آلهة كما يقولون - إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا" قال: قال: لو كانت الأصنام آلهة كما تزعمون لصعدوا إلى العرش أقول: أي لاستولوا على ملكه تعالى و أخذوا بأزمة الأمور و أما العرش بمعنى الفلك المحدد للجهات أو جسم نوراني عظيم فوق العالم الجسماني كما ذكره بعضهم فلا دليل عليه من الكتاب، و على تقدير ثبوته لا ملازمة بين الربوبية و الصعود على هذا الجسم.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن مردويه عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن نوحا لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمركما بسبحان الله و بحمده فإنها صلاة كل شيء، و بها يرزق كل شيء.

أقول: قد ظهر مما قدمناه في معنى تسبيح الأشياء الارتباط المشار إليه في الرواية بين تسبيح كل شيء و بين رزقه فإن الرزق يقدر بالحاجة و السؤال و كل شيء إنما يسبح الله تعالى بالإشارة بإظهار حاجته و نقصه إلى تنزهه تعالى من ذلك.

و في تفسير العياشي، عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده" قال: كل شيء يسبح بحمده، و إنا لنرى أن تنقض الجدر هو تسبيحها: أقول: و رواه أيضا عن الحسين بن سعيد عنه (عليه السلام).

و فيه، عن النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوسم البهائم و أن يضرب وجهها فإنها تسبح بحمد ربها: أقول: و روى النهي عن ضربها على وجوهها: الكليني في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: و في حديث آخر: لا تسمها في وجوهها.

و فيه، عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من طير يصاد في بر أو بحر و لا شيء يصاد من الوحش إلا بتضييعه التسبيح.

أقول: و هذا المعنى رواه أهل السنة بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي الدرداء و أبي هريرة و غيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): أنه دخل عليه رجل فقال: فداك أبي و أمي إني أجد الله يقول في كتابه: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم" فقال له: هو كما قال الله تبارك و تعالى. قال: أ تسبح الشجرة اليابسة؟ فقال: نعم أ ما سمعت خشب البيت كيف ينقصف؟ و ذلك تسبيحه فسبحان الله على كل حال.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن النمل يسبحن.

و فيه، أخرج النسائي و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله عن قتل الضفدع و قال: نعيقها تسبيح.

و فيه، أخرج الخطيب عن أبي حمزة قال: كنا مع علي بن الحسين فمر بنا عصافير يصحن فقال: أ تدرون ما تقول هذه العصافير؟ فقلنا: لا فقال: أما إني ما أقول: إنا نعلم الغيب و لكني سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين يقول: إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها و سألته قوت يومها و إن هذه تسبح ربها و تسأل قوت يومها.

أقول: و روي أيضا مثله عن أبي الشيخ و أبي نعيم في الحلية عن أبي حمزة الثمالي عن محمد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) و لفظه قال محمد بن علي بن الحسين: و سمع عصافير يصحن قال: تدري ما يقلن؟ قلت: لا قال: يسبحن ربهن عز و جل و يسألن قوت يومهن.



و فيه، أخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت: دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لي: يا عائشة اغسلي هذين البردين فقلت: يا رسول الله بالأمس غسلتهما فقال لي: أ ما علمت أن الثوب يسبح فإذا اتسخ انقطع تسبيحه.

و فيه، أخرج العقيلي في الضعفاء و أبو الشيخ و الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): آجال البهائم كلها و خشاش الأرض و النمل و البراغيث و الجراد و الخيل و البغال و الدواب كلها و غير ذلك آجالها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، و ليس إلى ملك الموت منها شيء.

أقول: و لعل المراد من قوله: و ليس إلى ملك الموت منها شيء، أنه لا يتصدى بنفسه قبض أرواحها و إنما يباشرها بعض الملائكة و الأعوان، و الملائكة أسباب متوسطة على أي حال.

و فيه، أخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه مر على قوم و هم وقوف على دواب لهم و رواحل فقال لهم: اركبوها سالمة و دعوها سالمة، و لا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق و الأسواق فرب مركوبة خير من راكبها و أكثر ذكرا لله منه.

و في الكافي، بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للدابة على صاحبها ستة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، و لا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، و يبدأ بعلفها إذا نزل، و لا يسمها في وجهها، و لا يضربها فإنها تسبح، و يعرض عليها الماء إذا مر بها.

و في مناقب ابن شهرآشوب،: علقمة و ابن مسعود: كنا نجلس مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نسمع الطعام يسبح و رسول الله يأكل، و أتاه مكرز العامري و سأله آية فدعا بتسع حصيات فسبحن في يده، و في حديث أبي ذر: فوضعهن على الأرض فلم يسبحن و سكتن ثم عاد و أخذهن فسبحن.

ابن عباس قال: قدم ملوك حضرموت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ كفا من حصى فقال: هذا يشهد أني رسول الله فسبح الحصا في يده و شهد أنه رسول الله.

و فيه، أبو هريرة و جابر الأنصاري و ابن عباس و أبي بن كعب و زين العابدين: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخطب بالمدينة إلى بعض الأجذاع فلما كثر الناس و اتخذوا له منبرا و تحول إليه حن كما يحن الناقة، فلما جاء إليه و أكرمه كان يئن أنين الصبي الذي يسكت.

أقول: و الروايات في تسبيح الأشياء على اختلاف أنواعها كثيرة جدا، و ربما اشتبه أمرها على بعضهم فزعم أن هذا التسبيح العام من قبيل الأصوات، و أن لعامة الأشياء لغة أو لغات ذات كلمات موضوعة لمعان نظير ما للإنسان مستعملة للكشف عما في الضمير غير أن حواسنا مصروفة عنها و هو كما ترى.

و الذي تحصل من البحث المتقدم في ذيل الآية الكريمة أن لها تسبيحا هو كلام بحقيقة معنى الكلام و هو إظهارها تنزه ربها بإظهارها نقص ذاتها و صفاتها و أفعالها عن علم منها بذلك، و هو الكلام فما روي من سماعهم تسبيح الحصى في كف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو سماع تسبيح الجبال و الطير إذا سبح داود (عليه السلام) أو ما يشبه ذلك إنما كان بإدراكهم تسبيحها الواقعي بحقيقة معناه من طريق الباطن ثم محاكاة الحس ذلك بما يناظره و يناسبه من الألفاظ و الكلمات الموضوعة لما يفيد ما أدركوه من المعنى.



نظير ذلك ما تقدم من ظهور المعاني المجردة عن الصورة في الرؤيا فيما يناسبه من الصور المألوفة كظهور حقيقة يعقوب و أهله و بنيه ليوسف (عليه السلام) في رؤياه في صورة الشمس و القمر و الكواكب و نظير سائر الرؤى التي حكاها الله سبحانه في سورة يوسف و قد تقدم البحث عنها.

فالذي يناله من ينكشف له تسبيح الأشياء أو حمدها أو شهادتها أو ما يشابه ذلك حقيقة المعنى أولا ثم يحاكيه الحس الباطن في صورة ألفاظ مسموعة تؤدي ما ناله من المعنى و الله أعلم.

و في الدر المنثور،: أخرج أبو يعلى و ابن أبي حاتم و صححه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي معا في الدلائل، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت "يدا أبي لهب" أقبلت العوراء أم جميل و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول: مذمما أبينا و دينه قلينا و أمره عصينا و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس و أبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه و أنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني و قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: "و إذا قرأت القرآن جعلنا بينك - و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا" فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا و رب هذا البيت ما هجاك فانصرفت و هي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها: أقول: و روي أيضا بطريق آخر عن أسماء و عن أبي بكر و ابن عباس مختصرا و رواه أيضا في البحار، عن قرب الإسناد عن الحسن بن ظريف عن معمر عن الرضا عن أبيه عن جده (عليهم السلام) في حديث يذكر فيه جوامع معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قال: في "بسم الله الرحمن الرحيم" قال: هو أحق ما جهر به، و هي الآية التي قال الله: "و إذا ذكرت ربك في القرآن وحده بسم الله الرحمن الرحيم" ولوا على أدبارهم نفورا" كان المشركون يستمعون إلى قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا قرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" نفروا و ذهبوا فإذا فرغ منه عادوا و تسمعوا: أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه القمي في تفسيره، مضمرا.

و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تاريخه، عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لم كتمتم "بسم الله الرحمن الرحيم" فنعم الاسم و الله كتموا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر ببسم الله الرحمن الرحيم و يرفع صوته بها فتولى قريش فرارا فأنزل الله: "و إذا ذكرت ربك في القرآن وحده - ولوا على أدبارهم نفورا".



و فيه، أخرج ابن إسحاق و البيهقي في الدلائل، عن الزهري قال: حدثت أن أبا جهل و أبا سفيان و الأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يصلي بالليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه و كل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد قال: و الله سمعت أشياء أعرفها و أعرف ما يراد بها و سمعت أشياء ما عرفت معناها و لا ما يراد بها. قال الأخنس: و أنا و الذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ما ذا سمعت؟ تنازعنا نحن و بنو عبد مناف في الشرف أطعموا فأطعمنا و حملوا فحملنا و أعطوا فأعطينا حتى إذا تجانبنا على الركب و كنا كفرسي الرهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه؟ لا و الله لا نؤمن به أبدا و لا نصدقه فقام عنه الأخنس و تركه.

و في المجمع،: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة فيقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فيقول لهم: إني لم أومر فيهم بشيء فأنزل الله سبحانه: "قل لعبادي" الآية: عن الكلبي.

أقول: قد أشرنا في تفسير الآية أنه لا يلائم سياقها.

و الله أعلم.

17 سورة الإسراء - 56 - 65

قُلِ ادْعُوا الّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشف الضرِّ عَنكُمْ وَ لا تحْوِيلاً (56) أُولَئك الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيهُمْ أَقْرَب وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يخَافُونَ عَذَابَهُ إِنّ عَذَاب رَبِّك كانَ محْذُوراً (57) وَ إِن مِّن قَرْيَةٍ إِلا نحْنُ مُهْلِكوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شدِيداً كانَ ذَلِك فى الْكِتَبِ مَسطوراً (58) وَ مَا مَنَعَنَا أَن نّرْسِلَ بِالاَيَتِ إِلا أَن كذّب بهَا الأَوّلُونَ وَ ءَاتَيْنَا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظلَمُوا بهَا وَ مَا نُرْسِلُ بِالاَيَتِ إِلا تخْوِيفاً (59) وَ إِذْ قُلْنَا لَك إِنّ رَبّك أَحَاط بِالنّاسِ وَ مَا جَعَلْنَا الرّءْيَا الّتى أَرَيْنَك إِلا فِتْنَةً لِّلنّاسِ وَ الشجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فى الْقُرْءَانِ وَ نخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طغْيَناً كَبِيراً (60) وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئكةِ اسجُدُوا لاَدَمَ فَسجَدُوا إِلا إِبْلِيس قَالَ ءَ أَسجُدُ لِمَنْ خَلَقْت طِيناً (61) قَالَ أَ رَءَيْتَك هَذَا الّذِى كرّمْت عَلىّ لَئنْ أَخّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لأَحْتَنِكَنّ ذُرِّيّتَهُ إِلا قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَب فَمَن تَبِعَك مِنْهُمْ فَإِنّ جَهَنّمَ جَزَاؤُكمْ جَزَاءً مّوْفُوراً (63) وَ استَفْزِزْ مَنِ استَطعْت مِنهُم بِصوْتِك وَ أَجْلِب عَلَيهِم بخَيْلِك وَ رَجِلِك وَ شارِكْهُمْ فى الأَمْوَلِ وَ الأَوْلَدِ وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ الشيْطنُ إِلا غُرُوراً (64) إِنّ عِبَادِى لَيْس لَك عَلَيْهِمْ سلْطنٌ وَ كَفَى بِرَبِّك وَكيلاً (65)

بيان

احتجاج من وجه آخر على التوحيد و نفي ربوبية الآلهة الذين يدعون من دون الله و أنهم لا يستطيعون كشف الضر و لا تحويله عن عبادهم بل هم أمثالهم في الحاجة إلى الله سبحانه يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه.

و أن الضر و الهلاك و العذاب بيد الله، و قد كتب في الكتاب على كل قرية أن يهلكها قبل يوم القيامة أو يعذبها عذابا شديدا و قد كانت الأولون يرسل إليهم الآيات الإلهية لكن لما كفروا و كذبوا بها و تعقب ذلك عذاب الاستئصال لم يرسلها الله إلى الآخرين فإنه شاء أن لا يعاجلهم بالهلاك غير أن أصل الفساد سينمو بينهم و الشيطان سيضلهم فيحق عليهم القول فيأخذهم الله و كان أمرا مفعولا.

قوله تعالى: "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم و لا تحويلا" الزعم بتثليث الزاي مطلق الاعتقاد ثم غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، و لذا نقل عن ابن عباس أن ما كان في القرآن من الزعم فهو كذب.

و الدعاء و النداء واحد غير أن النداء إنما هو فيما إذا كان معه صوت و الدعاء ربما يطلق على ما كان بإشارة أو غيرها، و ذكر بعضهم في الفرق بينهما أن النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم، و الدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان.

انتهي.

و الآية تحتج على نفي ألوهية آلهتهم من دون الله بأن الرب المستحق للعباد يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع و دفع الضر إذ هو لازم ربوبية الرب على أن المشركين مسلمون لذلك و إنما اتخذوا الآلهة و عبدوهم طمعا في نفعهم و خوفا من ضررهم لكن الذين يدعونهم من دون الله لا يستطيعون ذلك فليسوا بآلهة، و الشاهد على ذلك أن يدعوهم هؤلاء الذين يعبدونهم لكشف ضر مسهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم فإنهم لا يملكون كشفا و لا تحويلا.

و كيف يملكون من عند أنفسهم كشف ضر أو تحويله و يستقلون بقضاء حاجة و رفع فاقة و هم في أنفسهم مخلوقون لله يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه باعتراف من المشركين.

فقد بان أولا أن المراد بقوله: "الذين زعمتم من دونه" هم الذين كانوا يعبدونهم من الملائكة و الجن و الإنس فإنهم إنما يقصدون بعبادة الأصنام التقرب إليهم و كذا بعبادة الشمس و القمر و الكواكب التقرب إلى روحانيتهم من الملائكة.

على أن الأصنام بما هي أصنام ليست بأشياء حقيقية كما قال تعالى: "إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم".

و أما ما صنعت منه من خشب أو فلز فليس إلا جمادا حاله حال الجماد في التقرب إليه و السجود له و تسبيحه، و ليست من تلك الجهة بأصنام.

و ثانيا: أن المراد بنفي قدرتهم نفي استقلالهم بالقدرة من دون استعانة بالله و استمداد من إذنه و الدليل عليه قوله سبحانه في الآية التالية: "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة" إلخ.



و قال بعض المفسرين: و كأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامة الكاملة عليه، و كون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لأنهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها و أن الله سبحانه أقوى و أكمل صفة منها.

و بهذا يتم الدليل و يحصل الإفحام و إلا فنفي قدرة نحو الجن و الملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل هو أن الكفرة يتضرعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة.

و قد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا و يحتج له بدليل الأشعري على استناد جميع الممكنات إليه عز و جل ابتداء انتهى.

قلت: هو سبحانه يثبت في كلامه أنواعا من القدرة للملائكة و الجن و الإنس في آيات كثيرة لا تقبل التأويل البتة غير أنه يخص حقيقة القدرة بنفسه في مثل قوله: "أن القوة لله جميعا": البقرة: 165 و يظهر به أن غيره إنما يقدر على ما يقدر بإقداره و يملك ما يملك بتمليكه تعالى إياه فلا أحد مستقلا بالقدرة و الملك إلا هو، و ما عند غيره تعالى من القدرة و الملك مستعار منوط في تأثيره بالإذن و المشية.

و على هذا فلا سبيل إلى تنزيل الحجة في الآية على نفي قدرة آلهتهم من الملائكة و الجن و الإنس من أصلها بل الحجة مبتنية على أن أولئك المدعوين غير مستقلين بالملك و القدرة، و أنهم فيما عندهم من ذلك كالداعين محتاجون إلى الله مبتغون إليه الوسيلة و الدعاء إنما يتعلق بالقدرة المستقلة بالتأثير و الدعاء و المسألة ممن هو قادر بقدرة غيره مالك بتمليكه مع قيام القدرة و الملك بصاحبهما الأصلي فهو في الحقيقة دعاء و مسألة ممن قام بهما حقيقة و استقلالا دون من هو مملك بتمليكه.

و أما ما ذكره أن نفي قدرتهم مطلقا غير ظاهر الدليل فإنه إن قيل: إن الكفرة يتضرعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة، عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة، فقد أجاب الله سبحانه في كلامه عن مثل هذه المعارضة.

توضيح ذلك: أنه تعالى قال و قوله الحق: "أجيب دعوة الداع إذا دعان": البقرة: 186 و قال: "ادعوني أستجب لكم": المؤمن: 60 فأطلق الكلام و أفاد أن العبد إذا جد بالدعاء و لم يلعب به و لم يتعلق قلبه في دعائه الجدي إلا به تعالى بأن انقطع عن غيره و التجأ إليه فإنه يستجاب له البتة ثم ذكر هذا الانقطاع في الدعاء و السؤال في ذيل هذه الآيات الذي كالمتمم لما في هذه الحجة بقوله: "و إذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم": الآية - 67 من السورة فأفاد أنكم عند مس الضر في البحر تنقطعون عن كل شيء إليه فتدعونه بهداية من فطرتكم فيستجيب لكم و ينجيكم إلى البر.

و يتحصل من الجميع أن الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كل شيء و دعاه عن قلب فارغ سليم فإنه يستجيب له و أن غيره إذا انقطع داعيه عن الله و سأله مخلصا فإنه لا يملك الاستجابة.



و على هذا فلا محل للمعارضة من قبل المشركين فإنهم لا يستجاب لهم إذا دعوا آلهتهم و هم أنفسهم يرون أنهم إذا مسهم الضر في البحر و انقطعوا إلى الله و سألوه النجاة نجاهم إلى البر و هم معترفون بذلك، و لئن دعاه المسلمون على هذا النمط عن جد في الدعاء و انقطاع إليه كان حالهم في البر حال غيرهم و هم في البحر و لم يخيبوا و لا ردوا.

و لم يقابل سبحانه في كلامه بين دعائهم آلهتهم و دعاء المسلمين لإلههم حتى يعارض باشتراك الدعاءين في الرد و عدم الاستجابة و إنما قابل بين دعاء المشركين لآلهتهم و بين دعائهم أنفسهم له سبحانه في البحر عند انقطاع الأسباب و ضلال كل مدعو من دون الله.

و من لطيف النكتة في الكلام إلقاؤه سبحانه الحجة إليهم بواسطة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه" و لو ناقشه المشركون بمثل هذه المعارضة لدعا ربه عن انقطاع و إخلاص فاستجيب له.

قوله تعالى: "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب" إلى آخر الآية "أولئك" مبتدأ و "الذين" صفة له و "يدعون" صلته و ضميره عائد إلى المشركين، و "يبتغون" خبر "أولئك" و ضميره و سائر ضمائر الجمع إلى آخر الآية راجعة إلى "أولئك" و قوله: "أيهم أقرب" بيان لابتغاء الوسيلة لكون الابتغاء فحصا و سؤالا في المعنى هذا ما يعطيه السياق.

و الوسيلة على ما فسروه هي التوصل و التقرب، و ربما استعملت بمعنى ما به التوصل و التقرب و لعله هو الأنسب بالسياق بالنظر إلى تعقيبه بقوله: "أيهم أقرب".

و المعنى - و الله أعلم - أولئك الذين يدعوهم المشركون من الملائكة و الجن و الإنس يطلبون ما يتقربون به إلى ربهم يستعلمون أيهم أقرب؟ حتى يسلكوا سبيله و يقتدوا بأعماله ليتقربوا إليه تعالى كتقربه و يرجون رحمته من كل ما يستمدون به في وجودهم و يخافون عذابه فيطيعونه و لا يعصونه إن عذاب ربك كان محذورا يجب التحرز منه.

و التوسل إلى الله ببعض المقربين إليه - على ما في الآية الكريمة قريب منه قوله "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة": المائدة: 35 غير ما يرومه المشركون من الوثنيين فإنهم يتوسلون إلى الله و يتقربون بالملائكة الكرام و الجن و الأولياء من الإنس فيتركون عبادته تعالى و لا يرجونه و لا يخافونه و إنما يعبدون الوسيلة و يرجون رحمته و يخافون سخطه ثم يتوسلون إلى هؤلاء الأرباب و الآلهة بالأصنام و التماثيل فيتركونهم و يعبدون الأصنام و يتقربون إليهم بالقرابين و الذبائح.

و بالجملة يدعون التقرب إلى الله ببعض عباده أو أصنام خلقه ثم لا يعبدون إلا الوسيلة مستقلة بذلك و يرجونها و يخافونها مستقلة بذلك من دون الله فيشركون بإعطاء الاستقلال لها في الربوبية و العبادة.

و المراد بأولئك الذين يدعون إن كان هو الملائكة الكرام و الصلحاء المقربون من الجن و الأنبياء و الأولياء من الإنس كان المراد من ابتغائهم الوسيلة و رجاء الرحمة و خوف العذاب ظاهره المتبادر، و إن كان المراد بهم أعم من ذلك حتى يشمل من كانوا يعبدونه من مردة الشياطين و فسقة الإنسان كفرعون و نمرود و غيرهما كان المراد بابتغائهم الوسيلة إليه تعالى ما ذكر من خضوعهم و سجودهم و تسبيحهم التكويني و كذا المراد من رجائهم و خوفهم ما لذواتهم.



و ذكر بعضهم: أن ضمائر الجمع في الآية جميعا راجعة إلى أولئك و المعنى أولئك الأنبياء الذين يعبدونهم من دون الله يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله و يتضرعون إليه يبتغون إلى ربهم التقرب، و هو كما ترى.

و قال في الكشاف، في معنى الآية: يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة و هي القربة إلى الله تعالى، و "أيهم" بدل من واو "يبتغون" و أي موصولة أي يبتغي من هو أقرب منهم و أزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟ أو ضمن "يبتغون إلى ربهم الوسيلة" معنى يحرصون فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله و ذلك بالطاعة و ازدياد الخير و الصلاح و يرجون و يخافون كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة.

انتهي.

و المعنيان لا بأس بهما لو لا أن السياق لا يلائمهما كل الملاءمة و ثانيهما أقرب إليه من أولهما.

و قيل: إن معنى الآية أولئك الذين يدعونهم و يعبدونهم و يعتقدون أنهم آلهة يبتغون الوسيلة و القربة إلى الله تعالى بعبادتهم و يجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته.

انتهي.

و هو معنى لا ينطبق على لفظ الآية البتة.

قوله تعالى: "و إن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا" ذكروا أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الاستئصال فيبقى للإهلاك المقابل له الإماتة بحتف الأنف فالمعنى ما من قرية إلا نحن نميت أهلها قبل يوم القيامة أو نعذبهم عذاب الاستئصال قبل يوم القيامة إذ لا قرية بعد طي بساط الدنيا بقيام الساعة و قد قال تعالى: "و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا:" الكهف: 8 و لذا قال بعضهم: إن الإهلاك للقرى الصالحة و التعذيب للقرى الطالحة.

و قد ذكروا في وجه اتصال الآية أنها موعظة، و قال بعضهم: كأنه تعالى بعد ما ذكر من شأن البعث و التوحيد ما ذكر، ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه و فيه تأييد لما ذكر قبله.

و الظاهر أن في الآية عطفا على ما تقدم من قوله قبل آيات: "و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" فإن آيات السورة لا تزال ينعطف بعضها على بعض، و الغرض العام بيان سنة الله تعالى الجارية بدعوتهم إلى الحق ثم إسعاد من سعد منهم بالسمع و الطاعة و عقوبة من خالف منهم و طغى بالاستكبار.

و على هذا فالمراد بالإهلاك التدمير بعذاب الاستئصال كما نقل عن أبي مسلم المفسر و المراد بالعذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب كقحط أو غلاء ينجر إلى جلاء أهلها و خراب عمارتها أو غير ذلك من البلايا و المحن.



فتكون في الآية إشارة إلى أن هذه القرى سيخرب كل منها بفساد أهلها و فسق مترفيها، و أن ذلك بقضاء من الله سبحانه كما يشير إليه ذيل الآية، و بذلك يتضح اتصال الآية التالية "و ما منعنا" إلخ بهذه الآية فإن المعنى أنهم مستعدون للفساد مهيئون لتكذيب الآيات الإلهية و هي تتعقب بالهلاك و الفناء على من يردها و يكذب بها و قد أرسلناها إلى الأولين فكذبوا بها و استؤصلوا فلو أنا أرسلنا إلى هؤلاء شيئا من جنس تلك الآيات المخوفة لحق بهم الإهلاك و التدمير و انطوى بساط الدنيا فأمهلناهم حتى حين و سيلحق بهم و لا يتخطاهم - كما أشير إليه في قوله: "و لكل أمة رسول" الآيات: يونس: 47 و ذكر بعضهم: أن المراد بالقرى في الآية القرى الكافرة و أن تعميم القرى لا يساعد عليه السياق انتهى.

و هو دعوى لا دليل عليها.

و قوله: "كان ذلك في الكتاب مسطورا" أي إهلاك القرى أو تعذيبها عذابا شديدا كان في الكتاب مسطورا و قضاء محتوما، و بذلك يظهر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي يذكر القرآن أن الله كتب فيه كل شيء كقوله: "و كل شيء أحصيناه في إمام مبين:" يس: 12، و قوله: "و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين": يونس: 61.

و من غريب الكلام ما ذكره بعضهم: و ذكر غير واحد أنه ما من شيء إلا بين فيه أي في اللوح المحفوظ و الكتاب المسطور بكيفياته و أسبابه الموجبة له و وقته المضروب له، و استشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الأبعاد، و قد قامت البراهين النقلية و العقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك.

و قال بعضهم: بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية و الأخروية و ما كان و ما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه.

انتهي.

و الكلام مبني على كونه لوحا جسمانيا موضوعا في بعض أقطار العالم مكتوبا فيه أسماء الأشياء و أوصافها و أحوالها و ما يجري عليها في الأنظمة الخاصة بكل منها و النظام العام الجاري عليها من جميع الجهات، و لو كان كما يقولون لوحا ماديا جسمانيا لم يسع كتابة أسماء أجزائه التي تألف منها جسمه و تفصيل صفاتها و حالاتها فضلا عن غيره من الموجودات التي لا يحصيها و لا يحيط بتفاصيل صفاتها و أحوالها و ما يحدث عليها و النسب التي بينها إلا الله سبحانه، و ليس ينفع في ذلك التخصيص بما في هذه النشأة أو بما دون ذلك و هو ظاهر.

و ما التزم به البعض أنه من قبيل انطواء غير المتناهي في المتناهي نظير اشتمال الحروف المقطعة جميع الكلام مع عدم تناهي التأليفات الكلامية التزام بوجود صور الحوادث فيه بالقوة و الإمكان أو الإجمال و كلامه سبحانه فيما يصف فيه هذا اللوح كالصريح أو هو صريح في اشتماله على الأشياء و الحوادث مما كان أو يكون أو هو كائن بالفعل و على نحو التفصيل و بسمة الوجوب الذي لا سبيل للتغير إليه، و لو كان كذلك لكفى فيه كتابة حروف التهجي في دائرة على لوح.

على أن الجمع بين جسمية اللوح و ماديته التي من خاصتها قبول التغير و بين كونه محفوظا من أي تغير و تحول مفروض مما يحتاج إلى دليل أجلى من هذه التصويرات و في الكلام مواقع أخرى للنظر.

فالحق أن الكتاب المبين هو متن 1 الأعيان بما فيه من الحوادث من جهة ضرورة ترتب المعلولات على عللها، و هو القضاء الذي لا يرد و لا يبدل لا من جهة إمكان المادة و قوتها، و التعبير عنه بالكتاب و اللوح لتقريب الأفهام إلى حقيقة المعنى بالتمثيل، و سنستوفي الكلام في هذا البحث إن شاء الله في موضع يناسبه.



قوله تعالى: "و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون" إلى آخر الآية قد تقدم وجه اتصال الآية بما قبلها و محصله أن الآية السابقة أفادت أن الناس - و آخروهم كأوليهم - مستحقون بما فيهم من غريزة الفساد و الفسق لحلول الهلاك و سائر أنواع العذاب الشديد، و قد قضى الله على القرى أن تهلك أو تعذب عذابا شديدا و هذا هو الذي منعنا أن نرسل بالآيات التي يقترحونها فإن السابقين منهم اقترحوها فأرسلناها إليهم فكذبوا بها فأهلكناهم، و هؤلاء اللاحقون في خلق سابقيهم فلو أرسلنا بالآيات حسب اقتراحهم لكذبوا بها فحل الهلاك بهم لا محالة كما حل بسابقيهم، و ما يريد الله سبحانه أن يعاجلهم بالعقوبة.

و بهذا يظهر أن للآيتين ارتباطا بما سيحكيه من اقتراحهم الآيات بقوله: "و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا": الآية 90 من السورة إلى آخر الآيات، و ظاهر آيات السورة أنها نزلت دفعة واحدة.

فقوله: "و ما منعنا أن نرسل بالآيات" المنع هو قسر الغير عما يريد أن يفعله و كفه عنه، و الله سبحانه يحكم و لا معقب لحكمه و هو الغالب القاهر إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، فكون تكذيب الأولين لآياته مانعا له من إرسال الآيات المقترحة بعد ذلك كون الفعل بالنظر إلى ما ارتكز فيهم من خلق التكذيب خاليا عن المصلحة بالنسبة إلى أمة أراد الله أن لا يعاجلهم بالعقوبة و الهلاك أو خاليا عن المصلحة مطلقا للعلم بأن عامتهم لا يؤمنون بالآيات المقترحة.

و إن شئت فقل: إن المنافاة بين إرسال الآيات المقترحة مع تكذيب الأولين و كون الآخرين سالكين سبيلهم المستتبع للاستئصال و بين تعلق المشية بإمهال هذه الأمة عبر عنها في الآية بالمنع استعارة.

و كأنه للإشعار بذلك عبر عن إيتاء الآيات بالإرسال كأنها تتعاضد و تتداعى للنزول لكن التكذيب و تعرق الفساد في فطر الناس يمنع من ذلك.

و قوله: "إلا أن كذب بها الأولون" التعبير عن الأمم الهالكة بالأولين المضايف للآخرين فيه إيماء إلى أن هؤلاء آخر أولئك الأولين فهم في الحقيقة أمة واحدة لآخرها من الخلق و الغريزة ما لأولها، لذيلها من الحكم ما لصدرها و لذلك كانوا يقولون: "ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين": المؤمنون: 24 و يكررون ذكر هذه الكلمة.

و كيف كان فمعنى الآية أنا لم نرسل الآيات التي يقترحونها و المقترحون هم قريش - لأنا لو أرسلناها لم يؤمنوا و كذبوا بها فيستحقوا عذاب الاستئصال كما أنا أرسلناها إلى الأولين بعد اقتراحهم إياها فكذبوا بها فأهلكناهم لكنا قضينا على هذه الأمة أن لا نعذبهم إلا بعد مهلة و نظرة كما يظهر من مواضع من كلامه تعالى.

و ذكروا في معنى الآية الكريمة وجهين آخرين: أحدهما: أنا لا نرسل الآيات لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها فيكون إنزالها عبثا لا فائدة فيه كما أن من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات و هذا إنما يتم في الآيات المقترحة و أما الآيات التي يتوقف عليها ثبوت النبوة فإن الله يؤتيها رسوله لا محالة، و كذا الآيات التي في نزولها لطف منه سبحانه فإن الله يظهرها أيضا لطفا منه، و أما غير هذين النوعين فلا فائدة في إنزالها.

و ثانيهما: أن المعنى أنا لا نرسل الآيات لأن آباءكم و أسلافكم سألوا مثلها و لم يؤمنوا به عند ما نزل و أنتم على آثار أسلافكم مقتدون فكما لم يؤمنوا هم لا تؤمنون أنتم.

و المعنى الثاني منقول عن أبي مسلم و تمييزه من المعنيين السابقين من غير أن ينطبق على أحدهما لا يخلو من صعوبة.



و قوله: "و آتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها" ثمود هم قوم صالح و لقد آتاهم الناقة آية، و المبصرة الظاهرة البينة على حد ما في قوله تعالى: "و جعلنا آية النهار مبصرة": إسراء - 12، و هي صفة الناقة أو صفة لمحذوف و التقدير آية مبصرة و المعنى و آتينا قوم ثمود الناقة حالكونها ظاهرة بينة أو حالكونها آية ظاهرة بينة فظلموا أنفسهم بسببها أو ظلموا مكذبين بها.

و قوله: "و ما نرسل بالآيات إلا تخويفا" أي إن الحكمة في الإرسال بالآيات التخويف و الإنذار فإن كانت من الآيات التي تستتبع عذاب الاستئصال ففيها تخويف بالهلاك في الدنيا و عذاب النار في الآخرة، و إن كانت من غيرها ففيها تخويف و إنذار بعقوبة العقبى.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بالتخويف إيجاد الخوف و الوحشة بإرسال ما دون عذاب الاستئصال على حد ما في قوله تعالى: "أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم": النحل، 47 فيرجع محصل معنى الآية إنا لا نرسل بالآيات المقترحة لأنا لا نريد أن نعذبهم بعذاب الاستئصال و إنما نرسل ما نرسل من الآيات تخويفا ليحذروا بمشاهدتها عما هو أشد منها و أفظع و نسب الوجه إلى بعضهم.

قوله تعالى: "و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا" فقرأت الآية و هي أربع واضحة المعاني لكنها بحسب ما بينها من الاتصال و ارتباط بعضها ببعض لا تخلو من إجمال و السبب الأصلي في ذلك إجمال الفقرتين الوسطيين الثانية و الثالثة.

فلم يبين سبحانه ما هذه الرؤيا التي أراها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يقع في سائر كلامه ما يصلح لأن يفسر به هذه الرؤيا، و الذي ذكره من رؤياه في مثل قوله: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا و لو أراكهم كثيرا لفشلتم": الأنفال، 43 و قوله "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام": الفتح - 27 من الحوادث الواقعة بعد الهجرة و هذه الآية مكية نازلة قبل الهجرة.

و لا يدرى ما هذه الشجرة الملعونة في القرآن التي جعلها فتنة للناس، و لا توجد في القرآن شجرة يذكرها الله ثم يلعنها نعم ذكر سبحانه شجرة الزقوم و وصفها بأنها فتنة كما في قوله "أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين": الصافات - 63 لكنه سبحانه لم يلعنها في شيء من المواضع التي ذكرها، و لو كان مجرد كونها شجرة تخرج في أصل الجحيم و سببا من أسباب عذاب الظالمين موجبا للعنها لكانت النار و كل ما أعد الله فيها للعذاب ملعونة و لكانت ملائكة العذاب و هم الذين قال تعالى فيهم: "و ما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة و ما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا": المدثر: 31 ملعونين و قد أثنى الله عليهم ذاك الثناء البالغ في قوله: "عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون": التحريم: 6 و قد عد سبحانه أيدي المؤمنين من أسباب عذاب الكفار إذ قال: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم": التوبة: 14 و ليست بملعونة.

و بهذا يتأيد أنه لم يكن المراد بالآية الكشف عن قناع الفقرتين و إيضاح قصة الرؤيا و الشجرة الملعونة في القرآن المجعولتين فتنة للناس بل إنما أريدت الإشارة إلى إجمالهما و التذكير بما يقتضيانه بحكم السياق.



نعم ربما يلوح السياق إلى بعض شأن الأمرين: الرؤيا و الشجرة الملعونة فإن الآيات السابقة كانت تصف الناس أن أخراهم كأولاهم و ذيلهم كصدرهم في عدم الاعتناء بآيات الله سبحانه و تكذيبها، و أن المجتمعات الإنسانية ذائقون عذاب الله قرية بعد قرية و جيلا بعد جيل بإهلاك أو بعذاب مخوف دون ذلك، و الآيات اللاحقة "و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" إلخ المشتملة على قصة إبليس و عجيب تسلطه على إغواء بني آدم تجري على سياق الآيات السابقة.

و بذلك يظهر أن الرؤيا و الشجرة المشار إليهما في الآية أمران سيظهران على الناس أو هما ظاهران يفتتن بهما الناس فيشيع بهما فيهم الفساد و يتعرق فيهم الطغيان و الاستكبار و ذيل الآية "و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا" يشير إلى ذلك و يؤيده بل و صدر الآية "و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس".

أضف إلى ذلك أنه تعالى وصف هذه الشجرة التي ذكرها بأنها ملعونة في القرآن، و بذلك يظهر أن القرآن مشتمل على لعنها و أن لعنها بين اللعنات الموجودة في القرآن كما هو ظاهر قوله: "و الشجرة الملعونة في القرآن" و قد لعن في القرآن إبليس و لعن فيه اليهود و لعن فيه المشركون و لعن فيه المنافقون و لعن فيه أناس بعناوين أخر كالذين يموتون و هم كفار و الذين يكتمون ما أنزل الله و الذين يؤذون الله و رسوله إلى غير ذلك.

و قد جعل الموصوف بهذه اللعنة شجرة، و الشجرة كما تطلق على ذي الساق من النبات كذلك تستعمل في الأصل الذي تطلع منه و تنشأ عليه فروع بالنسب أو بالإتباع على أصل اعتقادي، قال في لسان العرب،: و يقال: فلان من شجرة مباركة أي من أصل مبارك.

انتهي.

و قد ورد ذلك في لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا كقوله: أنا و علي من شجرة واحدة، و من هذا الباب قوله في حديث العباس: عم الرجل صنو أبيه.

1 و بالتأمل في ذلك يتضح للباحث المتدبر أن هذه الشجرة الملعونة قوم من هؤلاء الملعونين في كلامه لهم صفة الشجرة في النشوء و النمو و تفرع الفروع على أصل له حظ من البقاء و الإثمار و هم فتنة تفتتن بها هذه الأمة، و ليس يصلح لهذه الصفة إلا طوائف ثلاث من المعدودين و هم أهل الكتاب و المشركون و المنافقون و لبثهم في الناس و بقاؤهم على الولاء إما بالتناسل و التوالد كأهل بيت من الطوائف المذكورة يعيشون بين الناس و يفسدون على الناس دينهم و دنياهم و يفتتن بهم الناس و إما بطلوع عقيدة فاسدة ثم اتباعها على الولاء من خلف بعد سلف.

و لم يظهر من المشركين و أهل الكتاب في زمن الرسول قبل الهجرة و بعدها قوم بهذا النعت، و قد آمن الله الناس من شرهم مستقلين بذلك بمثل قوله النازل في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم و اخشون": المائدة: 3 و قد استوفينا البحث عن معنى الآية فيما تقدم.

فالذي يهدي إليه الإمعان في البحث أن المراد بالشجرة الملعونة قوم من المنافقين المتظاهرين بالإسلام يتعرقون بين المسلمين إما بالنسل و إما بالعقيدة و المسلك هم فتنة للناس، و لا ينبغي أن يرتاب في أن في سياق الآية تلويحا بالارتباط بين الفقرتين أعني قوله: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس و الشجرة الملعونة" و خاصة بعد الإمعان في تقدم قوله: "و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس" و تذييل الفقرات جميعا بقوله: "و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا" فإن ارتباط الفقرات بعضها ببعض ظاهر في أن الآية بصدد الإشارة إلى أمر واحد هو سبحانه محيط به و لا ينفع فيه عظة و تخويف إلا زيادة في الطغيان.



و يستفاد من ذلك أن الشأن هو أن الله سبحانه أرى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرؤيا هذه الشجرة الملعونة و بعض أعمالهم في الإسلام ثم بين لرسوله أن ذلك فتنة.

فقوله: "و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس" مقتضى السياق أن المراد بالإحاطة الإحاطة العلمية، و الظرف متعلق بمحذوف و التقدير و اذكر إذ قلنا لك كذا و كذا و المعنى و اذكر للتثبت فيما ذكرنا لك في هذه الآيات أن شيمة الناس الاستمرار في الفساد و الفسوق و اقتداء أخلافهم بأسلافهم في الإعراض عن ذكر الله و عدم الاعتناء بآيات الله، وقتا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس علما و علم أن هذه السنة ستجري بينهم كما كانت تجري.

و قوله: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن" محصل معناه على ما تقدم أنه لم نجعل الشجرة الملعونة في القرآن التي تعرفها بتعريفنا، و ما أريناك في المنام من أمرهم إلا فتنة للناس و امتحانا و بلاء نمتحنهم و نبلوهم به و قد أحطنا بهم.

و قوله: "و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا" ضميرا الجمع للناس ظاهرا و المراد بالتخويف إما التخويف بالموعظة و البيان أو بالآيات المخوفة التي هي دون الآيات المهلكة المبيدة، و المعنى و نخوف الناس فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا و لا أي طغيان كان بل طغيانا كبيرا أي أنهم لا يخافون من تخويفنا حتى ينتهوا عما هم عليه بل يجيبوننا بالطغيان الكبير فهم يبالغون في طغيانهم و يفرطون في عنادهم مع الحق.

و سياق الآية سياق التسلية فالله سبحانه يعزي نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها بأن الذي أراه من الأمر، و عرفه من الفتن، و قد جرت سنته تعالى على امتحان عباده بالمحن و الفتن، و قد اعترف بذلك غير واحد من المفسرين.

و يؤيد جميع ما تقدم ما ورد من طرق أهل السنة و اتفقت عليه أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بالرؤيا في الآية هي رؤيا رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بني أمية و الشجرة شجرتهم و سيوافيك الروايات في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و قد ذكر جمع من المفسرين استنادا إلى ما نقل عن ابن عباس أن المراد بالرؤيا التي أراها الله نبيه هو الإسراء، و المراد بالشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم، و ذكروا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما رجع من الإسراء و أصبح أخبر المشركين بذلك فكذبوه و استهزءوا به، و كذلك لما سمع المشركون آيات ذكر الله فيها الزقوم كذبوه و سخروا منه فأنزل الله في هذه الآية أن الرؤيا التي أريناك و هي الإسراء و شجرة الزقوم ما جعلناهما إلا فتنة للناس.



ثم لما ورد عليهم أن الرؤيا على ما صرح به أهل اللغة هي ما يراه النائم في منامه و الإسراء كان في اليقظة اعتذروا عنه تارة بأن الرؤيا كالرؤية مصدر رأى و لا اختصاص لها بالمنام، و تارة بأن الرؤيا ما يراه الإنسان بالليل سواء فيه النوم و اليقظة، و تارة بأنها مشاكلة لتسمية المشركين له رؤيا، و تارة بأنه جار على زعمهم كما سموا أصنامهم آلهة فقد روي أن بعضهم قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قص عليهم إسراءه لعله شيء رأيته في منامك فسماه الله رؤيا على زعمهم كما قال في الأصنام "آلهتهم"، و تارة بأنه سمي رؤيا تشبيها له بالمنام لما فيها من العجائب أو لوقوعه ليلا أو لسرعته.

و قد أجاب عن ذلك بعضهم أن الإسراء كان في المنام كما روي عن عائشة و معاوية.

و لما ورد عليهم أيضا أن لا معنى لتسمية الزقوم شجرة ملعونة و لا ذنب للشجرة اعتذروا عنه تارة بأن المراد من لعنها لعن طاعميها على نحو المجاز في الإسناد للدلالة على المبالغة في لعنهم كما قيل و تارة بأن اللعنة بمعنى البعد و هي في أبعد مكان من الرحمة لكونها تنبت في أصل الجحيم، و تارة بأنها جعلت ملعونة لأن طلعها يشبه رءوس الشياطين و الشياطين ملعونون، و تارة بأن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا.

أما ما ذكروه في معنى الرؤيا فما قيل: إن الرؤيا مصدر مرادف للرؤية أو إنها بمعنى الرؤية ليلا يرده عدم الثبوت لغة و لم يستندوا في ذلك إلى شيء من كلامهم من نظم أو نثر إلا إلى مجرد الدعوى.

و أما قولهم: إن ذلك مشاكلة لتسمية المشركين الإسراء رؤيا أو جرى على زعمهم أنه رؤيا فيجب تنزيه كلامه سبحانه من ذلك البتة فما هي القرينة الدالة على هذه العناية و أنه ليس فيه اعتراف بكونها رؤيا حقيقة؟ و لم يطلق تعالى على أصنامهم "آلهة" و "شركاء" و إنما أطلق "آلهتهم" و "شركائهم" فأضافها إليهم و الإضافة نعمت القرينة على عدم التسليم، و نظير الكلام جار في اعتذارهم بأنه من تشبيه الإسراء بالرؤيا فالاستعارة كسائر المجازات لا تصح إلا مع قرينة، و لو كانت هناك قرينة لم يستدل كل من قال بكون الإسراء مناميا بوقوع لفظة الرؤيا في الآية بناء على كون الآية ناظرة إلى الإسراء.

و أما قول القائل: إن الإسراء كان في المنام فقد اتضح بطلانه في أول السورة في تفسير آية الإسراء.

و أما المعاذير التي ذكروها تفصيا عن جعل الشجرة ملعونة في القرآن فقولهم: إن حقيقة لعنها لعن طاعميها على طريق المجاز في الإسناد للمبالغة في لعنهم فهو و إن كان كثير النظير في محاورات العامة لكنه مما يجب أن ينزه عنه ساحة كلامه تعالى و إنما هو من دأب جهلة الناس و سفلتهم تراهم إذا أرادوا أن يسبوا أحدا لعنوه بلعن أبيه و أمه و عشيرته مبالغة في سبه، و إذا شتموا رجلا أساءوا ذكر زوجته و بنته و سبوا السماء التي تظله و الأرض التي تقله و الدار التي يسكنها و القوم الذين يعاشرهم و أدب القرآن يمنعه أن يبالغ في لعن أصحاب النار بلعن الشجرة التي يعذبهم الله بأكل ثمارها.

و قولهم: إن اللعن مطلق الإبعاد مما لم يثبت لغة و الذي ذكروه و يشهد به ما ورد من استعماله في القرآن أن معناه الإبعاد من الرحمة و الكرامة و ما قيل: إنها كما قال الله "شجرة تخرج في أصل الجحيم" فهي في أبعد مكان من الرحمة إن أريدت بالرحمة الجنة فهو قول من غير دليل و إن أريدت به الرحمة المقابلة للعذاب كان لازمه كون الشجرة ملعونة بمعنى الإبعاد من الرحمة و الكرامة و مقتضاه كون جهنم و ما أعد الله فيها من العذاب و ملائكة النار و خزنتها ملعونين مغضوبين مبعدين من الرحمة، و ليس شيء منها ملعونا و إنما اللعن و الغضب و البعد للمعذبين فيها من الإنس و الجن.



و قولهم: إنها جعلت ملعونة لأن طلعها يشبه رءوس الشياطين و الشياطين ملعونون فهو مجاز في الإسناد بعيد من الفهم يرد عليه ما أوردناه على الوجه الأول.

و قولهم: إن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا فيه استعمال الشجرة و إرادة الثمرة مجازا ثم جعلها ملعونة لكونها مكروهة ضارة أو نسبة اللعن و هو وصف الثمرة إلى الشجرة مجازا و على أي حال كونها معنى من معاني اللعن غير ثابت بل الظاهر أنهم يصفونه باللعن بمعناه المعروف و العامة يلعنون كل ما لا يرتضونه من طعام و شراب و غيرهما.

و أما انتساب القول إلى ابن عباس فعلى تقدير ثبوته لا حجية فيه و خاصة مع معارضته لما في حديث عائشة الآتية و غيرها و هو يتضمن تفسير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يعارضه قول غيره.

و قال في الكشاف، في قوله تعالى: "و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس" و اذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بوقعة بدر و بالنصرة عليهم و ذلك قوله: "سيهزم الجمع و يولون الدبر" "قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون" و غير ذلك فجعله كأن قد كان و وجد فقال: "أحاط بالناس" على عادته في إخباره.

و حين تزاحف الفريقان يوم بدر و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في العريش مع أبي بكر كان يدعو و يقول: اللهم إني أسألك عهدك و وعدك ثم خرج و عليه الدرع يحرض الناس و يقول: "سيهزم الجمع و يولون الدبر".

و لعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: و الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم و هو يومىء إلى الأرض و يقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمر يوم بدر و ما أرى في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون و يستسخرون و يستعجلون به استهزاء.

و حين سمعوا بقوله: "إن شجرة الزقوم طعام الأثيم" جعلوها سخرية و قالوا: إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول: ينبت فيها الشجر - إلى أن قال - و المعنى أن الآيات إنما يرسل بها تخويفا للعباد، و هؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا و هو القتل يوم بدر.

انتهى ثم ذكر تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء ناسبا له إلى قيل.

و هو ظاهر في أنه لم يرتض تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء و إن نسب إلى الرواية فعدل عنه إلى تفسيرها برؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقعة بدر قبل وقوعها و تسامع قريش بذلك و استهزاءهم به.

و هو و إن تقصى به عما يلزم تفسيرهم الرؤيا بالإسراء من المحذور لكنه وقع فيما ليس بأهون منه إن لم يكن أشد و هو تفسير الرؤيا بما رجى أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى في منامه وقعة بدر و مصارع القوم فيها قبل وقوعها و يسخر قريش منه فيجعل فتنة لهم فلا حجة له على ما فسر إلا قوله: "و لعل الله أراه مصارعهم في منامه" و كيف يجترىء على تفسير كلامه تعالى بتوهم أمر لا مستند له و لا حجة عليه من أثر يعول عليه أو دليل من خلال الآيات يرجع إليه.

و ذكر بعضهم: أن المراد بالرؤيا رؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يدخل مكة و المسجد الحرام و هي التي ذكرها الله سبحانه بقوله: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا" الآية.



و فيه أن هذه الرؤيا إنما رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الهجرة قبل صلح الحديبية و الآية مكية و سنستوفي البحث عن هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى.

و ذكر بعضهم: أن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود و نسب إلى أبي مسلم المفسر.

و قد تقدم ما يمكن أن يوجه به هذا القول مع ما يرد عليه.

قوله تعالى: "و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال ء أسجد لمن خلقت طينا" قال في المجمع،: قال الزجاج: طينا منصوب على الحال بمعنى أنك أنشأته في حال كونه من طين، و يجوز أن يكون تقديره من طين فحذف "من" فوصل الفعل، و مثله قوله: "أن تسترضعوا أولادكم" أي لأولادكم و قيل: إنه منصوب على التميز.

انتهي.

و جوز في الكشاف، كونه حالا من الموصول لا من المفعول "خلقت" كما قاله الزجاج، و قيل: إن الحالية على أي حال خلاف الظاهر لكون "طينا" جامدا.

و في الآية تذكير آخر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقصة إبليس و ما جرى بينه و بين الله سبحانه من المحاورة عند ما عصى أمر السجدة ليتثبت فيما أخبره الله من حال الناس أنهم لم يزالوا على الاستهانة بأمر الله و الاستكبار عن الحق و عدم الاعتناء بآيات الله و لن يزالوا على ذلك فليذكر قصة إبليس و ما عقد عليه أن يحتنك ذرية آدم و سلطه الله يومئذ على من أطاعه من بني آدم و اتبع دعوته و دعوة خيله و رجله و لم يستثن في عقده إلا عباده المخلصين.

فالمعنى: و اذكر إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس - فكأنه قيل: فما ذا صنع؟ أو فما ذا قال؟ إذ لم يسجد؟ فقيل: إنه أنكر الأمر بالسجدة و قال أ أسجد - و الاستفهام للإنكار - لمن خلقته من طين و قد خلقتني من نار و هي أشرف من الطين.

و في القصة اختصار بحذف بعض فقراتها، و الوجه فيه أن السياق اقتضى ذلك فإن الغرض بيان العلل و العوامل المقتضية لاستمرار بني آدم على الظلم و الفسوق فقد ذكر أولا أن الأولين منهم لم يؤمنوا بالآيات المقترحة و الآخرون بانون على الاقتداء بهم ثم ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن هناك من الفتن ما سيفتنون به ثم ذكره بما قصه عليه من قصة آدم و إبليس و فيها عقد إبليس أن يغوي ذرية آدم و سؤاله أن يسلطه الله عليهم و إجابته تعالى إياه على ذلك في الغاوين فليس بمستبعد أن يميل أكثر الناس إلى سبيل الضلال و ينكبوا على الظلم و الطغيان و الإعراض عن آيات الله و قد أحاطت بهم الفتنة الإلهية من جانب و الشيطان بخيله و رجله من جانب.

قوله تعالى: "قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا" الكاف في "أ رأيتك" زائدة لا محل لها من الإعراب و إنما تفيد معنى الخطاب كما في أسماء الإشارة، و المراد بقوله: "هذا الذي كرمت علي" آدم (عليه السلام) و تكريمه على إبليس تفضيله عليه بأمره بالسجدة و رجمه حيث أبى.

و من هنا يظهر أنه فهم التفضيل من أمر السجدة كما أنه اجترى على إرادة إغواء ذريته مما جرى في محاورته تعالى الملائكة من قولهم: "أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء": البقرة: 30، و قد تقدم في تفسير الآية ما ينفع هاهنا.



و الاحتناك على ما في المجمع، - الاقتطاع من الأصل، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله، و احتنك الجراد المزرع إذا أكله كله و قيل: إنه من قولهم: حنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، و الظاهر أن المعنى الأخير هو الأصل في الباب، و الاحتناك الإلجام.

و المعنى: قال إبليس بعد ما عصى و أخذه الغضب الإلهي رب أ رأيت هذا الذي فضلته بأمري بسجدته و رجمي بمعصيته أقسم لئن أخرتني إلى يوم القيامة و هو مدة مكث بني آدم في الأرض لألجمن ذريته إلا قليلا منهم و هم المخلصون.

قوله تعالى: "قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا" قيل: الأمر بالذهاب ليس على حقيقته و إنما هو كناية عن تخليته و نفسه كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، و قيل: الأمر على حقيقته و هو تعبير آخر لقوله في موضع آخر: "اخرج منها فإنك رجيم" و الموفور المكمل فالجزاء الموفور الجزاء الذي يوفى كله و لا يدخر منه شيء، و معنى الآية واضح.

قوله تعالى: "و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك" إلى آخر الآية الاستفزاز الإزعاج و الاستنهاض بخفة و إسراع، و الإجلاب كما في المجمع، السوق بجلبة من السائق و الجلبة شدة الصوت، و في المفردات،: أصل الجلب سوق الشيء يقال: جلبت جلبا قال الشاعر: "و قد يجلب الشيء البعيد الجواب" و أجلبت عليه صحت عليه بقهر، قال الله عز و جل: "و أجلب عليهم بخيلك و رجلك" انتهى.

و الخيل - على ما قيل - الأفراس حقيقة و لا واحد له من لفظه و يطلق على الفرسان مجازا، و الرجل بالفتح فالكسر هو الراجل كحذر و حاذر و كمل و كامل و هو خلاف الراكب، و ظاهر مقابلته بالخيل أن يكون المراد به الرجالة و هم غير الفرسان من الجيش.

فقوله: "و استفزز من استطعت منهم بصوتك" أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم - و هم الذين يتولونه منهم و يتبعونه كما ذكره في سورة الحجر - بصوتك، و كأن الاستفزاز بالصوت كناية عن استخفافهم بالوسوسة الباطلة من غير حقيقة، و تمثيل بما يساق الغنم و غيره بالنعيق و الزجر و هو صوت لا معنى له.

و قوله: "و أجلب عليهم بخيلك و رجلك" أي و صح عليهم لسوقهم إلى معصية الله بأعوانك و جيوشك فرسانهم و رجالتهم و كأنه إشارة إلى أن قبيله و أعوانه منهم من يعمل ما يعمل بسرعة كما هو شأن الفرسان في معركة الحرب و منهم من يستعمل في غير موارد الحملات السريعة كالرجالة، فالخيل و الرجل كناية عن المسرعين في العمل و المبطئين فيه و فيه تمثيل نحو عملهم.

و قوله: "و شاركهم في الأموال و الأولاد" الشركة إنما يتصور في الملك و الاختصاص و لازمه كون الشريك سهيما لشريكه في الانتفاع الذي هو الغرض من اتخاذ المال و الولد فإن المال عين خارجي منفصل من الإنسان و كذا الولد شخص إنساني مستقل عن والديه، و لو لا غرض الانتفاع لم يعتبر الإنسان مالية لمال و لا اختصاص بولد.



فمشاركة الشيطان للإنسان في ماله أو ولده مساهمته له في الاختصاص و الانتفاع كأن يحصل المال الذي جعله الله رافعا لحاجة الإنسان الطبيعية من غير حله فينتفع به الشيطان لغرضه و الإنسان لغرضه الطبيعي، أو يحصله من طريق الحل لكن يستعمله في غير طاعة الله فينتفعان به معا و هو صفر الكف من رحمة الله و كأن يولد الإنسان من غير طريق حله أو يولد من طريق حله ثم يربيه تربية غير صالحة و يؤدبه بغير أدب الله فيجعل للشيطان سهما و لنفسه سهما، و على هذا القياس.

و هذا وجه مستقيم لمعنى الآية و جامع لما ذكره المفسرون في معنى الآية من الوجوه المختلفة كقول بعضهم الأموال و الأولاد التي يشارك فيها الشيطان كل مال أصيب من حرام و أخذ من غير حقه و كل ولد زنا كما عن ابن عباس و غيره.

و قول آخر: إن مشاركته في الأموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة و بحيرة و غير ذلك و في الأولاد أنهم هودوهم و نصروهم و مجسوهم كما عن قتادة.

و قول آخر: إن كل مال حرام و فرج حرام فله فيه شرك كما عن الكلبي، و قول آخر: إن المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس و عبد الحارث و نحوهما، و قول آخر: هو قتل الموءودة من أولادهم كما عن ابن عباس أيضا، و قول آخر: إن المشاركة في الأموال الذبح للآلهة كما عن الضحاك إلى غير ذلك مما روي عن قدماء المفسرين.

و قوله: "و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا" أي ما يعدهم إلا وعدا غارا بإظهار الخطإ في صورة الصواب و الباطل على هيئة الحق فالغرور مصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة.

قوله تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان و كفى بربك وكيلا" المراد بعبادي أعم من المخلصين الذين استثناهم إبليس بقوله: "إلا قليلا" بل غير الغاوين من اتباع إبليس كما قال في موضع آخر: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42 و الإضافة للتشريف.

و قوله: "و كفى بربك وكيلا" أي قائما على نفوسهم و أعمالهم حافظا لمنافعهم متوليا لأمورهم فإن الوكيل هو الكافل لأمور الغير القائم مقامه في تدبيرها و إدارة رحاها، و بذلك يظهر أن المراد به وكالته الخاصة لغير الغاوين من عباده كما مر في سورة الحجر.

و قد تقدمت أبحاث مختلفة حول قصة سجدة آدم نافعة في هذا المقام في مواضع متفرقة من كلامه تعالى كسورة البقرة و سورة الأعراف و سورة الحجر.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "و إن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة" قال: هو الفناء بالموت أو غيره، و في رواية أخرى عنه (عليه السلام): "و إن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة" قال: بالقتل و الموت أو غيره.

أقول: و لعله تفسير لجميع الآية.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و ما منعنا أن نرسل بالآيات" الآية قال نزلت في قريش.

قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في الآية: و ذلك أن محمدا سأل قومه أن يأتيهم فنزل جبرئيل فقال: إن الله عز و جل يقول: و ما منعنا أن نرسل بالآيات - إلا أن كذب بها الأولون، و كنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم فلذلك أخرنا عن قومك الآيات.



و في الدر المنثور، أخرج أحمد و النسائي و البزاز و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، و الضياء في المختارة، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجعل لهم الصفا ذهبا و أن ينحي عنهم الجبال فيزرعون فقيل له: إن شئت أن نتأنى بهم و إن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله. "و ما منعنا أن نرسل بالآيات - إلا أن كذب بها الأولون".

أقول: و روي ما يقرب منه بغير واحد من الطرق.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات فأنزل الله: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس".

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي قال: رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة و أنزل الله في ذلك: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس و الشجرة الملعونة" يعني الحكم و ولده.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أريت بني أمية على منابر الأرض و سيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، و اهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك فأنزل الله: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس".

و فيه، أخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي: أن رسول الله أصبح و هو مهموم فقيل: ما لك يا رسول الله؟ فقال: إني أريت في المنام كان بني أمية يتعاورون منبري هذا فقيل: يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس".

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، و ابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه، و هي قوله: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" يعني بلاء للناس: أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن الثعلبي في تفسيره، يرفعه إلى سعيد بن المسيب.

و في تفسير البرهان، عن كتاب فضيلة الحسين يرفعه إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة فأصبح كالمتغيظ فما رؤي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة: أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لأبيك و جدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.

و في مجمع البيان،: رؤيا رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قرودا تصعد منبره و تنزل و ساءه ذلك و اغتم:، رواه سهل بن سعيد عن أبيه. ثم قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)، و قالوا: على هذا التأويل الشجرة الملعونة في القرآن هو بنو أمية.

أقول: و ليس من التأويل في شيء بل هو تنزيل كما تقدم بيانه، إلا أن التأويل ربما أطلق في كلامهم على مطلق توجيه المقصود.

و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، عن عدة من الثقات كزرارة و حمران و محمد بن مسلم و معروف بن خربوذ و سلام الجعفي و القاسم بن سليمان و يونس بن عبد الرحمن الأشل و عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه القمي في تفسيره، مضمرا، و رواه العياشي أيضا عن أبي الطفيل عن علي (عليه السلام).



و في بعض هذه الروايات أن مع بني أمية غيرهم و قد تقدم ما يهدي إليه البحث في معنى الآية، و قد مر أيضا الروايات في ذيل قوله تعالى: "و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة" الآية: إبراهيم: 26 أن الشجرة الخبيثة هي الأفجران من قريش.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و سعيد بن منصور و أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس: في قوله: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة أسري به إلى بيت المقدس و ليست برؤيا منام "و الشجرة الملعونة في القرآن" قال: هي شجرة الزقوم.

أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن ابن سعد و أبي يعلى و ابن عساكر عن أم هاني، و قد عرفت حال الرواية في الكلام على تفسير الآية.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: "و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك" الآية قال: إن رسول الله أرى أنه دخل مكة هو و أصحابه و هو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون فقال أناس: قد رد و قد كان حدثنا أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم.

أقول: و قد تقدم ما على الرواية في تفسير الآية على أنها تعارض ما تقدمها.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد، عن عثمان بن عيسى عن عمر بن أذينة عن سليمان بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال و ما قيل له فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان. فقال رجل. يا رسول الله و في الناس شرك شيطان؟ فقال: أ و ما تقرأ قول الله عز و جل: "و شاركهم في الأموال و الأولاد"؟ فقال: من لا يبالي ما قال و ما قيل له؟ فقال: نعم من تعرض للناس فقال فيهم و هو يعلم أنهم لا يتركونه فذلك الذي لا يبالي ما قال و ما قيل له.

و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن شرك الشيطان: قوله: "و شاركهم في الأموال و الأولاد" قال: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان. قال: و يكون مع الرجل حتى يجامع فيكون من نطفته و نطفة الرجل إذا كان حراما.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي من قبيل ذكر المصاديق، و قد تقدم المعنى الجامع لها.

و ما ذكر فيها على مشاركته الرجل في الوقاع و النطفة و غير ذلك كناية عن أن له نصيبا في جميع ذلك فهو من التمثيل بما يتبين به المعنى المقصود، و نظائره كثيرة في الروايات.

17 سورة الإسراء - 66 - 72

رّبّكُمُ الّذِى يُزْجِى لَكمُ الْفُلْك فى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضلِهِ إِنّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَ إِذَا مَسكُمُ الضرّ فى الْبَحْرِ ضلّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيّاهُ فَلَمّا نجّاشْ إِلى الْبرِّ أَعْرَضتُمْ وَ كانَ الانسنُ كَفُوراً (67) أَ فَأَمِنتُمْ أَن يخْسِف بِكُمْ جَانِب الْبرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكمْ حَاصِباً ثُمّ لا تجِدُوا لَكمْ وَكيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيح فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتمْ ثمّ لا تجِدُوا لَكمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69) وَ لَقَدْ كَرّمْنَا بَنى ءَادَمَ وَ حَمَلْنَهُمْ فى الْبرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنَهُم مِّنَ الطيِّبَتِ وَ فَضلْنَهُمْ عَلى كثِيرٍ مِّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كلّ أُنَاسِ بِإِمَمِهِمْ فَمَنْ أُوتىَ كتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئك يَقْرَءُونَ كتَبَهُمْ وَ لا يُظلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَ مَن كانَ فى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فى الاَخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضلّ سبِيلاً (72)

بيان

الآيات كالمكملة للآيات السابقة تثبت لله سبحانه من استجابة الدعوة و كشف الضر ما نفاه القبيل السابق عن أصنامهم و أوثانهم فإن الآيات السابقة تبتدأ بقوله تعالى: "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم و لا تحويلا" و هذه الآيات تفتتح بقوله: "ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر" إلخ.

و إنما قلنا: هي كالمكملة لبيان الآيات السابقة مع أن ما تحتويه كل من القبلين حجة تامة في مدلولها تبطل إحداهما ألوهية آلهتهم و تثبت الأخرى ألوهية الله سبحانه لافتتاح القبيل الأول بقوله: "قل" دون الثاني و ظاهره كون مجموع القبيلين واحدا من الاحتجاج أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإلقائه إلى المشركين لإلزامهم بالتوحيد.

و يؤيده السياق السابق المبدو بقوله: "قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا" و قد لحقه قوله ثانيا: "و قالوا ء إذا كنا عظاما - إلى أن قال - قل كونوا حجارة أو حديدا".

و قد ختم الآيات بقوله: "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم" إلخ فأشار به إلى أن هذا الذي يذكر من الهدى و الضلالة في الدنيا يلازم الإنسان في الآخرة فالنشأة الأخرى على طبق النشأة الأولى فمن أبصر في الدنيا أبصر في الآخرة، و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا.

قوله تعالى: "ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما" الإزجاء على ما في مجمع البيان، سوق الشيء حالا بعد حال فالمراد به إجراء السفن في البحر بإرسال الرياح و نحوه و جعل الماء رطبا مائعا يقبل الجري و الخرق، و الفلك جمع الفلكة و هي السفينة.

و ابتغاء الفضل طلب الرزق فإن الجواد إنما يجود غالبا بما زاد على مقدار حاجة نفسه و فضل الشيء ما زاد و بقي منه و من ابتدائية، و ربما قيل: إنها للتبعيض، و ذيل الآية تعليل للحكم بالرحمة، و المعنى ظاهر.

و الآية تمهيد لتاليها.

قوله تعالى: "و إذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه" إلى آخر الآية الضر الشدة، و مس الضر في البحر هو خوف الغرق بالإشراف عليه بعصف الرياح و تقاذف الأمواج و نحو ذلك.

و قوله: "ضل من تدعون إلا إياه" المراد بالضلال - على ما ذكروا - الذهاب عن الخواطر دون الخروج عن الطريق و قيل: هو بمعنى الضياع من قولهم: ضل عن فلان كذا أي ضاع عنه و يعود على أي حال إلى معنى النسيان.

و المراد بالدعاء دعاء المسألة دون دعاء العبادة فيعم قوله: "من تدعون" الإله الحق و الآلهة الباطلة التي يدعوها المشركون، و الاستثناء متصل، و المعنى و إذا اشتد عليكم الأمر في البحر بالإشراف على الغرق نسيتم كل إله تدعونه و تسألونه حوائجكم إلا الله.

و قيل: المراد دعاء العبادة دون المسألة فيختص بمن يعبدونه من دون الله و الاستثناء منقطع، و المعنى إذا مسكم الضر في البحر ذهب عن خواطركم الآلهة الذين تعبدونهم لكن الله سبحانه لا يغيب عنكم و لا ينسى.

و الظاهر أن المراد بالضلال معناه المعروف و هو خلاف الهدى و الكلام مبني على تمثيل لطيف كأن الإنسان إذا مسه الضر في البحر و وقع في قلبه أن يدعو لكشف ضره قصده آلهته الذين كان يدعوهم و يستمر في دعائهم قبل ذلك و أخذوا يسعون نحوه و يتسابقون في قطع الطريق إلى ذكره ليذكرهم و يدعوهم و يستغيث بهم لكنهم جميعا يضلون الطريق و لا ينتهون إلى ذكره فينساهم و الله سبحانه مشهود لقلبه حاضر في ذكره يذكره الإنسان عند ذلك فيدعوه و قد كان معرضا عنه فيجيبه و ينجيه إلى البر.

و بذلك يظهر أن المراد بالضلال معناه المعروف، و بمن تدعون آلهتهم من دون الله فحسب و أن الاستثناء منقطع و الوجه في جعل الاستثناء منقطعا أن الذي يبتني عليه الكلام من معنى التشبيه لا يناسب ساحة قدسه تعالى لتنزهه من السعي و الوقوع في الطريق و قطعه و نحو ذلك.

مضافا إلى أن قوله: "فلما نجاكم إلى البر أعرضتم" ظاهر في أن المراد بالدعوة دعاء المسألة و أنهم في البر أي في حالهم العادي غير حال الضر معرضون عنه تعالى لا يدعونه فقوله: "من تدعون" الظاهر في استمرار الدعوة المراد به آلهتهم الذين كانوا يدعونهم فاستثناؤه تعالى استثناء منقطع.

و قوله: "فلما نجاكم إلى البر أعرضتم" أي فلما نجاكم من الغرق و كشف عنكم الضر رادا لكم إلى البر أعرضتم عنه أو عن دعائه و فيه دلالة على أنه تعالى غير مغفول عنه للإنسان في حال و أن فطرته تهديه إلى دعائه في الضراء و السراء و الشدة و الرخاء جميعا فإن الإعراض إنما يتحقق عن أمر ثابت موجود فقوله: إن الإنسان يدعوه في الضر و يعرض عنه بعد كشفه في معنى أنه مهدي إليه بالفطرة دائما.

و قوله: "و كان الإنسان كفورا" أي إن الكفران من دأب الإنسان من حيث إن له الطبيعة الإنسانية فإنه يتعلق بالأسباب الظاهرية فينسى مسبب الأسباب فلا يشكره تعالى و هو يتقلب في نعمة الظاهرة و الباطنة.

و في تذييل الكلام بهذه الجملة تنبيه على أن إعراض الإنسان عن ربه في غير حال الضر ليس بحال غريزي فطري له حتى يستدل بنسيانه ربه على نفي الربوبية بل هو دأب سيء من الإنسان يوقعه فيه كفران النعمة.

و في الآية حجة على توحده تعالى في ربوبيته، و محصله أن الإنسان إذا انقطع عن جميع الأسباب الظاهرية و أيس منها لم ينقطع عن التعلق بالسبب من أصله و لم يبطل منه رجاء النجاة من رأس بل رجى النجاة و تعلق قلبه بسبب ما يقدر على ما لا يقدر عليه سائر الأسباب، و لا معنى لهذا التعلق الفطري لو لا أن هناك سببا فوق الأسباب إليه يرجع الأمر كله، و هو الله سبحانه، و ليس يصرف الإنسان عنه إلا الاشتغال بزخارف الحياة الدنيا و التعلق بالأسباب الظاهرية و الغفلة عما وراءها.

قوله تعالى: "أ فأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا" خسوف القمر استتار قرصه بالظلمة و الظل و خسف الله به الأرض أي ستره فيها، و الحاصب - كما في المجمع، - الريح التي ترمي بالحصباء و الحصى الصغار و قيل: الحاصب الريح المهلكة في البر و القاصف الريح المهلكة في البحر.

و الاستفهام للتوبيخ يوبخهم الله تعالى على إعراضهم عن دعائه في البر فإنهم لا مؤمن لهم من مهلكات الحوادث في البر كما لا مؤمن لهم حال مس الضر في البحر إذ لا علم لهم بما سيحدث لهم و عليهم فمن الجائز أن يخسف الله بهم جانب البر أو يرسل عليهم ريحا حاصبا فيهلكهم بذلك ثم لا يجدوا لأنفسهم وكيلا يدفع عنهم الشدة و البلاء و يعيد إليهم الأمن و السلام.



قوله تعالى: "أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى" إلى آخر الآية القصف الكسر بشدة و قاصف الريح هي التي تكسر السفن و الأبنية، و قيل: القاصف الريح المهلكة في البحر و التبيع هو التابع يتبع الشيء، و ضمير "فيه" للبحر و ضمير "به" للغرق أو للإرسال أو لهما معا باعتبار ما وقع و لكل قائل، و الآية من تمام التوبيخ.

و المعنى أم هل أمنتم بنجاتكم إلى البر أن يعيدكم الله في البحر تارة أخرى فيرسل عليكم ريحا كاسرة للسفن أو مهلكة فيغرقكم بسبب كفركم ثم لا تجدوا بسبب الإغراق أحدا يتبع الله لكم عليه فيسأله لم فعل هذا بكم؟ و يؤاخذه على ما فعل.

و في قوله: "ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا" التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير و كان النكتة فيه الظهور على الخصم بالعظمة و الكبرياء.

و هو المناسب في المقام، و ليكون مع ذلك توطئة لما في الآيات التالية من سياق التكلم بالغير.

قوله تعالى: "و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" الآية مسوقة للامتنان مشوبا بالعتاب كأنه تعالى لما ذكر وفور نعمه و تواتر فضله و رحمته على الإنسان و حمله في البحر ابتغاء فضله و رزقه، و رفاه حاله في البر ثم نسيانه لربه و إعراضه عن دعائه إذا نجاه و كشف ضره كفرانا مع أنه متقلب دائما بين نعمه التي لا تحصى نبه على جملة تكريمه و تفضيله ليعلم بذلك مزيد عنايته بالإنسان و كفران الإنسان لنعمه على كثرتها و بلوغها.

و بذلك يظهر أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية و القرب و الفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعم المشركين و الكفار و الفساق و إلا لم يتم معنى الامتنان و العتاب.

فقوله: "و لقد كرمنا بني آدم" المراد بالتكريم تخصيص الشيء بالعناية و تشريفه بما يختص به و لا يوجد في غيره، و بذلك يفترق عن التفضيل فإن التكريم معنى نفسي و هو جعله شريفا ذا كرامة في نفسه، و التفضيل معنى إضافي و هو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطية، و الإنسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل و يزيد على غيره في جميع الصفات و الأحوال التي توجد بينها و الأعمال التي يأتي بها.

و ينجلي ذلك بقياس ما يتفنن الإنسان به في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه و منكحه و يأتي به من النظم و التدبير في مجتمعه، و يتوسل إليه من مقاصده باستخدام سائر الموجودات الكونية، و قياس ذلك مما لسائر الحيوان و النبات و غيرهما من ذلك فليس عندها من ذلك إلا وجوه من التصرف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة و هي واقفة في موقفها المحفوظ لها يوم خلقت من غير تغير أو تحول محسوس و قد سار الإنسان في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة و لا يزال يسعى و يرقى.

و بالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر الموجودات الكونية و هو الذي يمتازون به من غيرهم و هو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل و الخير من الشر و النافع من الضار.

و أما ما ذكره المفسرون أو وردت به الرواية أن الذي كرمهم الله به النطق أو تعديل القامة و امتدادها أو الأصابع يفعلون بها ما يشاءون أو الأكل باليد أو الخط أو حسن الصورة أو التسلط على سائر الخلق و تسخيرهم له أو أن الله خلق أباهم آدم بيده أو أنه جعل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم أو جميع ذلك و ما ذكر منها فإنما ذكر على سبيل التمثيل.

فبعضها مما يتفرع على العقل كالخط و النطق و التسلط على غيره من الخلق و بعضها من مصاديق التفضيل دون التكريم و قد تقدم الفرق بينهما، و بعضها خارج عن مدلول الآية كالتكريم بخلق أبيهم آدم (عليه السلام) بيده و جعل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم فإن ذلك من التكريم الأخروي و التشريف المعنوي الخارج عن مدلول الآية كما تقدم.

و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن التكريم بجميع ذلك و قد أخطأ صاحب روح المعاني حيث قال بعد ذكر الأقوال.

و الكل في الحقيقة على سبيل التمثيل و من ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال: إنما التكريم بالعقل لا غيره فقد ادعى غلطا و رام شططا و خالف صريح العقل و صحيح النقل.

انتهي.

و وجه خطأه ظاهر مما تقدم.

و قوله: "و حملناهم في البر و البحر" أي حملناهم على السفن و الدواب و غير ذلك يركبونها إلى مقاصدهم و ابتغاء فضل ربهم و رزقه و هذا أحد مظاهر تكريمهم.

و قوله: "و رزقناهم من الطيبات" أي من الأشياء التي يستطيبونها من أقسام النعم من الفواكه و الثمار و سائر ما يتنعمون به و يستلذونه مما يصدق عليه الرزق، و هذا أيضا أحد مظاهر التكريم فمثل الإنسان في هذا التكريم الإلهي مثل من يدعى إلى الضيافة و هي تكريم ثم يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها و هو تكريم ثم يقدم عليه أنواع الأغذية و الأطعمة الطيبة اللذيذة و هو تكريم.

و بذلك يظهر أن عطف قوله: "و حملناهم" إلخ و قوله: "و رزقناهم" إلخ على التكريم من قبيل عطف المصاديق المترتبة على العنوان الكلي المنتزع منها.

و قوله: "و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" لا يبعد أن يكون المراد بمن خلقناهم أنواع الحيوان ذوات الشعور و الجن الذي يثبته القرآن فإن الله سبحانه يعد أنواع الحيوان أمما أرضية كالأمة الإنسانية و يجريها مجرى أولي العقل كما قال: "و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون".

و هذا هو الأنسب بمعنى الآية و قد عرفت أن الغرض منها بيان ما كرم الله به بني آدم و فضلهم على سائر الموجودات الكونية و هي - فيما نعلم - الحيوان و الجن و أما الملائكة فليسوا من الموجودات الكونية الواقعة تحت تأثير النظام المادي الحاكم في عالم المادة.

فالمعنى: و فضلنا بني آدم على كثير مما خلقنا و هم الحيوان و الجن و أما غير الكثير و هم الملائكة فهم خارجون عن محل الكلام لأنهم موجودات نورية غير كونية و لا داخلة في مجرى النظام الكوني، و الآية إنما تتكلم في الإنسان من جهة أنه أحد الموجودات الكونية و قد أنعم عليه بنعم نفسية و إضافية.

و قد تبين مما تقدم: أولا: أن كلا من التكريم و التفضيل في الآية ناظر إلى نوع من الموهبة الإلهية التي أوتيها الإنسان، أما تكريمه فيما يختص بنوعه من الموهبة لا يتعداه إلى غيره و هو العقل الذي يميز به الخير من الشر و النافع من الضار و الحسن من القبيح و يتفرع عليه مواهب أخرى كالتسلط على غيره و استخدامه في سبيل مقاصده و النطق و الخط و غيره.

و أما تفضيله فبما يزيد به على غيره في الأمور المشتركة بينه و بين غيره كما أن الحيوان يتغذى بما وجده من لحم أو فاكهة أو حب أو عشب و نحو ذلك على وجه ساذج و الإنسان يتغذى بذلك و يزيد عليه بما يبدعه من ألوان الغذاء المطبوخ و غير المطبوخ على أنحاء مختلفة و فنون مبتكرة و طعوم مستطابة لذيذة لا تكاد تحصى و لا تزال تزداد نوعا و صنفا، و قس على ذلك الحال في مشربه و ملبسه و مسكنه و نكاحه و اجتماعه المنزلي و المدني و غير ذلك.



و قال في مجمع البيان،: و متى قيل: إذا كان معنى التكريم و التفضيل واحدا فما معنى التكرار؟ فجوابه أن قوله: "كرمنا" ينبىء عن الإنعام و لا ينبىء عن التفضل فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه، و قيل: إن التكريم يتناول نعم الدنيا و التفضيل يتناول نعم الآخرة، و قيل: إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف، و التفضل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية.

انتهي.

أما ما ذكره أن التفضيل يدل على نكتة زائدة على مدلول التكريم و هو كونه تفضلا و إعطاء لا عن استحقاق ففيه أنه ممنوع و التفضيل كما يصح لا عن استحقاق من المفضل كذلك يصح عن استحقاق منه لذلك، و أما ما نقله عن غيره فدعوى من غير دليل.

و قال الرازي في تفسيره، في الفرق بينهما: إن الأقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل و النطق و الخط و الصورة الحسنة و القامة المديدة ثم إنه عز و جل عرضه بواسطة العقل و الفهم لاكتساب العقائد الحقة و الأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم و الثاني هو التفضيل فكأنه قيل: فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة و الزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادىء ذلك فعليهم أن يشكروا و يصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى و لا يشركوا به شيئا و يرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره انتهى.

و محصله الفرق بين التكريم و التفضيل بأن الأول إنما هو في الأمور الذاتية أو ما يلحق بها من الغريزيات و الثاني في الأمور الاكتسابية و أنت خبير بأن الإنسان و إن وجد فيه من المواهب الإلهية و الكمالات الوجودية أمور ذاتية و أمور اكتسابية على ما ذكره لكن اختصاص التكريم بالنوع الأول و التفضيل بالنوع الثاني لا يساعد عليه لغة و لا عرف.

فالوجه ما قدمناه.

و ثانيا: أن الآية ناظرة إلى الكمال الإنساني من حيث وجوده الكوني و تكريمه و تفضيله بالقياس إلى سائر الموجودات الكونية الواقعة تحت النظام الكوني فالملائكة الخارجون عن النظام الكوني خارجون عن محل الكلام و المراد بتفضيل الإنسان على كثير ممن خلق تفضيله على غير الملائكة من الموجودات الكونية، و أما الملائكة فوجودهم غير هذا الوجود فلا تعرض لهم في ذلك بوجه.

و بذلك يظهر فساد ما استدل بعضهم بالآية على كون الملائكة أفضل من الإنسان حتى الأنبياء (عليهم السلام) قال: لأن قوله تعالى: "و فضلناهم على كثير ممن خلقنا" يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه، و ليس إلا الملائكة لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق.

وجه الفساد: أن الذي تعرضت له الآية إنما هو التفضيل من حيث الوجود الكوني الدنيوي و الملائكة غير موجودين بهذا النحو من الوجود، و إلى هذا يرجع ما أجاب به بعضهم أن التفضيل في الآية لم يرد به الثواب لأن الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء، و إنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي أوتيها في الدنيا.

و أما ما أجابوا عنه بأن المراد بالكثير في الآية الجميع و من بيانية، و المعنى و فضلناهم على من خلقنا و هم كثير.

ففيه أنه وجه سخيف لا يساعد عليه كلامهم و لا سياق الآية، و ما قيل: إنه من قبيل قولهم: بذلت له العريض من جاهي و أبحته المنيع من حريمي و لا يراد به أني بذلت له عريض جاهي و منعته ما ليس بعريض و أبحته منيع حريمي و لم أبحه ما ليس بمنيع بل المراد بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض و أبحته حريمي الذي هو منيع، يرده أنه إن أريد بما فسر به المثالان أن العناية في الكلام مصروفة إلى أخذ كل الجاه عريضا و كل الحريم منيعا لم ينقسم الجاه و الحريم حينئذ إلى عريض و غير عريض و منيع و غير منيع و لم ينطبق على مورد الآية المدعى أنه أطلق فيها البعض و أريد به الكل، و إن أريد به أن المعنى بذلت له عريض جاهي فكيف بغير العريض و أبحته المنيع من حريمي فكيف بغير المنيع كان شمول حكم البعض للكل بالأولوية و لم يجز في مورد الآية قطعا.

و ربما أجيب عن ذلك بأنا إن سلمنا أن المراد بالكثير غير الملائكة و لفظة من للتبعيض فغاية ما في الباب أن تكون الآية ساكتة عن تفضيل بني آدم على الملائكة و هو أعم من تفضيل الملك على الإنسان لجواز التساوي، و لو سلم أنها تدل على التفضيل فغايته أن تدل على تفضيل جنس الملائكة على جنس بني آدم و هذا لا ينافي أن يكون بعض بني آدم أفضل من الملائكة كالأنبياء (عليهم السلام).

و الحق كما عرفت أن الآية غير متعرضة للتفضيل من جهة الثواب و الفضل الأخروي و بعبارة أخرى هي متعرضة للتفضيل من جهة الوجود الكوني، و المراد بكثير ممن خلقنا غير الملائكة و من تبعيضية و المراد بمن خلقنا الملائكة و غيرهم من الإنسان و الحيوان و الجن.

و الإنسان مفضل بحسب وجوده الكوني على الحيوان و الجن هذا و سيوافيك كلام في معنى تفضيل الإنسان على الملك إن شاء الله.

كلام في الفضل بين الإنسان و الملك

اختلف المسلمون في أن الإنسان و الملك أيهما أفضل؟ فالمعروف المنسوب إلى الأشاعرة أن الإنسان أفضل و المراد به أفضلية المؤمنين منهم إذ لا يختلف اثنان في أن من الإنسان من هو أضل من الأنعام و هو أهل الجحود منهم فكيف يمكن أن يفضل على الملائكة المقربين؟ و قد استدل عليه بالآية الكريمة: "و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" على أن يكون الكثير بمعنى الجميع كما أومأنا إليه في تفسير الآية و بما ورد من طريق الرواية أن المؤمن أكرم على الله من الملائكة.

و هو المعروف أيضا من مذهب الشيعة، و ربما استدلوا عليه بأن الملك مطبوع على الطاعة من غير أن يتأتى منه المعصية لكن الإنسان من جهة اختياره تتساوى نسبته إلى الطاعة و المعصية و قد ركب من قوى رحمانية و شيطانية و تألف من عقل و شهوة و غضب فالإنسان المؤمن المطيع يطيعه و هو غير ممنوع من المعصية بخلاف الملك فهو أفضل من الملك.

و مع ذلك فالقول بأفضلية الإنسان بالمعنى الذي تقدم ليس باتفاقي بينهم فمن الأشاعرة من قال بأفضلية الملك مطلقا كالزجاج و نسب إلى ابن عباس.

و منهم من قال بأفضلية الرسل من البشر، مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر و الملائكة ثم عامة الملائكة على عامة البشر.

و منهم من قال بأفضلية الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة من عموم البشر، كما يقول به الإمام الرازي و نسب إلى الغزالي.

و ذهبت المعتزلة إلى أفضلية الملائكة من البشر و استدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى: "و لقد كرمنا بني آدم.

إلى قوله: "و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" و قد مر تقرير حجتهم في تفسير الآية.

و قد بالغ الزمخشري في التشنيع على القائلين بأفضلية الإنسان من الملك ممن فسر الكثير في الآية بالجميع فقال في الكشاف، في ذيل قوله تعالى: "و فضلناهم على كثير ممن خلقنا" هو ما سوى الملائكة و حسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة و هم هم و منزلتهم عند الله منزلتهم.



و العجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء و كابروا حتى جسرتهم عادة المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان الملك، و ذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم و تكثيره مع التعظيم ذكرهم و علموا أين أسكنهم؟ و أنى قربهم؟ و كيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم؟.

ثم جرهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا و أخبارا منها: قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها و يتمتعون و لم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة فقال: و عزتي و جلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان، و رووا عن أبي هريرة أنه قال: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.

و من ارتكابهم أنهم فسروا كثيرا بمعنى جميع في هذه الآية و خذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: و فضلناهم على جميع ممن خلقنا على أن معنى قولهم: على جميع ممن خلقنا أشجى لحلوقهم و أقذى لعيونهم و لكنهم لا يشعرون فانظر في تمحلهم و تشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى كان جبريل (عليه السلام) غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم انتهى.

و ما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة أن يجعل لهم الآخرة كما جعل لبني آدم الدنيا رويت عن ابن عمر و أنس بن مالك و زيد بن أسلم و جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظ الأخير قال: لما خلق الله آدم و ذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون و يشربون و ينكحون و يركبون الخيل فاجعل لهم الدنيا و لنا الآخرة فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان.

و متن الرواية لا يخلو عن شيء فإن الأكل و الشرب و النكاح و نحوها في الإنسان استكمالات مادية إنما يلتذ الإنسان بها لما أنه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه بما جهز الله به بنيته المادية و الملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسل إلى بعضه الإنسان بقواه المادية و أعماله المملة المتعبة منزهون عن مطاوعة النظام المادي الجاري في الكون فمن المحال أن يسألوا ذلك فليسوا بمحرومين حتى يحرصوا على ذلك فيرجوه أو يتمنوه.

و نظير هذا وارد على ما تقدم من استدلالهم على أفضلية الإنسان من الملك بأن وجود الإنسان مركب من القوى الداعية إلى الطاعة و القوى الداعية إلى المعصية فإذا اختار الطاعة على المعصية و انتزع إلى الإسلام و العبودية كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكة المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا و زلفى و أعظم ثوابا و أجرا.

و هذا مبني على أصل عقلائي معتبر في المجتمع الإنساني و هو أن الطاعة التي هي امتثال الخطاب المولوي من أمر و نهي و لها الفضل و الشرف على المعصية و بها يستحق الأجر و الثواب لو استحق إنما يترتب عليها أثرها إذا كان الإنسان المتوجه إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل و الترك متساوي النسبة إلى الجانبين، و كلما كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعة قوي الأثر و العكس بالعكس فليس يستوي في امتثال النهي عن الزنا مثلا العنين و الشيخ الهرم و من يصعب عليه تحصيل مقدماته و الشاب القوي البنية الذي ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع له عنه أصلا إلا تقوى الله فبعض هذه التروك لا يعد طاعة و بعضها طاعة و بعضها أفضل الطاعة على هذا القياس.

و لما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة و الغضب و نزاهتهم عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولوية الإلهية أشبه بامتثال العنين و الشيخ الهرم لنهي الزنا و كان الفضل للإنسان في طاعته عليهم.

و فيه أنه لو تم ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلا إذ لا سبيل لهم إلى المعصية و لا لهم مقام استواء النسبة و لم يكن لهم شرف ذاتي و قيمة جوهرية إذ لا شرف على هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية، و تسمية المطاوعة الذاتية التي لا تتخلف عن الذات طاعة مجاز، و لو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربهم موجب و لا لأعمالهم منزلة.

لكن الله سبحانه أقامهم مقام القرب و الزلفى و أسكنهم في حظائر القدس و منازل الإنس، و جعلهم خزان سره و حملة أمره و وسائط بينه و بين خلقه، و هل هذا كله لإرادة منه جزافية من غير صلاحية منهم و استحقاق من ذواتهم؟.

و قد أثنى الله عليهم أجزل الثناء إذ قال فيهم: "بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون": الأنبياء: 27 و قال: "لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون": التحريم: 6 فوصف ذواتهم بالإكرام من غير تقييده بقيد و مدح طاعتهم و استنكافهم عن المعصية.

و قال مادحا لعبادتهم و تذللهم لربهم: "و هم من خشيته مشفقون": الأنبياء - 28 و قال: "فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون": حم السجدة - 38 و قال: "و اذكر ربك في نفسك إلى أن قال - و لا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون": الأعراف: 206 فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكره كذكرهم و يعبده كعبادتهم.

و حق الأمر أن كون العمل جائز الفعل و الترك و وقوف الإنسان في موقف استواء النسبة ليس في نفسه ملاك أفضلية طاعته بل بما يكشف ذلك عن صفاء طينته و حسن سريرته و الدليل على ذلك أن لا قيمة للطاعة مع العلم بخباثة نفس المطيع و قبح سريرته و إن بلغ في تصفية العمل و بذل المجهود فيه ما بلغ كطاعة المنافق و مريض القلب الحابط عمله عند الله الممحوة حسنته عن ديوان الأعمال فصفاء نفس المطيع و جمال ذاته و خلوصه في عبوديته الذي يكشف عنه انتزاعه من العصية إلى الطاعة و تحمله المشاق في ذلك هو الموجب لنفاسة عمله و فضل طاعته.

و على هذا فذوات الملائكة و لا قوام لها إلا الطهارة و الكرامة و لا يحكم في أعمالهم إلا ذل العبودية و خلوص النية أفضل من ذات الإنسان المتكدرة بالهوى المشوبة بالغضب و الشهوة و أعماله التي قلما تخلو عن خفايا الشرك و شآمة النفس و دخل الطبع.

فالقوام الملكي أفضل من القوام الإنساني و الأعمال الملكية الخالصة لوجه الله أفضل من أعمال الإنسان و فيها لون قوامه و شوب من ذاته، و الكمال الذي يتوخاه الإنسان لذاته في طاعته و هو الثواب أوتيه الملك في أول وجوده كما تقدمت الإشارة إليه.

نعم لما كان الإنسان إنما ينال الكمال الذاتي تدريجا بما يحصل لذاته من الاستعداد سريعا أو بطيئا كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاما من القرب و موطنا من الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أول وجوده، و ظاهر كلامه تعالى يحقق هذا الاحتمال.



كيف و هو سبحانه يذكر في قصة جعل الإنسان خليفة في الأرض فضل الإنسان و احتماله لما لا يحتمله الملائكة من العلم بالأسماء كلها، و أنه مقام من الكمال لا يتداركه تسبيحهم بحمده و تقديسهم له، و يطهره مما سيظهر منه من الفساد في الأرض و سفك الدماء كما قال: "و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" إلى آخر الآيات: البقرة: 30 33 و قد فصلنا القول في ذلك في ذيل الآيات في الجزء الأول من الكتاب.

ثم ذكر سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم ثم سجودهم له جميعا فقال: "فسجد الملائكة كلهم أجمعون": الحجر: 30 و قد أوضحنا في تفسير الآيات في القصة في سورة الأعراف أن السجدة إنما كان خضوعا منهم لمقام الكمال الإنساني و لم يكن آدم (عليه السلام) إلا قبلة لهم ممثلا للإنسانية قبال الملائكة.

فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى، و في الأخبار ما يؤيده، و للبحث جهة عقلية يرجع فيها إلى مظانه.

قوله تعالى: "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم" اليوم يوم القيامة و الظرف متعلق بمقدر أي اذكر يوم كذا، و الإمام المقتدى و قد سمى الله سبحانه بهذا الاسم أفرادا من البشر يهدون الناس بأمر الله كما في قوله: "قال إني جاعلك للناس إماما": البقرة: 124 و قوله: "و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا": الأنبياء: 73 و أفرادا آخرين يقتدى بهم في الضلال كما في قوله: "فقاتلوا أئمة الكفر: التوبة: 12 و سمى به أيضا التوراة كما في قوله: "و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة": هود: 17، و ربما استفيد منه أن الكتب السماوية المشتملة على الشريعة ككتاب نوح و إبراهيم و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعا أئمة.

و سمى به أيضا اللوح المحفوظ كما هو ظاهر قوله تعالى: "و كل شيء أحصيناه في إمام مبين": يس: 12 و لما كان ظاهر الآية أن لكل طائفة من الناس إماما غير ما لغيرها فإنه المستفاد من إضافة الإمام إلى الضمير الراجع إلى كل أناس لم يصلح أن يكون المراد بالإمام في الآية اللوح لكونه واحدا لا اختصاص له بأناس دون أناس.

و أيضا ظاهر الآية أن هذه الدعوة تعم الناس جميعا من الأولين و الآخرين و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب": البقرة: 213 أن أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة هو كتاب نوح (عليه السلام) و لا كتاب قبله في هذا الشأن و بذلك يظهر عدم صلاحية كون الإمام في الآية مرادا به الكتاب و إلا خرج من قبل نوح من شمول الدعوة في الآية.

فالمتعين أن يكون المراد بإمام كل أناس من يأتمون به في سبيلي الحق و الباطل كما تقدم أن القرآن يسميهما إمامين أو إمام الحق خاصة و هو الذي يجتبيه الله سبحانه في كل زمان لهداية أهله بأمره نبيا كان كإبراهيم و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو غير نبي، و قد تقدم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله: "و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين": البقرة: 124.

لكن المستفاد من مثل قوله في فرعون و هو من أئمة الضلال: "يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار": هود: 98، و قوله: "ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم": الأنفال: 37 و غيرهما من الآيات و هي، كثيرة أن أهل الضلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة، و لازم ذلك أن يصاحبوهم في الدعوة و الإحضار.

على أن قوله: "بإمامهم" مطلق لم يقيد بالإمام الحق الذي جعله الله إماما هاديا بأمره، و قد سمى مقتدى الضلال إماما كما سمى مقتدى الهدى إماما و سياق ذيل الآية و الآية الثانية أيضا مشعر بأن الإمام المدعو به هو الذي اتخذه الناس إماما و اقتدوا به في الدنيا لا من اجتباه الله للإمامة و نصبه للهداية بأمره سواء اتبعه الناس أو رفضوه.

فالظاهر أن المراد بإمام كل أناس في الآية من ائتموا به سواء كان إمام حق أو إمام باطل، و ليس كما يظن أنهم ينادون بأسماء أئمتهم فيقال: يا أمة إبراهيم و يا أمة محمد و يا آل فرعون و يا آل فلان فإنه لا يلائمه ما في الآية من التفريع أعني قوله: "فمن أوتي كتابه بيمينه" "و من كان في هذه أعمى" إلخ إذ لا تفرع بين الدعوة بالإمام بهذا المعنى و بين إعطاء الكتاب باليمين أو العمى.

بل المراد بالدعوة - على ما يعطيه سياق الذيل - هو الإحضار فهم محضرون بإمامهم ثم يأخذ من اقتدى بإمام حق كتابه بيمينه و يظهر عمى من عمي عن معرفة الإمام الحق في الدنيا و اتباعه، هذا ما يعطيه التدبر في الآية.

و للمفسرين في تفسير الإمام في الآية مذاهب شتى مختلفة: منها: أن المراد بالإمام الكتاب الذي يؤتم به كالتوراة و الإنجيل و القرآن فينادي يوم القيامة يا أهل التوراة و يا أهل الإنجيل و يا أهل القرآن، و قد تقدم بيانه و بيان ما يرد عليه.

و منها: أن المراد بالإمام النبي لمن كان على الحق و الشيطان و إمام الضلال لمبتغي الباطل فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوهم فيعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلال.

و فيه أنه مبني على أخذ الإمام في الآية بمعناه العرفي و هو من يؤتم به من العقلاء، و لا سبيل إليه مع وجود معنى خاص له في عرف القرآن و هو الذي يهدي بأمر الله و المؤتم به في الضلال.

و منها: أن المراد كتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير و يا أصحاب كتاب الشر و وجه كونه إماما بأنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار.

و فيه أنه لا معنى لتسمية كتاب الأعمال إماما و هو يتبع عمل الإنسان من خير أو شر فإن يسمى تابعا أولى به من أن يسمى متبوعا، و أما ما وجه به أخيرا ففيه أن المتبع من الحكم ما يقضي به الله سبحانه بعد نشر الصحف و السؤال و الوزن و الشهادة و أما الكتاب فإنما يشتمل على متون أعمال الخير و الشر من غير فصل القضاء.

و منه يظهر أن ليس المراد بالإمام اللوح المحفوظ و لا صحيفة عمل الأمة و هي التي يشير إليها قوله: "كل أمة تدعى إلى كتابها": الجاثية: 28 لعدم ملائمته قوله ذيلا: "فمن أوتي كتابه بيمينه" الظاهر في الفرد دون الجماعة.

و منها: أن المراد به الأمهات - بجعل إمام جمعا لأم فيقال: يا ابن فلانة و لا يقال يا ابن فلان، و قد رووا فيه رواية.

و فيه أنه لا يلائم لفظ الآية فقد قيل: "ندعوا كل أناس بإمامهم" و لم يقل ندعو الناس بإمامهم أو ندعو كل إنسان بأمه و لو كان كما قيل لتعين أحد التعبيرين الأخيرين و ما أشير إليه من الرواية على تقدير صحتها و قبولها رواية مستقلة غير واردة في تفسير الآية.

على أن جمع الأم بالإمام لغة نادرة لا يحمل على مثلها كلامه تعالى و قد عد في الكشاف هذا القول من بدع التفاسير.

و منها: أن المراد به المقتدى به و المتبع عاقلا كان أو غيره حقا كان أو باطلا كالنبي و الولي و الشيطان و رؤساء الضلال و الأديان الحقة و الباطلة و الكتب السماوية و كتب الضلال و السنن الحسنة و السيئة، و لعل دعوة كل أناس بإمامهم على هذا الوجه كناية عن ملازمة كل تابع يوم القيامة لمتبوعه، و الباء للمصاحبة.



و فيه ما أوردناه على القول بأن المراد به الأنبياء و رؤساء الضلال فالحمل على المعنى اللغوي إنما يحسن فيما لم يكن للقرآن فيه عرف، و قد عرفت أن الإمام في عرف القرآن هو الذي يهدي بأمر الله أو المقتدى في الضلال و من الممكن أن يكون الباء في "بإمامهم" للآلة فافهم ذلك.

على أن هداية الكتاب و السنة و الدين و غير ذلك بالحقيقة ترجع إلى هداية الإمام و كذا النبي إنما يهدي بما أنه إمام يهدي بأمر الله، و أما من حيث إنبائه عن معارف الغيب أو تبليغه ما أرسل به فإنما هو نبي أو رسول و ليس بإمام، و كذا إضلال المذاهب الباطلة و كتب الضلال و السنن المبتدعة بالحقيقة إضلال مؤسسيها و المبتدعين بها.

قوله تعالى: "فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم و لا يظلمون فتيلا" الفتيل هو المفتول الذي في شق النواة، و قيل: الفتيل هو الذي في بطن النواة و النقير في ظهرها و القطمير شق النواة.

و تفريع التفصيل على دعوتهم بإمامهم دليل على أن ائتمامهم هو الموجب لانقسامهم إلى قسمين و تفرقهم فريقين: من أوتي كتابه بيمينه و من كان أعمى و أضل سبيلا فالإمام إمامان: إمام هدى و إمام ضلال، و هذا هو الذي قدمناه أن تفريع التفصيل يشهد بكون المراد بالإمام أعم من إمام الهدى.

و يشهد به أيضا تبديل إيتاء الكتاب بالشمال أو من وراء الظهر كما وقع في غير هذا الموضع من قوله: "و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى" إلخ.

و المعنى - بإعانة من السياق - فيتفرقون حينئذ فريقين فالذين أعطوا صحيفة أعمالهم بأيمانهم فأولئك يقرءون كتابهم فرحين مستبشرين مسرورين بالسعادة و لا يظلمون مقدار فتيل بل يوفون أجورهم تامة كاملة.

قوله تعالى: "و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا" المقابلة بين قوليه: "في هذه" و "في الآخرة" دليل على أن الإشارة بهذه إلى الدنيا كما أن كون الآية مسوقة لبيان التطابق بين الحياة الدنيا و الآخرة دليل على أن المراد بعمى الآخرة عمى البصيرة كما أن المراد بعمى الدنيا ذلك قال تعالى: "إنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور" و يؤيد ذلك أيضا تعقيب عمى الآخرة بقوله: "و أضل سبيلا".

و المعنى: و من كان في هذه الحياة الدنيا لا يعرف الإمام الحق و لا يسلك سبيل الحق فهو في الحياة الآخرة لا يجد السعادة و الفلاح و لا يهتدي إلى المغفرة و الرحمة.

و بما تقدم يتبين ما في قول بعضهم: إن الإشارة بقوله: "في هذه" إلى النعم المذكورة و المعنى و من كان في هذه النعم التي رزقها أعمى لا يعرفها و لا يشكر الله على ما أنعمها فهو في الآخرة أعمى.

و كذا ما ذكره بعضهم أن المراد بعمى الدنيا عمى البصيرة و بعمى الآخرة عمى البصر، و قد تقدم وجه الفساد على أن عمى البصر في الآخرة ربما رجع إلى عمى البصيرة لقوله تعالى: "يوم تبلى السرائر".

و ظاهر بعض المفسرين أن الأعمى الثاني في الآية تفيد معنى التفضيل حيث فسره أنه في الآخرة أشد عمى و أضل سبيلا و السياق يساعده على ذلك.

بحث روائي

في أمالي الشيخ، بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه (عليه السلام): في قوله: "و لقد كرمنا بني آدم" يقول: فضلنا بني آدم على سائر الخلق "و حملناهم في البر و البحر" يقول: على الرطب و اليابس "و رزقناهم من الطيبات" يقول: من طيبات الثمار كلها "و فضلناهم" يقول: ليس من دابة و لا طائر إلا هي تأكل و تشرب بفيها لا ترفع يدها إلى فيها طعاما و لا شرابا غير ابن آدم فإنه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل.

و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): "و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" قال: خلق كل شيء منكبا غير الإنسان خلق منتصبا.

أقول: و ما في الروايتين من قبيل ذكر بعض المصاديق و الدليل عليه قوله في آخر الرواية الأولى: فهذا من التفضيل.

و فيه، عن الفضيل قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: يوم ندعوا كل أناس بإمامهم" قال: يجيء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قومه، و علي (عليه السلام) في قومه و الحسن في قومه و الحسين في قومه و كل من مات بين ظهراني إمام جاء معه.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الصادق (عليه السلام): أ لا تحمدون الله؟ أنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل قوم إلى من يتولونه، و فزعنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و فزعتم أنتم إلينا: أقول: و رواه في المجمع، عنه (عليه السلام) و فيه دلالة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إمام الأئمة كما أنه شهيد الشهداء و أن حكم الدعوة بالإمام جار بين الأئمة أنفسهم.

و في مجمع البيان، روى الخاص و العام عن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بالأسانيد الصحيحة أنه روى عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال فيه: يدعى كل أناس بإمام زمانهم و كتاب ربهم و سنة نبيهم: أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عنه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلفظه و قد أسنده أيضا إلى رواية الخاص و العام.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم" قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم و كتاب ربهم و سنة نبيهم.

و في تفسير العياشي، عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يترك الأرض بغير إمام يحل حلال الله و يحرم حرامه، و هو قول الله: "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم" ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية.

الحديث.

أقول: و وجه الاحتجاج بالآية عموم الدعوة فيها لجميع الناس.

و فيه، عن إسماعيل بن همام عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم" قال: إذا كان يوم القيامة قال الله: أ ليس العدل من ربكم أن يولوا كل قوم من تولوا؟ قالوا: بلى قال: فيقول: تميزوا فيتميزون.

أقول: و فيه تأييد لما قدمنا أن المراد بالدعوة بالإمام إحضارهم معه دون النداء بالاسم، و الروايات في المعاني السابقة كثيرة.

و في تفسير القمي: في قوله تعالى: "و لا يظلمون فتيلا" قال: قال: الجلدة التي في ظهر النواة.

و في تفسير العياشي، عن المثنى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله أبو بصير و أنا أسمع فقال له: رجل له مائة ألف فقال: العام أحج العام أحج حتى يجيئه الموت فحجبه البلاء و لم يحج حج الإسلام فقال: يا با بصير أ و ما سمعت قول الله. "من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا؟ عمي عن فريضة من فرائض الله.

17 سورة الإسراء - 73 - 81

وَ إِن كادُوا لَيَفْتِنُونَك عَنِ الّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْك لِتَفْترِى عَلَيْنَا غَيرَهُ وَ إِذاً لاتخَذُوك خَلِيلاً (73) وَ لَوْ لا أَن ثَبّتْنَك لَقَدْ كِدت تَرْكنُ إِلَيْهِمْ شيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لأَذَقْنَك ضِعْف الْحَيَوةِ وَ ضِعْف الْمَمَاتِ ثمّ لا تجِدُ لَك عَلَيْنَا نَصِيراً (75) وَ إِن كادُوا لَيَستَفِزّونَك مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوك مِنْهَا وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلَفَك إِلا قَلِيلاً (76) سنّةَ مَن قَدْ أَرْسلْنَا قَبْلَك مِن رّسلِنَا وَ لا تجِدُ لِسنّتِنَا تحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصلَوةَ لِدُلُوكِ الشمْسِ إِلى غَسقِ الّيْلِ وَ قُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كانَ مَشهُوداً (78) وَ مِنَ الّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّك عَسى أَن يَبْعَثَك رَبّك مَقَاماً محْمُوداً (79) وَ قُل رّب أَدْخِلْنى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنى مخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَل لى مِن لّدُنك سلْطناً نّصِيراً (80) وَ قُلْ جَاءَ الْحَقّ وَ زَهَقَ الْبَطِلُ إِنّ الْبَطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)

بيان

تذكر الآيات بعض مكر المشركين بالقرآن و بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعد ما ذمتهم على تماديهم في إنكار التوحيد و المعاد و احتجت عليهم في ذلك - حيث أرادوا أن يفتنوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بعض ما أوحي إليه ليداهنهم فيه بعض المداهنة، و أرادوا أن يخرجوه من مكة.

و قد أوعد الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشد الوعيد إن مال إلى الركون إليهم بعض الميل، و أوعدهم أن أخرجوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهلاك.

و في الآيات إيصاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلوات و الالتجاء بربه في مدخله و مخرجه و إعلام ظهور الحق.

قوله تعالى: "و إن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره و إذا لاتخذوك خليلا" إن مخففة بدليل اللام في "ليفتنونك" و الفتنة الإزلال و الصرف، و الخليل من الخلة بمعنى الصداقة و ربما قيل: هو من الخلة بمعنى الحاجة و هو بعيد.

و ظاهر السياق أن المراد بالذي أوحينا إليك القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد و نفي الشريك و السيرة الصالحة و هذا يؤيد ما ورد في بعض أسباب النزول أن المشركين سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكف عن ذكر آلهتهم بسوء و يبعد عن نفسه عبيدهم المؤمنين به و السقاط حتى يجالسوه و يسمعوا منه فنزلت الآيات.

و المعنى: و إن المشركين اقتربوا أن يزلوك و يصرفوك عما أوحينا إليك لتتخذ من السيرة و العمل ما يخالفه فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلينا و إذا لاتخذوك صديقا.

قوله تعالى: "و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا" التثبيت - كما يفيده السياق - هو العصمة الإلهية و جعل جواب لو لا قوله: "لقد كدت تركن" دون نفس الركون و الركون هو الميل أو أدنى الميل كما قيل دليل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يركن و لم يكد، و يؤكده إضافة الركون إليهم دون إجابتهم إلى ما سألوه.

و المعنى: و لو لا أن ثبتناك بعصمتنا دنوت من أن تميل إليهم قليلا لكنا ثبتناك فلم تدن من أدنى الميل إليهم فضلا من أن تجيبهم إلى ما سألوا فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجبهم إلى ما سألوا و لا مال إليهم شيئا قليلا و لا كاد أن يميل.

قوله تعالى: "إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا" سياق الآية سياق توعد فالمراد بضعف الحياة و الممات المضاعف من عذاب الحياة و الممات، و المعنى لو قارنت أن تميل إليهم بعض الميل لأذقناك الضعف من العذاب الذي نعذب به المجرمين في حياتهم و الضعف مما نعذبهم به في مماتهم أي ضعف عذاب الدنيا و الآخرة.

و نقل في المجمع، عن أبان بن تغلب أن المراد بالضعف العذاب المضاعف ألمه و المعنى لأذقناك عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، و أنشد قول الشاعر: لمقتل مالك إذ بان.

مني.

أبيت الليل في ضعف أليم.

أي في عذاب أليم.

و ما في ذيل الآية من قوله: "ثم لا تجد لك علينا نصيرا" تشديد في الإيعاد أي إن العذاب واقع حينئذ لا مخلص منه.

قوله تعالى: "و إن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها و إذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا" الاستفزاز الإزعاج و التحريك بخفة و سهولة، و اللام في "الأرض" للعهد و المراد بها مكة، و الخلاف بمعنى بعد، و المراد بالقليل اليسير من الزمان.

و المعنى و إن المشركين قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لإخراجك منها و لو كان منهم و خرجت منها لم يمكثوا بعدك فيها إلا قليلا فهم هالكون لا محالة.

و قيل: هؤلاء الذين كادوا يستفزونه هم اليهود أرادوا أن يخرجوه من المدينة و قيل: المراد المشركون و اليهود أرادوا جميعا أن يخرجوه من أرض العرب.

و يبعد ذلك أن السورة مكية و الآيات ذات سياق واحد و ابتلاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باليهود إنما كان بالمدينة بعد الهجرة.

قوله تعالى: "سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا و لا تجد لسنتنا تحويلا" التحويل نقل الشيء من حال، إلى حال، و قوله: "سنة" أي كسنة من قد أرسلنا و هو متعلق بقوله: "لا يلبثون" أي لا يلبثون بعدك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا.

و هذه السنة و هي إهلاك المشركين الذين أخرجوا رسولهم من بلادهم و طردوه من بينهم سنة لله سبحانه، و إنما نسبها إلى رسله لأنها مسنونة لأجلهم بدليل قوله بعد: "و لا تجد لسنتنا تحويلا" و قد قال تعالى: "و قال الذين كفروا لرسلهم ليخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين": إبراهيم: 13.

و المعنى: و إذا نهلكهم لسنتنا التي سنناها لأجل من قد أرسلنا قبلك من رسلنا و أجريناها و لست تجد لسنتنا تحويلا و تبديلا.

قوله تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا" قال في مجمع البيان،: الدلوك الزوال، و قال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها، و قيل: هو الغروب و أصله من الدلك فسمي الزوال دلوكا لأن الناظر إليها يدلك عينيه لشدة شعاعها، و سمي الغروب دلوكا لأن الناظر يدلك عينيه ليثبتها.

انتهي.

و قال فيه: غسق الليل ظهور ظلامه يقال: غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر ما فيها.

انتهي.

و في المفردات،: غسق الليل شدة ظلمته.

انتهي.

و قد اختلف المفسرون في تفسير صدر الآية و المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من طرق الشيعة تفسير دلوك الشمس بزوالها و غسق الليل بمنتصفه، و سيجيء الإشارة إلى الروايات في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

و عليه فالآية تشمل من الوقت ما بين زوال الشمس و منتصف الليل، و الواقع في هذا المقدار من الوقت من الفرائض اليومية أربع صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة.

و بانضمام صلاة الصبح المدلول عليها بقوله: "و قرآن الفجر" إلخ إليها تتم الصلوات الخمس اليومية.

و قوله: "و قرآن الفجر" معطوف على الصلاة أي و أقم قرآن الفجر و المراد به صلاة الصبح لما تشتمل عليه من القرائة و قد اتفقت الروايات على أن صلاة الصبح هي المراد بقرآن الفجر.

و كذا اتفقت الروايات من طرق الفريقين على تفسير قوله ذيلا: "إن قرآن الفجر كان مشهودا" بأنه يشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار، و سنشير إلى بعض هذه الروايات عن قريب إن شاء الله.

قوله تعالى: "و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" التهجد من الهجود و هو النوم في الأصل و معنى التهجد التيقظ و السهر بعد النوم على ما ذكره غير واحد منهم، و الضمير في "به" للقرآن أو للبعض المفهوم من قوله: "و من الليل" و النافلة من النفل و هو الزيادة، و ربما قيل: إن قوله: "و من الليل" من قبيل الإغراء نظير قولنا: عليك بالليل، و الفاء في قوله: "فتهجد به" نظير قوله: "فإياي فارهبون": النحل: 51.



و المعنى: و أسهر بعض الليل بعد نومتك بالقرآن - و هو الصلاة - حال كونها صلاة زائدة لك على الفريضة.

و قوله: "عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" من الممكن أن يكون المقام مصدرا ميميا و هو البعث فيكون مفعولا مطلقا ليبعثك من غير لفظه، و المعنى عسى أن يبعثك ربك بعثا محمودا، و من الممكن أن يكون اسم مكان و البعث بمعنى الإقامة أو مضمنا معنى الإعطاء و نحوه، و المعنى عسى أن يقيمك ربك في مقام محمود أو يبعثك معطيا لك مقاما محمودا أو يعطيك باعثا مقاما محمودا.

و قد وصف سبحانه مقامه بأنه محمود و أطلق القول من غير تقييد و هو يفيد أنه مقام يحمده الكل و لا يثني عليه الكل إلا إذا استحسنه الكل و انتفع به الجميع و لذا فسروا المقام المحمود بأنه المقام الذي يحمده عليه جميع الخلائق و هو مقام الشفاعة الكبرى له (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة و قد اتفقت على هذا التفسير الروايات من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

قوله تعالى: "و قل رب أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا" المدخل بضم الميم و فتح الخاء مصدر ميمي بمعنى الإدخال و نظيره المخرج بمعنى الإخراج، و العناية في إضافة الإدخال و الإخراج إلى الصدق أن يكون الدخول و الخروج في كل أمر منعوتا بالصدق جاريا على الحقيقة من غير أن يخالف ظاهره باطنه أو يضاد بعض أجزائه بعضا كأن يدعو الإنسان بلسانه إلى الله و هو يريد بقلبه أن يسود الناس أو يخلص في بعض دعوته لله و يشرك في بعضها غيره.

و بالجملة هو أن يرى الصدق في كل مدخل منه و مخرج و يستوعب وجوده فيقول ما يفعل و يفعل ما يقول و لا يقول و لا يفعل إلا ما يراه و يعتقد به، و هذا مقام الصديقين.

و يرجع المعنى إلى نحو قولنا: اللهم تول أمري كما تتولى أمر الصديقين.

و قوله: "و اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا" أي سلطنة بنصرتي على ما أهم به من الأمور و أشتغل به من الأعمال فلا أغلب في دعوتي بحجة باطلة، و لا أفتتن بفتنة أو مكر يمكرني به أعداؤك و لا أضل بنزغ شيطان و وسوسته.

و الآية - كما ترى - مطلقة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأل ربه أن يتولى أمره في كل مدخل و مخرج بالصدق و يجعل له سلطانا من عنده ينصره فلا يزيغ في حق و لا يظهر بباطل فلا وجه لما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالدخول و الخروج دخول المدينة بالهجرة و الخروج منها إلى مكة للفتح أو أن المراد بهما دخول القبر بالموت و الخروج منه بالبعث.

نعم لما كانت الآية بعد قوله: "و إن كادوا ليفتنونك" "و إن كادوا ليستفزونك" و في سياقهما، لوحت إلى أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلتجىء إلى ربه في كل أمر يهم به أو يشتغل به من أمور الدعوة، و في الدخول و الخروج في كل مكان يسكنه أو يدخله أو يخرج منه و هو ظاهر.

قوله تعالى: "و قل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" قال في المجمع،: الزهوق هو الهلاك و البطلان يقال: زهقت نفسه إذا خرجت فكأنها قد خرجت إلى الهلاك.

انتهى و المعنى ظاهر.

و في الآية أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بإعلام ظهور الحق و هو لوقوع الآية في سياق ما مر من قوله: "و إن كادوا ليفتنونك" إلى آخر الآيات أمر بإياس المشركين من نفسه و تنبيههم أن يوقنوا أن لا مطمع لهم فيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الآية دلالة على أن الباطل لا دوام له كما قال تعالى في موضع آخر: "و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار": إبراهيم: 26.

بحث روائي

في المجمع،: في سبب نزول قوله تعالى: "و إن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك" الآيات أنهم قالوا له: كف عن شتم آلهتنا و تسفيه أحلامنا و اطرد هؤلاء العبيد و السقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان حتى نجالسك و نسمع منك فطمع في إسلامهم فنزلت الآية: أقول: و روي في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن سعيد بن نفير ما يقرب منه:.

و أما ما روي عن ابن عباس: أن أمية بن خلف و أبا جهل بن هشام و رجالا من قريش أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: تعال فاستلم آلهتنا و ندخل معك في دينك و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشتد عليه فراق قومه و يحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله: "و إن كادوا ليفتنونك إلى قوله نصيرا" فلا يلائم ظاهر الآيات حيث تنفي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقارب الركون فضلا عن الركون.

و كذا ما رواه الطبري و ابن مردويه عن ابن عباس: أن ثقيفا قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أجلنا سنة حتى يهدي لآلهتنا فإذا قبضنا الذي يهدي للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا و كسرنا الآلهة فهم أن يؤجلهم فنزلت: "و إن كادوا ليفتنونك" الآية.

و كذا ما في تفسير العياشي، عن أبي يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: لما كان يوم الفتح أخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصناما من المسجد و كان منها صنم على المروة فطلبت إليه قريش أن يتركه و كان مستحيا ثم أمر بكسره فنزلت هذه الآية.

و نظيرهما أخبار أخر تقرب منها معنى فهذه روايات لا تلائم ظاهر الكتاب و حاشا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهم بمثل هذه البدع و الله سبحانه ينفي عنه المقارنة من الركون و الميل اليسير فضلا أن يهم بالعمل.

على أن هذه القضايا من الحوادث الواقعة بعد الهجرة و السورة مكية.

و في العيون، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): مما سأله المأمون فقال له: أخبرني عن قول الله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم" قال الرضا (عليه السلام) هذا مما نزل بإياك أعني و اسمعي يا جارة خاطب الله بذلك نبيه و أراد به أمته، و كذلك قوله: "لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين" و قوله تعالى: "و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا" قال: صدقت يا بن رسول الله.

و في المجمع، عن ابن عباس: في قوله تعالى: "إذا لأذقناك" الآية قال: إنه لما نزلت هذه الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا.



و في تفسير العياشي، عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قلت له: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم اليوم عليه؟ قال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة و قوي الإسلام فكتب الله على المسلمين الجهاد، و زاد في الصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبع ركعات في الظهر ركعتين، و في العصر ركعتين، و في المغرب ركعة، و في العشاء ركعتين، و أقر الفجر على ما فرضت عليه بمكة لتعجيل نزول ملائكة النهار إلى الأرض و تعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء فكان ملائكة الليل و ملائكة النهار يشهدون مع رسول الله الفجر فلذلك قال الله: "و قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا" يشهد المسلمون و يشهد ملائكة الليل و النهار و في المجمع،: في قوله تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قرآن الفجر" قال: ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس و بيان أوقاتها: و يؤيد ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبيدة بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية.

قال: إن الله افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه، و منها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر.

و فيه، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "إن قرآن الفجر كان مشهودا" قال: يشهده الله و ملائكة الليل و ملائكة النهار.

أقول: تفسير كون قرآن الفجر مشهودا في روايات الفريقين بشهادة ملائكة الليل و ملائكة النهار يكاد يبلغ حد التواتر، و قد أضيف إلى ذلك في بعضها شهادة الله كما في هذه الرواية، و في بعضها شهادة المسلمين كما فيما تقدم.

و في تفسير العياشي، عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: نعم للمؤمنين خطايا و ذنوب و ما من أحد إلا و يحتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ قال: و سأله رجل عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا سيد ولد آدم و لا فخر قال: نعم يأخذ حلقة من باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول: الله: ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع و اطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع يشفع فيشفع و يطلب فيعطى.

و فيه، عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم (عليه السلام): في قول الله "عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا" قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين يوما و تؤمر الشمس فنزلت على رءوس العباد و يلجم العرق و تؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيشفعون له فيدلهم على نوح و يدلهم نوح على إبراهيم، و يدلهم إبراهيم على موسى و يدلهم موسى على عيسى، و يدلهم عيسى على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: عليكم بمحمد خاتم النبيين، فيقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا؟ و الله أعلم فيقول محمد: افتحوا فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلم و سل تعط و اشفع تشفع فيرفع رأسه فيستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو قول الله تعالى: "عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا".

أقول: و قوله: "حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار" أي بعض من أدخل النار، و في معنى هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الإذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم (عليه السلام) فيقول: لست بصاحب ذلك ثم موسى (عليه السلام) فيقول مثل ذلك ثم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيشفع فيقضي الله بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاما.

و فيه، أخرج ابن جرير و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: المقام المحمود الشفاعة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي الوقاص قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة.

أقول: و الروايات في المضامين السابقة كثيرة.

<<        الفهرس        >>