جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج13 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


17 سورة الإسراء - 82 - 100

وَ نُنزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظلِمِينَ إِلا خَساراً (82) وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلى الانسنِ أَعْرَض وَ نَئَا بجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسهُ الشرّ كانَ يَئُوساً (83) قُلْ كلّ يَعْمَلُ عَلى شاكلَتِهِ فَرَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سبِيلاً (84) وَ يَسئَلُونَك عَنِ الرّوح قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبى وَ مَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً (85) وَ لَئن شِئْنَا لَنَذْهَبنّ بِالّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْك ثمّ لا تجِدُ لَك بِهِ عَلَيْنَا وَكيلاً (86) إِلا رَحْمَةً مِّن رّبِّك إِنّ فَضلَهُ كانَ عَلَيْك كبِيراً (87) قُل لّئنِ اجْتَمَعَتِ الانس وَ الْجِنّ عَلى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضهُمْ لِبَعْضٍ ظهِيراً (88) وَ لَقَدْ صرّفْنَا لِلنّاسِ فى هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثرُ النّاسِ إِلا كفُوراً (89) وَ قَالُوا لَن نّؤْمِنَ لَك حَتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَك جَنّةٌ مِّن نخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَرَ خِلَلَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسقِط السمَاءَ كَمَا زَعَمْت عَلَيْنَا كِسفاً أَوْ تَأْتىَ بِاللّهِ وَ الْمَلَئكةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَك بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فى السمَاءِ وَ لَن نّؤْمِنَ لِرُقِيِّك حَتى تُنزِّلَ عَلَيْنَا كِتَباً نّقْرَؤُهُ قُلْ سبْحَانَ رَبى هَلْ كُنت إِلا بَشراً رّسولاً (93) وَ مَا مَنَعَ النّاس أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَن قَالُوا أَ بَعَث اللّهُ بَشراً رّسولاً (94) قُل لّوْ كانَ فى الأَرْضِ مَلَئكةٌ يَمْشونَ مُطمَئنِّينَ لَنزّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمَاءِ مَلَكاً رّسولاً (95) قُلْ كفَى بِاللّهِ شهِيدَا بَيْنى وَ بَيْنَكمْ إِنّهُ كانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيراً (96) وَ مَن يهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَن يُضلِلْ فَلَن تجِدَ لهَُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَ نحْشرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صمّا مّأْوَاهُمْ جَهَنّمُ كلّمَا خَبَت زِدْنَهُمْ سعِيراً (97) ذَلِك جَزَاؤُهُم بِأَنّهُمْ كَفَرُوا بِئَايَتِنَا وَ قَالُوا أَ ءِذَا كُنّا عِظماً وَ رُفَتاً أَ ءِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّ اللّهَ الّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض قَادِرٌ عَلى أَن يخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْب فِيهِ فَأَبى الظلِمُونَ إِلا كُفُوراً (99) قُل لّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائنَ رَحْمَةِ رَبى إِذاً لأَمْسكْتُمْ خَشيَةَ الانفَاقِ وَ كانَ الانسنُ قَتُوراً (100)

بيان

رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن و كونه آية للنبوة و ما يصحبه من الرحمة و البركة، و قد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدم: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" ثم رجع إليه بقوله: "و لقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا" إلخ و قوله "و إذا قرأت القرآن" إلخ و قوله: "و ما منعنا أن نرسل بالآيات" إلخ.

فبين في هذه الآيات أن القرآن شفاء و رحمة و بعبارة أخرى مصلح لمن صلحت نفسه و مخسر للظالمين و أنه آية معجزة للنبوة ثم ذكر ما كانوا يقترحونه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الآيات و الجواب عنه و ما يلحق بذلك من الكلام.

و في الآيات ذكر سؤالهم عن الروح و الجواب عنه.

قوله تعالى: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا" من بيانية تبين الموصول أعني قوله: "ما هو شفاء" إلخ أي و ننزل ما هو شفاء و رحمة و هو القرآن.

و عد القرآن شفاء و الشفاء إنما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، و هو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر أن الدين الحق فطري للإنسان فكما أن للبنية الإنسانية التي سويت على الخلقة الأصلية قبل أن يلحق بها أحوال منافية و آثار مغايرة للتسوية الأولية استقامة طبيعية تجري عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الأصلية عقائد حقة في المبدإ و المعاد و ما يتفرع عليهما من أصول المعارف، و أخلاق فاضلة زاكية تلائمها و يترتب عليها من الأحوال و الأعمال ما يناسبها.

فللإنسان صحة و استقامة روحية معنوية كما أن له صحة و استقامة جسمية صورية، و له أمراض و أدواء روحية باختلال أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا و أدواء جسمية باختلال أمر الصحة الجسمية و لكل داء دواء و لكل مرض شفاء.

و قد ذكر الله سبحانه في أناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا و هو غير الكفر و النفاق الصريحين كما يدل عليه قوله: "لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم": الأحزاب: 60 و قوله: "و ليقول الذين في قلوبهم مرض و الكافرون ما ذا أراد الله بهذا مثلا": المدثر: 31.

و ليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب و استقامة النفس من أنواع الشك و الريب الموجبة لاضطراب الباطن و تزلزل السر و الميل إلى الباطل و اتباع الهوى مما يجامع إيمان عامة المؤمنين من أهل أدنى مراتب الإيمان و مما هو معدود نقصا و شركا بالإضافة إلى مراتب الإيمان العالية، و قد قال تعالى: "و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون": يوسف: 106 و قال: "فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما": النساء: 65.



و القرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة أنواع الشكوك و الشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة و المعارف الحقيقية و يدفع بمواعظه الشافية و ما فيه من القصص و العبر و الأمثال و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير و الأحكام و الشرائع عاهات الأفئدة و آفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين.

و أما كونه رحمة للمؤمنين - و الرحمة إفاضة ما يتم به النقص و يرتفع به الحاجة - فلأن القرآن ينور القلوب بنور العلم و اليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل و العمى و الشك و الريب و يحليها بالملكات الفاضلة و الحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ الهيآت الردية و الصفات الخسيسة.

فهو بما أنه شفاء يزيل عنها أنواع الأمراض و الأدواء، و بما أنه رحمة يعيد إليها ما افتقدته من الصحة و الاستقامة الأصلية الفطرية فهو بكونه شفاء يطهر المحل من الموانع المضادة للسعادة و يهيئها لقبولها، و بكونه رحمة يلبسه لباس السعادة و ينعم عليه بنعمة الاستقامة.

فالقرآن شفاء و رحمة للقلوب المريضة كما أنه هدى و رحمة للنفوس غير الأمنة من الضلال، و بذلك يظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله: "ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين" فهو كقوله: "هدى و رحمة لقوم يؤمنون": يوسف: 111 و قوله: "و مغفرة و رحمة": النساء: 96.

فمعنى قوله: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين" و ننزل إليك أمرا يشفي أمراض القلوب و يزيلها و يعيد إليها حالة الصحة و الاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة و الكرامة.

و قوله: "و لا يزيد الظالمين إلا خسارا" السياق دال على أن المراد به بيان ما للقرآن من الأثر في غير المؤمنين قبال ما له من الأثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير المؤمنين و هم الكفار دون المشركين خاصة كما يظهر من بعض المفسرين و إنما علق الحكم بالوصف أعني الظلم ليشعر بالتعليل أي أن القرآن إنما يزيدهم خسارا لمكان ظلمهم بالكفر.

و الخسار هو النقص في رأس المال فللكفار رأس مال بحسب الأصل و هو الدين الفطري تلهم به نفوسهم الساذجة ثم إنهم بكفرهم بالله و آياته خسروا فيه و نقصوا.

ثم إن كفرهم بالقرآن و إعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خسارا على خسار و نقصا على نقص إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة، و إلى هذه النكتة يشير سياق النفي و الاستثناء حيث قيل: "و لا يزيد الظالمين إلا خسارا" و لم يقل: و يزيد الظالمين خسارا.

و به يظهر أن محصل معنى الآية أن القرآن يزيد المؤمنين صحة و استقامة على صحتهم و استقامتهم بالإيمان و سعادة على سعادتهم و إن زاد الكافرين شيئا فإنما يزيدهم نقصا و خسارا.

و للمفسرين في معنى صدر الآية و ذيلها وجوه أخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع مسفوراتهم.

و مما ذكروه فيها أن المراد بالشفاء في الآية أعم من شفاء الأمراض الروحية من الجهل و الشبهة و الريب و الملكات النفسانية الرذيلة و شفاء الأمراض الجسمية بالتبرك بآياته الكريمة قراءة و كتابة هذا.

و لا بأس به لكن لو صح التعميم فليصح في الصدر و الذيل جميعا فإنه كما يستعان به على دفع الأمراض و العاهات بقراءة أو كتابة كذلك يستعان به على دفع الأعداء و رفع ظلم الظالمين و إبطال كيد الكافرين فيزيد بذلك الظالمين خسارا كما يفيد المؤمنين شفاء هذا، و نسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم و شقاء أنفسهم إنما هي بنوع من المجاز.



قوله تعالى: "و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نأى بجانبه و إذا مسه الشر كان يؤسا" قال في المفردات،: العرض خلاف الطول و أصله أن يقال في الأجسام ثم يستعمل في غيرها - إلى أن قال - و أعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل: أعرض لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله، و إذا قيل: أعرض عني فمعناه ولى مبديا عرضه.

انتهى موضع الحاجة.

و النأي البعد و نأى بجانبه أي اتخذ لنفسه جهة بعيدة منا، و مجموع قوله: "أعرض و نأى بجانبه" يمثل حال الإنسان في تباعده و انقطاعه من ربه عند ما ينعم عليه.

كمن يحول وجهه عن صاحبه و يتخذ لنفسه موقفا بعيدا منه، و ربما ذكر بعض المفسرين أن قوله.

"نأى بجانبه" كناية عن الاستكبار و الاستعلاء.

و قوله: "و إذا مسه الشر كان يؤسا" أي و إذا أصابه الشر أصابة خفيفة كالمس كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير و هو النعمة، و لم ينسب الشر إليه تعالى كما نسب النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشر، و لأن وجود الشر أمر نسبي لا نفسي فما يتحقق من الشر في العالم كالموت و المرض و الفقر و النقص و غير ذلك إنما هو شر بالنسبة إلى مورده، و أما بالنسبة إلى غيره و خاصة النظام العام الجاري في الكون فهو من الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلي فما كان من الخير فهو مما تعلقت به بعينه العناية الإلهية و هو مراد بالذات، و ما كان من الشر فهو مما تعلقت به العناية لغيره و هو مقضي بالعرض.

فالمعنى أنا إذا أنعمنا على الإنسان هذا الموجود الواقع في مجرى الأسباب اشتغل بظواهر الأسباب و أخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا و لم يشكرنا، و إذا ناله شيء يسير من الشر فسلب منه الخير و زالت عنه أسبابه و رأى ذلك كان شديد اليأس من الخير لكونه متعلقا بأسبابه و هو يرى بطلان أسبابه و لا يرى لربه في ذلك صنعا.

و الآية تصف حال الإنسان العادي الواقع في المجتمع الحيوي الذي يحكم فيه العرف و العادة فهو إذا توالت عليه النعم الإلهية من المال و الجاه و البنين و غيرها و وافقته على ذلك الأسباب الظاهرية اشتغل بها و تعلق قلبه بها فلم تدع له فراغا يشتغل فيه بذكر ربه و شكره بما أنعم عليه، و إذا مسه الشر و سلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من الخير و لم يتسل بالرجاء لأنه لا يرى للخير إلا الأسباب الظاهرية التي لا يجد وقتئذ شيئا منها في الوجود.

و هذه الحال غير حال الإنسان الفطري غير المشوب ذهنه بالرسوم و الآداب و لا الحاكم فيه العرف و العادة إما بتأييد إلهي يلازمه و يسدده و إما بعروض اضطرار ينسيه الأسباب الظاهرية فيرجع إلى سذاجة فطرته و يدعو ربه و يسأله كشف ضره فللإنسان حالان حال فطرية تهديه إلى الرجوع إلى ربه عند مس الضر و نزول الشر و حال عادية تحول فيها الأسباب بينه و بين ربه فتشغله و تصرفه عن الرجوع إليه بالذكر و الشكر، و الآية تصف حاله الثانية دون الأولى.

و من هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الآية و الآيات الدالة على أن الإنسان إذا مسه الضر رجع إلى ربه كقوله تعالى فيما تقدم: "و إذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه" الآية و قوله: "و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما" الآية: يونس: 12 إلى غير ذلك.



و يظهر أيضا وجه اتصال الآية بما قبلها و أنها متصلة بالآية السابقة من جهة ذيلها أعني قوله: "و لا يزيد الظالمين إلا خسارا" و المحصل أن هذا الخسار غير بعيد منهم فإن من حال الإنسان أن يشغله الأسباب الظاهرية عند نزول النعم الإلهية فينصرف عن ربه و يعرض و ينأى بجانبه، و ييأس عند مس الشر.

بحث فلسفي

ذكروا أن الشرور داخلة في القضاء الإلهي بالعرض، و قد أوردوا في بيانه ما يأتي: نقل عن أفلاطون أن الشر عدم و قد بين ذلك بالأمثلة فإن في القتل بالسيف مثلا شرا و ليس هو في قدرة الضارب على مباشرة الضرب و لا في شجاعته و لا في قوة عضلات يده فإن ذلك كله كمال له، ليس من الشر في شيء، و ليس هو في حدة السيف و دقة ذبابه و كونه قطاعا فإن ذلك من كماله و حسنه، و ليس هو في انفعال رقبة المقتول عن الآلة القطاعة فإن من كماله أن يكون كذلك فلا يبقى للشر إلا زهاق روح المقتول و بطلان حياته و هو عدمي، و على هذا سائر الأمثلة فالشر عدم.

ثم إن الشرور التي في العالم لما كانت مرتبطة بالحوادث الواقعة مكتنفة بها كانت أعداما مضافة لا عدما مطلقا فلها حظ من الوجود و الوقوع كأنواع الفقد و النقص و الموت و الفساد الواقعة في الخارج الداخلة في النظام العام الكوني، و لذلك كان لها مساس بالقضاء الإلهي الحاكم في الكون لكنها داخلة في القضاء بالعرض لا بالذات.

و ذلك أن الذي تتصوره من العدم إما عدم مطلق و هو عدم النقيض للوجود و إما مضاف إلى ملكة و هو عدم كمال الوجود عما من شأنه ذلك كالعمى الذي هو عدم البصر مما من شأنه أن يكون بصيرا.

و القسم الأول إما عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى ماهيته كعدم زيد مثلا مأخوذا بالنسبة إلى ماهية نفسه، و هذا اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شيء إذ لا موضوع مشترك بين النقيضين نعم ربما يقيد العدم فيقاس إلى الشيء فيكون من الشر كعدم زيد بعد وجوده، و هو راجع في الحقيقة إلى العدم المضاف إلى الملكة الآتي حكمه.

و إما عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى شيء آخر كفقدان الماهيات الإمكانية كمال الوجود الواجبي و كفقدان كل ماهية وجود الماهية الأخرى الخاص بها مثل فقدان النبات وجود الحيوان و فقدان البقر وجود الفرس، و هذا النوع من العدم من لوازم الماهيات و هي اعتبارية غير مجعولة.

و القسم الثاني و هو العدم المضاف إلى الملكة فقدان أمر ما شيئا من كمال وجوده الذي من شأنه أن يوجد له و يتصف به كأنواع الفساد العارضة للأشياء و النواقص و العيوب و العاهات و الأمراض و الأسقام و الآلام الطارئة عليها، و هذا القسم من الشرور إنما يتحقق في الأمور المادية و يستند إلى قصور الاستعدادات على اختلاف مراتبها لا إلى إفاضة مبدإ الوجود فإن علة العدم عدم كما أن علة الوجود وجود.

فالذي تعلقت به كلمة الإيجاد و الإرادة الإلهية و شمله القضاء بالذات في الأمور التي يقارنها شيء من الشر إنما هو القدر الذي تلبس به من الوجود حسب استعداده و مقدار قابليته و أما العدم الذي يقارنه فليس إلا مستندا إلى عدم قابليته و قصور استعداده نعم ينسب إليه الجعل و الإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه و بين الوجود الذي يقارنه هذا.



و ببيان آخر الأمور على خمسة أقسام: ما هو خير محض، و ما خيره أكثر من شره، و ما يتساوى خيره و شره، و ما شره أكثر من خيره، و ما هو شر محض، و لا يوجد شيء من الثلاثة الأخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو ترجيح المرجوح على الراجح، و من الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهية المنبعثة عن القدرة و العلم الواجبيين و الجود الذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتم و أن يوجد ما هو خير محض و ما خيره أكثر من شره لأن في ترك الأول شرا محضا و في ترك الثاني شرا كثيرا.

فما يوجد من الشر نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير و إنما وجد الشر القليل بتبع الخير الكثير.

و عن الإمام الرازي أنه لا محل لهذا البحث منهم بناء على ما ذهبوا إليه من كونه تعالى علة تامة للعالم و استحالة انفكاك العلة التامة عن معلولها فهو موجب في فعله لا مختار، فعليه أن يوجد ما هو علة له من خير أو شر من غير خيرة في الترجيح.

و قد خفي عليه أن هذا الوجوب إنما هو قائم بالمعلول تلقاه من قبل العلة مثل ما يتلقى وجوده من قبله، و من المحال أن يعود ما يفيضه العلة فيقهر العلة فيضطرها على الفعل و يغلبها بتحديده.

و لقد أنصف صاحب روح المعاني حيث أشار أولا إلى نظير ما تقدم من البحث فقال: و لا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء و مقابله بلا داع و مصلحة كما هو مذهب الأشاعرة و إلا فقد يقال: إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات و الشرور لكن الحكماء و أساطين الإسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط، و أمور العالم منوطة بقوانين كلية، و أفعاله تعالى مربوطة بحكم و مصالح جلية و خفية.

ثم قال: و قول الإمام: "إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب و الجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول و الضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها".

ناش من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار، و ليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار، و بعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم و لا يجوزون الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادىء النظر ما افترته الثنوية من مبدأين خيري و شري فتخلصوا عن ذلك البحث فهو فضل لا فضول.

انتهي.

قوله تعالى: "قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا" المشاكلة - على ما في المفردات، - من الشكل و هو تقييد الدابة، و يسمى ما يقيد به شكالا بكسر الشين، و الشاكلة هي السجية سمي بها لتقييدها الإنسان أن يجري على ما يناسبها و تقتضيه.

و في المجمع،: الشاكلة الطريقة و المذهب يقال: هذا طريق ذو شواكل أي ينشعب منه طرق جماعة انتهى.

و كأن تسميتهما بها لما فيها من تقييد العابرين و المنتحلين بالتزامهما و عدم التخلف عنهما و قيل: الشاكلة من الشكل بفتح الشين بمعنى المثل و قيل: إنها من الشكل بكسر الشين بمعنى الهيأة.



و كيف كان فالآية الكريمة ترتب عمل الإنسان على شاكلته بمعنى أن العمل يناسبها و يوافقها فهي بالنسبة إلى العمل كالروح السارية في البدن الذي يمثل بأعضائه و أعماله هيأت الروح المعنوية و قد تحقق بالتجارب و البحث العلمي أن بين الملكات و الأحوال النفسانية و بين الأعمال رابطة خاصة فليس يتساوى عمل الشجاع الباسل و الجبان إذا حضرا موقفا هائلا، و لا عمل الجواد الكريم و البخيل اللئيم في موارد الإنفاق و هكذا، و أن بين الصفات النفسانية و نوع تركيب البنية الإنسانية رابطة خاصة فمن الأمزجة ما يسرع إليه الغضب و حب الانتقام بالطبع و منها ما تغلي و تفور فيه شهوة الطعام أو النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه و يحركه، و منها غير ذلك فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعة و بطءا.

و مع ذلك كله فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من الأعمال من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع عن الإمكان إلى الاستحالة و يبطل الاختيار فالفعل باق على اختياريته و إن كان في بعض الموارد صعبا غاية الصعوبة.

و كلامه سبحانه يؤيد ما تقدم على ما يعطيه التدبر فهو سبحانه القائل: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا": الأعراف: 58 و انضمام الآية إلى الآيات الدالة على عموم الدعوة كقوله: "لأنذركم به و من بلغ": الأنعام: 19 يفيد أن تأثير البنى الإنسانية في الصفات و الأعمال على نحو الاقتضاء دون العلية التامة كما هو ظاهر.

كيف و هو تعالى يعد الدين فطريا تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها و لا تغيير قال: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم": الروم: 30 و قال: "ثم السبيل يسره": عبس: 20 و لا تجامع دعوة الفطرة إلى الدين الحق و السنة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشر و الفساد و الانحراف عن الاعتدال بنحو العلية التامة.

و قول القائل: إن السعادة و الشقاوة ذاتيتان لا تتخلفان عن ملزومهما كزوجية الأربعة و فردية الثلاثة أو مقضيتان بقضاء أزلي لازم و إن الدعوة لإتمام الحجة لا لإمكان التغيير و رجاء التحول من حال إلى حال فالأمر مفروغ عنه قال تعالى: "ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة".

مدفوع بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد و شقاوة الشقي لازمة ضرورية فإن السعادة و الشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجة إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة، و كذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزلي لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه فتلغو الحجة منه تعالى فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شيء من السعادة و الشقاوة بالنظر إلى ذات الإنسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة و السيئة و اعتقاداته الحقة و الباطلة.

على أن توسل الإنسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم و التربية و الإنذار و التبشير و الوعد و الوعيد و الأمر و النهي و غير ذلك أوضح دليل على أن الإنسان في نفسه على ملتقى خطين و منشعب طريقين: السعادة و الشقاوة و في إمكانه أن يختار أيا منهما شاء و أن يسلك أيا منهما أراد و لكل سعي جزاء يناسبه قال تعالى: "و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و أن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى": النجم: 41.



فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الأعمال و الملكات و بين الذوات، و هناك نوع آخر من الارتباط مستقر بين الأعمال و الملكات و بين الأوضاع و الأحوال و العوامل الخارجة عن الذات الإنسانية المستقرة في ظرف الحياة و جو العيش كالآداب و السنن و الرسوم و العادات التقليدية فإنها تدعو الإنسان إلى ما يوافقها و تزجره عن مخالفتها و لا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة ثانية تنطبق أعماله على الأوضاع و الأحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته.

و هذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالبا غير أنها ربما يستقر استقرارا لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الإنسان، و في كلامه تعالى ما يشير إلى ذلك كقوله: "إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة": البقرة: 7 إلى غير ذلك.

و لا يضر ذلك صحة إقامة الحجة عليهم بالدعوة و الإنذار و التبشير لأن امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

فقد تبين بما قدمناه على طوله أن للإنسان شاكلة بعد شاكلة فشاكلة يهيؤها نوع خلقته و خصوصية تركيب بنيته، و هي شخصية خلقية متحصلة من تفاعل جهازاته البدنية بعضها مع بعض كالمزاج الذي هو كيفية متوسطة حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادة بعضها في بعض.

و شاكلة أخرى ثانية و هي شخصية خلقية متحصلة من وجوه تأثير العوامل الخارجية في النفس الإنسانية على ما فيها من الشاكلة الأولى إن كانت.

و الإنسان على أي شاكلة متحصلة و على أي نعت نفساني و فعلية داخلية روحية كان فإن عمله يجري عليها و أفعاله تمثلها و تحكيها كما أن المتكبر المختال يلوح حاله في تكلمه و سكوته و قيامه و قعوده و حركته و سكونه، و الذليل المسكين ظاهر الذلة و المسكنة في جميع أعماله و كذا الشجاع و الجبان و السخي و البخيل و الصبور و الوقور و العجول و هكذا: و كيف لا و الفعل يمثل فاعله و الظاهر عنوان الباطن و الصورة دليل المعنى.

و كلامه سبحانه يصدق ذلك و يبني عليه حججه في موارد كثيرة كقوله تعالى: "و ما يستوي الأعمى و البصير و لا الظلمات و لا النور و لا الظل و لا الحرور و ما يستوي الأحياء و لا الأموات": فاطر: 22 و قوله: "الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات": النور: 36 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و قوله تعالى: "كل يعمل على شاكلته" محكم في معناه على أي معنى حملنا الشاكلة غير أن اتصال الآية بقوله: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا" و وقوعها في سياق أن الله سبحانه يربح المؤمنين و يشفيهم بالقرآن الكريم و الدعوة الحقة و يخسر به الظالمين لظلمهم يقرب كون المراد بالشاكلة الشاكلة بالمعنى الثاني و هي الشخصية الخلقية الحاصلة للإنسان من مجموع غرائزه و العوامل الخارجية الفاعلة فيه.

كأنه تعالى لما ذكر استفادة المؤمنين من كلامه الشفاء و الرحمة و حرمان الظالمين من ذلك و زيادتهم في خسارهم اعترضه معترض في هذه التفرقة و أنه لو سوى بين الفريقين في الشفاء و الرحمة كان ذلك أوفى لغرض الرسالة و أنفع لحال الدعوة فأمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم في ذلك.



فقال: قل: كل يعمل على شاكلته أي إن أعمالكم تصدر على طبق ما عندكم من الشاكلة و الفعلية الموجودة فمن كانت عنده شاكلة عادلة سهل اهتداؤه إلى كلمة الحق و العمل الصالح و انتفع بالدعوة الحقة، و من كانت عنده شاكلة ظالمة صعب عليه التلبس بالقول الحق و العمل الصالح و لم يزد من استماع الدعوة الحقة إلا خسارا، و الله الذي هو ربكم العليم بسرائركم المدبر لأمركم أعلم بمن عنده شاكلة عادلة و هو أهدى سبيلا و أقرب إلى الانتفاع بكلمة الحق، و الذي علمه و أخبر به أن المؤمنين أهدى سبيلا فيختص بهم الشفاء و الرحمة بالقرآن الذي ينزله، و لا يبقى للكافرين أهل الظلم إلا مزيد الخسار إلا أن ينتزعوا عن ظلمهم فينتفعوا به.

و من هنا يظهر النكتة في التعبير بصيغة التفضيل في قوله: "أهدى سبيلا" و ذلك لما تقدم أن الشاكلة غير ملزمة في الدعوة إلى ما يلائمها فالشاكلة الظالمة و إن كانت مضلة داعية إلى العمل الطالح غير أنها لا تحتم الضلال ففيها أثر من الهدى و إن كان ضعيفا، و الشاكلة العادلة أهدى منها فافهم.

و ذكر الإمام الرازي في تفسيره، ما ملخصه: أن الآية تدل على كون النفوس الناطقة الإنسانية مختلفة بالماهية و ذلك أنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى بعض النفوس يفيد الشفاء و الرحمة و بالنسبة إلى بعض آخر يفيد الخسار و الخزي ثم أتبعه بقوله: "قل كل يعمل على شاكلته" و معناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء و الكمال، و بتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها منه آثار الخزي و الضلال كما أن الشمس تعقد الملح و تلين الدهن و تبيض ثوب القصار و يسود وجهه.

و هذا إنما يتم إذا كانت الأرواح و النفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، و بعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها منه ضلال على ضلال و نكال على نكال.

انتهي.

و فيه أنه لو أقام الحجة على اختلاف ماهيات النفوس بعد رسوخ ملكاتها و تصورها بصورها لكان له وجه، و أما النفوس الساذجة قبل رسوخ الملكات فلا تختلف بالآثار اختلافا ضروريا حتى تجري فيها الحجة، و قد عرفت أن الآية إنما تتعرض لحال الإنسان بعد حصول شاكلته و شخصيته الخلقية الحاصلة من مجموع غرائزه و العوامل الخارجية الفاعلة فيه الداعية إلى نوع من العمل دعوة على نحو الاقتضاء فتبصر.

بحث فلسفي

ذكر الحكماء أن بين الفعل و فاعله و يعنون به المعلول و علته الفاعلة سنخية وجودية و رابطة ذاتية يصير بها وجود الفعل كأنه مرتبة نازلة من وجود فاعله و وجود الفاعل كأنه مرتبة عالية من وجود فعله بل الأمر على ذلك بناء على أصالة الوجود و تشكيكه.

و بينوا ذلك بأنه لو لم يكن بين الفعل المعلول و علته الفاعلة له مناسبة ذاتية و خصوصية واقعية بها يختص أحدهما بالآخر كانت نسبة الفاعل إلى فعله كنسبته إلى غيره كما كانت نسبة الفعل إلى فاعله كنسبته إلى غيره فلم يكن لاستناد صدور الفعل إلى فاعله معنى، و نظير البرهان يجري في المعلول بالنسبة إلى سائر العلل و يثبت الرابطة بينه و بينها غير أن العلة الفاعلة لما كانت هي المقتضية لوجود المعلول و معطي الشيء غير فاقده كانت العلة الفاعلة واجدة لكمال وجود المعلول و المعلول ممثلا لوجودها في مرتبة نازلة.



و قد بين ذلك صدر المتألهين بوجه أدق و ألطف و هو أن المعلول مفتقر في وجوده إلى العلة الفاعلة متعلق الذات بها، و ليس من الجائز أن يتأخر هذا الفقر و التعلق عن مرتبة ذاته و يكون هناك ذات ثم فقر و تعلق و إلا استغنى بحسب ذاته عن العلة و استقل بنفسه عنها فلم يكن معلولا هف فذاته عين الفقر و التعلق فليس له من الوجود إلا الرابط غير المستقل و ما يتراءى فيه من استقلال الوجود المفروض معه أولا إنما هو استقلال علته فوجود المعلول يحاكي وجود علته و يمثله في مرتبته التي له من الوجود.

تعقيب البحث السابق من جهة القرآن

التدبر في الآيات القرآنية لا يدع ريبا في أن القرآن الكريم يعد الأشياء على اختلاف وجوهها و تشتت أنواعها آيات له تعالى دالة على أسمائه و صفاته فما من شيء إلا و هو آية في وجوده و في أي جهة مفروضة في وجوده له تعالى مشيرة إلى ساحة عظمته و كبريائه، و الآية و هي العلامة الدالة من حيث إنها آية وجودها مرآتي فإن في ذي الآية الذي هو مدلولها غير مستقلة دونه إذ لو استقلت في وجوده أو في جهة من جهات وجوده لم تكن من تلك الجهة مشيرة إليه دالة عليه آية له هف.

فالأشياء بما هي مخلوقة له تعالى أفعاله، و هي تحاكي بوجودها و صفات وجودها وجوده سبحانه و كرائم صفاته و هو المراد بمسانخة الفعل لفاعله لا أن الفعل واجد لهوية الفاعل مماثل لحقيقة ذاته فإن الضرورة تدفعه.

قوله تعالى: "و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" الروح على ما يعرف في اللغة هو مبدأ الحياة الذي به يقوى الحيوان على الإحساس و الحركة الإرادية و لفظه يذكر و يؤنث، و ربما يتجوز فيطلق على الأمور التي يظهر بها آثار حسنة مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه": الأنعام: 122 أي بالهداية إلى الإيمان و على هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله: "ينزل الملائكة بالروح من أمره": النحل: 2 أي بالوحي و قوله: "و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا": الشورى: 52 أي القرآن الذي هو وحي فذكروا أنه تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا لأن به حياة النفوس الميتة كما أن الروح المعروف به حياة الأجساد الميتة.

و كيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية و مدنية، و لم يرد في جميعها المعنى الذي نجده في الحيوان و هو مبدأ الحياة الذي يتفرع عليه الإحساس و الحركة الإرادية كما في قوله: "يوم يقوم الروح و الملائكة صفا": النبأ: 38، و قوله: "تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر": القدر: 4 و لا ريب أن المراد به في الآية غير الروح الحيواني و غير الملائكة و قد تقدم الحديث عن علي (عليه السلام) أنه احتج بقوله تعالى: "ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده": النحل: 2 على أن الروح غير الملائكة، و قد وصفه تارة بالقدس و تارة بالأمانة كما سيأتي لطهارته عن الخيانة و سائر القذارات المعنوية و العيوب و العاهات التي لا تخلو عنها الأرواح الإنسية.



و هو و إن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي و التبليغ كما يظهر من قوله: "ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده" الآية فقد قال تعالى: "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله": البقرة: 97 فنسب تنزيل القرآن على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جبريل ثم قال: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين": الشعراء: 195 و قال: "قل نزله روح القدس من ربك": النحل: 102 فوضع الروح و هو غير الملائكة بوجه مكان جبريل و هو من الملائكة فجبريل ينزل بالروح و الروح يحمل هذا القرآن المقرو المتلو.

و بذلك تنحل العقدة في قوله تعالى: "و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا": الشورى: 52 و يظهر أن المراد من وحي الروح في الآية هو إنزال روح القدس إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبين فلا موجب لما ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفا أن المراد بالروح في الآية هو القرآن.

و أما نسبة الوحي و هو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى و هو من الموجودات العينية و الأعيان الخارجية فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريم (عليهما السلام): "و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه": النساء: 171 فعد الروح كلمة دالة على المراد فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة و إنما سماه كلمة منه لأنه إنما كان عن كلمة الإيجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس بدليل قوله: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون": آل عمران: 59 و قد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال: "قل الروح من أمر ربي" و ظاهر "من" أنها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الآيات "يلقي الروح من أمره": المؤمن: 15 "ينزل الملائكة بالروح من أمره" "أوحينا إليك روحا من أمرنا" "تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر" فالروح من سنخ الأمر.

ثم عرف أمره في قوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء": يس: 84 فبين أولا أن أمره هو قوله للشيء: "كن" و هو كلمة الإيجاد التي هي الإيجاد و الإيجاد هو وجود الشيء لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى و قيامه به فقوله فعله.

و من الدليل على أن وجود الأشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع إلغاء الأسباب الوجودية الأخر قوله تعالى: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر": القمر: 50 حيث شبه أمره بعد عده واحدة بلمح بالبصر و هذا النوع من التشبيه لنفي التدريج و به يعلم أن في الأشياء المكونة تدريجا الحاصلة بتوسط الأسباب الكونية المنطبقة على الزمان و المكان جهة معراة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان و المكان هي من تلك الجهة أمره و قوله و كلمته، و أما الجهة التي هي بها تدريجية مرتبطة بالأسباب الكونية منطبقة على الزمان و المكان فهي بها من الخلق قال تعالى: "ألا له الخلق و الأمر": الأعراف: 54 فالأمر هو وجود الشيء من جهة استناده إليه تعالى وحده و الخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الأسباب الكونية فيه.



و يستفاد ذلك أيضا من قوله: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" الآية حيث ذكر أولا خلق آدم و ذكر تعلقه بالتراب و هو من الأسباب ثم ذكر وجوده و لم يعلقه بشيء إلا بقوله: "كن" فافهم ذلك و نظيره قوله: "ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة إلى أن قال ثم أنشأناه خلقا آخر": المؤمنون: 14 فعد إيجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلل الأسباب الكونية إنشاء خلق آخر.

فظهر بذلك كله أن الأمر هو كلمة الإيجاد السماوية و فعله تعالى المختص به الذي لا تتوسط فيه الأسباب، و لا يتقدر بزمان أو مكان و غير ذلك.

ثم بين ثانيا أن أمره في كل شيء هو ملكوت ذلك الشيء - و الملكوت أبلغ من الملك - فلكل شيء ملكوت كما أن له أمرا قال تعالى: "أ و لم ينظروا في ملكوت السموات و الأرض": الأعراف: 185 و قال: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض": الأنعام: 75 و قال: "تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر" الآية: القدر: 4.

فقد بان بما مر أن الأمر هو كلمة الإيجاد و هو فعله تعالى الخاص به الذي لا يتوسط فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية و هو الوجود الأرفع من نشأة المادة و ظرف الزمان، و أن الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت.

و قد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله: "يوم يقوم الروح و الملائكة صفا": النبأ: 38، و قوله: "تعرج الملائكة و الروح إليه" الآية: المعارج: 4.

و يظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الآيات المنقولة آنفا: "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك" "نزل به الروح الأمين على قلبك" قل نزله روح القدس" و قوله: "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا": مريم: 17.

و منه ما هو منفوخ في الإنسان عامة قال تعالى: "ثم سواه و نفخ فيه من روحه": الم السجدة: 9 و قال: "فإذا سويته و نفخت فيه من روحي": الحجر: 29 ص: 72.

و منه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه": المجادلة: 22 و يشعر به بل يدل عليه أيضا قوله: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس": الأنعام: 122 فإن المذكور في الآية حياة جديدة و الحياة فرع الروح.

و منه ما نزل إلى الأنبياء (عليهم السلام) كما يدل عليه قوله: "ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا" الآية: النحل: 2 و قوله: "و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس": البقرة: 87 و قوله: "و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا": الشورى: 52 إلى غير ذلك.

و من الروح ما تشعر به الآيات التي تذكر أن في غير الإنسان من الحيوان حياة و أن في النبات حياة، و الحياة متفرعة على الروح ظاهرا.

فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى: "يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" و أن السؤال إنما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه، و أن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح و أنه من سنخ الأمر بالمعنى الذي تقدم و أما قوله: "و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" أي ما عندكم من العلم بالروح الذي آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود و خواص و آثارا في الكون عجيبة بديعة أنتم عنها في حجاب.



و للمفسرين في المراد من الروح المسئول عنه و المجاب عنه أقوال: فقال بعضهم: إن المراد بالروح المسئول عنه هو الروح الذي يذكره الله في قوله: "يوم يقوم الروح و الملائكة صفا" و قوله: "تعرج الملائكة و الروح إليه" الآية، و لا دليل لهم على ذلك.

و قال بعضهم: إن المراد به جبريل فإن الله سماه روحا في قوله: "نزل به الروح الأمين على قلبك" و فيه أن مجرد تسميته روحا في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو المراد بعينه أينما ذكر على أن لهذه التسمية معنى خاصا أومأنا إليه في سابق الكلام، و لو لا ذلك لكان عيسى و جبريل واحدا لأن الله سمى كلا منهما روحا.

و قال بعضهم: إن المراد به القرآن لأن الله سماه روحا في قوله: "و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا" الآية فيكون محصل السؤال و الجواب أنهم يسألونك عن القرآن أ هو من الله أو من عندك؟ فأجبهم أنه من أمر ربي لا يقدر على الإتيان بمثله غيره فهو آية معجزة دالة على صحة رسالتي و ما أوتيتم من العلم به إلا قليلا من غير أن تحيطوا به فتقدروا على الإتيان بمثله قالوا: و الآية التالية: "و لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك" يؤيد هذا المعنى.

و فيه أن تسميته في بعض كلامه روحا لا تستلزم كونه هو المراد كلما أطلق كما تقدم آنفا.

على أنك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية.

على أن الآية التالية لا تتعين تأييدا لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الآخر أيضا.

و قال بعضهم: إن المراد به الروح الإنساني فهو المتبادر من إطلاقه و قوله: "قل الروح من أمر ربي" ترك للبيان و نهي عن التوغل في فهم حقيقة الروح فإنه من أمر الله الذي استأثر بعلمه و لم يطلع على حقيقته أحدا ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم هوائي متردد في مخارق البدن، و قائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حال فيه و خروجه موته، و قائل بأنه أجزاء أصلية في القلب و قائل بأنه عرض في البدن، و قائل بأنه نفس البدن إلى غير ذلك.

و فيه أن التبادر في كلامه تعالى ممنوع، و التدبر في الآيات المتعرضة لأمر الروح كما قدمناه يدفع جميع ما ذكروه.

و قال بعضهم: إن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه و السؤال إنما هو عن كونه قديما أو محدثا فأجيب بأنه يحدث عن أمره و فعله تعالى، و فعله محدث لا قديم.

و فيه أن تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى و إن كان في محله لكن إرجاع السؤال إلى حدوث الروح و قدمه و توجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل عليها من جهة اللفظ.

ثم إن لهم اختلافا في معنى قوله: "الروح من أمر ربي" أ هو جواب مثبت أو ترك للجواب و صرف عن السؤال على قولين، و الوجوه المتقدمة في معنى الروح مختلفة في المناسبة مع هذين القولين فالمتعين في بعضها القول الأول و في بعضها الثاني، و قد أشرنا إلى ذلك في ضمن الأقوال.

ثم إن لهم اختلافا آخر في المخاطبين بقوله: "و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" أ هم اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و غير النبي من الناس؟ و الأنسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجها إلى السائلين و الكلام من تمام قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أن السائلين هم اليهود لأنهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم و في الكلام إثبات علم ما لهم دون قريش و كفار العرب و قد عبر تعالى عنهم في بعض كلامه 1 بالذين لا يعلمون.



قوله تعالى: "و لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا" الكلام متصل بما قبله فإن الآية السابقة و إن كانت متعرضة لأمر مطلق الروح و هو ذو مراتب مختلفة إلا أن الذي ينطبق عليه منه بحسب سياق الآيات السابقة المسوقة في أمر القرآن هو الروح السماوي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الملقي إليه القرآن.

فالمعنى - و الله أعلم - الروح النازل عليك الملقي بالقرآن إليك من أمرنا غير خارج من قدرتنا، و أقسم لئن شئنا لنذهبن بهذا الروح الذي هو كلمتنا الملقاة إليك ثم لا تجد أحدا يكون وكيلا به لك علينا يدافع عنك و يطالبنا به و يجبرنا على رد ما أذهبنا به.

و بذلك يظهر أولا: أن المراد بالذي أوحينا إليك الروح الإلهي الذي هي كلمة ملقاة من الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على حد قوله: "و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا": الشورى: 54.

و ثانيا: أن المراد بالوكيل للمطالبة و الرد لما أذهبه الله دون الوكيل في حفظ القرآن و تلاوته على ما فسره بعض المفسرين و هو مبني على تفسير قوله: "الذي أوحينا إليك" بالقرآن دون الروح النازل به كما قدمنا.

قوله تعالى: "إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا" استثناء من محذوف يدل عليه السياق، و التقدير فما اختصصت بما اختصصت به و لا أعطيت ما أعطيت من نزول الروح و ملازمته إياك إلا رحمة من ربك، ثم علله بقوله: "إن فضله كان عليك كبيرا" و هو وارد مورد الامتنان.

قوله تعالى: "قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا" الظهير هو المعين مأخوذ من الظهر كالرئيس من الرأس، و قوله: "بمثله" من وضع الظاهر موضع المضمر و ضميره عائد إلى القرآن.

و في الآية تحد ظاهر، و هي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة إلى لفظه و معناه لا بفصاحته و بلاغته وحدها فإن انضمام غير أهل اللسان إليهم لا ينفع في معارضة البلاغة شيئا و قد اعتنت الآية باجتماع الثقلين و إعانة بعضهم لبعض.

على أن الآية ظاهرة في دوام التحدي و قد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة و البلاغة اليوم فلا أثر منهم، و القرآن باق على إعجازه متحد بنفسه كما كان.

قوله تعالى: "و لقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا" تصريف الأمثال ردها و تكرارها و تحويلها من بيان إلى بيان و من أسلوب إلى أسلوب، و المثل هو وصف المقصود بما يمثله و يقربه من ذهن السامع، و "من" في قوله: "من كل مثل" لابتداء الغاية، و المراد من كل مثل يوضح لهم سبيل الحق و يمهد لهم طريق الإيمان و الشكر بقرينة قوله: "فأبى أكثر الناس إلا كفورا" و الكلام مسوق للتوبيخ و الملامة.

و في قوله: "أكثر الناس" وضع الظاهر موضع المضمر و الأصل أكثرهم و لعل الوجه فيه الإشارة إلى أن ذلك مقتضى كونهم ناسا كما مر في قوله: "و كان الإنسان كفورا": أسرى: 67.

و المعنى: و أقسم لقد كررنا للناس في هذا القرآن من كل مثل يوضح لهم الحق و يدعوهم إلى الإيمان بنا و الشكر لنعمنا فأبى أكثر الناس إلا أن يكفروا و لا يشكروا.



قوله تعالى: "و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا - إلى قوله - كتابا نقرؤه" الفجر الفتح و الشق و كذلك التفجير إلا أنه يفيد المبالغة و التكثير، و الينبوع العين التي لا ينضب ماؤها، و خلال الشيء وسطه و أثناؤه، و الكسف جمع كسفة كقطع جمع قطعة وزنا و معنى، و القبيل هو المقابل كالعشير و المعاشر، و الزخرف - الذهب، و الرقي الصعود و الارتقاء.

و الآيات تحكي الآيات المعجزة التي اقترحتها قريش على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علقوا إيمانهم به عليها مستهينة بالقرآن الذي هو معجزة خالدة.

و المعنى "و قالوا" أي قالت قريش "لن نؤمن لك" يا محمد "حتى تفجر" و تشق "لنا من الأرض" أرض مكة لقلة مائها "ينبوعا" عينا لا ينضب ماؤها "أو تكون" بالإعجاز "لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار" أي تشقها أو تجريها "خلالها" أي وسط تلك الجنة و أثناءها "تفجيرا" "أو تسقط السماء كما زعمت" أي مماثلا لما زعمت يشيرون 1 به إلى قوله تعالى: "أو نسقط عليهم كسفا من السماء": السبا: 9 "علينا كسفا" و قطعا "أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا" مقابلا نعاينهم و نشاهدهم "أو يكون لك بيت من زخرف" و ذهب "أو ترقى" و تصعد "في السماء و لن نؤمن لرقيك" و صعودك "حتى تنزل علينا" منها "كتابا نقرؤه" و نتلوه.

قوله تعالى: "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا" فيه أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عما اقترحوه عليه و ينبههم على جهلهم و مكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر فإنهم سألوه أمورا عظاما لا يقوى على أكثرها إلا القدرة الغيبية الإلهية و فيها ما هو مستحيل بالذات كالإتيان بالله و الملائكة قبيلا، و لم يرضوا بهذا المقدار و لم يقنعوا به دون أن جعلوه هو المسئول المتصدي لذلك المجيب لما سألوه فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا و كذا بل قالوا: "لن نؤمن لك حتى تفجر" إلخ "أو تكون لك إلخ "أو تسقط السماء" إلخ "أو تأتي بالله" إلخ "أو يكون لك" إلخ "أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.

فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة حتى بالمحال الذاتي، و إن أرادوا منه ذلك بما أنه يدعي الرسالة فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره و بعثه لتبليغه بالإنذار و التبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه و إقداره أن يخلق كل ما يريد، و يوجد كل ما شاءوا، و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدعي لنفسه ذلك فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح.

و لذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا من المجازفة و تفويض القدرة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا يبعد أن يستفاد منه التعجب فالمقام صالح لذلك.

و ثانيا: إلى الجواب بقوله في صورة الاستفهام: "هل كنت إلا بشرا رسولا" و هو يؤيد كون قوله: "سبحان ربي" واقعا موقع التعجب أي إن كنتم اقترحتم على هذه الأمور و طلبتموها مني بما أنا محمد فإنما أنا بشر و لا قدرة للبشر على شيء من هذه الأمور، و إن كنتم اقترحتموها لأني رسول أدعي الرسالة فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة و تبليغها لا تقلد القدرة الغيبية المطلقة.



و قد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله: "بشرا" و "رسولا" دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم أما قوله: "بشرا" فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه الآيات عن قدرته في نفسه، و أما قوله: "رسولا" فليرد به اقتراح إيتائها عن قدرة مكتسبة من ربه.

و ذكر بعضهم ما محصله أن معتمد الكلام هو قوله: "رسولا" و قوله: "بشرا" توطئة له ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا، و دلالة على أن من قبله من الرسل كانوا كذلك، و المعنى على هذا هل كنت إلا بشرا رسولا كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلا بما أجراه على أيديهم من غير أن يفوض إليهم أو يتحكموا على ربهم بشيء.

قال: و جعل "بشرا" و "رسولا" كليهما معتمدين مخالف لما يظهر من الآثار أولا فإن الذي ورد في الآثار أنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأل ربه أن يفعل كذا و كذا، و لم يسألوه أن يأتيهم بشيء من قبل نفسه حتى يشار إلى رده بإثبات بشريته، و مستلزم لكون رسولا خبرا بعد خبر و كونهما خبرين لكان يأباه الذوق السليم.

انتهى محصلا.

و فيه أولا: أن أخذ قوله: "بشرا" ردا على زعمهم عدم جواز كون الرسول بشرا مع عدم اشتمال الآيات على مزعمتهم هذه لا تصريحا و لا تلويحا تحميل من غير دليل.

و ثانيا: أن الذي ذكره في معنى الآية "هل كنت إلا بشرا رسولا كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلا كذا و كذا" معتمد الكلام فيه هو التشبيه الذي في قوله: "كسائر الرسل" لا قوله: "رسولا" و في حذف معتمد الكلام إفساد السياق فافهم ذلك.

و ثالثا: أن اشتمال الآثار على أنهم إنما سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأل ربه الإتيان بتلك الآيات من غير أن يسألوه نفسه أن يأتي بها، لا يعارض نص الكتاب بخلافه، و الذي حكاه الله عنهم أنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا "إلخ" فتفجر الأنهار "إلخ" أو تسقط السماء "إلخ" و هذا من عجيب المغالاة في حق الآثار و تحكيمها على كتاب الله و تقديمها عليه حتى في صورة المخالفة.

و رابعا: أن إباء الذوق السليم عن تجويز كون "رسولا" خبرا بعد خبر لا يظهر له وجه.

قوله تعالى: "و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أ بعث الله بشرا رسولا" الاستفهام في قوله: "أ بعث الله بشرا رسولا" للإنكار، و جملة "قالوا أ بعث الله" "إلخ" حكاية حالهم بحسب الاعتقاد و إن لم يتكلموا بهذه الكلمة بعينها.

و إنكار النبوة و الرسالة مع إثبات الإله من عقائد الوثنية، و هذه قرينة على أن المراد بالناس الوثنيون، و المراد بالإيمان الذي منعوه هو الإيمان بالرسول.

فمعنى الآية و ما منع الوثنيين - و كانت قريش و عامة العرب يومئذ منهم - أن يؤمنوا بالرسالة - أو برسالتك - إلا إنكارهم لرسالة البشر، و لذلك كانوا يردون على رسلهم دعوتهم - كما حكاه الله - بمثل قولهم: "لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون": حم السجدة: 14.

قوله تعالى: "قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا" أمر سبحانه رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد عليهم قولهم و إنكارهم لرسالة البشر و نزول الوحي بأن العناية الإلهية قد تعلقت بهداية أهل الأرض و لا يكون ذلك إلا بوحي سماوي لا من عند أنفسهم فالبشر القاطنون في الأرض لا غنى لهم عن وحي سماوي بنزول ملك رسول إليهم و يختص بذلك نبيهم.



و هذه خاصة الحياة الأرضية و العيشة المادية المفتقرة إلى هداية إلهية لا سبيل إليها إلا بنزول الوحي من السماء حتى لو أن طائفة من الملائكة سكنوا الأرض و أخذوا يعيشون عيشة أرضية مادية لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا كما ننزل على البشر ملكا رسولا.

و العناية في الآية الكريمة.

كما ترى - متعلقة بجهتين إحداهما كون الحياة أرضية مادية، و الأخرى كون الهداية الواجبة بالعناية الإلهية بوحي نازل من السماء برسالة ملك من الملائكة.

و الأمر على ذلك فهاتان الجهتان أعني كون حياة النوع أرضية مادية و وجوب هدايتهم بواسطة سماوية و ملك علوي هما المقدمتان الأصليتان في البرهان على وجود الرسالة و لزومها.

و أما ما أصر عليه المفسرون من تقييد معنى الآية بوجوب كون الرسول من جنس المرسل إليهم و من أنفسهم كالإنسان للإنسان و الملك للملك فليس بتلك الأهمية، و لذلك لم يصرح به في الآية الكريمة.

و ذلك أن كون الرسول إلى البشر و هو الذي يعلمهم و يربيهم من أنفسهم من لوازم كون حياتهم أرضية، و كون الوحي النازل عليهم بواسطة الملك السماوي فإن اختلاف أفراد النوع المادية بالسعادة و الشقاء و الكمال و النقص و طهارة الباطن و قذارته ضروري و الملك الملقي للوحي و ما تحمله منه طاهر زكي لا يمسه إلا المطهرون، فالملك النازل بالوحي و إن نزل على النوع لكن لا يمسه إلا آحاد منهم مطهرون من قذارات المادة و ألواثها مقدسون من مس الشيطان و هم الرسل (عليهم السلام).

و توضيح المقام: أن مقتضى العناية الإلهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله و سعادته، و الإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع غير مستثنى من هذه الكلية، و لا تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين و سنن تضمن سعادة حياته في الدنيا و بعدها، و ترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الأفراد، و إذ كانت حياته حياة شعورية فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين و السنن و لا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره و شره فإن العقل بعينه يهديه إلى الاختلاف فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف و القوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته و كماله و هو شعور الوحي و الإنسان المتلبس به هو النبي.

و هذا برهان عقلي تام مأخوذ من كلامه و قد أوردناه و فصلنا القول فيه في مباحث النبوة من الجزء الثاني و في ضمن قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.

و أما الآية التي نحن فيها أعني قوله: "قل لو كان في الأرض ملائكة" إلخ فإنها تزيد على ما مر من معنى البرهان بشيء و هو أن إلقاء الوحي إلى البشر يجب أن يكون بنزول ملك من السماء إليهم.

و ذلك أن محصل مضمون الآية و ما قبلها هو أن الذي يمنع الناس أن يؤمنوا برسالتك أنهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله سبحانه.

و قد أخطئوا في ذلك فإن مقتضى الحياة الأرضية و عناية الله بهداية عباده أن ينزل إلى بعضهم ملكا من السماء رسولا حتى أن الملائكة لو كانوا كالإنسان عائشين في الأرض لنزل الله إلى بعضهم و هو رسولهم ملكا من السماء رسولا حاملا لوحيه.

و هذا كما ترى يعطي أولا: معنى الرسالة البشرية و هو أن الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه الناس بأمر الله.



و يشير ثانيا: إلى برهان الرسالة أن حياة الإنسان الأرضية و العناية الربانية متعلقة بهداية عباده و إيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماوي عليهم، و الملائكة وسائط نزول البركات السماوية إلى الأرض فلا محالة ينزل الدين على الناس بوساطة الملك و هو رسالته، و الذي يشاهده و يتلقى ما ينزل به - و لا يكون إلا بعض الناس لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنية و روح من أمر الله - هو الرسول البشري.

و كان المترقب من السياق أن يقال: "لبعث الله فيهم ملكا رسولا" بحذاء قولهم المحكي في الآية السابقة: "أ بعث الله بشرا رسولا" لكنه عدل إلى مثل قوله: "لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا" ليكون أولا أحسم للشبهة و أقطع للتوهم فإن عامة الوثنيين من البرهمانية و البوذية و الصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدسة لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس و يعبرون عنه بظهور المنجي أو المصلح و نزول الإله إلى الأرض و ظهوره على أهلها في صورة موجود أرضي و كان بوذه و يوذاسف - على ما يقال - منهم و المعبود عندهم على أي حال هو الملك أو الجن أو الإنسان المستغرق فيه دون الله سبحانه.

و إنما يمتنعون كل الامتناع عن رسالة الملك و هو من الآلهة المعبودين عندهم إلى البشر بدين يعبد فيه الله وحده و هو إله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماوي إلى البشر الأرضي من عند الله النص على كمال المخالفة لهم.

و ليكون ثانيا إشارة إلى أن رسالة الملك بالحقيقة إلى عامة الإنسان غير أن الذي يصلح لتلقي الوحي منه هو الرسول منهم، و أما غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم استعدادهم لذلك فالفيض عام و إن كان المستفيض خاصا قال تعالى: "و ما كان عطاء ربك محظورا": أسرى: 20، و قال: "قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته": الأنعام: 124.

و الآية بما تعطي من معنى الرسالة يؤيد ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في الفرق بين الرسول و النبي أن الرسول هو الذي يرى الملك و يسمع منه و النبي يرى المنام و لا يعاين، و قد أوردنا بعض هذه الأخبار في خلال أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.

و من ألطف التعبير في الآية و أوجزه تعبيره عن الحياة الأرضية بقوله: "في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين" فإن الانتقال المكاني على الأرض مع الوقوع تحت الجاذبة الأرضية من أوضح خواص الحياة المادية الأرضية.

قوله تعالى: "قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا" لما احتج عليهم بما احتج و بين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته و هي القرآن الذي تحدى به و هم على عنادهم و جحودهم و عنتهم لا يعتنون به و يقترحون عليه بأمور جزافية أخرى و لا يحترمون لحق و لا ينقطعون عن باطل أمر أن يرجع الأمر إلى شهادة الله فهو شهيد بما وقع منه و منهم فقد بلغ ما أرسل به و دعا و احتج و أعذر و قد سمعوا و تمت عليهم الحجة و استكبروا و عتوا فالكلام في معنى إعلام قطع المحاجة و ترك المخاصمة و رد الأمر إلى مالك الأمر فليقض ما هو قاض.

و قيل المراد بالآية الاستشهاد بالله سبحانه على حقية الدعوة و صحة الرسالة كأنه يقول: كفاني حجة أن الله شهيد على رسالتي فهذا كلامه يصرح بذلك فإن قلتم: ليس بكلامه بل مما افتريته فأتوا بمثله و لن تأتوا بمثله و لو كان الثقلان أعوانا لكم و أعضادا يمدونكم.



و هذا في نفسه جيد غير أن ذيل الآية كما قيل لا يلائمه أعني قوله: "بيني و بينكم" و قوله: "إنه كان بعباده خبيرا بصيرا" بل كان الأقرب أن يقال: شهيدا لي عليكم أو على رسالتي أو نحو ذلك.

و هذه الآية و الآيتان قبلها مسجعة بقوله: "رسولا" و هو المورد الوحيد في القرآن الذي اتفقت فيه ثلاث آيات متوالية في سجع واحد على ما نذكر.

قوله تعالى: "و من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه" إلخ هو - على ما يشعر به السياق - من تتمة الخطاب الأخير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم" فهو كناية عن أنه تمت عليهم الحجة و حقت عليهم الضلالة فلا مطمع في هدايتهم.

و محصل المعنى: خاطبهم بإعلام قطع المحاجة فإن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير و من أضله و لم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه و الله لا يهدي هؤلاء فانقطع عنهم و لا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم: إن الآية كلام مبتدأ غير داخل في حيز "قل" في غير محله.

و إنما أتى بأولياء بصيغة الجمع مع كون المفرد أبلغ و أشمل إشارة إلى أنه لو كان له ولي من دون الله لكان ذلك إما آلهتهم و هي كثيرة و إما سائر الأسباب الكونية و هي أيضا كثيرة.

و في قوله: "و من يهد الله فهو المهتد" إلخ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة فقد كان السياق سياق التكلم بالغير و لعل الوجه فيه أنه لو قيل: و من نهد و من نضل على التكلم بالغير أوهم تشريك الملائكة في أمر الهداية و الإضلال فأوهم التناقض في قوله: "فلن تجد لهم أولياء من دونه" فإن الأولياء عندهم الملائكة و هم يتخذونهم آلهة و يعبدونهم.

قوله: "و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم" إلى آخر الآيتين العمى و البكم و الصم جمع أعمى و أبكم و أصم، و خبو النار و خبوها سكون لهبها، و السعير لهب النار، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "أ و لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الأرض قادر على أن يخلق مثلهم" إلى آخر الآية، الكفور الجحود، احتجاج منه تعالى على البعث بعد الموت فقد كان قولهم: "ء إذا كنا عظاما و رفاتا ء إنا لمبعوثون خلقا جديدا" استبعادا مبنيا على إحالة أن يعود هذا البدن الدنيوي بعد تلاشيه و صيرورته عظاما و رفاتا إلى ما كان عليه بخلق جديد فاحتج عليهم بأن خلق البدن أولا يثبت القدرة عليه و على مثله الذي هو الخلق الجديد للبعث فحكم الأمثال واحد.

فالمماثلة إنما هي من جهة مقايسة البدن الجديد من البدن الأول مع قطع النظر عن النفس التي هي الحافظة لوحدة الإنسان و شخصيته، و لا ينافي ذلك كون الإنسان الأخروي عين الإنسان الدنيوي لا مثله لأن ملاك الوحدة و الشخصية هي النفس الإنسانية و هي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة و لا معدومة، و إذا تعلقت بالبدن المخلوق جديدا كان هو الإنسان الدنيوي كما أن الإنسان في الدنيا واحد شخصي باق على وحدته الشخصية مع تغير البدن بجميع أجزائه حينا بعد حين.



و الدليل على أن النفس التي هي حقيقة الإنسان محفوظة عند الله مع تفرق أجزاء البدن و فساد صورته قوله تعالى: "و قالوا ء إذا ضللنا في الأرض ء إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم": الم السجدة: 11 حيث استشكلوا في المعاد بأنه تجديد للخلق بعد فناء الإنسان بتفرق أجزاء بدنه فأجيب عنه بأن ملك الموت يتوفى الإنسان و يأخذه تاما كاملا فلا يضل و لا يتلاشى، و إنما الضال بدنه و لا ضير في ذلك فإن الله يجدده.

و الدليل على أن الإنسان المبعوث هو عين الإنسان الدنيوي لا مثله جميع آيات القيامة الدالة على رجوع الإنسان إليه تعالى و بعثه و سؤاله و حسابه و مجازاته بما عمل.

فهذا كله يشهد على أن المراد بالمماثلة ما ذكرناه، و إنما تعرض لأمر البدن حتى ينجر إلى ذكر المماثلة محاذاة لمتن ما استشكلوا به من قولهم: "ء إذا كنا عظاما و رفاتا ء إنا لمبعوثون خلقا جديدا" فلم يضمنوا قولهم إلا شئون البدن لا النفس المتوفاة منه، و إذا قطع النظر عن النفس كان البدن مماثلا للبدن، و إن كان مع اعتبارها عينا.

و ذكر بعضهم: أن المراد بمثلهم نفسهم فهو من قبيل قولهم: مثلك لا يفعل هذا أي أنت لا تفعله.

و للمناقشة إليه سبيل و الظاهر أن العناية في هذا التركيب أن مثلك لاشتماله على مثل ما فيك من الصفة لا يفعل هذا فأنت لا تفعله لمكان صفتك ففيه نفي الفعل بنفي سببه على سبيل الكناية، و هو آكد من قولنا: أنت لا تفعله.

و قوله: "و جعل لهم أجلا لا ريب فيه" الظاهر أن المراد بالأجل هو زمان الموت فإن الأجل إما مجموع مدة الحياة الدنيا و هي محدودة بالموت و إما آخر زمان الحياة و يقارنه الموت و كيف كان فالتذكير بالموت الذي لا ريب فيه ليعتبروا به و يكفوا عن الجرأة على الله و تكذيب آياته فهو قادر على بعثهم و الانتقام منهم بما صنعوا.

فقوله: "و جعل لهم أجلا لا ريب فيه" ناظر إلى قوله في صدر الآية السابقة: "ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا" فهو نظير قوله: "و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يشعرون إلى أن قال أ و لم ينظروا في ملكوت السموات و الأرض إلى أن قال و أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون": الأعراف: 185.

و جوز بعضهم أن يكون المراد بالأجل هو يوم القيامة، و هو لا يلائم السياق فإن سابق الكلام يحكي إنكارهم للبعث ثم يحتج عليهم بالقدرة فلا يناسبه أخذ البعث مسلما لا ريب فيه.

و نظيره تقرير بعضهم قوله: "و جعل لهم أجلا لا ريب فيه" حجة أخرى مسوقة لإثبات يوم القيامة على كل من تقديري كون المراد بالأجل هو يوم الموت أو يوم القيامة، و هو تكلف لا يعود إلى جدوى البتة فلا موجب للاشتغال به.

قوله تعالى: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق و كان الإنسان قتورا" فسر القتور بالبخيل المبالغ في الإمساك و قال في المجمع،: القتر التضييق و القتور فعول منه للمبالغة، و يقال: قتر يقتر و تقتر و أقتر و قتر إذا قدر في النفقة انتهى.

و هذا توبيخ لهم على منعهم رسالة البشر المنقول عنهم سابقا بقوله: "و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أ بعث الله بشرا رسولا" و معنى الآية ظاهر.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما الشفاء في علم القرآن لقوله: "ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين" الحديث.



و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: قال: النية أفضل من العمل ألا و إن النية هي العمل ثم قرأ قوله عز و جل: "قل كل يعمل على شاكلته" يعني على نيته.

أقول: و قوله: إن النية هي العمل يشير إلى اتحادهما اتحاد العنوان و معنونه.

و فيه، بإسناده عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا و إنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلد هؤلاء و هؤلاء. ثم تلا قوله تعالى: "قل كل يعمل على شاكلته" قال: على نيته.

أقول: إشارة إلى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها و روى الرواية العياشي أيضا في تفسيره، عن أبي هاشم عنه (عليه السلام).

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "يسألونك عن الروح" الآية: أخرج أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن المنذر و ابن حبان و أبو الشيخ في العظمة، و الحاكم و صححه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في الدلائل، عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: "يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي - و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا" قالوا: أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة و من أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل الله: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي - لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا".

أقول: و روي بطرق أخرى عن عبد الله بن مسعود و عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أم الحكم: أن السؤال إنما كان من اليهود بالمدينة و بها نزلت الآية و كون السورة مكية و اتحاد سياق آياتها لا يلائم ذلك.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في كتاب الأضداد، و أبو الشيخ في العظمة، و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن علي بن أبي طالب: في قوله "و يسألونك عن الروح" قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.

أقول: كون الروح من الملائكة لا يوافق ظاهر عدة من آيات الكتاب كقوله: "ينزل الملائكة بالروح من أمره": النحل: 2 و غيره من الآيات، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: "ينزل الملائكة بالروح من أمره" من سورة النحل حديث علي (عليه السلام) و فيه إنكاره أن يكون الروح ملكا و احتجاجه على ذلك بالآية فالعبرة في أمر الروح بما يأتي.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" قال: خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو مع الأئمة و هو من الملكوت.

أقول: و في معناه روايات أخر، و الرواية توافق ما تقدم توضيحه من مدلول الآيات.



و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): عن قوله "يسألونك عن الروح" قال: إن الله تبارك و تعالى أحد صمد و الصمد الشيء الذي ليس له جوف فإنما الروح خلق من خلقه له بصر و قوة و تأييد يجعله في قلوب الرسل و المؤمنين.

أقول: و إنما تعرض في صدر الرواية بما تعرض دفعا لما يتوهم من مثل قوله تعالى: "و نفخت فيه من روحي" أن هناك جوفا و نفسا منفوخا.

و فيه، عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن قوله و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" ما الروح؟ قال: التي في الدواب و الناس قلت: و ما هي؟ قال: من الملكوت من القدرة.

أقول: و هذه الروايات تؤيد ما تقدم في بيان الآية أن الروح المسئول عنه حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة و أيضا ظاهر هذه الرواية كون الروح الحيواني مجردا من الملكوت.



و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن إسحاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا سفيان بن حرب و رجلا من بني عبد الدار و أبا البختري أخا بني أسد و الأسود بن المطلب و ربيعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أبي أمية و أمية بن خلف و العاص بن وائل و نبيها و منبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد و كلموه و خاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سريعا و هو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء، و كان عليهم حريصا يحب رشدهم و يعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم. فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك، و إنا و الله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء، و عبت الدين، و سفهت الأحلام و شتمت الآلهة و فرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا و قد جئت فيما بيننا و بينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا و إن كنت تطلب الشرف فينا سودناك علينا، و إن كنت تريد ملكا ملكناك علينا و إن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك و كانوا يسمون التابع من الجن الرئي فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه و نعذر فيك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم و لا فيئكم و لا الملك عليكم و لكن الله بعثني إليكم رسولا، و أنزل علي كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا فبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم. فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا و لا أقل مالا و لا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا و ليبسط لنا بلادنا و ليجر فيها أنهارا كأنهار الشام و العراق، و ليبعث لنا من قد مضى من آبائنا و ليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك و صدقوك صدقناك و عرفنا به منزلتك عند الله و أنه بعثك رسولا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم. قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخر لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول و يراجعنا عنك، و تسأله أن يجعل لك جنانا و كنوزا و قصورا من ذهب و فضة و يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمس حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا و لكن الله بعثني بشيرا و نذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك. قالوا: يا محمد قد علم ربك أنا سنجلس معك و نسألك عما سألناك عنه و نطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك و يعلمك ما تراجعنا به و يخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن و إنا و الله لن نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أ ما و الله لا نتركك و ما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، و قال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله و الملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم و قام معهم عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فوالله ما أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه و أنا أنظر حتى تأتيها و تأتي معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول و أيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه و لما رأى من متابعتهم إياه و أنزل عليه فيما قال له عبد الله بن أبي أمية: "و قالوا لن نؤمن لك إلى قوله بشرا رسولا" الحديث.

أقول: و الذي ذكر في الرواية من محاورتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سؤالاتهم لا ينطبق على ظاهر الآيات و لا ما فيها من الجواب على ظاهر ما فيها من الجواب.

و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في بيان الآيات.

و قد تكررت الرواية من طرق الشيعة و أهل السنة أن الذي ألقى إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) القول من بين القوم و سأله هذه المسائل هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم": أخرج أحمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و أبو نعيم في المعرفة، و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن أنس قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم.

أقول: و في معناه روايات أخر.

17 سورة الإسراء - 101 - 111

وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسى تِسعَ ءَايَتِ بَيِّنَتٍ فَسئَلْ بَنى إِسرءِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنى لأَظنّك يَمُوسى مَسحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْت مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ بَصائرَ وَ إِنى لأَظنّك يَفِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرَادَ أَن يَستَفِزّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَهُ وَ مَن مّعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنى إِسرءِيلَ اسكُنُوا الأَرْض فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ جِئْنَا بِكمْ لَفِيفاً (104) وَ بِالحَْقِّ أَنزَلْنَهُ وَ بِالحَْقِّ نَزَلَ وَ مَا أَرْسلْنَك إِلا مُبَشراً وَ نَذِيراً (105) وَ قُرْءَاناً فَرَقْنَهُ لِتَقْرَأَهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزّلْنَهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ ءَامِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنّ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلى عَلَيهِمْ يخِرّونَ لِلأَذْقَانِ سجّداً (107) وَ يَقُولُونَ سبْحَنَ رَبِّنَا إِن كانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَ يخِرّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا مّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسمَاءُ الحُْسنى وَ لا تجْهَرْ بِصلاتِك وَ لا تخَافِت بهَا وَ ابْتَغ بَينَ ذَلِك سبِيلاً (110) وَ قُلِ الحَْمْدُ للّهِ الّذِى لَمْ يَتّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُن لّهُ شرِيكٌ فى الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُن لّهُ وَلىّ مِّنَ الذّلِّ وَ كَبرْهُ تَكْبِيرَا (111)

بيان

في الآيات تنظير ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من معجزة النبوة و هو القرآن و إعراض المشركين عنه و اقتراحهم آيات أخرى جزافية بما جاء به موسى (عليه السلام) من آيات النبوة و إعراض فرعون عنها و رميه إياه بأنه مسحور ثم عود إلى وصف القرآن و السبب في نزوله مفرقة أجزاؤه و ما يلحق بها من المعارف.

قوله تعالى: "و لقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا" الذي أوتي موسى (عليه السلام) من الآيات على ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الآيات التي أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع و هي: العصا و اليد و الطوفان و الجراد و القمل و الضفدع و الدم و السنون و نقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالآيات التسع المذكورة في الآية و خاصة مع ما فيها من محكي قول موسى لفرعون: "لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات و الأرض بصائر" و أما غير هذه الآيات كالبحر و الحجر و إحياء المقتول بالبقرة و إحياء من أخذته الصاعقة من قومه و نتق الجبل فوقهم و غير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الآية.

و لا ينافي ذلك كون الآيات إنما ظهرت تدريجا فإن هذه المحاورة مستخرجة من مجموع ما تخاصم به موسى و فرعون طول دعوته.

فلا عبرة بما ذكره بعض المفسرين مخالفا لما عددناه لعدم شاهد عليه و في التوراة أن التسع هي العصا و الدم و الضفادع و القمل و موت البهائم و برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات و حيوان و الجراد و الظلمة و موت عم كبار الآدميين و جميع الحيوانات.

و لعل مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الآيات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الآيات التسع في الآية ليستقيم الأمر بالسؤال من اليهود لأنهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق.

و قوله: "إني لأظنك يا موسى مسحورا" أي سحرت فاختل عقلك و هذا في معنى قوله المنقول في موضع آخر: "إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون": الشعراء: 27 و قيل: المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون و المشئوم بمعنى اليامن و الشائم و أصله استعمال وزن الفاعل في النسبة و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات و الأرض بصائر و إني لأظنك يا فرعون مثبورا" المثبور الهالك و هو من الثبور بمعنى الهلاك، و المعنى قال موسى مخاطبا لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السموات و الأرض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل و إني لأظنك يا فرعون هالكا بالآخرة لعنادك و جحودك.

و إنما أخذ الظن دون اليقين لأن الحكم لله و ليوافق ما في كلام فرعون: "و إني لأظنك يا موسى" إلخ و من الظن ما يستعمل في مورد اليقين.

قوله تعالى: "فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه و من معه جميعا" الاستفزاز الإزعاج و الإخراج بعنف، و معنى الآية ظاهر.



قوله تعالى: "و قلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا" المراد بالأرض التي أمروا أن يسكنوها هي الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم بشهادة قوله: "ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم": المائدة: 21، و غير ذلك كما أن المراد بالأرض في الآية السابقة مطلق الأرض أو أرض مصر بشهادة السياق.

و قوله: "فإذا جاء وعد الآخرة" أي وعد الكرة الآخرة أو الحياة الآخرة و المراد به على ما ذكره المفسرون يوم القيامة، و قوله: "جئنا بكم لفيفا أي مجموعا ملفوفا بعضكم ببعض.

و المعنى: و قلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض المقدسة - و كان فرعون يريد أن يستفزهم من الأرض - فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم ملتفين مجتمعين للحساب و فصل القضاء.

و ليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الآخرة ما ذكره الله سبحانه في أول السورة فيما قضى إلى بني إسرائيل بقوله: "فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة و ليتبروا ما علوا تتبيرا" و إن لم يذكره جمهور المفسرين فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، و يكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون أن اسكنوا الأرض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون و البثوا فيها حتى إذا جاء وعد الآخرة التي يلتف بكم فيها البلاء بالقتل و الأسر و الجلاء جمعناكم منها و جئنا بكم لفيفا، و ذلك إسارتهم و إجلاؤهم إلى بابل.

و يتضح على هذا الوجه نكتة تفرع قوله: "فإذا جاء وعد الآخرة" إلخ على قوله: "و قلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض" على خلاف الوجه السابق الذي لا يترتب فيه على التفريع نكتة ظاهرة.

قوله تعالى: "و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا" لما فرغ من التنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن و ذكر أوصافه فذكر أنه أنزله إنزالا مصاحبا للحق و قد نزل هو من عنده نزولا مصاحبا للحق فهو مصون من الباطل من جهة من أنزله فليس من لغو القول و هذره و لا داخله شيء يمكن أن يفسده يوما و لا شاركه فيه أحد حتى ينسخه في وقت من الأوقات و ليس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا رسولا منه تعالى يبشر به و ينذر و ليس له أن يتصرف فيه بزيادة أو نقيصة أو يتركه كلا أو بعضا باقتراح من الناس أو هوى من نفسه أو يعرض عنه فيسأل الله آية أخرى فيها هواه أو هوى الناس أو يداهنهم فيه أو يسامحهم في شيء من معارفه و أحكامه كل ذلك لأنه حق صادر عن مصدر حق، و ما ذا بعد الحق إلا الضلال.

فقوله: "و ما أرسلناك" إلخ متمم للكلام السابق، و محصله أن القرآن آية حقة ليس لأحد أن يتصرف فيه شيئا من التصرف و النبي و غيره في ذلك سواء.

قوله تعالى: "و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا" معطوف على ما قبله أي أنزلناه بالحق و فرقناه قرآنا، قال في المجمع،: معنى فرقناه فصلناه و نزلناه آية آية و سورة سورة و يدل عليه قوله: "على مكث" و المكث - بضم الميم - و المكث - بفتحها - لغتان.

انتهي.

فاللفظ بحسب نفسه يعم نزول المعارف القرآنية التي هي عند الله في قالب الألفاظ و العبارات التي لا تتلقى إلا بالتدريج و لا تتعاطى إلا بالمكث و التؤدة ليسهل على الناس تعقله و حفظه على حد قوله: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم": الزخرف: 4.



و نزول الآيات القرآنية نجوما مفرقة سورة سورة و آية آية بحسب بلوغ الناس في استعداد تلقي المعارف الأصلية للاعتقاد و الأحكام الفرعية للعمل و اقتضاء المصالح ذلك ليقارن العلم العمل و لا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه و أحكامه واحدا بعد واحد كما لو نزل دفعة و قد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقها اليهود بالقبول إلا بعد نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.

لكن الأوفق بسياق الآيات السابقة و فيها مثل قولهم المحكي: "حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه" الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن إنزاله سورة سورة و آية آية حسب تحقق أسباب النزول تدريجا و قد تكرر من الناس اقتراح أن ينزل القرآن جملة واحدة كما في: "و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة": الفرقان: 32، و قوله حكاية عن أهل الكتاب: "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء": النساء: 153.

و يؤيده تذييل الآية بقوله: "و نزلناه تنزيلا" فإن التنزيل و هو إنزال الشيء تدريجا أمس بالاعتبار الثاني منه بالأول.

و مع ذلك فالاعتبار الثاني و هو تفصيل القرآن و تفريقه بحسب النزول بإنزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الأول و هو تفصيله و تفريقه إلى معارف و أحكام متبوعة مختلفة بعد ما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحدة منطوية مجتمعة الأعراق في أصل واحد فارد.

و لذلك فصل الله سبحانه كتابه سورا و آيات بعد ما ألبسه لباس اللفظ العربي ليسهل على الناس فهمه كما قال: "لعلكم تعقلون" ثم نوعها أنواعا و رتبها ترتيبا فنزلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك و على حسب حصول استعدادات الناس المختلفة و تمام قابليتهم بكل واحد منها و ذلك في تمام ثلاث و عشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية و يقرن العلم بالعمل.

و سنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلق بالآية و السورة في كلام مستقل إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "قل آمنوا به أو لا تؤمنوا" إلى آخر الآيات الثلاث المراد بالذين أوتوا العلم من قبله هم الذين تحققوا بالعلم بالله و آياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللهم إلا أن يقال: إن السياق يفيد كون هؤلاء من أهل الحق و الدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيح (عليه السلام) فهم أهل الحق من علماء النصرانية الذين لم يزيغوا و لم يبدلوا.

و على أي حال المراد من كونهم أوتوا العلم من قبله أنهم استعدوا لفهم كلمة الحق و قبولها لتجهزهم بالعلم بحقيقة معناه و إيراثه إياهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن المتلو عليهم خشوعا.

و قوله: "يخرون للأذقان سجدا" الأذقان جمع ذقن و هو مجمع اللحيين من الوجه، و الخرور للأذقان السقوط على الأرض على أذقانهم للسجدة كما يبينه قوله: "سجدا" و إنما اعتبرت الأذقان لأن الذقن أقرب أجزاء الوجه من الأرض عند الخرور عليها للسجدة، و ربما قيل: المراد بالأذقان الوجوه إطلاقا للجزء على الكل مجازا.

و قوله: "و يقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا" أي ينزهونه تعالى عن كل نقص و عن خلف الوعد خاصة و يعطي سياق الآيات السابقة أن المراد بالوعد وعده سبحانه بالبعث و هذا في قبال إصرار المشركين على نفي البعث و إنكار المعاد كما تكرر في الآيات السابقة.



و قوله: "و يخرون للأذقان يبكون و يزيدهم خشوعا" تكرار الخرور للأذقان و إضافته إلى البكاء لإفادة معنى الخضوع و هو التذلل الذي يكون بالبدن كما أن الجملة الثانية لإفادة معنى الخشوع و هو التذلل الذي يكون بالقلب فمحصل الآية أنهم يخضعون و يخشعون.

و في الآية إثبات خاصة المؤمنين لهم و هي التي أشير إليها بقوله سابقا: و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين كما أن في الآية نفي خاصة المشركين عنهم و هي إنكار البعث.

و في هذه الآيات الثلاث بيان أن القرآن في غنى عن إيمانهم لا لأن إيمان الذين أوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لأن إيمانهم به يكشف عن أنه كتاب حق أنزل بالحق لا حاجة له في حقيته و لا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن و تصديق مصدق فإن آمنوا به فلأنفسهم و إن كفروا به فعليها لا له و لا عليه.

فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن و كفرهم به و عدم اعتنائهم بكونه آية و اقتراحهم آيات أخرى ثم بين له من نعوت الكمال و دلائل الإعجاز في لفظه و معناه و غزارة الأثر في النفوس و كيفية نزوله ما استبان به أنه حق لا يعتريه بطلان و لا فساد أصلا ثم بين في هذه الآيات أنه في غنى عن إيمانهم فهم و ما يختارونه من الإيمان و الكفر.

قوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" لفظة أو للتسوية و الإباحة فالمراد بقوله "الله" و "الرحمن" الاسمان الدالان على المسمى دون المسمى، و المعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن فالدعاء دعاؤه.

و قوله: "أيا ما تدعوا" شرط و "ما" صلة للتأكيد نظير قوله: "فبما رحمة من الله": آل عمران: 159.

و قوله: "عما قليل ليصبحن نادمين": المؤمنون: 40 و "أيا" شرطية و هي مفعول "تدعوا".

و قوله: "فله الأسماء الحسنى" جواب الشرط، و هو من وضع السبب موضع المسبب و المعنى أي اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لأن الأسماء الحسنى كلها له فالأسماء الدالة على المسميات منها حسنة تدل على ما فيه حسن و منها قبيحة بخلافها و لا سبيل للقبيح إليه تعالى، و الأسماء الحسنة منها ما هو أحسن لا شوب نقص و قبح فيه كالغنى الذي لا فقر معه و الحياة التي لا موت معها و العزة التي لا ذلة دونها و منها ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة و لله سبحانه الأسماء الحسنى، و هي كل اسم هو أحسن الأسماء في معناه كما يدل عليه قول أئمة الدين: إن الله تعالى غني لا كالأغنياء، حي لا كالأحياء، عزيز لا كالأعزة عليم لا كالعلماء و هكذا أي له من كل كمال صرفه و محضه الذي لا يشوبه خلافه.

و الضمير في قوله: "أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" عائد إلى الذات المتعالية من كل اسم و رسم، و ليس براجع إلى شيء من الاسمين: الله و الرحمن لأن المراد بهما - كما تقدم - الاسمان دون الذات المتعالية التي هي مسماة بهما و لا معنى لأن يقال: أيا من الاسمين تدعوا فإن لذلك الاسم جميع الأسماء الحسنى أو باقي الأسماء الحسنى بل المعنى أيا من أسمائه تدعوا فلا مانع منه لأنها جميعا أسماؤه لأنها أسماء حسنى و له الأسماء الحسنى فهي طرق دعوته و دعوتها دعوته فإنها أسماؤه و الاسم مرآة المسمى و عنوانه فافهم ذلك.



و الآية من غرر الآيات القرآنية تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات و توحيد العبادة قبال ما يراه الوثنية من توحيد الذات و تشريك العبادة.

فإن الوثنية - على ما تقدم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب - ترى أنه سبحانه ذات متعالية من كل حد و نعت ثم تعينت بأسماء اسما بعد اسم و تسمي ذلك تولدا، و ترى الملائكة و الجن مظاهر عالية لأسمائه فهم أبناؤه المتصرفون في الكون، و ترى أن عبادة العابدين و توجه المتوجهين لا يتعدى طور الأسماء و لا يتجاوز مرتبة الأبناء الذين هم مظاهر أسمائه فإنا إنما نعبد فيما نعبد الإله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك، و هذه كلها أسماء مظاهرها الأبناء من الملائكة و الجن، و أما الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله حس أو وهم أو عقل، و أعلى من أن يتعلق به توجه أو طلب أو عبادة أو نسك.

فعندهم دعوة كل اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجن الذي هو مظهر ذلك الاسم، و هو الإله المعبود بتلك العبادة فيتكثر الآلهة بتكثر أنواع الدعوات بأنواع الحاجات و لذلك لما سمع بعض المشركين دعاءه (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاته: يا الله يا رحمن قال: انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن نعبد إلهين و هو يدعو إلهين.

و الآية الكريمة ترد عليهم ذلك و تكشف عن وجه الخطإ في رأيهم بأن هذه الأسماء أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضا لا تستقل دونه بنعت و لا تنحاز عنه في ذات أو صفة تملكه و تقوم به فليس لها إلا الطريقية المحضة، و يكون دعاؤها دعاءه و التوجه بها توجها إليه، و كيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمى و ليس إلا طريقا دالا عليه هاديا إليه و وجها له يتجلى به لغيره، فدعاء الأسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم و لا يتعداه.

و يتفرع على هذا البيان ظهور الخطإ في عد الأسماء أو مظاهرها من الملائكة و الجن أبناء له تعالى فإن إطلاق الولد و الابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضي نوع مسانخة و اشتراك بين الولد و الوالد - أو الابن و الأب - في حقيقة الذات أو كمال من كمالاته و ساحة كبريائه منزهة من أن يشاركه شيء غيره في ذات أو كمال فإن الذي له هو لنفسه، و الذي لغيره هو له لا لأنفسهم.

و كذا ظهور الخطإ في نسبة التصرف في الكون بأنواعه إليهم فإن هؤلاء الملائكة و كذا الأسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لأنفسهم شيئا و لا يستقلون دونه بشيء بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون، و كذا الجن فيما يعملون و بالجملة ما من سبب من الأسباب الفعالة في الكون إلا و هو تعالى الذي ملكه القدرة على ما يعمله، و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره.

و هذا هو الذي تفيده الآية التالية "و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك و لم يكن له ولي من الذل" و سنكرر الإشارة إليه إن شاء الله.



و في الآية دلالة على أن لفظة الجلالة من الأسماء الحسنى فهو في أصله - الإله - وصف يفيد معنى المعبودية و إن عرضت عليه العلمية بكثرة الاستعمال كما يدل عليه صحة إجراء الصفات عليه يقال: الله الرحمن الرحيم و لا يقال: الرحمن الله الرحيم و في كلامه تعالى: "بسم الله الرحمن الرحيم".

قوله تعالى: "و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها و ابتغ بين ذلك سبيلا" الجهر و الإخفات وصفان متضائفان، يتصف بهما الأصوات، و ربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات و بالنسبة إلى الإخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت، و الإخفات هو المبالغة في خفضه و ما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الآية لا تبالغ في صلاتك في الجهر و لا في الإخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلا و هو الاعتدال و تسميته سبيلا لأنه سنة يستن بها هو و من يقتدي به من أمته المؤمنين به.

هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله: "بصلاتك" للاستغراق و المراد به كل صلاة صلاة و أما لو أريد المجموع و لعله الأظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلها و لا تخافت فيها كلها بل اتخذ سبيلا وسطا تجهر في بعض و تخافت في بعض، و هذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنة من الجهر في بعض الفرائض اليومية كالصبح و المغرب و العشاء و الإخفات في غيرها.

و لعل هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتصال ذيل الآية بصدرها فالجهر بالصلاة يناسب كونه تعالى عليا متعاليا و الإخفات يناسب كونه قريبا أقرب من حبل الوريد فاتخاذ الخصلتين جميعا في الصلوات أداء لحق أسمائه جميعا.

قوله تعالى: "و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك و لم يكن له ولي من الذل و كبره تكبيرا" معطوف على قوله في الآية السابقة: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" و يرجع محصل الكلام إلى أن قل لهم إن ما تدعونها من الأسماء و تزعمون أنها آلهة معبودون غيره إنما هي أسماؤه و هي مملوكة له لا تملك أنفسها و لا شيئا لأنفسها فدعاؤها دعاؤه فهو المعبود على كل حال.

ثم أحمده و أثن عليه بما يتفرع على إطلاق ملكه فإنه لا يماثله شيء في ذات و لا صفة حتى يكون ولدا له إن اشتق عنه في ذات أو صفة كما تقوله الوثنية و أهل الكتاب من النصارى و اليهود و قدماء المجوس في الملائكة أو الجن أو المسيح أو عزير و الأحبار، أو يكون شريكا إن شاركه في الملك من غير اشتقاق كما تقوله الوثنيون و الثنويون و غيرهم من عبدة الشيطان أو يكون وليا له إن شاركه في الملك و فاق عليه فأصلح من ملكه بعض ما لم يقدر هو على إصلاحه.

و بوجه آخر لا يجانسه شيء حتى يكون ولدا إن كان دونه أو شريكا له إن كان مساويا له في مرتبته أو وليا له إن كان فائقا عليه في الملك.

و الآية في الحقيقة ثناء عليه تعالى بما له من إطلاق الملك الذي يتفرع عليه نفي الولد و الشريك و الولي، و لذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتحميد دون التسبيح مع أن المذكور فيها من نفي الولد و الشريك و الولي صفات سلبية و الذي يناسبها التسبيح دون التحميد فافهم ذلك.



و ختم سبحانه الآية بقوله: "و كبره تكبيرا" و قد أطلق إطلاقا بعد التوصيف و التنزيه فهو تكبير من كل وصف، و لذا فسر "الله أكبر" بأنه أكبر من أن يوصف على ما ورد عن الصادق (عليه السلام)، و لو كان المعنى أنه أكبر من كل شيء لم يخل من إشراك الأشياء به تعالى في معنى الكبر و هو أعز ساحة أن يشاركه شيء في أمر.

و من لطيف الصنعة في السورة افتتاح أول آية منها بالتسبيح و اختتام آخر آية منها بالتكبير مع افتتاحها بالتحميد.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي أنه كان يقرأ: لقد علمت يعني بالرفع قال علي و الله ما علم عدو الله و لكن موسى هو الذي علم.

أقول: و هي قراءة منسوبة إليه (عليه السلام).

و في الكافي، عن علي بن محمد بإسناده قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عمن بجبهته علة لا يقدر على السجود عليها قال: يضع ذقنه على الأرض إن الله عز و جل يقول "و يخرون للأذقان سجدا".

أقول: و في معناه غيره.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة ذات يوم فدعا الله فقال في دعائه: يا الله يا رحمان فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين و هو يدعو إلهين فأنزل الله: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" الآية.

أقول: و في سبب نزول الآية روايات أخر تخالف هذه الرواية و تذكر أشياء غير ما ذكرته غير أن هذه الرواية أقربها انطباقا على مفاد الآية.

و في التوحيد، مسندا و في الاحتجاج، مرسلا عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله عز ذكره و اشتقاقها فقلت: الله مما هو مشتق؟ قال يا هشام: الله مشتق من إله و إله يقتضي مألوها، و الاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر و لم يعبد شيئا، و من عبد الاسم و المعنى فقد كفر و عبد اثنين، و من عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أ فهمت يا هشام؟ قال: فقلت: زدني فقال: إن لله تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها و لكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء و كلها غيره يا هشام الخبز اسم المأكول و الماء اسم المشروب و الثوب اسم الملبوس و النار اسم المحرق.

الحديث.

و في التوحيد، بإسناده عن ابن رئاب عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، و من عبد الاسم و لم يعبد المعنى فقد كفر، و من عبد الاسم و المعنى فقد أشرك، و من عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي يصف بها نفسه فعقد عليه قلبه و نطق به لسانه في سرائره و علانيته فأولئك أصحاب أمير المؤمنين و في حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقا.



و في توحيد البحار، في باب المغايرة بين الاسم و المعنى عن التوحيد بإسناده عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير منعوت، و باللفظ غير منطق، و بالشخص غير مجسد، و بالتشبيه غير موصوف و باللون غير مصبوغ منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أشياء لفاقة الخلق إليها، و حجب واحدا منها و هو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت. فالظاهر هو الله و تبارك و سبحان لكل اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما و فعلا منسوبا إليها فهو الرحمن الرحيم الملك القدوس الخالق البارىء المصور الحي القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم العليم الخبير السميع البصير الحكيم العزيز الجبار المتكبر العلي العظيم المقتدر القادر السلام المؤمن المهيمن البارىء المنشىء البديع الرفيع الجليل الكريم الرازق المحيي المميت الباعث الوارث. فهذه الأسماء و ما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاث مائة و ستين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة و هذه الأسماء الثلاثة أركان و حجب للاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، و ذلك قوله عز و جل: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن - أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى": أقول: و الحديث مروي في الكافي، أيضا عنه (عليه السلام).

و قد تقدم في بحث الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن هذه الألفاظ المسماة بأسماء الله إنما هي أسماء الأسماء و أن ما تدل عليه و تشير إليه من المصداق أعني الذات مأخوذة بوصف ما هو الاسم بحسب الحقيقة، و على هذا فبعض الأسماء الحسنى عين الذات و هو المشتمل على صفة ثبوتية كمالية كالحي و العليم و القدير، و بعضها زائد على الذات خارج منها و هو المشتمل على صفة سلبية أو فعلية كالخالق و الرازق لا تأخذه سنة و لا نوم، هذا في الأسماء و أما أسماء الأسماء و هي الألفاظ الدالة على الذات المأخوذة مع وصف من أوصافها فلا ريب في كونها غير الذات، و أنها ألفاظ حادثة قائمة بمن يتلفظ بها.

إلا أن هاهنا خلافا من جهتين: إحداهما: أن بعض الجهلة من متكلمي السلف خلطوا بين الأسماء و أسماء الأسماء فحسبوا أن المراد من عينية الأسماء مع الذات عينية أسماء الأسماء معها فذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى و يكون على هذا عبادة الاسم و دعوته هو عين عبادة المسمى، و قد كان هذا القول سائغا في أوائل عصر العباسيين، و الروايتان السابقتان أعني روايتي التوحيد في الرد عليه.

و الثانية: ما عليه الوثنية و هو أن الله سبحانه لا يتعلق به التوجه العبادي و إنما يتعلق بالأسماء فالأسماء أو مظاهرها من الملائكة و الجن و الكمل من الإنس هم المدعوون و هم الآلهة المعبودون دون الله، و قد عرفت في البيان المتقدم أن قوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" إلخ رد عليه.

و الرواية الأخيرة أيضا تكشف عن وجه انتشاء الأسماء عن الذات المتعالية التي هي أرفع من أن يحيط به علم أو يقيده وصف و نعت أو يحده اسم أو رسم، و هي بما في صدره و ذيله من البيان صريح في أن المراد بالأسماء فيها هي الأسماء دون أسماء الأسماء و قد شرحناها بعض الشرح في ذيل البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب فراجعه إن شئت.

و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: "و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها و ابتغ بين ذلك سبيلا" قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان بمكة جهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فأنزلت هذه الآية عند ذلك.

أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس، و روي أيضا عن عائشة: أنها نزلت في الدعاء، و لا بأس به لعدم معارضته، و روي عنها أيضا أنها نزلت في التشهد.

و في الكافي، بإسناده عن سماعة قال: سألته عن قول الله تعالى: "و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها" قال: المخافتة ما دون سمعك و الجهر أن ترفع صوتك شديدا.

أقول: فيه تأييد المعنى الأول المتقدم في تفسير الآية.

و فيه، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) على الإمام أن يسمع من خلفه و إن كثروا؟ فقال: ليقرأ وسطا يقول الله تبارك و تعالى: "و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها".



و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): آية العز "و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا" الآية كلها.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لم يكن له ولي من الذل" قال: قال: لم يذل فيحتاج إلى ولي ينصره.

"بحث آخر روائي و قرآني"

متعلق بقوله تعالى: "و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث" ثلاثة فصول:

1 -

إن للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء و الحزب و العشر و غير ذلك و الذي ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز اثنان منها و هما السورة و الآية فقد كرر الله سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله: "سورة أنزلناها": النور: 1 و قوله: "قل فأتوا بسورة مثله": يونس: 38 و غير ذلك.

و قد كثر استعماله في لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصحابة و الأئمة كثرة لا تدع ريبا في أن لها حقيقة في القرآن الكريم و هي مجموعة من الكلام الإلهي مبدوءة بالبسملة مسوقة لبيان غرض، و هو معرف للسورة مطرد غير منقوض إلا ببراءة و قد ورد 1 عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنها آيات من سورة الأنفال، و إلا بما ورد 2 عنهم (عليهم السلام) أن الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و أن الفيل و الإيلاف سورة واحدة.

و نظيره القول في الآية فقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الآية على قطعة من الكلام كقوله: "و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا": الأنفال: 2، و قوله: "كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا": حم السجدة: 3، و قد روي عن أم سلمة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقف على رءوس الآي و صح أن سورة الحمد سبع آيات، و روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أن سورة الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك مما يدل على وقوع العدد على الآيات في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و آله.

و الذي يعطيه التأمل في انقسام الكلام العربي إلى قطع و فصول بالطبع و خاصة فيما كان من الكلام مسجعا ثم التدبر فيما ورد عن النبي و آله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أعداد الآيات أن الآية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عما قبلها و عما بعدها.

و يختلف ذلك باختلاف السياقات و خاصة في السياقات المسجعة فربما كانت كلمة واحدة كقوله: "مدهامتان": الرحمن: 64 و ربما كانت كلمتين فصاعدا كلاما أو غير كلام كقوله: "الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان": الرحمن - 1 4 و قوله: "الحاقة ما الحاقة و ما أدريك ما الحاقة": الحاقة - 1 3 و ربما طالت كآية الدين من سورة البقرة آية: 282.

2 -

أما عدد السور القرآنية فهي مائة و أربع عشرة سورة على ما جرى عليه الرسم في المصحف الدائر بيننا و هو مطابق للمصحف العثماني، و قد تقدم كلام أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فيه، و أنهم لا يعدون براءة سورة مستقلة و يعدون الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و يعدون الفيل و الإيلاف سورة واحدة.

و أما عدد الآي فلم يرد فيه نص متواتر يعرف الآي و يميز كل آية من غيرها و لا شيء من الآحاد يعتمد عليه، و من أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم و هم المكيون و المدنيون و الشاميون و البصريون و الكوفيون.



فقد قال بعضهم: إن مجموع القرآن ستة آلاف آية، و قال بعضهم: ستة آلاف و مائتان و أربع آيات، و قيل: و أربع عشرة، و قيل: و تسع عشرة، و قيل: و خمس و عشرون، و قيل: و ست و ثلاثون.

و قد روى المكيون عددهم عن عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب، و للمدنيين عددان ينتهي أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع و شيبة بن نصاح، و الآخر إلى إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري و روى أهل الشام عددهم عن أبي الدرداء، و ينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجاج الجحدري، و يضاف عدد أهل الكوفة إلى حمزة و الكسائي و خلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب.

و بالجملة لما كانت الأعداد لا تنتهي إلى نص متواتر أو واحد يعبأ به و يجوز الركون إليه و يتميز به كل آية عن أختها لا ملزم للأخذ بشيء منها فما كان منها بينا ظاهر الأمر فهو و إلا فللباحث المتدبر أن يختار ما أدى إليه نظره.

و الذي روي عن علي (عليه السلام) من عدد الكوفيين معارض بأن البسملة غير معدودة في شيء من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أن المروي عنه (عليه السلام) و عن غيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن البسملة آية من القرآن و هي جزء من كل سورة افتتحت بها و لازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات.

و هذا هو الذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد هاهنا، و ذكر ما اتفقوا على عدده من السور القرآنية و هي أربعون سورة و ما اختلفوه في عدده أو في رءوس آية من السور و هي أربع و سبعون سورة و كذا ما اتفقوا على كونه آية تامة أو على عدم كونه آية مثل "الر" أينما وقع من القرآن و ما اختلف فيه، و على من أراد الاطلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانه.

3 -



في ترتيب السور نزولا: نقل في الإتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنبأنا عمرو بن هارون، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء. و كان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلى، ثم و الليل إذا يغشى، ثم و الفجر، ثم و الضحى، ثم أ لم نشرح، ثم و العصر، ثم و العاديات ثم إنا أعطيناك، ثم ألهيكم التكاثر، ثم أ رأيت الذي يكذب، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم أ لم تر كيف فعل ربك، ثم قل أعوذ برب الفلق، ثم قل أعوذ برب الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم و النجم، ثم عبس، ثم إنا أنزلناه في ليلة القدر، ثم و الشمس و ضحاها، ثم و السماء ذات البروج، ثم التين، ثم لإيلاف قريش، ثم القارعة، ثم لا أقسم بيوم القيامة، ثم ويل لكل همزة، ثم و المرسلات، ثم ق، ثم لا أقسم بهذا البلد، ثم و السماء و الطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص، ثم الأعراف، ثم قل أوحي ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، ثم طه، ثم الواقعة، ثم طسم الشعراء، ثم طس، ثم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة. ثم حمعسق، ثم حم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النحل، ثم إنا أرسلنا نوحا، ثم سورة إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنين، ثم تنزيل السجدة، ثم الطور، ثم تبارك الملك ثم الحاقة، ثم سأل، ثم عم يتساءلون، ثم النازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم ويل للمطففين فهذا ما أنزل الله بمكة. ثم أنزل الله بالمدينة سورة البقرة، ثم الأنفال، ثم آل عمران، ثم الأحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت، ثم الحديد، ثم القتال، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم الإنسان، ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إذا جاء نصر الله، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم التحريم، ثم الجمعة ثم التغابن، ثم الصف، ثم الفتح، ثم المائدة، ثم براءة.

و قد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب و ربما قيل: إنها نزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة.

و نقل فيه، عن البيهقي في دلائل النبوة، أنه روى بإسناده عن عكرمة و الحسين بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك و ساقا الحديث نحو حديث عطاء السابق عن ابن عباس إلا أنه قد سقط منه الفاتحة و الأعراف و كهيعص مما نزل بمكة.

و أيضا ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثم إذا السماء انشقت قبل إذا السماء انفطرت ثم ويل للمطففين قبل البقرة مما نزل بالمدينة ثم آل عمران قبل الأنفال ثم المائدة قبل الممتحنة.

ثم روى البيهقي بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك الحديث و هو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب و قد ذكرت فيه السور التي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكة.

و فيه، عن كتاب الناسخ و المنسوخ، لابن حصار: أن المدني باتفاق عشرون سورة، و المختلف فيه اثنا عشرة سورة و ما عدا ذلك مكي باتفاق انتهى.

و الذي اتفقوا عليه من المدنيات البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنفال و التوبة و النور و الأحزاب و سورة محمد و الفتح و الحجرات و الحديد و المجادلة و الحشر و الممتحنة و المنافقون و الجمعة و الطلاق و التحريم و النصر.

و ما اختلفوا في مكيته و مدنيته سورة الرعد و الرحمن و الجن و الصف و التغابن و المطففين و القدر و البينة و الزلزال و التوحيد و المعوذتان.

و للعلم بمكية السور و مدنيتها ثم ترتيب نزولها أثر هام في الأبحاث المتعلقة بالدعوة النبوية و سيرها الروحي و السياسي و المدني في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تحليل سيرته الشريفة، و الروايات - كما ترى - لا تصلح أن تنهض حجة معتمدا عليها في إثبات شيء من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار.

فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الآيات و الاستمداد بما يتحصل من القرائن و الأمارات الداخلية و الخارجية، و على ذلك نجري في هذا الكتاب و الله المستعان.

18 سورة الكهف - 1 - 8

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الحَْمْدُ للّهِ الّذِى أَنزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتَب وَ لَمْ يجْعَل لّهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شدِيداً مِّن لّدُنْهُ وَ يُبَشرَ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصلِحَتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً حَسناً (2) مّكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنذِرَ الّذِينَ قَالُوا اتخَذَ اللّهُ وَلَداً (4) مّا لهَُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لاَبَائهِمْ كَبرَت كلِمَةً تخْرُجُ مِنْ أَفْوَهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِباً (5) فَلَعَلّك بَخِعٌ نّفْسك عَلى ءَاثَرِهِمْ إِن لّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسفاً (6) إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلى الأَرْضِ زِينَةً لهَّا لِنَبْلُوَهُمْ أَيهُمْ أَحْسنُ عَمَلاً (7) وَ إِنّا لَجَعِلُونَ مَا عَلَيهَا صعِيداً جُرُزاً (8)

بيان

السورة تتضمن الدعوة إلى الاعتقاد الحق و العمل الصالح بالإنذار و التبشير كما يلوح إليه ما افتتحت به من الآيتين و ما اختتمت به من قوله تعالى: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا".

و فيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدل على ذلك تخصيص إنذار القائلين بالولد بالذكر ثانيا بعد ذكر مطلق الإنذار أولا أعني وقوع قوله: "و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا" بعد قوله: "لينذر بأسا شديدا من لدنه".

فوجه الكلام فيها إلى الوثنيين القائلين ببنوة الملائكة و الجن و المصلحين من البشر و النصارى القائلين ببنوة المسيح (عليه السلام) و لعل اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن عنهم أنهم قالوا: عزير ابن الله.

و غير بعيد أن يقال إن الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة التي لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه السورة و هي قصة أصحاب الكهف و قصة موسى و فتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين و قصة ذي القرنين ثم استفيد منها ما استفرغ في السورة من الكلام في نفي الشريك و الحث على تقوى الله سبحانه.

و السورة مكية على ما يستفاد من سياق آياتها و قد استثني منها قوله: "و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم" الآية و سيجيء ما فيه من الكلام.

قوله تعالى: "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا قيما" العوج بفتح العين و كسرها الانحراف، قال في المجمع،: العوج بالفتح فيما يرى كالقناة و الخشبة و بالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين و الكلام.

انتهي.

و لعل المراد بما يرى و ما لا يرى ما يسهل رؤيته و ما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات، بقوله: العوج - بالفتح - يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب و نحوه و العوج - بالكسر - يقال فيما يدرك بالفكر و البصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة و كالدين و المعاش انتهى.

فلا يرد عليه ما في قوله تعالى: "لا ترى فيها عوجا - بكسر العين - و لا أمتا": طه: 107 فافهم.

و قد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزل على عبده قرآنا لا انحراف فيه عن الحق بوجه و هو قيم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا و الآخرة فله كل الحمد فيما يترتب على نزوله من الخيرات و البركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أن ما في المجتمع البشري من الصلاح و السداد من بركات ما بثه الأنبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحق و الخلق الحسن و العمل الصالح و أن ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الأربعة عشر عما تقدمه من الأعصار من رقي المجتمع البشري و تقدمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاص و للدعوة النبوية فيه أياديها الجميلة فلله في ذلك الحمد كله.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم في تفسير الآية: يعني قولوا الحمد لله الذي نزل "إلخ" ليس على ما ينبغي.

و قوله: "و لم يجعل له عوجا" الضمير للكتاب و الجملة حال عن الكتاب و قوله: "قيما" حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة تنزيله كتابا موصوفا بأنه لا عوج له و أنه قيم على مصالح المجتمع البشري فالعناية متعلقة بالوصفين موزعة بينهما على السواء و هو مفاد كونهما حالين من الكتاب.

و قيل إن جملة "و لم يجعل له عوجا" معطوفة على الصلة و "قيما" حال من ضمير "له" و المعنى و الذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيما عوجا أو أن "قيما" منصوب بمقدر، و المعنى: و الذي لم يجعل له عوجا و جعله قيما، و لازم الوجهين انقسام العناية بين أصل النزول و بين كون الكتاب قيما لا عوج له.

و قد عرفت أنه خلاف ما يستفاد من السياق.

و قيل: إن في الآية تقديما و تأخيرا، و التقدير نزل الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و هو أردأ الوجوه.

و قد قدم نفي العوج على إثبات القيمومة لأن الأول كمال الكتاب في نفسه و الثاني تكميله لغيره و الكمال مقدم طبعا على التكميل.

و وقوع "عوجا" و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع جهاته فصيح في لفظه، بليغ في معناه، مصيب في هدايته، حي في حججه و براهينه، ناصح في أمره و نهيه، صادق فيما يقصه من قصصه و أخباره، فاصل فيما يقضي به محفوظ من مخالطة الشياطين، لا اختلاف فيه، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

و القيم هو الذي يقوم بمصلحة الشيء و تدبير أمره كقيم الدار و هو القائم بمصالحها و يرجع إليه في أمورها، و الكتاب إنما يكون قيما بما يشتمل عليه من المعاني، و الذي يتضمنه القرآن هو الاعتقاد الحق و العمل الصالح كما قال تعالى: "يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم": الأحقاف: 30، و هذا هو الدين و قد وصف تعالى دينه في مواضع من كتابه بأنه قيم قال: "فأقم وجهك للدين القيم": الروم: 43 و على هذا فتوصيف الكتاب بالقيم لما يتضمنه من الدين القيم على مصالح العالم الإنساني في دنياهم و أخراهم.

و ربما عكس الأمر فأخذ القيمومة وصفا للكتاب ثم للدين من جهته كما في قوله تعالى: "و ذلك دين القيمة": البينة: 5 فالظاهر أن معناه دين الكتب القيمة و هو نوع تجوز.

و قيل: المراد بالقيم المستقيم المعتدل الذي لا إفراط فيه و لا تفريط، و قيل: القيم المدبر لسائر الكتب السماوية يصدقها و يحفظها و ينسخ شرائعها و تعقيب الكلمة بقوله: "لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين" إلخ يؤيد ما قدمناه.

قوله تعالى: "لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات" الآية أي لينذر الكافرين عذابا شديدا صادرا من عند الله كذا قيل و الظاهر بقرينة تقييد المؤمنين المبشرين بقوله: "الذين يعملون الصالحات" إن التقدير لينذر الذين لا يعملون الصالحات أعم ممن لا يؤمن أصلا أو يؤمن و يفسق في عمله.

و الجملة على أي حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيما قيما إذ لو لا استقامته في نفسه و قيمومته على غيره لم يستقم إنذار و لا تبشير و هو ظاهر.

و المراد بالأجر الحسن الجنة بقرينة قوله في الآية التالية: "ماكثين فيه أبدا" و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا" و هم عامة الوثنيين القائلين بأن الملائكة أبناء أو بنات له و ربما قالوا بذلك في الجن و المصلحين من البشر و النصارى القائلين بأن المسيح ابن الله و قد نسب القرآن إلى اليهود أنهم قالوا: عزير ابن الله.

و ذكر إنذارهم خاصة ثانيا بعد ذكره على وجه العموم أولا بقوله: "لينذر بأسا شديدا من لدنه" لمزيد الاهتمام بشأنهم.

قوله تعالى: "ما لهم به من علم و لا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم" كانت عامتهم يريدون بقولهم: اتخذ الله ولدا حقيقة التوليد كما يدل عليه قوله أنى يكون له ولد و لم تكن له صاحبة و خلق كل شيء": الأنعام: 101.



و قد رد سبحانه قولهم عليهم أولا بأنه قول منهم جهلا بغير علم و ثانيا بقوله في آخر الآية: "إن يقولون إلا كذبا".

و كان قوله: "ما لهم به من علم" شاملا لهم جميعا من آباء و أبناء لكنهم لما كانوا يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إن هذه ملة آبائنا و هم أعلم منا و ليس لنا إلا أن نتبعهم و نقتدي بهم فرق تعالى بينهم و بين آبائهم فنفى العلم عنهم أولا و عن آبائهم الذين كانوا يركنون إليهم ثانيا ليكون إبطالا لقولهم و لحجتهم جميعا.

و قوله: "كبرت كلمة تخرج من أفواههم" ذم لهم و إعظام لقولهم: اتخذ الله ولدا لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك و التجسم و التركب و الحاجة إلى المعين و الخليفة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

و ربما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على قربه منه و اختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن: عزير ابن الله، و قولهم: نحن أبناء الله و أحباؤه، و كذا وقع في كلام عدة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض الخلق الأول بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الأب و إطلاق الزوج و الصاحبة على وسائط الصدور و الإيجاد كما أن زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فأطلق على بعض الملائكة من الخلق الأول الزوج و على بعض آخر منهم الابن أو البنت.

و هذان الإطلاقان و إن لم يشتملا على مثل ما اشتمل عليه الإطلاق الأول لكونهما من التجوز بعناية التشريف و نحوه لكنهما ممنوعان شرعا و كفى ملاكا لحرمتهما سوقهما و سوق أمثالهما عامة الناس إلى الشقاء الدائم و الهلاك الخالد.

قوله تعالى: "فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا" البخوع و البخع القتل و الإهلاك و الآثار علائم أقدام المارة على الأرض، و الأسف شدة الحزن و المراد بهذا الحديث القرآن.

و الآية و اللتان بعدها في مقام تعزية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تسليته و تطييب نفسه و الفاء لتفريع الكلام على كفرهم و جحدهم بآيات الله المفهوم من الآيات السابقة و المعنى يرجى منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن و انصرافهم عنك من شدة الحزن، و قد دل على إعراضهم و توليهم بقوله: على آثارهم و هو من الاستعارة.

قوله تعالى: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا" إلى آخر الآيتين الزينة الأمر الجميل الذي ينضم إلى الشيء فيفيده جمالا يرغب إليه لأجله و الصعيد ظهر الأرض و الجرز على ما في المجمع، الأرض التي لا تنبت كأنها تأكل النبت أكلا.

و لقد أتى في الآيتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الإنسان الأرضية و هو أن النفوس الإنسانية - و هي في أصل جوهرها علوية شريفة - ما كانت لتميل إلى الأرض و الحياة عليها و قد قدر الله أن يكون كمالها و سعادتها الخالدة بالاعتقاد الحق و العمل الصالح فاحتالت العناية الإلهية إلى توقيفها موقف الاعتقاد و العمل و إيصالها إلى محك التصفية و التطهير و إسكانها الأرض إلى أجل معلوم بإلقاء التعلق و الارتباط بينها و بين ما على الأرض من أمتعة الحياة من مال و ولد و جاه و تحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الأرض و هو جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للأرض و حلية تتحلى بها لكونه عليها فتعلقت نفوسهم على الأرض بسببه و اطمأنت إليها.

فإذا انقضى الأجل الذي أجله الله تعالى لمكثهم في الأرض بتحقق ما أراده من البلاء و الامتحان سلب الله ما بينهم و بين ما على الأرض من التعلق و محى ما له من الجمال و الزينة و صار كالصعيد الجرز الذي لا نبت فيه و لا نضارة عليه و نودي فيهم بالرحيل و هم فرادى كما خلقهم الله تعالى أول مرة.

و هذه سنة الله تعالى في خلق الإنسان و إسكانه الأرض و تزيينه ما عليها له ليمتحنه بذلك و يتميز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل و الفرد بعد الفرد فيزين له ما على وجه الأرض من أمتعة الحياة ثم يخليه و اختياره ليختبرهم بذلك ثم إذا تم الاختبار قطع ما بينه و بين زخارف الدنيا المزينة و نقله من دار العمل إلى دار الجزاء قال تعالى: "و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم - إلى أن قال - و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون": الأنعام: 94.

فمحصل معنى الآية لا تتحرج و لا تأسف عليهم إذ أعرضوا عن دعوتك بالإنذار و التبشير و اشتغلوا بالتمتع من أمتعة الحياة فما هم بسابقين و لا معجزين و إنما حقيقة حياتهم هذه نوع تسخير إلهي أسكناهم الأرض ثم جعلنا ما على الأرض زينة يفتتن الناظر إليها لتتعلق به نفوسهم فنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون هذا الذي زين لهم بعينه كالصعيد الجرز الذي ليس فيه نبت و لا شيء مما يرغب فيه النفس فالله سبحانه لم يشأ منهم الإيمان جميعا حتى يكون مغلوبا بكفرهم بالكتاب و تماديهم في الضلال و تبخع أنت نفسك على آثارهم أسفا و إنما أراد بهم الابتلاء و الامتحان و هو سبحانه الغالب فيما شاء و أراد.

و قد ظهر بما تقدم أن قوله: "و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا" من الاستعارة بالكناية، و المراد به قطع رابطة التعلق بين الإنسان و بين أمتعة الحياة الدنيا مما على الأرض.

و ربما قيل: إن المراد به حقيقة معنى الصعيد الجرز، و المعنى أنا سنعيد ما على الأرض من زينة ترابا مستويا بالأرض، و نجعله صعيدا أملس لا نبات فيه و لا شيء عليه.

و قوله: "ما عليها" من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر و كان من طبع الكلام أن يقال: و إنا لجاعلوه، و لعل النكتة مزيد العناية بوصف كونه على الأرض.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن البرقي رفعه عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): لينذر بأسا شديدا من لدنه" قال: البأس الشديد علي (عليه السلام) و هو من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتل معه عدوه فذلك قوله: "لينذر بأسا شديدا من لدنه": أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): و هو من التطبيق و ليس بتفسير.

و في تفسير القمي، في حديث أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "فلعلك باخع نفسك "يقول: قاتل نفسك على آثارهم، و أما أسفا يقول حزنا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم في التاريخ، عن ابن عمر قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية "لنبلوهم أيهم أحسن عملا" فقلت ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا و أورع عن محارم الله و أسرعكم في طاعة الله.

و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "صعيدا جرزا" قال: لا نبات فيها.

18 سورة الكهف - 9 - 26

أَمْ حَسِبْت أَنّ أَصحَب الْكَهْفِ وَ الرّقِيمِ كانُوا مِنْ ءَايَتِنَا عجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبّنَا ءَاتِنَا مِن لّدُنك رَحْمَةً وَ هَيئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشداً (10) فَضرَبْنَا عَلى ءَاذَانِهِمْ فى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمّ بَعَثْنَهُمْ لِنَعْلَمَ أَى الحِْزْبَينِ أَحْصى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) نحْنُ نَقُص عَلَيْك نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنَهُمْ هُدًى (13) وَ رَبَطنَا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ لَن نّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهاً لّقَدْ قُلْنَا إِذاً شططاً (14) هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لّوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسلْطنِ بَينٍ فَمَنْ أَظلَمُ مِمّنِ افْترَى عَلى اللّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اعْتزَلْتُمُوهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ إِلا اللّهَ فَأْوُا إِلى الْكَهْفِ يَنشرْ لَكمْ رَبّكُم مِّن رّحْمَتِهِ وَ يُهَيئْ لَكم مِّنْ أَمْرِكم مِّرْفَقاً (16) وَ تَرَى الشمْس إِذَا طلَعَت تّزَوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَات الْيَمِينِ وَ إِذَا غَرَبَت تّقْرِضهُمْ ذَات الشمَالِ وَ هُمْ فى فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِك مِنْ ءَايَتِ اللّهِ مَن يهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَن يُضلِلْ فَلَن تجِدَ لَهُ وَلِيّا مّرْشِداً (17) وَ تحْسبهُمْ أَيْقَاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذَات الْيَمِينِ وَ ذَات الشمَالِ وَ كلْبُهُم بَسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطلَعْت عَلَيهِمْ لَوَلّيْت مِنْهُمْ فِرَاراً وَ لَمُلِئْت مِنهُمْ رُعْباً (18) وَ كذَلِك بَعَثْنَهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنهُمْ قَالَ قَائلٌ مِّنهُمْ كمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْض يَوْمٍ قَالُوا رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظرْ أَيهَا أَزْكى طعَاماً فَلْيَأْتِكم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَ لْيَتَلَطف وَ لا يُشعِرَنّ بِكمْ أَحَداً (19) إِنهُمْ إِن يَظهَرُوا عَلَيْكمْ يَرْجُمُوكمْ أَوْ يُعِيدُوكمْ فى مِلّتِهِمْ وَ لَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَ كذَلِك أَعْثرْنَا عَلَيهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَ أَنّ الساعَةَ لا رَيْب فِيهَا إِذْ يَتَنَزَعُونَ بَيْنهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيهِم بُنْيَناً رّبّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتّخِذَنّ عَلَيهِم مّسجِداً (21) سيَقُولُونَ ثَلَثَةٌ رّابِعُهُمْ كلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسةٌ سادِسهُمْ كلْبهُمْ رَجْمَا بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سبْعَةٌ وَ ثَامِنهُمْ كلْبهُمْ قُل رّبى أَعْلَمُ بِعِدّتهِم مّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظهِراً وَ لا تَستَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً (22) وَ لا تَقُولَنّ لِشاىءٍ إِنى فَاعِلٌ ذَلِك غَداً (23) إِلا أَن يَشاءَ اللّهُ وَ اذْكُر رّبّك إِذَا نَسِيت وَ قُلْ عَسى أَن يهْدِيَنِ رَبى لأَقْرَب مِنْ هَذَا رَشداً (24) وَ لَبِثُوا فى كَهْفِهِمْ ثَلَث مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسعاً (25) قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلىٍّ وَ لا يُشرِك فى حُكْمِهِ أَحَداً (26)

بيان

الآيات تذكر قصة أصحاب الكهف و هي أحد الأمور الثلاثة التي أشارت اليهود على قريش أن تسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها و تختبر بها صدقه في دعوى النبوة: قصة أصحاب الكهف و قصة موسى و فتاه و قصة ذي القرنين على ما وردت به الرواية غير أن هذه القصة لم تصدر بما يدل على تعلق السؤال بها كما صدرت به قصة ذي القرنين: "يسألونك عن ذي القرنين" الآية و إن كان في آخرها بعض ما يشعر بذلك كقوله: "و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا" على ما سيجيء.

و سياق الآيات الثلاث التي افتتحت بها القصة مشعر بأن قصة الكهف كانت معلومة إجمالا قبل نزول الوحي بذكر القصة و خاصة سياق قوله: "أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا و أن الذي كشف عنه الوحي تفصيل قصتهم الآخذ من قوله: "نحن نقص عليك نبأهم بالحق" إلى آخر الآيات.

و وجه اتصال آيات القصة بما تقدم أنه يشير بذكر قصتهم و نفي كونهم عجبا من آيات الله أن أمر جعله تعالى ما على الأرض زينة لها يتعلق بها الإنسان و يطمئن إليها مكبا عليها منصرفا غافلا عن غيرها لغرض البلاء و الامتحان ثم جعل ما عليها بعد أيام قلائل صعيدا جرزا لا يظهر للإنسان إلا سدى و سرابا ليس ذلك كله إلا آية إلهية هي نظيرة ما جرى على أصحاب الكهف حين سلط الله عليهم النوم في فجوة من الكهف ثلاث مائة سنين شمسية ثم لما بعثهم لم يحسبوا مكثهم ذلك إلا مكث يوم أو بعض يوم.

فمكث كل إنسان في الدنيا و اشتغاله بزخارفها و زيناتها و تولهه إليها ذاهلا عما سواها آية تضاهي في معناها آية أصحاب الكهف و سيبعث الله الناس من هذه الرقدة فيسألهم "كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم": المؤمنون: 113 "كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار": الأحقاف: 35 فما آية أصحاب الكهف ببدع عجيب من بين الآيات بل هي متكررة جارية ما جرت الأيام و الليالي على الإنسان.

فكأنه تعالى لما قال: "فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا" إلى تمام ثلاث آيات قال مخاطبا لنبيه: فكأنك ما تنبهت أن اشتغالهم بالدنيا و عدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلقهم بزينة الأرض آية إلهية تشابه آية مكث أصحاب الكهف في كهفهم ثم انبعاثهم و لذلك حزنت و كدت تقتل نفسك أسفا بل حسبت أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا بدعا عجبا من النوادر في هذا الباب.

و إنما لم يصرح بهذا المعنى صونا لمقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن نسبة الغفلة و الذهول إليه و لأن الكناية أبلغ من التصريح.

هذا ما يعطيه التدبر في وجه اتصال القصة و على هذا النمط يجري السياق في اتصال ما يتلو هذه القصة من مثل رجلين لأحدهما جنتان و قصة موسى و فتاه و سيجيء بيانه و قد ذكر في اتصال القصة وجوه أخر غير وجيهة لا جدوى في نقلها.



قوله تعالى: "أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا" الحسبان هو الظن، و الكهف هو المغارة في الجبل إلا أنه أوسع منها فإذا صغر سمي غارا و الرقيم من الرقم و هو الكتابة و الخط فهو في الأصل فعيل بمعنى المفعول كالجريح و القتيل بمعنى المجروح و المقتول، و العجب مصدر بمعنى التعجب أريد به معنى الوصف مبالغة.

و ظاهر سياق القصة أن أصحاب الكهف و الرقيم جماعة بأعيانهم و القصة قصتهم جميعا فهم المسمون أصحاب الكهف و أصحاب الرقيم أما تسميتهم أصحاب الكهف فلدخولهم الكهف و وقوع ما جرى عليهم فيه.

و أما تسميتهم أصحاب الرقيم فقد قيل: إن قصتهم كانت منقوشة في لوح منصوب هناك أو محفوظ في خزانة الملوك فبذلك سموا أصحاب الرقيم: و قيل: إن الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو الوادي الذي فيه الجبل أو البلد الذي خرجوا منه إلى الكهف أو الكلب الذي كان معهم أقوال خمسة، و سيأتي في الكلام على قصتهم ما يؤيد القول الأول.

و قيل: إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف و قصتهم غير قصتهم ذكرهم الله مع أصحاب الكهف و لم يذكر قصتهم و قد رووا لهم قصة سنشير إليها في البحث الروائي الآتي.

و هو بعيد جدا فما كان الله ليشير في بليغ كلامه إلى قصة طائفتين ثم يفصل القول في إحدى القصتين و لا يتعرض للأخرى لا إجمالا و لا تفصيلا على أن ما أوردوه من قصة أصحاب الرقيم لا يلائم السياق السابق المستدعي لذكر قصة أصحاب الكهف.

و قد تبين مما تقدم في وجه اتصال القصة أن معنى الآية: بل ظننت أن أصحاب الكهف و الرقيم - و قد أنامهم الله مئات من السنين ثم أيقظهم فحسبوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم - كانوا من آياتنا آية عجيبة كل العجب؟ لا و ليسوا بعجب و ما يجري على عامة الإنسان من افتتانه بزينة الأرض و غفلته عن أمر المعاد ثم بعثه و هو يستقل اللبث في الدنيا آية جارية تضاهي آية الكهف.

و ظاهر السياق - كما تقدمت الإشارة إليه - أن القصة كانت معلومة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إجمالا عند نزول القصة و إنما العناية متعلقة بالإخبار عن تفصيلها، و يؤيد ذلك تعقيب الآية بالآيات الثلاث المتضمنة لإجمال القصة حيث إنها تذكر إجمال القصة المؤدي إلى عدهم آية عجيبة نادرة في بابها.

قوله تعالى: "إذ أوى الفتية إلى الكهف" إلى آخر الآية الأوي الرجوع و لا كل رجوع بل رجوع الإنسان أو الحيوان إلى محل يستقر فيه أو ليستقر فيه و الفتية جمع سماعي لفتى و الفتى الشاب و لا تخلو الكلمة من شائبة مدح.

و التهيئة الإعداد قال البيضاوي: و أصل التهيئة إحداث هيأة الشيء انتهى و الرشد بفتحتين أو الضم فالسكون الاهتداء إلى المطلوب، قال الراغب: الرشد و الرشد خلاف الغي يستعمل استعمال الهداية.

انتهي.

و قوله: "فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة" تفريع لدعائهم على أويهم كأنهم اضطروا لفقد القوة و انقطاع الحيلة إلى المبادرة إلى المسألة، و يؤيده قولهم: "من لدنك" فلو لا أن المذاهب أعيتهم و الأسباب تقطعت بهم و اليأس أحاط بهم ما قيدوا الرحمة المسئولة أن تكون من لدنه تعالى بل قالوا: آتنا رحمة كقول غيرهم "ربنا آتنا في الدنيا حسنة": البقرة: 201 "ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك": آل عمران: 194 فالمراد بالرحمة المسئولة التأييد الإلهي إذ لا مؤيد غيره.



و يمكن أن يكون المراد بالرحمة المسئولة من لدنه بعض المواهب و النعم المختصة به تعالى كالهداية التي يصرح في مواضع من كلامه بأنها منه خاصة، و يشعر به التقييد بقوله "من لدنك"، و يؤيده ورود نظيره في دعاء الراسخين في العلم المنقول في قوله: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة": آل عمران: 8 فما سألوا إلا الهداية.

و قوله: "و هيىء لنا من أمرنا رشدا" المراد من أمرهم الشأن الذي يخصهم و هم عليه و قد هربوا من قوم يتبعون المؤمنين و يسفكون دماءهم و يكرهونهم على عبادة غير الله، و التجئوا إلى كهف و هم لا يدرون ما ذا سيجري عليهم؟ و لا يهتدون أي سبيل للنجاة يسلكون؟ و من هنا يظهر أن المراد بالرشد الاهتداء إلى ما فيه نجاتهم.

فالجملة أعني قوله: "و هيىء لنا من أمرنا رشدا" على أول الاحتمالين السابقين في معنى الرحمة عطف تفسير على قوله: "آتنا من لدنك رحمة" و على ثانيهما مسألة بعد مسألة.

قوله تعالى: "فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا" قال في الكشاف، أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع و لا يستنبه فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة.

انتهي.

و قال في المجمع،: و معنى ضربنا على آذانهم سلطنا عليهم النوم، و هو من الكلام البالغ في الفصاحة يقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرف، قال الأسود بن يعفر و قد كان ضريرا: و من الحوادث لا أبالك أنني.

ضربت علي الأرض بالأسداد.

و قال: هذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ

انتهي.

و ما ذكره من المعنى أبلغ مما ذكره الزمخشري.

و هنا معنى ثالث و إن لم يذكروه: و هو أن يكون إشارة إلى ما تصنعه النساء عند إنامة الصبي غالبا من الضرب على أذنه بدق الأكف أو الأنامل عليها دقا نعيما لتتجمع حاسته عليه فيأخذه النوم بذلك فالجملة كناية عن إنامتهم سنين معدودة بشفقة و حنان كما تفعل الأم المرضع بطفلها الرضيع.

و قوله: "سنين عددا" ظرف للضرب، و العدد مصدر كالعد بمعنى المعدود فالمعنى سنين معدودة، و قيل بحذف المضاف و التقدير ذوات عدد.

و قد قال في الكشاف، إن توصيف السنين بالعدد يحتمل أن يراد به التكثير أو التقليل لأن الكثير قليل عنده كقوله: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، و قال الزجاج إن الشيء إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعد و إذا كثر احتاج إلى أن يعد.

انتهى ملخصا.

و ربما كانت العناية في التوصيف بالعدد هي أن الشيء إذا بلغ في الكثرة عسر عده فلم يعد عادة و كان التوصيف بالعدد أمارة كونه قليلا يقبل العد بسهولة، قال تعالى: "و شروه بثمن بخس دراهم معدودة": يوسف: 20 أي قليلة.

و كون الغرض من التوصيف بالعدد هو التقليل هو الملائم للسياق على ما مر فإن الكلام مسرود لنفي كون قصتهم عجبا و إنما يناسبه تقليل سني لبثهم لا تكثيرها - و معنى الآية ظاهر و قد دل فيها على كونهم نائمين في الكهف طول المدة لا ميتين.

قوله تعالى: "ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا" المراد بالبعث هو الإيقاظ دون الإحياء بقرينة الآية السابقة، و قال الراغب: الحزب جماعة فيها غلظ انتهى.



و قال: الأمد و الأبد يتقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود و لا يتقيد لا يقال: أبد كذا، و الأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق، و قد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا.

و الفرق بين الأمد و الزمان أن الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عام في المبدإ و الغاية، و لذلك قال بعضهم: المدى و الأمد يتقاربان.

انتهي.

و المراد بالعلم العلم الفعلي و هو ظهور الشيء و حضوره بوجوده الخاص عند الله، و قد كثر ورود العلم بهذا المعنى في القرآن كقوله: "ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب": الحديد: 25، و قوله: "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم": الجن: 28 و إليه يرجع قول بعضهم في تفسيره: أن المعنى ليظهر معلومنا على ما علمناه.

و قوله: "لنعلم أي الحزبين أحصى" إلخ تعليل للبعث و اللام للغاية و المراد بالحزبين الطائفتان من أصحاب الكهف حين سأل بعضهم بعضا بعد البعث: قائلا كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم على ما يفيده قوله تعالى في الآيات التالية: "و كذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم" إلخ.

و أما قول القائل: إن المراد بالحزبين الطائفتان من قومهم المؤمنون و الكافرون كأنهم اختلفوا في أمد لبثهم في الكهف بين مصيب في إحصائه و مخطىء فبعثهم الله تعالى ليبين ذلك و يظهر، و المعنى أيقظناهم ليظهر أي الطائفتين المختلفتين من المؤمنين و الكافرين في أمد لبثهم مصيبة في قولها، فبعيد.

و قوله: "أحصى لما لبثوا أمدا فعل ماض من الإحصاء، و "أمدا" مفعوله و الظاهر أن "لما لبثوا" قيد لقوله "أمدا" و ما مصدرية أي أي الحزبين عد أمد لبثهم و قيل: أحصى اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال و أفلس من ابن المذلق 1، و أمدا منصوب بفعل يدل عليه "أحصى" و لا يخلو من تكلف، و قيل غير ذلك.

و معنى الآيات الثلاث أعني قوله: "إذ أوى الفتية إلى قوله: "أمدا" إذ رجع الشبان إلى الكهف فسألوا عند ذلك ربهم قائلين: ربنا هب لنا من لدنك ما ننجو به مما يهددنا بالتخيير بين عبادة غيرك و بين القتل و أعد لنا من أمرنا هدى نهتدي به إلى النجاة فأنمناهم في الكهف سنين معدودة ثم أيقظناهم ليتبين أي الحزبين عد أمدا للبثهم.

و الآيات الثلاث - كما ترى - تذكر إجمال قصتهم تشير بذلك إلى جهة كونهم من آيات الله و غرابة أمرهم، تشير الآية الأولى إلى دخولهم الكهف و مسألتهم للنجاة، و الثانية إلى نومهم فيه سنين عددا، و الثالثة إلى تيقظهم و انتباههم و اختلافهم في تقدير زمان لبثهم.

فلإجمال القصة أركان ثلاثة تتضمن كل واحدة من الآيات الثلاث واحدا منها و على هذا النمط تجري الآيات التالية المتضمنة لتفصيل القصة غير أنها تضيف إلى ذلك بعض ما جرى بعد ظهور أمرهم و تبين حالهم للناس، و هو الذي يشير إليه قوله: "و كذلك أعثرنا عليهم" إلى آخر آيات القصة.

قوله تعالى: "نحن نقص عليك نبأهم بالحق" إلى آخر الآية.

شروع في ذكر ما يهم من خصوصيات قصتهم تفصيلا، و قوله: "إنهم فتية آمنوا بربهم أي آمنوا إيمانا مرضيا لربهم و لو لا ذلك لم ينسبه إليهم قطعا.



و قوله: "و زدناهم هدى" الهدى بعد أصل الإيمان ملازم لارتقاء درجة الإيمان الذي فيه اهتداء الإنسان إلى كل ما ينتهي إلى رضوان الله قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به": الحديد: 28.

قوله تعالى: "و ربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا" إلى آخر الآيات الثلاث الربط هو الشد، و الربط على القلوب كناية عن سلب القلق و الاضطراب عنها، و الشطط الخروج عن الحد و التجاوز عن الحق، و السلطان الحجة و البرهان.

و الآيات الثلاث تحكي الشطر الأول من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنية و مخاصمتهم "إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا".

و قد أتوا بكلام مملوء حكمة و فهما راموا به إبطال ربوبية أرباب الأصنام من الملائكة و الجن و المصلحين من البشر الذين رامت الفلسفة الوثنية إثبات ألوهيتهم و ربوبيتهم دون نفس الأصنام التي هي تماثيل و صور لأولئك الأرباب تدعوها عامتهم آلهة و أربابا، و من الشاهد على ذلك قوله: "عليهم" حيث أرجع إليهم ضمير "هم" المختص بأولى العقل.

فبدءوا بإثبات توحيده بقولهم: "ربنا رب السماوات و الأرض" فأسندوا ربوبية الكل إلى واحد لا شريك له، و الوثنية تثبت لكل نوع من أنواع الخلقية إلها و ربا كرب السماء و رب الأرض و رب الإنسان.

ثم أكدوا ذلك بقولهم: "لن ندعوا من دونه إلها و من فائدته نفي الآلهة الذين تثبتهم الوثنية فوق أرباب الأنواع كالعقول الكلية التي تعبده الصابئة و برهما و سيوا و وشنو الذين تعبدهم البراهمة و البوذية و أكدوه ثانيا بقولهم: "لقد قلنا إذا شططا" فدلوا على أن دعوة غيره من التجاوز عن الحد بالغلو في حق المخلوق برفعه إلى درجة الخالق.

ثم كروا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتخاذهم آلهة فقالوا: "هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين" فردوا قولهم بأنهم لا برهان لهم على ما يدعونه يدل عليه دلالة بينة.

و ما استدلوا به من قولهم: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به إدراك خلقه فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة و لا التقرب إليه بالعبودية فلا يبقى لنا إلا أن نعبد بعض الموجودات الشريفة من عباده المقربين ليقربونا إليه زلفى مردود إليهم أما عدم إحاطة الإدراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر و بين من يعبدونه من العباد المقربين، و الجميع منا و منهم يعرفونه بأسمائه و صفاته و آثاره كل على قدر طاقته فله أن يتوجه إليه بالعبادة على قدر معرفته.

على أن جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق و الرزق و الملك و التدبير له وحده و لا يملك غيره شيئا من ذلك فله أن يعبد و ليس لغيره ذلك.

ثم أردفوا قولهم: "لو لا يأتون عليهم بسلطان بين" بقولهم "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا" و هو من تمام الحجة الرادة لقولهم، و معناه أن عليهم أن يقيموا برهانا قاطعا على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله و هو افتراء الكذب عليه تعالى، و الافتراء ظلم و الظلم على الله أعظم الظلم.



هذا فقد دلوا بكلامهم هذا أنهم كانوا علماء بالله أولي بصيرة في دينهم، و صدقوا قوله تعالى "و زدناهم هدى" و في الكلام على ما به من الإيجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها فقوله تعالى: "و ربطنا على قلوبهم" يدل على أن قولهم: "ربنا رب السماوات و الأرض" إلخ لم يكن بإسرار النجوى و في خلإ من عبدة الأوثان بل كان بإعلان القول و الإجهار به في ظرف تذوب منه القلوب و ترتاع النفوس و تقشعر الجلود في ملإ معاند يسفك الدماء و يعذب و يفتن.

و قوله: "لن ندعوا من دونه إلها" بعد قوله "ربنا رب السماوات و الأرض" - و هو جحد و إنكار - فيه إشعار و تلويح إلى أنه كان هناك تكليف إجباري بعبادة الأوثان و دعاء غير الله.

و قوله: "إذ قاموا فقالوا" إلخ يشير إلى أنهم في بادىء قولهم كانوا في مجلس يصدر عنه الأمر بعبادة الأوثان و الإجبار عليها و النهي عن عبادة الله و السياسة المنتحلية بالقتل و العذاب كمجلس الملك أو ملئه أو ملإ عام كذلك فقاموا و أعلنوا مخالفتهم و خرجوا و اعتزلوا القوم و هم في خطر عظيم يهددهم و يهجم عليهم من كل جانب كما يدل عليه قولهم: "و إذ اعتزلتموهم و ما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف.

و هذا يؤيد ما وردت به الرواية - و سيجيء الخبر - أن ستة منهم كانوا من خواص الملك يستشيرهم في أموره فقاموا من مجلس و أعلنوا التوحيد و نفي الشريك عنه تعالى.

و لا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنهم كانوا يسرون إيمانهم و يعملون بالتقية لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثم يفاجئوا القوم بإعلان الإيمان ثم يعتزلوهم من غير مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالإيمان و إلا قتلوا بلا شك.

و ربما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحق و قولهم: "ربنا رب السماوات و الأرض" إلخ قولا منهم في أنفسهم و قولهم: "و إذ اعتزلتموهم" إلخ قولا منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله، و جميع ما نقل من أقوالهم إنما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة و تنحوا عن القوم و على الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنهم لم يخافوا عاقبة الخروج و الهرب من المدينة و هجرة القوم لكن الأظهر هو الوجه الأول.

قوله تعالى: "و إذ اعتزلتموهم و ما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف" إلى آخر الآية الاعتزال و التعزل التنحي عن أمر، و النشر البسط، و المرفق بكسر الميم و فتح الفاء و بالعكس و بفتحهما المعاملة بلطف.

هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس و اعتزالهم إياهم و ما يعبدون من دون الله و تنحيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف و يتستروا فيه من أعداء الدين.

و قد تفرسوا بهدى إلهي أنهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه و رحمته بما فيه نجاتهم من تحكم القوم و ظلمهم و الدليل على ذلك قولهم بالجزم: "فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته" إلخ و لم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعل.

و هذان اللذان تفرسوا بهما من نشر الرحمة و تهيئة المرفق هما اللذان سألوهما بعد دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله - "ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيىء لنا من أمرنا رشدا".

و الاستثناء في قوله: "و ما يعبدون إلا الله" استثناء منقطع فإن الوثنيين لم يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أولا في المستثنى منه فيكون متصلا فقول بعضهم: إنهم كانوا يعبدون الله و يعبدون الأصنام كسائر المشركين.



و كذا قول بعض آخر: يجوز أنه كان فيهم من يعبد الله مع عبادة الأصنام فيكون الاستثناء متصلا في غير محله، إذ لم يعهد من الوثنيين عبادة الله سبحانه مع عبادة الأصنام، و فلسفتهم لا تجيز ذلك، و قد أشرنا إلى حجتهم في ذلك آنفا.

قوله تعالى: "و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال" إلى آخر الآيتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل و القرض القطع، و الفجوة المتسع من الأرض و ساحة الدار و المراد بذات اليمين و ذات الشمال الجهة التي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال و هما جهتا اليمين و الشمال.

و هاتان الآيتان تمثلان الكهف و مستقرهم منه و منظرهم و ما يتقلب عليهم من الحال أيام لبثهم فيه و هم رقود و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه سامع لا بما أنه هو، و هذا شائع في الكلام، و الخطاب على هذا النمط يعم كل سامع من غير أن يختص بمخاطب خاص.

فقوله: "و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال و هم في فجوة منه" يصف موقع الكهف و موقعهم فيه و هم نائمون و أما إنامتهم فيه بعد الأوي إليه و مدة لبثهم فيه فقد اكتفي في ذلك بما أشير إليه في الآيات السابقة من إنامتهم و لبثهم و ما سيأتي من قوله: "و لبثوا في كهفهم" "إلخ" إيثارا للإيجاز.

و المعنى: و ترى أنت و كل راء يفرض اطلاعه عليهم و هم في الكهف يرى الشمس إذا طلعت تتزاور و تتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، و إذا غربت تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه و هم في متسع من الكهف لا تناله الشمس.

و قد أشار سبحانه بذلك إلى أن الكهف لم يكن شرقيا و لا غربيا لا يقع عليه شعاع الشمس إلا في أحد الوقتين بل كان قطبيا يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس على أحد جانبيه من داخل طلوعا و غروبا، و لا يقع عليهم لأنهم كانوا في متسع منه فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حر الشمس أو يغير ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا مرتاحين في نومتهم مستفيدين من روح الهواء المتحول عليهم بالشروق و الغروب و هم في فجوة منه، و لعل تنكير فجوة للدلالة على وصف محذوف و التقدير و هم في فجوة منه لا يصيبهم فيه شعاعها.

و قد ذكر المفسرون أن الكهف كان بابه مقابلا للقطب الشمالي يسامت بنات النعش، و الجانب الأيمن منه ما يلي المغرب و يقع عليه شعاع الشمس عند طلوعها و الجانب الأيسر منه ما يلي المشرق و تناله الشمس عند غروبها، و هذا مبني على أخذ جهتي اليمين و الشمال للكهف باعتبار الداخل فيه، و كأن ذلك منهم تعويلا على ما هو المشهور أن هذا الكهف واقع في بلدة إفسوس من بلاد الروم الشرقي فإن الكهف الذي هناك قطبي يقابل بابه القطب الشمالي متمايلا قليلا إلى المشرق على ما يقال.



و المعمول في اعتبار اليمين و اليسار لمثل الكهف و البيت و الفسطاط و كل ما له باب أن يؤخذا باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه فإن الإنسان أول ما أحس الحاجة إلى اعتبار الجهات أخذها لنفسه فسمى ما يلي رأسه و قدمه علوا و سفلا و فوق و تحت، و سمى ما يلي وجهه قدام و ما يقابله خلف، و سمى الجانب القوي منه و هو الذي فيه يده القوية يمينا، و الذي يخالفه شمالا و يسارا ثم إذا مست الحاجة إلى اعتبار الجهات في شيء فرض الإنسان نفسه مكانه فما كان من أطراف ذلك الشيء ينطبق عليه الوجه و هو الطرف الذي يستقبل به الشيء غيره تعين به قدامه و بما يقاطره خلفه، و بما ينطبق عليه يمين الإنسان من أطرافه يمينه و كذا بيسار الإنسان يساره.

و إذ كان الوجه في مثل البيت و الدار و الفسطاط و كل ما له باب طرفه الذي فيه الباب كان تعين يمينه و يساره باعتبار الخارج من الباب دون الداخل منه، و على هذا يكون الكهف الذي وصفته الآية بما وصفت جنوبيا يقابل بابه القطب الجنوبي لا كما ذكروه، و للكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله.

و على أي حال كان وضعهم هذا من عناية الله و لطفه بهم ليستبقيهم بذلك حتى يبلغ الكتاب أجله، و إليه الإشارة بقوله عقيبه: "ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد له وليا مرشدا".

و قوله: "و تحسبهم أيقاظا و هم رقود" الأيقاظ جمع يقظ و يقظان و الرقود جمع راقد و هو النائم، و في الكلام تلويح إلى أنهم كانوا مفتوحي الأعين حال نومهم كالأيقاظ.

و قوله: "و نقلبهم ذات اليمين و ذات الشمال" أي و نقلبهم جهة اليمين و جهة الشمال، و المراد نقلبهم تارة من اليمين إلى الشمال و تارة من الشمال إلى اليمين لئلا تأكلهم الأرض، و لا تبلى ثيابهم، و لا تبطل قواهم البدنية بالركود و الخمود طول المكث.

و قوله: "و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد" الوصيد فناء البيت و قيل: عتبة الدار و المعنى كانوا على ما وصف من الحال و الحال أن كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء الكهف و فيه إخبار بأنهم كان لهم كلب يلازمهم و كان ماكثا معهم طول مكثهم في الكهف.

و قوله: "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا" بيان أنهم و حالهم هذا الحال كان لهم منظر موحش هائل لو أشرف عليهم الإنسان فر منهم خوفا من خطرهم تبعدا من المكروه المتوقع من ناحيتهم و ملأ قلبه الروع و الفزع رعبا و سرى إلى جميع الجوارح فملأ الجميع رعبا، و الكلام في الخطاب الذي في قوله: "لوليت" و قوله: "و لملئت" كالكلام في الخطاب الذي في قوله: "و ترى الشمس".

و قد بان بما تقدم من التوضيح أولا: الوجه في قوله: "و لملئت منهم رعبا" و لم يقل: و لملىء قلبك رعبا.

و ثانيا: الوجه في ترتيب الجملتين: "لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا" و ذلك أن الفرار و هو التبعد من المكروه معلول لتوقع وصول المكروه تحذرا منه، و ليس بمعلول للرعب الذي هو الخشية و تأثر القلب، و المكروه المترقب يجب أن يتحذر منه سواء كان هناك رعب أو لم يكن.

فتقديم الفرار على الرعب ليس من قبيل تقديم المسبب على سببه بل من تقديم حكم الخوف على الرعب و هما حالان متغايران قلبيان، و لو كان بدل الخوف من الرعب لكان من حق الكلام تقديم الجملة الثانية و تأخير الأولى و أما بناء على ما ذكرناه فتقديم حكم الخوف على حصول الرعب و هما جميعا أثران للاطلاع على منظرهم الهائل الموحش أحسن و أبلغ لأن الفرار أظهر دلالة على ذلك من الامتلاء بالرعب.

قوله تعالى: "و كذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم" إلى آخر الآيتين التساؤل سؤال بعض القوم بعضا، و الورق بالفتح فالكسر: الدراهم، و قيل هو الفضة مضروبة كانت أو غيرها، و قوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطلعوا عليكم أو إن يظفروا بكم.



و الإشارة بقوله: "و كذلك بعثناهم" إلى إنامتهم بالصورة التي مثلتها الآيات السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهرا طويلا على هذا الوضع العجيب المدهش الذي كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم و أيقظناهم ليتساءلوا بينهم.

و هذا التشبيه و جعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدم من دعائهم لدى ورود الكهف و إنامتهم إثر ذلك يدل على أنهم إنما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم حقيقة الأمر، و إنما أنيموا و لبثوا في نومتهم دهرا ليبعثوا، و قد نومهم الله إثر دعائهم و مسألتهم رحمة من عند الله و اهتداء مهيأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على مجتمعهم و ظهور الباطل و إحاطة القهر و الجبر و هجم عليهم اليأس و القنوط من ظهور كلمة الحق و حرية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الأرض و ظهوره على الحق كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه.

و بالجملة لما غلبت عليهم هذه المزعمة و استيأسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله سنين عددا ثم بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أو بعض يوم ثم ينكشف لهم تحول الأحوال و مرور مآت من السنين عند غيرهم و هي بنظرة أخرى كيوم أو بعض يوم فيعلموا أن طول الزمان و قصره ليس بذاك الذي يميت حقا أو يحيي باطلا و إنما هو الله سبحانه جعل ما على الأرض زينة لها و جذب إليها الإنسان و أجرى فيها الدهور و الأيام ليبلوهم أيهم أحسن عملا، و ليس للدنيا إلا أن تغر بزينتها طالبيها ممن أخلد إلى الأرض و اتبع هواه.

و هذه حقيقة لا تزال لائحة للإنسان كلما انعطف على ما مرت عليه من أيامه السالفة و ما جرت عليه من الحوادث حلوها و مرها و جدها كطائف في نومة أو سنة في مثل يوم غير أن سكر الهوى و التلهي بلهو الدنيا لا يدعه أن ينتبه للحق فيتبعه لكن لله سبحانه على الإنسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا و زخرفها و هو يوم الموت كما عن علي (عليه السلام): "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا و يوم آخر و هو يوم يطوي فيه بساط الدنيا و زينتها و يقضي على العالم الإنساني بالبيد و الانقراض.

و قد ظهر بما تقدم أن قوله تعالى: "ليتساءلوا بينهم" غاية لبعثهم و اللام لتعليل الغاية، و تنطبق على ما مر من الغاية في قوله: "ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا".

و ذكر بعضهم: أنه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنه قيل ليتساءلوا بينهم و ينجر ذلك إلى ظهور أمرهم و انكشاف الآية و ظهور القدرة و هذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلف ظاهر.

و ذكر آخرون: أن اللام في قوله: "ليتساءلوا" للعاقبة دون الغاية استبعادا لأن يكون التساؤل و هو أمر هين غاية للبعث و هو آية عظيمة، و فيه أن جعل اللام للعاقبة لا يجدي نفعا في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغي أن يجعل أمر هين للغاية مطلوبة لأمر خطير و آية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شيء يسير عاقبة لأمر ذي بال و آية عجيبة مدهشة على أنك عرفت صحة كون التساؤل علة غائية للبعث آنفا.

و قوله: "قال قائل منهم كم لبثتم" دليل على أن السائل عن لبثهم كان واحدا منهم خاطب الباقين و سألهم عن مدة لبثهم في الكهف نائمين و كأن السائل استشعر طولا في لبثهم مما وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقظ فقال: كم لبثتم؟.



و قوله: "قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم" ترددوا في جوابهم بين اليوم و بعض اليوم و كأنهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغير محل وقوع الشمس كأن أخذوا في النوم أوائل النهار و انتبهوا في أواسطه أو أواخره ثم شكوا في مرور الليل عليهم فيكون مكثهم يوما و عدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم و بعض يوم و هو على أي حال جواب واحد.

و قول بعضهم: إن الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم و يوم و بعض لا بين يوم و بعض يوم فالوجه أن يكون "أو" للتفصيل لا للترديد و المعنى قال بعضهم: لبثنا يوم و قال بعض آخر: لبثنا بعض يوم.

لا يلتفت إليه أما أولا فلأن هذا المعنى لا يتلقى من سياق مثل قوله: "لبثنا يوما أو بعض يوم" البتة و قد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى: "قال كم لبثت قال: لبثت يوما أو بعض يوم": البقرة: 259.

و أما ثانيا فلأن قولهم: "لبثنا يوما" إنما أخذوه عما استدلوا به من الأمور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكم و التهوس و المجازفة و الأمور الخارجية التي يستدل بها الإنسان و خاصة من نام ثم انتبه من شمس و ظل و نور و ظلمة و نحو ذلك لا تشخص مقدار اليوم التام من غير زيادة و نقيصة سواء في ذلك الترديد و التفصيل فالمراد باليوم على أي حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة و هو استعمال شائع.

و قوله تعالى: "قالوا ربكم أعلم بما لبثتم" أي قال بعض آخر منهم ردا على القائلين: لبثنا يوما أو بعض يوم": "ربكم أعلم بما لبثتم" و لو لم يكن ردا لقالوا ربنا أعلم بما لبثنا.

و بذلك يظهر أن إحالة العلم إلى الله تعالى في قولهم: "ربكم أعلم" ليس لمجرد مراعاة حسن الأدب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد و هي أن العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلا لله سبحانه فإن الإنسان محجوب عما وراء نفسه لا يملك بإذن الله إلا نفسه و لا يحيط إلا بها و إنما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلت عليه الأمارات الخارجية و بمقدار ما ينكشف بها و أما الإحاطة بعين الأشياء و نفس الحوادث و هو العلم حقيقة فإنما هو لله سبحانه المحيط بكل شيء الشهيد على كل شيء و الآيات الدالة على هذه الحقيقة لا تحصى.

فليس للموحد العارف بمقام ربه إلا أن يسلم الأمر له و ينسب العلم إليه و لا يسند إلى نفسه شيئا من الكمال كالعلم و القدرة إلا ما اضطر إليه فيبدأ بربه فينسب إليه حقيقة الكمال ثم لنفسه ما ملكه الله إياه و أذن له فيه كما قال: "علم الإنسان ما لم يعلم": العلق: 5 و قال: "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا": البقرة: 32 إلى آيات أخرى كثيرة.

و يظهر بذلك أن القائلين منهم: "ربكم أعلم بما لبثتم" كانوا أعلى كعبا في مقام المعرفة من القائلين: "لبثنا يوما أو بعض يوم" و لم يريدوا بقولهم هذا مجرد إظهار الأدب و إلا لقالوا: ربنا أعلم بما لبثنا و لم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق: "ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا" فإن إظهار الأدب لا يسمى قولا و إحصاء و لا الآتي به ذا قول و إحصاء.

و الظاهر أن القائلين منهم: "ربكم أعلم بما لبثتم" غير القائلين: "لبثنا يوما أو بعض يوم" فإن السياق سياق المحاورة و المجاوبة كما قيل و لازمه كون المتكلمين ثانيا غير المتكلمين أولا و لو كانوا هم الأولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال: ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا بدل قوله: "ربكم أعلم" إلخ.



و من هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم "قال" مرة و "قالوا" مرتين و أقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم من سبعة.

و قوله تعالى: "فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه" من تتمة المحاورة و فيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولا منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاما يتغذون به و الضمير في "أيها" راجع إلى المدينة و المراد بها أهلها من الكسبة استخداما.

و زكاء الطعام كونه طيبا و قيل: كونه حلالا و قيل: كونه طاهرا و وروده بصيغة أفعل التفضيل "أزكى طعاما" لا يخلو من إشعار بالمعنى الأول.

و الضمير في "منه" للطعام المفهوم من الكلام و قيل: للأزكى طعاما و "من" للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الأزكى برزق ترتزقون به، و قيل: الضمير للورق و "من" للبداية و هو بعيد لإحواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة و كونه ضمير التذكير و قد أشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل.

و قوله تعالى: "و ليتلطف و لا يشعرن بكم أحدا" التلطف إعمال اللطف و الرفق و إظهاره فقوله: "و لا يشعرن بكم أحدا" عطف تفسيري له و المراد على ما يعطيه السياق: ليتكلف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه و مجيئه و معاملته لهم كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدي إلى معرفتهم بحالكم و إشعارهم بكم، و قيل المعنى ليتكلف اللطف في المعاملة و إطلاق الكلام يدفعه.

و قوله تعالى: "إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا" تعليل للأمر بالتلطف و بيان لمصلحته.

ظهر على الشيء بمعنى اطلع عليه و علم به و بمعنى ظفر به و قد فسرت الآية بكل من المعنيين و الكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن فكان هو الأصل ثم استعير للأرض فقيل: ظهر الأرض مقابل بطنها ثم أخذ منه الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمة بين الكون على وجه الأرض و بين الرؤية و الاطلاع و كذا بينه و بين الظفر و كذا بينه و بين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطلع عليه و علم بمكانه أو ظفر به أو غلبه ثم اتسعوا في الاشتقاق فقالوا: أظهر و ظاهر و تظاهر و استظهر إلى غير ذلك.

و ظاهر السياق أن يكون "يظهروا عليكم" بمعنى يطلعوا عليكم و يعلموا بمكانكم فإنه أجمع المعاني لأن القوم كانوا ذوي أيد و قوة و قد هربوا و استخفوا منهم فلو اطلعوا عليهم ظفروا بهم و غلبوهم على ما أرادوا.

و قوله: "يرجموكم" أي يقتلوكم بالحجارة و هو شر القتل و يتضمن معنى النفرة و الطرد، و في اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأن أهل المدينة عامة كانوا يعادونهم لدينهم فلو ظهروا عليهم بادروا إليهم و تشاركوا في قتلهم و القتل الذي هذا شأنه يكون بالرجم عادة.

و قوله: "أو يعيدوكم في ملتهم" الظاهر أن الإعادة مضمن معنى الإدخال و لذا عدي بفي دون إلى.



و كان لازم دخولهم في ملتهم عادة و قد تجاهروا برفضها و سموها شططا من القول و افتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرد اعترافهم بحقية الملة صورة دون أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف و يراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الأوثان و الإتيان بجميع الوظائف الدينية التي لهم و الحرمان عن العمل بشيء من شرائع الدين الإلهي و التفوه بكلمة الحق.

و هذا كله لا بأس به على من اضطر على الإقامة في بلاد الكفر و الانحصار بين أهله كالأسير المستضعف بحكم العقل و النقل و قد قال تعالى: "إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان": النحل: 106 و قال تعالى: "إلا أن تتقوا منهم تقاة": آل عمران: 28 فله أن يؤمن بقلبه و ينكره بلسانه و أما من كان بنجوة منهم و هو حر في اعتقاده و عمله ثم ألقى بنفسه في مهلكة الضلال و تسبب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم يستطع التفوه بكلمة الحق و حرم التلبس بالوظائف الدينية الإنسانية فقد حرم على نفسه السعادة و لن يفلح أبدا قال تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا": النساء: 97.

و بهذا يظهر وجه ترتب قوله: "و لن تفلحوا إذا أبدا" على قوله: "أو يعيدوكم في ملتهم" و يندفع ما قيل: إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفو عنه في جميع الأزمان فكيف رتب على العود في ملتهم عدم الفلاح أبدا مع أن الظاهر من حالهم الكره هذا فإنهم لو عرضوا بأنفسهم عليهم أو دلوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في ملتهم و لو على كره كان ذلك منهم تسببا اختياريا إلى ذلك و لم يعذروا البتة.

و قد أجابوا عن الإشكال بوجوه أخر غير مقنعة: منها: أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه و الاستمرار عليه و فيه أن لازم هذا الوجه أن يقال: و يخاف عليكم أن لا تفلحوا أبدا إلا أن يقضى بعدم الفلاح قطعا.

و منها: أنه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه و أنت خبير بأن سياق القصة لا يساعد عليه.

و منها: أنه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية بإظهار الكفر مطلقا و فيه عدم الدليل على ذلك.

و سياق ما حكى من محاورتهم أعني قوله: "لبثتم" إلى تمام الآيتين سياق عجيب دال على كمال تحابهم في الله و مواخاتهم في الدين و أخذهم بالمساواة بين أنفسهم و نصح بعضهم لبعض و إشفاق بعضهم على بعض فقد تقدم أن قول القائلين: "ربكم أعلم بما لبثتم" تنبيه و دلالة على موقع من التوحيد أعلى و أرفع درجة مما يدل عليه قول الآخرين "لبثنا يوما أو بعض يوم"".

ثم قول القائل: "فابعثوا" حيث عرض بعث الرسول على الجميع و لم يستبد بقول: ليذهب أحدكم و قوله: "أحدكم" و لم يقل اذهب يا فلان أو ابعثوا فلانا و قوله: "بورقكم هذه" فأضاف الورق إلى الجميع كل ذلك دليل المواخاة و المساواة.

ثم قوله: "فلينظر أيها أزكى طعاما" إلخ و قوله: "و ليتلطف" إلخ نصح و قوله: "إنهم إن يظهروا عليكم" إلخ نصح لهم و إشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون على دينهم.



و قوله تعالى: "بورقكم هذه" على ما فيه من الإضافة و الإشارة المعينة لشخص الورق مشعر بعناية خاصة بذكرها فإن سياق استدعاء أن يبعثوا أحدا لاشتراء طعام لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق التي يشتري بها الطعام و الإشارة إليها بشخصها و لعلها إنما ذكرت في الآية مع خصوصية الإشارة لأنها كانت هي السبب لظهور أمرهم و انكشاف حالهم لأنها حين أخرجها رسومها ليدفعها ثمنا للطعام كانت من مسكوكات عهد مرت عليها ثلاثة قرون و ليس في آيات القصة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم و انكشاف حالهم إلا هذه اللفظة.

قوله تعالى: "و كذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم" قال في المفردات:، عثر الرجل يعثر عثرا و عثورا إذا سقط و يتجوز به فيمن يطلع على أمر من غير طلبه قال تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما. يقال عثرت على كذا قال: "و كذلك أعثرنا عليهم" أي وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا.

انتهي.

و التشبيه في قوله: "و كذلك أعثرنا عليهم" كنظيره في قوله: "و كذلك بعثناهم" أي و كما أنساهم دهرا ثم بعثناهم لكذا و كذا كذلك أعثرنا عليهم و مفعول أعثرنا هو الناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الآية و قوله: "ليعلموا أن وعد الله حق" ضمير الجمع للناس و المراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث و يكون قوله: "و أن الساعة لا ريب فيها" عطفا تفسيريا لسابقه.

و قوله: "إذ يتنازعون بينهم أمرهم" ظرف لقوله: "أعثرنا" أو لقوله "ليعلموا" و التنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب و يعبر به عن التخاصم و هو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه، و باعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء" انتهى.

و المراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث و إنما أضيف إليهم إشعارا باهتمامهم و اعتنائهم بشأنه فهذه حال الآية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض.

و المعنى على ما مر: و كما أنمناهم ثم بعثناهم لكذا و كذا أطلعنا الناس عليهم في زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق و أن الساعة لا ريب فيها.

أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث أن وعد الله بالبعث حق.

و أما دلالة بعثهم عن النوم على أن البعث يوم القيامة حق فإنما هو من جهة أن انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل و تعطيل شعورهم و ركود حواسهم عن أعمالها و سقوط آثار القوى البدنية كالنشو و النماء و نبات الشعر و الظفر و تغير الشكل و ظهور الشيب و غير ذلك و سلامة ظاهر أبدانهم و ثيابهم عن الدثور و البلى ثم رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الأرواح عن الأجساد بالموت ثم رجوعها إلى ما كانت عليها، و هما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلا الاستبعاد من غير دليل.

و قد حدث هذا الأمر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحد يرى مفارقة الأرواح الأجساد عند الموت ثم رجوعها إليها في البعث و مشرك 1 يرى مغايرة الروح البدن و مفارقتها له عند الموت لكنه لا يرى البعث و ربما رأى التناسخ.

فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لأولئك الناس أنها آية إلهية قصد بها إزالة الشك عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل و رفع الاستبعاد بالوقوع.

و يقوى هذا الحدس منهم و يشتد بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلا سويعات لم تسع أزيد من اطلاع الناس على حالهم و اجتماعهم عليهم و استخبارهم عن قصتهم و إخبارهم بها.



و من هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى: "إذ يتنازعون بينهم أمرهم" و هو رجوع الضميرين الأولين إلى الناس و الثالث إلى أصحاب الكهف و كون "إذ" ظرفا لقوله "ليعلموا" و يؤيده قوله بعده: "ربهم أعلم بهم" على ما سيجيء.

و الاعتراض على هذا الوجه أولا: بأنه يستدعي كون التنازع بعد الإعثار و ليس كذلك و ثانيا بأن التنازع كان قبل العلم و ارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع بأن التنازع على هذا الوجه في الآية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف و قد كان بعد الإعثار و مقارنا للعلم زمانا، و الذي كان قبل الإعثار و قبل العلم هو تنازعهم في أمر البعث و ليس بمراد على هذا الوجه.

و قوله تعالى: "فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم" القائلون هم المشركون من القوم بدليل قوله بعده: "قال الذين غلبوا على أمرهم" و المراد ببناء البنيان عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه و يسترون عن الناس فلا يطلع عليهم مطلع منهم كما يقال: بنى عليه جدارا إذا حوطه و جعله وراءه.

و هذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله: "و كذلك بعثناهم" "و كذلك أعثرنا عليهم" يلوح إلى تمام القصة كأنه قيل: و لما أن جاء رسولهم إلى المدينة و قد تغيرت الأحوال و تبدلت الأوضاع بمرور ثلاثة قرون على دخولهم في الكهف و انقضت سلطة الشرك و ألقي زمام المجتمع إلى التوحيد و هو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره و شاع خبره فاجتمع عليه الناس ثم هجموا و ازدحموا على باب الكهف فاستنبئوهم قصتهم و حصلت الدلالة الإلهية ثم إن الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلا سويعات ارتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث و عندئذ قال المشركون ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم.

و في قوله: "ربهم أعلم بهم" إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم أمرهم، فإنه كلام آيس من العلم بهم و استكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه أن القوم تنازعوا في شيء مما يرجع إليهم فتبصر فيه بعضهم و لم يسكن الآخرون إلى شيء و لم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنيانا ربهم أعلم بهم.

فمعنى الجملة أعني قوله: "ربهم أعلم بهم" يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدمين في قوله: "إذ يتنازعون بينهم أمرهم" إذ للجملة على أي حال نوع تفرع على تنازع بينهم كما عرفت آنفا فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله: "إذ يتنازعون بينهم أمرهم" هو التنازع في أمر البعث بالإقرار و الإنكار لكون ضمير "أمرهم" للناس كان المعنى أنهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها لكن المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الآية فقالوا ابنوا على أصحاب الكهف بنيانا و اتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شيء و لم نظفر فيهم على يقين ربهم أعلم بهم، و قال الموحدون أمرهم ظاهر و آيتهم بينة و لنتخذن عليهم مسجدا يعبد فيه الله و يبقى ببقائه ذكرهم.



و إن كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف و ضمير "أمرهم" راجعا إليهم كان المعنى أنا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها عند ما توفاهم الله بعد إعثار الناس عليهم و حصول الغرض و هم أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم أي أمر أصحاب الكهف كأنهم اختلفوا: أ نيام القوم أم أموات؟ و هل من الواجب أن يدفنوا و يقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنيانا و اتركوهم على حالهم ربهم أعلم بهم أ نيام أم أموات؟ قال الموحدون: "لنتخذن عليهم مسجدا".

لكن السياق يؤيد المعنى الأول لأن ظاهره كون قول الموحدين: "لنتخذن عليهم مسجدا" ردا منهم لقول المشركين: "ابنوا عليهم بنيانا" إلخ" و القولان من الطائفتين إنما يتنافيان على المعنى الأول، و كذا قولهم: "ربهم أعلم بهم" و خاصة حيث قالوا: "ربهم" و لم يقولوا: ربنا أنسب بالمعنى الأول.

و قوله: "قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا" هؤلاء القائلون هم الموحدون و من الشاهد عليه التعبير عما اتخذوه بالمسجد دون المعبد فإن المسجد في عرف القرآن هو المحل المتخذ لذكر الله و السجود له قال تعالى: "و مساجد يذكر فيها اسم الله": الحج: 40.

و قد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزلة جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا يقول فما ذا قال غير المشركين؟ فقيل: قال الذين غلبوا إلخ، و أما المراد بغلبتهم على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هو الأمر المذكور في قوله: "إذ يتنازعون بينهم أمرهم" و الضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبة الموحدين بنجاحهم بالآية التي قامت على حقية البعث، و إن كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدي لأمرهم و الغالبون هم الموحدون و قيل: الملك و أعوانه، و قيل: أولياؤهم من أقاربهم و هو أسخف الأقوال.

و إن كان المراد بأمرهم غير الأمر السابق و الضمير للناس فالغلبة أخذ زمام أمور المجتمع بالملك و ولاية الأمور، و الغالبون هم الموحدون أو الملك و أعوانه و إن كان الضمير عائدا إلى الموصول فالغالبون هم الولاة و المراد بغلبتهم على أمورهم أنهم غالبون على ما أرادوه من الأمور قادرون هذا، و أحسن الوجوه أولها.

و الآية من معارك آراء المفسرين و لهم في مفرداتها و في ضمائر الجمع التي فيها و في جملها اختلاف عجيب و الاحتمالات التي أبدوها في معاني مفرداتها و مراجع ضمائرها و أحوال جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الألوف، و قد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق و على الطالب لأزيد من ذلك أن يراجع المطولات.

قوله تعالى: "سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم - إلى قوله - و ثامنهم كلبهم" يذكر تعالى اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف و أقوالهم فيه، و هي على ما ذكره تعالى - و قوله الحق - ثلاثة مترتبة متصاعدة أحدها أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم و الثاني أنهم خمسة و سادسهم كلبهم و قد عقبه بقوله: "رجما بالغيب" أي قولا بغير علم.

و هذا التوصيف راجع إلى القولين جميعا: و لو اختص بالثاني فقط كان من حق الكلام أن يقدم القول الثاني و يؤخر الأول و يذكر مع الثالث الذي لم يذكر معه ما يدل على عدم ارتضائه.

و القول الثالث أنهم سبعة و ثامنهم كلبهم، و قد ذكره الله سبحانه و لم يعقبه بشيء يدل على تزييفه، و لا يخلو ذلك من إشعار بأنه القول الحق، و قد تقدم في الكلام على محاورتهم المحكية بقوله تعالى: "قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم" أنه مشعر بل دال على أن عددهم لم يكن بأقل من سبعة.



و من لطيف صنع الآية في عد الأقوال نظمها العدد من ثلاثة إلى ثمانية نظما متواليا ففيها ثلاثة رابعها خمسة سادسها سبعة و ثامنها.

و أما قوله: "رجما بالغيب" تمييز يصف القولين بأنهما من القول بغير علم و الرجم هو الرمي بالحجارة و كأن المراد بالغيب الغائب و هو القول الذي معناه غائب عن العلم لا يدري قائله أ هو صدق أم كذب؟ فشبه الذي يلقي كلاما ما هذا شأنه بمن يريد الرجم بالحجارة فيرمي ما لا يدري أ حجر هو يصيب غرضه أم لا؟ و لعله المراد بقول بعضهم: رجما بالغيب أي قذفا بالظن لأن المظنون غائب عن الظان لا علم له به.

و قيل: معنى "رجما بالغيب" ظنا بالغيب و هو بعيد.

و قد قال تعالى: "ثلاثة رابعهم كلبهم" و قال: "خمسة سادسهم كلبهم" فلم يأت بواو ثم قال: "سبعة و ثامنهم كلبهم" فأتى بواو قال في الكشاف،: و ثلاثة خبر مبتدإ محذوف أي هم ثلاثة، و كذلك خمسة و سبعة، رابعهم كلبهم جملة من مبتدإ و خبر واقعة صفة لثلاثة، و كذلك سادسهم كلبهم و ثامنهم كلبهم.

فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة؟ و لم دخلت عليها دون الأوليين؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل و معه آخر و مررت بزيد و بيده سيف، و منه قوله تعالى: "و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم" و فائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف و الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر.

و هذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة و ثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم و طمأنينة نفس و لم يرجموا بالظن كما غيرهم، و الدليل عليه أن الله سبحانه اتبع القولين الأولين قوله: "رجما بالغيب، و اتبع القول الثالث قوله: ما يعلمهم إلا قليل، و قال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها و ثبت أنهم سبعة و ثامنهم كلبهم على القطع و الثبات انتهى.

و قال في المجمع، في ذيل ما لخص به كلام أبي علي الفارسي: و أما من قال: هذه الواو واو الثمانية و استدل بقوله: "حتى إذا جاءوها و فتحت أبوابها" لأن للجنة ثمانية أبواب فشيء لا يعرفه النحويون انتهى.

قوله تعالى: "قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل" إلى آخر الآية أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقضي في عدتهم حق القضاء و هو أن الله أعلم بها و قد لوح في كلامه السابق إلى القول و هذا نظير ما حكى عن الفتية في محاورتهم و ارتضاء إذ قال قائل منهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم.

قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم.

و مع ذلك ففي الكلام دلالة على أن بعض المخاطبين بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) "ربي أعلم بعدتهم" إلخ كان على علم من ذلك فإن قوله: "ما يعلمهم" و لم يقل: لا يعلمهم يفيد نفي الحال فالاستثناء منه بقوله: "إلا قليل" يفيد الإثبات في الحال و اللائح منه على الذهن أنهم من أهل الكتاب.



و بالجملة مفاد الكلام أن الأقوال الثلاثة كانت محققة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و على هذا فقوله: "سيقولون ثلاثة" إلخ المفيد للاستقبال، و كذا قوله: "و يقولون خمسة" إلخ، و قوله: "و يقولون سبعة" إلخ إن كانا معطوفين على مدخول السين في "سيقولون" تفيد الاستقبال القريب بالنسبة إلى زمن نزول الآيات أو زمن وقوع الحادثة فافهم ذلك.

و قوله تعالى: "فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا" قال الراغب: المرية التردد في الأمر و هو أخص من الشك، قال: و الامتراء و المماراة المحاجة فيما فيه مرية قال: و أصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب.

انتهي.

فتسمية الجدال مماراة لما فيه من إصرار المماري بالبحث ليفرغ خصمه كل ما عنده من الكلام فينتهي عنه.

و المراد بكون المراء ظاهرا أن لا يتعمق فيه بالاقتصار على ما قصه القرآن من غير تجهيل لهم و لا رد كما قيل، و قيل: المراء الظاهر ما يذهب بحجة الخصم يقال: ظهر إذا ذهب، قال الشاعر:.

و تلك شكاة ظاهر عنك عارها.

و المعنى: و إذا كان ربك أعلم و قد أنبأك نبأهم فلا تحاجهم في الفتية إلا محاجة ظاهرة غير متعمق فيها - أو محاجة ذاهبة لحجتهم - و لا تطلب الفتيا في الفتية من أحد منهم فربك حسبك.

قوله تعالى: "و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله" الآية الكريمة سواء كان الخطاب فيها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة أو له و لغيره متعرضة للأمر الذي يراه الإنسان فعلا لنفسه و يخبر بوقوعه منه في مستقبل الزمان.

و الذي يراه القرآن في تعليمه الإلهي أن ما في الوجود من شيء ذاتا كان أو فعلا و أثرا فإنما هو مملوك لله وحده له أن يفعل فيه ما يشاء و يحكم فيه ما يريد لا معقب لحكمه، و ليس لغيره أن يملك شيئا إلا ما ملكه الله تعالى منه و أقدره عليه و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره و الآيات القرآنية الدالة على هذه الحقيقة كثيرة جدا لا حاجة إلى إيرادها.

فما في الكون من شيء له فعل أو أثر - و هذه هي التي نسميها فواعل و أسبابا و عللا فعالة - غير مستقل في سببيته و لا مستغن عنه تعالى في فعله و تأثيره لا يفعل و لا يؤثر إلا ما شاء الله أن يفعله و يؤثره أي أقدره عليه و لم يسلب عنه القدرة عليه بإرادة خلافه.

و بتعبير آخر كل سبب من الأسباب الكونية ليس سببا من تلقاء نفسه و باقتضاء من ذاته بل بإقداره تعالى على الفعل و التأثير و عدم إرادته خلافه، و إن شئت فقل: بتسهيله تعالى له سبيل الوصول إليه، و إن شئت فقل بإذنه تعالى فالإذن هو الإقدار و رفع المانع و قد تكاثرت الآيات الدالة على أن كل عمل من كل عامل موقوف على إذنه تعالى قال تعالى: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله": الحشر - 5 و قال: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله": التغابن: 11 و قال: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه": الأعراف: 58 و قال: "و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله": آل عمران: 145 و قال: "و ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله": يونس: 100 و قال: "و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله": النساء: 64 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.



فعلى الإنسان العارف بمقام ربه المسلم له أن لا يرى نفسه سببا مستقلا لفعله مستغنيا فيه عن غيره بل مالكا له بتمليك الله قادرا عليه بإقداره و أن القوة لله جميعا و إذا عزم على فعل أن يعزم متوكلا على الله قال تعالى: "فإذا عزمت فتوكل على الله" و إذا وعد بشيء أو أخبر عما سيفعله أن يقيده بإذن الله أو بعدم مشيته خلافه.

و هذا المعنى هو الذي يسبق إلى الذهن المسبوق بهذه الحقيقة القرآنية إذا قرع بابه قوله تعالى: "و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله" و خاصة بعد ما تقدم في آيات القصة من بيان توحده تعالى في ألوهيته و ربوبيته و ما تقدم قبل آيات القصة من كون ما على الأرض زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزا.

و من جملة ما على الأرض أفعال الإنسان التي هي زينة جالبة للإنسان يمتحن بها و هو يراها مملوكة لنفسه.

و ذلك أن قوله: "و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا" نهي عن نسبته فعله إلى نفسه، و لا بأس بهذه النسبة قطعا فإنه سبحانه كثيرا ما ينسب في كلامه الأفعال إلى نبيه و إلى غيره من الناس و ربما يأمره أن ينسب أفعالا إلى نفسه قال تعالى: "فقل لي عملي و لكم عملكم": يونس: 41، و قال: "لنا أعمالنا و لكم أعمالكم": الشورى: 15.

فأصل نسبة الفعل إلى فاعله مما لا ينكره القرآن الكريم و إنما ينكر دعوى الاستقلال في الفعل و الاستغناء عن مشيته و إذنه تعالى فهو الذي يصلحه الاستثناء أعني قوله: "إلا أن يشاء الله".

و من هنا يظهر أن الكلام على تقدير باء الملابسة و هو استثناء مفرغ عن جميع الأحوال أو جميع الأزمان، و تقديره: و لا تقولن لشيء - أي لأجل شيء تعزم عليه - إني فاعل ذلك غدا في حال من الأحوال أو زمان من الأزمنة إلا في حال أو في زمان يلابس قولك المشية بأن تقول: إني فاعل ذلك غدا إن شاء الله أن أفعله أو إلا أن يشاء الله أن لا أفعله و المعنى على أي حال: إن أذن الله في فعله.

هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية و يؤيده ذيلها و للمفسرين فيها توجيهات أخرى.

منها أن المعنى هو المعنى السابق إلا أن الكلام بتقدير القول في الاستثناء و تقدير الكلام: إلا أن تقول إن شاء الله، و لما حذف "تقول" نقل "إن شاء الله" إلى لفظ الاستقبال، فيكون هذا تأديبا من الله للعباد و تعليما لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوه لمانع و الوجه منسوب إلى الأخفش.

و فيه أنه تكلف من غير موجب.

على أن التبديل المذكور يغير المعنى و هو ظاهر و منها أن الكلام على ظاهره غير أن المصدر المؤول إليه "أن يشاء الله" بمعنى المفعول، و المعنى لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا ما يشاؤه الله و يريده، و إذ كان الله لا يشاء إلا الطاعات فكأنه قيل: و لا تقولن في شيء إني سأفعله إلا الطاعات، و النهي للتنزيه لا للتحريم حتى يعترض عليه بجواز العزم على المباحات و الإخبار عنه.



و فيه أنه مبني على حمل المشية على الإرادة التشريعية و لا دليل عليه و لم يستعمل المشية في كلامه تعالى بهذا المعنى قط و قد استعمل استثناء المشية التكوينية في مواضع من كلامه كما حكى من قول موسى لخضر: "ستجدني إن شاء الله صابرا": الكهف: 69، و قول شعيب لموسى: "ستجدني إن شاء الله من الصالحين": القصص، 27 و قول إسماعيل لأبيه: "ستجدني إن شاء الله من الصابرين": الصافات: 102 و قوله تعالى: "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين": الفتح: 27 إلى غير ذلك من الآيات.

و الوجه مبني على أصول الاعتزال و عند المعتزلة أن لا مشية لله سبحانه في أعمال العباد إلا الإرادة التشريعية المتعلقة بالطاعات، و هو مدفوع بالعقل و النقل.

و منها أن الاستثناء من الفعل دون القول من غير حاجة إلى تقدير، و المعنى و لا تقولن لشيء هكذا و هو أن تقول: إني فاعل ذلك غدا باستقلالي إلا أن يشاء الله خلافه بإبداء مانع على ما تقوله المعتزلة أن العبد فاعل مستقل للفعل إلا أن يبدىء الله مانعا دونه أقوى منه، و مآل المعنى أن لا تقل في الفعل بقول المعتزلة.

و فيه أن تعلق الاستثناء بالفعل دون القول بما مر من البيان أتم فلا وجه للنهي عن تعليق الاستثناء على الفعل، و قد وقع تعليقه على الفعل في مواضع من كلامه من غير أن يرده كقوله حكاية عن إبراهيم: "و لا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا": الأنعام: 80 و قوله حكاية عن شعيب: "و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله": الأعراف: 89، و قوله: "و ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله": الأنعام: 111 إلى غير ذلك من الآيات.

فلتحمل الآية التي نحن فيها على ما يوافقها.

و منها: أن الاستثناء من أعم الأوقات إلا أن مفعول "يشاء" هو القول و المعنى و لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقوله، و المراد بالمشية الإذن أي لا تقل ذلك إلا أن يؤذن لك فيه بالإعلام.

و فيه أنه مبني على تقدير شيء لا دليل عليه من جهة اللفظ و هو الإعلام و لو لم يقدر لكان تكليفا بالمجهول.

و منها: أن الاستثناء للتأبيد نظير قوله: "خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ": هود: 108 و المعنى: لا تقولن ذلك أبدا.

و فيه أنه مناف للآيات الكثيرة المنقولة آنفا التي تنسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلى سائر الناس أعمالهم ماضية و مستقبلة بل تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينسب أعماله إلى نفسه كقوله: "فقل لي عملي و لكم عملكم": يونس: 41، و قوله: "قل سأتلوا عليكم منه ذكرا": الكهف: 83.

قوله تعالى: "و اذكر ربك إذا نسيت و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا" اتصال الآية و اشتراكها مع ما قبلها في سياق التكليف يقضي أن يكون المراد من النسيان نسيان الاستثناء، و عليه يكون المراد من ذكر ربه ذكره بمقامه الذي كان الالتفات إليه هو الموجب للاستثناء و هو أنه القائم على كل نفس بما كسبت الذي ملكه الفعل و أقدره عليه و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره.

و المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت أنك نسيته فاذكر ربك متى كان ذلك بما لو كنت ذاكرا لذكرته به و هو تسليم الملك و القدرة إليه و تقييد الأفعال بإذنه و مشيته.



و إذ كان الأمر بالذكر مطلقا لم يتعين في لفظ خاص فالمندوب إليه هو ذكره تعالى بشأنه الخاص سواء كان بلفظ الاستثناء بأن يلحقه بالكلام، إن ذكره و لما يتم الكلام أو يعيد الكلام و يستثني أو يضمر الكلام ثم يستثني إن كان فصل قصير أو طويل كما ورد في بعض الروايات أنه لما نزلت الآيات قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن شاء الله أو كان الذكر باستغفار و نحوه.

و يظهر مما مر أن ما ذكره بعضهم أن الآية مستقلة عما قبلها و أن المراد بالنسيان نسيانه تعالى أو مطلق النسيان، و المعنى: و اذكر ربك إذا نسيته ثم ذكرته أو و اذكر ربك إذا نسيت شيئا من الأشياء، و كذا ما ذكره بعضهم بناء على الوجه السابق أن المراد بذكره تعالى خصوص الاستثناء و إن طال الفصل أو خصوص الاستغفار أو الندم على التفريط، كل ذلك وجوه غير سديدة.

و قوله: "و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا" حديث الاتصال و الاشتراك في سياق التكليف بين جمل الآية يقضي هنا أيضا أن تكون الإشارة بقوله: "هذا" إلى الذكر بعد النسيان، و المعنى و ارج أن يهديك ربك إلى أمر هو أقرب رشدا من النسيان ثم الذكر و هو الذكر الدائم من غير نسيان فيكون من قبيل الآيات الداعية له (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى دوام الذكر كقوله تعالى: "و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو و الآصال و لا تكن من الغافلين": الأعراف: 205 و ذكر الشيء كلما نسي ثم ذكر و التحفظ عليه كرة بعد كرة من أسباب دوام ذكره.

و من العجيب أن المفسرين أخذوا قوله: "هذا" في الآية إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف و ذكروا أن معنى الآية: قل عسى أن يعطيني ربي من الآيات الدالة على نبوتي ما هو أقرب إرشادا للناس من نبإ أصحاب الكهف، و هو كما ترى.

و أعجب منه ما عن بعض أن هذا إشارة إلى المنسي و أن معنى الآية: ادع الله إذا نسيت شيئا أن يذكرك إياه و قل إن لم يذكرك ما نسيته عسى أن يهديني ربي لشيء هو أقرب خيرا و منفعة من المنسي.

و أعجب منه ما عن بعض آخر أن قوله: "و قل عسى أن يهدين" إلخ عطف تفسيري لقوله: "و اذكر ربك إذا نسيت" و المعنى إذا وقع منك النسيان فتب إلى ربك و توبتك أن تقول: عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا، و يمكن أن يجعل الوجهان الثاني و الثالث وجها واحدا و بناؤهما على أي حال على كون المراد بقوله: "إذا نسيت" مطلق النسيان، و قد عرفت ما فيه.

قوله تعالى: "و لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين و ازدادوا تسعا" بيان لمدة لبثهم في الكهف على حال النوم فإن هذا اللبث هو متعلق العناية في آيات القصة و قد أشير إلى إجمال مدة اللبث بقوله في أول الآيات: "فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا".

و يؤيده تعقيبه بقوله في الآية التالية: "قل الله أعلم بما لبثوا" ثم قوله: "و اتل ما أوحي إليك" إلخ ثم قوله: "و قل الحق من ربكم" و لم يذكر عددا غير هذا فقوله: "قل الله أعلم بما لبثوا" بعد ذكر مدة اللبث كقوله: "قل ربي أعلم بعدتهم" يلوح إلى صحة العدد المذكور.

فلا يصغى إلى قول القائل إن قوله: "و لبثوا في كهفهم" إلخ محكي قول أهل الكتاب و قوله: "قل الله أعلم بما لبثوا" رد له، و كذا قول القائل إن قوله: "و لبثوا" إلخ قول الله تعالى و قوله: "و ازدادوا تسعا" إشارة إلى قول أهل الكتاب و الضمير لهم و المعنى أن أهل الكتاب زادوا على العدد الواقعي تسع سنين ثم قوله: "قل الله أعلم بما لبثوا" رد له.



على أن المنقول عنهم أنهم قالوا بلبثهم مائتي سنة أو أقل لا ثلاثمائة و تسعة و لا ثلاثمائة.

و قوله: "سنين" ليس بمميز للعدد و إلا لقيل: ثلاثمائة سنة بل هو بدل من ثلاثمائة كما قالوا، و في الكلام مضاهاة لقوله فيما أجمل في صدر الآيات: "سنين عددا".

و لعل النكتة في تبديل "سنة" من "سنين" استكثار مدة اللبث، و على هذا فقوله: "و ازدادوا تسعا" لا يخلو من معنى الإضراب كأنه قيل: و لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة هذه السنين المتمادية و الدهر الطويل بل ازدادوا تسعا، و لا ينافي هذا ما تقدم في قوله: "سنين عددا" إن هذا لاستقلال عدد السنين و استحقاره لأن المقامين مختلفان بحسب الغرض فإن الغرض هناك كان متعلقا بنفي العجب من آية الكهف بقياسها إلى آية جعل ما على الأرض زينة لها فالأنسب به استحقار المدة، و الغرض هاهنا بيان كون اللبث آية من آياته و حجة على منكري البعث و الأنسب به استكثار المدة، و المدة بالنسبتين تحتمل الوصفين فهي بالنسبة إليه تعالى شيء هين و بالنسبة إلينا دهر طويل.

و إضافة تسع سنين إلى ثلاثمائة سنة مدة اللبث تعطي أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية فإن التفاوت في ثلاثمائة سنة إذا أخذت تارة شمسية و أخرى قمرية بالغ هذا المقدار تقريبا و لا ينبغي الارتياب في أن المراد بالسنين في الآية السنون القمرية لأن السنة في عرف القرآن هي القمرية المؤلفة من الشهور الهلالية و هي المعتبرة في الشريعة الإسلامية.

و في التفسير الكبير، شدد النكير على ذلك لعدم تطابق العددين تحقيقا و ناقش في ما روي عن علي (عليه السلام) في هذا المعنى مع أن الفرق بين العددين الثلاثمائة شمسية و الثلاثمائة و تسع سنين قمرية أقل من ثلاثة أشهر و التقريب في أمثال هذه النسب ذائع في الكلام بلا كلام.

قوله تعالى: "قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات و الأرض" إلى آخر الآية مضي في حديث أصحاب الكهف بالإشارة إلى خلاف الناس في ذلك و أن ما قصه الله تعالى من قصتهم هو الحق الذي لا ريب فيه.

فقوله: "قل الله أعلم بما لبثوا" مشعر بأن مدة لبثهم المذكورة في الآية السابقة لم تكن مسلمة عند الناس فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحتج في ذلك بعلم الله و أنه أعلم بهم من غيره.

و قوله: "له غيب السماوات و الأرض" تعليل لكونه تعالى أعلم بما لبثوا، و اللام للاختصاص الملكي و المراد أنه تعالى وحده يملك ما في السماوات و الأرض من غيب غير مشهود فلا يفوته شيء و إن فات السماوات و الأرض، و إذ كان مالكا للغيب بحقيقة معنى الملك و له كمال البصر و السمع فهو أعلم بلبثهم الذي هو من الغيب.

و على هذا فقوله: "أبصر به و أسمع" - و هما من صيغ التعجب معناهما كمال بصره و سمعه - لتتميم التعليل كأنه قيل: و كيف لا يكون أعلم بلبثهم و هو يملكهم على كونهم من الغيب و قد رأى حالهم و سمع مقالهم.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم: إن اللام في "له غيب" إلخ للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علما، و يلزم منه ثبوت علمه لسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بطريق أولى.



انتهي.

غير سديد لأن ظاهر قوله: "أبصر به و أسمع" أنه للتأسيس دون التأكيد، و كذا ظاهر اللام مطلق الملك دون الملك العلمي.

و قوله: "ما لهم من دونه من ولي" إلخ المراد بالجملة الأولى منه نفي ولاية غير الله لهم مستقلا بالولاية دون الله، و بالثانية نفي ولاية غيره بمشاركته إياه فيها أي ليس لهم ولي غير الله لا مستقلا بالولاية و لا غير مستقل.

و لا يبعد أن يستفاد من النظم - بالنظر إلى التعبير في الجملة الثانية "و لا يشرك في حكمه أحدا" بالفعل دون الوصف و تعليق نفي الإشراك بالحكم دون الولاية أن الجملة الأولى تنفي ولاية غيره تعالى لهم سواء كانت بالاستقلال فيستقل بتدبير أمرهم دون الله أو بالشركة بأن يلي بعض أمورهم دون الله، و الجملة الثانية تنفي شركة غيره تعالى في الحكم و القضاء في الحكم بأن تكون ولايتهم لله تعالى لكنه وكل عليهم غيره و فوض إليه أمرهم و الحكم فيهم كما يفعله الولاة في نصب الحكام و العمال في الشعب المختلفة من أمورهم فيباشر الحكام و العمال من الأحكام ما لا علم به من الولاة.

و يؤول المعنى إلى أنه كيف لا يكون تعالى أعلم بلبثهم و هو تعالى وحده وليهم المباشر للحكم الجاري فيهم و عليهم.

و الضمير في قوله: "لهم" لأصحاب الكهف أو لجميع ما في السماوات و الأرض المفهوم من الجملة السابقة بتغليب جانب أولي العقل أو لمن في السماوات و الأرض و الوجوه الثلاثة مترتبة جودة و أجودها أولها.

و عليه فالآية تتضمن حجتين على أن الله أعلم بما لبثوا إحداهما حجة عامة لهم و لغيرهم و هي قوله: "له غيب السماوات و الأرض أبصر به و أسمع" فهو أعلم بجميع الأشياء و منها لبث أصحاب الكهف، و ثانيتهما حجة خاصة بهم و هي قوله: "ما لهم" إلى آخر الآية فهو تعالى وليهم المباشر للقضاء الجاري عليهم فكيف لا يكون أعلم بهم من غيره؟ و لمكان العلية في الجملتين جيء بهما مفصولتين من غير عطف.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "أم حسبت أن أصحاب الكهف" الآية قال: يقول: قد آتيناك من الآيات ما هو أعجب منه، و هم فتية كانوا في الفترة بين عيسى بن مريم و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أما الرقيم فهما لوحان من نحاس مرقوم أي مكتوب فيهما أمر الفتية و أمر إسلامهم و ما أراد منهم دقيانوس الملك و كيف كان أمرهم و حالهم.



و فيه، حدثنا أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان سبب نزول سورة الكهف أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط و العاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود مسائل يسألونها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم اسألوه عن مسألة واحدة فإن ادعى علمها فهو كاذب. قالوا: و ما هذه المسائل؟ قالوا:! سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا و غابوا و ناموا، كم بقوا في نومهم حتى انتبهوا؟ و كم كان عددهم؟ و أي شيء كان معهم من غيرهم؟ و ما كان قصتهم؟ و سلوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم و يتعلم منه من هو؟ و كيف تبعه؟ و ما كان قصته معه؟ و سلوه عن طائف طاف مغرب الشمس و مطلعها حتى بلغ سد يأجوج و مأجوج من هو؟ و كيف كان قصته؟ ثم أملئوا عليهم أخبار هذه المسائل الثلاث و قالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، و إن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة! فإن ادعى علمها فهو كاذب فإن قيام الساعة لا يعلمه إلا الله تبارك و تعالى. فرجعوا إلى مكة و اجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه و نحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق و إن لم يخبرنا علمنا أنه كاذب فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم فسألوه عن الثلاث المسائل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غدا أخبركم و لم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما حتى اغتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و شك أصحابه الذين كانوا آمنوا به، و فرحت قريش و استهزءوا و آذوا، و حزن أبو طالب. فلما كان بعد أربعين يوما نزل عليه سورة الكهف فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جبرئيل لقد أبطأت فقال: إنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله فأنزل الله تعالى: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا ثم قص قصتهم فقال: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيىء لنا من أمرنا رشدا. قال: فقال الصادق (عليه السلام). إن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا في زمن ملك جبار عات، و كان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله، و كان هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون الله عز و جل، و وكل الملك بباب المدينة و لم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام فخرجوا هؤلاء بعلة الصيد و ذلك أنهم مروا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم و كان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب و خرج معهم. قال (عليه السلام): فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلة الصيد هربا من دين ذلك الملك فلما أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف و الكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس كما قال الله: "فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا" فناموا حتى أهلك الله ذلك الملك و أهل المدينة و ذهب ذلك الزمان و جاء زمان آخر و قوم آخرون. ثم انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا هاهنا؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا: نمنا يوما أو بعض يوم ثم قالوا لواحد منهم: خذ هذه الورق و أدخل المدينة متنكرا لا يعرفونك فاشتر لنا طعاما فإنهم إن علموا بنا و عرفونا قتلونا أو ردونا في دينهم. فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف التي عهدها و رأى قوما بخلاف أولئك لم يعرفهم و لم يعرفوا لغته و لم يعرف لغتهم فقالوا له: من أنت، و من أين جئت؟ فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه و الرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف و أقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة رابعهم كلبهم، و قال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، و قال بعضهم: سبعة و ثامنهم كلبهم. و حجبهم الله بحجاب من الرعب فلم يكن يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنه لما دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكونوا أصحاب دقيانوس شعروا بهم فأخبرهم صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، و أنهم آية للناس فبكوا و سألوا الله أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا. ثم قال الملك: ينبغي أن نبني هاهنا مسجدا نزوره فإن هؤلاء قوم مؤمنون. فلهم في كل سنة تقلبان ينامون ستة أشهر على جنوبهم 1 اليمنى و ستة أشهر على جنوبهم 2 اليسرى و الكلب معهم باسط ذراعيه بفناء الكهف و ذلك قوله تعالى: "نحن نقص عليك نبأهم بالحق" إلى آخر الآيات.

أقول: و الرواية من أوضح روايات القصة متنا و أسلمها من التشوش و هي مع ذلك تتضمن أن الذين اختلفوا في عددهم فقالوا: ثلاثة أو خمسة أو سبعة هم أهل المدينة الذين اجتمعوا على باب الكهف بعد انتباه الفتية و هو خلاف ظاهر الآية، و تتضمن أن أصحاب الكهف لم يموتوا ثانيا بل عادوا إلى نومتهم و كذلك كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد و أن لهم في كل سنة تقلبين من اليمين إلى اليسار و بالعكس و أنهم بعد على هيئتهم.

و لا كهف معهودا على وجه الأرض و فيه قوم نيام على هذه الصفة.

على أن في ذيل هذه الرواية.

و قد تركنا نقله هاهنا لاحتمال أن يكون من كلام القمي أو رواية أخرى - أن قوله تعالى: "و لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة و ازدادوا تسعا" من كلام أهل الكتاب، و أن قوله بعده: "قل الله أعلم بما لبثوا" رد له، و قد عرفت في البيان المتقدم أن السياق يدفعه و النظم البليغ لا يقبله.

و قد تكاثرت الروايات في بيان القصة من طرق الفريقين لكنها متهافتة مختلفة لا يكاد يوجد منها خبران متوافقا المضمون من جميع الجهات.

فمن الاختلاف ما في بعض الروايات كالرواية المتقدمة أن سؤالهم كان عن أربعة نبإ أصحاب الكهف و نبإ موسى و العالم و نبإ ذي القرنين و عن الساعة متى تقوم؟ و في بعضها أن السؤال كان عن خبر أصحاب الكهف و ذي القرنين و عن الروح و قد ذكروا أن آية صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يجيب آخر الأسؤلة فأجاب عن نبإ أصحاب الكهف و نبإ ذي القرنين، و نزل "قل الروح من أمر ربي" الآية فلم يجب عنها، و قد عرفت في بيان آية الروح أن الكلام مسوق سوق الجواب و ليس بتجاف.

و من ذلك ما في أكثر الروايات أنهم جماعة واحدة سمعوا أصحاب الكهف و الرقيم، و في بعضها أن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف، و أن الله سبحانه أشار في كلامه إليهما معا لكنه قص قصة أصحاب الكهف و أعرض عن قصة أصحاب الرقيم، و ذكروا لهم قصة و هي أن قوما و هم ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم فأخذتهم السماء فأووا إلى كهف و انحطت صخرة من أعلى الجبل و سدت بابه.

فقال بعضهم لبعض: ليذكر كل منا شيئا من عمله الصالح و ليدع الله به لعله يفرج عنا فذكر واحد منهم منه عمله لوجه الله و دعا الله به فتنحت الصخرة قدر ما دخل عليهم الضوء ثم الثاني فتنحت حتى تعارفوا ثم الثالث ففرج الله عنهم فخرجوا رواه 1 النعمان بن بشير مرفوعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و المستأنس بأسلوب الذكر الحكيم يأبى أن يظن به أن يشير في دعوته إلى قصتين ثم يفصل القول في إحداهما و ينسى الأخرى من أصلها.



و من ذلك ما تذكره الروايات أن الملك الذي هرب منه الفتية هو دقيانوس ديوكليس 285 م - 305 م ملك الروم و في بعضها كان يدعي الألوهية، و في بعض أنه كان دقيوس دسيوس 249 - 254 م ملك الروم و بينهما عشرات من السنين و كان الملك يدعو إلى عبادة الأصنام و يقتل أهل التوحيد، و في بعض الروايات كان مجوسيا يدعو إلى دين المجوس، و لم يذكر التاريخ شيوع المجوسية هذا الشيوع في بلاد الروم، و في بعض الروايات أنهم كانوا قبل عيسى (عليه السلام).

و من ذلك أن بعض الروايات تذكر أن الرقيم اسم البلد الذي خرجوا منه و في بعضها اسم الوادي، و في بعضها اسم الجبل الذي فيه الكهف، و في بعضها اسم كلبهم، و في بعضها هو لوح من حجر، و في بعضها من رصاص، و في بعضها من نحاس و في بعضها من ذهب رقم فيه أسماؤهم و أسماء آبائهم و قصتهم و وضع على باب الكهف و في بعضها داخله، و في بعضها كان معلقا على باب المدينة، و في بعضها في بعض خزائن الملوك و في بعضها هما لوحان.

و من ذلك ما في بعض الروايات أن الفتية كانوا من أولاد الملوك، و في بعضها من أولاد الأشراف، و في بعضها من أولاد العلماء، و في بعضها أنهم سبعة سابعهم كان راعي غنم لحق بهم هو و كلبه في الطريق، و في حديث 1 وهب بن منبه أنهم كانوا حماميين يعملون في بعض حمامات المدينة و ساق لهم قصة دعوة الملك إلى عبادة الأصنام و في بعضها أنهم كانوا من وزراء الملك يستشيرهم في أموره.

و من ذلك ما في بعض الروايات أنهم أظهروا المخالفة و علم بها الملك قبل الخروج و في بعضها أنه لم يعلم إلا بعد خروجهم و في بعضها أنهم تواطئوا على الخروج فخرجوا و في بعضها أنهم خرجوا على غير معرفة من بعضهم لحال بعض و على غير ميعاد ثم تعارفوا و اتفقوا في الصحراء و في بعضها أن راعي غنم لحق بهم و هو سابعهم و في بعضها أنه لم يتبعهم و تبعهم كلبه و سار معهم.

و من ذلك ما في بعض الروايات أنهم لما هربوا و اطلع الملك على أمرهم افتقدهم و لم يحصل منهم على أثر، و في بعضها أنه فحص عنهم فوجدهم نياما في كهفهم فأمر أن يبنى على باب الكهف بنيان ليحتبسوا فيموتوا جوعا و عطشا جزاء لعصيانهم فبقوا على هذه الحال حتى إذا أراد الله أن ينبههم بعث راعي غنم فخرب البنيان ليتخذ حظيرة لغنمه و عند ذلك بعثهم الله أيقاظا و كان من أمرهم ما قصه الله.

و من ذلك ما في بعض الروايات أنه لما ظهر أمرهم أتاهم الملك و معه الناس فدخل عليهم الكهف فكلمهم فبينا هو يكلمهم و يكلمونه إذ ودعوه و سلموا عليه و قضوا نحبهم، و في بعضها أنهم ماتوا أو ناموا قبل أن يدخل الملك عليهم و سد باب الكهف و غاب عن أبصارهم فلم يهتدوا للدخول فبنوا هناك مسجدا يصلون فيه.

و من ذلك ما في بعض الروايات أنهم قبضت أرواحهم، و في بعضها أن الله أرقدهم ثانيا فهم نيام إلى يوم القيامة، و يقلبهم كل عام مرتين من اليمين إلى الشمال و بالعكس.

و من ذلك اختلاف الروايات في مدة لبثهم ففي أكثرها أن الثلاثمائة و تسع سنين المذكور في الآية قول الله تعالى، و في بعضها أنه محكي قول أهل الكتاب، و قوله تعالى: "قل الله أعلم بما لبثوا" رد له، و في بعضها أن الثلاثمائة قوله سبحانه و زيادة التسع قول أهل الكتاب.



إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف بين الروايات، و قد جمعت أكثرها من طرق أهل السنة في الدر المنثور، و من طرق الشيعة في البحار، و تفسيري البرهان، و نور - الثقلين، من أراد الاطلاع عليها فليراجعها، و الذي يمكن أن تعد الروايات متفقة أو كالمتفقة عليه أنهم كانوا قوما موحدين هربوا من ملك جبار كان يجبر الناس على الشرك فأووا إلى الكهف فناموا إلى آخر ما قصه الله تعالى.

و في تفسير العياشي، عن سليمان بن جعفر الهمداني قال: قال لي جعفر بن محمد (عليهما السلام) يا سليمان من الفتى؟ فقلت له؟ جعلت فداك الفتى عندنا الشاب. قال لي: أ ما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كلهم كهولا فسماهم الله فتية بإيمانهم يا سليمان من آمن بالله و اتقى فهو الفتى.

أقول: و روي ما في معناه في الكافي، عن القمي مرفوعا عن الصادق (عليه السلام)، و قد روي عن 1 ابن عباس أنهم كانوا شبانا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر قال: كان أصحاب الكهف صيارفة.

أقول: و روى القمي أيضا بإسناده عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان أصحاب الكهف صيارفة: لكن في تفسير العياشي، عن درست عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه ذكر أصحاب الكهف فقال: كانوا صيارفة كلام و لم يكونوا صيارفة دراهم.

و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان و أظهروا الكفر فآجرهم الله مرتين.

أقول: و روي في الكافي، ما في معناه عن هشام بن سالم عنه (عليه السلام) و روى ما في معناه العياشي عن الكاهلي عنه (عليه السلام) و عن درست في خبرين عنه (عليه السلام) و في أحد الخبرين: أنهم كانوا ليشدون الزنانير و يشهدون الأعياد.

و لا يرد عليه أن ظاهر قوله تعالى حكاية عنهم: "إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها" الآية أنهم كانوا لا يرون التقية كما احتمله المفسرون في تفسير قوله تعالى حكاية عنهم: "أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا" الآية و قد تقدم.

و ذلك لأنك عرفت أن خروجهم من المدينة كان هجرة من دار الشرك التي كانت تحرمهم إظهار كلمة الحق و التدين بدين التوحيد غير أن تواطيهم على الخروج و هم ستة من المعاريف و أهل الشرف و إعراضهم عن الأهل و المال و الوطن لم يكن لذلك عنوان إلا المخالفة لدين الوثنية فقد كانوا على خطر عظيم لو ظهر عليهم القوم و لم ينته أمرهم إلا إلى أحد أمرين الرجم أو الدخول في ملة القوم.

و بذلك يظهر أن قيامهم أول مرة و قولهم: "ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها لم يكن بتظاهر منهم على المخالفة و تجاهر على ذم ملة القوم و رمي طريقتهم فما كانت الأوضاع العامة تجيز لهم ذلك، و إنما كان ذلك منهم قياما لله و تصميما على الثبات على كلمة التوحيد و لو سلم دلالة قوله: "إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض" على التظاهر و رفض التقية فقد كان في آخر أيام مكثهم بين القوم و كانوا قبل ذلك سائرين على التقية لا محالة، فقد بان أن سياق شيء من الآيتين لا ينافي كون الفتية سائرين على التقية ما داموا بين القوم و في المدينة.

و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج أصحاب الكهف على غير معرفة و لا ميعاد فلما صاروا في الصحراء أخذ بعضهم على بعض العهود و المواثيق فأخذ هذا على هذا و هذا على هذا ثم قالوا: أظهروا أمركم فأظهروه فإذا هم على أمر واحد.



أقول: و في معناه ما عن ابن عباس في الخبر الآتي.



في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذي ذكر الله في القرآن فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس ذلك لك قد منع الله ذلك عمن هو خير منك فقال: "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا" فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا فقال: اذهبوا فادخلوا الكهف فانظروا فذهبوا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم فبلغ ذلك ابن عباس فأنشأ يحدث عنهم. فقال: إنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة فجعلوا يعبدون حتى عبدوا الأوثان و هؤلاء الفتية في المدينة فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي على بعض لأنه لا يدري هذا على ما خرج هذا و لا يدري هذا فأخذوا العهود و المواثيق أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شيء و إلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا: "ربنا رب السماوات و الأرض إلى قوله مرفقا". قال: فقعدوا فجاء أهلهم يطلبونهم لا يدرون أين ذهبوا؟ فرفع أمرهم إلى الملك فقال: ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن، ناس خرجوا لا يدرى أين ذهبوا في غير خيانة و لا شيء يعرف؟ فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته فذلك قول الله: "أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم" و الرقيم هو اللوح الذي كتبوا، فانطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم فناموا فلو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، و لو لا أنهم يقلبون لأكلتهم الأرض، و ذلك قول الله: و ترى الشمس" الآية. قال: ثم إن ذلك الملك ذهب و جاء ملك آخر فعبد الله و ترك تلك الأوثان و عدل في الناس فبعثهم الله لما يريد فقال قائل منهم: كم لبثتم؟ فقال بعضهم: يوما و قال بعضهم: يومين و قال بعضهم: أكثر من ذلك فقال كبيرهم: لا تختلفوا فإنه لم يختلف قوم قط إلا هلكوا فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة. فرأى شارة 1 أنكرها و رأى بنيانا أنكره ثم دنا إلى خباز فرمى إليه بدرهم و كانت دراهمهم كخفاف الربع يعني ولد الناقة فأنكر الخباز الدرهم فقال: من أين لك هذا الدرهم؟ لقد وجدت كنزا لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الأمير فقال: أ و تخوفني بالأمير؟ و أتى الدهقان الأمير قال: من أبوك؟ قال: فلان فلم يعرفه قال: فمن الملك؟ قال: فلان فلم يعرفه فاجتمع عليهم الناس فرفع إلى عالمهم فسأله فأخبره فقال: علي باللوح فجيء به فسمى أصحابه فلانا و فلانا و هم مكتوبون في اللوح فقال للناس: إن الله قد دلكم على إخوانكم. و انطلقوا و ركبوا حتى أتوا إلى الكهف فلما دنوا من الكهف قال الفتى. مكانكم أنتم حتى أدخل أنا على أصحابي، و لا تهجموا فيفزعون منكم و هم لا يعلمون أن الله قد أقبل بكم و تاب عليكم فقالوا: لتخرجن علينا؟ قال: نعم إن شاء الله فدخل فلم يدروا أين ذهب؟ و عمي عليهم فطلبوا و حرضوا فلم يقدروا على الدخول عليهم فقالوا: لنتخذن عليهم مسجدا فاتخذوا عليهم مسجدا يصلون عليهم و يستغفرون لهم.

أقول: و الرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم و تلقوها بالقبول و هي بعد غير خالية عن أشياء منها أن ظاهرها أنهم بعد على هيئة النيام لا يمكن الاطلاع عليهم بصرف إلهي، و الكهف الذي في المضيق و هو كهف إفسوس المعروف اليوم ليس على هذا النعت.

و الآية التي تمسك بها ابن عباس إنما تمثل حالهم و هم رقود قبل البعث لا بعده و قد وردت عن ابن عباس رواية أخرى تخالف هذه الرواية و هي ما في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن عكرمة و قد ذكرت فيها القصة و في آخرها: فركب الملك و ركب معه الناس حتى انتهى إلى الكهف فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي فلما أبصروه و أبصرهم ضرب على آذانهم فلما استبطئوه دخل الملك و دخل الناس معه فإذا أجساد لا يبلى منها شيء غير أنها لا أرواح فيها فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.

فغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس ذهبت عظامهم أكثر من ثلاثمائة سنة الحديث.

و تزيد هذه الرواية إشكالا أن قوله: ذهبت عظامهم "إلخ" يؤدي إلى وقوع القصة في أوائل التاريخ الميلاد أو قبله فتخالف حينئذ عامة الروايات إلا ما تقول إنهم كانوا قبل المسيح.

و منها ما في قوله: "فقال بعضهم: يوما و قال بعضهم: يومين" إلخ و الذي وقع في القرآن: "قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم" و هو المعقول الموافق للاعتبار من قوم ناموا ثم انتبهوا و تكلموا في مدة لبثهم أخذا بشواهد الحال و أما احتمال اليومين و أزيد فمما لا سبيل إليه و لا شاهد يشهد عليه عادة على أن اختلافهم في تشخيص مدة اللبث لم يكن من الاختلاف المذموم الذي هو اختلاف في العمل في شيء حتى يؤدي إلى الهلاك فينهى عنه و إنما هو اختلاف في النظر و لا مناص.

و منها ما في آخرها أنه دخل فلم يدروا أين ذهب؟ و عمي عليهم "إلخ" كان المراد به ما في بعض الروايات أن باب الكهف غاب عن أنظارهم بأن مسحه الله و عفاه، و لا يلائم ذلك ما في صدر الرواية أنه كان ظاهرا معروفا في تلك الديار فهل مسحه الله لذلك الملك و أصحابه ثم أظهره للناس؟.

و ما في صدر الرواية من قول ابن عباس إن الرقيم لوح من رصاص مكتوب فيه أسماؤهم" روى ما في معناه العياشي في تفسيره، عن أحمد بن علي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قد روي في روايات أخرى عن ابن عباس إنكاره كما في الدر المنثور، عن سعيد بن منصور و عبد الرزاق و الفريابي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الزجاجي في أماليه و ابن مردويه عن ابن عباس قال: لا أدري ما الرقيم و سألت كعبا فقال اسم القرية التي خرجوا منها.

و فيه، أيضا عن عبد الرزاق عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه إلا أربعا: غسلين 1 و حنانا و أواه و رقيم.

و في تفسير القمي،: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا" يعني جورا على الله إن قلنا له شريك.



و في تفسير العياشي، عن محمد بن سنان عن البطيخي عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا" قال: إن ذلك لم يعن به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما عني به المؤمنون بعضهم لبعض لكنه حالهم التي هم عليها.

و في تفسير روح المعاني، أسماؤهم على ما صح عن ابن عباس: مكسلمينا و يمليخا و مرطولس و ثبيونس و دردونس و كفاشيطيطوس و منطنواسيس و هو الراعي و الكلب اسمه قطمير: قال: و روي عن علي كرم الله وجهه: إن أسماءهم: يمليخا و مكسلينيا و مسلينيا و هؤلاء أصحاب يمين الملك، و مرنوش و دبرنوش و شاذنوش، و هؤلاء أصحاب يساره، و كان يستشير الستة و السابع الراعي و لم يذكر في هذه الرواية اسمه و ذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير.

قال: و في صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله وجه مقال و ذكر العلامة السيوطي في حواشي البيضاوي، أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط، بإسناد صحيح، و الذي في الدر المنثور، رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس.

قال: و قد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء، و ذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا و لا يقع الوثوق من ضبطها، و في البحر، أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل و لا نقط و السند في معرفتها ضعيف انتهى كلامه 2.

الرواية التي نسبها إلى علي (عليه السلام) هي التي رواها الثعلبي في العرائس، و الديلمي في كتابه مرفوعة و فيها أعاجيب.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أصحاب الكهف أعوان المهدي.

و في البرهان، عن ابن الفارسي قال الصادق (عليه السلام): يخرج للقائم (عليه السلام) من ظهر الكعبة سبعة و عشرون رجلا من قوم موسى الذين كانوا يهدون بالحق و به يعدلون و سبعة من أهل الكهف و يوشع بن نون، و أبو دجانة الأنصاري، و مقداد بن الأسود و مالك الأشتر فيكونون بين يديه أنصارا و حكاما.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: إذا حلف رجل بالله فله ثنياها إلى أربعين يوما و ذلك أن قوما من اليهود سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن شيء فقال: ائتوني غدا و لم يستثن حتى أخبركم فاحتبس عنه جبرئيل أربعين يوما ثم أتاه و قال: "و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا - إلا أن يشاء الله و اذكر ربك إذا نسيت".

أقول: الثنيا بالضم فالسكون مقصورا اسم الاستثناء و في هذا المعنى روايات أخر عن الصادقين (عليهما السلام) و الظاهر من بعضها أن المراد بالحلف بت الكلام و تأكيده كما يلوح إليه استشهاده (عليه السلام) في هذه الرواية بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أما البحث في تقييد اليمين به بعد انعقاده و وقوع الحنث معه و عدمه فموكول إلى الفقه.

"كلام حول قصة أصحاب الكهف في فصول"

1 - وردت قصة الكهف مفصلة كاملة في عدة روايات عن الصحابة و التابعين و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كرواية القمي و رواية ابن عباس و رواية عكرمة و رواية مجاهد و قد أوردها في الدر المنثور، و رواية ابن إسحاق في العرائس، و قد أوردها في البرهان، و رواية وهب بن منبه و قد أوردها في الدر المنثور، و في الكامل، من غير نسبة و رواية النعمان بن بشير في أصحاب الرقيم و قد أوردها في الدر المنثور،.



و هذه الروايات - و قد أوردنا في البحث الروائي السابق بعضها و أشرنا إلى بعضها الآخر - من الاختلاف في متونها بحيث لا تكاد تتفق في جهة بارزة من جهات القصة، و أما الروايات الواردة في بعض جهات القصة كالمتعرضة لزمان قيامهم و الملك الذي قاموا في عهده و نسبهم و سمتهم و أسمائهم و وجه تسميتهم بأصحاب الرقيم إلى غير ذلك من جزئيات القصة فالاختلاف فيها أشد و الحصول فيها على ما تطمئن إليه النفس أصعب.

و السبب العمدة في اختلاف هذه الأحاديث مضافا إلى ما تطرق إلى أمثال هذه الروايات من الوضع و الدس أمران.

أحدهما: أن القصة مما اعتنت به أهل الكتاب كما يستفاد من رواياتها أن قريشا تلقتها عنهم و سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها بل يستفاد من التماثيل و قد ذكرها أهل التاريخ عن النصارى و من الصور الموجودة في كهوف شتى في بقاع الأرض المختلفة من آسيا و أوربا و إفريقيا أن القصة اكتسبت بعد شهرة عالمية، و من شأن القصص التي كذلك أن تتجلى لكل قوم في صورة تلائم ما عندهم من الآراء و العقائد و تختلف رواياتها.

ثم إن المسلمين بالغوا في أخذ الرواية و ضبطها و توسعوا فيه و أخذوا ما عند غيرهم كما أخذوا ما عند أنفسهم و خاصة و قد اختلط بهم قوم من علماء أهل الكتاب دخلوا في الإسلام كوهب بن منبه و كعب الأحبار و أخذ عنهم الصحابة و التابعون كثيرا من أخبار السابقين ثم أخذ الخلف عن السلف و عاملوا مع رواياتهم معاملة الأخبار الموقوفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت بلوى.

و ثانيهما: أن دأب كلامه تعالى فيما يورده من القصص أن يقتصر على مختارات من نكاتها المهمة المؤثرة في إيفاء الغرض من غير أن يبسط القول بذكر متنها بالاستيفاء و التعرض لجميع جهاتها و الأوضاع و الأحوال المقارنة لها فما كتاب الله بكتاب تاريخ و إنما هو كتاب هدى.

و هذا من أوضح ما يعثر عليه المتدبر في القصص المذكورة في كلامه تعالى كالذي ورد فيه من قصة أصحاب الكهف و الرقيم فقد أورد أولا شطرا من محاورتهم يشير إلى معنى قيامهم لله و ثباتهم على كلمة الحق و اعتزالهم الناس إثر ذلك و دخولهم الكهف و رقودهم فيه و كلبهم معهم دهرا طويلا ثم يذكر بعثهم من الرقدة و محاورة ثانية لهم هي المؤدية إلى انكشاف حالهم و ظهور أمرهم للناس.

ثم يذكر إعثار الناس عليهم بما يشير إلى توفيهم ثانيا بعد حصول الغرض الإلهي و ما صنع بعد ذلك من اتخاذ مسجد عليهم هذا هو الذي جرى عليه كلامه تعالى.

و قد أضرب عن ذكر أسمائهم و أنسابهم و موالدهم و كيفية نشأتهم و ما اتخذوه لأنفسهم من المشاغل و موقعهم من مجتمعهم و زمان قيامهم و اعتزالهم و اسم الملك الذي هربوا منه و المدينة التي خرجوا منها و القوم الذين كانوا فيهم و اسم الكلب الذي لازمهم و هل كان كلب صيد لهم أو كلب غنم للراعي؟ و ما لونه؟ - و قد أمعن فيه الروايات - إلى غير ذلك من الأمور التي لا يتوقف غرض الهداية على العلم بشيء منها كما يتوقف عليه غرض البحث التاريخي.



ثم إن المفسرين من السلف لما أخذوا في البحث عن آيات القصص راموا بيان اتصال الآيات بضم المتروك من أطراف القصص إلى المختار المأخوذ منها لتصاغ بذلك قصة كاملة الأجزاء مستوفاة الأطراف فأدى اختلاف أنظارهم إلى اختلاف يشابه اختلاف النقل فآل الأمر إلى ما نشاهده.

2 - قصة أصحاب الكهف في القرآن:

و قد قال تعالى مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) "فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا و لا تستفت فيهم منهم أحدا" كانت أصحاب الكهف و الرقيم فتية نشئوا في مجتمع مشرك لا يرى إلا عبادة الأوثان فتسرب في المجتمع دين التوحيد فآمن بالله قوم منهم فأنكروا عليهم ذلك و قابلوهم بالتشديد و التضييق و الفتنة و العذاب، و أجبروهم على عبادة الأوثان و رفض دين التوحيد فمن عاد إلى ملتهم تركوه و من أصر على المخالفة قتلوه شر قتلة.

و كانت الفتية ممن آمن بالله إيمانا على بصيرة فزادهم الله هدى على هداهم و أفاض عليهم المعرفة و الحكمة و كشف بما آتاهم من النور عما يهمهم من الأمر و ربط على قلوبهم فلم يخشوا إلا الله و لا أوحشهم ما يستقبلهم من الحوادث و المكاره فعلموا أنهم لو أداموا المكث في مجتمعهم الجاهل المتحكم لم يسعهم دون أن يسيروا بسيرتهم فلا يتفوهوا بكلمة الحق و لا يتشرعوا بشريعة الحق و علموا أن سبيلهم أن يقوموا على التوحيد و رفض الشرك ثم اعتزال القوم، و علموا أن لو اعتزلوهم و دخلوا الكهف أنجاهم الله مما هم فيه من البلاء.

فقاموا و قالوا ردا على القوم في اقتراحهم و تحكمهم: ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا.

ثم قالوا: و إذ اعتزلتموهم و ما يعبدن إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته و يهيىء لكم من أمركم مرفقا.

ثم دخلوا الكهف و استقروا على فجوة منه و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فدعوا ربهم بما تفرسوا من قبل أنه سيفعل بهم ذلك فقالوا: ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيىء لنا من أمرنا رشدا فضرب الله على آذانهم في الكهف سنين و لبثوا في كهفهم - و كلبهم معهم ثلاثمائة سنين و ازدادوا تسعا و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال و هم في فجوة منه و تحسبهم أيقاظا و هم رقود و يقلبهم الله ذات اليمين و ذات الشمال و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا.

ثم إن الله بعثهم بعد هذا الدهر الطويل و هو ثلاثمائة و تسع سنين من يوم دخلوا الكهف ليريهم كيف نجاهم من قومهم فاستيقظوا جميعا و وجدوا أن الشمس تغير موقعها و فيهم شيء من لوثة نومهم الثقيل قال قائل منهم: كم لبثتم؟ قال قوم منهم: لبثنا يوما أو بعض يوم لما وجدوا من تغير موقع الشعاع و ترددوا هل مرت عليهم ليلة أو لا؟ و قال آخرون منهم: بل ربكم أعلم بما لبثتم ثم قال: فابعثوا بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه فإنكم جياع و ليتلطف الذاهب منكم إلى المدينة في مسيره إليها و شرائه الطعام و لا يشعرن بكم أحدا إنهم إن علموا بمكانكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا.



و هذا أوان أن يعثر الله سبحانه الناس عليهم فإن القوم الذين اعتزلوهم و فارقوهم يوم دخلوا الكهف قد انقرضوا و ذهب الله بهم و بملكهم و ملتهم و جاء بقوم آخرين الغلبة فيهم لأهل التوحيد و السلطان و قد اختلفوا أعني أهل التوحيد و غيرهم في أمر المعاد فأراد الله سبحانه أن يظهر لهم آية في ذلك فأعثرهم على أصحاب الكهف.

فخرج المبعوث من الفتية و أتى المدينة و هو يظن أنها التي فارقها البارحة لكنه وجد المدينة قد تغيرت بما لا يعهد مثله في يوم و لا في عمر و الناس غير الناس و الأوضاع و الأحوال غير ما كان يشاهده بالأمس فلم يزل على حيرة من الأمر حتى أراد أن يشتري طعاما بما عنده من الورق و هي يومئذ من الورق الرائجة قبل ثلاثة قرون فأخذت المشاجرة فيها و لم تلبث دون أن كشفت عن أمر عجيب و هو أن الفتى ممن كانوا يعيشون هناك قبل ذلك بثلاثة قرون، و هو أحد الفتية كانوا في مجتمع مشرك ظالم فهجروا الوطن و اعتزلوا الناس صونا لإيمانهم و دخلوا الكهف فأنامهم الله هذا الدهر الطويل ثم بعثهم، و ها هم الآن في الكهف في انتظار هذا الذي بعثوه إلى المدينة ليشتري لهم طعاما يتغذون به.

فشاع الخبر في المدينة لساعته و اجتمع جم غفير من أهلها فساروا إلى الكهف و معهم الفتى المبعوث من أصحاب الكهف فشاهدوا ما فيه تصديق الفتى فيما أخبرهم من نبإ رفقته و ظهرت لهم الآية الإلهية في أمر المعاد.

و لم يلبث أصحاب الكهف بعد بعثهم كثيرا دون أن توفاهم الله سبحانه و عند ذلك اختلف المجتمعون على باب الكهف من أهل المدينة ثانيا فقال المشركون منهم: ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم و هم الموحدون لنتخذن عليهم مسجدا.

3 - القصة عند غير المسلمين:


معظم أهل الرواية و التاريخ على أن القصة وقعت في الفترة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين المسيح (عليه السلام) و لذلك لم يرد ذكرها في كتب العهدين و لم يعتوره اليهود و إن اشتملت عدة من الروايات على أن قريشا تلقت القصة من اليهود، و إنما اهتم بها النصارى و اعتوروها قديما و حديثا، و ما نقل عنهم في القصة قريب مما أورده ابن إسحاق في العرائس، عن ابن عباس غير أنهم يختلف رواياتهم عن روايات المسلمين في أمور:.

أحدها: أن المصادر السريانية تذكر عدد أصحاب الكهف ثمانية في حين يذكره المسلمون و كذا المصادر اليونانية و الغربية سبعة.

ثانيها: أن قصتهم خالية من ذكر كلب أصحاب الكهف.

ثالثها: أنهم ذكروا أن مدة لبث أصحاب الكهف فيه مائتا سنة أو أقل و المسلمون يذكر معظمهم أنه ثلاثمائة و تسع سنين على ما هو ظاهر القرآن الكريم و السبب في تحديدهم ذلك أنهم ذكروا أن الطاغية الذي كان يجبر الناس على عبادة الأصنام و قد هرب منه الفتية هو دقيوس الملك 449 - 451 و قد استيقظ أهل الكهف على ما ذكروا سنة 435 م أو سنة 437 أو سنة 439 م فلا يبقى للبثهم في الكهف إلا مائتا سنة أو أقل و أول من ذكره من مؤرخهم على ما يذكر هو "جيمس" الساروغي السرياني الذي ولد سنة 451 م و مات سنة 521 م ثم أخذ عنه الآخرون و للكلام تتمة ستوافيك.

4 - أين كهف أصحاب الكهف؟




عثر في مختلف بقاع الأرض على عدة من الكهوف و الغيران و على جدرانها تماثيل رجال ثلاثة أو خمسة أو سبعة و معهم كلب و في بعضها بين أيديهم قربان يقربونه، و يتمثل عند الإنسان المطلع عليها قصص أصحاب الكهف و يقرب من الظن أن هذه النقوش و التماثيل إشارة إلى قصة الفتية و أنها انتشرت و ذاعت بعد وقوعها في الأقطار فأخذت ذكرى يتذكر بها الرهبان و المتجردون للعبادة في هذه الكهوف.

و أما الكهف الذي التجأ إليه و استخفى فيه أهل الكهف فجرى عليهم ما جرى فالناس فيه في اختلاف و قد ادعي ذلك في عدة مواضع.

أحدها: كهف إفسوس و إفسوس 1 هذا مدينة خربة أثرية واقعة في تركيا على مسافة 73 كيلو مترا من بلدة إزمير، و الكهف على مساحة كيلو متر واحد أو أقل من إفسوس بقرب قرية "اياصولوك" بسفح جبل "ينايرداغ".

و هو كهف وسيع فيه - على ما يقال - مات من القبور مبنية من الطوب و هو في سفح الجبل و بابه متجه نحو الجهة الشمالية الشرقية و ليس عنده أثر من مسجد أو صومعة أو كنيسة، و هذا الكهف هو الأعرف عند النصارى، و قد ورد ذكره في عدة من روايات المسلمين.

و هذا الكهف على الرغم من شهرته البالغة - لا ينطبق عليه ما ورد في الكتاب العزيز من المشخصات.

أما أولا: فقد قال تعالى: "و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال" و هو صريح في أن الشمس يقع شعاعها عند الطلوع على جهة اليمين من الكهف و عند الغروب على الجانب الشمالي منه، و يلزمه أن يواجه باب الكهف جهة الجنوب، و باب الكهف الذي في إفسوس متجه نحو الشمال الشرقي.

و هذا الأمر أعني كون باب كهف إفسوس متجها نحو الشمال و ما ورد من مشخص إصابة الشمس منه طلوعا و غروبا هو الذي دعا المفسرين إلى أن يعتبروا يمين الكهف و يساره بالنسبة إلى الداخل فيه لا الخارج منه مع أنه المعروف المعمول - كما تقدم في تفسير الآية - قال البيضاوي في تفسيره،: إن باب الكهف في مقابلة بنات النعش، و أقرب المشارق و المغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان و مغربه و الشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن و هو الذي يلي المغرب، و تغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبه و يحلل عفونته و يعدل هواءه و لا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم و يبلي ثيابهم.

انتهى و نحو منه ما ذكره غيره.

على أن مقابلة الباب للشمال الشرقي لا للقطب الشمالي و بنات النعش كما ذكروه تستلزم عدم انطباق الوصف حتى على الاعتبار الذي اعتبروه فإن شعاع الشمس حينئذ يقع على الجانب الغربي الذي يلي الباب عند طلوعها و أما عند الغروب فالباب و ما حوله مغمور تحت الظل و قد زال الشعاع بعيد زوال الشمس و انبسط الظل.

اللهم إلا أن يدعى أن المراد بقوله: "و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال" عدم وقوع الشعاع أو وقوعه خلفهم لا على يسارهم هذا.

و أما ثانيا: فلأن قوله تعالى: "و هم في فجوة منه" أي في مرتفع منه و لا فجوة في كهف إفسوس - على ما يقال - و هذا مبني على كون الفجوة بمعنى المرتفع و هو غير مسلم و قد تقدم أنها بمعنى الساحة.

و أما ثالثا: فلأن قوله تعالى: "قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا" ظاهر في أنهم بنوا على الكهف مسجدا، و لا أثر عند كهف إفسوس من مسجد أو صومعة أو نحوهما و أقرب ما هناك كنيسة على مسافة ثلاث كيلو مترات تقريبا و لا جهة تربطها بالكهف أصلا.



على أنه ليس هناك شيء من رقيم أو كتابة أو أمر آخر يشهد و لو بعض الشهادة على كون بعض هاتيك القبور و هي مآت هي قبور أصحاب الكهف أو أنهم لبثوا هناك صفة من الدهر راقدين ثم بعثهم الله ثم توفاهم.

الكهف الثاني: كهف رجيب و هذا الكهف واقع على مسافة ثمانية كيلو مترات من مدينة عمان عاصمة الأردن بالقرب من قرية تسمى رجيب و الكهف في جبل محفورا على الصخرة في السفح الجنوبي منه، و أطرافه من الجانبين الشرقي و الغربي مفتوحة يقع عليه شعاع الشمس منها، و باب الكهف يقابل جهة الجنوب و في داخل الكهف صفة صغيرة تقرب من ثلاثة أمتار في مترين و نصف على جانب من سطح الكهف المعادل لثلاثة في ثلاثة تقريبا و في الغار عدة قبور على هيئة النواويس البيزنطية كأنها ثمانية أو سبعة.

و على الجدران نقوش و خطوط باليوناني القديم و الثمودي منمحية لا تقرأ و أيضا صورة كلب مصبوغة بالحمرة و زخارف و تزويقات أخرى.

و فوق الغار آثار صومعة بيزنطية تدل النقود و الآثار الأخرى المكتشفة فيها على كونها مبنية في زمان الملك جوستينوس الأول 418 427 و آثار أخرى على أن الصومعة بدلت ثانيا بعد استيلاء المسلمين على الأرض مسجدا إسلاميا مشتملا على المحراب و المأذنة و الميضاة، و في الساحة المقابلة لباب الكهف آثار مسجد آخر بناه المسلمون في صدر الإسلام ثم عمروها و شيدوها مرة بعد مرة، و هو مبني على أنقاض كنيسة بيزنطية كما أن المسجد الذي فوق الكهف كذلك.

و كان هذا الكهف - على الرغم من اهتمام الناس بشأنه و عنايتهم بأمره كما يكشف عنه الآثار - متروكا منسيا و بمرور الزمان خربة و ردما متهدما حتى اهتمت دائرة الآثار الأردنية أخيرا 1 بالحفر و التنقيب فيه فاكتشفته فظهر ثانيا بعد خفائه قرونا، و قامت عدة من الأمارات و الشواهد الأثرية على كونه هو كهف أصحاب الكهف المذكورين في القرآن.

و قد ورد كون كهف أصحاب الكهف بعمان في بعض روايات المسلمين كما أشرنا إليه فيما تقدم و ذكره الياقوت في معجم البلدان و أن الرقيم اسم قرية بالقرب من عمان كان فيها قصر ليزيد بن عبد الملك و قصر آخر في قرية أخرى قريبة منها تسمى الموقر و إليهما يشير الشاعر بقوله: يزرن على تنانيه يزيدا.

بأكناف الموقر و الرقيم.

و بلدة عمان أيضا مبنية في موضع مدينة "فيلادلفيا" التي كانت من أشهر مدن عصرها و أجملها قبل ظهور الدعوة الإسلامية و كانت هي و ما والاها تحت استيلاء الروم منذ أوائل القرن الثاني الميلاد حتى فتح المسلمون الأرض المقدسة.

و الحق أن مشخصات كهف أهل الكهف أوضح انطباقا على هذا الكهف من غيره.

و الكهف الثالث: كهف بجبل قاسيون بالقرب من الصالحية بدمشق الشام ينسب إلى أصحاب الكهف.

و الكهف الرابع: كهف بالبتراء من بلاد فلسطين ينسبونه إلى أصحاب الكهف.

و الكهف الخامس: كهف اكتشف - على ما قيل - في شبه جزيرة إسكاندنافية من الأوربة الشمالية عثروا فيه على سبع جثث غير بالية على هيئة الرومانيين يظن أنهم الفتية أصحاب الكهف.

و ربما يذكر بعض كهوف أخر منسوب إلى أصحاب الكهف كما يذكر أن بالقرب من بلدة نخجوان من بلاد قفقاز كهفا يعتقد أهل تلك النواحي أنه كهف أصحاب الكهف و كان الناس يقصدونه و يزورونه.

و لا شاهد يشهد على كون شيء من هذه الكهوف هو الكهف المذكور في القرآن الكريم.

على أن المصادر التاريخية تكذب الأخيرين إذ القصة على أي حال قصة رومانية، و سلطتهم حتى في أيام مجدهم و سؤددهم لم تبلغ هذه النواحي نواحي أوربة الشمالية و قفقاز.
<<        الفهرس        >>