جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج13 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


18 سورة الكهف - 27 - 31

وَ اتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْك مِن كتَابِ رَبِّك لا مُبَدِّلَ لِكلِمَتِهِ وَ لَن تجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَ اصبرْ نَفْسك مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَوةِ وَ الْعَشىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْنَاك عَنهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدّنْيَا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ اتّبَعَ هَوَاهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَ قُلِ الْحَقّ مِن رّبِّكمْ فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن وَ مَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظلِمِينَ نَاراً أَحَاط بهِمْ سرَادِقُهَا وَ إِن يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كالْمُهْلِ يَشوِى الْوُجُوهَ بِئْس الشرَاب وَ ساءَت مُرْتَفَقاً (29) إِنّ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسنَ عَمَلاً (30) أُولَئك لهَُمْ جَنّت عَدْنٍ تجْرِى مِن تحْتهِمُ الأَنهَرُ يحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَساوِرَ مِن ذَهَبٍ وَ يَلْبَسونَ ثِيَاباً خُضراً مِّن سندُسٍ وَ إِستَبرَقٍ مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلى الأَرَائكِ نِعْمَ الثّوَاب وَ حَسنَت مُرْتَفَقاً (31)

بيان

رجوع و انعطاف على ما انتهى إليه الكلام قبل القصة من بلوغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حزنا و أسفا على عدم إيمانهم بالكتاب النازل عليه و ردهم دعوته الحقة ثم تسليته بأن الدار دار البلاء و الامتحان و ما عليها زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزا فليس ينبغي له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتحرج لأجلهم إن لم يستجيبوا دعوته و لم يؤمنوا بكتابه.

بل الذي عليه أن يصبر نفسه مع أولئك الفقراء من المؤمنين الذين لا يزالون يدعون ربهم و لا يلتفت إلى هؤلاء الكفار المترفين الذين يباهون بما عندهم من زينة الحياة الدنيا التي ستعود صعيدا جرزا بل يدعوهم إلى ربهم و لا يزيد على ذلك فمن شاء منهم آمن به و من شاء كفر و لا عليه شيء، و أما الذي يجب أن يواجهوا به إن كفروا أو آمنوا فليس هو أن يتأسف أو يسر، بل ما أعده الله للفريقين من عقاب أو ثواب.

قوله تعالى: "و اتل ما أوحي إليك" إلى آخر الآية في المجمع،: لحد إليه و التحد أي مال انتهى فالملتحد اسم مكان من الالتحاد بمعنى الميل و المراد بكتاب ربك القرآن أو اللوح المحفوظ، و كان الثاني أنسب بقوله: "لا مبدل لكلماته".

و في الكلام على ما عرفت آنفا رجوع إلى ما قبل القصة و عليه فالأنسب أن يكون قوله: "و اتل" إلخ عطفا على قوله: "إنا جعلنا ما على الأرض" إلخ و المعنى لا تهلك نفسك على آثارهم أسفا و اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لأنه لا مغير لكلماته فهي حقة ثابتة و لأنك لا تجد من دونه ملتحدا تميل إليه.

و بذلك ظهر أن كلا من قوله: "لا مبدل لكلماته" و قوله "لن تجد من دونه ملتحدا" في مقام التعليل فهما حجتان على الأمر في قوله: "و اتل" و لعله لذلك خص الخطاب في قوله: "و لن تجد" إلخ بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن الحكم عام و لن يوجد من دونه ملتحد لأحد.

و يمكن أن يكون المراد: و لن تجد أنت ملتحدا من دونه لأنك رسول و لا ملجأ للرسول من حيث إنه رسول إلا مرسله، و الأنسب على هذا أن يكون قوله: "لا مبدل لكلماته" حجة واحدة مفادها: و اتل عليهم هذه الآيات المشتملة على الأمر الإلهي بالتبليغ لأنه كلمة إلهية و لا تتغير كلماته و أنت رسول ليس لك إلا أن تميل إلى مرسلك و تؤدي رسالته، و يؤيد هذا المعنى قوله في موضع آخر: "قل إني لن يجيرني من الله أحد و لن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله و رسالاته": الجن: 23.

قوله تعالى: "و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه" إلى آخر الآية قال الراغب: الصبر الإمساك في ضيق يقال: صبرت الدابة حبستها بلا علف، و صبرت فلانا خلفته خلفة لا خروج له منها، و الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل و الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه.

انتهى مورد الحاجة.

و وجه الشيء ما يواجهك و يستقبلك به، و الأصل في معناه الوجه بمعنى الجارحة، و وجهه تعالى أسماؤه الحسنى و صفاته العليا التي بها يتوجه إليه المتوجهون و يدعوه الداعون و يعبده العابدون قال تعالى: "و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها": الأعراف: 180، و أما الذات المتعالية فلا سبيل إليها، و إنما يقصده القاصدون و يريده المريدون لأنه إله رب علي عظيم ذو رحمة و رضوان إلى غير ذلك من أسمائه و صفاته.

و الداعي لله المريد وجهه إن أراد صفاته تعالى الفعلية كرحمته و رضاه و إنعامه و فضله فإنما يريد أن تشمله و تغمره فيتلبس بها نوع تلبس فيكون مرحوما و مرضيا عنه و منعما بنعمته، و إن أراد صفاته غير الفعلية كعلمه و قدرته و كبريائه و عظمته فإنما يريد أن يتقرب إليه تعالى بهذه الصفات العليا، و إن شئت فقل: يريد أن يضع نفسه موضعا تقتضيه الصفة الإلهية كأن يقف موقف الذلة و الحقارة قبال عزته و كبريائه و عظمته تعالى، و يقف موقف الجاهل العاجز الضعيف تجاه علمه و قدرته و قوته تعالى و هكذا فافهم ذلك.

و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالوجه هو الرضى و الطاعة المرضية مجازا لأن من رضي عن شخص أقبل عليه و من غضب يعرض عنه، و كذا قول بعضهم: المراد بالوجه الذات و الكلام على حذف مضاف، و كذا قول بعضهم: المراد بالوجه التوجه و المعنى يريدون التوجه إليه و الزلفى لديه هذا.

و المراد بدعائهم ربهم بالغداة و العشي الاستمرار على الدعاء و الجري عليه دائما لأن الدوام يتحقق بتكرر غداة بعد عشي و عشي بعد غداة على الحس فالكلام جار على الكناية.

و قيل: المراد بدعاء الغداة و العشي صلاة طرفي النهار و قيل: الفرائض اليومية و هو كما ترى.

و قوله تعالى: "و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا" أصل معنى العدو كما صرح به الراغب التجاوز و هو المعنى الساري في جميع مشتقاته و موارد استعمالاته قال في القاموس،: يقال: عدا الأمر و عنه جاوزه و تركه انتهى فمعنى "لا تعد عيناك عنهم" لا تجاوزهم و لا تتركهم عيناك و الحال أنك تريد زينة الحياة الدنيا.

لكن ذكر بعضهم أن المجاوزة لا تتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو، و لذا قال الزمخشري في الكشاف،: إن قوله: "لا تعد عيناك عنهم" بتضمين عدا معنى نبا و علا في قولك: نبت عنه عينه و علت عنه عينه إذا اقتحمته و لم تعلق به، و لو لا ذلك لكان من الواجب أن يقال: و لا تعدهم عيناك.

و قوله تعالى: "و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" المراد بإغفال قلبه تسليط الغفلة عليه و إنساؤه ذكر الله سبحانه على سبيل المجازاة حيث إنهم عاندوا الحق فأضلهم الله بإغفالهم عن ذكره فإن كلامه تعالى في قوم هذه حالهم نظير ما سيأتي في ذيل الآيات من قوله: "إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا و إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا".

فلا مساغ لقول من قال: إن الآية من أدلة جبره تعالى على الكفر و المعصية و ذلك لأن الإلجاء مجازاة لا ينافي الاختيار و الذي ينافيه هو الإلجاء ابتداء و مورد الآية من القبيل الأول.

و لا حاجة إلى تكلف التأويل كقول من قال إن المراد بقوله: "أغفلنا قلبه" عرضناه للغفلة أو أن المعنى صادفناه غافلا أو أريد به نسبناه إلى الغفلة أو أن الإغفال بمعنى جعله غفلا لا سمة له و لا علامة و المراد جعلنا قلبه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين و لم نعلم فيه علامة المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة.

فالجميع كما ترى.

و قوله تعالى: "و اتبع هواه و كان أمره فرطا" قال في المجمع،: الفرط التجاوز للحق و الخروج عنه من قولهم: أفرط إفراطا إذا أسرف

انتهي.

و اتباع الهوى و الإفراط من آثار غفلة القلب، و لذلك كان عطف الجملتين على قوله: "أغفلنا" بمنزلة عطف التفسير.



قوله تعالى: "و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر عطف على ما عطف عليه قوله: "و اتل ما أوحي إليك" و قوله: "و اصبر نفسك" فالسياق سياق تعداد وظائف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبال كفرهم بما أنزل إليه و إصرارهم عليه و المعنى لا تأسف عليهم و اتل ما أوحي إليك و اصبر نفسك مع هؤلاء المؤمنين من الفقراء، و قل للكفار: الحق من ربكم و لا تزد على ذلك فمن شاء منهم أن يؤمن فليؤمن و من شاء منهم أن يكفر فليكفر فليس بنفعنا إيمانهم و لا يضرنا كفرهم بل ما في ذلك من نفع أو ضرر و ثواب أو تبعة عذاب عائد إليهم أنفسهم فليختاروا ما شاءوا فقد أعتدنا للظالمين كذا و كذا و للصالحين من المؤمنين كذا.

و من هنا يظهر أن قوله: "فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر" من كلامه تعالى يخاطب به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس داخلا في مقول القول فلا يعبأ بما ذكر بعضهم أن الجملة من تمام القول المأمور به.

و يظهر أيضا أن قول: "إنا أعتدنا للظالمين نارا" إلخ في مقام التعليل لتخييرهم بين الإيمان و الكفر الذي هو تخيير صورة و تهديد معنى، و المعنى أنا إنما نهيناك عن الأسف و أمرناك أن تكتفي بالتبليغ فقط و تقنع بقولك: "الحق من ربكم" فحسب و لم نتوسل إلى إصرار و إلحاح لأنا هيأنا لهم تبعات هذه الدعوة ردا و قبولا و كفى بما هيأناه محرضا و رادعا و لا حاجة إلى أزيد من ذلك و عليهم أن يختاروا لأنفسهم أي المنزلتين شاءوا.

قوله تعالى: "إنا أعتدنا للظالمين نارا" إلى آخر الآية قال في المجمع،: السرادق الفسطاط المحيط بما فيه، و يقال: السرادق ثوب يدار حول الفسطاط، و قال: المهل خثارة الزيت، و قيل: هو النحاس الذائب، و قال: المرتفق المتكأ من المرفق يقال: ارتفق إذا اتكأ على مرفقه انتهى و الشيء النضج يقال: شوى يشوي شيا إذا نضج.

و في تبديل الكفر من الظلم في قوله: "إنا أعتدنا للظالمين" دون أن يقول: للكافرين دلالة على أن التبعة المذكورة إنما هي للظالمين بما هم ظالمون: و قد عرفهم في قوله: "الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون": الأعراف: 45 و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا" بيان لجزاء المؤمنين على إيمانهم و عملهم الصالح و إنما قال: "إنا لا نضيع" إلخ و لم يقل: و أعتدنا لهؤلاء كذا و كذا ليكون دالا على العناية بهم و الشكر لهم.

و قوله: "إنا لا نضيع" إلخ في موضع خبر إن، و هو في الحقيقة من وضع السبب موضع المسبب و التقدير إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سنوفيهم أجرهم فإنهم محسنون و إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا.

و إذ عد في الآية العقاب أثرا للظلم ثم عد الثواب في مقابله أجرا للإيمان و العمل الصالح استفدنا منه أن لا ثواب للإيمان المجرد من صالح العمل بل ربما أشعرت الآية بأنه من الظلم.

قوله تعالى: "أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار" إلى آخر الآية.

العدن هو الإقامة و جنات عدن جنات إقامة و الأساور قيل: جمع أسورة و هي جمع سوار بكسر السين و هي حلية المعصم، و ذكر الراغب أنه فارسي معرب و أصله دستواره و السندس ما رق من الديباج، و الإستبرق ما غلظ منه، و الأرائك جمع أريكة و هي السرير، و معنى الآية ظاهر.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: في قوله: "و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" قال: نزلت في أمية بن خلف و ذلك أنه دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه و تقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله: "و لا تطع من أغفلنا قلبه" يعني من ختمنا على قلبه "عن ذكرنا" يعني التوحيد "و اتبع هواه" يعني الشرك "و كان أمره فرطا" يعني فرطا في أمر الله و جهالة بالله.

و فيه، أخرج ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية، و البيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عيينة بن بدر و الأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس و تغيبت عن هؤلاء و أرواح جبابهم يعنون سلمان و أبا ذر و فقراء المسلمين و كانت عليهم جباب الصوف جالسناك أو حادثناك و أخذنا عنك فأنزل الله: و اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك إلى قوله أعتدنا للظالمين نارا" يهددهم بالنار.

أقول: و روى مثله القمي في تفسيره لكنه ذكر عيينة بن الحصين بن الحذيفة بن بدر الفزاري فقط، و لازم الرواية كون الآيتين مدنيتين و عليه روايات أخر تتضمن نظيرة القصة لكن سياق الآيات لا يساعد عليه.

و في تفسير العياشي، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي" قالا: إنما عنى بها الصلاة.

و فيه، عن عاصم الكوزي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول في قول الله: "فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر" قال: وعيد.

و في الكافي، و تفسير العياشي، و غيره عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر" في ولاية علي (عليه السلام).

أقول: و هو من الجري: و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و أبو يعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الشعب، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "بماء كالمهل" قال: كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه.

و في تفسير القمي،: في قوله: "بماء كالمهل" قال: قال (عليه السلام): المهل الذي يبقى في أصل الزيت.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ابن آدم خلق أجوف لا بد له من الطعام و الشراب قال تعالى: "و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه".

18 سورة الكهف - 32 - 46

وَ اضرِب لهَُم مّثَلاً رّجُلَينِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنّتَينِ مِنْ أَعْنَبٍ وَ حَفَفْنَهُمَا بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنَا بَيْنهُمَا زَرْعاً (32) كلْتَا الجَْنّتَينِ ءَاتَت أُكلَهَا وَ لَمْ تَظلِم مِّنْهُ شيْئاً وَ فَجّرْنَا خِلَلَهُمَا نهَراً (33) وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصحِبِهِ وَ هُوَ يحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثرُ مِنك مَالاً وَ أَعَزّ نَفَراً (34) وَ دَخَلَ جَنّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظنّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَ مَا أَظنّ الساعَةَ قَائمَةً وَ لَئن رّدِدت إِلى رَبى لأَجِدَنّ خَيراً مِّنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يحَاوِرُهُ أَ كَفَرْت بِالّذِى خَلَقَك مِن تُرَابٍ ثمّ مِن نّطفَةٍ ثمّ سوّاك رَجُلاً (37) لّكِنّا هُوَ اللّهُ رَبى وَ لا أُشرِك بِرَبى أَحَداً (38) وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْت جَنّتَك قُلْت مَا شاءَ اللّهُ لا قُوّةَ إِلا بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلّ مِنك مَالاً وَ وَلَداً (39) فَعَسى رَبى أَن يُؤْتِينِ خَيراً مِّن جَنّتِك وَ يُرْسِلَ عَلَيهَا حُسبَاناً مِّنَ السمَاءِ فَتُصبِحَ صعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَستَطِيعَ لَهُ طلَباً (41) وَ أُحِيط بِثَمَرِهِ فَأَصبَحَ يُقَلِّب كَفّيْهِ عَلى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَ هِىَ خَاوِيَةٌ عَلى عُرُوشهَا وَ يَقُولُ يَلَيْتَنى لَمْ أُشرِك بِرَبى أَحَداً (42) وَ لَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَ مَا كانَ مُنتَصراً (43) هُنَالِك الْوَلَيَةُ للّهِ الحَْقِّ هُوَ خَيرٌ ثَوَاباً وَ خَيرٌ عُقْباً (44) وَ اضرِب لهَُم مّثَلَ الحَْيَوةِ الدّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَهُ مِنَ السمَاءِ فَاخْتَلَط بِهِ نَبَات الأَرْضِ فَأَصبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَحُ وَ كانَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ مّقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدّنْيَا وَ الْبَقِيَت الصلِحَت خَيرٌ عِندَ رَبِّك ثَوَاباً وَ خَيرٌ أَمَلاً (46)

بيان

الآيات تتضمن مثلين يبينان حقيقة ما يملكه الإنسان في حياته الدنيا من الأموال و الأولاد و هي زخارف الحياة و زيناتها الغارة السريعة الزوال و الفناء التي تتزين بها للإنسان فتلهيه عن ذكر ربه و تجذب وهمه إلى أن يخلد إليها و يعتمد عليها فيخيل إليه أنه يملكها و يقدر عليها حتى إذا طاف عليها طائف من الله سبحانه فنت و بادت و لم يبق للإنسان منها إلا كحلمة نائم و أمنية كاذبة.

فالآيات ترجع الكلام إلى توضيح ما أشار سبحانه إليه في قوله: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا" من الحقيقة.

قوله تعالى: "و اضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب" إلخ أي و اضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الحياة الدنيا المعرضين عن ذكر الله مثلا ليتبين لهم أنهم لم يتعلقوا في ذلك إلا بسراب وهمي لا واقع له.

و قد ذكر بعض المفسرين أن الذي يتضمنه المثل قصة مقدرة مفروضة فليس من الواجب أن يتحقق مضمون المثل خارجا، و ذكر آخرون أنه قصة واقعة، و قد رووا في ذلك قصصا كثيرة مختلفة لا معول عليها غير أن التدبر في سياق القصة بما فيها من كونهما جنتين اثنتين و انحصار أشجارهما في الكرم و النخل و وقوع الزرع بينهما و غير ذلك يؤيد كونها قصة واقعة.

و قوله: "جنتين من أعناب" أي من كروم فالثمرة كثيرا ما يطلق على شجرتها و قوله: "و حففناهما بنخل" أي جعلنا النخل محيطة بهما حافة من حولهما و قوله: "و جعلنا بينهما زرعا" أي بين الجنتين و وسطهما، و بذلك تواصلت العمارة و تمت و اجتمعت له الأقوات و الفواكه.

قوله تعالى: "كلتا الجنتين آتت أكلها" الآية الأكل بضمتين المأكول و المراد بإيتائهما الأكل إثمار أشجارهما من الأعناب و النخيل.

و قوله: "و لم تظلم منه شيئا" الظلم النقص، و الضمير للأكل أي و لم تنقص من أكله شيئا بل أثمرت ما في وسعها من ذلك، و قوله: "و فجرنا خلالهما نهرا" أي شققنا وسطهما نهرا من الماء يسقيهما و يرفع حاجتهما إلى الشرب بأقرب وسيلة من غير كلفة.

قوله تعالى: "و كان له ثمر" الضمير للرجل و الثمر أنواع المال كما في الصحاح، و عن القاموس، و قيل: الضمير للنخل و الثمر ثمره، و قيل: المراد كان للرجل ثمر ملكه من غير جنته.

و أول الوجوه أوجهها ثم الثاني و يمكن أن يكون المراد من إيتاء الجنتين أكلها من غير ظلم بلوغ أشجارهما في الرشد مبلغ الإثمار و أوانه، و من قوله: "و كان له ثمر" وجود الثمر على أشجارهما بالفعل كما في الصيف و هو وجه خال عن التكلف.

قوله تعالى: "فقال لصاحبه و هو يحاوره أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا" المحاورة المخاطبة و المراجعة في الكلام، و النفر الأشخاص يلازمون الإنسان نوع ملازمة سموا نفرا لأنهم ينفرون معه و لذلك فسره بعضهم بالخدم و الولد، و آخرون بالرهط و العشيرة و الأول أوفق بما سيحكيه الله تعالى من قول صاحبه له: "إن ترن أنا أقل منك مالا و ولدا" حيث بدل النفر من الولد، و المعنى فقال الذي جعلنا له الجنتين لصاحبه و الحال أنه يحاوره: "أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا" أي ولدا و خدما.



و هذا الذي قاله لصاحبه يحكي عن مزعمة خاصة عنده منحرفة عن الحق فإنه نظر إلى نفسه و هو مطلق التصرف فيما خوله الله من مال و ولد لا يزاحم فيما يريده في ذلك فاعتقد أنه مالكه و هذا حق لكنه نسي أن الله سبحانه هو الذي ملكه و هو المالك لما ملكه و الذي سخره الله له و سلطه عليه من زينة الحياة الدنيا التي هي فتنة و بلاء يمتحن بها الإنسان ليميز الله الخبيث من الطيب بل اجتذبت الزينة نفسه إليها فحسب أنه منقطع عن ربه مستقل بنفسه فيما يملكه، و أن التأثير كله عند الأسباب الظاهرية التي سخرت له.

فنسي الله سبحانه و ركن إلى الأسباب و هذا هو الشرك ثم التفت إلى نفسه فرأى أنه يتصرف في الأسباب مهيمنا عليها فظن ذلك كرامة لنفسه و أخذه الكبر فاستكبر على صاحبه، و إلى ذلك يرجع اختلاف الوصفين أعني وصفه تعالى لملكه إذ قال: "جعلنا لأحدهما جنتين" إلخ و لم يقل: كان لأحدهما جنتان، و وصف الرجل نفسه إذ قال لصاحبه: "أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا" فلم ير إلا نفسه و نسي أن ربه هو الذي سلطه على ما عنده من المال و أعزه بمن عنده من النفر فجرى قوله لصاحبه "أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا مجرى قول قارون لمن نصحه أن لا يفرح و يحسن بما آتاه الله من المال: "إنما أوتيته على علم": القصص: 78.

و هذا الذي يكشف عنه قوله: "أنا أكثر منك مالا" إلخ أعني دعوى الكرامة النفسية و الاستحقاق الذاتي ثم الشرك بالله بالغفلة عنه و الركون إلى الأسباب الظاهرية هو الذي أظهره حين دخل جنته فقال كما حكاه الله: "ما أظن أن تبيد هذه أبدا و ما أظن الساعة قائمة" إلخ.

قوله تعالى: "و دخل جنته و هو ظالم لنفسه قال" إلى آخر الآيتين.

الضمائر الأربع راجعة إلى الرجل، و المراد بالجنة جنسها و لذا لم تثن، و قيل: لأن الدخول لا يتحقق في الجنتين معا في وقت واحد، و إنما يكون في الواحدة بعد الواحدة.

و قال في الكشاف،: فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه و دخل ما هو جنته ما له جنة غيرها يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، و لم يقصد الجنتين و لا واحدة منهما.

انتهى و هو وجه لطيف.

و قوله: "و هو ظالم لنفسه" و إنما كان ظالما لأنه تكبر على صاحبه إذ قال: "أنا أكثر منك مالا" إلخ و هو يكشف عن إعجابه بنفسه و شركه بالله بنسيانه و الركون إلى الأسباب الظاهرية، و كل ذلك من الرذائل المهلكة.

و قوله: "قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا" البيد و البيدودة الهلاك و الفناء و الإشارة بهذه إلى الجنة، و فصل الجملة لكونها في معنى جواب سؤال مقدر كأنه لما قيل: و دخل جنته قيل: فما فعل؟ فقيل: قال: ما أظن أن تبيد إلخ.

و قد عبر عن بقاء جنته بقوله: "ما أظن أن تبيد" إلخ و نفي الظن بأمر كناية عن كونه فرضا و تقديرا لا يلتفت إليه حتى يظن به و يمال إليه فمعنى ما أظن أن تبيد هذه أن بقاءه و دوامه مما تطمئن إليه النفس و لا تتردد فيه حتى تتفكر في بيده و تظن أنه سيفنى.

و هذا حال الإنسان فإن نفسه لا تتعلق بالشيء الفاني من جهة أنه متغير يسرع إليه الزوال، و إنما يتعلق القلب عليه بما يشاهد فيه من سمة البقاء كيفما كان فينجذب إليه و لا يلوي عنه إلى شيء من تقادير فنائه، فتراه إذا أقبلت عليه الدنيا اطمأن إليها و أخذ في التمتع بزينتها و الانقطاع إليها، و اعتورته أهواؤه و طالت آماله كأنه لا يرى لنفسه فناء، و لا لما بيده من النعمة زوالا و لا لما ساعدته عليه من الأسباب انقطاعا، و تراه إذا أدبرت عنه الدنيا أخذه اليأس و القنوط فأنساه كل رجاء للفرج و سجل عليه أنه سيدوم و يدوم عليه الشقاء و سوء الحال.



و السبب في ذلك كله ما أودعه الله في فطرته من التعلق بهذه الزينة الفانية فتنة و امتحانا فإذا أعرض عن ذكر ربه انقطع إلى نفسه و الزينة الدنيوية التي بين يديه و الأسباب الظاهرية التي أحاطت به و تعلق على حاضر الوضع الذي يشاهده، و دعته جاذبة الزينات و الزخارف أن يجمد عليها و لا يلتفت إلى فنائها و هو القول بالبقاء، و كلما قرعته قارعة العقل الفطري أن الدهر سيغدر به، و الأسباب ستخذله، و أمتعة الحياة ستودعه، و حياته المؤجلة ستبلغ أجلها، منعه اتباع الأهواء و طول الآمال الإصغاء لها و الالتفات إليها.

و هذا شأن أهل الدنيا لا يزالون على تناقض من الرأي يعملون ما يصدقونه بأهوائهم و يكذبونه بعقولهم لكنهم يطمئنون إلى رأي الهوى فيمنعهم عن الالتفات إلى قضاء العقل.

و هذا معنى قولهم بدوام الأسباب الظاهرية و بقاء زينة الحياة الدنيا و لهذا قال فيما حكاه الله: "ما أظن أن تبيد هذه أبدا" و لم يقل: هذه لا تبيد أبدا.

و قوله: "و ما أظن الساعة قائمة" هو مبني على ما مر من التأبيد في قوله: "ما أظن أن تبيد هذه أبدا" فإنه يورث استبعاد تغير الوضع الحاضر بقيام الساعة، و كل ما حكاه الله سبحانه من حجج المشركين على نفي المعاد مبني على الاستبعاد كقولهم: "من يحيي العظام و هي رميم": يس: 78 و قولهم: "أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد": الم السجدة: 10.

و قوله: "و لئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا" مبني على ما تقدم من دعوى كرامة النفس و استحقاق الخير، و يورث ذلك في الإنسان رجاء كاذبا بكل خير و سعادة من غير عمل يستدعيه يقول: من المستبعد أن تقوم الساعة و لئن قامت و رددت إلى ربي لأجدن بكرامة نفسي - و لا يقول: يؤتيني ربي - خيرا من هذه الجنة منقلبا أنقلب إليه.

و قد خدعت هذا القائل نفسه فيما ادعت من الكرامة حتى أقسم على ما قال كما يدل عليه لام القسم في قوله: "و لئن رددت" و لام التأكيد و نونها في قوله: "لأجدن" و قال: "رددت" و لم يقل: ردني ربي إليه، و قال: "لأجدن" و لم يقل: آتاني الله.

و الآيتان كقوله تعالى: "و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى": حم السجدة: 50.

قوله تعالى: "قال له صاحبه و هو يحاوره أ كفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا" الآية و ما بعدها إلى تمام أربع آيات رد من صاحب الرجل يرد به قوله: "أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا" ثم قوله إذ دخل جنته "ما أظن أن تبيد هذه أبدا" و قد حلل الكلام من حيث غرض المتكلم إلى جهتين: إحداهما استعلاؤه على الله سبحانه بدعوى استقلاله في نفسه و فيما يملكه من مال و نفر و استثناؤه بما عنده من القدرة و القوة و الثانية استعلاؤه على صاحبه و استهانته به بالقلة و الذلة ثم رد كلا من الدعويين بما يحسم مادتها و يقطعها من أصلها فقوله: "أ كفرت بالذي خلقك - إلى قوله - إلا بالله" رد لأولى الدعويين، و قوله "إن ترن أنا أقل - إلى قوله - طلبا" رد للثانية.

فقوله: "قال له صاحبه و هو يحاوره" في إعادة جملة "و هو يحاوره" إشارة إلى أنه لم ينقلب عما كان عليه من سكينة الإيمان و وقاره باستماع ما استمعه من الرجل بل جرى على محاورته حافظا آدابه و من أدبه إرفاقه به في الكلام و عدم خشونته بذكر ما يعد دعاء عليه يسوؤه عادة فلم يذكر ولده بسوء كما ذكر جنته بل اكتفى فيه بما يرمز إليه ما ذكره في جنته من إمكان صيرورتها صعيدا زلقا و غور مائها.



و قوله: "أ كفرت بالذي خلقك" إلخ الاستفهام للإنكار ينكر عليه ما اشتمل عليه كلامه من الشرك بالله سبحانه بدعوى الاستقلال لنفسه و للأسباب و المسببات كما تقدمت الإشارة إليه و من فروع شركه استبعاده قيام الساعة و تردده فيه.

و أما ما ذكره في الكشاف، أنه جعله كافرا بالله جاحدا لأنعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافرا فغير سديد كيف؟ و هو يذكر في استدراكه نفي الشرك عن نفسه، و لو كان كما قال لذكر فيه الإيمان بالمعاد.

فإن قلت: الآيات صريحة في شرك الرجل، و المشركون ينكرون المعاد.

قلت لم يكن الرجل من المشركين بمعنى عبدة الأصنام و قد اعترف في خلال كلامه بما لا تجيزه أصول الوثنية فقد عبر عنه سبحانه بقوله: "ربي" و لا يراه الوثنيون ربا للإنسان و لا إلها معبودا و إنما هو عندهم رب الأرباب و إله الآلهة، و لم ينف المعاد من أصله كما تقدمت الإشارة إليه بل تردد فيه و استبعده بالإعراض عن التفكر فيه و لو نفاه لقال: و لو رددت و لم يقل: و لئن رددت إلى ربي.

فما يذكر لأمره من الأثر السيىء في الآية إنما هو لشركه بمعنى نسيانه ربه و دعواه الاستقلال لنفسه و للأسباب الظاهرية ففيه عزله تعالى عن الربوبية و إلقاء زمام الملك و التدبير إلى غيره فهذا هو أصل الفساد الذي عليه ينشأ كل فرع فاسد سواء اعترف معه بلسانه بالتوحيد أو أنكره و أثبت الآلهة، قال الزمخشري في قوله تعالى: "قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا" و نعم ما قال: و ترى أكثر الأغنياء من المسلمين و إن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه.

انتهي.

و قد أبطل هذا المؤمن دعوى صاحبه الكافر بقوله: "أ كفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا" بإلفات نظره إلى أصله و هو التراب ثم النطفة فإن ذلك هو أصل الإنسان فما زاد على ذلك حتى يصير الإنسان إنسانا سويا ذا صفات و آثار من موهبة الله محضا لا يملك أصله شيئا من ذلك، و لا غيره من الأسباب الظاهرية الكونية فإنها أمثال الإنسان لا تملك شيئا من نفسها و آثار نفسها إلا بموهبة من الله سبحانه.

فما عند الإنسان و هو رجل سوي من الإنسانية و آثارها من علم و حياة و قدرة و تدبير يسخر بها الأسباب الكونية في سبيل الوصول إلى مقاصده و مآربه كل ذلك مملوكة لله محضا، آتاها الإنسان و ملكه إياها و لم يخرج بذلك عن ملك الله و لا انقطع عنه بل تلبس الإنسان منها بما تلبس فانتسب إليه بمشيته و لو لم يشأ لم يملك الإنسان شيئا من ذلك فليس للإنسان أن يستقل عنه تعالى في شيء من نفسه و آثار نفسه و لا لشيء من الأسباب الكونية ذلك.

يقول: إنك ذاك التراب ثم المني الذي ما كان يملك من الإنسانية و الرجولية و آثار ذلك شيئا و الله سبحانه هو الذي آتاكها بمشيته و ملكها إياك و هو المالك لما ملكك فما لك تكفر به و تستر ربوبيته؟ و أين أنت و الاستقلال؟.

قوله تعالى: "لكنا هو الله ربي و لا أشرك بربي أحدا" القراءة المشهورة "لكن" بفتح النون المشددة من غير ألف في الوصل و إثباتها وقفا.

و أصله على ما ذكروه "لكن أنا" حذفت الهمزة بعد نقل فتحتها إلى النون و أدغمت النون في النون فالوصل بنون مشددة مفتوحة من غير ألف و الوقف بالألف كما في "أنا" ضمير التكلم.



و قد كرر في الآية لفظ "ربي" و الثاني من وضع الظاهر موضع المضمر و حق السياق "و لا أشرك به أحدا" و ذلك للإشارة إلى علة الحكم بتعليقه بالوصف كأنه قال: و لا أشرك به أحدا لأنه ربي و لا يجوز الإشراك به لربوبيته.

و هذا بيان حال من المؤمن قبال ما ادعاه الكافر لنفسه و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "و لو لا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله" من تتمة قول المؤمن لصاحبه الكافر، و هو تحضيض و توبيخ لصاحبه إذ قال لما دخل جنته: "ما أظن أن تبيد هذه أبدا" و كان عليه أن يبدله من قوله: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" فينسب الأمر كله إلى مشية الله و يقصر القوة فيه تعالى مبنيا على ما بينه له أن كل نعمة بمشية الله و لا قوة إلا به.

و قوله: "ما شاء الله" إما على تقدير: الأمر ما شاءه الله، أو على تقدير: ما شاءه الله كائن، و ما على التقديرين موصولة و يمكن أن تكون شرطية و التقدير ما شاءه الله كان، و الأوفق بسياق الكلام هو أول التقادير لأن الغرض بيان رجوع الأمور إلى مشية الله تعالى قبال من يدعي الاستقلال و الاستغناء.

و قوله: "لا قوة إلا بالله" يفيد قيام القوة بالله و حصر كل قوة فيه بمعنى أن ما ظهر في مخلوقاته تعالى من القوة القائمة بها فهو بعينه قائم به من غير أن ينقطع ما أعطاه منه فيستقل به الخلق قال تعالى: "إن القوة لله جميعا": البقرة: 165.

و قد تم بذلك الجواب عما قاله الكافر لصاحبه و ما قاله عند ما دخل جنته.

قوله تعالى: "إن ترن أنا أقل منك مالا و ولدا فعسى" إلى آخر الآيتين قال في المجمع،: أصل الحسبان السهام التي ترمى لتجري في طلق واحد و كان ذلك من رمي الأساورة، و أصل الباب الحساب، و إنما يقال لما يرمى به: حسبان لأنه يكثر كثرة الحساب.

قال: و الزلق الأرض الملساء المستوية لا نبات فيها و لا شيء و أصل الزلق ما تزلق عنه الأقدام فلا تثبت عليه.

انتهي.

و قد تقدم أن الصعيد هو سطح الأرض مستويا لا نبات عليه، و المراد بصيرورة الماء غورا صيرورته غائرا ذاهبا في باطن الأرض.

و الآيتان كما تقدمت الإشارة إليه رد من المؤمن لصاحبه الكافر من جهة ما استعلى عليه بأنه أكثر منه مالا و أعز نفرا، و ما أورده من الرد مستخرج من بيانه السابق و محصله أنه لما كانت الأمور بمشية الله و قوته و قد جعلك أكثر مني مالا و أعز نفرا فالأمر في ذلك إليه لا إليك حتى تتبجح و تستعلي علي فمن الممكن المرجو أن يعطيني خيرا من جنتك و يخرب جنتك فيديرني إلى حال أحسن من حالك اليوم و يديرك إلى حال أسوأ من حالي اليوم فيجعلني أغنى منك بالنسبة إلي و يجعلك أفقر مني بالنسبة إليك.

و الظاهر أن تكون "ترن" في قوله: "إن ترن أنا أقل" إلخ من الرأي بمعنى الاعتقاد فيكون من أفعال القلوب، و "أنا" ضمير فصل متخلل بين مفعوليه اللذين هما في الأصل مبتدأ و خبر، و يمكن أن يكون من الرؤية بمعنى الإبصار فأنا ضمير رفع أكد به مفعول ترن المحذوف من اللفظ.

و معنى الآية إن ترني أنا أقل منك مالا و ولدا فلا بأس و الأمر في ذلك إلى ربي فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك و يرسل عليها أي على جنتك مرامي من عذابه السماوي كبرد أو ريح سموم أو صاعقة أو نحو ذلك فتصبح أرضا خالية ملساء لا شجر عليها و لا زرع، أو يصبح ماؤها غائرا فلن تستطيع أن تطلبه لإمعانه في الغور.



قوله تعالى: "و أحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه" إلى آخر الآية الإحاطة بالشيء كناية عن هلاكه، و هي مأخوذة من إحاطة العدو و استدارته به من جميع جوانبه بحيث ينقطع عن كل معين و ناصر و هو الهلاك، قال تعالى: "و ظنوا أنهم أحيط بهم": يونس: 22.

و قوله: "فأصبح يقلب كفيه" كناية عن الندامة فإن النادم كثيرا ما يقلب كفيه ظهرا لبطن، و قوله: "و هي خاوية على عروشها" كناية عن كمال الخراب كما قيل فإن البيوت الخربة المنهدمة تسقط أولا عروشها و هي سقوفها على الأرض ثم تسقط جدرانها على عروشها الساقطة و الخوي السقوط و قيل: الأصل في معنى الخلو.

و قوله: "و يقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا" أي يا ليتني لم أتعلق بما تعلقت به و لم أركن و لم أطمأن إلى هذه الأسباب التي كنت أحسب أن لها استقلالا في التأثير و كنت أرجع الأمر كله إلى ربي فقد ضل سعيي و هلكت نفسي.

و المعنى: و أهلكت أنواع ماله أو فسد ثمر جنته فأصبح نادما على المال الذي أنفق و الجنة خربة و يقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا و لم أسكن إلى ما سكنت إليه و اغتررت به من نفسي و سائر الأسباب التي لم تنفعني شيئا.

قوله تعالى: "و لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله و ما كان منتصرا" الفئة الجماعة، و المنتصر الممتنع.

و كما كانت الآيات الخمس الأولى أعني قوله: "قال له صاحبه - إلى قوله - طلبا" بيانا قوليا لخطإ الرجل في كفره و شركه كذلك هاتان الآيتان أعني قوله: "و أحيط بثمره - إلى قوله - و ما كان منتصرا" بيان فعلي له أما تعلقه بدوام الدنيا و استمرار زينتها في قوله: "ما أظن أن تبيد هذه أبدا" فقد جلى له الخطأ فيه حين أحيط بثمره فأصبحت جنته خاوية على عروشها، و أما سكونه إلى الأسباب و ركونه إليها و قد قال لصاحبه أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا" فبين خطاؤه فيه بقوله تعالى: "و لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله" و أما دعوى استقلاله بنفسه و تبجحه بها فقد أشير إلى جهة بطلانها بقوله تعالى: "و ما كان منتصرا".

قوله تعالى: "هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا و خير عقبا" القراءة المشهورة "الولاية" بفتح الواو و قرىء بكسرها و المعنى واحد، و ذكر بعضهم أنها بفتح الواو بمعنى النصرة و بكسرها بمعنى السلطان، و لم يثبت و كذا "الحق" بالجر، و الثواب مطلق التبعة و الأجر و غلب في الأجر الحسن الجميل، و العقب بالضم فالسكون و بضمتين: العاقبة.

ذكر المفسرون أن الإشارة بقوله: "هنالك" إلى معنى قوله: "أحيط بثمره" أي في ذلك الموضع أو في ذلك الوقت و هو موضع الإهلاك و وقته الولاية لله، و أن الولاية بمعنى النصرة أي إن الله سبحانه هو الناصر للإنسان حين يحيط به البلاء و ينقطع عن كافة الأسباب لا ناصر غيره.

و هذا معنى حق في نفسه لكنه لا يناسب الغرض المسوق له الآيات و هو بيان أن الأمر كله لله سبحانه و هو الخالق لكل شيء المدبر لكل أمر، و ليس لغيره إلا سراب الوهم و تزيين الحياة لغرض الابتلاء و الامتحان، و لو كان كما ذكروه لكان الأنسب توصيفه تعالى في قوله: "لله الحق" بالقوة و العزة و القدرة و الغلبة و نحوها لا بمثل الحق الذي يقابل الباطل، و أيضا لم يكن لقوله: "هو خير ثوابا و خير عقبا" وجه ظاهر و موقع جميل.



و الحق و الله أعلم أن الولاية بمعنى مالكية التدبير و هو المعنى الساري في جميع اشتقاقاتها كما مر في الكلام على قوله تعالى: "إنما وليكم الله و رسوله": المائدة: 55 أي عند إحاطة الهلاك و سقوط الأسباب عن التأثير و تبين عجز الإنسان الذي كان يرى لنفسه الاستقلال و الاستغناء ولاية أمر الإنسان و كل شيء و ملك تدبيره لله لأنه إله حق له التدبير و التأثير بحسب واقع الأمر و غيره من الأسباب الظاهرية المدعوة شركاء له في التدبير و التأثير باطل في نفسه لا يملك شيئا من الأثر إلا ما أذن الله له و ملكه إياه و ليس له من الاستقلال إلا اسمه بحسب ما توهمه الإنسان فهو باطل في نفسه حق بالله سبحانه و الله هو الحق بذاته المستقل الغني في نفسه.

و إذا أخذ بالقياس بينه - تعالى عن القياس - و بين غيره من الأسباب المدعوة شركاء في التأثير كان الله سبحانه خيرا منها ثوابا فإنه يثيب من دان له ثوابا حقا و هي تثيب من دان لها و تعلق بها ثوابا باطلا زائلا لا يدوم و هو مع ذلك من الله و بإذنه، و كان الله سبحانه خيرا منها عاقبة لأنه سبحانه هو الحق الثابت الذي لا يفنى و لا يزول و لا يتغير عما هو عليه من الجلال و الإكرام، و هي أمور فانية متغيرة جعلها الله زينة للحياة الدنيا يتوله إليها الإنسان و تتعلق بها قلبه حتى يبلغ الكتاب أجله و إن الله لجاعلها صعيدا جرزا.

و إذا كان الإنسان لا غنى له عن التعلق بشيء ينسب إليه التدبير و يتوقع منه إصلاح شأنه فربه خير له من غيره لأنه خير ثوابا و خير عقبا.

و ذكر بعضهم أن الإشارة بقوله: "هنالك" إلى يوم القيامة فيكون المراد بالثواب و العقب ما في ذلك اليوم.

و السياق كما تعلم لا يساعد على شيء من ذلك.

قوله تعالى: "و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء" إلخ هذا هو المثل الثاني ضرب لتمثيل الحياة الدنيا بما يقارنها من الزينة السريعة الزوال.

و الهشيم فعيل بمعنى مفعول من الهشم، و هو على ما قال الراغب كسر الشيء الرخو كالنبات، و ذرا يذرو ذروا أي فرق، و قيل: أي جاء به و ذهب، و قوله: "فاختلط به نبات الأرض" و لم يقل: اختلط بنبات الأرض إشارة إلى غلبته في تكوين النبات على سائر أجزائه، و لم يذكر مع ماء السماء غيره من مياه العيون و الأنهار لأن مبدأ الجميع ماء المطر، و قوله: "فأصبح هشيما" أصبح فيه - كما قيل - بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح.

و المعنى: و اضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الدنيا المعرضين عن ذكر ربهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء و هو المطر فاختلط به نبات الأرض فرف نضارة و بهجة و ظهر بأجمل حلية فصار بعد ذلك هشيما مكسرا متقطعا تعبث به الرياح تفرقة و تجيء به و تذهب و كان الله على كل شيء مقتدرا.

قوله تعالى: "المال و البنون زينة الحياة الدنيا" إلى آخر الآية الآية بمنزلة النتيجة للمثل السابق و هي أن المال و البنين و إن تعلقت بها القلوب و تاقت إليها النفوس تتوقع منها الانتفاع و تحف بها الآمال لكنها زينة سريعة الزوال غارة لا يسعها أن تثيبه و تنفعه في كل ما أراده منها و لا أن تصدقه في جميع ما يأمله و يتمناه بل و لا في أكثره ففي الآية - كما ترى - انعطاف إلى بدء الكلام أعني قوله: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها" الآيتين.

و قوله: "و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير أملا" المراد بالباقيات الصالحات الأعمال الصالحة فإن أعمال الإنسان محفوظة له عند الله بنص القرآن فهي باقية و إذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات، و هي عند الله خير ثوابا لأن الله يجازي الإنسان الجائي بها خير الجزاء، و خير أملا لأن ما يؤمل بها من رحمة الله و كرامته ميسور للإنسان فهي أصدق أملا من زينات الدنيا و زخارفها التي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعد، و الآمال المتعلقة بها كاذبة على الأغلب و ما صدق منها غار خدوع.

و قد ورد من طرق الشيعة و أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عدة من الروايات: أن الباقيات الصالحات التسبيحات الأربع: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، و في أخرى أنها الصلاة و في أخرى مودة أهل البيت و هي جميعا من قبيل الجري و الانطباق على المصداق.

18 سورة الكهف - 47 - 59

وَ يَوْمَ نُسيرُ الجِْبَالَ وَ تَرَى الأَرْض بَارِزَةً وَ حَشرْنَهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنهُمْ أَحَداً (47) وَ عُرِضوا عَلى رَبِّك صفّا لّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكمْ أَوّلَ مَرّةِ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلّن نجْعَلَ لَكم مّوْعِداً (48) وَ وُضِعَ الْكِتَب فَترَى الْمُجْرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِ هَذَا الْكتَبِ لا يُغَادِرُ صغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلا أَحْصاهَا وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَ لا يَظلِمُ رَبّك أَحَداً (49) وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئكَةِ اسجُدُوا لاَدَمَ فَسجَدُوا إِلا إِبْلِيس كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونى وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوّ بِئْس لِلظلِمِينَ بَدَلاً (50) مّا أَشهَدتهُمْ خَلْقَ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَ مَا كُنت مُتّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضداً (51) وَ يَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شرَكاءِى الّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَستَجِيبُوا لهَُمْ وَ جَعَلْنَا بَيْنهُم مّوْبِقاً (52) وَ رَءَا الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظنّوا أَنهُم مّوَاقِعُوهَا وَ لَمْ يجِدُوا عَنهَا مَصرِفاً (53) وَ لَقَدْ صرّفْنَا فى هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنّاسِ مِن كلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الانسنُ أَكثرَ شىْءٍ جَدَلاً (54) وَ مَا مَنَعَ النّاس أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَ يَستَغْفِرُوا رَبّهُمْ إِلا أَن تَأْتِيهُمْ سنّةُ الأَوّلِينَ أَوْ يَأْتِيهُمُ الْعَذَاب قُبُلاً (55) وَ مَا نُرْسِلُ الْمُرْسلِينَ إِلا مُبَشرِينَ وَ مُنذِرِينَ وَ يجَدِلُ الّذِينَ كفَرُوا بِالْبَطِلِ لِيُدْحِضوا بِهِ الحَْقّ وَ اتخَذُوا ءَايَتى وَ مَا أُنذِرُوا هُزُواً (56) وَ مَنْ أَظلَمُ مِمّن ذُكِّرَ بِئَايَتِ رَبِّهِ فَأَعْرَض عَنهَا وَ نَسىَ مَا قَدّمَت يَدَاهُ إِنّا جَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَ فى ءَاذَانهِمْ وَقْراً وَ إِن تَدْعُهُمْ إِلى الْهُدَى فَلَن يهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَ رَبّك الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كسبُوا لَعَجّلَ لهَُمُ الْعَذَاب بَل لّهُم مّوْعِدٌ لّن يجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئلاً (58) وَ تِلْك الْقُرَى أَهْلَكْنَهُمْ لَمّا ظلَمُوا وَ جَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مّوْعِداً (59)

بيان

الآيات متصلة بما قبلها تسير مسيرها في تعقيب بيان أن هذه الأسباب الظاهرية و زخارف الدنيا الغارة زينة الحياة سيسرع إليها الزوال و يتبين للإنسان أنها لا تملك له نفعا و لا ضرا و إنما يبقى للإنسان أو عليه عمله فيجازى به.

و قد ذكرت الآيات أولا قيام الساعة و مجيء الإنسان فردا ليس معه إلا عمله ثم تذكر إبليس و إباءه عن السجدة لآدم و فسقه عن أمر ربه و هم يتخذونه و ذريته أولياء من دون الله و هم لهم عدو ثم تذكر يوم القيامة و إحضارهم و شركاءهم و ظهور انقطاع الرابطة بينهم و تعقب ذلك آيات أخر في الوعد و الوعيد، و الجميع بحسب الغرض متصل بما تقدم.

قوله تعالى: "يوم نسير الجبال و ترى الأرض بارزة و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا" الظرف متعلق بمقدر و التقدير "و اذكر يوم نسير" و تسيير الجبال بزوالها عن مستقرها و قد عبر سبحانه عنه بتعبيرات مختلفة كقوله: "و كانت الجبال كثيبا مهيلا": المزمل: 14، و قوله: "و تكون الجبال كالعهن المنفوش": القارعة: 5 و قوله: "فكانت هباء منبثا": الواقعة: 6، و قوله: "و سيرت الجبال فكانت سرابا": النبأ: 20.

و المستفاد من السياق أن بروز الأرض مترتب على تسيير الجبال فإذا زالت الجبال و التلال ترى الأرض بارزة لا تغيب ناحية منها عن أخرى بحائل حاجز و لا يستتر صقع منها عن صقع بساتر، و ربما احتمل أن تشير إلى ما في قوله: "و أشرقت الأرض بنور ربها": الزمر: 69.

و قوله: "و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا" أي لم نترك منهم أحدا فالحشر عام للجميع.

قوله تعالى: "و عرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة" إلخ السياق يشهد على أن ضمير الجمع في قوله: "عرضوا" و كذا ضميرا الجمع في الآية السابقة للمشركين و هم الذين اطمأنوا إلى أنفسهم و الأسباب الظاهرية التي ترتبط بها حياتهم، و تعلقوا بزينة الحياة كالمتعلق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعا منهم عن ربهم، و إنكارا للرجوع إليه، و عدم مبالاة بما يأتون به من الأعمال أرضى الله أم أسخطه.

و هذه حالهم ما دام أساس الامتحان الإلهي و الزينة المعجلة بين أيديهم و الأسباب الظاهرية حولهم و لما يقض الأمر أجله ثم إذا حان الحين و تقطعت الأسباب و طاحت الآمال و جعل الله ما عليها من زينة صعيدا جرزا لم يبق إذ ذاك لهم إلا ربهم و أنفسهم و صحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، و عرضوا على ربهم - و ليسوا يرونه ربا لهم و إلا لعبدوه - صفا واحدا لا تفاضل بينهم بنسب أو مال أو جاه دنيوي لفصل القضاء تبين لهم عند ذلك أن الله هو الحق المبين و أن ما يدعونه من دونه و تعلقت به قلوبهم من زينة الحياة و استقلال أنفسهم و الأسباب المسخرة لهم ما كانت إلا أوهاما لا تغني عنهم من الله شيئا و قد أخطئوا إذ تعلقوا بها و أعرضوا عن سبيل ربهم و لم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لأنهم توهموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه فيحاسبون عليه.



و بهذا البيان يظهر أن هذا الجمل الأربع: "و عرضوا" إلخ "لقد جئتمونا" إلخ "بل زعمتم" إلخ "و وضع الكتاب" إلخ نكت أساسية مختارة من تفصيل ما يجري يومئذ بينهم و بين ربهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، و اكتفي بها إيجازا في الكلام لحصول الغرض بها.

فقوله: "و عرضوا على ربك صفا" إشارة أولا إلى أنهم ملجئون إلى الرجوع إلى ربهم و لقائه فيعرضون عليه عرضا من غير أن يختاروه لأنفسهم، و ثانيا أن لا كرامة لهم في هذا اللقاء، و يشعر به قوله "على ربك" و لو أكرموا لقيل: ربهم كما قال: "جزاؤهم عند ربهم جنات عدن": البينة: 8: "و قال إنهم ملاقوا ربهم": هود: 29، أو قيل: عرضوا علينا جريا على سياق التكلم السابق، و ثالثا أن أنواع التفاضل و الكرامات الدنيوية التي اختلقتها لهم الأوهام الدنيوية من نسب و مال و جاه قد طاحت عنهم فصفوا صفا واحدا لا تميز فيه لعال من دان و لا لغني من فقير و لا لمولى من عبد، و إنما الميز اليوم بالعمل و عند ذلك يتبين لهم أنهم أخطئوا الصواب في حياتهم الدنيا و ضلوا السبيل فيخاطبون بمثل قوله: "لقد جئتمونا" إلخ.

و قوله "لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة" مقول القول و التقدير و قال لهم أو قلنا لهم: لقد جئتمونا إلخ، و في هذا بيان خطإهم و ضلالهم في الدنيا إذ تعلقوا بزينتها و زخرفها فشغلهم ذلك عن سلوك سبيل الله و الأخذ بدينه.

و قوله "بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا" في معنى قوله: "أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون": المؤمنون: 115 و الجملة إن كانت إضرابا عن الجملة السابقة على ظاهر السياق فالتقدير ما في معنى قولنا: شغلتكم زينة الدنيا و تعلقكم بأنفسكم و بظاهر الأسباب عن عبادتنا و سلوك سبيلنا بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا تلقوننا فيه فتحاسبوا و بتعبير آخر: إن اشتغالكم بالدنيا و تعلقكم بزينتها و إن كان سببا في الإعراض عن ذكرنا و اقتراف الخطيئات لكن كان هناك سبب هو أقدم منه و هو الأصل و هو أنكم ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا فنسيان المعاد هو الأصل في ترك الطريق و فساد العمل قال تعالى: "إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب": ص: 26.

و الوجه في نسبة الظن بنفي المعاد إليهم أن انقطاعهم إلى الدنيا و تعلقهم بزينتها و من يدعونه من دون الله فعل من ظن أنها دائمة باقية لهم و أنهم لا يرجعون إلى الله فهو ظن حالي عملي منهم و يمكن أن يكون كناية عن عدم اعتنائهم بأمر الله و استهانتهم بما أنذروا به نظير قوله تعالى: "و لكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون": حم السجدة: 22.

و من الجائز أن يكون قوله: "بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا" إضرابا عن اعتذار لهم مقدر بالجهل و نحوه و الله أعلم.

قوله تعالى: "و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا" إلى آخر الآية وضع الكتاب نصبه ليحكم عليه، و مشفقين من الشفقة و أصلها الرقة، قال الراغب في المفردات،: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه و يخاف ما يلحقه قال تعالى: "و هم من الساعة مشفقون" فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى: "إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين" "مشفقون منها" انتهى.



و الويل الهلاك، و نداؤه عند المصيبة - كما قيل - كناية عن كون المصيبة أشد من الهلاك فيستغاث بالهلاك لينجى من المصيبة كما ربما يتمنى الموت عند المصيبة قال تعالى: "يا ليتني مت قبل هذا": مريم: 23.

و قوله: "و وضع الكتاب" ظاهر السياق أنه كتاب واحد يوضع لحساب أعمال الجميع و لا ينافي ذلك وضع كتاب خاص بكل إنسان و الآيات القرآنية دالة على أن لكل إنسان كتابا و لكل أمة كتابا و للكل كتابا قال تعالى: "و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا" الآية: إسراء: 13 و قد تقدم الكلام فيها، و قال: "كل أمة تدعى إلى كتابها": الجاثية: 28 و قال: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق": الجاثية: 29 و سيجيء الكلام في الآيتين إن شاء الله تعالى.

و قيل: المراد بالكتاب كتب الأعمال و اللام للاستغراق، و السياق لا يساعد عليه.

و قوله: "فترى المجرمين مشفقين مما فيه" تفريع الجملة على وضع الكتاب و ذكر إشفاقهم مما فيه دليل على كونه كتاب الأعمال أو كتابا فيه الأعمال، و ذكرهم بوصف الإجرام للإشارة إلى علة الحكم و أن إشفاقهم مما فيه لكونهم مجرمين فالحكم يعم كل مجرم و إن لم يكن مشركا.

و قوله: "و يقولون يا ويلتنا ما ل هذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها" الصغيرة و الكبيرة وصفان قامتا مقام موصوفهما و هو الخطيئة أو المعصية أو الهنة و نحوها.

و قولهم هذا إظهار للدهشة و الفزع من سلطة الكتاب في إحصائه للذنوب أو لمطلق الحوادث و منها الذنوب في صورة الاستفهام التعجيبي، و منه يعلم وجه تقديم الصغيرة على الكبيرة في قوله: "صغيرة و لا كبيرة" مع أن الظاهر أن يقال: لا يغادر كبيرة و لا صغيرة إلا أحصاها بناء على أن الكلام في معنى الإثبات و حق الترقي فيه أن يتدرج من الكبير إلى الصغير هذا، و ذلك لأن المراد - و الله أعلم - لا يغادر صغيرة لصغرها و دقتها و لا كبيرة لكبرها و وضوحها، و المقام مقام الاستفزاع في صورة التعجيب و إحصاء الصغيرة على صغرها و دقتها أقرب إليه من غيرها.

و قوله: "و وجدوا ما عملوا حاضرا" ظاهر السياق كون الجملة تأسيسا لا عطف تفسير لقوله: "لا يغادر صغيرة و لا كبيرة" إلخ و عليه فالحاضر عندهم نفس الأعمال بصورها المناسبة لها لا كتابتها كما هو ظاهر أمثال قوله: "يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون": التحريم: 7، و يؤيده قوله بعده: "و لا يظلم ربك أحدا" فإن انتفاء الظلم بناء على تجسم الأعمال أوضح لأن ما يجزون به إنما هو عملهم يرد إليهم و يلحق بهم لا صنع في ذلك لأحد فافهم ذلك.

قوله تعالى: "و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" تذكير ثان لهم بما جرى بينه تعالى و بين إبليس حين أمر الملائكة بالسجود لأبيهم آدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن فتمرد عن أمر ربه.

أي و اذكر هذه الواقعة حتى يظهر لهم أن إبليس - و هو من الجن - و ذريته عدو لهم لا يريدون لهم الخير فلا ينبغي لهم أن يفتتنوا بما يزينه لهم هو و ذريته من ملاذ الدنيا و شهواتها و الإعراض عن ذكر الله و لا أن يطيعوهم فيما يدعونهم إليه من الباطل.



و قوله: "أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو" تفريع على محصل الواقعة و الاستفهام للإنكار أي و يتفرع على الواقعة أن لا تتخذوه و ذريته أولياء و الحال أنهم أعداء لكم معشر البشر، و على هذا فالمراد بالولاية ولاية الطاعة حيث يطيعونه و ذريته فيما يدعونهم فقد اتخذوهم مطاعين من دون الله، و هكذا فسرها المفسرون.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بالولاية ولاية الملك و التدبير و هو الربوبية فإن الوثنية كما يعبدون الملائكة طمعا في خيرهم كذلك يعبدون الجن اتقاء من شرهم، و هو سبحانه يصرح بأن إبليس من الجن و له ذرية و أن ضلال الإنسان في صراط سعادته و ما يلجمه من أنواع الشقاء إنما هو بإغواء الشيطان فالمعنى أ فتتخذونه و ذريته آلهة و أربابا من دوني تعبدونهم و تتقربون إليهم و هم لكم عدو؟.

و يؤيده الآية التالية فإن عدم إشهادهم الخلقة إنما يناسب انتفاء ولاية التدبير عنهم لا انتفاء ولاية الطاعة و هو ظاهر.

و قد ختم الآية بتقبيح اتخاذهم إياهم أولياء من دون الله الذي معناه اتخاذهم إبليس بدلا منه سبحانه فقال: "بئس للظالمين بدلا" و ما أقبح ذلك فلا يقدم عليه ذو مسكة، و هو السر في الالتفات الذي في قوله: "من دوني" فلم يقل: من دوننا على سياق قوله: "و إذ قلنا" ليزيد في وضوح القبح كما أنه السر أيضا في الالتفات السابق في قوله: "عن أمر ربه" و لم يقل: عن أمرنا.

و للمفسرين هاهنا أبحاث في معنى شمول أمر الملائكة لإبليس، و في معنى كونه من الجن و في معنى، و قد قدمنا بعض القول في ذلك في تفسير سورة الأعراف.

قوله تعالى: "ما أشهدتهم خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم و ما كنت متخذ المضلين عضدا" ظاهر السياق كون ضميري الجمع لإبليس و ذريته و المراد بالإشهاد الإحضار و الإعلام عيانا كما أن الشهود هو المعاينة حضورا، و العضد ما بين المرفق و الكتف من الإنسان و يستعار للمعين كاليد و هو المراد هاهنا.

و قد اشتملت الآية في نفي ولاية التدبير عن إبليس و ذريته على حجتين إحداهما: أن ولاية تدبير أمور شيء من الأشياء تتوقف على الإحاطة العلمية - بتمام معنى الكلمة - بتلك الأمور من الجهة التي تدبر فيها و بما لذلك الشيء و تلك الأمور من الروابط الداخلية و الخارجية بما يبتدىء منه و ما يقارنه و ما ينتهي إليه و الارتباط الوجودي سار بين أجزاء الكون و هؤلاء و هم إبليس و ذريته لم يشهدهم الله سبحانه خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم فلا كانوا شاهدين إذ قال للسماوات و الأرض: كن فكانت و لا إذ قال لهم: كونوا فكانوا فهم جاهلون بحقيقة السماوات و الأرض و ما في أوعية وجوداتها من أسرار الخلقة حتى بحقيقة صنع أنفسهم فكيف يسعهم أن يلوا تدبير أمرها أو تدبير أمر شطر منها فيكونوا آلهة و أربابا من دون الله و هم جاهلون بحقيقة خلقتها و خلقة أنفسهم.

و أما أنهم لم يشهدوا خلقها فلأن كلا منهم شيء محدود لا سبيل له إلى ما وراء نفسه فغيره في غيب منه مضروب عليه الحجاب، و هذا بين و قد أنبأ الله سبحانه عنه في مواضع من كلامه و كذا كل منهم مستور عنه شأن الأسباب التي تسبق وجوده و اللواحق التي ستلحق وجوده.



و هذه حجة برهانية غير جدلية عند من أجاد النظر و أمعن في التدبر حتى لا يختلط عنده هذه الألعوبة الكاذبة التي نسميها تدبيرا بالتدبير الكوني الذي لا يلحقه خطأ و لا ضلال، و كذا الظنون و المزاعم الواهية التي نتداولها و نركن إليها بالعلم العياني الذي هو حقيقة العلم و كذا العلم بالأمور الغائبة بالظفر على أماراتها الأغلبية بالعلم بالغيب الذي يتبدل به الغيب شهادة.

و الثانية أن كل نوع من أنواع المخلوقات متوجه بفطرته نحو كماله المختص بنوعه و هذا ضروري عند من تتبعها و أمعن النظر في حالها فالهداية الإلهية عامة للجميع كما قال: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50 و الشياطين أشرار مفسدون مضلون فتصديهم تدبير شيء من السماوات و الأرض أو الإنسان - و لن يكون إلا بإذن من الله سبحانه - مؤد إلى نقضه السنة الإلهية من الهداية العامة أي توسله تعالى إلى الإصلاح بما ليس شأنه إلا الإفساد و إلى الهداية بما خاصته الإضلال و هو محال.

و هذا معنى قوله سبحانه: "و ما كنت متخذ المضلين عضدا" الظاهر في أن سنته تعالى أن لا يتخذ المضلين عضدا فافهم.

و في قوله: "ما أشهدتهم" و قوله: "و ما كنت" و لم يقل: ما شهدوا و ما كانوا دلالة على أنه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كل حال، و القائلون بإشراك الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأن أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوض إليهم بتفويض منه و أنهم أرباب و آلهة و الله رب الأرباب و إله الآلهة.

و ما تقدم من معنى الآية مبني على حمل الإشهاد على معناه الحقيقي و إرجاع الضميرين في "ما أشهدتهم" و "أنفسهم" إلى إبليس و ذريته كما هو الظاهر المتبادر من السياق، و للمفسرين أقوال أخر:.

منها قول بعضهم: إن المراد من الإشهاد في خلقها المشاورة مجازا فإن أدنى مراتب الولاية على شيء أن يشاوره في أمره، و المراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب الاستعانة المؤدية إلى الولاية و السلطة على المولى عليه بوجه ما فكأنه قيل ما شاورتهم في أمر خلقها و لا استعنت بهم بشيء من أنواع الاستعانة فمن أين يكونون أولياء لهم؟.

و فيه أنه لا قرينة على هذا المجاز و لا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي على أنه لا رابطة بين الإشارة بالشيء و الولاية عليه حتى تعد المشاورة من مراتب التولية أو الإشارة من درجات الولاية، و قد وجه بعضهم هذا المعنى بأن المراد بالإشهاد المشاورة كناية و لازم المشاورة أن يخلق كما شاءوا أي أن يخلقهم كما أحبوا أي أن يخلقهم كاملين فالمراد بنفي إشهاد الشياطين خلق أنفسهم نفي أن يكونوا كاملين في الخلقة حتى يسع لهم ولاية تدبير الأمور.

و فيه مضافا إلى أنه يرد عليه ما أورد على سابقه أولا أن ذلك يرجع إلى إطلاق الشيء و إرادة لازمه بخمس مراتب من اللزوم فالمشاورة لازم الإشهاد على ما يدعيه و خلق ما يشاؤه المشير لازم المشاورة و خلق ما يحبه لازم خلق ما يشاؤه، و كمال الخلقة لازم خلق ما يحبه، و صحة الولاية لازم كمال الخلقة فإطلاق الإشهاد و إرادة كمال الخلقة أو صحة الولاية من قبيل التكنية عن لازم المعنى من وراء لزومات أربع أو خمس، و الكتاب المبين يجل عن أمثال هذه الألغازات.

و ثانيا: أنه لو صح فإنما يصح في إشهادهم خلق أنفسهم دون إشهادهم خلق السماوات و الأرض فلازمه التفكيك بين الإشهادين.



و ثالثا: أن لازمه صحة ولاية من كان كاملا في خلقه كالملائكة المقربين ففيه اعتراف بإمكان ولايتهم و جواز ربوبيتهم و القرآن يدفع ذلك بأصرح البيان فأين الممكن المفتقر لذاته إلى الله سبحانه من الاستقلال في تدبير نفسه أو تدبير غيره؟ و أما نحو قوله تعالى: "فالمدبرات أمرا": النازعات: 5 فسيجيء توضيح معناه إن شاء الله.

و منها قول بعضهم: إن المراد بالإشهاد حقيقة معناه و الضميران للشياطين لكن المراد من إشهادهم خلق أنفسهم إشهاد بعضهم خلق بعض لا إشهاد كل خلق نفسه.

و فيه أن المراد بنفي الإشهاد استنتاج انتفاء الولاية، و لم يقل أحد من المشركين بولاية بعض الشياطين لبعض و لا تعلق الغرض بنفيها حتى يحمل لفظ الآية على إشهاد بعضهم خلق بعض.

و منها قول بعضهم: إن أول الضميرين للشياطين و الثاني للكفار أو لهم و لغيرهم من الناس.

و المعنى ما أشهدت الشياطين خلق السماوات و الأرض و لا خلق الكفار أو الناس حتى يكونوا أولياء لهم.

و فيه أن فيه تفكيك الضميرين.

و منها قول بعضهم: برجوع الضميرين إلى الكفار قال الإمام الرازي في تفسيره، و الأقرب عندي عودهما يعني الضميرين على الكفار الذين قالوا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد و التعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم و لا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا و الآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ و نظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له: لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها؟.

و يؤكده أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات و هو في الآية أولئك الكفار لأنهم المراد بالظالمين في قوله تعالى: "بئس للظالمين بدلا" انتهى.

و فيه أن فيه خرق السياق بتعليق مضمون الآية بما تعرض به في قوله: "و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" بنحو الإشارة قبل ثلاث و عشرين آية و قد تحول وجه الكلام بالانعطاف على أول السورة مرة بعد مرة بالتمثيل بعد التمثيل و التذكير بعد التذكير فما احتمله من المعنى في غاية البعد.

على أن ما ذكره من اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن لم تطرد هؤلاء الفقراء من مجلسك لم نؤمن بك" ليس باقتراح فيه مداخلة في تدبير أمر العالم حتى يرد عليهم بمثل قوله "ما أشهدتهم" إلخ بل اشتراط لإيمانهم بطرد أولئك من غير أن يبتني على دعوى ترد بمثل ذلك، نعم لو قيل: اطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء و اكتفي به لكان لما قاله بعض الوجه.

و كأن التنبه لهذه النكتة دعا بعضهم إلى توجيه معنى الآية على تقدير رجوع الضميرين إلى الكفار بأن المراد أنهم جاهلون بما جرى عليه القلم في الأزل من أمر السعادة و الشقاء إذ لم يشهدوا الخلقة فكيف يقترحون عليك أن تقربهم إليك و تطرد الفقراء.

و مثله قول آخرين: إن المراد أني ما أطلعتهم على أسرار الخلقة و لم يختصوا مني بما يمتازون به من غيرهم حتى يكونوا قدوة يقتدي بهم الناس في الإيمان بك فلا تطمع في نصرتهم فلا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين.

و كلا الوجهين أبعد مما ذكره الإمام من الوجه فأين الآية من الدلالة على ما اختلقاه من المعنى؟.



و منها أن الضميرين للملائكة و المعنى ما أشهدت الملائكة خلق العالم و لا خلق أنفسهم حتى يعبدوا من دوني، و ينبغي أن يضاف إليه أن قوله: "و ما كنت متخذ المضلين عضدا" أيضا متعرض لنفي ولاية الشياطين فتدل الآية حينئذ بصدرها و ذيلها على نفي ولاية الفريقين جميعا و إلا دفعه ذيل الآية.

و فيه أن الآية السابقة إنما خاطبت الكفار في قولهم بولاية الشياطين ثم ذكرتهم بضمير الجمع في قولها: "و هم لكم عدو" و لم يتعرض لشيء من أمر الملائكة فإرجاع الضميرين إلى الملائكة دون الشياطين تفكيك، و الاشتغال بنفي ولاية الملائكة تعرض لما لم يحوج إليه السياق و لا اقتضاه المقام.

قوله تعالى: "و يوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم" إلى آخر الآية هذا تذكير ثالث يذكر فيه ظهور بطلان الرابطة بين المشركين و بين شركائهم يوم القيامة و يتأكد بذلك أنهم ليسوا على شيء مما يدعيه لهم المشركون.

فقوله: "و يوم يقول" إلخ الضمير له تعالى بشهادة السياق، و المعنى و اذكر لهم يوم يقول الله لهم نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم لي شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم و بان أنهم ليسوا لي شركاء و لو كانوا لاستجابوا.

و قوله: "و جعلنا بينهم موبقا" الموبق بكسر الباء اسم مكان من وبق وبوقا بمعنى هلك، و المعنى جعلنا بين المشركين و شركائهم محل هلاك و قد فسر القوم هذا الموبق و المهلك بالنار أو بمحل من النار يهلك فيه الفريقان المشركون و شركاءهم لكن التدبر في كلامه تعالى لا يساعد عليه فإن الآية قد أطلقت الشركاء و فيهم - و لعلهم الأكثر - الملائكة و بعض الأنبياء و الأولياء، و أرجع إليهم ضمير أولي العقل مرة بعد مرة، و لا دليل على اختصاصهم بمردة الجن و الإنس و كون جعل الموبق بينهم دليلا على الاختصاص أول الكلام.

فلعل المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة و رفعها من بينهم و قد كانوا يرون في الدنيا أن بينهم و بين شركائهم رابطة الربوبية و المربوبية أو السببية و المسببية فكني عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة و العلقة من غير أن يهلك الطرفان، و يومىء إلى ذلك بلطيف الإشارة تعبيره عن دعوتهم أولا بالنداء حيث قال: "نادوا شركائي" و النداء إنما يكون في البعيد فهو دليل على بعد ما بينهما.

و إلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في موضع آخر من كلامه: "و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون": الأنعام: 94، و قوله تعالى: "ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم و قال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون": يونس: 28.

قوله تعالى: "و رءا المجرمون النار و ظنوا أنهم مواقعوها و لم يجدوا عنها مصرفا" في أخذ المجرمين مكان المشركين دلالة على أن الحكم عام لجميع أهل الإجرام، و المراد بالظن هو العلم - على ما قيل - و يشهد به قوله: "و لم يجدوا عنها مصرفا".

و المراد بمواقعة النار الوقوع فيها - على ما قيل و لا يبعد أن يكون المراد حصول الوقوع من الجانبين فهم واقعون في النار بدخولهم فيها و النار واقعة فيهم باشتعالهم بها.

و قوله: "و لم يجدوا عنها مصرفا" المصرف بكسر الراء اسم مكان من الصرف أي لم يجدوا محلا ينصرفون إليه و يعدلون عن النار و لا مناص.



قوله تعالى: "و لقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل و كان الإنسان أكثر شيء جدلا" قد مر الكلام في نظير صدر الآية في سورة أسرى آية 89 و الجدل الكلام على سبيل المنازعة و المشاجرة و الآية إلى تمام ست آيات مسوقة للتهديد بالعذاب بعد التذكيرات السابقة.

قوله تعالى: "و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى و يستغفروا ربهم" و "يستغفروا" عطف على قوله: "يؤمنوا" أي و ما منعهم من الإيمان و الاستغفار حين مجيء الهدى.

و قوله: "إلا أن تأتيهم سنة الأولين" أي إلا طلب أن تأتيهم السنة الجارية في الأمم الأولين و هي عذاب الاستئصال، و قوله: "أو يأتيهم العذاب قبلا" عطف على سابقه أي أو طلب أن يأتيهم العذاب مقابلة و عيانا و لا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنه إيمان بعد مشاهدة البأس الإلهي قال تعالى: "فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده": المؤمن: 85.

فمحصل المعنى أن الناس لا يطلبون إيمانا ينفعهم و الذي يريدونه أن يأخذهم عذاب الاستئصال على سنة الأولين فيهلكوا و لا يؤمنوا أو يقابلهم العذاب عيانا فيؤمنوا اضطرارا فلا ينفعهم الإيمان.

و هذا المنع و الاقتضاء في الآية أمر ادعائي يراد به أنهم معرضون عن الحق لسوء سريرتهم فلا جدوى للإطناب الذي وقع في التفاسير في صحة ما مر من التوجيه و التقدير إشكالا و دفعا.

قوله تعالى: "و ما نرسل المرسلين إلا مبشرين و منذرين" إلخ تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يضيق صدره من إنكار المنكرين و إعراضهم عن ذكر الله فما كانت وظيفة المرسلين إلا التبشير و الإنذار و ليس عليهم وراء ذلك من بأس ففيه انعطاف إلى مثل ما مر في قوله في أول السورة: "فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا" و في الآية أيضا نوع تهديد للكفار المستهزءين.

و الدحض الهلاك و الإدحاض الإهلاك و الإبطال، و الهزوء: الاستهزاء و المصدر بمعنى اسم المفعول و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "و من أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها و نسي ما قدمت يداه" إعظام و تكبير لظلمهم و الظلم يعظم و يكبر بحسب متعلقه و إذا كان هو الله سبحانه بآياته فهو أكبر من كل ظلم.

و المراد بنسيان ما قدمت يداه عدم مبالاته بما يأتيه من الإعراض عن الحق و الاستهزاء به و هو يعلم أنه حق، و قوله: "إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا" كأنه تعليل لإعراضهم عن آيات الله أو له و لنسيانهم ما قدمت أيديهم، و قد تقدم الكلام في معنى جعل الأكنة على قلوبهم و الوقر في آذانهم في الكتاب مرارا.

و قوله: "و إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا" إياس من إيمانهم بعد ما ضرب الله الحجاب على قلوبهم و آذانهم فلا يسعهم بعد ذلك أن يهتدوا بأنفسهم بتعقل الحق و لا أن يسترشدوا بهداية غيرهم بالسمع و الاتباع، و الدليل على هذا المعنى قوله: "و إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا" حيث دل على تأييد النفي و قيده بقوله: "إذا" و هو جزاء و جواب.

قال في روح المعاني،: و استدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم و القدرية بالآية التي قبلها.

قال الإمام: و قل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا و معها آية للفريق الآخر، و ما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين.

انتهي.



أقول: و كلتا الآيتين حق و لازم ذلك ثبوت الاختيار للعباد في أعمالهم و انبساط سلطنته تعالى في ملكه حتى على أعمال العباد و هو مذهب أئمة أهل لبيت (عليهم السلام).

قوله تعالى: "و ربك الغفور ذو الرحمة" إلى آخر الآية، الآيات - كما سمعت - مسرودة لتهديدهم بالعذاب و هم فاسدون في أعمالهم فسادا لا يرجى منهم صلاح و هذا مقتض لنزول العذاب و أن يكون معجلا لا يمهلهم إذ لا أثر لبقائهم إلا الفساد لكن الله سبحانه لم يعجل لهم العذاب و إن قضى به قضاء حتم بل أخره إلى أجل مسمى عينه بعلمه.

فقوله: "و ربك الغفور ذو الرحمة" صدرت به الآية المتضمنة لصريح القضاء في تهديدهم ليعدل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب المعجل فيقضي و يمضي أصل العذاب أداء لحق مقتضيه و هو عملهم، و يؤخر وقوعه لأن الله غفور ذو رحمة.

فالجملة أعني قوله: "الغفور ذو الرحمة" مع قوله: "لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب" بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي، و قوله: "بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا" أي ملجأ يلجئون منه إليه بمنزلة الحكم الصادر عنه بما فيه إرضاء الجانبين و مراعاة الحقين فأعطي وصف الانتقام الإلهي باستدعاء مما كسبوا أصل العذاب، و أعطيت صفة المغفرة و الرحمة أن يؤجل العذاب و لا يعجل و عند ذلك أخذت المغفرة الإلهية تمحو أثر العمل الذي هو استعجال العذاب، و الرحمة تفيض عليهم حياة معجلة.

و محصل المعنى: لو يؤاخذهم ربك لعجل لهم العذاب لكن لم يعجل لأنه الغفور ذو الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعدا لا ملجأ لهم يلجئون منه إليه.

فقوله: "بل لهم موعد" إلخ كلمة قضاء و ليس بحكاية محضة و إلا قيل: بل جعل لهم موعدا إلخ فافهم ذلك.

و الغفور صيغة مبالغة تدل على كثرة المغفرة، و ذو الرحمة - و لامه للجنس - صفة تدل على شمول الرحمة لكل شيء فهي أشمل معنى من الرحمن و الرحيم الدالين على الكثرة أو الثبوت و الاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنه يصلح المورد لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذو الرحمة، فللغفور السعي و كثرة العمل و لذي الرحمة الانبساط و الشمول على ما لا مانع عنده، و لهذه النكتة جيء في المغفرة بالغفور و هو صيغة مبالغة و في الرحمة بذي الرحمة الحاوي لجنس الرحمة فافهم ذلك و دع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين.

قوله تعالى: "و تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا و جعلنا لمهلكهم موعدا" المراد بالقرى أهلها مجازا بدليل الضمائر الراجعة إليها، و المهلك بكسر اللام اسم زمان.

و معنى الآية ظاهر و هي مسوقة لبيان أن تأخير مهلكهم و تأجيله ليس ببدع منا بل السنة الإلهية في الأمم الماضين الذين أهلكهم الله لما ظلموا كانت جارية على ذلك فكان الله يهلكهم و يجعل لمهلكهم موعدا.

و من هنا يظهر أن العذاب و الهلاك الذي تتضمنه الآيات ليس بعذاب يوم القيامة بل عذاب دنيوي و هو عذاب يوم بدر إن كان المراد تهديد صناديد قريش أو عذاب آخر الزمان إن كان المراد تهديد الأمة كما مر في تفسير سورة يونس.

بحث روائي



في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: "يا ويلتنا ما ل هذا الكتاب" الآية: عن خالد بن نجيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة دفع للإنسان كتابه ثم قيل له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إنه يذكره فما من لحظة و لا كلمة و لا نقل قدم و لا شيء فعله إلا ذكره كأنه فعله تلك الساعة. و لذلك قالوا: "يا ويلتنا مال هذا الكتاب - لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها".

أقول: و الرواية كما ترى تجعل ما يذكره الإنسان هو ما عرفه من ذلك الكتاب فمذكوره هو المكتوب فيه، و لو لا حضور ما عمله لم تتم عليه الحجة و لأمكنه أن ينكره.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لا يظلم ربك أحدا" قال: يجدون كل ما عملوا مكتوبا.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن أبي معمر السعدان عن علي (عليه السلام) قال: قوله: "و رءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها" أي أيقنوا أنهم داخلوها.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو يعلى و ابن جرير و ابن حبان و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ينصب الكافر يوم القيامة مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، و إن الكافر يرى جهنم و يظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة.

أقول: و هو يؤيد ما تقدم أن المواقعة في الآية مأخوذة بين الاثنين.

<<        الفهرس        >>