جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج14 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


19 سورة مريم - 16 - 40

وَ اذْكُرْ فى الْكِتَبِ مَرْيمَ إِذِ انتَبَذَت مِنْ أَهْلِهَا مَكاناً شرْقِيّا (16) فَاتخَذَت مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشراً سوِيّا (17) قَالَت إِنى أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنك إِن كُنت تَقِيّا (18) قَالَ إِنّمَا أَنَا رَسولُ رَبِّكِ لأَهَب لَكِ غُلَماً زَكيّا (19) قَالَت أَنى يَكُونُ لى غُلَمٌ وَ لَمْ يَمْسسنى بَشرٌ وَ لَمْ أَك بَغِيّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبّكِ هُوَ عَلىّ هَينٌ وَ لِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِّنّا وَ كانَ أَمْراً مّقْضِيّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَت بِهِ مَكاناً قَصِيّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاض إِلى جِذْع النّخْلَةِ قَالَت يَلَيْتَنى مِت قَبْلَ هَذَا وَ كنت نَسياً مّنسِيّا (23) فَنَادَاهَا مِن تحْتهَا أَلا تحْزَنى قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تحْتَكِ سرِيّا (24) وَ هُزِّى إِلَيْكِ بجِذْع النّخْلَةِ تُسقِط عَلَيْكِ رُطباً جَنِيّا (25) فَكلِى وَ اشرَبى وَ قَرِّى عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ الْبَشرِ أَحَداً فَقُولى إِنى نَذَرْت لِلرّحْمَنِ صوْماً فَلَنْ أُكلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّا (26) فَأَتَت بِهِ قَوْمَهَا تحْمِلُهُ قَالُوا يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شيْئاً فَرِيّا (27) يَأُخْت هَرُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سوْءٍ وَ مَا كانَت أُمّكِ بَغِيّا (28) فَأَشارَت إِلَيْهِ قَالُوا كَيْف نُكلِّمُ مَن كانَ فى الْمَهْدِ صبِيّا (29) قَالَ إِنى عَبْدُ اللّهِ ءَاتَاخَ الْكِتَب وَ جَعَلَنى نَبِيّا (30) وَ جَعَلَنى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كنت وَ أَوْصنى بِالصلَوةِ وَ الزّكوةِ مَا دُمْت حَيّا (31) وَ بَرّا بِوَلِدَتى وَ لَمْ يجْعَلْنى جَبّاراً شقِيّا (32) وَ السلَمُ عَلىّ يَوْمَ وُلِدت وَ يَوْمَ أَمُوت وَ يَوْمَ أُبْعَث حَيّا (33) ذَلِك عِيسى ابْنُ مَرْيمَ قَوْلَ الْحَقِّ الّذِى فِيهِ يَمْترُونَ (34) مَا كانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سبْحَنَهُ إِذَا قَضى أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَ إِنّ اللّهَ رَبى وَ رَبّكمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَطٌ مّستَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَف الأَحْزَاب مِن بَيْنهِمْ فَوَيْلٌ لِّلّذِينَ كَفَرُوا مِن مّشهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسمِعْ بهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظلِمُونَ الْيَوْمَ فى ضلَلٍ مّبِينٍ (38) وَ أَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَْسرَةِ إِذْ قُضىَ الأَمْرُ وَ هُمْ فى غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنّا نحْنُ نَرِث الأَرْض وَ مَنْ عَلَيهَا وَ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

بيان

انتقال من قصة يحيى إلى قصة عيسى (عليه السلام) و بين القصتين شبها تاما فولادتهما على خرق العادة، و قد أوتي عيسى الرشد و النبوة و هو صبي كيحيى، و قد أخبر أنه بر بوالدته و ليس بجبار شقي و أن السلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا كما أخبر الله عن يحيى (عليه السلام) بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه و قد صدق يحيى بعيسى و آمن به.

قوله تعالى: "و اذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا" المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب و جزء الكتاب كتاب و الاحتمالان من حيث المال واحد فلا كثير جدوى في إصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني و تعيينه.

و النبذ - على ما ذكره الراغب - طرح الشيء الحقير الذي لا يعبأ به يقال نبذه إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به، و الانتباذ الاعتزال من الناس و الانفراد.

و مريم هي ابنة عمران أم المسيح (عليه السلام)، و المراد بمريم نبأ مريم و قوله: "إذ" ظرف له، و قوله: "انتبذت" إلى آخر القصة تفصيل المظروف الذي هو نبأ مريم، و المعنى و اذكر يا محمد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقي، و كأنه شرقي المسجد.

قوله تعالى: "فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا" الحجاب ما يحجب الشيء و يستره عن غيره، و كأنها اتخذت الحجاب من دون أهلها لتنقطع عنهم و تعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله: "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا": آل عمران: 37 و قد مر الكلام في تفسير الآية.

و قيل: إنها كانت تقيم المسجد حتى إذا حاضت خرجت منها و أقامت في بيت زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحية الدار و قد ضربت بينها و بين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شاب أمرد سوي الخلق فاستعاذت بالله منه.

و فيه أنه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، و قد عرفت أن آية آل عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق.

و قوله: "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا" ظاهر السياق أن فاعل "تمثل" ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثل لها بشرا سويا و معنى تمثله لها بشرا ترائيه لها، و ظهوره في حاستها في صورة البشر و هو في نفسه روح و ليس ببشر.

و إذ لم يكن بشرا و ليس من الجن فقد كان ملكا بمعنى الخلق الثالث الذي وصفه الله سبحانه في كتابه و سماه ملكا، و قد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه و سماه جبريل بقوله: "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك": البقرة: 97 و سماه روحا في قوله: "قل نزله روح القدس من ربك": النحل: 102 و قوله: "نزل به الروح الأمين على قلبك": الشعراء: 194" و سماه رسولا في قوله: "إنه لقول رسول كريم": الحاقة: 40"، فبهذا كله يتأيد أن الروح الذي أرسله الله إليها إنما هو جبريل.



و أما قوله: "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم - إلى أن قال - قالت رب أنى يكون لي ولد و لم يمسسني بشر قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون": آل عمران: 47.

فتطبيقه على الآيات التي نحن فيها لا يدع ريبا في أن قول الملائكة لمريم و محاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور هاهنا، و نسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنة أو عادة، و في القرآن منه شيء كثير كقوله تعالى: "يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل": المنافقون: 8، و القائل واحد.

و قوله: "و إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء": الأنفال: 32، و القائل واحد.

و إضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، و قد تقدم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى: "يسألونك عن الروح": الآية الإسراء: 85.

و من التفسير الردي قول بعضهم إن المراد بالروح في الآية عيسى (عليه السلام) و ضمير تمثل عائد على جبريل.

و هو كما ترى.

و من القراءة الردية قراءة بعضهم "روحنا" بتشديد النون على أن روحنا اسم الملك الذي أرسل إلى مريم، و هو غير جبريل الروح الأمين.

و هو أيضا كما ترى.

كلام في معنى التمثل

كثيرا ما ورد ذكر التمثل في الروايات، و أما في الكتاب فلم يرد ذكره إلا في قصة مريم في سورتها قال تعالى: "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا" الآية: - 17 من السورة، و الآيات التالية التي يعرف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنه كان حال تمثله لها في صورة بشر باقيا على ملكيته و لم يصر بذلك بشرا، و إنما ظهر في صورة بشر و ليس ببشر بل ملك و إنما كانت مريم تراها في صورة بشر.

فمعنى تمثله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر و ليس عليها في نفسه بمعنى أنه كان في ظرف إدراكها على صورة بشر و هو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك.

و هذا هو الذي ينطبق على معنى التمثل اللغوي فإن معنى تمثل شيء لشيء في صورة كذا هو تصوره عنده بصورته و هو هو لا صيرورة الشيء شيئا آخر فتمثل الملك بشرا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان لا صيرورة الملك إنسانا، و لو كان التمثل واقعا في نفسه و في الخارج عن ظرف الإدراك كان من قبيل صيرورة الشيء شيئا آخر و انقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك.

و استشكل أمر هذا التمثل بأمور مذكورة في التفسير الكبير و غيره.

أحدها: أن جبريل شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثة الإنسان لزم أن لا يبقى جبريل، و إن لم تتساقط لزم تداخلها و هو محال.

الثاني: أنه لو جاز التمثل ارتفع الوثوق و امتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي بالأمس لاحتمال التمثل.

الثالث: أنه لو جاز التمثل بصورة الإنسان جاز التمثل بصورة غيره كالبعوض و الحشرات و غيرها و معلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل.

الرابع: أنه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثل به.



و أجيب عن الأول: بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصلية قليلة و أجزاء فاضلة و يتمكن بالأجزاء من أن يتمثل بشرا هذا على القول بأنه جسم و أما على القول بكونه روحانيا فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم و أخرى بالهيكل الصغير.

و أنت ترى أن أول الشقين في الجواب كأصل الإشكال مبني على كون التمثل تغيرا من المتمثل في نفسه و بطلان صورته الأولى و انتقاله إلى صورة أخرى، و قد تقدم أن التمثل ظهوره في صورة ما و هو في نفسه بخلافها.

و الآية بسياقها ظاهرة في أن جبريل لم يخرج بالتمثل عن كونه ملكا و لا صار بشرا في نفسه و إنما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه و في الخارج عن ظرف إدراكها، و نظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصة البشارة بإسحاق و تمثلهم لإبراهيم و لوط (عليهما السلام) في صورة البشر، و نظيره ظهور إبليس في صورة سراقة بن مالك يوم بدر، و قد أشار تعالى إليه في سورة الأنفال الآية 48 و قد كان سراقة يومئذ بمكة.

و في الروايات من ذلك شيء كثير كتمثل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة شيخ كبير، و تمثله يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج، و تمثله ليحيى (عليه السلام) في صورة عجيبة، و نظير تمثل الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة مرأة حسناء فتانة، كما في الرواية، و ما ورد من تمثل المال و الولد و العمل للإنسان عند الموت، و ما ورد من تمثل الأعمال للإنسان في القبر و يوم القيامة.

و من هذا القبيل التمثلات المنامية كتمثل العدو في صورة الكلب أو الحية أو العقرب و تمثل الزوج في صورة النعل و تمثل العلاء في صورة الفرس و الفخر في صورة التاج إلى غير ذلك.

فالمتمثل في أغلب هذه الموارد - كما ترى - من المعاني التي لا صورة لها في نفسها و لا شكل، و لا يتحقق فيها تغير من صورة إلى صورة و لا من شكل إلى شكل كما عليه بناء الإشكال و الجواب.

و أجيب عن الثاني: بأنه مشترك الورود فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلا و بذلك يرتفع الوثوق و يمتنع القطع على حذو ما ذكر في الإشكال، و كذا من لم يعترف بالصانع و أسند الحوادث إلى الأسباب الطبيعية أو الأوضاع السماوية يجوز عنده أن يتحقق من الأسباب ما يستتبع حدوث مثل زيد مثلا فيعود الإشكال.

و لعله لما كان مثل هذه الحوادث نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك في كون زيد الذي نشاهده الآن هو زيد الذي شاهدناه أمس.

و أنت خبير بأن هذا الجواب لا يحسم مادة الإشكال إذ تسليم المغايرة بين الحس و المحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد و إن كانت نادرة يبطل العلم الحسي و لا يبقى إلا أن يدعى أنه إنما يسمى علما لأن ندرة التخلف و الخطإ تستوجب غفلة الإنسان عن الالتفات إلى الشك فيه و احتمال المغايرة بين الحس و المحسوس.

على أنه إذا جازت المغايرة و هي محتملة التحقق في كل مورد مورد لم يكن لنا سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أن مثل ذلك نادر الوجود؟.



و الحق أن الإشكال و الجواب فاسدان من أصلهما: أما الإشكال فهو مبني على أن الذي يناله الحس هو عين المحسوس الخارجي بخارجيته دون الصورة المأخوذة منه و يتفرع على ذلك الغفلة عن معنى كون الأحكام الحسية بديهية و الغفلة عن أن تحميل حكم الحس على المحسوس الخارجي إنما هو بالفكر و النظر لا بنفس الحس.

فالذي يناله الحس من العين الخارجي شيء من كيفياته و هيآته يشابهه في الجملة لا نفس الشيء الخارجي ثم التجربة و النظر يعرفان حاله في نفسه و الدليل على ذلك أقسام المغايرة بين الحس و المحسوس الخارجي و هي المسماة بأغلاط الحس كمشاهدة الكبير صغيرا و العالي سافلا و المستقيم مائلا و المتحرك ساكنا و عكس ذلك باختلاف المناظر و كذلك حكم سائر الحواس كما نرى الفرد من الإنسان مثلا مع بعد المسافة أصغر ما يمكن و نحكم بتكرر الحس و بالتجربة أنه إنسان يماثلنا في عظم الجثة، و نشاهد الشمس قدر صحفة و هي تدور حول الأرض ثم البراهين الرياضية تسوقنا إلى أنها أكبر من الأرض كذا و كذا مرة و أن الأرض هي التي تدور حول الشمس.

فتبين أن المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة التي في ظرف حسنا دون الأمر الخارجي بخارجيته، ثم إنا لا نرتاب في أن الذي أحسسناه و هو في حسنا قد أحسسناه و هذا معنى بداهة الحس، و أما المحسوس و هو الذي في الخارج عنا و عن حسنا فالحكم الذي نحكم به عليه إنما هو ناشىء عن فكرنا و نظرنا و هذا ما قلناه إن الذي نعتقده من حال الشيء الخارجي حكم ناشىء عن الفكر و النظر دون الحس هذا.

و قد بين في العلوم الباحثة عن الحس و المحسوس أن لجهازات الحواس أنواعا من التصرف في المحسوس.

ثم إن من الضروري عندنا أن في الخارج من إدراكنا سببا تتأثر عنه نفوسنا فتدرك ما تدرك، و هذا السبب ربما كان خارجيا كالأجسام التي ترتبط بكيفياتها و أشكالها بنفوسنا من طريق الحواس فندرك بالحس صورا منها ثم نحصل بتجربة أو فكر شيئا من أمرها في نفسها، و ربما كان داخليا كالخوف الشديد الطارىء على الإنسان فجأة يصور له صورا هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الأوهام و الخواطر المؤلمة.

و في جميع هذه الأحوال ربما أصاب الإنسان في تشخيصه حال المحسوس الخارجي و هو الأغلب و ربما أخطأ كمن يرى سرابا فيقدر أنه ماء أو أشباحا فيحسب أنها أشخاص.

فقد تبين من جميع ما تقدم أن المغايرة بين الحس و المحسوس الخارجي في نفسه - على كونها مما لا بد منه في - الجملة لا تستدعي ارتفاع الوثوق و بطلان الاعتماد على الحس فإن الأمر في ذلك يدور مدار ما حصله الإنسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك و أصدقها ما صدقته التجربة.

و أما وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلمه في الإشكال من نيل الحس نفس المحسوس الخارجي بعينه، و أن العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحس نفسه مع التخلف نادرا.

و أجيب عن الإشكال الثالث بأن أصل تجويز تصور الملك بصور سائر الحيوان غير الإنسان قائم في الأصل، و إنما عرف فساده بدلائل السمع.

و فيه أنه لا دليل من جهة السمع يعتد به نعم يرد على أصل الإشكال أن المراد بالإمكان إن كان هو الإمكان المقابل للضرورة و الامتناع فمن البين أن تمثل الملك بصورة الإنسان لا يستلزم إمكان تمثله بصورة غيره من الحيوان، و إن كان هو الإمكان بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته.



و أجيب عن الإشكال الرابع بمثل ما أجيب به عن الثالث فإن احتمال التخلف قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه.

و فيه أن نظير الاحتمال قائم في نفس دليل السمع، فإن الطريق إليه حاسة السمع و الجواب الصحيح عن هذا الإشكال هو الذي أوردناه جوابا عن الإشكال الثاني.

و الله أعلم.

فظهر مما قدمناه أن التمثل هو ظهور الشيء للإنسان بصورة يألفها الإنسان و تناسب الغرض الذي لأجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سوي لما أن المعهود عند الإنسان من الرسالة أن يتحمل إنسان الرسالة ثم يأتي المرسل إليه و يلقي إليه ما تحمله من الرسالة من طريق التكلم و التخاطب، و كظهور الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة امرأة حسناء لتغره لما أن الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء و اللذائذ النفسانية أقوى سبب يتوسل به للأخذ بمجامع القلب و الغلبة على العقل إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة.

فإن قلت: لازم ذلك القول بالسفسطة فإن الإدراك الذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلا وهما سرابيا و خيالا باطلا و رجوعه إلى السفسطة.

قلت: فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور و تحتمله أدوات إدراكه و بين أن لا يكون هناك إلا صورة إدراكية ليس وراءها شيء، و السفسطة هي الثاني دون الأول و توخي أزيد من ذلك في باب العلم الحصولي طمع فيما لا مطمع فيه و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محله.

و الله الهادي.

قوله تعالى: "قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا" ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها و هي تحسب أنه بشر هجم عليها لأمر يسوءها و استعاذت بالرحمن استدرارا للرحمة العامة الإلهية التي هي غاية آمال المنقطعين إليه من أهل القنوت.

و اشتراطها بقولها: "إن كنت تقيا" من قبيل الاشتراط بوصف يدعيه المخاطب لنفسه أو هو محقق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط و عليه الوصف للحكم، و التقوى وصف جميل يشق على الإنسان أن ينفيه عن نفسه و يعترف بفقده فيئول المعنى إلى مثل قولنا: إني أعوذ و أعتصم بالرحمن منك إن كنت تقيا و من الواجب أن تكون تقيا فليردعك تقواك عن أن تتعرض بي و تقصدني بسوء.

فالآية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى: "و اتقوا الله إن كنتم مؤمنين": المائدة: 57، و قوله: "و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين": المائدة: 23.

و ربما احتمل في قوله: "إن كنت" أن تكون إن نافية و المعنى ما كنت تقيا إذ هتكت على ستري و دخلت بغير إذني.

و أول الوجهين أوفق بالسياق.

و القول بأن التقي اسم رجل طالح أو صالح لا يعبأ به.

قوله تعالى: "قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا" جواب الروح لمريم و قد صدر الكلام بالقصر ليفيد أنه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثم يطيب نفسها بالبشرى، و الزكي هو النامي نموا صالحا و النابت نباتا حسنا.

و من لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنه تعالى ذكر زكريا و أنه وهب له يحيى، و ذكر مريم و أنه وهب لها عيسى، و ذكر إبراهيم و أنه وهب له إسحاق و يعقوب، و ذكر موسى و أنه وهب له هارون (عليه السلام).



قوله تعالى: "قالت إني يكون لي غلام و لم يمسسني بشر و لم أك بغيا" مس البشر بقرينة مقابلته للبغي و هو الزنا كناية عن النكاح و هو في نفسه أعم و لذا اكتفى في القصة من سورة آل عمران بقوله: "و لم يمسسني بشر" و الاستفهام للتعجب أي كيف يكون لي ولد و لم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح و لا من طريق الحرام بالزنا.

و السياق يشهد أنها فهمت من قوله: "لأهب لك غلاما" إلخ، إنه سيهبه حالا و لذا قالت: "و لم يمسسني بشر و لم أك بغيا" فنفت النكاح و الزنا في الماضي.

قوله تعالى: "قال كذلك قال ربك هو علي هين" إلخ، أي قال الروح الأمر كذلك أي كما وصفته لك ثم قال: "قال ربك هو علي هين"، و قد تقدم في قصة زكريا و يحيى (عليهما السلام) توضيح ما للجملتين.

و قوله: "و لنجعله آية للناس و رحمة منا" ذكر بعض ما هو الغرض من خلق المسيح على هذا النهج الخارق، و هو معطوف على مقدر أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا و كذا و لنجعله آية للناس بخلقته و رحمة منا برسالته و الآيات الجارية على يده و حذف بعض الغرض و عطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى: "و ليكون من الموقنين": الأنعام: 75، و في هذه الصنعة إيهام أن الأغراض الإلهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.

و قوله: "و كان أمرا مقضيا" إشارة إلى تحتم القضاء في أمر هذا الغلام الزكي فلا يرد بإباء أو دعاء.

قوله تعالى: "فحملته فانتبذت به مكانا قصيا" القصي البعيد أي حملت بالولد فانفرد و اعتزلت به مكانا بعيدا من أهله.

قوله تعالى: "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" إلى آخر الآية، الإجاءة إفعال من جاء يقال: أجاءه و جاء به بمعنى و هو في الآية كناية عن الدفع و الإلجاء، و المخاض و الطلق وجع الولادة، و جذع النخلة ساقها، و النسي بفتح النون و كسرها كالوتر و الوتر هو الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى، و المعنى - أنها لما اعتزلت من قومها في مكان بعيد منهم - دفعها و ألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها - و التعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرة - و قالت استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا و شيئا لا يعبأ به منسيا لا يذكر فلم يقع فيه الناس كما سيقع الناس في.

قوله تعالى: "فناداها من تحتها ألا تحزني" إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ضمير الفاعل في "ناداها" لعيسى (عليه السلام) لا للروح السابق الذكر، و يؤيده تقييده بقوله: "من تحتها" فإن هذا القيد أنسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك المنادي مع من يناديه، و يؤيده أيضا احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى (عليه السلام).

و قيل: الضمير للروح و أصلح كون الروح تحتها بأنها كانت حين الوضع في أكمة و كان الروح واقفا تحت الأكمة فناداها من تحتها، و لا دليل على شيء من ذلك من جهة اللفظ.

و لا يبعد أن يستفاد من ترتب قوله: "فناداها" على قوله: "قالت يا ليتني" إلخ، أنها إنما قالت هذه الكلمة حين الوضع أو بعده فعقبها (عليه السلام) بقوله: لا تخزني، إلخ.



و قوله: "ألا تحزني" تسلية لها لما أصابها من الحزن و الغم الشديد فإنه لا مصيبة هي أمر و أشق على المرأة الزاهدة المتنسكة و خاصة إذا كانت عذراء بتولا من أن تتهم في عرضها و خاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفة و النزاهة في حاضر حاله و سابق عهده و خاصة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها و كانت الحجة للخصم عليها، و لذا أشار أن لا تتكلم مع أحد و تكفل هو الدفاع عنها و تلك حجة لا يدفعها دافع.

و قوله: "قد جعل ربك تحتك سريا" السري جدول الماء، و السري هو الشريف الرفيع، و المعنى الأول هو الأنسب للسياق، و من القرينة عليه قوله: بعد: "فكلي و اشربي" كما لا يخفى.

و قيل: المراد هو المعنى الثاني و مصداقه عيسى (عليه السلام)، و قد عرفت أن السياق لا يساعد عليه، و على أي تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم (عليها السلام).

و قوله: "و هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا" الهز هو التحريك الشديد، و نقل عن الفراء أن العرب تقول: هزه و هز به، و المساقطة هي الإسقاط، و ضمير "تساقط" للنخلة، و نسبة الهز إلى الجذع و المساقطة إلى النخلة لا تخلو من إشعار بأن النخلة كانت يابسة و إنما اخضرت و أورقت و أثمرت رطبا جنيا لساعتها، و الرطب هو نضيج البسر، و الجني هو المجني و ذكر في القاموس - على ما نقل - أن الجني إنما يقال لما جني من ساعته.

قوله تعالى: "فكلي و اشربي و قري عينا" قرار العين كناية عن المسرة يقال: أقر الله عليك أي سرك، و المعنى: فكلي من الرطب الجني الذي تسقط و اشربي من السري الذي تحتك و كوني على مسرة من غير أن تحزني، و التمتع بالأكل و الشرب من أمارات السرور و الابتهاج فإن المصاب في شغل من التمتع بلذيذ الطعام و مريء الشراب و مصيبته شاغلة، و المعنى: فكلي من الرطب الجني و اشربي من السري و كوني على مسرة - مما حباك الله به - من غير أن تحزني، و أما ما تخافين من تهمة الناس و مساءلتهم فالزمي السكوت و لا تكلمي أحدا فأنا أكفيكهم.

قوله تعالى: "فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" المراد بالصوم صوم الصمت كما يدل عليه التفريع الذي في قوله: "فلن أكلم اليوم إنسيا" و كذا يستفاد من السياق أنه كان أمرا مسنونا في ذلك الوقت و لذا أرسل عذرا إرسال المسلم، و الإنسي منسوب إلى الإنس مقابل الجن و المراد به الفرد من الإنسان.

و قوله: "فإما ترين" إلخ، ما زائدة و الأصل إن ترى بشرا فقولي إلخ، و المعنى: إن ترى بشرا و كلمك أو سألك عن شأن الولد فقولي إلخ، و المراد بالقول التفهيم بالإشارة فربما يسمى التفهيم بالإشارة قولا، و عن الفراء أن العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام.

و ليس ببعيد أن يستفاد من قوله: "فقولي إني نذرت للرحمن صوما" بمعونة السياق أنه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها و تنذره لله على نفسها فلا يكون إخبارا بما لا حقيقة له.

و قوله: "فإما ترين إلخ، على أي حال متفرع على قوله: "و قري عينا" و المراد لا تكلمي بشرا و لا تجيبي أحدا سألك عن شأني بل ردي الأمر إلي فأنا أكفيك جواب سؤالهم و أدافع خصامهم.



قوله تعالى: "فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم أنى لك هذا لقد جئت شيئا فريا" الضميران في "به" و "تحمله" لعيسى، و الاستفهام إنكاري حملهم عليه ما شاهدوه عن عجيب أمرها مع ما لها من سابقة الزهد و الاحتجاب و كانت ابنة عمران و من آل هارون القديس، و الفري هو العظيم البديع و قيل: هو من الافتراء بمعنى الكذب كناية عن القبيح المنكر و الآية التالية تؤيد المعنى الأول، و معنى الآية واضح.

قوله تعالى: "يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا" ذكر في المجمع، أن في المراد من هارون أربعة أقوال: أحدها: أنه كان رجلا صالحا من بني إسرائيل ينسب إليه كل صالح و على هذا فالمراد بالأخوة الشباهة و معنى "يا أخت هارون" يا شبيهة هارون، و الثاني: أنه كان أخاها لأبيها لا من أمها، و الثالث: أن المراد به هارون أخو موسى الكليم و على هذا فالمراد بالأخوة الانتساب كما يقال: أخو تميم، و الرابع: أنه كان رجلا معروفا بالعهر و الفساد انتهى ملخصا و البغي الزانية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا" إشارتها إليه إرجاع لهم إليه حتى يجيبهم و يكشف لهم عن حقيقة الأمر، و هو جرى منها على ما أمرها به حينما ولد بقوله: "فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا على ما تقدم البحث عنه.

و المهد السرير الذي يهيأ للصبي فيوضع فيه و ينوم عليه، و قيل: المراد بالمهد في الآية حجر أمه، و قيل المرباة أي المرجحة، و قيل المكان الذي استقر عليه كل ذلك لأنها لم تكن هيئت له مهدا، و الحق أن الآية ظاهرة في ذلك و لا دليل على أنها لم تكن هيئت وقتئذ له مهدا فلعل الناس هجموا عليها و كلموها بعد ما رجعت إلى بيتها و استقرت فيه و هيئت له مهدا أو مرجحة و تسمى أيضا مهدا.

و قد استشكلت الآية بأن الإتيان بلفظة كان مخل بالمعنى فإن ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبي لا تكليم من كان في المهد صبيا قبل ذلك فكل من يكلمه الناس من رجل أو امرأة كان في المهد صبيا قبل التكليم بحين و لا استغراب فيه.

و أجيب عنه أولا أن الزمان الماضي منه بعيد و منه قريب يلي الحال و إنما يفسد المعنى لو كان مدلول كان في الآية هو الماضي البعيد، و أما لو كان هو القريب المتصل بالحال و هو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه.

و الوجه للزمخشري في الكشاف،.

و فيه أنه و إن دفع الإشكال غير أنه لا ينطبق على نحو إنكارهم فإنهم إنما كانوا ينكرون تكليمه و تكلمه من جهة أنه صبي في المهد بالفعل لا من جهة أنه كان قبل زمان يسير صبيا في المهد فيكون "كان زائدا مستدركا.

و أجيب عنه ثانيا: بأن قوله: "كيف نكلم" لحكاية الحال الماضية و "من" موصولة و المعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي لم نكلمهم إلى الآن حتى نكلم هذا.

و هذا الوجه أيضا للزمخشري في الكشاف،.

و فيه أنه و إن استحسنه غير واحد لكنه معنى بعيد عن الفهم!.

و أجيب عنه ثالثا أن كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و "من كان في المهد" مبتدأ و خبر، و صبيا حال مؤكدة.

و فيه أنه لا دليل عليه، على أنه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنه قيل إن: "كان" الزائدة تدل على الزمان و إن لم تدل على الحدث.



و أجيب عنه رابعا بأن "من" في الآية شرطية و "كان في المهد صبيا" شرطها و قوله: "كيف نكلم" في محل الجزاء و المعنى من كان في المهد صبيا لا يمكن تكليمه و الماضي في الجملة الشرطية بمعنى المستقبل فلا إشكال.

و فيه أنه تكلف ظاهر.

و يمكن أن يقال: إن "كان" منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من معنى الشرط و الجزاء فإنه في معنى من كان صبيا لا يمكن تكليمه أو إن كان جيء بها للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفه ثبوتا يقضي مضيه عليه و تحققه فيه و لزومه له كقوله تعالى: "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا": الإسراء: 93 أي إن البشرية و الرسالة تحققا في فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول، و قوله تعالى: "و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا": الإسراء: 63 أي إن النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه و يكون المعنى كيف نكلم صبيا في المهد ممعنا في صباه من شأنه أنه لبث و سيلبث في صباه برهة من الزمان.

و الله أعلم.

قوله تعالى: "قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا" شروع منه (عليه السلام) في الجواب و لم يتعرض لمشكلة الولادة التي كانوا يكرون بها على مريم (عليها السلام) لأن نطقه على صباه و هو آية معجزة و ما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريبا لمرتاب في أمره على أنه سلم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته و أمنة من كل قذارة و خباثة و من نزاهته طهارة مولده.

و قد بدأ بقوله: "إني عبد الله" اعترافا بالعبودية لله ليبطل به غلو الغالين و تتم الحجة عليهم، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول: "و إن الله ربي و ربكم فاعبدوه".

و في قوله: "آتاني الكتاب" إخبار بإعطاء الكتاب و الظاهر أنه الإنجيل، و في قوله: "و جعلني نبيا" إعلام بنبوته، و قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب الفرق بين النبوة و الرسالة، فقد كان يومئذ نبيا فحسب ثم اختاره الله للرسالة، و ظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب و النبوة لا أن ذلك إخبار بما سيقع.

قوله تعالى: "و جعلني مباركا أين ما كنت و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا" كونه (عليه السلام) مباركا أينما كان هو كونه محلا لكل بركة و البركة نماء الخير كان نفاعا للناس يعلمهم العلم النافع و يدعوهم إلى العمل الصالح و يربيهم تربية زاكية و يبرىء الأكمه و الأبرص و يصلح القوي و يعين الضعيف.

و قوله: "و أوصاني بالصلاة و الزكاة" إلخ، إشارة إلى تشريع الصلاة و الزكاة في شريعته، و الصلاة هي التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه و الزكاة الإنفاق المالي و هذا هو الذي استقر عليه عرف القرآن كلما ذكر الصلاة و الزكاة و قارن بينهما و ذلك في نيف و عشرين موضعا فلا يعتد بقول من قال: إن المراد بالزكاة تزكية النفس و تطهيرها دون الإنفاق المالي.

قوله تعالى: "و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا" أي جعلني حنينا رءوفا بالناس و من ذلك أني بر بوالدتي و لست جبارا شقيا بالنسبة إلى سائر الناس، و الجبار هو الذي يحمل الناس و لا يتحمل منهم، و نقل عن ابن عطاء أن الجبار الذي لا ينصح و الشقي الذي لا ينتصح.



قوله تعالى: "و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا" تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية التي تستقبله في كونه و وجوده، و قد تقدم توضيحه في آخر قصة يحيى المتقدمة.

نعم بين التسليمتين فرق، فالسلام في قصة يحيى نكرة يدل على النوع، و في هذه القصة محلى بلام الجنس يفيد بإطلاقه الاستغراق، و فرق آخر و هو أن المسلم على يحيى هو الله سبحانه و على عيسى هو نفسه.

قوله تعالى: "ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون" الظاهر أن هذه الآية و التي تليها معترضتان، و الآية الثالثة: "و إن الله ربي و ربكم" من تمام قول عيسى (عليه السلام).

و قوله: "ذلك عيسى ابن مريم" الإشارة فيه إلى مجموع ما قص من أمره و شرح من وصفه أي ذلك الذي ذكرنا كيفية ولادته و ما وصفه هو للناس من عبوديته و إيتائه الكتاب و جعله نبيا هو عيسى بن مريم.

و قوله: "قول الحق" منصوب بمقدر أي أقول قول الحق، و قوله: "الذي فيه يمترون" أي يشكون أو يتنازعون، وصف لعيسى، و المعنى: ذلك عيسى بن مريم الذي يشكون أو يتنازعون فيه.

و قيل: المراد بقول الحق كلمة الحق و هو عيسى (عليه السلام) لأن الله سبحانه سماه كلمته في قوله: "و كلمته ألقاها إلى مريم": النساء: 171 و قوله: "يبشرك بكلمة منه": آل عمران: 45، و قوله: "بكلمة من الله": آل عمران: 39، و عليه فقول الحق منصوب على المدح، و يؤيد المعنى الأول قوله تعالى في هذا المعنى في آخر القصة من سورة آل عمران: "الحق من ربك فلا تكن من الممترين": آل عمران: 60.

قوله تعالى: "ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون" نفي و إبطال لما قالت به النصارى من بنوة المسيح، و قوله: "إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن" حجة أقيمت على ذلك، و قد عبر بلفظ القضاء للدلالة على ملاك الاستحالة.

و ذلك أن الولد إنما يراد للاستعانة به في الحوائج، و الله سبحانه غني عن ذلك لا يتخلف مراد عن إرادته إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

و أيضا الولد هو أجزاء من وجود الوالد يعزلها ثم يربيها بالتدريج حتى يصير فردا مثله، و الله سبحانه غني عن التوسل في فعله إلى التدريج و لا مثل له بل ما أراده كان كما أراده من غير مهلة و تدريج من غير أن يماثله، و قد تقدم نظير هذا المعنى في تفسير قوله: "و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه"، الآية: البقرة: 116 في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: "و إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم" معطوف على قوله: "إني عبد الله" و هو من قول عيسى (عليه السلام)، و من الدليل عليه وقوع الآية بعينها في المحكي من دعوته قومه في قصته من سورة آل عمران، و نظيره في سورة الزخرف حيث قال: "إن الله هو ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم": الزخرف: 65.

فلا وجه لما احتمله بعضهم أن الآية استئناف و ابتداء كلام من الله سبحانه أو أمر منه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: إن الله ربي و "ربكم" إلخ على أن سياق الآيات أيضا لا يساعد على شيء من الوجهين فهو من كلام عيسى (عليه السلام) ختم كلامه بالاعتراف بالمربوبية كما بدأ كلامه بالشهادة على العبودية ليقطع به دابر غلو الغالين في حقه و يتم الحجة عليهم.



قوله تعالى: "فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم" الأحزاب جمع حزب و هو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره فاختلاف الأحزاب هو قول كل منهم فيه (عليه السلام) خلاف ما يقوله الآخرون، و إنما قال: "من بينهم" لأن فيهم من ثبت على الحق، و ربما قيل "من" زائدة و الأصل اختلف الأحزاب بينهم، و هو كما ترى.

و الويل كلمة تهديد تفيد تشديد العذاب، و المشهد مصدر ميمي بمعنى الشهود: هذا.

و قد تقدم الكلام في تفصيل قصص المسيح (عليه السلام) و كليات اختلافات النصارى فيه في الجزء الثالث من الكتاب.

قوله تعالى: "أسمع بهم و أبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين" أي ما أسمعهم و أبصرهم بالحق يوم يأتوننا و يرجعون إلينا و هو يوم القيامة فيتبين لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه كما حكى اعترافهم به في قوله: "ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون": الم السجدة: 12.

و أما الاستدراك الذي في قوله: "لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين" فهو لدفع توهم أنهم إذا سمعوا و أبصروا يوم القيامة و انكشف لهم الحق سيهتدون فيسعدون بحصول المعرفة و اليقين فاستدرك أنهم لا ينتفعون بذلك و لا يهتدون بل الظالمون اليوم في ضلال مبين لظلمهم.

و ذلك أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فلا يواجهون اليوم إلا ما قدموه من العمل و أثره و ما اكتسبوه في أمسهم ليومهم و أما أن يستأنفوا يوم القيامة عملا يتوقعون جزاءه غدا فليس لليوم غد، و بعبارة أخرى هؤلاء قد رسخت فيهم ملكة الضلال في الدنيا و انقطعوا عن موطن الاختيار بحلول الموت فليس لهم إلا أن يعيشوا مضطرين على ما هيئوا لأنفسهم من الضلال لا معدل عنه فلا ينفعهم انكشاف الحق و ظهور الحقيقة.

و ذكر بعضهم أن المراد بالآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسمع القوم و يبصرهم ببيان أنهم يوم يحضرون للحساب و الجزاء سيكونون في ضلال مبين.

و هو وجه سخيف لا ينطبق على الآية البتة.

قوله تعالى: "و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة و هم لا يؤمنون" ظاهر السياق أن قوله: "إذ قضي الأمر" بيان لقوله: يوم الحسرة" ففيه إشارة إلى أن الحسرة إنما تأتيهم من ناحية قضاء الأمر و القضاء إنما يوجب الحسرة إذا كان بحيث يفوت به عن المقضي عليه ما فيه قرة عينه و أمنية نفسه و مخ سعادته الذي كان يقدر حصوله لنفسه و لا يرى طيبا للعيش دونه لتعلق قلبه به و تولهه فيه، و معلوم أن الإنسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه و إن احتمل في سبيل حفظه أي مكروه إلا أن يصرفه عنه الغفلة فيفرط في جنبه و لذلك عقب الكلام بقوله: "و هم في غفلة و هم لا يؤمنون".

فالمعنى - و الله أعلم - و خوفهم يوما يقضى فيه الأمر فيتحتم عليهم الهلاك الدائم فينقطعون عن سعادتهم الخالدة التي فيها قرة أعينهم فيتحسرون عليها حسرة لا تقدر بقدر إذ غفلوا في الدنيا فلم يسلكوا الصراط الذي يهديهم و يوصلهم إليها بالاستقامة و هو الإيمان بالله وحده و تنزيهه عن الولد و الشريك.

و فيما قدمناه كفاية عن تفاريق الوجوه التي أوردوها في تفسير الآية و الله الهادي.

قوله تعالى: "إنا نحن نرث الأرض و من عليها و إلينا يرجعون" قال الراغب في المفردات،: الوراثة و الإرث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد و لا ما يجري مجرى العقد و سمي بذلك المنتقل عن الميت - إلى أن قال - و يقال: ورثت مالا عن زيد و ورثت زيدا.

انتهي.



و الآية - كأنها - تثبيت و نوع تقريب لقوله في الآية السابقة: "قضي الأمر" فالمعنى و هذا القضاء سهل يسير علينا فإنا نرث الأرض و إياهم و إلينا يرجعون و وراثة الأرض أنهم يتركونها بالموت فيبقى لله تعالى و وراثة من عليها أنهم يموتون فيبقى ما بأيديهم لله سبحانه، و على هذا فالجملتان "نرث الأرض و من عليها" في معنى جملة واحدة "نرث عنهم الأرض".

و يمكن أن نحمل الآية على معنى أدق من ذلك و هو أن يراد أن الله سبحانه هو الباقي بعد فناء كل شيء فهو الباقي بعد فناء الأرض يملك عنها ما كانت تملكه من الوجود و آثار الوجود و هو الباقي بعد فناء الإنسان يملك ما كان يملكه كما قصر الملك لنفسه في قوله: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار": المؤمن: 16، و قوله: "و نرثه ما يقول و يأتينا فردا": مريم: 84.

و يرجع معنى هذه الوراثة إلى رجوع الكل و حشرهم إليه تعالى فيكون قوله: "و إلينا يرجعون" عطف تفسير و بمنزلة التعليل للجملة الثانية أو لمجموع الجملتين بتغليب أولي العقل على غيرهم أو لبروز كل شيء يومئذ أحياء عقلاء.

و هذا الوجه أسلم من شبهة التكرار اللازم للوجه الأول فإن الكلام عليه نظير أن يقال ورثت مال زيد و زيدا.

و اختتام الكلام على قصة عيسى (عليه السلام) بهذه الآية لا يخلو عن مناسبة فإن وراثته تعالى من الحجج على نفي الولد فإن الولد إنما يراد ليكون وارثا لوالده فالذي يرث كل شيء في غنى عن الولد.

بحث روائي

في المجمع،: و روي عن الباقر (عليه السلام): أنه يعني جبرئيل تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحم و هي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها و مضت مريم على وجهها مستحية من خالتها و من زكريا، و قيل: كانت مدة حملها تسع ساعات: و هذا مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و في بعض الروايات أن مدة حملها كانت ستة أشهر.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "قالت يا ليتني مت قبل هذا" الآية و إنما تمنت الموت إلى أن قال و روي عن الصادق (عليه السلام): لأنها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزهها من السوء.

و فيه،: في قوله تعالى: "قد جعل ربك تحتك سريا" قيل: ضرب جبرئيل برجله فظهر ماء عذب و قيل: بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).

و في الدر المنثور، أخرج الطبراني في الصغير و ابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "قد جعل ربك تحتك سريا" قال النهر.

أقول: و في رواية أخرى فيه عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه نهر أخرجه الله لها لتشرب منه.

و في الخصال، عن علي (عليه السلام) من حديث الأربعمائة: ما تأكل الحامل من شيء و لا تتداوى به أفضل من الرطب قال الله تعالى لمريم: "و هزي إليك بجذع النخلة - تساقط عليك رطبا جنيا فكلي و اشربي - و قري عينا".

أقول: و هذا المعنى مروي في عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من طرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام).

و في الكافي، بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الصيام ليس من الطعام و الشراب وحده. ثم قال: قالت مريم: "إني نذرت للرحمان صوما" أي صوما صمتا و في نسخة أي صمتا فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم و غضوا أبصاركم و لا تنازعوا و لا تحاسدوا.

الحديث.



و في كتاب سعد السعود، لابن طاووس من كتاب عبد الرحمن بن محمد الأزدي: و حدثني سماك بن حرب عن المغيرة بن شعبة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إلى نجران فقالوا: أ لستم تقرءون: "يا أخت هارون" و بينهما كذا و كذا؟ فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ لا قلت لهم: إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم و الصالحين منهم.

أقول: و أورد الحديث في الدر المنثور، مفصلا و في مجمع البيان، مختصرا عن المغيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و معنى الحديث أن المراد بهارون في قوله: "يا أخت هارون" رجل مسمى باسم هارون النبي أخي موسى (عليه السلام)، و لا دلالة فيه على كونه من الصالحين كما توهمه بعضهم.

و في الكافي، و معاني الأخبار، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: "و جعلني مباركا أين ما كنت" قال: نفاعا.

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن أرباب الكتب عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظ الحديث: قال النبي قول عيسى (عليه السلام): "و جعلني مباركا أين ما كنت" قال: جعلني نفاعا للناس أين اتجهت.

و في الدر المنثور، أخرج ابن عدي و ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "و جعلني مباركا أين ما كنت" قال: معلما و مؤدبا.

و في الكافي، بإسناده عن بريد الكناسي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) أ كان عيسى بن مريم حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبيا حجة لله غير مرسل، أ ما تسمع لقوله حين قال: "إني عبد الله - آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أين ما كنت - و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا". قلت: فكان يومئذ حجة لله على زكريا في تلك الحال و هو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية لله و رحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها و كان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان و كان زكريا الحجة لله عز و جل بعد صمت عيسى بسنتين. ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبي صغير أ ما تسمع لقوله عز و جل: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة و آتيناه الحكم صبيا" فلما بلغ سبع سنين تكلم بالنبوة و الرسالة حين أوحى الله إليه، فكان عيسى الحجة على يحيى و على الناس أجمعين. و ليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوما واحدا بغير حجة لله على الناس منذ يوم خلق الله آدم (عليه السلام) و أسكنه الأرض.

الحديث.

و فيه، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا (عليه السلام) قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاما فقد وهب الله لك فقر عيوننا فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام) و هو قائم بين يديه: فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين قال: و ما يضره من ذلك شيء قد قام عيسى بالحجة و هو ابن ثلاث سنين.

أقول: و يقرب منه ما في بعض آخر من الروايات.

و فيه، بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم و أحب ذلك إلى الله عز و جل ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة أ لا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم قال: "و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا".



و في عيون الأخبار، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و منها عقوق الوالدين لأن الله عز و جل جعل العاق جبارا شقيا في قوله حكاية عن عيسى (عليه السلام): "و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا".

أقول: ظاهر الرواية أنه (عليه السلام) أخذ قوله: "و لم يجعلني جبارا شقيا" عطف تفسير لقوله: "و برا بوالدتي".

و في المجمع، و روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قيل: يا أهل الجنة فيشرفون و ينظرون، و قيل: يا أهل النار فيشرفون و ينظرون فيجاء بالموت كأنه كبش أملح فيقال لهم: تعرفون الموت؟ فيقولون: هذا هذا و كل قد عرفه. قال: فيقدم فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت: قال: فذلك قوله: "و أنذرهم يوم الحسرة" الآية.

قال: و رواه أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) ثم جاء في آخره: فيفرح أهل الجنة فرحا لو كان أحد يومئذ ميتا لماتوا فرحا، و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا لماتوا.

أقول: و روى هذا المعنى غير مسلم من أرباب الجوامع كالبخاري و الترمذي و النسائي و الطبري و غيرهم عن أبي سعيد و أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس.

و في تفسير القمي،: و قوله: "إنا نحن نرث الأرض و من عليها" قال: كل شيء خلقه الله يرثه الله يوم القيامة.

أقول: و هذا هو المعنى الثاني من معنيي الآية المتقدمة في تفسيرها.

19 سورة مريم - 41 - 50

وَ اذْكُرْ فى الْكِتَبِ إِبْرَهِيمَ إِنّهُ كانَ صِدِّيقاً نّبِياّ (41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنى عَنك شيْئاً (42) يَأَبَتِ إِنى قَدْ جَاءَنى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِك فَاتّبِعْنى أَهْدِك صِرَطاً سوِيّا (43) يَأَبَتِ لا تَعْبُدِ الشيْطنَ إِنّ الشيْطنَ كانَ لِلرّحْمَنِ عَصِيّا (44) يَأَبَتِ إِنى أَخَاف أَن يَمَسك عَذَابٌ مِّنَ الرّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشيْطنِ وَلِيّا (45) قَالَ أَ رَاغِبٌ أَنت عَنْ ءَالِهَتى يَإِبْرَهِيمُ لَئن لّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنّك وَ اهْجُرْنى مَلِيّا (46) قَالَ سلَمٌ عَلَيْك سأَستَغْفِرُ لَك رَبى إِنّهُ كانَ بى حَفِيّا (47) وَ أَعْتزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَ أَدْعُوا رَبى عَسى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبى شقِيّا (48) فَلَمّا اعْتزَلهَُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسحَقَ وَ يَعْقُوب وَ ُكلاً جَعَلْنَا نَبِيّا (49) وَ وَهَبْنَا لهَُم مِّن رّحْمَتِنَا وَ جَعَلْنَا لهَُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيّا (50)

بيان

تشير الآيات إلى نبذة من قصة إبراهيم (عليه السلام) و هي محاجته أباه في أمر الأصنام بما آتاه الله من الهدى الفطري و المعرفة اليقينية و اعتزاله إياه و قومه و آلهتهم فوهب الله له إسحاق و يعقوب و خصه بكلمة باقية في عقبه و جعل له و لأعقابه ذكرا جميلا باقيا مدى الدهر.

قوله تعالى: "و اذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا" الظاهر أن الصديق اسم مبالغة من الصدق فهو الذي يبالغ في الصدق فيقول ما يفعل و يفعل ما يقول لا مناقضة بين قوله و فعله، و كذلك كان إبراهيم (عليه السلام) قال بالتوحيد في عالم وثني و هو وحده فحاج أباه و قومه و قاوم ملك بابل و كسر الآلهة و ثبت على ما قال حتى ألقي في النار ثم اعتزلهم و ما يعبدون كما وعد أباه أول يوم فوهب الله له إسحاق و يعقوب إلى آخر ما عده تعالى من مواهبه.

و قيل: إن الصديق اسم مبالغة للتصديق، و معناه: أنه كان كثير التصديق للحق يصدقه بقوله و فعله، و هذا المعنى و إن وافق المعنى الأول بحسب المال لكن يبعده ندرة مجيء صيغة المبالغة من المزيد فيه.

و النبي على وزن فعيل مأخوذ من النبإ سمي به النبي لأنه عنده نبأ الغيب بوحي من الله، و قيل: هو مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة سمي به لرفعة قدره.

قوله تعالى: "إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا" ظرف لإبراهيم حيث إن المراد بذكره و ذكر نبئه و قصته كما تقدم نظيره في قوله: "و اذكر في الكتاب مريم" و أما قول من قال بكونه ظرفا لقوله: "صديقا" أو قوله: "نبيا" فهو تكلف يستبشعه الطبع السليم.

و قد نبه إبراهيم أباه فيما ألقى إليه من الخطاب أولا أن طريقه الذي يسلكه بعبادة الأصنام لغو باطل، و ثانيا أن له من العلم ما ليس عنده فليتبعه ليهديه إلى طريق الحق لأنه على خطر من ولاية الشيطان.

فقوله: "يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر" إلخ، إنكار توبيخي لعبادته الأصنام و قد عدل من ذكر الأصنام إلى ذكر أوصافها "ما لا يسمع" إلخ، ليشير إلى الدليل في ضمن إلقاء المدلول و يعطي الحجة في طي المدعى و هو أن عبادة الأصنام لغو باطل من وجهين: أحدهما أن العبادة إظهار الخضوع و تمثيل التذلل من العابد للمعبود فلا يستقيم إلا مع علم المعبود بذلك، و الأصنام جمادات مصورة فاقدة للشعور لا تسمع و لا تبصر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله: "لا يسمع و لا يبصر".

و ثانيهما: أن العبادة و الدعاء و رفع الحاجة إلى شيء إنما ذلك ليجلب للعابد نفعا أو يدفع عنه ضررا فيتوقف و لا محالة على قدرة في المعبود على ذلك، و الأصنام لا قدرة لها على شيء فلا تغني عن عابدها شيئا بجلب نفع أو دفع ضرر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله: "و لا يغني عنك شيئا".

و قد تقدم في تفسير سورة الأنعام أن هذا الذي كان يخاطبه إبراهيم (عليه السلام) بقوله: "يا أبت" لم يكن والده و إنما كان عمه أو جده لأمه أو زوج أمه بعد وفاة والده فراجع.

و المعروف من مذهب النحاة في لفظ "يا أبت" أن التاء عوض من ياء المتكلم و مثله "يا أمت" و يختص التعويض بالنداء فلا يقال مثلا قال أبت و قالت أمت.

قوله تعالى: "يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا" لما بين له بطلان عبادته للأصنام و لغويتها و كان لازم معناه أنه سالك طريق غير سوي عن جهل نبهه أن له علما بهذا الشأن ليس عنده و عليه أن يتبعه حتى يهديه إلى صراط - و هو الطريق الذي لا يضل سالكه لوضوحه - سوي هو في غفلة من أمره، و لذا نكره إذ قال: "أهدك صراطا سويا" و لم يقل: أهدك الصراط السوي كأنه يقول: إذ كنت تسلك صراطا و لا محالة من سلوكه فلا تسلك هذا الصراط غير السوي بجهالة بل اتبعني أهدك صراطا سويا فإني لذو علم بهذا الشأن.

و في قوله: "قد جاءني من العلم" دليل على أنه أوتي العلم بالحق قبل دعوته و محاجته هذه و فيه تصديق ما قدمناه في قصته (عليه السلام) من سورة الأنعام أنه أوتي العلم بالله و مشاهدة ملكوت السماوات و الأرض قبل أن يلقى أباه و قومه و يحاجهم.

و المراد بالهداية في قوله: "أهدك صراطا سويا" الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب فإنه شأن الإمام و لم يجعل إماما، بعد و قد فصلنا القول في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: "قال إني جاعلك للناس إماما": البقرة: 134.

قوله تعالى: "يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا" إلى آخر الآيتين الوثنيون يرون وجود الجن - و إبليس من الجن - و يعبدون أصنامهم كما يعبدون أصنام الملائكة و القديسين من البشر، غير أنه ليس المراد بالنهي النهي عن العبادة بهذا المعنى إذ لا موجب لتخصيص الجن من بين معبوديهم بالنهي عن عبادتهم بل المراد بالعبادة الطاعة كما في قوله تعالى: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان" الآية: يس: 60، فالنهي عن عبادة الشيطان نهي عن طاعته فيما يأمر به و مما يأمر به عبادة غير الله.

لما دعاه إلى اتباعه ليهديه إلى صراط سوي أراد أن يحرضه على الاتباع بقلعه عما هو عليه فنبهه على أن عبادة الأصنام ليست مجرد لغو لا يضر و لا ينفع بل هي في معرض أن تورد صاحبها مورد الهلاك و تدخله تحت ولاية الشيطان التي لا مطمع بعدها في صلاح و فلاح و لا رجاء لسلامة و سعادة.

و ذلك أن عبادتها - و المستحق للعبادة هو الله سبحانه لكونه رحمانا تنتهي إليه كل رحمة - و التقرب إليها إنما هي من الشيطان و تسويله، و الشيطان عصي للرحمن لا يأمر بشيء فيه رضاه و إنما يوسوس بما فيه معصيته المؤدية إلى عذابه و سخطه و العكوف على معصيته و خاصة في أخص حقوقه و هي عبادته وحده، فيه مخافة أن ينقطع عن العاصي رحمته و هي الهداية إلى السعادة و ينزل عليه عذاب الخذلان فلا يتولى الله أمره فيكون الشيطان هو مولاه و هو ولي الشيطان و هو الهلاك.

فمعنى الآيتين - و الله أعلم - يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الأصنام لأن الشيطان عصي مقيم على معصية الله الذي هو مصدر كل رحمة و نعمة فهو لا يأمر إلا بما فيه معصيته و الحرمان عن رحمته، و إنما أنهاك عن معصيته في طاعة الشيطان لأني أخاف يا أبت أن يأخذك شيء من عذاب خذلانه و ينقطع عنك رحمته فلا يبقى لتولي أمرك إلا الشيطان فتكون وليا للشيطان و الشيطان مولاك.

و قد ظهر مما تقدم: أولا: أن المراد بالعبادة في قوله: "لا تعبد الشيطان" عبادة الطاعة، و لوصف الشيطان - و معناه الشرير - دخل في الحكم.



و ثانيا: وجه تبديل اسم الجلالة من وصف الرحمن في موضعين فإن لوصف الرحمة المطلقة دخلا في الحكمين فإن كونه تعالى مصدرا لكل رحمة و نعمة هو الموجب لقبح الإصرار على معصيته و المصحح للنهي عن طاعة من يقيم على عصيانه، و كذا مصدريته لكل رحمة هو الباعث على الخوف من عذابه الذي يلازم إمساك الرحمة و غشيان النقمة و الشقوة.

و ثالثا: أن المراد بالعذاب هو الخذلان، أو ما هو بمعناه كإمساك الرحمة و ترك الإنسان و نفسه، و ما ذكره بعضهم أن المراد به العذاب الأخروي لا يساعد عليه السياق.

قوله تعالى: "قال أ راغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك و اهجرني مليا" الرغبة عن الشيء نقيض الرغبة فيه كما في المجمع، و الانتهاء: الكف عن الفعل بعد النهي، و الرجم: الرمي بالحجارة، و المعروف من معناه القتل برمي الحجارة، و الهجر هو الترك و المفارقة، و الملي: الدهر الطويل.

و في الآية تهديد لإبراهيم بأخزى القتل و أذله و هو الرجم الذي يقتل به المطرودون، و فيها طرد آزر لإبراهيم عن نفسه.

قوله تعالى: "قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا" الحفي على ما ذكره الراغب: البر اللطيف و هو الذي يتتبع دقائق الحوائج فيحسن و يرفعها واحدا بعد واحد، يقال: حفا يحفو حفى و حفوة، و إحفاء السؤال و الإحفاء فيه: الإلحاح و الإمعان فيه.

قابل إبراهيم (عليه السلام) أباه فيما أساء إليه و هدده و فيه سلب الأمن عنه من قبله بالسلام الذي فيه إحسان و إعطاء أمن، و وعده أن يستغفر له ربه و أن يعتزلهم و ما يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليا.

أما السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدده بالرجم و طرده لكلمة حق قالها، قال تعالى: "و إذا مروا باللغو مروا كراما": الفرقان: 72، و قال: "و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما": الفرقان: 63، و أما ما قيل: إنه كان سلام توديع و تحية مفارقة و هجرة امتثالا لقوله: "و اهجرني مليا" ففيه أنه اعتزله و قومه بعد مدة غير قصيرة.

و أما استغفاره لأبيه و هو مشرك فظاهر قوله: "يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا" إنه (عليه السلام) لم يكن وقتئذ قاطعا بكونه من أولياء الشيطان أي مطبوعا على قلبه بالشرك جاحدا معاندا للحق عدوا لله سبحانه و لو كان قاطعا لم يعبر بمثل قوله: "إني أخاف" بل كان يحتمل أن يكون جاهلا مستضعفا لو ظهر له الحق اتبعه، و من الممكن أن تشمل الرحمة الإلهية لأمثال هؤلاء قال تعالى: "إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يجدون حيلة و لا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا": النساء: 99، فاستعطفه (عليه السلام) بوعد الاستغفار و لم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله: "إنه كان بي حفيا" و قوله تعالى: "إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك و ما أملك لك من الله من شيء: الممتحنة - 4.

و يؤيد ما ذكر قوله تعالى: "ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم": التوبة: 114، فتبريه بعد تبين عداوته دليل على أنه كان قبل ذلك عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدو لله مع كونه مشركا، و ليس ذلك إلا الجاهل غير المعاند.

و يؤيد هذا النظر قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة - إلى أن قال - لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" إلخ،: الممتحنة: 8.

و مما قيل في توجيه استغفاره لأبيه و هو مشرك أنه وعده الاستغفار و استغفر له بمقتضى العقل فإن العقل لا يأبى عن تجويزه و إنما منع منه النقل و لم يثبت يومئذ المنع عنه شرعا ثم لما حرم ذلك في شرعه تبرأ منه.

و فيه: أنه لا ينطبق على آيات القصة كما يظهر بالتأمل فيما قدمناه.

و منها: أن معنى استغفاره كان مشروطا بتوبته و إيمانه.

و هو كما ترى.

و منها: أن معنى "سأستغفر لك ربي" سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا.

و هو كسابقه تقييد من غير مقيد.

و منها: أنه وعد الدعاء بالمسبب و هو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل الله أن يغفر لك، سأسأله أن يوفقك للتوبة و يهديك للإيمان فيغفر لك، و يمكن أن يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة و الهداية إلى الإيمان.

و هذا و إن كان أعدل الوجوه لكنه لا يخلو عن بعد لأن في الكلام استعطافا و هو بطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق و الهداية، تأمل فيه.

و نظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامة المشركين في قوله: "و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم": إبراهيم: 36.

قوله تعالى: "و أعتزلكم و ما تدعون من دون الله و أدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا" وعد باعتزالهم و الابتعاد منهم و من أصنامهم ليخلو بربه و يخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيا و إنما أخذ بالرجاء لأن هذه الأسباب من الدعاء و التوجه إلى الله و نحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئا بل الإثابة و الإسعاد و نحوه بمجرد التفضل منه تعالى.

على أن الأمور بخواتمها و لا يعلم الغيب إلا الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف و الرجاء.

قوله تعالى: "فلما اعتزلهم و ما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق و يعقوب" إلى آخر الآيتين.

لعل الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلق الغرض بذكر توالي النبوة في الشجرة الإسرائيلية و لذلك عقب إسحاق بذكر يعقوب فإن في نسله جما غفيرا من الأنبياء، و يؤيد ذلك أيضا قوله: "و كلا جعلنا نبيا".

و قوله: "و وهبنا لهم من رحمتنا" من الممكن أن يكون المراد به الإمامة كما وقع في قوله: "و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا": الأنبياء: 73، أو التأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله: "و أوحينا إليهم فعل الخيرات" الآية: الأنبياء: 73 على ما سيجيء من معناه أو مطلق الولاية الإلهية.

و قوله: "و جعلنا لهم لسان صدق عليا" اللسان - على ما ذكروا - هو الذكر بين الناس بالمدح أو الذم و إذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الذي لا كذب فيه، و العلي هو الرفيع و المعنى و جعلنا لهم ثناء جميلا صادقا رفيع القدر.

19 سورة مريم - 51 - 57

وَ اذْكُرْ فى الْكِتَبِ مُوسى إِنّهُ كانَ مخْلَصاً وَ كانَ رَسولاً نّبِيّا (51) وَ نَدَيْنَهُ مِن جَانِبِ الطورِ الأَيْمَنِ وَ قَرّبْنَهُ نجِيّا (52) وَ وَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَرُونَ نَبِيّا (53) وَ اذْكُرْ فى الْكِتَبِ إِسمَعِيلَ إِنّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسولاً نّبِيّا (54) وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصلَوةِ وَ الزّكَوةِ وَ كانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّا (55) وَ اذْكُرْ فى الْكِتَبِ إِدْرِيس إِنّهُ كانَ صِدِّيقاً نّبِيّا (56) وَ رَفَعْنَهُ مَكاناً عَلِياّ (57)

بيان

ذكر جمع آخرين من الأنبياء و شيء من موهبة الرحمة التي خصهم الله بها، و هم موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليهما السلام).

قوله تعالى: "و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا" قد تقدم معنى المخلص بفتح اللام و أنه الذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه لا في نفسه و لا في عمله، و هو أعلى مقامات العبودية.

و تقدم أيضا الفرق بين الرسول و النبي.

قوله تعالى: "و ناديناه من جانب الطور الأيمن و قربناه نجيا" الأيمن: صفة لجانب أي الجانب الأيمن من الطور، و في المجمع،: النجي بمعنى المناجي كالجليس و الضجيع.

و ظاهر أن تقريبه (عليه السلام) كان تقريبا معنويا و إن كانت هذه الموهبة الإلهية في مكان و هو الطور ففيه كان التكليم، و مثاله من الحس أن ينادي السيد العزيز عبده الذليل فيقربه من مجلسه حتى يجعله نجيا يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه.

قوله تعالى: "و وهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا" إشارة إلى إجابة ما دعا به موسى عند ما أوحى إليه لأول مرة في الطور إذ قال: "و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزرى و أشركه في أمري": طه: 32.

قوله تعالى: "و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد" إلى آخر الآيتين.

اختلفوا في "إسماعيل" هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، و إنما ذكر وحده و لم يذكر مع إسحاق و يعقوب اعتناء بشأنه، و قيل: هو غيره، و هو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل، و لو كان هو ابن إبراهيم لذكر مع إسحاق و يعقوب.

و يضعف ما وجه به قول الجمهور: أنه استقل بالذكر اعتناء بشأنه، أنه لو كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم و قبل موسى (عليه السلام) لا بعد موسى.

قوله تعالى: "و كان يأمر أهله بالصلوة و الزكاة و كان عند ربه مرضيا" المراد بأهله خاصته من عترته و عشيرته و قومه كما هو ظاهر اللفظ، و قيل: المراد بأهله أمته و هو قول بلا دليل.

و المراد بكونه عند ربه مرضيا كون نفسه مرضية دون عمله كما ربما فسره به بعضهم فإن إطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل.

قوله تعالى: "و اذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا" إلى آخر الآيتين.

قالوا: إن إدريس النبي كان اسمه أخنوخ و هو من أجداد نوح (عليه السلام) على ما ذكر في سفر التكوين من التوراة، و إنما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس.

و قوله: "و رفعناه مكانا عليا" من الممكن أن يستفاد من سياق القصص المسرودة في السورة و هي تعد مواهب النبوة و الولاية و هي مقامات إلهية معنوية أن المراد بالمكان العلي الذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزية في الارتفاع المادي و الصعود إلى أقاصي الجو البعيدة أينما كان.

و قيل: إن المراد بذلك - كما ورد به الحديث - أن الله رفعه إلى بعض السماوات و قبضه هناك، و فيه إراءة آية خارقة و قدرة إلهية بالغة و كفى بها مزية.

قصة إسماعيل صادق الوعد

لم ترد قصة إسماعيل بن حزقيل النبي في القرآن إلا في هاتين الآيتين على أحد التفسيرين و قد أثنى الله سبحانه عليه بجميل الثناء فعده صادق الوعد و آمرا بالمعروف و مرضيا عند ربه، و ذكر أنه كان رسولا نبيا.

و أما الحديث ففي علل الشرائع، بإسناده عن ابن أبي عمير و محمد بن سنان عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن إسماعيل الذي قال الله عز و جل في كتابه: "و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد - و كان رسولا نبيا" لم يكن إسماعيل بن إبراهيم بل كان نبيا من الأنبياء بعثه الله عز و جل إلى قومه فأخذوه و سلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك فقال إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال: لي أسوة بما يصنع بالأنبياء (عليهم السلام).

أقول: و روى هذا المعنى أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في آخره: يكون لي أسوة بالحسين (عليه السلام).

و في العيون، بإسناده إلى سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أ تدري لم سمي إسماعيل صادق الوعد؟ قال: قلت: لا أدري. قال: وعد رجلا فجلس له حولا ينتظره:. أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، عن ابن أبي عمير عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه أيضا في المجمع، مرسلا عنه (عليه السلام).

و في تفسير القمي،: في قوله "و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد" قال: وعد وعدا فانتظر صاحبه سنة، و هو إسماعيل بن حزقيل.

أقول: وعده (عليه السلام) و هو أن يثبت في مكانه في انتظار صاحبه كان مطلقا لم يقيده بساعة أو يوم و نحوه فألزمه مقام الصدق أن يفي به بإطلاقه و يصبر نفسه في المكان الذي وعد صاحبه أن يقيم فيه حتى يرجع إليه.

و صفة الوفاء كسائر الصفات النفسانية من الحب و الإرادة و العزم و الإيمان و الثقة و التسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم و اليقين فكما أن من الإيمان ما يجتمع مع أي خطيئة و إثم و هو أنزل مراتبه و لا يزال ينمو و يصفو حتى يخلص من كل شرك خفي فلا يتعلق القلب بشيء غير الله و لو بالتفات إلى من دونه و هو أعلى مراتبه كذلك الوفاء بالوعد ذو مراتب فمن مراتبه في المقال مثلا إقامة ساعة أو ساعتين حتى تعرض حاجة أخرى توجب الانصراف إليها و هو الذي يصدق عليه الوفاء عرفا، و أعلى منه مرتبة الإقامة بالمكان حتى يواس من رجوع الصديق إليه عادة بمجيء الليل و نحوه فيقيد به إطلاق الوعد، و أعلى منه مرتبة الأخذ بإطلاق القول و الإقامة حتى يرجع و إن طال الزمان فالنفوس القوية التي تراقب قولها و فعلها لا تلقي من القول إلا ما في وسعها أن تصدقه بالفعل ثم إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة و إنفاذ العزيمة أي صارف.

و في الرواية: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعد بعض أصحابه بمكة أن ينتظره عند الكعبة حتى يرجع إليه فمضى الرجل لشأنه و نسي الأمر فبقي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة أيام هناك ينتظره فاطلع بعض الناس عليه فأخبر الرجل بذلك فجاء و اعتذر إليه و هذا مقام الصديقين لا يقولون إلا ما يفعلون.

قصة إدريس النبي (عليه السلام)

1 - لم يذكر (عليه السلام) في القرآن إلا في الآيتين من سورة مريم: "و اذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا و رفعناه مكانا عليا": الآية - 56 - 57 و في قوله: "و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل كل من الصابرين و أدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين": الأنبياء: 85 86.

و في الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل فقد عده نبيا و صديقا و من الصابرين و من الصالحين، و أخبر أنه رفعه مكانا عليا.

2 - و من الروايات الواردة في قصته ما عن كتاب كمال الدين و تمام النعمة، بإسناده عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن الباقر (عليه السلام): و الحديث طويل لخصناه أنه كان بدء نبوة إدريس (عليه السلام) أنه كان في زمانه ملك جبار، و ركب ذات يوم في بعض النزهة فمر بأرض خضراء نضرة أعجبته فأحب أن يمتلكها و كانت الأرض لعبد مؤمن فأمر بإحضاره و ساومه فيها ليشتريها فلم يبعها و لم يرض به فرجع الملك إلى البلدة و هو مغموم متحير في أمره فاستشار امرأة له كان يستشيرها في هامة الأمور فأشارت عليه أن يقيم عليه شهودا أنه خرج عن دين الملك فيقتله و يملك أرضه ففعل ما أشارت إليه و غصب الأرض. فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك و يقول له عنه: أ ما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه خالصة لك و أحوجت عياله من بعده و أجعتهم؟ أما و عزتي لأنتقمن له منك في الآجل و لأسلبن ملكك في العاجل، و لأخربن مدينتك و لأذلن عزك و لأطعمن الكلاب لحم امرأتك فقد غرك يا مبتلى حلمي عنك. فأتاه إدريس برسالة الله و بلغه ذلك في ملإ من أصحابه فأخرجه الملك من مجلسه ثم أرسل إليه بإشارة من امرأته قوما يقتلونه، فانتبه لذلك بعض أصحاب إدريس و أشاروا عليه بالخروج و الهجرة فخرج منها ليومه و معه بعض أصحابه ثم ناجى ربه و شكى إليه ما لقيه من الملك في رسالته إليه فأوحى إليه بالخروج من القرية، و أنه سينفذ في الملك أمره و يصدق فيه قوله، ثم سأل أن لا تمطر السماء على القرية و ما حولها حتى يسأل ذلك فأجيب إليه. فأخبر إدريس بذلك أصحابه من المؤمنين و أمرهم بالخروج منها فخرجوا و تفرقوا في البلاد و كانوا عشرين رجلا و شاع خبر وحيه و خروجه بين الناس، و خرج هو متنحيا إلى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه و يصوم النهار و يأتيه ملك بطعام يفطر به عند كل مساء. و أنفذ الله في الملك و امرأته و مدينته ما أوحاه إلى إدريس و ظهر في المدينة جبار آخر عاص، و أمسكت السماء عنهم أمطارها عشرين سنة حتى جهدوا و اشتدت حالهم فلما بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض أن الذي لقوه من الجهد و المشقة إنما هو لدعاء إدريس عليهم أن لا يمطروا حتى يسألوه و خروجه من بينهم و هم لا يعلمون أين هو؟ فالرأي أن يرجعوا و يتوبوا إلى الله و يسألوه المطر فهو أرحم بهم منه فاجتمعوا على الدعاء و التضرع. فأوحى الله إلى إدريس أن القوم عجوا إلي بالتوبة و الاستغفار و البكاء و التضرع و قد رحمتهم و ما يمنعني من أمطارهم إلا مناظرتك فيما سألتني أن لا أمطر السماء عليهم حتى تسألني فاسألني حتى أغيثهم، قال إدريس: اللهم إني لا أسألك. فأوحى الله إلى الملك الذي كان يأتيه بالطعام أن يمسك عنه فأمسك عنه ثلاثة أيام حتى بلغ به الجوع: فنادى اللهم حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي فأوحى الله إليه: يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام و لم تجزع من جوع أهل قريتك و جهدهم منذ عشرين سنة ثم سألتك أن تسألني أن أمطر عليهم فبخلت و لم تسأل فأدبتك بالجوع فاهبط من موضعك و اطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه إلى حيلتك. فهبط إدريس إلى قرية هناك و نظر إلى بيت يصعد منه دخان فهجم عليه و إذا عجوز كبيرة ترفق قرصتين لها على مقلاة فسألها أن تطعمه فقد بلغ به جهد الجوع فقالت: يا عبد الله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحدا و حلفت أنها لا تملك غيره شيئا فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، فقال لها: أطعميني ما أمسك به روحي و تقوم به رجلي حتى أطلب، قالت: إنهما قرصتان واحدة لي و الأخرى لابني فإن أطعمتك قوتي مت و إن أطعمتك قوت ابني مات و ليس هاهنا فضل، قال: إن ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فأطعمي كلا منا نصفا يكون لنا بلغة فرضيت و فعلت. فلما رأى ابنها إدريس و هو يأكل من قرصته اضطرب حتى مات، قالت أمه: يا عبد الله قتلت ابني جزعا على قوته فقال: لا تجزعي فأنا أحييه لك الساعة بإذن الله و أخذ بعضدي الصبي و قال: أيتها الروح الخارجة عن بدنه بأمر الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله و أنا إدريس النبي، فرجعت روح الغلام إليه. فلما سمعت أمه كلام إدريس و قوله: أنا إدريس و نظرت إلى ابنها حيا قالت: أشهد أنك إدريس النبي و خرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: أبشروا بالفرج فقد دخل إدريس في قريتكم، فمضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الجبار الأول و قد تبدلت تلا من تراب فاجتمع إليه أناس من أهل قريته و استرحموه و سألوه أن يدعو لهم فيمطروا. قال: لا، حتى يأتيني جباركم هذا و جميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك. فبلغ ذلك الجبار فبعث إلى إدريس أربعين رجلا و أمرهم أن يأتوا به إليه، فلما جاءوه و كلفوه الذهاب معهم إليه، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم، ثم أرسل خمسمائة رجل فلما أتوه كلفوه الذهاب و استرحموه فأراهم مصارع أصحابهم و قال: ما أنا بذاهب إليه و لا سائل حتى يأتيني هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوني الدعاء للمطر. فانطلقوا إليه و أخبروه بما قال و سألوه أن يمضي إليه هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين متذللين و سألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء عليهم، فعند ذلك دعا إدريس أن تمطر السماء عليهم فأظلتهم سحابة من السماء و أرعدت و أبرقت و هطلت عليهم من ساعتهم حتى ظنوا أنه الغرق فما رجعوا إلى منازلهم حتى أهمتهم أنفسهم من الماء.



و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه مسجد السهلة: أ ما علمت أنه موضع بيت إدريس النبي الذي كان يخيط فيه.

أقول: و قد شاع بين أهل السير و الآثار أنه (عليه السلام) أول من خط بالقلم و أول من خاط.

و في تفسير القمي، قال: و سمي إدريس لكثرة دراسته الكتب.

أقول: ورد في بعض الروايات: في معنى قوله تعالى في إدريس (عليه السلام): "و رفعناه مكانا عليا" أن الله غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه و ألقاه في جزيرة من جزائر البحر فبقي هناك ما شاء الله، فلما بعث الله إدريس جاءه ذلك الملك و سأله أن يدعو الله أن يرضى عنه و يرد إليه جناحه، فدعا له إدريس فرد الله جناحه إليه و رضي عنه. قال الملك لإدريس: أ لك حاجة؟ قال: نعم أحب أن ترفعني إلى السماء حتى أنظر إلى ملك الموت فلا عيش لي مع ذكره، فأخذه الملك على جناحه حتى انتهى به إلى السماء الرابعة فإذا هو بملك الموت يحرك رأسه تعجبا، فسلم عليه إدريس و قال له: ما لك تحرك رأسك؟ قال: إن رب العزة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعة و الخامسة. فقلت: يا رب كيف يكون هذا و بيني و بينه أربع سماوات و غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام و بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام؟ ثم قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة و هو قوله تعالى: "و رفعناه مكانا عليا":. روى الحديث علي بن إبراهيم القمي في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام):، و روى ما في معناه في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عمرو بن عثمان عن مفضل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و الروايتان على ما بهما و خاصة في الثانية منهما من ضعف السند لا معول عليهما لمخالفتهما ظاهر الكتاب لنصه على عصمة الملائكة و نزاهتهم عن الذنب و الخطيئة.

و روى الثعلبي في العرائس، عن ابن عباس و غيره ما ملخصه: أن إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إني مشيت في الشمس يوما فتأذيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه ثقلها و احمل عنه حرها، فاستجاب الله له فأحس الملك الذي يحملها بذلك فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان من دعاء إدريس و استجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه و بين إدريس و يجعل بينهما خلة فأذن له. فكان إدريس يسأله و كان مما سأله: أنك أخبرت أنك أكرم الملائكة على ملك الموت و أمكنهم عنده فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي حتى أزداد شكرا و عبادة فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها. قال: نعم و لكنه أطيب لنفسي. قال الملك أنا مكلمه لك، و ما كان يستطيع أن يفعله لأحد من بني آدم فهو فاعله لك. ثم حمله الملك على جناحه و رفعه إلى السماء فوضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت و ذكر له حاجة إدريس و شفع له فقال ملك الموت: ليس ذلك إلي و لكن إن أحببت أعلمته أجله. قال: نعم فنظر في ديوانه و أخبره باسمه و قال: ما أراه يموت أبدا. فإنه أجده يموت عند مطلع الشمس! قال: فإني أتيتك و قد تركته هناك. قال له: انطلق فلا أراك تجده إلا ميتا فوالله ما بقي من أجله شيء فرجع الملك إليه فوجده ميتا.

و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن كعب: إلا أن فيه أن النازل على إدريس الملك الذي كان يرفع إليه عمله و قد كان يرفع له من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض في زمانه فأعجبه ذلك فسأل الله أن ينزل إليه فأذن له فنزل إليه و صحبه "إلخ" و روى ابن أبي حاتم بطريق آخر عن ابن عباس هذا الحديث و فيه: أن إدريس مات بين جناحي الملك.

و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن إدريس كان يرفع له وحده من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض كلهم فأعجب ذلك ملك الموت فاستأذن الله في النزول إلى الأرض و صحبته فأذن له فنزل إليه و صحبه فكانا يسيحان في الأرض و يعبدان الله فأعجب إدريس ما رآه من عبادة صاحبه من غير كسل و لا فتور فسأله عن ذلك و أحفى في السؤال حتى عرفه ملك الموت نفسه و ذكر له قصة نزوله و صحبته. فلما عرفه إدريس سأله ثلاث حوائج له: أن يقبض روحه ساعة ثم يردها إليه فاستأذن الله و فعل، و أن يرفعه إلى السماء و يريه النار فاستأذن و فعل، و أن يريه الجنة فاستأذن و فعل فدخل الجنة و أكل من ثمارها و شرب من مائها فقال له ملك الموت: اخرج يا نبي الله فقد أصبت حاجتك، فامتنع من الخروج و تعلق بشجرة هناك، و خاصم ملك الموت قائلا: قال الله: "كل نفس ذائقة الموت" و قد ذقته، و قال: "و إن منكم إلا واردها" و قد وردت النار، و قال: "و ما هم منها بمخرجين" و لست أخرج من الجنة بعد دخولها فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه و لا تتعرض له فبقي في الجنة.

و رواه في العرائس، عن وهب و في آخره: فهو حي هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة و تارة يتنعم في الجنة.

و في مستدرك الحاكم، عن سمرة: كان إدريس أبيض طويلا ضخم عريض الصدر قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، و كانت إحدى عينيه أعظم من الأخرى، و كانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص فلما رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم و اعتدائهم في أمر الله، رفعه الله إلى السماء السادسة فهو حيث يقول: "و رفعناه مكانا عليا".

أقول: و لا يرتاب الناقد البصير في أن هذه الروايات إسرائيليات لعبت بها أيدي الوضع، و يدفعها الموازين العلمية و الأصول المسلمة من الدين.

3 - و يسمى (عليه السلام) بهرمس قال القفطي في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء، في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده و منشئه و عمن أخذ العلم قبل النبوة فقالت فرقة: ولد بمصر و سموه هرمس الهرامسة، و مولده بمنف، و قالوا: هو باليونانية إرميس و عرب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، و قال آخرون: اسمه باليونانية طرميس، و هو عند العبرانيين خنوخ و عرب أخنوخ، و سماه الله عز و جل في كتابه العربي المبين إدريس.

و قال هؤلاء: إن معلمه اسمه الغوثاذيمون و قيل: إغثاذيمون المصري، و لم يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلا أنهم قالوا: إنه أحد الأنبياء اليونانيين و المصريين، و سموه أيضا أورين الثاني و إدريس عندهم أورين الثالث، و تفسير غوثاذيمون السعيد الجد، و قالوا: خرج هرمس من مصر و جاب الأرض كلها ثم عاد إليها و رفعه الله إليه بها، و ذلك بعد اثنين و ثمانين سنة من عمره.

و قالت فرقة أخرى: إن إدريس ولد ببابل و نشأ بها و أنه أخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم و هو جد جد أبيه لأن إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث.

قال الشهرستاني: إن إغثاذيمون هو شيث.



و لما كبر إدريس آتاه الله النبوة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم و شيث فأطاعه أقلهم و خالفه جلهم فنوى الرحلة عنهم و أمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: و أين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ و بابل بالسريانية النهر و كأنهم عنوا بذلك دجلة و الفرات، فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره.

فخرج و خرجوا و ساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الذي سمي بابليون فرأوا النيل و رأوا واديا خاليا من ساكن فوقف إدريس على النيل و سبح الله و قال لجماعته: بابليون، و اختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، و قيل: نهر كنهركم، و قيل: نهر مبارك، و قيل: إن يون في السريانية مثل أفعل التي للمبالغة في كلام العرب و كان معناه نهر أكبر فسمي الإقليم عند جميع الأمم بابليون، و سائر فرق الأمم على ذلك إلا العرب فإنهم يسمونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان و الله أعلم بكل ذلك.

و أقام إدريس و من معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و طاعة الله عز و جل، و تكلم الناس في أيامه باثنين و سبعين لسانا، و علمه الله عز و جل منطقهم ليعلم كل فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تمدين المدن، و جمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسية المدنية، و قرر لهم قواعدها فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها، و كانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة و ثماني و ثمانين مدينة أصغرها الرها و علمهم العلوم.

و هو أول من استخرج الحكمة و علم النجوم فإن الله عز و جل أفهمه سر الفلك و تركيبه و نقط اجتماع الكواكب فيه و أفهمه عدد السنين و الحساب و لو لا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك.

و أقام للأمم سننا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها، و قسم الأرض أربعة أرباع و جعل على كل ربع ملكا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدم إلى كل ملك بأن يلزم أهل كل ربع بشريعة سأذكر بعضها، و أسماء الأربعة الملوك الذين ملكوا: الأول إيلاوس و تفسيره الرحيم، و الثاني أوس، و الثالث سقلبيوس، و الرابع أوسآمون، و قيل: إيلاوسآمون، و قيل: يسيلوخس و هو آمون الملك انتهى موضع الحاجة.

و هذه أحاديث و أنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعول عليها ذاك التعويل غير أن بقاء ذكره الحي بين الفلاسفة و أهل العلم جيلا بعد جيل و تعظيمهم له و احترامهم لساحته و إنهاءهم أصول العلم إليه يكشف عن أنه من أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكر الاستدلالي و الإمعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو أولهم (عليهم السلام).

19 سورة مريم - 58 - 63

أُولَئك الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيهِم مِّنَ النّبِيِّينَ مِن ذُرِّيّةِ ءَادَمَ وَ مِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَ مِن ذُرِّيّةِ إِبْرَهِيمَ وَ إِسرءِيلَ وَ مِمّنْ هَدَيْنَا وَ اجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ ءَايَت الرّحْمَنِ خَرّوا سجّداً وَ بُكِيّا (58) فخَلَف مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصلَوةَ وَ اتّبَعُوا الشهَوَتِ فَسوْف يَلْقَوْنَ غَياّ (59) إِلا مَن تَاب وَ ءَامَنَ وَ عَمِلَ صلِحاً فَأُولَئك يَدْخُلُونَ الجَْنّةَ وَ لا يُظلَمُونَ شيْئاً (60) جَنّتِ عَدْنٍ الّتى وَعَدَ الرّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّا (61) لا يَسمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلا سلَماً وَ لهَُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيّا (62) تِلْك الجَْنّةُ الّتى نُورِث مِنْ عِبَادِنَا مَن كانَ تَقِيّا (63)

بيان

قد تقدم في الكلام على غرض السورة أن الذي يستفاد من سياقها بيان أن عبادته تعالى - و هو دين التوحيد - هو دين أهل السعادة و الرشد من الأنبياء و الأولياء، و أن التخلف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة و اتباع الشهوات اتباع سبيل الغي إلا من تاب و آمن و عمل صالحا.

فالآيات و خاصة الثلاث الأول منها تتضمن حاق غرض السورة و قد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدم من الآيات، و هذا مما تمتاز به هذه السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في مفتتح السورة و مختتمها ببراعة الاستهلال و حسن الختام لا في وسطها.

قوله تعالى: "أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين" إلخ، الإشارة بقوله: "أولئك" إلى المذكورين قبل الآية في السورة و هم زكريا و يحيى و مريم و عيسى و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليهما السلام).

و قد تقدمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة و أن القصص الموردة فيها أمثلة، و أن هذه الآية و اللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها، و لازم ذلك أن يكون قوله: "أولئك" مشيرا إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ، و قوله: "الذين أنعم الله عليهم" صفة له، و قوله: "إذا تتلى عليهم" إلخ، خبرا له فهذا هو الذي يهدي إليه التدبر في السياق.

و لو أخذ قوله: "الذين أنعم الله عليهم" خبرا لقوله: "أولئك" فقوله: "إذا تتلى عليهم" إلخ، خبر له بعد خبر لكنه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة.

و قد أخبر الله سبحانه أنه أنعم عليهم و أطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنهم قد غشيتهم النعمة الإلهية من غير نقمة و هذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلا النعمة من غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة و الفلاح بتمام معنى الكلمة و قد أخبر تعالى عنهم أنهم أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب و الضلال إذ قال: "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين": الحمد: 7، و هم في أمن و اهتداء لقوله: "الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون": الأنعام: 82، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب و الضلال و لم يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كل خطر يهدد الإنسان تهديدا فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة التي سلكوها و السبيل التي سلكوها، هي سبيل السعادة.

و قوله: "من النبيين" من فيه للتبعيض و عديله قوله الآتي: "و ممن هدينا و اجتبينا" على ما سيأتي توضيحه.

و قد جوز المفسرون كون "من" بيانية و أنت خبير بأن ذلك لا يلائم كون "أولئك" مشيرا إلى المذكورين من قبل، لأن النبيين أعم، اللهم إلا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة و يكون المعنى أولئك المذكورون و أمثالهم الذين أنعم الله عليهم هم النبيون و من هدينا و اجتبينا.

و قوله: "من ذرية آدم" في معنى الصفة للنبيين و من فيه للتبعيض أي من النبيين الذين هم بعض ذرية آدم، و ليس بيانا للنبيين لاختلال المعنى بذلك.

و قوله: "و ممن حملنا مع نوح" معطوف على قوله: "من ذرية آدم" و المراد بهم المحمولون في سفينة نوح (عليه السلام) و ذريتهم و قد بارك الله عليهم، و هم من ذرية نوح لقوله تعالى: "و جعلنا ذريته هم الباقين": الصافات: 77.

و قوله: "و من ذرية إبراهيم و إسرائيل" معطوف كسابقه على قوله: "من النبيين".

و قد قسم الله تعالى الذين أنعم عليهم من النبيين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرية آدم و من حمله مع نوح و ذرية إبراهيم و ذرية إسرائيل و قد كان ذكر كل سابق يغني عن ذكر لاحقه لكون ذرية إسرائيل من ذرية إبراهيم و الجميع ممن حمل مع نوح و الجميع من ذرية آدم (عليه السلام).

و لعل الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة و بركة النبوة على نوع الإنسان كرة بعد كرة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع: أحدها لعامة بني آدم حيث قال: "قيل اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون": البقرة: 39.

و الثاني ما في قوله تعالى: "قيل يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك و على أمم ممن معك و أمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم": هود: 48، و الثالث ما في قوله تعالى: "و لقد أرسلنا نوحا و إبراهيم و جعلنا في ذريتهما النبوة و الكتاب فمنهم مهتد و كثير منهم فاسقون": الحديد: 26، و الرابع ما في قوله تعالى: "و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على العالمين": الجاثية: 16.

فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الإنسان بنعمة النبوة و موهبة السعادة، و قد أشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله: "من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و إسرائيل، و قد ذكر في القصص السابقة من كل من الذراري الأربع كإدريس من ذرية آدم، و إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح، و إسحاق و يعقوب من ذرية إبراهيم، و زكريا و يحيى و عيسى و موسى و هارون و إسماعيل - على ما استظهرنا - من ذرية إسرائيل.

و قوله: "و ممن هدينا و اجتبينا" معطوف على قوله: "من النبيين" و هؤلاء غير النبيين من الذين أنعم الله عليهم فإن هذه النعمة غير خاصة بالنبيين و لا منحصرة فيهم بدليل قوله تعالى: "و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا": النساء: 69 و قد ذكر الله سبحانه بين من قص قصته مريم (عليها السلام) معتنيا بها إذ قال: "و اذكر في الكتاب مريم" و ليست من النبيين فالمراد بقوله: "و ممن هدينا و اجتبينا" غير النبيين من الصديقين و الشهداء و الصالحين لا محالة، و كانت مريم من الصديقين لقوله تعالى: "ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و أمه صديقة": المائدة: 75.

و مما تقدم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل "و ممن هدينا و اجتبينا" معطوفا على قوله: "من النبيين" مع أخذ من للبيان، و أورد عليه بعضهم أيضا بأن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممن جمعنا له بين النبوة و الهداية و الاجتباء للكرامة و هو خلاف الظاهر.

و فيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقا و إنما هو المغايرة في الجملة و لو بحسب الوصف و البيان.

و نظيره قول من قال بكونه معطوفا على قوله: "من ذرية آدم" و من للتبعيض و قد اتضح وجه فساده مما قدمناه.

و نظيره قول من قال: إن قوله: "و ممن هدينا" استئناف من غير عطف فقد تم الكلام عند قوله: "إسرائيل" ثم ابتدأ فقال: و ممن هدينا و اجتبينا من الأمم قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه، و الوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسر.



و فيه أنه تقدير من غير دليل.

على أن في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به السياق إذ الغرض منها بيان طريقة أولئك العباد المنعم عليهم و أنهم كانوا خاضعين لله خاشعين له و أن أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم و أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و هذا لا يتأتى إلا بكون قوله: "إذا تتلى عليهم" إلخ خبرا لقوله: "أولئك الذين أنعم الله عليهم" و أخذ قوله: "و ممن هدينا" إلى آخر الآية استئنافا مقطوعا عما قبله إفساد للغرض المذكور من رأس.

و قوله: "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا" السجد جمع ساجد و البكي على فعول جمع باكي و الجملة خبر للذين في صدر الآية و يحتمل أن يكون الخرور سجدا و بكيا كناية عن كمال الخضوع و الخشوع فإن السجدة ممثل لكمال الخضوع و البكاء لكمال الخشوع و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات و تلاوتها ذكر مطلق ما يحكي شأنا من شئونه تعالى.

و أما قول القائل إن المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماوية مطلقا أو خصوص ما يشتمل على عذاب الكفار و المجرمين، أو أن المراد بالسجود الصلاة أو سجدة التلاوة أو أن المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى.

فمعنى الآية - و الله أعلم - أولئك المنعم عليهم الذين بعضهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و إسرائيل و بعضهم من أهل الهداية و الاجتباء خاضعون للرحمن خاشعون إذا ذكر عندهم و تليت آياته عليهم.

و لم يقل: كانوا إذا تتلى عليهم "إلخ" لأن العناية في المقام متعلقه ببيان حال النوع من غير نظر إلى ماضي الزمان و مستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح و خلف طالح و ثالث تاب و آمن و عمل صالحا و هو ظاهر.

قوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا" قالوا: الخلف بسكون اللام البدل السيىء و بفتح اللام ضده و ربما يعكس على ندرة، و ضياع الشيء فساده أو افتقاده بسبب ما كان ينبغي أن يتسلط عليه يقال: أضاع المال إذا أفسده بسوء تدبيره أو أخرجه من يده بصرفه فيما لا ينبغي صرفه فيه، و الغي خلاف الرشد و هو إصابة الواقع و هو قريب المعنى من الضلال خلاف الهدى و هو ركوب الطريق الموصل إلى الغاية المقصودة.

فقوله: "فخلف من بعدهم خلف" إلخ أي قام مقام أولئك الذين أنعم الله عليهم و كانت طريقتهم الخضوع و الخشوع لله تعالى بالتوجه إليه بالعبادة قوم سوء أضاعوا ما أخذوه منهم من الصلاة و التوجه العبادي إلى الله سبحانه بالتهاون فيه و الإعراض عنه، و اتبعوا الشهوات الصارفة لهم عن المجاهدة في الله و التوجه إليه.

و من هنا يظهر أن المراد بإضاعة الصلاة إفسادها بالتهاون فيها و الاستهانة بها حتى ينتهي إلى أمثال اللعب بها و التغيير فيها و الترك لها بعد الأخذ و القبول فما قيل: إن المراد بإضاعة الصلاة تركها ليس بسديد إذ لا يسمى ترك الشيء من رأس إضاعة له و العناية في الآية متعلقه بأن الدين الإلهي انتقل من أولئك السلف الصالح بعدهم إلى هؤلاء الخلف الطالح فلم يحسنوا الخلافة و أضاعوا ما ورثوه من الصلاة التي هي الركن الوحيد في العبودية و اتبعوا الشهوات الصارفة عن الحق.

و قوله: "فسوف يلقون غيا" أي جزاء غيهم على ما قيل فهو كقوله: "و من يفعل ذلك يلق أثاما".

و من الممكن أن يكون المراد به نفس الغي بفرض الغي غاية للطريق التي يسلكونها و هي طريق إضاعة الصلاة و اتباع الشهوات فإذ كانوا يسلكون طريقا غايتها الغي فسيلقونه إذا قطعوها إما بانكشاف غيهم لهم يوم القيامة حيث ينكشف لهم الحقائق أو برسوخ الغي في قلوبهم و صيرورتهم من أولياء الشيطان كما قال: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42، و كيف كان فهو استعارة بالكناية لطيفة.

قوله تعالى: "إلا من تاب و آمن و عمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون شيئا" استثناء من الآية السابقة فهؤلاء الراجعون إلى الله سبحانه ملحقون بأولئك الذين أنعم الله عليهم و هم معهم لا منهم كما قال تعالى: "و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا": النساء: 69.

و قوله: "فأولئك يدخلون الجنة" من وضع المسبب موضع السبب و الأصل فأولئك يوفون أجرهم، و الدليل على ذلك قوله بعده: "و لا يظلمون شيئا" فإنه من لوازم توفية الأجر لا من لوازم دخول الجنة.

قوله تعالى: "جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا" العدن الإقامة ففي تسميتها به إشارة إلى خلودها لداخليها، و الوعد بالغيب هو الوعد بما ليس تحت إدراك الموعود له، و كون الوعد مأتيا عدم تخلفه، قال في المجمع،: و المفعول هنا بمعنى الفاعل لأن ما أتيته فقد أتاك و ما أتاك فقد أتيته يقال: أتيت خمسين سنة و أتت علي خمسون سنة، و قيل: إن الموعود الجنة و الجنة يأتيها المؤمنون انتهى.

قوله تعالى: "لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا" عدم سمع اللغو من أخص صفات الجنة و قد ذكره الله سبحانه و امتن به في مواضع من كلامه و سنفصل القول فيه إن شاء الله في موضع يناسبه، و استثناء السلام منه استثناء منفصل، و السلام قريب المعنى من الأمن - و قد تقدم الفرق بينهما - فقولك: أنت مني في أمن معناه لا تلقى مني ما يسوءك، و قولك: سلام مني عليك معناه كل ما تلقاه مني لا يسوءك.

و إنما يسمعون السلام من الملائكة و من رفقائهم في الجنة، قال تعالى حكاية عن الملائكة ""سلام عليكم طبتم": الزمر: 73، و قال: "فسلام لك من أصحاب اليمين: الواقعة - 91.

و قوله و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا الظاهر أن إتيان الرزق بكرة و عشيا كناية عن تواليه من غير انقطاع.

قوله تعالى: "تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا" الإرث و الوراثة هو أن ينتقل مال أو ما يشبهه من شخص إلى آخر بعد ترك الأول له بموت أو جلاء أو نحوهما، و إذ كانت الجنة في معرض العطاء لكل إنسان بحسب الوعد الإلهي المشروط بالإيمان و العمل الصالح فاختصاص المتقين بها بعد حرمان غيرهم عنها بإضاعة الصلاة و اتباع الشهوات وراثة المتقين، و نظير هذه العناية ما في قوله تعالى: "إن الأرض يرثها عبادي الصالحون:" الأنبياء: 105، و قوله: "و قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين": الزمر: 74، و الآية - كما ترى - جمعت بين الإيراث و الأجر.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: "و ممن هدينا و اجتبينا" الآية، و روي عن علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه قال: نحن عنينا بها.



أقول: و عن مناقب ابن شهرآشوب، عنه (عليه السلام) مثله، و قد اتضح معنى الحديث بما قدمناه في تفسير الآية فإن المراد بالجملة أهل الهداية و الاجتباء من غير النبيين و هم (عليهم السلام) منهم كما ذكر الله سبحانه مريم منهم و ليست بنبية.

قال في روح المعاني،: و روى بعض الإمامية عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم.

و لا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا و حال روايات الإمامية لا يخفى على أرباب التميز.

انتهي.

و قد تبين خطؤه مما تقدم و الذي أوقعه في ذلك أخذه قوله تعالى: "و ممن هدينا و اجتبينا" معطوفا على قوله: "من ذرية آدم" و قوله: "من النبيين" بيانا لقوله: "أولئك الذين" إلخ، فانحصر "أولئك الذين أنعم الله عليهم" في النبيين فاضطر إلى القول بأن الآية لا تشمل غير النبيين و هو يرى أن الله ذكر فيمن ذكر مريم بنت عمران و ليست بنبية.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تلا هذه الآية "فخلف من بعدهم خلف" فقال: يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، و يقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن و منافق و فاجر.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "أضاعوا الصلوة" و قيل: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن تركوها أصلا و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام):. أقول: و روى في الكافي، ما في معناه بإسناده عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام)، و روي ذلك من طرق أهل السنة عن ابن مسعود و عدة من التابعين:.

و عن جوامع الجامع، و في روح المعاني،: في قوله: "و اتبعوا الشهوات" عن علي (عليه السلام) من بنى الشديد و ركب المنظور و لبس المشهور.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الغي واد في جهنم.

أقول: و في روايات أخرى أن الغي و أثام نهران في جهنم، و هذا على تقدير صحة الحديث ليس بتفسير آخر كما زعمه أكثر المفسرين بل بيان لما سيئول إليه الغي بحسب الجزاء، و نظيره ما ورد أن الويل بئر في جهنم و أن طوبى شجرة في الجنة، إلى غير ذلك من الروايات.

19 سورة مريم - 64 - 65

وَ مَا نَتَنزّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّك لَهُ مَا بَينَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَينَ ذَلِك وَ مَا كانَ رَبّك نَسِيّا (64) رّب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَيْنهُمَا فَاعْبُدْهُ وَ اصطبرْ لِعِبَدَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سمِيّا (65)

بيان

الآيتان معترضتان بين آيات السورة و سياقهما يشهد بأنهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإن النظم نظم قرآني بلا ريب.

و بذلك يتأيد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنة و رواه في مجمع البيان، أيضا عن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استبطأ نزول جبريل فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى: "و ما نتنزل إلا بأمر ربك" إلى آخر الآيتين.

و قد تكلف جمع في بيان اتصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إن التقدير: هذا و قال جبريل: و ما نتنزل إلا بأمر ربك إلخ، و قال آخرون: إنهما متصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقا: "إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا" الآية، و ذكر قوم أن قوله: "و ما نتنزل إلا بأمر ربك" إلى آخر الآية من كلام المتقين حين يدخلون الجنة فالتقدير و قال المتقون و ما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك "إلخ" و قيل غير ذلك.

و هي جميعا وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق و لا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها.

و سيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتصال.

قوله تعالى: "و ما نتنزل إلا بأمر ربك" إلى آخر الآية، التنزل هو النزول على مهل و تؤدة فإن تنزل مطاوع نزل يقال: نزله فتنزل و النفي و الاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزل الملائكة إلا بأمر من الله كما قال: "لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون": التحريم: 6.

و قوله: "له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك" يقال: كذا قدامه و أمامه و بين يديه و المعنى واحد غير أن قولنا: بين يديه إنما يطلق فيما كان بقرب منه و هو مشرف عليه له فيه نوع من التصرف و التسلط فظاهر قوله: "ما بين أيدينا" أن المراد به ما نشرف عليه مما هو مكشوف علينا مشهود لنا: و ظاهر قوله: "و ما خلفنا" بالمقابلة ما هو غائب عنا مستور علينا.

و على هذا فلو أريد بقوله: "ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك" المكان شمل بعض المكان الذي أمامهم و المكان الذي هم فيه و جميع المكان الذي خلفهم و لم يشمل كل مكان، و كذا لو أريد به الزمان شمل الماضي كله و الحال و المستقبل القريب فقط و سياق قوله: "له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك"، ينادي بالإحاطة و لا يلائم التبعيض.

فالوجه حمل "ما بين أيدينا" على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم التي هم قائمون بها متسلطون عليها، و حمل "ما خلفنا" على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم، و حمل "ما بين ذلك" على وجودهم أنفسهم و هو من أبدع التعبير و ألطفه و بذلك تتم الإحاطة الإلهية بهم من كل جهة لرجوع المعنى إلى أن الله تعالى هو المالك لوجودنا و ما يتعلق به وجودنا من قبل و من بعد.

و لقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو قدامنا من الزمان المستقبل و بما خلفنا الماضي و بما بين ذلك الحال، و قيل: ما بين أيدينا ما قبل الإيجاد من الزمان.

و ما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة و ما بين ذلك هو مدة الحياة و قيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الأولى و ما خلفهم هو ما بعد النفخة الثانية و ما بين ذلك ما بين النفختين و هو أربعون سنة، و قيل: ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا، و قيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق و ما خلفهم ما بعد الفناء و ما بين ذلك ما بين الدنيا و الآخرة، و قيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا و ما خلفهم ما مضى منه و ما بين ذلك ما هم فيه و قيل: المعنى ابتداء خلقنا و منتهى آجالنا و مدة حياتنا.

و قيل: ما بين أيديهم السماء و ما خلفهم الأرض و ما بين ذلك ما بينهما، و قيل: بعكس ذلك، و قيل: ما بين أيديهم المكان الذي ينتقلون إليه و ما خلفهم المكان الذي ينتقلون منه و ما بين ذلك المكان الذي هم فيه.

و تشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أن الماءات عليها مكانية كما يشترك السبعة في أن الماءات عليها زمانية و هناك قول بكون الآية تعم الزمان و المكان فهذه أحد عشر قولا و لا دليل على شيء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان و الوجه ما قدمناه.

فقوله: "له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك" يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيا لا يجري فيه تصرف غيره و لا إرادة من سواه إلا عن إذن منه و مشية و إذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلا إلا عن أمره و من بعد إذنه و لا تريد إلا ما أراده الله فلا يتنزل ملك إلا بأمر ربه.

و قد تقرر بهذا البيان أن قوله: "له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك" في مقام التعليل لقوله: "و ما نتنزل إلا بأمر ربك" و أن قوله: "و ما كان ربك نسيا" - و النسي فعول من النسيان - من تمام التعليل أي أنه تعالى لا ينسى شيئا من ملكه حتى يختل بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب و هكذا و كان هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان.

و قيل المعنى و ما كان ربك نسيا أي تاركا لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به و لم تكن عن تركه تعالى لك و توديعه إياك.

و فيه أنه و إن وافق ما تقدم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل بقوله: "له ما بين أيدينا" إلخ، ناقصا و ينقطع قوله: "رب السموات و الأرض و ما بينهما" عما تقدمه كما سيتضح.

قوله تعالى: "رب السموات و الأرض و ما بينهما فاعبده و اصطبر لعبادته هل تعلم له سميا" صدر الآية أعني قوله: "رب السموات و الأرض و ما بينهما" تعليل لقوله في الآية السابقة "له ما بين أيدينا و ما خلفنا" إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و كيف يكون نسيا و هو تعالى رب السماوات و الأرض و ما بينهما؟ و رب الشيء هو مالكه، المدبر لأمره، فملكه و عدم نسيانه مقتضى ربوبيته.

و قوله: "فاعبده و اصطبر لعبادته" تفريع على صدر الآية و المعنى إذا كنا لا نتنزل إلا بأمر ربك و قد نزلنا عليك هذا الكلام المتضمن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده و اصطبر لعبادته فليس هناك من يسمى ربا غير ربك حتى لا تصطبر على عبادة ربك و تنتقل إلى عبادة ذلك الغير الذي يسمى ربا فتكتفي بعبادته عن عبادة ربك أو تشرك به و ربما قيل: إن الجملة تفريع على قوله: "رب السماوات و الأرض" أو على قوله: "و ما كان ربك نسيا" أي لم ينسك ربك فاعبده "إلخ" و الوجهان كما ترى.

و قد بان بهذا التقرير أمور: أحدها أن قوله: "هل تعلم له سميا" من تمام البيان المقصود بقوله: "فاعبده و اصطبر لعبادته" و هو في مقام التعليل له.



و الثاني أن المراد بالسمي المشارك في الاسم و المراد بالاسم هو الرب لأن مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبية المطلقة له تعالى على كل شيء فهو يقول: هل تعلم من اتصف بالربوبية فسمي لذلك ربا حتى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.

و بذلك يظهر عدم استقامة عامة ما قيل في معنى السمي في الآية فقد قيل: إن المراد بالسمي المماثل مجازا، و قيل: السمي بمعنى الولد و قيل: هو بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالاسم الذي لا مشاركة فيه هو رب السماوات و الأرض و قيل: هو اسم الجلالة، و قيل: هو الإله، و قيل: هو الرحمن، و قيل: هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب و العقاب.

و الثالث: أن النكتة في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب و تكراره في الآية الأولى إذ قال: بأمر ربك و قال: و ما كان ربك و لم يقل: ربنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الرب ففي قوله: "ربك" إشارة إلى أن ربنا الذي نتنزل عن أمره هو ربك فالدعوة دعوته فاعبده، و يمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال: "ذكر رحمة ربك" إلخ لأن الآيات كما نبهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.

و الرابع: أن قوله: "فاعبده و اصطبر لعبادته" مسوق لتوحيد العبادة و ليس أمرا بالعبادة و أمرا بالثبات عليها و إدامتها إلا من جهة الملازمة فافهم ذلك.

و يمكن أن يستفاد من التفريع أنه تأكيد للبيان الذي يتضمنه السياق السابق على هاتين الآيتين و بذلك يظهر اتصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذا معترضتين من كل جهة.

فكان ملك الوحي لما تنزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسورة و أوحى إليه الآيات الثلاث و الستين منها و هي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لم يتنزل و ليس يتنزل بما تنزل به من عند نفسه بل عن أمر من ربه و برسالة من عنده فالكلام كلامه و الدعوة دعوته و هو رب النبي و رب كل شيء فليعبده وحده فليس هناك رب آخر يعدل عنه إليه فالآيتان مما أوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبيتا له و تأكيدا للآيات السابقة.

و هذا نظير أن يرسل ملك رسولا بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عماله فيأتيه الرسول ثم إذا قرأ الكتاب أو أدى الرسالة قال للعامل: إني ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك و إشارة منه و الكتاب كتابه و الرسالة قوله و حكمه و هو مليكك و مليك عامة من في المملكة فاسمع له و أطع و أقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتى تعدل عنه إليه.

فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك و إذا فرض أن الملك، هو الذي أمره أن يعقب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاما للرسول و رسالة أيضا عن قبل الملك و كلامه.

و غير خفي عليك أن هذا الوجه أوفق بالآيتين و أوضح انطباقا عليهما مما تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف و الوهن.

19 سورة مريم - 66 - 72

وَ يَقُولُ الانسنُ أَ ءِذَا مَا مِت لَسوْف أُخْرَجُ حَياّ (66) أَ وَ لا يَذْكرُ الانسنُ أَنّا خَلَقْنَهُ مِن قَبْلُ وَ لَمْ يَك شيْئاً (67) فَوَ رَبِّك لَنَحْشرَنّهُمْ وَ الشيَطِينَ ثُمّ لَنُحْضِرَنّهُمْ حَوْلَ جَهَنّمَ جِثِيّا (68) ثمّ لَنَنزِعَنّ مِن كلِّ شِيعَةٍ أَيهُمْ أَشدّ عَلى الرّحْمَنِ عِتِيّا (69) ثمّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالّذِينَ هُمْ أَوْلى بهَا صِلِيّا (70) وَ إِن مِّنكمْ إِلا وَارِدُهَا كانَ عَلى رَبِّك حَتْماً مّقْضِيّا (71) ثمّ نُنَجِّى الّذِينَ اتّقَوا وّ نَذَرُ الظلِمِينَ فِيهَا جِثِيّا (72)

بيان

عود إلى ما قبل قوله: "و ما نتنزل إلا بأمر ربك" الآيتين و مضى في الحديث السابق و هو كالتذنيب لقوله: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا" بذكر بعض ما تفوهوا به عن غيهم و قد خص بالذكر قول لهم في المعاد و آخر في النبوة و آخر في المبدإ.

ففي هذه الآيات أعني قوله: "و يقول الإنسان - إلى قوله - و نذر الظالمين فيها جثيا" و هي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث و الجواب عنه و ذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة و الوبال.

قوله تعالى: "و يقول الإنسان ء إذا ما مت لسوف أخرج حيا" إنكار للبعث في صورة الاستبعاد، و هو قول الكفار من الوثنيين و من يلحق بهم من منكري الصانع بل مما يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: و لذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: و يقول الكافر، أو: و يقول الذين كفروا "إلخ"، و فيه أنه لا يلائم قوله الآتي: "فو ربك لنحشرنهم و الشياطين - إلى قوله - صليا".

و ليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث و إنما عبر بالإنسان لكونه لا يترقب منه ذلك و قد جهزه الله تعالى بالإدراك العقلي و هو يذكر أن الله خلقه من قبل و لم يك شيئا، فليس من البعيد أن يعيده ثانيا فاستبعاده مستبعد منه، و لذا كرر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلا: "أ و لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل و لم يك شيئا" أي أنه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله و هو غير ناسية.

و لعل التعبير بالمضارع في قوله: "و يقول الإنسان" للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد و المرتابين فيه.

قوله تعالى: "أ و لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل و لم يك شيئا" الاستفهام للتعجيب و الاستبعاد و معنى الآية ظاهر و قد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر: "و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة - إلى أن قال - أ و ليس الذي خلق السماوات و الأرض بقادر على أن يخلق مثلهم": يس: 81.

فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنما ينتج إمكان المثل و المطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه و عينه لا بمثله فإن مثل الشيء غيره، قيل: إن هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد و المخلوق منها ثانيا مثل المخلوق أولا و شخصية الشخص الإنساني بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانيا و تعلقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيوي بعينه و إن كان البدن و هو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيوي مثلا لا عينا و هذا كما أن شخصية الإنسان و وحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع تغير البدن و تبدله بتغير أجزائه و تبدلها حالا بعد حال و البدن في الحال الثاني غيره في الحال الأول لكن الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصية لبقاء نفسه بشخصها.

و إلى هذا يشير قوله تعالى: "و قالوا ء إذا ضللنا في الأرض ء إنا لفي خلق جديد - إلى أن قال - قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم:" الم السجدة: 11" أي إنكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلون و لا تفتقدون.

قوله تعالى: "فو ربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا" الجثي في أصله على فعول جمع جاثي و هو البارك على ركبتيه، و نسب إلى ابن عباس أنه جمع جثوة و هو المجتمع من التراب و الحجارة، و المراد أنهم يحضرون زمرا و جماعات متراكما بعضهم على بعض، و هذا المعنى أنسب للسياق.

و ضمير الجمع في "لنحشرنهم" و "لنحضرنهم" للكفار، و الآية إلى تمام ثلاث آيات متعرضة لحالهم يوم القيامة و هو ظاهر و ربما قيل: إن الضميرين للناس أعم من المؤمن و الكافر كما أن ضمير الخطاب في قوله الآتي: "و إن منكم إلا واردها" كذلك و فيه أن لحن الآيات الثلاث و هو لحن السخط و العذاب يأبى ذلك.

و المراد بقوله: "لنحشرنهم و الشياطين" جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال: "فسوف يلقون غيا" و الشياطين أولياؤهم قال تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين:" الحجر: 42، و قال: "إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون": الأعراف: 27، أو المراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال: "و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين، و لن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون": الزخرف: 39.

و المعنى: فأقسم بربك لنجمعنهم - يوم القيامة - و أولياءهم أو قرناءهم من الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم لإذاقة العذاب و هم باركون على ركبهم من الذلة أو و هم جماعات و زمرة زمرة.

و في قوله: "فو ربك" التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و لعل النكتة فيه ما تقدم في قوله: "بأمر ربك" و نظيره قوله الآتي: "كان على ربك حتما".

قوله تعالى: "ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا" النزع هو الاستخراج، و الشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة و العتي على فعول مصدر بمعنى التمرد في العصيان و الظاهر أن قوله: "أيهم أشد على الرحمن عتيا" جملة استفهامية وضع موضع مفعول لننزعن للدلالة على العناية بالتعيين و التمييز فهو نظير قوله: "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب": الإسراء: 57.

و المعنى: ثم لنستخرجن من كل جماعة متشكلة أشدهم تمردا على الرحمن و هم الرؤساء و أئمة الضلال، و قيل المعنى لنستخرجن الأشد ثم الأشد حتى يحاط بهم.

و في قوله: "على الرحمن" التفات و النكتة تلويح أن تمردهم عظيم لكونه تمردا على من شملت رحمته كل شيء و هم لم يلقوا منه إلا الرحمة و التمرد على من هذا شأنه عظيم.

قوله تعالى: "ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا" الصلي في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا و صليا إذا قاسى حرها فالمعنى ثم أقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرها أي إن الأمر في دركات عذابهم و مراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا.

قوله تعالى: "و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا" الخطاب للناس عامة مؤمنيهم و كافريهم بدليل قوله في الآية التالية: "ثم ننجي الذين اتقوا" و الضمير في "واردها" للنار، و ربما قيل: إن الخطاب للكفار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية و في الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور و فيه أن سياق الآية التالية يأبى ذلك.



و الورود خلاف الصدور و هو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب في المفردات،: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده، ورودا فأنا وارد و الماء مورود، و قد أوردت الإبل الماء قال تعالى: "و لما ورد ماء مدين" و الورد الماء المرشح للورود، و الورد خلاف الصدر، و الورد يوم الحمى إذا وردت، و استعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى: "فأوردهم النار" "و بئس الورد المورود" "إلى جهنم وردا" "أنتم لها واردون" "ما وردوها" و الوارد الذي يتقدم القوم فيسقي لهم قال تعالى: "فأرسلوا واردهم" أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة.

و إلى ذلك استند من قال من المفسرين إن الناس إنما يحضرون النار و يشرفون عليها من غير أن يدخلوها و استدلوا عليه بقوله تعالى: "و لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون": القصص: 23، و قوله: "فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه": يوسف: 19، و قوله: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها": الأنبياء: 102.

و فيه أن استعماله في مثل قوله: "و لما ورد ماء مدين" و قوله: "فأرسلوا واردهم" في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادعي في آيات أخرى، و أما قوله: "أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها" فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله: "ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها"، و أن يحجب الله بينهم و بين أن يسمعوا حسيسها إكراما لهم كما حجب بين إبراهيم و بين حرارة النار إذ قال للنار: كوني بردا و سلاما على إبراهيم.

و قال آخرون و لعلهم أكثر المفسرين بدلالة الآية على دخولهم النار استنادا إلى مثل قوله تعالى: "إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها": الأنبياء: 99، و قوله في فرعون: "يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار": هود: 98، و يدل عليه قوله في الآية التالية: "ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا" أي نتركهم باركين على ركبهم و إنما يقال نذر و نترك فيما إذا كان داخلا مستقرا في المحل قبل الترك ثم أبقي على ما هو عليه و لعدة من الروايات الواردة في تفسير الآية.

و هؤلاء بين من يقول بدخول عامة الناس فيها و من يقول بدخول غير المتقين مدعيا أن قوله: "منكم" بمعنى منهم على حد قوله: "و سقاهم ربهم شرابا طهورا، إن هذا كان لكم جزاء": الدهر: 22، هذا و لكن لا يلائمه سياق قوله: "ثم ننجي الذين اتقوا" الآية.

و فيه أن كون الورود في مثل قوله: "لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها" بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور و الإشراف فإنه أبلغ كما هو ظاهر و كذا في قوله: "فأوردهم النار" فإن شأن فرعون و هو من أئمة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار و أما إدخالهم فيها فليس إليه.

و أما قوله: "ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها" فالآية دالة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله: "نذر" لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله "واردها" مستعملا في معنى الدخول و كذا تنجية المتقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإن التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك و حضر المهلكة من ذلك.

و أما الروايات فإنما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ "واردها" في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنية الدخول و المعنى: ما من أحد منكم إلا من شأنه أن يدخل النار و إنما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حد قوله: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا": النور: 21.

قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أن ما يناله من خير و سعادة فمن الله و لا يبقى له من نفسه إلا الشر و الشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله: "كان على ربك حتما مقضيا" فإنه صريح في أن هذا الورود بإيراد من الله و بقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.

و الحق أن الورود لا يدل على أزيد من الحضور و الإشراف عن قصد - على ما يستفاد من كتب اللغة - فقوله: "و إن منكم إلا واردها" إنما يدل على القصد و الحضور و الإشراف، و لا ينافي دلالة قوله في الآية التالية: "ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا" على دخولهم جميعا أو دخول الظالمين خاصة فيها بعد ما وردوها.

و قوله: "كان على ربك حتما مقضيا" ضمير كان للورود أو للجملة السابقة باعتبار أنه حكم، و الحتم و الجزم و القطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجبا عليه تعالى مقضيا في حقه و إنما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.

قوله تعالى: "ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا" قد تقدمت الإشارة إلى أن قوله: "و نذر الظالمين فيها" يدل على كون الظالمين داخلين فيها ثم يتركون على ما كانوا عليه، و أما تنجية الذين اتقوا فلا تدل بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربما تحققت بدونه اللهم إلا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.

و في التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علية الوصف للحكم.

و معنى الآيتين: ما من أحد منكم - متق أو ظالم - إلا و هو سيرد النار كان هذا الإيراد واجبا مقضيا على ربك ثم ننجي الذين اتقوا منها و نترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن مالك الجهني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "أ و لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل و لم يك شيئا" قال: فقال: لا مقدرا و لا مكتوبا.

و في المحاسن، بإسناده عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: "أ و لا يذكر الإنسان" الآية، قال: لم يكن في كتاب و لا علم.

أقول: المراد بالحديثين أنه لم يكن في كتاب و لا علم من كتب المحو و الإثبات ثم أثبته الله حين أراد كونه و أما اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شيء بنص القرآن.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا" قال: قال: على ركبهم.

و فيه، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عز و جل: "و إن منكم إلا واردها" قال: أ ما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان فهو الورود و لم يدخله.

و في المجمع، عن السدي قال: سألت مرة الهمداني عن هذه الآية فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم كشد الرجل ثم كمشيه.

و فيه، و روى أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن و قال آخرون: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأومىء بإصبعيه إلى أذنيه و قال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الورود الدخول لا يبقى بر و لا فاجر حتى يدخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار أو قال: لجهنم ضجيجا من بردها ثم ينجي الله الذين اتقوا و يذر الظالمين فيها جثيا.

أقول: و الرواية من التفسير غير أن سندها ضعيف بالجهالة.

و فيه، و روي مرفوعا عن يعلى بن منبه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.



و فيه، و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه سئل عن المعنى فقال: إن الله يجعل النار كالسمن الجامد و يجمع عليها الخلق ثم ينادي المنادي أن خذي أصحابك و ذري أصحابي فو الذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.

أقول: و الروايات الأربع الأخيرة رواها في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الكتب و الجوامع،، غير أنه لم يذكر في الرواية الثانية - فيما عندنا من نسخة الدر المنثور، - قوله: الورود الدخول.

و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية، عن عروة بن الزبير قال: لما أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودعونه فبكى فقال: أما و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة لكم و لكني سمعت رسول الله قرأ هذه الآية "و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا" فقد علمت أني وارد النار و لا أدري كيف الصدور بعد الورود؟.

و اعلم أن ظاهر بعض الروايات السابقة أن ورود الناس النار هو جوازهم منها فينطبق على روايات الصراط و فيها أنه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البر و الفاجر فيجوزه الأبرار و يسقط فيها الفجار، و عن الصدوق في الاعتقاد، أنه حمل الآية عليه.

و قال في مجمع البيان،: و قيل: إن الفائدة في ذلك يعني ورود النار ما روي في بعض الأخبار: أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه و كمال فضله و إحسانه إليه فيزداد لذلك فرحا و سرورا بالجنة و نعيمها، و لا يدخل أحدا النار حتى يطلعه على الجنة و ما فيها من أنواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له و حسرة على ما فاته من الجنة و نعيمها.

انتهي.

كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه و عدم جوازه على الله سبحانه

قد تقدم في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: "و لا يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26 في بحث قرآني تقريبا أن له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى أنه يملك كل شيء ملكا مطلقا غير مقيد بحال أو زمان أو أي شرط مفروض و أن كل شيء مملوك له تعالى من غير أن يكون مملوكا له من جهة و غير مملوك من جهة لا في ذاته و لا في شيء مما يتعلق به.

فله تعالى أن يتصرف فيما يشاء بما يشاء من غير أن يستعقب ذلك قبحا أو ذما أو شناعة من عقل أو غيره لأن القبح أو الذم إنما يلحقان الفاعل إذا أتى بما لا يملكه من الفعل بحكم عقل أو قانون أو سنة دائرة و أما إذا أتى بما له أن يفعله و هو يملكه فلا يعتريه قبح أو ذم أو لائمة البتة و لا يوجد في المجتمع الإنساني ملك مطلق و لا حرية مطلقة لمناقضته معنى الاجتماع و الاشتراك في المنافع فكل ملك فيه مقيد محدود يذم الإنسان لو تعداه و يقبح فعله و يمدح لو اقتصر عليه و يستحسن عمله.

و هذا بخلاف ملكه تعالى فإنه مطلق غير مقيد و لا محدود على ما يدل عليه إطلاق آيات الملك، و يؤيده بل يدل عليه الآيات الدالة على قصر الحكم و انحصار التشريع فيه و عموم قضائه لكل شيء إذ لو لا سعة ملكه و عموم سلطنته لكل شيء لم يستقم حكمه في كل شيء و لا قضاؤه عند كل واقعة، و الاستدلال على محدودية ملكه تعالى بما وراء القبائح العقلية بأنا نرى أن المالك لعبد إذا عذب عبده بما لا يجوزه العقل ذم عليه و استقبح العقلاء عمله من قبيل الاستدلال على الشيء بحكم ما يباينه.

على أن هذا الملك الذي نثبته له تعالى و هو ملك تشريعي هو كونه تعالى بحيث ينتهي إليه وجود كل شيء و إن شئت فقل: كون كل شيء بحيث يقوم وجوده به تعالى و هذا هو الملك التكويني الذي لا يخلو شيء من الأشياء من أن يكون مشمولا له فمع ذلك كيف يمكن تحقق الملك التكويني في شيء من غير أن ينبعث منه ملك تشريعي و حق مجعول اللهم إلا أن يكون من العناوين العدمية التي لا يتعلق بها الإيجاد كعناوين المعاصي التي في أفعال العباد و هي ترجع إلى مخالفة الأمر و ترك رعاية المصلحة و الحكمة و لا يتحقق شيء من ذلك فيما يعد فعلا له تعالى فأجد التأمل فيه.

و يتفرع على هذا البحث أنه لا معنى لأن يوجب غيره تعالى عليه شيئا أو يحرم أو يجوز و بالجملة يكلفه بتكليف تشريعي كما يمتنع أن يؤثر فيه تأثيرا تكوينيا لاستلزامه كونه تعالى مملوكا له واقعا تحت سلطنته من حيث فعله الذي تعلق به التكليف و مآله إلى مملوكية ذاته و هو محال.

و ما هو الذي يتحكم عليه تعالى؟ و من الذي يقهره بالتكليف؟ فإن فرض أنه العقل الحاكم لذاته القاضي لنفسه عاد الكلام إلى مالكية العقل لهذا الحكم و القضاء، فالعقل يستند في أحكامه إلى أمور خارجة من ذاته و من مصالح و مفاسد فليس حاكما لذاته بل لغيره هف.

و إن فرض أنه المصلحة المتقررة عند العقل فمصلحة كذا مثلا يقتضي فيه تعالى أن يعدل في حكمه و أن لا يظلم عباده ثم العقل بعد النظر فيه يحكم عليه تعالى بوجوب العدل و عدم جواز الظلم أو بحسن العدل و قبح الظلم فهذه المصلحة إما أمر اعتباري غير حقيقي و لا موجود واقعي و إنما جعله العقل جعلا من غير أن ينتهي إلى حقيقة خارجية عاد الأمر إلى كون العقل حاكما لذاته غير مستند في حكمه إلى أمر خارج عن ذاته، و قد مر بطلانه.

و إما أمر حقيقي موجود في الخارج و لا محالة هي ممكنة معلولة للواجب ينتهي وجوده إليه تعالى و يقوم به كانت فعلا من أفعاله و رجع الأمر إلى كون بعض أفعاله تعالى بتحققه مانعا عن تحقق بعض آخر و أنه دل بذلك العقل أن يحكم بوجوب الفعل أو عدم جوازه، و بعبارة أخرى ينتهي الأمر إلى أنه تعالى بالنظر إلى نظام الخلقة يختار فعلا من أفعاله على آخر و هو ما فيه المصلحة على الخالي منها هذا بحسب التكوين ثم دل العقل أن يستنبط من المصلحة أن الفعل الذي اختاره و هو العدل مثلا واجب عليه و إن شئت فقل: حكم بلسان العقل بوجوب الفعل عليه و بالجملة لم ينته الإيجاب إلى غيره بل رجع إليه فهو الموجب على نفسه لا غير.

فقد اتضح بهذا البحث أمور: الأول: أن له ملكا مطلقا لا يتقيد بتصرف دون تصرف فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى: "فعال لما يريد": البروج: 16، و قال: "و الله يحكم لا معقب لحكمه": الرعد: 41 غير أنه تعالى بما كلمنا في مرحلة الهداية على قدر عقولنا و نصب نفسه في مقام التشريع أوجب على نفسه أشياء و منع نفسه عن أشياء فاستحسن لنفسه أشياء كالعدل و الإحسان، كما استحسنها لنا و استقبح أشياء كالظلم و العدوان، كما استقبحها لنا.

و معنى كونه تعالى مشرعا آمرا و ناهيا هو أنه تعالى قدر وجودنا في نظام متقن يربطه إلى غايات هي سعادتنا و فيها خير دنيانا و آخرتنا و هي المسماة بالمصالح و نظم أسباب وجودنا و جهازات أنفسنا نظما لا يلائم إلا مسيرا خاصا في الحياة من أفعال و أعمال هي الملاءمة لمصالح وجودنا لا غير فأسباب الوجود و الجهازات المجهزة و الأوضاع و الأحوال الحافة بنا تدفعنا إلى مصالح وجودنا و مصالح الوجود تدعونا إلى أعمال خاصة تلائمها و مسير في الحياة تسوقنا إلى كمال الوجود و سعادة الحياة و إن شئت فقل: تندبنا إلى قوانين و سنن في العمل بها و الجري عليها خير الدنيا و الآخرة.



و هذه القوانين التي تهتف بها الفطرة و يعلمها الوحي السماوي هي الشريعة و إذ هي تنتهي إليه تعالى فالأمر الذي فيها أمره و النهي الذي فيها نهيه و كل حكم فيها حكمه، و فيها أمور يرى اتصاف الفعل بها حسنا على كل حال كالعدل فهو يرتضيها لفعله كما يرتضيها لأفعالنا، و أمور يستقبحها و يستشنعها و يذم أفعالا اتصفت بها كالظلم فهو لا يرتضيها لفعله كما لا يرتضيها لأفعالنا و هكذا.

فلا ضير في وجوب شيء عليه تعالى وجوبا تشريعيا إذا كان هو المشرع على نفسه، و هذه أحكام اعتبارية متقررة في ظرف الاعتبار العقلي و حقيقتها أن من سنته تعالى التكوينية أن يريد و يفعل أمورا إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان العدل، و إن لا يصدر عن ساحته أعمال إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان الظلم فافهم ذلك.

الثاني: أن هذا الوجوب تشريعي و هناك وجوب آخر تكويني يعتمد عليه هذا الوجوب و هو ضرورة ترتب المعلولات على عللها في النظام العام من غير تخلف المنتزع عنها معنى العدل.

و قد التبس الأمر على كثير من الباحثين فزعموا كون هذا الوجوب تكوينيا و قرروه بأن القدرة الواجبية مطلقة متساوية النسبة إلى فعل القبيح و تركه مثلا لكنه تعالى لا يفعل القبيح لحكمته البتة فترك القبيح ضروري بالنسبة إلى حكمته و إن كان ممكنا بالنسبة إلى قدرته و هذه الضرورة ضرورة حقيقية كضرورة قولنا: الواحد نصف الاثنين بالضرورة غير الوجوب الاعتباري يعتبر في الأوامر المولوية هذا.

و المغالطة فيه بينة فإن ترك القبيح إذا كان ممكنا بالنسبة إلى القدرة و القدرة عين الذات كان ممكنا بالنسبة إلى الذات و صفة الحكمة حينئذ إن كانت عين الذات كان ترك القبيح ضروريا ممكنا معا بالنسبة إلى الذات و ليس إلا التناقض، و إن كانت غير الذات فإن كانت أمرا عينيا و قد جعلت الترك ضروريا للذات بعد ما كان ممكنا لزم تأثير غير الذات الواجبية فيها و هو تناقض آخر و قد عدلوا عن القول بالوجوب التشريعي إلى القول بالوجوب التكويني فرارا من لزوم حكومة غيره تعالى فيه بالأمر و النهي، و إن كانت أمرا انتزاعيا فكونها منتزعة من الذات يؤدي إلى التناقض الأول المذكور، و كونها منتزعة من غيرها إلى التناقض الثاني فإن الحكم الحقيقي في الأمور الانتزاعية لمنشإ انتزاعها.

و المغالطة إنما نشأت من أخذ الفعل ضروريا بالنسبة إلى الذات بعد انضمام الحكمة إليها فإن الذات إن أخذت علة تامة للفعل كانت النسبة هي الضرورة قبل الانضمام و بعدها دون الإمكان و إن أخذت جزءا من العلة التامة و إنما تتم بانضمام أمر أو أمور إليها كان الفعل بالنسبة إليها ممكنا لا ضروريا و إن كان بالنسبة إلى علته التامة المجتمعة من الذات و غيرها ضروريا لا ممكنا.

و الثالث: أن قولنا: يجب عليه كذا و لا يجوز عليه كذا حكم عقلي، و العقل في ذلك حاكم قاض لا مدرك آخذ بمعنى أن الحكم الذي في القضية فعل قائم بالعقل مجعول له لا أمر قائم بنفسه يحكيه العقل نوعا من الحكاية كما وقع في لسان بعضهم قائلين إن من شأنه الإدراك دون الحكم.

و ذلك أن العقل الذي كلامنا فيه هو العقل العملي الذي موطن عمله العمل من حيث ينبغي أو لا ينبغي و يجوز أو لا يجوز، و المعاني التي هذا شأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج عن موطن التعقل و الإدراك فكان هذا الثبوت الإدراكي بعينه فعلا للعقل قائما به و هو معنى الحكم و القضاء، و أما العقل النظري الذي موطن عمله المعاني الحقيقية غير الاعتبارية تصورا أو تصديقا فإن لمدركاته ثبوتا في نفسها مستقلا عن العقل فلا يبقى للعقل عند إدراكها إلا أخذها و حكايتها و هو الإدراك فحسب دون الحكم و القضاء.
<<        الفهرس        >>