جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج14 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


20 سورة طه - 80 - 98

يَبَنى إِسرءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَكم مِّنْ عَدُوِّكمْ وَ وَعَدْنَكمْ جَانِب الطورِ الأَيْمَنَ وَ نَزّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَ السلْوَى (80) كلُوا مِن طيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَ لا تَطغَوْا فِيهِ فَيَحِلّ عَلَيْكمْ غَضبى وَ مَن يحْلِلْ عَلَيْهِ غَضبى فَقَدْ هَوَى (81) وَ إِنى لَغَفّارٌ لِّمَن تَاب وَ ءَامَنَ وَ عَمِلَ صلِحاً ثمّ اهْتَدَى (82) وَ مَا أَعْجَلَك عَن قَوْمِك يَمُوسى (83) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِى وَ عَجِلْت إِلَيْك رَب لِترْضى (84) قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَك مِن بَعْدِك وَ أَضلّهُمُ السامِرِى (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضبَنَ أَسِفاً قَالَ يَقَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْداً حَسناً أَ فَطالَ عَلَيْكمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتّمْ أَن يحِلّ عَلَيْكُمْ غَضبٌ مِّن رّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مّوْعِدِى (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَك بِمَلْكِنَا وَ لَكِنّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَهَا فَكَذَلِك أَلْقَى السامِرِى (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكمْ وَ إِلَهُ مُوسى فَنَسىَ (88) أَ فَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِك لهَُمْ ضرّا وَ لا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قَالَ لهَُمْ هَرُونُ مِن قَبْلُ يَقَوْمِ إِنّمَا فُتِنتُم بِهِ وَ إِنّ رَبّكُمُ الرّحْمَنُ فَاتّبِعُونى وَ أَطِيعُوا أَمْرِى (90) قَالُوا لَن نّبرَحَ عَلَيْهِ عَكِفِينَ حَتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسى (91) قَالَ يَهَرُونُ مَا مَنَعَك إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلّوا (92) أَلا تَتّبِعَنِ أَ فَعَصيْت أَمْرِى (93) قَالَ يَبْنَؤُمّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتى وَ لا بِرَأْسى إِنى خَشِيت أَن تَقُولَ فَرّقْت بَينَ بَنى إِسرءِيلَ وَ لَمْ تَرْقُب قَوْلى (94) قَالَ فَمَا خَطبُك يَسمِرِى (95) قَالَ بَصرْت بِمَا لَمْ يَبْصرُوا بِهِ فَقَبَضت قَبْضةً مِّنْ أَثَرِ الرّسولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كذَلِك سوّلَت لى نَفْسى (96) قَالَ فَاذْهَب فَإِنّ لَك فى الْحَيَوةِ أَن تَقُولَ لا مِساس وَ إِنّ لَك مَوْعِداً لّن تخْلَفَهُ وَ انظرْ إِلى إِلَهِك الّذِى ظلْت عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرِّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فى الْيَمِّ نَسفاً (97) إِنّمَا إِلَهُكُمُ اللّهُ الّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كلّ شىْءٍ عِلْماً (98)

بيان

الفصل الأخير من قصة موسى (عليه السلام) الموردة في السورة يعد سبحانه فيه جملا من مننه على بني إسرائيل كإنجائهم من عدوهم و مواعدتهم جانب الطور الأيمن و إنزال المن و السلوى عليهم، و يختمه بذكر قصة السامري و إضلاله القوم بعبادة العجل و للقصة اتصال بمواعدة الطور.

و هذا الجزء من الفصل - و فيه بيان تعرض بني إسرائيل لغضبه تعالى - هو المقصود بالأصالة من هذا الفصل و لذا فصل فيه القول و لم يبين غيره إلا بإشارة و إجمال.

قوله تعالى: "يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم" إلى آخر الآية كأن الكلام بتقدير القول أي قلنا يا بني إسرائيل و قوله: "قد أنجيناكم من عدوكم" المراد به فرعون أغرقه الله و أنجى بني إسرائيل منه بعد طول المحنة.

و قوله: "و واعدناكم جانب الطور الأيمن" بنصب أيمن على أنه صفة جانب و لعل المراد بهذه المواعدة مواعدة موسى أربعين ليلة لإنزال التوراة و قد مرت القصة في سورة البقرة و غيرها و كذا قصة إنزال المن و السلوى.

و قوله: "كلوا من طيبات ما رزقناكم" إباحة في صورة الأمر و إضافة الطيبات إلى "ما رزقناكم" من إضافة الصفة إلى الموصوف إذ لا معنى لأن ينسب الرزق إلى نفسه ثم يقسمه إلى طيب و غيره كما يؤيده قوله في موضع آخر: "و رزقناهم من الطيبات:" الجاثية: 16.

قوله: "و لا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي" ضمير فيه راجع إلى الأكل المتعلق بالطيبات و ذلك بكفران النعمة و عدم أداء شكره كما قالوا: "يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها:" البقرة: 61.

و قوله: "فيحل عليكم غضبي" أي يجب غضبي و يلزم من حل الدين يحل من باب ضرب إذا وجب أداؤه، و الغضب من صفاته تعالى الفعلية مصداقه إرادته تعالى إصابة المكروه للعبد بتهيئة الأسباب لذلك عن معصية عصاها.

و قوله: "و من يحلل عليه غضبي فقد هوى" أي سقط من الهوي بمعنى السقوط و فسر بالهلاك.

قوله تعالى: "و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى" وعد بالرحمة المؤكدة عقيب الوعيد الشديد و لذا وصف نفسه بكثرة المغفرة فقال: "و إني لغفار" و لم يقل: و أنا غافر أو سأغفر.

و التوبة و هي الرجوع كما تكون عن المعصية إلى الطاعة كذلك تكون من الشرك إلى التوحيد، و الإيمان أيضا كما يكون بالله كذلك يكون بآيات الله من أنبيائه و رسله و كل حكم جاءوا به من عند الله تعالى، و قد كثر استعمال الإيمان في القرآن في كل من المعنيين كما كثر استعمال التوبة في كل من المعنيين المذكورين و بنو إسرائيل كما تلبسوا بمعاصي فسقوا بها كذلك تلبسوا بالشرك كعبادة العجل و على هذا فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهر إطلاقه في التوبة عن الشرك و المعصية جميعا و الإيمان بالله و آياته و كذلك إطلاقه بالنسبة إلى التائبين و المؤمنين من بني إسرائيل و غيرهم و إن كان بنو إسرائيل مورد الخطاب فإن الصفات الإلهية كالمغفرة لا تختص بقوم دون قوم.



فمعنى الآية - و الله أعلم - و إني لكثير المغفرة لكل إنسان تاب و آمن سواء تاب عن شرك أو عن معصية و سواء آمن بي أو بآياتي من رسلي، أو ما جاءوا به من أحكامي بأن يندم على ما فعل و يعمل عملا صالحا بتبديل المخالفة و التمرد فيما عصى فيه بالطاعة فيه و هو المحقق لأصل معنى الرجوع من شيء و قد مر تفصيل القول فيه في تفسير قوله تعالى: "إنما التوبة على الله:" النساء: 17، في الجزء الرابع من الكتاب.

و أما قوله: "ثم اهتدى" فالاهتداء يقابل الضلال كما يشهد به قوله تعالى: "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها": الإسراء: 15، و قوله: "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم": المائدة: 105، فهل المراد أن لا يضل في نفس ما تاب فيه بأن يعود إلى المعصية ثانيا فيفيد أن التوبة عن ذنب إنما تنفع بالنسبة إلى ما اقترفه قبل التوبة و لا تكفي عنه لو عاد إليه ثانيا أو المراد أن لا يضل في غيره فيفيد أن المغفرة إنما تنفعه بالنسبة إلى المعصية التي تاب عنها و بعبارة أخرى إنما تنفعه نفعا تاما إذا لم يضل في غيره من الأعمال، أو المراد ما يعم المعنيين؟.

ظاهر العطف بثم أن يكون المراد هو المعنى الأول فيفيد معنى الثبات و الاستقامة على التوبة فيعود إلى اشتراط الإصلاح الذي هو مذكور في عدة من الآيات كقوله: "إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم:" آل عمران: 89 النور - 5.

لكن يبقى على الآية بهذا المعنى أمران: أحدهما نكتة التعبير بالغفار بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة فما معنى كثرة مغفرته تعالى لمن اقترف ذنبا واحدا ثم تاب؟ و ثانيهما أن لازمها أن يكون من خالف حكما من أحكامه كافرا به و إن اعترف بأنه من عند الله و إنما يعصيه اتباعا للهوى لا ردا للحكم اللهم إلا أن يقال إن الآية لاشتمالها على قوله "تاب و آمن" إنما تشمل المشرك أو الراد لحكم من أحكام الله و هو كما ترى.

فيمكن أن يقال: إن المراد بالتوبة و الإيمان التوبة من الشرك و الإيمان بالله كما أن المعنيين هما المرادان في أغلب المواضع من كلامه التي ذكر التوبة و الإيمان فيها معا، و على هذا كان المراد من قوله: "و عمل صالحا" الطاعة لأحكامه تعالى بالائتمار لأوامره و الانتهاء عن نواهيه، و يكون معنى الآية أن من تاب من الشرك و آمن بالله و أتى بما كلف به من أحكامه فإني كثير المغفرة لسيئاته أغفر له زلة بعد زلة فتكثر المغفرة لكثرة مواردها.

و قد ذكر تعالى نظير المعنى و هو مغفرة السيئات في قوله: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم:" النساء: 31.

فقوله: "و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا" ينطبق على آية النساء و يبقى فيه شرط زائد يقيد حكم المغفرة و هو مدلول قوله: "ثم اهتدى" و هو الاهتداء إلى الطريق و يظهر أن المغفرة إنما يسمح بها للمؤمن العامل بالصالحات إذا قصد ذلك من طريقه و دخل عليه من بابه.

و لا نجد في كلامه تعالى ما يقيد الإيمان بالله و العمل الصالح في تأثيره و قبوله عند الله إلا الإيمان بالرسول بمعنى التسليم له و طاعته في خطير الأمور و يسيرها و أخذ الدين عنه و سلوك الطريق التي يخطها و اتباعه من غير استبداد و ابتداع يئول إلى اتباع خطوات الشيطان و بالجملة ولايته على المؤمنين في دينهم و دنياهم فقد شرع الله تعالى ولايته و فرض طاعته و أوجب الأخذ عنه و التأسي به في آيات كثيرة جدا لا حاجة إلى إيرادها و لا مجال لاستقصائها فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.



و كان جل بني إسرائيل على إيمانهم بالله سبحانه و تصديقهم رسالة موسى و هارون متوقفين في ولايتهما أو كالمتوقف كما هو صريح عامة قصصهم في كتاب الله و لعل هذا هو الوجه في وقوع الآية - و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى بعد نهيهم عن الطغيان و تخويفهم من غضب الله.

فقد تبين أن المراد بالاهتداء في الآية على ما يهدي إليه سائر الآيات هو الإيمان بالرسول باتباعه في أمر الدين و الدنيا و بعبارة أخرى هو الاهتداء إلى ولايته.

و بذلك يظهر حال ما قيل في تفسير قوله: "ثم اهتدى" فقد قيل: الاهتداء لزوم الإيمان و الاستمرار عليه ما دامت الحياة، و قيل: أن لا يشك ثانيا في إيمانه، و قيل: الأخذ بسنة النبي و عدم سلوك سبيل البدعة، و قيل: الاهتداء هو أن يعلم أن لعمله ثوابا يجزى عليه، و قيل: هو تطهير القلب من الأخلاق الذميمة، و قيل: هو حفظ العقيدة من أن تخالف الحق في شيء فإن الاهتداء بهذا الوجه غير الإيمان و غير العمل، و المطلوب على جميع هذه الأقوال تفسير الاهتداء بمعنى لا يرجع إلى الإيمان و العمل الصالح غير أن الذي ذكروه لا دليل على شيء من ذلك.

قوله تعالى: "و ما أعجلك عن قومك يا موسى - إلى قوله - لترضى" حكاية مكالمة وقعت بينه تعالى و بين موسى (عليه السلام) في ميعاد الطور الذي نزلت عليه فيه التوراة كما قص في سورة الأعراف تفصيلا.

و ظاهر السياق أنه سؤال عن السبب الذي أوجب لموسى أن يستعجل عن قومه فيحضر ميعاد الطور قبلهم كأنه كان المترقب أن يحضروا الطور جميعا فتقدم عليهم موسى في الحضور و خلفهم فقيل له: "و ما أعجلك عن قومك يا موسى" فقال: "هم أولاء على أثري" أي إنهم لسائرون على أثري و سيلحقون بي عن قريب "و عجلت إليك رب لترضى" أي و السبب في عجلي هو أن أحصل رضاك يا رب.

و الظاهر أن المراد بالقوم و قد ذكر أنهم على أثره هم السبعون رجلا الذين اختارهم لميقات ربه، فإن ظاهر تخليفه هارون على قومه بعده و سائر جهات القصة و قوله بعد: "أ فطال عليكم العهد" أنه لم يكن من القصد أن يحضر بنو إسرائيل كلهم الطور.

و هذا الخطاب يمكن أن يخاطب به موسى (عليه السلام) في بدء حضوره في ميعاد الطور كما يمكن أن يخاطب في أواخر عهده به فإن السؤال عن العجل غير نفس العجل الذي يقارن المسير و اللقاء و إذا لم يكن السؤال في بدء الورود و الحضور استقام قوله بعد: "فإنا قد فتنا قومك من بعدك" إلخ، بناء على أن الفتنة كانت بعد استبطائهم غيبة موسى على ما في الآثار و لا حاجة إلى تمحلاتهم في توجيه الآيات.

قوله تعالى: "قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري" الفتنة الامتحان و الاختبار و نسبة الإضلال إلى السامري - و هو الذي سبك العجل و أخرجه لهم فعبدوه و ضلوا - لأنه أحد أسبابه العاملة فيه.

و الفاء في قوله: "فإنا قد فتنا قومك" للتعليل يعلل به ما يفهم من سابق الكلام فإن المفهوم من قول موسى: "هم أولاء على أثري" أن قومه على حسن حال لم يحدث فيهم ما يوجب قلقا فكأنه قيل: لا تكن واثقا على ما خلفتهم فيه فإنا قد فتناهم فضلوا.

و قوله: "قومك" من وضع الظاهر موضع المضمر و لعل المراد غير المراد به في الآية السابقة بأن يكون ما هاهنا عامة القوم و ما هناك السبعون رجلا الذين اختارهم موسى للميقات.



قوله تعالى: "فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا - إلى قوله - فأخلفتم موعدي" الغضبان صفة مشبهة من الغضب، و كذا الأسف من الأسف بفتحتين و هو الحزن و شدة الغضب، و الموعد الوعد، و إخلافهم موعده هو تركهم ما وعدوه من حسن الخلافة بعده حتى يرجع إليهم، و يؤيده قوله في موضع آخر: "بئسما خلفتموني من بعدي".

و المعنى: فرجع موسى إلى قومه و الحال أنه غضبان شديد الغضب - أو حزين - و أخذ يلومهم على ما فعلوا، قال يا قوم أ لم يعدكم ربك وعدا حسنا - و هو أن ينزل عليهم التوراة فيها حكم الله و في الأخذ بها سعادة دنياهم و أخراهم - أو وعده تعالى أن ينجيهم من عدوهم و يمكنهم في الأرض و يخصهم بنعمه العظام "أ فطال عليكم العهد" و هو مدة مفارقة موسى إياهم حتى يكونوا آيسين من رجوعه فيختل النظم بينهم "أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم" فطغوتم بالكفر به بعد الإيمان و عبدتم العجل "فأخلفتم موعدي" و تركتم ما وعدتموني من حسن الخلافة بعدي.

و ربما قيل في معنى قوله: "فأخلفتم موعدي" بعض معان أخر: كقول بعضهم إن إخلافهم موعده أنه أمرهم أن يلحقوا به فتركوا المسير على أثره، و قول بعضهم هو أنه أمرهم بطاعة هارون بعده إلى أن يرجع إليهم فخالفوه إلى غير ذلك.

قوله تعالى: "قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا" إلى آخر الآية الملك بالفتح فالسكون مصدر ملك يملك و كأن المراد بقولهم: "ما أخلفنا موعدك بملكنا" ما خالفناك و نحن نملك من أمرنا شيئا - كما قيل - و من الممكن أن يكون المراد أنا لم نصرف في صوغ العجل شيئا من أموالنا حتى نكون قاصدين لهذا الأمر متعمدين فيه و لكن كنا حاملين لأثقال من حلي القوم فطرحناها فأخذها السامري و ألقاها في النار فأخرج العجل.

و الأوزار جمع وزر و هو الثقل، و الزينة الحلي كالعقد و القرط و السوار و القذف و الإلقاء و النبذ متقاربة معناها الطرح و الرمي.

و معنى قوله: "و لكنا حملنا أوزارا" إلخ لكن كانت معنا أثقال من زينة القوم و لعل المراد به قوم فرعون - فطرحناها فكذلك ألقى السامري - ألقى ما طرحناها في النار أو ألقى ما عنده كما ألقينا ما عندنا مما حملنا - فأخرج العجل.

قوله تعالى: "فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسي" في لفظ الإخراج دلالة على أن كيفية صنع العجل كانت خفية على الناس في غير مرأى منهم حتى فاجأهم بإظهاره و إراءته، و الجسد هو الجثة التي لا روح فيه فلا يطلق الجسد على ذي الروح البتة، و فيه دليل على أن العجل لم يكن له روح و لا فيه شيء من الحياة، و الخوار بضم الخاء صوت العجل.

و ربما أخذ قوله: "فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم" إلخ كلاما مستقلا إما من كلام الله سبحانه باختتام كلام القوم في قولهم: "فقذفناها" و إما من كلام القوم و على هذا فضمير "قالوا" لبعض القوم و ضمير "فأخرج لهم" لبعض آخر كما هو ظاهر.

و ضمير "نسي" قيل: لموسى و المعنى قالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسي موسى إلهه هذا و هو هنا و ذهب يطلبه في الطور و قيل: الضمير للسامري و المراد به نسيانه تعالى بعد ذكره و الإيمان به أي نسي السامري ربه فأتى بما أتى و أضل القوم.

و ظاهر قوله: "فقالوا هذا إلهكم و إله موسى" حيث نسب القول إلى الجمع أنه كان مع السامري في هذا الأمر من يساعده.



قوله تعالى: "أ فلا يرون ألا يرجع إليهم قولا و لا يملك لهم ضرا و لا نفعا" توبيخ لهم حيث عبدوه و هم يرون أنه لا يرجع قولا بأن يستجيب لمن يدعوه، و لا يملك لهم ضرا فيدفعه عنهم و لا نفعا بأن يجلبه و يوصله إليهم، و من ضروريات عقولهم أن الرب يجب أن يستجيب لمن دعاه لدفع ضر أو لجلب نفع و أن يملك الضر و النفع لمربوبه.

قوله تعالى: "و لقد قال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به و إن ربكم الرحمن فاتبعوني و أطيعوا أمري" تأكيد لتوبيخهم و زيادة تقرير لجرمهم، و المعنى: أنهم مضافا إلى عدم تذكرهم بما تذكرهم به ضرورة عقولهم و عدم انتهائهم عن عبادة العجل إلى البصر و العقل لم يعتنوا بما قرعهم من طريق السمع أيضا، فلقد قال لهم نبيهم هارون إنه فتنة فتنوا به و إن ربهم الرحمن عز اسمه و إن من الواجب عليهم أن يتبعوه و يطيعوا أمره.

فردوا على هارون قائلين: لن نبرح و لن نزال عليه عاكفين أي ملازمين لعبادته حتى يرجع إلينا موسى فنرى ما ذا يقول فيه و ما ذا يأمرنا به.

قوله تعالى: "قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أ فعصيت أمري" رجع (عليه السلام) بعد تكليم القوم في أمر العجل إلى تكليم أخيه هارون إذ هو أحد المسئولين الثلاثة في هذه المحنة استخلفه عليهم و أوصاه حين كان يوادعه قائلا: "اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين".

و كأن قوله: "منعك" مضمن معنى دعاك أي ما دعاك، إلى أن لا تتبعن مانعا لك عن الاتباع أو ما منعك داعيا لك إلى عدم اتباعي فهو نظير قوله: "قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك": الأعراف: 12.

و المعنى: قال موسى معاتبا لهارون: ما منعك عن اتباع طريقتي و هو منعهم عن الضلال و الشدة في جنب الله أ فعصيت أمري أن تتبعني و لا تتبع سبيل المفسدين؟.

قوله تعالى: "قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي" إلخ، "يا بن أم" أصله يا بن أمي و هي كلمة استرحام و استرآف قالها لإسكات غضب موسى، و يظهر من قوله: "لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي" إنه أخذ بلحيته و رأسه غضبا ليضربه كما أخبر به في موضع آخر: "و أخذ برأس أخيه يجره إليه:" الأعراف: 150.

و قوله: "إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي" تعليل لمحذوف يدل عليه اللفظ و محصله لو كنت مانعتهم عن عبادة العجل و قاومتهم بالغة ما بلغت لم يطعني إلا بعض القوم و أدى ذلك إلى تفرقهم فرقتين: مؤمن مطيع، و مشرك عاص، و كان في ذلك إفساد حال القوم بتبديل اتحادهم و اتفاقهم الظاهر تفرقا و اختلافا و ربما انجر إلى قتال و قد كنت أمرتني بالإصلاح إذ قلت لي: "أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين" فخشيت أن تقول حين رجعت و شاهدت ما فيه القوم من التفرق و التحزب: فرقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي.

هذا ما اعتذر به هارون و قد عذره موسى و دعا له و لنفسه كما في سورة الأعراف بقوله: "رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين:" الأعراف: 151.

قوله تعالى: "قال فما خطبك يا سامري" رجوع منه (عليه السلام) بعد الفراغ من تكليم أخيه إلى تكليم السامري و هو أحد المسئولين الثلاثة و هو الذي أضل القوم.

و الخطب: الأمر الخطير الذي يهمك، يقول: ما هذا الأمر العظيم الذي جئت به؟.



قوله تعالى: "قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها و كذلك سولت لي نفسي" قال الراغب في المفردات،: البصر يقال للجارحة الناظرة نحو قوله: "كلمح البصر" "و إذ زاغت الأبصار" و للقوة التي فيها، و يقال لقوة القلب المدركة بصيرة و بصر نحو قوله: "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" و قال: "ما زاغ البصر و ما طغى" و جمع البصر أبصار و جمع البصيرة بصائر، قال تعالى: "فما أغنى عنهم سمعهم و لا أبصارهم" و لا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، و يقال من الأول: أبصرت، و من الثاني: أبصرته و بصرت به، و قلما يقال في الحاسة بصرت إذا لم تضامه رؤية القلب.

انتهي.

و قوله: "فقبضت قبضة" قيل: إن القبضة مصدر بمعنى اسم المفعول و أورد عليه أن المصدر إذا استعمل كذلك لم تلحق به التاء، يقال: هذه حلة نسج اليمن، و لا يقال: نسجه اليمن، فالمتعين حمله في الآية على أنه مفعول مطلق.

و رد بأن الممنوع لحوق التاء الدالة على التحديد و المرة لا على مجرد التأنيث كما هنا، و فيه أن كون التاء هنا للتأنيث لا دليل عليه فهو مصادرة.

و قوله: "من أثر الرسول" الأثر شكل قدم المارة على الطريق بعد المرور، و الأصل في معناه ما بقي من الشيء بعده بوجه بحيث يدل عليه كالبناء أثر الباني و المصنوع أثر الصانع و العلم أثر العالم و هكذا، و من هذا القبيل أثر الأقدام على الأرض من المارة.

و الرسول هو الذي يحمل رسالة و قد أطلق في القرآن على الرسول البشري الذي يحمل رسالة الله تعالى إلى الناس و أطلق بهذه اللفظة على جبريل ملك الوحي، قال تعالى: "إنه لقول رسول كريم:" التكوير: 19، و كذا أطلق لجمع من الملائكة الرسل كقوله: "بلى و رسلنا لديهم يكتبون:" الزخرف: 80، و قال أيضا في الملائكة: "جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة": فاطر: 1.

و الآية تتضمن جواب السامري عما سأله موسى (عليه السلام) بقوله: "فما خطبك يا سامري" و هو سؤال عن حقيقة ذاك الأمر العظيم الذي أتى به و ما حمله على ذلك، و السياق يشهد على أن قوله: "و كذلك سولت لي نفسي" جوابه عن السبب الذي دعاه إليه و حمله عليه و أن تسويل نفسه هو الباعث له إلى فعل ما فعل و أما بيان حقيقة ما صنع فهو الذي يشير إليه بقوله: "بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول" و لا نجد في كلامه تعالى في هذه القصة و لا فيما يرتبط بها في الجملة ما يوضح المراد منه و لذا اختلفوا في تفسيره.

ففسره الجمهور وفاقا لبعض الروايات الواردة في القصة أن السامري رأى جبريل و قد نزل على موسى للوحي أو رآه و قد نزل راكبا على فرس من الجنة قدام فرعون و جنوده حين دخلوا البحر فأغرقوا فأخذ قبضة من تراب أثر قدمه أو أثر حافر فرسه و من خاصة هذا التراب أنه لا يلقى على شيء إلا حلت فيه الحياة و دخلت فيه الروح فحفظ التراب حتى إذا صنع العجل ألقى فيه من التراب فحيي و تحرك و خار.

فالمراد بقوله: "بصرت بما لم يبصروا به" إبصاره جبريل حين نزل راجلا أو راكبا رآه و عرفه و لم يره غيره من بني إسرائيل، و بقوله: "فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها" فقبضت قبضة من تراب أثر جبريل أو من تراب أثر فرس جبريل - و المراد بالرسول جبريل - فنبذتها أي ألقيت القبضة على الحلي المذاب فحيي العجل فكان له خوار!.

و أعظم ما يرد عليه مخالفة هذه الروايات - و ستوافيك في البحث الروائي التالي - للكتاب فإن كلامه تعالى ينص على أن العجل كان جسدا له خوار و الجسد هو الجثة التي لا روح لها و لا حياة فيها، و لا يطلق على الجسم ذي الروح و الحياة البتة.

مضافا إلى ما أوردوه من وجوه الإشكال على الروايات مما سيجيء نقله في البحث الروائي الآتي.



و نقل عن أبي مسلم في تفسير الآية أنه قال ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه، و هنا وجه آخر و هو أن يكون المراد بالرسول موسى (عليه السلام) و أثره سنته و رسمه الذي أمر به و درج عليه فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان و يقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه.

و تقرير الآية على ذلك أن موسى (عليه السلام) لما أقبل على السامري باللوم و المسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق و قد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها و لم أتمسك بها و تعبيره عن موسى بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير: ما قول الأمير في كذا؟ و يكون إطلاق الرسول منه عليه نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة: "يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون" انتهى و من المعلوم أن خوار العجل على هذا الوجه كان لسبب صناعي بخلاف الوجه السابق.

و فيه أن سياق الآية يشهد على تفرع النبذ على القبض و القبض على البصر و لازم ما ذكره تفرع النبذ على البصر و البصر على القبض فلو كان ما ذكره حقا كان من الواجب أن يقال: بصرت بما لم يبصروا به فنبذت ما قبضته من أثر الرسول أو يقال: قبضت قبضة من أثر الرسول فبصرت بما لم يبصروا به فنبذتها.

و ثانيا: أن لازم توجيهه أن يكون قوله تعالى: "و كذلك سولت لي نفسي" إشارة إلى سبب عمل العجل و جوابا عن مسألة موسى "ما خطبك"؟ و محصله أنه إنما سواه لتسويل من نفسه أن يضل الناس فيكون مدلول صدر الآية أنه لم يكن موحدا و مدلول ذيلها أنه لم يكن وثنيا فلا موحد و لا وثني مع أن المحكي من قول موسى بعد: "و انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه" إلخ إنه كان وثنيا.

و ثالثا أن التعبير عن موسى و هو مخاطب بلفظ الغائب بعيد.

و يمكن أن يتصور للآية معنى آخر بناء على ما ذكره بعضهم أن أوزار الزينة التي حملوها كانت حلي ذهب من القبط أمرهم موسى أن يحملوها و كانت لموسى أو منسوبة إليه و هو المراد بأثر الرسول فالسامري يصف ما صنعه بأنه كان ذا بصيرة في أمر الصباغة و التقليب يحسن من صنعة التماثيل ما لا علم للقوم به فسولت له نفسه أن يعمل لهم تمثال عجل من ذهب فأخذ و قبض قبضة من أثر الرسول و هو الحلي من الذهب فنبذها و طرحها في النار و أخرج لهم عجلا جسدا له خوار، و كان خواره لدخول الهواء في فراغ جوفه و خروجه من فيه على ضغطة بتعبئة صناعية.

هذا.

و يبقى الكلام على التعبير عن موسى و هو يخاطبه بالرسول، و على تسمية حلي القوم أثر الرسول، و على تسمية عمل العجل و كان يعبده تسويلا نفسانيا.

قوله تعالى: "قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس و إن لك موعدا لن تخلفه" هذه مجازاة له من موسى (عليه السلام) بعد ثبوت الجرم.

فقوله: "قال فاذهب" قضاء بطرده عن المجتمع بحيث لا يخالط القوم و لا يمس أحدا و لا يمسه أحد بأخذ أو عطاء أو إيواء أو صحبة أو تكليم و غير ذلك من مظاهر الاجتماع الإنساني و هو من أشق أنواع العذاب، و قوله: "فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس" - و محصله أنه تقرر و حق عليك أن تعيش فردا ما دمت حيا - كناية عن تحسره المداوم من الوحدة و الوحشة.



و قيل: إنه دعاء من موسى عليه و أنه ابتلي إثر دعائه بمرض عقام لا يقترب منه أحد إلا حمي حمى شديدة فكان يقول لمن اقترب منه: لا مساس لا مساس، و قيل: ابتلي بوسواس فكان يتوحش و يفر من كل من يلقاه و ينادي لا مساس و هو وجه حسن لو صح الخبر.

و قوله: "و إن لك موعدا لن تخلفه" ظاهره أنه إخبار عن هلاكه في وقت عينه الله و قضاه قضاء محتوما و يحتمل الدعاء عليه، و قيل: المراد به عذاب الآخرة.

قوله تعالى: "و انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا" قال في المجمع،: يقال: نسف فلان الطعام إذا ذرأه بالمنسف ليطير عنه قشوره.

انتهي.

و قوله: "و انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا" أي ظللت و دمت عليه عاكفا لازما، و فيه دلالة على أنه كان اتخذه إلها له يعبده.

و قوله: "لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا" أي أقسم لنحرقنه بالنار ثم لنذرينه في البحر ذروا، و قد استدل بحديث إحراقه على أنه كان حيوانا ذا لحم و دم و لو كان ذهبا لم يكن لإحراقه معنى، و هذا يؤيد تفسير الجمهور السابق أنه صار حيوانا ذا روح بإلقاء التراب المأخوذ من أثر جبريل عليه.

لكن الحق أنه إنما يدل على أنه لم يكن ذهبا خالصا لا غير.

و قد احتمل بعضهم أن يكون لنحرقنه من حرق الحديد إذا برده بالمبرد، و المعنى: لنبردنه بالمبرد ثم لنذرين برادته في البحر و هذا أنسب.

قوله تعالى: "إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما" الظاهر أنه من تمام كلام موسى (عليه السلام) يخاطب به السامري و بني إسرائيل و قد قرر بكلامه هذا توحده تعالى في ألوهيته فلا يشاركه فيها غيره من عجل أو أي شريك مفروض، و هو بسياقه من لطيف الاستدلال فقد استدل فيه بأنه تعالى هو الله على أنه لا إله إلا هو و بذلك على أنه لا غير إلههم.

قيل: و في قوله: "وسع كل شيء علما" دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا لكونه معلوما و فيه مغالطة فإن مدلول الآية أن كل ما يسمى شيئا فقد وسعه علمه لا أن كل ما وسعه علمه فهو يسمى شيئا و الذي ينفع المستدل هو الثاني دون الأول.

بحث روائي

في التوحيد، بإسناده إلى حمزة بن الربيع عمن ذكره قال: كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك و تعالى: - "و من يحلل عليه غضبي فقد هوى" ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): هو العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله عز و جل زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق، إن الله عز و جل لا يستفزه شيء و لا يغيره.

أقول: و روى ما في معناه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن الله تبارك و تعالى لا يقبل إلا العمل الصالح و لا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط و العهود فمن وفى لله بشرطه و استعمل ما وصف في عهده نال ما عنده و استكمل وعده إن الله تبارك و تعالى أخبر العباد بطرق الهدى، و شرع لهم فيها المنار، و أخبرهم كيف يسلكون؟ فقال: "و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى" و قال: "إنما يتقبل الله من المتقين" فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).



و في المجمع،: قال أبو جعفر (عليه السلام): "ثم اهتدى" إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أن رجلا عبد الله عمره ما بين الركن و المقام ثم مات و لم يجيء بولايتنا لأكبه الله في النار على وجهه:، رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده و أورده العياشي في تفسيره، بعدة طرق. أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن سدير عنه (عليه السلام) و في تفسير القمي، بإسناده عن الحارث بن عمر عنه (عليه السلام) و في مناقب ابن شهرآشوب، عن أبي الجارود و أبي الصباح الكناسي عن الصادق (عليه السلام) و عن أبي حمزة عن السجاد (عليه السلام): مثله و لفظه: إلينا أهل البيت.

و المراد بالولاية في الحديث ولاية أمر الناس في دينهم و دنياهم و هي المرجعية في أخذ معارف الدين و شرائعه و في إدارة أمور المجتمع، و قد كانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ينص عليه الكتاب في أمثال قوله: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" ثم جعلت لعترته أهل بيته بعده في الكتاب بمثل آية الولاية و بما تواتر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديث الثقلين و حديث المنزلة و نظائرهما.

و الآية و إن وقعت بين آيات خوطب بها بنو إسرائيل و ظاهرها ذلك لكنها غير مقيدة بشيء يخصها بهم و يمنع جريانها في غيرهم فهي جارية في غيرهم كما تجري فيهم أما جريانها فيهم فلأن لموسى بما كان إماما في أمته كان له من سنخ هذه الولاية ما لغيره من الأنبياء فعلى أمته أن يهتدوا به و يدخلوا تحت ولايته، و أما جريانها في غيرهم فلأن الآية عامة غير خاصة بقوم دون قوم فهي تهدي الناس في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ولايته و بعده إلى ولاية الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) فالولاية سنخ واحد لها معناها إلى أي من نسبت.

إذ عرفت ما تقدم ظهر لك سقوط ما ذكره الآلوسي في تفسير روح المعاني، فإنه بعد ما نقل رواية مجمع البيان، السابقة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و أنت تعلم أن ولايتهم و حبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى (عليه السلام) مما يستدعي القول بأنه عز و جل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت و أوجب عليهم ولايتهم إذ ذاك و لم يثبت ذلك في صحيح الأخبار انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و الذي أوقعه فيما وقع فيه تفسيره الولاية بمعنى المحبة ثم أخذه الآية خاصة ببني إسرائيل حتى استنتج المعنى الذي ذكره و ليست الولاية في آياتها و أخبارها بمعنى المحبة و إنما هي ملك التدبير و التصرف في الأمور الذي من شئونه لزوم الاتباع و افتراض الطاعة و هو الذي يدعيه أئمة أهل البيت لأنفسهم و أما المحبة فهي معنى توسعي للولاية بمعناها الحقيقي و من لوازمها العادية و هي التي تدل عليه بالمطابقة أدلة مودة ذي القربى من آية أو رواية.

و لولاية أهل البيت (عليهم السلام) معنى آخر ثالث و هو أن يلي الله أمر عبده فيكون هو المدبر لأموره و المتصرف في شئونه لإخلاصه في العبودية و هذه الولاية هي لله بالأصالة فهو الولي لا ولي غيره و إنما تنسب إلى أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم السابقون الأولون من الأمة في فتح هذا الباب و هي أيضا من التوسع في النسبة كما ينسب الصراط المستقيم في كلامه تعالى إليه بالأصالة و إلى الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين بنوع من التوسع.

فتلخص أن الولاية في حديث المجمع، بمعنى ملك التدبير و أن الآية الكريمة عامة جارية في غير بني إسرائيل كما فيهم و أنه (عليه السلام) إنما فسر الاهتداء إلى الولاية من جهة الآية في هذه الأمة و هو المعنى المتعين.



و في تفسير القمي،: و قوله: "فإنا قد فتنا قومك من بعدك" قال اختبرناهم بعدك "و أضلهم السامري" قال: بالعجل الذي عبدوه.

و كان سبب ذلك أن موسى لما وعده الله أن ينزل عليه التوراة و الألواح إلى ثلاثين يوما أخبر بني إسرائيل بذلك و ذهب إلى الميقات و خلف أخاه على قومه، فلما جاء الثلاثون يوما و لم يرجع موسى إليهم عصوا و أرادوا أن يقتلوا هارون و قالوا: إن موسى كذب و هرب منا، فجاءهم إبليس في صورة رجل فقال لهم: إن موسى قد هرب منكم و لا يرجع إليكم أبدا فاجمعوا لي حليكم حتى أتخذ لكم إلها تعبدونه.

و كان السامري على مقدمة قوم موسى يوم أغرق الله فرعون و أصحابه فنظر إلى جبرئيل و كان على حيوان في صورة رمكة و كانت كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع فنظر إليه السامري و كان من خيار أصحاب موسى فأخذ التراب من حافر رمكة جبرئيل و كان يتحرك فصره في صرة فكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل فلما جاءهم إبليس و اتخذوا العجل قال للسامري: هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه في جوف العجل فلما وقع التراب في جوفه تحرك و خار و نبت عليه الوبر و الشعر فسجد له بنو إسرائيل و كان عدد الذين سجدوا له سبعين ألفا من بني إسرائيل فقال لهم هارون كما حكى الله: "يا قوم إنما فتنتم به و إن ربكم الرحمن فاتبعوني و أطيعوا أمري، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى" فهموا بهارون فهرب منهم و بقوا في ذلك حتى تم ميقات موسى أربعين ليلة.

فلما كان يوم عشرة من ذي الحجة أنزل الله علم الألواح فيها التوراة و ما يحتاج إليه من أحكام السير و القصص فأوحى الله إلى موسى أنا فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري و عبدوا العجل و له خوار، فقال: يا رب العجل من السامري فالخوار ممن؟ فقال: مني يا موسى، إني لما رأيتهم قد ولوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة.

"فرجع موسى - كما حكى الله - إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا حسنا أ فطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي"، ثم رمى بالألواح و أخذ بلحية أخيه و رأسه يجره إليه فقال: "ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أ فعصيت أمري؟" فقال هارون - كما حكى الله -: "يا بن أم لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي".

فقال له بنو إسرائيل: "ما أخلفنا موعدك بملكنا" قال: ما خالفناك "و لكنا حملنا أوزارا من زينة القوم" يعني من حليهم "فقذفناها" قال: التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه.

ثم أخرج السامري العجل و له خوار فقال له موسى: "ما خطبك يا سامري؟" قال السامري: "بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول" يعني من تحت حافر رمكة جبرئيل في البحر "فنبذتها" أي أمسكتها "و كذلك سولت لي نفسي" أي زينت.



فأخرج موسى العجل فأحرقه بالنار و ألقاه في البحر، ثم قال موسى للسامري: "اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس" يعني ما دمت حيا و عقبك هذه العلامة فيكم قائمة: أن تقول: لا مساس حتى يعرفوا أنكم سامرية فلا يغتر بكم الناس فهم إلى الساعة بمصر و الشام معروفين لا مساس، ثم هم موسى بقتل السامري فأوحى الله إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخي، فقال له موسى: "انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما".

أقول: ظاهر هذا الذي نقلناه أن قوله: "و السبب في ذلك" إلخ، ليس ذيلا للرواية التي في أول الكلام "قال بالعجل الذي عبدوه" بل هو من كلام القمي اقتبسه من أخبار آخرين كما هو دأبه في أغلب ما أورده في تفسيره من أسباب نزول الآيات و على ذلك شواهد في خلال القصة التي ذكرها، نعم قوله في أثناء القصة: "قال ما خالفناك" رواية، و كذا قوله: "قال التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه" رواية، و كذا قوله: "ثم هم موسى" إلخ، مضمون رواية مروية عن الصادق (عليه السلام).

ثم على تقدير كونه رواية و تتمة للرواية السابقة هي رواية مرسلة مضمرة.

و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن علي (عليه السلام) قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي بني إسرائيل فضربه عجلا ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار فقال لهم السامري: هذا إلهكم و إله موسى فقال لهم هارون: يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا حسنا الحديث.

أقول: و ما نسب فيه من القول إلى هارون حكاه القرآن عن موسى (عليه السلام).

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو و أصحابه و كان فرعون على فرس أدهم حصان هاب الحصان أن يقتحم البحر فمثل له جبريل على فرس أنثى فلما رآها الحصان هجم خلفها و عرف السامري جبريل لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار و أطبقت عليه فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة لبنا و في الأخرى عسلا و في الأخرى سمنا فلم يزل يغذوه حتى نشأ فلما عاينه في البحر عرفه فقبض قبضة من أثر فرسه قال: أخذ من تحت الحافر قبضة و ألقي في روع السامري أنك لا تلقيها على شيء فتقول: كن كذا إلا كان. فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر فلما جاوز موسى و بنو إسرائيل البحر أغرق الله آل فرعون قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين و مضى موسى لموعد ربه، و كان مع بني إسرائيل حلي من حلي آل فرعون فكأنهم تأثموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه قال السامري بالقبضة هكذا فقذفها فيه فقال: كن عجلا جسدا له خوار فصار عجلا جسدا له خوار فكان يدخل الريح من دبره و يخرج من فيه يسمع له صوت فقال: هذا إلهكم و إله موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به و إن ربكم الرحمن فاتبعوني و أطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى.

أقول: و الخبر - كما - ترى لا يتضمن كون تراب الحافر ذا خاصية الإحياء لكنه مشتمل على أعظم منه و هو كونه ذا خاصية كلمة التكوين فالسامري على هذا إنما استعمله ليخرج الحلي من النار في صورة عجل جسد له خوار فخرج كما أراد من غير سبب طبيعي عادي و أما الحياة فلا ذكر لها فيه بل ظاهر قوله بدخول الريح في جوفه و خروجه بصوت عدم اتصافه بالحياة.



على أن ما فيه من إخفاء أم السامري إياه لما ولدته في غار خوفا من أن يذبحه فرعون و أن جبريل كان يأتيه فيغذوه بأصابعه حتى نشأ مما لا يعتمد عليه و كون السامري من بني إسرائيل غير معلوم بل أنكره ابن عباس نفسه في خبر سعيد بن جبير المفصل في القصة و روى عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان من أهل كرمان.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري و عجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري فلما خبره خبرهم قال: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أ رأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا، قال يا رب فأنت إذا أضللتهم. ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال: حزينا قال: يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا حسنا إلى قوله ما أخلفنا موعدك بملكنا يقول: بطاقتنا و لكنا حملنا أوزارا من زينة القوم يقول: من حلي القبط فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فعكفوا عليه يعبدونه و كان يخور و يمشي فقال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به يقول: ابتليتم بالعجل قال: فما خطبك يا سامري ما بالك إلى قوله و انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه. قال: فأخذه و ذبحه ثم حرقه بالمبرد يعني سحكه ثم ذراه في اليم فلم يبق نهر يجري يومئذ إلا وقع فيه منه شيء ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول: و أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم.

الحديث.

أقول: و من عجيب ما اشتمل عليه قصة إنبات الذهب على شوارب محبي العجل عن شرب الماء، و حمله قوله تعالى: "و أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" عليه و لفظة "في قلوبهم" نعم الدليل على أن المراد بالإشراب حلول حبه و نفوذه في قلوبهم دون شرب الماء الذي نسف فيه بعد السحك.

و أعجب منه جمعه بين ذبحه و سحكه و لا يكون ذبح إلا في حيوان ذي لحم و دم و لا يتيسر السحك و البرد إلا في جسد مسبوك من ذهب أو فلز آخر.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن علي قال: إن جبريل لما نزل فصعد بموسى إلى السماء بصر به السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس و حمل جبريل موسى خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد و كتب الله الألواح و هو يسمع صرير الأقلام في الألواح فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه.

أقول: و هو يتضمن ما هو أعجب من سوابقه و هو عروج جبريل بموسى إلى السماء و سياق آيات القصة في هذه السورة و غيرها لا يساعده، و أعجب منه أخذ التراب من أثر حافر فرس جبريل حين نزل للعروج بموسى و هو في الطور و السامري مع بني إسرائيل، و لو صح هذا النزول و الصعود فقد كان في آخر الميقات و إضلال السامري بني إسرائيل قبل ذلك بأيام.

و نظير هذا الإشكال وارد على سائر الأخبار التي تتضمن أخذه التربة من تحت حافر فرس جبريل حين تمثل لفرعون حتى دخل فرسه البحر فإن فرعون و أصحابه إنما دخلوا البحر بعد خروج بني إسرائيل و معهم السامري - لو كان هناك - من البحر على ما لعرض البحر من المسافة فأين كان السامري من فرعون؟.



و أعظم ما يرد على هذه الأخبار - كما تقدمت الإشارة إليه - أولا كونها مخالفة للكتاب حيث إن الكتاب ينص على كون العجل جسدا غير ذي روح و هي تثبت له جسما ذا حياة و روح و لا حجية لخبر و إن كان صحيحا اصطلاحا مع مخالفة الكتاب و لو لا ذلك لسقط الكتاب عن الحجية مع مخالفة الخبر فيتوقف حجية الكتاب على موافقة الخبر أو عدم مخالفته مع توقف حجية الخبر بل نفس قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يحكيه الخبر بل نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على حجية ظاهر الكتاب و هو دور ظاهر، و تمام البحث في علم الأصول.

و ثانيا: كونها أخبار آحاد و لا معنى لجعل حجية أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية فإن حقيقة الجعل التشريعي إيجاب ترتيب أثر الواقع على الحجة الظاهرية و هو متوقف على وجود أثر عملي للحجة كما في الأحكام، و أما غيرها فلا أثر فيه حتى يترتب على جعل الحجية مثلا إذا وردت الرواية بكون البسملة جزءا من السورة كان معنى جعل حجيتها وجوب الإتيان بالبسملة في القراءة في الصلاة و أما إذا ورد مثلا أن السامري كان رجلا من كرمان و هو خبر واحد ظني كان معنى جعل حجيته أن يجعل الظن بمضمونه قطعا و هو حكم تكويني ممتنع و ليس من التشريع في شيء و تمام الكلام في علم الأصول.

و قد أورد بعض من لا يرتضي تفسير الجمهور للآية بمضمون هذه الأخبار عليها إيرادات أخر ردية و أجاب عنها بعض المنتصرين لهم بوجوه هي أردأ منها.

و قد أيد بعضهم التفسير المذكور بأنه تفسير بالمأثور من خير القرون - القرن الأول قرن الصحابة و التابعين - و ليس مما يقال فيه بالرأي فهو في حكم الخبر المرفوع و العدول عنه ضلال.

و فيه أولا: أن كون قرن ما خير القرون لا يوجب حجية كل قول انتهى إليه و لا ملازمة بين خيرية القرن و بين كون كل قول فيه حقا صدقا و كل رأي فيه صوابا و كل عمل فيه صالحا، و يوجد في الأخبار المأثورة عنهم كمية وافرة من الأقوال المتناقضة و الروايات المتدافعة و صريح العقل يقضي ببطلان أحد المتناقضين و كذب أحد المتدافعين، و يوجب على الباحث الناقد أن يطالبهم الحجة على قولهم كما يطالب غيرهم و لهم فضلهم فيما فضلوا.

و ثانيا: أن كون المورد الذي ورد عنهم الأثر فيه مما لا يقال فيه بالرأي كجزئيات القصص مثلا مقتضيا لكون أثرهم في حكم الخبر المرفوع إنما ينفع إذا كانوا منتهين في رواياتهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنا نجدهم حتى الصحابة كثيرا ما يروون من الروايات ما ينتهي إلى اليهود و غيرهم كما لا يرتاب فيه من راجع الأخبار المأثورة في قصص ذي القرنين و جنة إرم و قصة موسى و الخضر و العمالقة و معجزات موسى و ما ورد في عثرات الأنبياء و غير ذلك مما لا يعد و لا يحصى فكونها في حكم المرفوعة لا يستلزم رفعها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و ثالثا: سلمنا كونها في حكم المرفوعة لكن المرفوعة منها و حتى الصحيحة في غير الأحكام لا حجية فيها و خاصة ما كان مخالفا للكتاب منها كما تقدم.

و في المحاسن، بإسناده عن الوصافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن فيما ناجى الله به موسى أن قال: يا رب هذا السامري صنع العجل، الخوار من صنعه؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إليه: أن تلك فتنتي فلا تفحص عنها.

أقول: و هذا المعنى وارد في مختلف الروايات بألفاظ مختلفة، و عمدة الوجه في ذلك شيوع النقل بالمعنى و خاصة في النبويات من جهة منعهم كتابة الحديث في القرن الأول الهجري حتى ضربه بعض الرواة في قالب الجبر و ليس به فإنه إضلال مجازاة و ليس بإضلال ابتدائي.



و قد نسب هذا النوع من الإضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا كما قال: "يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26.

و أحسن تعبير عن معنى هذا الإضلال في الروايات ما تقدم في رواية القمي: "فقال يعني موسى: يا رب العجل من السامري فالخوار ممن؟ فقال: مني يا موسى إني لما رأيتهم قد ولوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة.

و ما وقع في رواية راشد بن سعد المنقولة في الدر المنثور،: و فيه "قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت يا رب أضللتهم قال! يا موسى: يا رأس النبيين و يا أبا الحكام، إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم".

الحديث.

و في المجمع، قال الصادق (عليه السلام): إن موسى هم بقتل السامري فأوحى الله سبحانه إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخي.

20 سورة طه - 99 - 114

كَذَلِك نَقُص عَلَيْك مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سبَقَ وَ قَدْ ءَاتَيْنَك مِن لّدُنّا ذِكراً (99) مّنْ أَعْرَض عَنْهُ فَإِنّهُ يحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وِزْراً (100) خَلِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لهَُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنفَخُ فى الصورِ وَ نحْشرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَفَتُونَ بَيْنهُمْ إِن لّبِثْتُمْ إِلا عَشراً (103) نحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طرِيقَةً إِن لّبِثْتُمْ إِلا يَوْماً (104) وَ يَسئَلُونَك عَنِ الجِْبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبى نَسفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صفْصفاً (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (107) يَوْمَئذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِىَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشعَتِ الأَصوَات لِلرّحْمَنِ فَلا تَسمَعُ إِلا هَمْساً (108) يَوْمَئذٍ لا تَنفَعُ الشفَعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ وَ رَضىَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لا يحِيطونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيّومِ وَ قَدْ خَاب مَنْ حَمَلَ ظلْماً (111) وَ مَن يَعْمَلْ مِنَ الصلِحَتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يخَاف ظلْماً وَ لا هَضماً (112) وَ كَذَلِك أَنزَلْنَهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّا وَ صرّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ أَوْ يحْدِث لهَُمْ ذِكْراً (113) فَتَعَلى اللّهُ الْمَلِك الْحَقّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضى إِلَيْك وَحْيُهُ وَ قُل رّب زِدْنى عِلْماً (114)

بيان

تذييل لقصة موسى بآيات متضمنة للوعيد يذكر فيها من أهوال يوم القيامة لغرض الإنذار.

قوله تعالى: "كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق و قد آتيناك من لدنا ذكرا" الظاهر أن الإشارة إلى خصوصية قصة موسى و المراد بما قد سبق الأمور و الحوادث الماضية و الأمم الخالية أي على هذا النحو قصصنا قصة موسى و على شاكلته نقص عليك من أخبار ما قد مضى من الحوادث و الأمم.

و قوله: "و قد آتيناك من لدنا ذكرا" المراد به القرآن الكريم أو ما يشتمل عليه من المعارف المتنوعة التي يذكر بها الله سبحانه من حقائق و قصص و عبر و أخلاق و شرائع و غير ذلك.

قوله تعالى: "من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا" ضمير "عنه" للذكر و الوزر الثقل و الإثم و الظاهر بقرينة الحمل إرادة المعنى الأول و تنكيره للدلالة على عظم خطره، و المعنى: من أعرض عن الذكر فإنه يحمل يوم القيامة ثقلا عظيم الخطر و مر الأثر، شبه الإثم من حيث قيامه بالإنسان بالثقل الذي يحمله الإنسان و هو شاق عليه فاستعير له اسمه.

قوله تعالى: "خالدين فيه و ساء لهم يوم القيامة حملا" المراد من خلودهم في الوزر خلودهم في جزائه و هو العذاب بنحو الكناية و التعبير في "خالدين" بالجمع باعتبار معنى قوله: "من أعرض عنه" كما أن التعبير في "أعرض" و "فإنه يحمل" باعتبار لفظه، فالآية كقوله: "و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا": الجن: 23.

و مع الغض عن الجهات اللفظية فقوله: "من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه" من أوضح الآيات دلالة على أن الإنسان إنما يعذب بعمله و يخلد فيه و هو تجسم الأعمال.

و قوله: "و ساء لهم يوم القيامة حملا" ساء من أفعال الذم كبئس، و المعنى: و بئس الحمل حملهم يوم القيامة، و الحمل بكسر الحاء و فتحها واحد، غير أن ما بالكسر هو المحمول في الظاهر كالمحمول على الظهر و ما بالفتح هو المحمول في الباطن كالولد في البطن.

قوله تعالى: "يوم ينفخ في الصور و نحشر المجرمين يومئذ زرقا" "يوم ينفخ" إلخ، بدل من يوم القيامة في الآية السابقة، و نفخ في الصور كناية عن الإحضار و الدعوة و لذا أتبعه فيما سيأتي بقوله: "يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له": الآية - 108 من السورة.

و الزرق جمع أزرق من الزرقة و هي اللون الخاص، و عن الفراء أن المراد بكونهم زرقا كونهم عميا لأن العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها و هو معنى حسن و يؤيده قوله تعالى: "و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا": الإسراء: 97.

و قيل: المراد زرقة أبدانهم من التعب و العطش، و قيل: زرقة عيونهم لأن أسوأ ألوان العين و أبغضها عند العرب زرقتها، و قيل: المراد به كونهم عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين و يريها كالأزرق و هي وجوه غير مرضية.



قوله تعالى: "يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا - إلى قوله - إلا يوما" التخافت تكليم القوم بعضهم بعضا بخفض الصوت و ذلك من أهل المحشر لهول المطلع، و قوله: "إن لبثتم إلا عشرا" بيان لكلامهم الذي يتخافتون فيه، و معنى الجملة على ما يعطيه السياق: يقولون ما لبثتم في الدنيا قبل الحشر إلا عشرة أيام، يستقلون لبثهم فيها بقياسه إلى ما يلوح لهم من حكم الخلود و الأبدية.

و قوله: "نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما" أي لنا إحاطة علمية بجميع ما يقولون في تقرير لبثهم إذ يقول أمثلهم طريقة أي الأقرب منهم إلى الصدق إن لبثتم في الأرض إلا يوما و إنما كان قائل هذا القول أمثل القوم طريقة و أقربها إلى الصدق لأن اللبث المحدود الأرضي لا مقدار له إذا قيس من اللبث الأبدي الخالد، و عده يوما و هو أقل من العشرة أقرب إلى الواقع من عده عشرة، و القول مع ذلك نسبي غير حقيقي و حقيقة القول فيه ما حكاه سبحانه في قوله: "و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون:" الروم: 56، و سيجيء استيفاء البحث في معنى هذا اللبث في تفسير الآية إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "و يسألونك عن الجبال - إلى قوله - و لا أمتا" تدل الآية على أنهم سألوه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حال الجبال يوم القيامة فأجيب عنه بالآيات.

و قوله: "فقل ينسفها ربي نسفا" أي يذرؤها و يثيرها فلا يبقى منها في مستقرها شيء، و قوله: "فيذرها قاعا صفصفا" القاع الأرض المستوية و الصفصف الأرض المستوية الملساء، و المعنى فيتركها أرضا مستوية ملساء لا شيء عليها، و كأن الضمير للأرض باعتبار أنها كانت جبالا، و قوله: "لا ترى فيها عوجا و لا أمتا" قيل: العوج ما انخفض من الأرض و الأمت ما ارتفع منها، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد كل من له أن يرى و المعنى لا يرى راء فيها منخفضا كالأودية و لا مرتفعا كالروابي و التلال.

قوله تعالى: "يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له و خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا" نفي العوج إن كان متعلقا بالاتباع - بأن يكون "لا عوج له" حالا عن ضمير الجمع و عامله يتبعون - فمعناه أن ليس لهم إذا دعوا إلا الاتباع محضا من غير أي توقف أو استنكاف أو تثبط أو مساهلة فيه لأن ذلك كله فرع القدرة و الاستطاعة أو توهم الإنسان ذلك لنفسه و هم يعاينون اليوم أن الملك و القدرة لله سبحانه لا شريك له قال تعالى: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار:" المؤمن: 16، و قال: "و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا:" البقرة: 165.

و إن كان متعلقا بالداعي كان معناه أن الداعي لا يدع أحدا إلا دعاه من غير أن يهمل أحدا بسهو أو نسيان أو مساهلة في الدعوة.

لكن تعقيب الجملة بقوله: "و خشعت الأصوات للرحمن" إلخ يناسب المعنى الأول فإن ارتفاع الأصوات عند الدعوة و الإحضار إنما يكون للتمرد و الاستكبار عن الطاعة و الاتباع.

و قوله: "و خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا قال الراغب: الهمس الصوت الخفي و همس الأقدام أخفى ما يكون من صوتها قال تعالى: "فلا تسمع إلا همسا".

انتهي.

و الخطاب في قوله: "لا تسمع" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد كل سامع يسمع و المعنى و انخفضت الأصوات لاستغراقهم في المذلة و المسكنة لله فلا يسمع السامع إلا صوتا خفيا.



قوله تعالى: "يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولا" نفي نفع الشفاعة كناية عن أن القضاء بالعدل و الحكم الفصل على حسب الوعد و الوعيد الإلهيين جار نافذ يومئذ من غير أن يسقط جرم مجرم أو يغمض عن معصية عاص لمانع يمنع منه فمعنى نفع الشفاعة تأثيرها.

و قوله: "إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولا" الاستثناء يدل على أن العناية في الكلام متعلقة بنفي الشفعاء لا بتأثير الشفاعة في المشفوع لهم و المراد الإذن في الكلام للشفاعة كما يبينه قوله بعده: "و رضي له قولا" فإن التكلم يومئذ منوط بإذنه تعالى، قال: "يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه": هود: 105 و قال: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا": النبأ: 38.

و قد مر القول في معنى الإذن في التكلم في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب.

و أما كون القول مرضيا فمعناه أن لا يخالطه ما يسخط الله من خطإ أو خطيئة قضاء لحق الإطلاق و لا يكون ذلك إلا ممن أخلص الله سريرته من الخطإ في الاعتقاد و الخطيئة في العمل و طهر نفسه من رجس الشرك و الجهل في الدنيا أو من ألحقه بهم فإن البلاء و الابتلاء اليوم مع السرائر قال تعالى: "يوم تبلى السرائر" و للبحث ذيل طويل سيمر بك بعضه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: "يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون به علما" إن كان ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى "من أذن له" باعتبار معناه كان المراد أن مرضي قولهم لا يخفى على الله فإن علمه محيط بهم و هم لا يحيطون به علما فليس في وسعهم أن يغروه بقول مزوق غير مرضي.

و إن كانت راجعة إلى المجرمين فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الجزاء و هو ما بين أيديهم و قبل أن يحضروا الموقف في الدنيا حيا أو ميتا و هو ما خلفهم فهم محاطون لعلمه و لا يحيطون به علما فيجزيهم بما فعلوا و قد عنت وجوههم للحي القيوم فلا يستطيعون ردا لحكمه و عند ذلك خيبتهم.

و هذا الاحتمال أنسب لسياق الآيات.

قوله تعالى: "و عنت الوجوه للحي القيوم" العنوة هي الذلة قبال قهر القاهر و هي شأن كل شيء دون الله سبحانه يوم القيامة بظهور السلطنة الإلهية كما قال: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار:" المؤمن: 16، فلا يملك شيء شيئا بحقيقة معنى الكلمة و هو الذلة و المسكنة على الإطلاق و إنما نسبت العنوة إلى الوجوه لأنها أول ما تبدو و تظهر في الوجوه، و لازم هذه العنوة أن لا يمنع حكمه و لا نفوذه فيهم مانع و لا يحول بينه و بين ما أراد بهم حائل.

و اختير من أسمائه الحي القيوم لأن مورد الكلام الأموات أحيوا ثانيا و قد تقطعت عنهم الأسباب اليوم و المناسب لهذا الظرف من صفاته حياته المطلقة و قيامه بكل أمر.

قوله تعالى: "و قد خاب من حمل ظلما و من يعمل من الصالحات و هو مؤمن فلا يخاف ظلما و لا هضما" بيان لجزائهم أما قوله: "و قد خاب من حمل ظلما" فالمراد بهم المجرمون غير المؤمنين فلهم الخيبة بسوء الجزاء لا كل من حمل ظلما ما أي ظلم كان من مؤمن أو كافر فإن المؤمن لا يخيب يومئذ بالشفاعة.

و لو كان المراد العموم و أن كل من حمل ظلما ما فهو خائب فالمراد بالخيبة الخيبة من السعادة التي يضادها ذلك الظلم دون الخيبة من السعادة مطلقا.



و أما قوله: "و من يعمل من الصالحات و هو مؤمن" إلخ فهو بيان استطرادي لحال المؤمنين الصلحاء جيء به لاستيفاء الأقسام و تتميم القول في الفريقين الصلحاء و المجرمين، و قد قيد العمل الصالح بالإيمان لأن الكفر يحبط العمل الصالح بمقتضى آيات الحبط، و الهضم هو النقص، و معنى الآية ظاهر.

و قد تم باختتام هذه الآية بيان إجمال ما يجري عليهم يوم الجزاء من حين يبعثون إلى أن يجزوا بأعمالهم فقد ذكر إحضارهم بقوله: "يوم ينفخ في الصور" أولا ثم حشرهم و قرب ذلك منهم حتى أنه يرى أمثلهم طريقة أنهم لبثوا في الأرض يوما واحدا بقوله: "يتخافتون بينهم" إلخ ثانيا.

ثم تسطيح الأرض لاجتماعهم عليها بقوله: "و يسألونك عن الجبال" إلخ، ثالثا.

ثم طاعتهم و اتباعهم الداعي للحضور بقوله: "يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له" إلخ، رابعا.

ثم عدم تأثير الشفاعة لإسقاط الجزاء بقوله: "يومئذ لا تنفع الشفاعة" إلخ خامسا.

ثم إحاطة علمهم بحالهم من غير عكس و هي مقدمة للحساب و الجزاء بقوله: "يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم" إلخ سادسا.

ثم سلطانه عليهم و ذلتهم عنده و نفوذ حكمه فيهم بقوله: "و عنت الوجوه للحي القيوم" سابعا.

ثم الجزاء بقوله: "و قد خاب" إلخ ثامنا، و بهذا يظهر وجه ترتب الآيات و ذكر ما ذكر فيها.

قوله تعالى: "و كذلك أنزلناه قرآنا عربيا و صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا" ظاهر سياقها أن الإشارة بكذلك إلى خصوصيات بيان الآيات، و "قرآنا عربيا" حال من الضمير في "أنزلناه" و التصريف، هو التحويل من حال إلى حال، و المعنى و على ذلك النحو من البيان المعجز أنزلنا الكتاب و الحال أنه قرآن مقرو عربي و أتينا فيه ببعض ما أوعدناهم في صورة بعد صورة.

و قوله: "لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا" قد أورد فيما تقدم من قوله: "لعله يتذكر أو يخشى" الذكر مقابلا للخشية و يستأنس منه أن المراد بالاتقاء هاهنا هو التحرز من المعاداة و اللجاج الذي هو لازم الخشية باحتمال الضرر دون الاتقاء المترتب على الإيمان بإتيان الطاعات و اجتناب المعاصي، و يكون المراد بإحداث الذكر لهم حصول التذكر فيهم و تتم المقابلة بين الذكر و التقوى من غير تكلف.

و المعنى - و الله أعلم - لعلهم يتحرزون المعاداة مع الحق لحصول الخشية في قلوبهم باحتمال الخطر لاحتمال كونه حقا أو يحدث لهم ذكرا للحق فيعتقدوا به.

قوله تعالى: "فتعالى الله الملك الحق" تسبيح و تنزيه له عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، و هو يقبل التفرع على إنزال القرآن و تصريف الوعيد فيه لهداية الناس و التفرع عليه و على ما ذكر قبله من حديث الحشر و الجزاء و هذا هو الأنسب نظرا إلى انسلاك الجميع في سلك واحد و هو أنه تعالى ملك يتصرف في ملكه بهداية الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم ثم إحضارهم و جزائهم على ما عملوا من خير أو شر.

فتعالى الله الذي يملك كل شيء ملكا مطلقا لا مانع من تصرفه و لا معقب لحكمه يرسل الرسل و ينزل الكتب لهداية الناس و هو من شئون ملكه ثم يبعثهم بعد موتهم و يحضرهم فيجزيهم على ما عملوا و قد عنوا للحي القيوم و هذا أيضا من شئون ملكه فهو الملك في الأولى و الآخرة و هو الحق الثابت على ما كان لا يزول عما هو عليه.

و يمكن أن يتفرع على جميع ما تقدم من قصة موسى و ما فرع عليها إلى هنا و يكون بمنزلة ختم ذلك بالتسبيح و الاستعظام.



قوله تعالى: "و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه و قل رب زدني علما" السياق يشهد بأن في الكلام تعرضا لتلقي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحي القرآن، فضمير "وحيه" للقرآن، و قوله: "و لا تعجل بالقرآن" نهي عن العجل بقراءته، و معنى قوله: "من قبل أن يقضى إليك وحيه" من قبل أن يتم وحيه من ملك الوحي.

فيفيد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا جاءه الوحي بالقرآن يعجل بقراءة ما يوحى إليه قبل أن يتم الوحي فنهى عن أن يعجل في قراءته قبل انقضاء الوحي و تمامه فيكون الآية في معنى قوله تعالى في موضع آخر: "لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه:" القيامة: 18.

و يؤيد هذا المعنى قوله بعد: "و قل رب زدني علما" فإن سياق قوله: لا تعجل به و قل رب زدني، يفيد أن المراد هو الاستبدال أي بدل الاستعجال في قراءة ما لم ينزل بعد، طلبك زيادة العلم و يئول المعنى إلى أنك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد لأن عندك علما به في الجملة لكن لا تكتف به و اطلب من الله علما جديدا بالصبر و استماع بقية الوحي.

و هذه الآية مما يؤيد ما ورد من الروايات أن للقرآن نزولا دفعة واحدة غير نزوله نجوما على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو لا علم ما منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم ينزل منه بعد معنى.

و قيل: المراد بالآية و لا تعجل بقراءة القرآن لأصحابك و إملائه عليهم من قبل أن يتبين لك معانيه، و أنت خبير بأن لفظ الآية لا تعلق له بهذا المعنى.

و قيل: المراد و لا تسأل إنزال القرآن قبل أن يقضي الله وحيه إليك، و هو كسابقه غير منطبق على لفظ الآية.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إذ يقول أمثلهم طريقة" قال: أعلمهم و أصلحهم يقولون: "إن لبثتم إلا يوما". و في المجمع،: قيل إن رجلا من ثقيف سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف تكون الجبال مع عظمها يوم القيامة؟ فقال: إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها.

أقول: و روى هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن المنذر عن ابن جريح و لفظه: قالت قريش: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: "و يسألونك عن الجبال" الآية و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لا ترى فيها عوجا و لا أمتا" قال: الأمت: الارتفاع، و العوج: الحزون و الذكوات. و فيه،: في قوله تعالى: "يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له" قال: مناد من عند الله عز و جل. و فيه،: في قوله تعالى: "و خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا": حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي محمد الوابشي عن أبي الورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد واحد حفاة عراة فيوقفون في المحشر حتى يعرقوا عرقا شديدا و تشتد أنفاسهم فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما و هو قول الله: "و خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا" الحديث.



و في الكافي، أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد. فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى و لمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن و الإنس "لا تدركه الأبصار" "و لا يحيطون به علما" "و ليس كمثله شيء"؟ أ ليس محمد؟ قال بلى. قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله و أنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: "لا تدركه الأبصار" "و لا يحيطون به علما" "و ليس كمثله شيء" ثم يقول: أنا رأيته بعيني و أحطت به علما و هو على صورة البشر؟ أ ما تستحيون، ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر، إلى قوله: و قد قال الله: "و لا يحيطون به علما" فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة. فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام) إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، و ما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما و لا تدركه الأبصار و ليس كمثله شيء.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لا تعجل بالقرآن" الآية، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية، و المعنى: فأنزل الله "و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" - أي يفرغ من قراءته "و قل رب زدني علما".

أقول: و روى هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن السدي: إلا أن فيه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفعل ذلك خوفا من النسيان و أنت تعلم أن نسيان الوحي لا يلائم عصمة النبوة.

و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته فجاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تطلب قصاصا، فجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهما القصاص، فأنزل الله "و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه - و قل رب زدني علما"، فوقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزلت "الرجال قوامون على النساء" الآية.

أقول: و الحديث لا يخلو من شيء فلا الآية الأولى بمضمونها تنطبق على المورد و لا الثانية، و قد سبق البحث عن كليهما.

و في المجمع، روت عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه.

أقول: و الحديث لا يخلو من شيء و كيف يظن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو على نفسه في أمر ليس إليه، و لعل في الرواية تحريفا من جهة النقل بالمعنى.

20 سورة طه - 115 - 126

وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسىَ وَ لَمْ نجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئكةِ اسجُدُوا لاَدَمَ فَسجَدُوا إِلا إِبْلِيس أَبى (116) فَقُلْنَا يَئَادَمُ إِنّ هَذَا عَدُوّ لّك وَ لِزَوْجِك فَلا يخْرِجَنّكُمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَشقَى (117) إِنّ لَك أَلا تجُوعَ فِيهَا وَ لا تَعْرَى (118) وَ أَنّك لا تَظمَؤُا فِيهَا وَ لا تَضحَى (119) فَوَسوَس إِلَيْهِ الشيْطنُ قَالَ يَئَادَمُ هَلْ أَدُلّك عَلى شجَرَةِ الخُْلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكلا مِنهَا فَبَدَت لهَُمَا سوْءَتُهُمَا وَ طفِقَا يخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِن وَرَقِ الجَْنّةِ وَ عَصى ءَادَمُ رَبّهُ فَغَوَى (121) ثمّ اجْتَبَهُ رَبّهُ فَتَاب عَلَيْهِ وَ هَدَى (122) قَالَ اهْبِطا مِنْهَا جَمِيعَا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمّا يَأْتِيَنّكم مِّنى هُدًى فَمَنِ اتّبَعَ هُدَاى فَلا يَضِلّ وَ لا يَشقَى (123) وَ مَنْ أَعْرَض عَن ذِكرِى فَإِنّ لَهُ مَعِيشةً ضنكاً وَ نحْشرُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَب لِمَ حَشرْتَنى أَعْمَى وَ قَدْ كُنت بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِك أَتَتْك ءَايَتُنَا فَنَسِيتهَا وَ كَذَلِك الْيَوْمَ تُنسى (126)

بيان

قصة دخول آدم و زوجه الجنة و خروجهما منها بوسوسة من الشيطان و قضائه تعالى عند ذلك بتشريع الدين و سعادة من اتبع الهدى و شقاء من أعرض عن ذكر الله.

و قد وردت القصة في هذه السورة بأوجز لفظ و أجمل بيان، و عمدة العناية فيها - كما يشهد به تفصيل ذيلها - متعلقة ببيان ما حكم به من تشريع الدين و الجزاء بالثواب و العقاب، و يؤيده أيضا التفريع بعدها بقوله: "و كذلك نجزي من أسرف و لم يؤمن بآيات ربه" إلخ، نعم للقصة تعلق ما أيضا من جهة ذكرها توبة آدم بقوله فيما تقدم: "و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى".

و القصة - كما يظهر من سياقها في هذه السورة و غيرها مما ذكرت فيها كالبقرة و الأعراف - تمثل حال الإنسان بحسب طبعه الأرضي المادي فقد خلقه الله سبحانه في أحسن تقويم و غمره في نعمه التي لا تحصى و أسكنه جنة الاعتدال و منعه عن تعديه بالخروج إلى جانب الإسراف باتباع الهوى و التعلق بسراب الدنيا و نسيان جانب الرب تعالى بترك عهده إليه و عصيانه و اتباع وسوسة الشيطان الذي يزين له الدنيا و يصور له و يخيل إليه أنه لو تعلق بها و نسي ربه اكتسب بذلك سلطانا على الأسباب الكونية يستخدمها و يستذل بها كل ما يتمناه من لذائذ الحياة و أنها باقية له و هو باق لها، حتى إذا تعلق بها و نسي مقام ربه ظهرت له سوآت الحياة و لاحت له مساوىء الشقاء بنزول النوازل و خيانة الدهر و نكول الأسباب و تولي الشيطان عنه فطفق يخصف عليه من ظواهر النعم يستدرك بموجود نعمة مفقود أخرى و يميل من عذاب إلى ما هو أشد منه و يعالج الداء المؤلم بآخر أكثر منه ألما حتى يؤمر بالخروج من جنة النعمة و الكرامة إلى مهبط الشقاء و الخيبة.

فهذه هي التي مثلت لآدم (عليه السلام) إذ أدخله الله الجنة و ضرب له بالكرامة حتى آل أمره إلى ما آل إلا أن واقعته (عليه السلام) كانت قبل تشريع أصل الدين و جنته جنة برزخية ممثلة في عيشة غير دنيوية فكان النهي لذلك إرشاديا لا مولويا و مخالفته مؤدية إلى أمر قهري ليس بجزاء تشريعي كما تقدم تفصيله في تفسير سورتي البقرة و الأعراف.

قوله تعالى: "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما" المراد بالعهد الوصية و بهذا المعنى يطلق على الفرامين و الدساتير العهود، و النسيان معروف و ربما يكنى به عن الترك لأنه لازمه إذ الشيء إذا نسي ترك، و العزم القصد الجازم إلى الشيء قال تعالى: "فإذا عزمت فتوكل على الله:" آل عمران: 159 و ربما أطلق على الصبر و لعله لكون الصبر أمرا شاقا على النفوس فيحتاج إلى قصد أرسخ و أثبت فسمي الصبر باسم لازمه قال تعالى: "إن ذلك لمن عزم الأمور".

فالمعنى و أقسم لقد وصينا آدم من قبل فترك الوصية و لم نجد له قصدا جازما إلى حفظها أو صبرا عليها و العهد المذكور - على ما يظهر من قصته (عليه السلام) في مواضع من كلامه تعالى - هو النهي عن أكل الشجرة، بمثل قوله: "لا تقربا هذه الشجرة:" الأعراف: 19.



قوله تعالى: "و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى" معطوف على مقدر و التقدير اذكر عهدنا إليه و اذكر وقتا أمرنا الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس حتى يظهر أنه نسي و لم يعزم على حفظ الوصية، و قوله: "أبى" جواب سؤال مقدر تقديره ما ذا فعل إبليس؟ فقيل: أبى.

قوله تعالى: "فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى" تفريع على إباء إبليس عن السجدة أي فلما أبى قلنا إرشادا لآدم إلى ما فيه صلاح أمره و نصحا: إن هذا الآبي عن السجدة - إبليس - عدو لك و لزوجك إلخ.

و قوله: "فلا يخرجنكما من الجنة" توجيه نهي إبليس عن إخراجهما من الجنة إلى آدم كناية عن نهيه عن طاعته أو عن الغفلة عن كيده و الاستهانة بمكره أي لا تطعه أو لا تغفل عن كيده و تسويله حتى يتسلط عليكما و يقوى على إخراجكما من الجنة و إشقائكما.

و قد ذكر الإمام الرازي في تفسيره وجوها لسبب عداوة إبليس لآدم و زوجه و هي وجوه سخيفة لا فائدة في الإطناب بنقلها، و الحق أن السبب فيها هو طرده من حضرة القرب و رجمه و جعل اللعن عليه إلى يوم القيامة كما يظهر من قوله لعنه الله على ما حكاه الله: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين": الحجر: 39.

و قوله: "قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا:" الإسراء: 62، و معلوم أن تكريم آدم عليه هو تكريم نوع الإنسان عليه كما أن أمره بالسجدة له كان أمرا بالسجدة لنوع الإنسان فأصل السبب هو تقدم الإنسان و تأخر الشيطان ثم الطرد و اللعن.

و قوله: "فتشقى" تفريع على خروجهما من الجنة و المراد بالشقاء التعب أي فتتعب إن خرجتما من الجنة و عشتما في غيرها و هو الأرض عيشة أرضية لتهاجم الحوائج و سعيك في رفعها كالحاجة إلى الطعام و الشراب و اللباس و المسكن و غيرها.

و الدليل على أن المراد بالشقاء التعب الآيتان التاليتان المشيرتان إلى تفسيره: "إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى".

و هو أيضا دليل على أن النهي إرشادي ليس في مخالفته إلا الوقوع في المفسدة المترتبة على نفس الفعل و هو تعب السعي في رفع حوائج الحياة و اكتساب ما يعاش به و ليس بمولوي تكون نفس مخالفته مفسدة يقع فيها العبد و تستتبع مؤاخذة أخروية.

على أنك عرفت أنه عهد قبل تشريع أصل الدين الواقع عند الأمر بالخروج من الجنة و الهبوط إلى الأرض.

و أما إفراد قوله: "فتشقى" و لم يقل فتشقيا بصيغة التثنية فلأن العهد إنما نزل على آدم (عليه السلام) و كان التكليم متوجها إليه، و لذلك جيء بصيغة الإفراد في جميع ما يرجع إليه كقوله: "فنسي و لم نجد له عزما" "فتشقى" "ألا تجوع فيها و لا تعرى" "لا تظمؤا فيها و لا تضحى" "فوسوس إليه" إلخ "و عصى" إلخ "ثم اجتباه ربه فتاب عليه" نعم جيء بلفظ التثنية فيما لا غنى عنه كقوله: "عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما" "فأكلا منها فبدت لهما" "و طفقا يخصفان عليهما" "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو" فتدبر و قيل إن إفراد: "تشقى" من جهة أن نفقة المرأة على المرء و لذا نسب الشقاء و هو التعب في اكتساب المعاش إلى آدم و فيه.

أن الآيتين التاليتين لا تلائمان ذلك و لو كان كما قال لقيل: إن لكما أن لا تجوعا إلخ، و قيل: إن الإفراد لرعاية الفواصل و هو كما ترى.



قوله تعالى: "إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى" يقال: ضحى يضحى كسعى يسعى ضحوا و ضحيا إذا أصابته الشمس أو برز لها و كأن المراد بعدم الضحو أن ليس هناك أثر من حرارة الشمس حتى تمس الحاجة إلى الاكتنان في مسكن يقي من الحر و البرد.

و قد رتبت الأمور الأربعة على نحو اللف و النشر المرتب لرعاية الفواصل و الأصل في الترتيب أن لا تجوع فيها و لا تظمأ و لا تعرى و لا تضحى.

قوله تعالى: "فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى" الشيطان هو الشرير لقب به إبليس لشرارته، و المراد بشجرة الخلد الشجرة المنهية و البلى صيرورة الشيء خلقا خلاف الجديد.

و المراد بشجرة الخلد شجرة يعطي أكلها خلود الحياة، و المراد بملك لا يبلى سلطنة لا تتأثر عن مرور الدهور و اصطكاك المزاحمات و الموانع فيئول المعنى إلى نحو قولنا هل أدلك على شجرة ترزق بأكل ثمرتها حياة خالدة و ملكا دائما فليس قوله: "لا يبلى" تكرارا لإفادة التأكيد كما قيل.

و الدليل على ما ذكره ما في سورة الأعراف في هذا المعنى من قوله: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين:" الأعراف: 20" و لا منافاة بين جمع خلود الحياة و دوام الملك هاهنا بواو الجمع و بين الترديد بينهما في سورة الأعراف لإمكان أن يكون الترديد هناك لمنع الخلو لا لمنع الجمع، أو يكون الجمع هاهنا باعتبار الاتصاف بهما جميعا و الترديد هناك باعتبار تعلق النهي كأنه قيل: إن في هذه الشجرة صفتين و إنما نهاكما ربكما عنها إما لهذه، أو لهذه أو إنما نهاكما ربكما عنها أن لا تخلدا في الجنة مع ملك خالد أو أن لا تخلدا بناء على أن الملك الخالد يستلزم حياة خالدة فافهم ذلك و كيف كان فلا منافاة بين الترديد في آية و الجمع في أخرى.

قوله تعالى: "فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" تقدم تفسيره في سورة الأعراف.

قوله تعالى: "و عصى آدم ربه فغوى" الغي خلاف الرشد الذي هو بمعنى إصابة الواقع و هو غير الضلال الذي هو الخروج من الطريق، و الهدى يقابلهما و يكون بمعنى الإرشاد إذا قابل الغي كما في الآية التالية و بمعنى إراءة الطريق، أو الإيصال إلى المطلوب بتركيب الطريق إذا قابل الضلال فليس من المرضي تفسير الغي في الآية بمعنى الضلال.

و معصية آدم - ربه كما أشرنا إليه آنفا و قد تقدم تفصيله - إنما هي معصية أمر إرشادي لا مولوي و الأنبياء (عليهم السلام) معصومون من المعصية و المخالفة في أمر يرجع إلى الدين الذي يوحى إليهم من جهة تلقيه فلا يخطئون، و من جهة حفظه فلا ينسون و لا يحرفون، و من جهة إلقائه إلى الناس و تبليغه لهم قولا فلا يقولون إلا الحق الذي أوحي إليهم و فعلا فلا يخالف فعلهم قولهم و لا يقترفون معصية صغيرة و لا كبيرة لأن في الفعل تبليغا كالقول، و أما المعصية بمعنى مخالفة الأمر الإرشادي الذي لا داعي فيه إلا إحراز المأمور خيرا أو منفعة من خيرات حياته و منافعها بانتخاب الطريق الأصلح كما يأمر و ينهى المشير الناصح نصحا فإطاعته و معصيته خارجتان من مجرى أدلة العصمة و هو ظاهر.



و ليكن هذا معنى قول القائل إن الأنبياء (عليهم السلام) على عصمتهم يجوز لهم ترك الأولى و منه أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة و الآية من معارك الآراء و قد اختلفت فيها التفاسير على حسب اختلاف مذاهبهم في عصمة الأنبياء و كل يجر النار إلى قرصته.

قوله تعالى: "ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى" الاجتباء - كما تقدم مرارا - بمعنى الجمع على طريق الاصطفاء ففيه جمعه تعالى عبده لنفسه لا يشاركه فيه أحد و جعله من المخلصين بفتح اللام، و على هذا المعنى يتفرع عليه قوله: "فتاب عليه و هدى"، كأنه كان ذا أجزاء متفرقة متشتتة فجمعها من هنا و هناك إلى مكان واحد ثم تاب عليه و رجع إليه و هداه و سلك به إلى نفسه.

و إنما فسرنا قوله: "هدى" و هو مطلق بهدايته إلى نفسه بقرينة الاجتباء، و لا ينافي مع ذلك إطلاق الهداية لأن الهداية إليه تعالى أصل كل هداية و محتدها، نعم يجب تقييد الهداية بما يكون في أمر الدين من اعتقاد حق و عمل صالح، و الدليل عليه تفريع الهداية في الآية على الاجتباء، فافهم ذلك.

و على هذا فلا يرد على ما قدمنا أن ظاهر وقوع هذه الهداية بعد ذكر تلك الغواية أن يكون نوع تلك الغواية مرفوعا عنه و إذ كانت غواية في أمر إرشادي فالآية تدل على إعطاء العصمة له في موارد الأمر المولوية و الإرشادية جميعا و صونه عن الخطإ في أمر الدين و الدنيا معا.

و وجه عدم الورود أن ظاهر تفرع الهداية على الاجتباء كونه مهديا إلى ما كان الاجتباء له و الاجتباء إنما يتعلق بما فيه السعادة الدينية و هو قصر العبودية في الله سبحانه فالهداية أيضا متعلقة بذلك و هي الهداية التي لا واسطة فيها بينه تعالى و بين العبد المهدي و لا تتخلف أصلا كما قال: "فإن الله لا يهدي من يضل:" النحل: 37، و الهداية إلى منافع الحياة أيضا و إن كانت راجعة إليه تعالى لكنها مما تتخلل الأسباب فيها بينها و بينه تعالى و الأسباب ربما تخلفت، فافهم ذلك.

قوله تعالى: "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو" تقدم تفسير مثله في سورتي البقرة و الأعراف.

و في قوله: "قال اهبطا" التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و الإفراد و لعل الوجه فيه اشتمال الآية على القضاء و الحكم و هو مما يختص به تعالى قال: "و الله يقضي بالحق": المؤمن: 20، و قال: "إن الحكم إلا لله": يوسف: 67.

قوله تعالى: "فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى" في الآية قضاء منه تعالى متفرع على الهبوط و لذا عطف بفاء التفريع، و أصل قوله: "فإما يأتينكم" فإن يأتكم زيد عليه ما و نون التأكيد للإشارة إلى وقوع الشرط كأنه قيل: إن يأتكم مني هدى - و هو لا محالة آت - فمن اتبع "إلخ".

و في قوله: "فمن اتبع هداي" نسبة الاتباع إلى الهدى على طريق الاستعارة بالكناية، و أصله: من اتبع الهادي الذي يهدي بهداي.



و قوله: "فلا يضل و لا يشقى" أي لا يضل في طريقه و لا يشقى في غايته التي هي عاقبة أمره، و إطلاق الضلال و الشقاء يقضي بنفي الضلال و الشقاء عنه في الدنيا و الآخرة جميعا و هو كذلك فإن الهدى الإلهي هو الدين الفطري الذي دعا إليه بلسان أنبيائه، و دين الفطرة هو مجموع الاعتقادات و الأعمال التي تدعو إليها فطرة الإنسان و خلقته بحسب ما جهز به من الجهازات، و من المعلوم أن سعادة كل شيء هو ما تستدعيه خلقته بما لها من التجهيز لا سعادة له وراءه، قال تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:" الروم: 30.

قوله تعالى: "و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى" قال الراغب: العيش الحياة المختصة بالحيوان و هو أخص من الحياة لأن الحياة يقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك و يشتق منه المعيشة لما يتعيش منه، قال تعالى: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا" "معيشة ضنكا"

انتهي.

و الضنك هو الضيق من كل شيء و يستوي فيه المذكر و المؤنث، يقال: مكان ضنك و معيشة ضنك و هو في الأصل مصدر ضنك يضنك من باب شرف يشرف أي ضاق.

و قوله: "و من أعرض عن ذكري" يقابل قوله في الآية السابقة: "فمن اتبع هداي" و كان مقتضى المقابلة أن يقال: "و من لم يتبع هداي" و إنما عدل عنه إلى ذكر الإعراض عن الذكر ليشير به إلى علة الحكم لأن نسيانه تعالى و الإعراض عن ذكره هو السبب لضنك العيش و العمى يوم القيامة، و ليكون توطئة و تمهيدا لما سيذكر من نسيانه تعالى يوم القيامة من نسيه في الدنيا.

و المراد بذكره تعالى أما المعنى المصدري فقوله: "ذكري" من إضافة المصدر إلى مفعوله أو القرآن أو مطلق الكتب السماوية كما يؤيده قوله الآتي: "أتتك آياتنا فنسيتها" أو الدعوة الحقة و تسميتها ذكرا لأن لازم اتباعها و الأخذ بها ذكره تعالى.

و قوله: "فإن له معيشة ضنكا" أي ضيقة و ذلك أن من نسي ربه و انقطع عن ذكره لم يبق له إلا أن يتعلق بالدنيا و يجعلها مطلوبه الوحيد الذي يسعى له و يهتم بإصلاح معيشته و التوسع فيها و التمتع منها، و المعيشة التي أوتيها لا تسعه سواء كانت قليلة أو كثيرة لأنه كلما حصل منها و اقتناها لم يرض نفسه بها و انتزعت إلى تحصيل ما هو أزيد و أوسع من غير أن يقف منها على حد فهو دائما في ضيق صدر و حنق مما وجد متعلق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهم و الغم و الحزن و القلق و الاضطراب و الخوف بنزول النوازل و عروض العوارض من موت و مرض و عاهة و حسد حاسد و كيد كائد و خيبة سعي و فراق حبيب.

و لو أنه عرف مقام ربه ذاكرا غير ناس أيقن أن له حياة عند ربه لا يخالطها موت و ملكا لا يعتريه زوال و عزة لا يشوبها ذلة و فرحا و سرورا و رفعة و كرامة لا تقدر بقدر و لا تنتهي إلى أمد و أن الدنيا دار مجاز و ما حياتها في الآخرة إلا متاع فلو عرف ذلك قنعت نفسه بما قدر له من الدنيا و وسعه ما أوتيه من المعيشة من غير ضيق و ضنك.

و قيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر و شقاء الحياة البرزخية بناء على أن كثيرا من المعرضين عن ذكر الله ربما نالوا من المعيشة أوسعها و ألقت إليهم أمور الدنيا بأزمتها فهم في عيشة وسيعة سعيدة.



و فيه أنه مبني على مقايسة معيشة الغني من معيشة الفقير بالنظر إلى نفس المعيشتين و الإمكانات التي فيهما و لا يتعلق نظر القرآن بهما من هذه الجهة البتة، و إنما تبحث الآيات فيهما بمقايسة المعيشة المضافة إلى المؤمن و هو مسلح بذكر الله و الإيمان به من المعيشة المضافة إلى الكافر الناسي لربه المتعلق النفس بالحياة الدنيا الأعزل من الإيمان و لا ريب أن للمؤمن حياة حرة سعيدة يسعه ما أكرمه ربه به من معيشة و إن كانت بالعفاف و الكفاف أو دون ذلك، و ليس للمعرض عن ذكر ربه إلا عدم الرضا بما وجد و التعلق بما وراءه.

نعم عذاب القبر من مصاديق المعيشة الضنك بناء على كون قوله: "فإن له معيشة ضنكا" متعرضا لبيان حالهم في الدنيا و قوله: "و نحشره يوم القيامة أعمى" لبيان حالهم في الآخرة و البرزخ من أذناب الدنيا.

و قيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب النار يوم القيامة، و بقوله: "و نحشره" إلخ، ما قبل دخول النار.

و فيه أن إطلاق قوله: "فإن له معيشة ضنكا" ثم تقييد قوله: "و نحشره" بيوم القيامة لا يلائمه و هو ظاهر.

نعم لو أخذ أول الآية مطلقا يشمل معيشة الدنيا و الآخرة جميعا و آخرها لتقيده بيوم القيامة مختصا بالآخرة كان له وجه.

و قوله: "و نحشره يوم القيامة أعمى" أي بحيث لا يهتدي إلى ما فيه سعادته و هو الجنة و الدليل على ذلك ما يأتي في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: "قال رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا" يسبق إلى الذهن أن عمى يوم القيامة يتعلق ببصر الحس فإن الذي يسأل عنه هو ذهاب البصر الذي كان له في الدنيا و هو بصر الحس دون بصر القلب الذي هو البصيرة، فيشكل عليه ظاهر ما دل على أن المجرمين يبصرون يوم القيامة أهوال اليوم و آيات العظمة و القهر كقوله تعالى: "إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا": الم السجدة: 12، و قوله: "اقرأ كتابك:" الإسراء: 14، و لذلك ذكر بعضهم أنهم يحشرون أولا مبصرين ثم يعمون، و بعضهم أنهم يحشرون مبصرين ثم عميا ثم مبصرين.

و هذا قياس أمور الآخرة و أحوالها بما لها من نظير في الدنيا و هو قياس مع الفارق فإن من الظاهر المسلم من الكتاب و السنة أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا الذي نألفه من الطبيعة و كون البصير مبصرا لكل مبصر و الأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي لا دليل على عمومه للنظام الأخروي فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته و فلاحه و فوزه بالكرامة و هو يشاهد ما يتم به الحجة عليه و ما يفزعه من أهوال القيامة و ما يشتد به العذاب عليه من النار و غيرها، قال تعالى: "إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون:" المطففين: 15.

قوله تعالى: "قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى" الآية جواب سؤال السائل: "رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا" و الإشارة في قوله: "كذلك أتتك" إلى حشره أعمى المذكور في السؤال، و في قوله: "و كذلك اليوم" إلى معنى قوله: "أتتك آياتنا فنسيتها" و المعنى قال: كما حشرناك أعمى أتتك آياتنا فنسيتها و كما أتتك آياتنا فنسيتها ننساك اليوم أي إن حشرك اليوم أعمى و تركك لا تبصر شيئا مثل تركك آياتنا في الدنيا كما يترك الشيء المنسي و عدم اهتدائك بها مثل تركنا لك اليوم و عدم هدايتك بجعلك بصيرا تهتدي إلى النجاة، و بعبارة أخرى إنما جازيناك في هذا اليوم بمثل ما فعلت في الدنيا كما قال تعالى: "و جزاء سيئة سيئة مثلها:" الشورى: 40.



و قد سمى الله سبحانه معصية المجرمين و هم المعرضون عن ذكره التاركون لهداه نسيانا لآياته، و مجازاتهم بالإعماء يوم القيامة نسيانا منه لهم و انعطف بذلك آخر الكلام إلى أوله و هو معصية آدم التي سماها نسيانا لعهده إذ قال: "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" فكأن قصة جنة آدم بما لها من الخصوصيات كانت مثالا من قبل يمثل به ما سيجري على بنيه من بعده إلى يوم القيامة فيمثل بنهيه عن اقتراب الشجرة الدعوة الدينية و الهدى الإلهي بعده، و بمعصيته التي كانت نسيانا للعهد معاصي بنيه التي هي نسيان لذكره تعالى و آياته المذكرة، و إنما الفرق أن ابتلاء آدم كان قبل تشريع الشرائع فكان النهي المتوجه إليه إرشاديا و ما ابتلي به من المخالفة من قبيل ترك الأولى بخلاف الأمر في بنيه.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما" قال: فيما نهاه عنه من أكل الشجرة.

و في تفسير العياشي، عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكره و يقول له إبليس: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة - إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين".

أقول: و هذا قول من قال في الآية بأن النسيان بمعناه الحقيقي و أن آدم نسي النهي عند الأكل حقيقة و لم يكن له عزم على المعصية أصلا، رد (عليه السلام) ذلك بمخالفة الكتاب، و به يظهر ضعف ما رواه في روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها، و هو قول الله تعالى: "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما".

و هذا القول منسوب إلى ابن عباس و الأصل فيه ما رواه في الدر المنثور، عن الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب عن قول الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" قال: كان رجال من المهاجرين في أنسابهم شيء فقالوا يوما: و الله لوددنا أن الله أنزل قرآنا في نسبنا فأنزل الله ما قرأت. ثم قال لي: إن صاحبكم هذا يعني علي بن أبي طالب إن ولي زهد و لكني أخشى عجب نفسه أن يذهب به. قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت و الله ما نقول: إنه غير و لا عدل و لا أسخط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام صحبته. فقال: و لا في بنت أبي جهل و هو يريد أن يخطبها على فاطمة؟ قلت: قال الله في معصية آدم (عليه السلام): "و لم نجد له عزما" و صاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لكن الخواطر التي لم يقدر أحد على دفعها عن نفسه، و ربما كانت من الفقيه في دين الله العالم بأمر الله فإذا نبه عليها رجع و أناب فقال: يا بن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا.

فقد بنى حجته على كون المراد بالعزم العزم على المعصية و لازمه كون المراد بالنسيان معناه الحقيقي، فآدم لم يذكر العهد حين الأكل و لا عزم على المعصية فلم يعص ربه، و قد تقدم أنه مخالف لقوله: "قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين" على أن الآية بالمعنى الذي ذكره لا تناسب سياق الآيات السابقة عليها و لا اللاحقة، و من الحري أن يجل ابن عباس و هو هو عن أن ينسب إليه هذا القول.



و أما ما وقع في الحديث من سخط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي (عليه السلام) في إرادته خطبة بنت أبي جهل على فاطمة (عليها السلام) فإشارة إلى ما في صحيح البخاري، و صحيح مسلم، بعدة طرق عن المسور بن مخرمة و لفظ بعضها: أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل و عنده فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك و هذا علي ناكحا ابنة أبي جهل، قال المسور: فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعته حين تشهد ثم قال: أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني و أن فاطمة مضغة مني و إنما أكره أن يفتنوها و إنها و الله لا تجتمع بنت رسول الله و بنت عدو الله عند رجل واحد أبدا. قال: فترك علي الخطبة.

و الإمعان في التأمل فيما يتضمنه الحديث يوجب سوء الظن به فإن فيه طعنا صريحا في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو كان ما يتضمنه حقا كانت السخطة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزعة جاهلية من غير مجوز يجوزها له فبما ذا كان يسخط عليه؟ أ بقوله تعالى: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع" الآية، و هو عام لم ينسخ و لم يخصص بآية أخرى خاصة بها؟ أم بشيء من السنة يخصص الآية بفاطمة (عليها السلام) و يشرع فيها خاصة حكما شخصيا بالتحريم فلم يثبت و لم يبلغ قبل ذلك، و في لفظ الحديث دلالة على ذلك أم أن نفس هذا القول بيان و تبليغ فلم يبين و لم يبلغ قبل ذلك و لا بأس بمخالفة الحكم قبل بلوغه و لا معصية فيها، فما معنى سخطه (صلى الله عليه وآله وسلم) على من لم يأت بمعصية و لا عزم عليها، و ساحته (صلى الله عليه وآله وسلم) منزهة من هذه الشيم الجاهلية، و كأن بعض رواة الحديث أراد به الطعن في علي (عليه السلام) فطعن في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث لا يشعر.

على أنه يناقض الروايات القطعية الدالة على نزاهة ساحة علي (عليه السلام) من المعصية كخبر الثقلين و خبر المنزلة و خبر علي مع الحق و الحق مع علي، إلى غير ذلك.

و في الكافي، و العلل، مسندا عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله تعالى: "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل - فنسي و لم نجد له عزما" قال: عهد إليه في محمد و الأئمة من ولده فترك و لم يكن له عزم فيهم أنه هكذا، و إنما سموا أولي العزم لأنهم عهد إليهم في محمد و الأوصياء من بعده و المهدي و سيرته فأجمع عزمهم أن ذلك كذلك و الإقرار به.

أقول: و الرواية ملخصة من حديث مفصل رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن داود العجلي عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) يذكر فيه بدء خلق الإنسان ثم إشهاد الناس على أنفسهم في عالم الذر و أخذ الميثاق من آدم (عليه السلام) و من أولي العزم من الرسل بالربوبية و النبوة و الولاية و إقرار أولي العزم على ذلك و توقف آدم (عليه السلام) و عدم عزمه على الإقرار و إن لم يجحد ثم تطبيق قوله تعالى: "و لقد عهدنا إلى آدم" الآية، عليه.

و المعنى المذكور في الرواية من بطن القرآن أرجع فيه الأحكام إلى حقيقتها و العهود إلى تأويلها و هو الولاية الإلهية، و ليس من تفسير لفظ الآية في شيء، و الدليل على أنه ليس بتفسير أن الآيات - و هي اثنتا عشرة آية - تقص قصة واحدة و لو حملت الآية الأولى على هذا المعنى تفسيرا لم يبق في الآيات ما يدل على النهي عن أكل الشجرة و هو ركن القصة عليه يعتمد الباقي، و لا يغني عنه قوله: "فلا يخرجنكما من الجنة"، و هو ظاهر، و لم يذكر النهي المذكور في سورة متقدمة نزولا على هذه السورة حتى يحال إليه و سورتا الأعراف و البقرة المذكور فيهما النهي المذكور متأخرتان نزولا عن هذه السورة كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله.



و بالجملة فهو من البطن دون التفسير و إن ورد في بعض الروايات في صورة التفسير كرواية جابر السابقة و لعله مما اشتبه على بعض رواة الحديث فأورده على هذه الصورة و قد بلغ الأمر في بعض الروايات إلى أن جعل ما ذكره الإمام من المعنى جزءا من الآية فصارت من أخبار التحريف كما في المناقب، عن الباقر (عليه السلام): "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات في محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ذريتهم" كذا نزلت على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

و نظير هذه الروايات روايات أخر وقع فيها تطبيق قوله تعالى: "فمن اتبع هداي" و قوله: "عن ذكري" على ولاية أهل البيت (عليهم السلام) و هي من روايات الجري دون التفسير كما توهم.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الطبراني و أبو نعيم في الحلية و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا و وقاه سوء الحساب يوم القيامة، و ذلك أن الله يقول: "فمن اتبع هداي - فلا يضل و لا يشقى.

أقول: الحديث ينزل قوله تعالى "فلا يضل" على الدنيا و قوله: "و لا يشقى" على الآخرة فيؤيد ما تقدم في تفسير الآية.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "فإن له معيشة ضنكا": و قيل: هو عذاب القبر: عن ابن مسعود و أبي سعيد الخدري و السدي، و رواه أبو هريرة مرفوعا: و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من مات و هو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عز و جل: "و نحشره يوم القيامة أعمى قال: قلت: سبحان الله أعمى؟ قال: نعم أعماه الله عن طريق الحق:. أقول: و روى مثله القمي في تفسيره مسندا عن معاوية بن عمار و الصدوق في من لا يحضره الفقيه، مرسلا عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام):.

و الرواية في تخصيصها عمى يوم القيامة بطريق الحق و هو طريق النجاة و السعادة تؤيد ما تقدم في تفسير الآية.

<<        الفهرس        >>