جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج14 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


20 سورة طه - 127 - 135

وَ كَذَلِك نجْزِى مَنْ أَسرَف وَ لَمْ يُؤْمِن بِئَايَتِ رَبِّهِ وَ لَعَذَاب الاَخِرَةِ أَشدّ وَ أَبْقَى (127) أَ فَلَمْ يهْدِ لهَُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يمْشونَ فى مَسكِنهِمْ إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لأُولى النّهَى (128) وَ لَوْ لا كلِمَةٌ سبَقَت مِن رّبِّك لَكانَ لِزَاماً وَ أَجَلٌ مّسمّى (129) فَاصبرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَ سبِّحْ بحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طلُوع الشمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبهَا وَ مِنْ ءَانَاى الّيْلِ فَسبِّحْ وَ أَطرَاف النهَارِ لَعَلّك تَرْضى (130) وَ لا تَمُدّنّ عَيْنَيْك إِلى مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَجاً مِّنهُمْ زَهْرَةَ الحَْيَوةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّك خَيرٌ وَ أَبْقَى (131) وَ أْمُرْ أَهْلَك بِالصلَوةِ وَ اصطبرْ عَلَيهَا لا نَسئَلُك رِزْقاً نحْنُ نَرْزُقُك وَ الْعَقِبَةُ لِلتّقْوَى (132) وَ قَالُوا لَوْ لا يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مِّن رّبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتهِم بَيِّنَةُ مَا فى الصحُفِ الأُولى (133) وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْنَهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبّنَا لَوْ لا أَرْسلْت إِلَيْنَا رَسولاً فَنَتّبِعَ ءَايَتِك مِن قَبْلِ أَن نّذِلّ وَ نخْزَى (134) قُلْ كلّ مّترَبِّصٌ فَترَبّصوا فَستَعْلَمُونَ مَنْ أَصحَب الصرَطِ السوِى وَ مَنِ اهْتَدَى (135)

بيان

متفرقات من وعيد و وعد و حجة و حكم و تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متفرعة على ما تقدم في السورة.

قوله تعالى: "و كذلك نجزي من أسرف و لم يؤمن بآيات ربه و لعذاب الآخرة أشد و أبقى" الإسراف التجاوز عن الحد و الظاهر أن الواو في قوله: "و كذلك" للاستيناف، و الإشارة إلى ما تقدم من مؤاخذة من أعرض عن ذكر الله و نسي آيات ربه فإنه تجاوز منه عن حد العبودية و كفر بآيات ربه فجزاؤه جزاء من نسي آيات ربه و تركها بعد ما عهد إليه معرضا عن ذكره.

و قوله: "و لعذاب الآخرة أشد و أبقى" أي من عذاب الدنيا و ذلك لكونه محيطا بباطن الإنسان كظاهره و لكونه دائما لا يزول.

قوله تعالى: "أ فلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم" إلخ، الظاهر أن "يهد" مضمن معنى يبين، و المعنى أ فلم يبين لهم طريق الاعتبار و الإيمان بالآيات كثرة إهلاكنا القرون التي كانوا قبلهم و هم يمشون في مساكنهم كما كانت تمر أهل مكة في أسفارهم بمساكن عاد بأحقاف اليمن و مساكن ثمود و أصحاب الأيكة بالشام و مساكن قوم لوط بفلسطين "إن في ذلك لآيات لأولي النهى" أي أرباب العقول.

قوله تعالى: "و لو لا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما و أجل مسمى" مقتضى السياق السابق أن يكون "لزاما" بمعنى الملازمة و هما مصدرا لازم يلازم، و المراد بالمصدر معنى اسم الفاعل و على هذا فاسم كان هو الضمير الراجع إلى الهلاك المذكور في الآية السابقة، و أن قوله: "و أجل مسمى" معطوف على "كلمة سبقت" و التقدير و لو لا كلمة سبقت من ربك و أجل مسمى لكان الهلاك ملازما لهم إذ أسرفوا و لم يؤمنوا بآيات ربهم.

و احتمل بعضهم أن يكون لزام اسم آلة كحزام و ركاب و آخرون أن يكون جمع لازم كقيام جمع قائم و المعنيان لا يلائمان السياق كثيرا.

و قوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك" تكررت هذه الكلمة منه سبحانه في حق بني إسرائيل و غيرهم في مواضع من كلامه كقوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم:" يونس: 19 هود: 110 حم السجدة: 45، و قد غياها بالأجل المسمى في قوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم:" الشورى: 14، و قد تقدم في تفسير سورتي يونس و هود أن المراد بها الكلمة التي قضي بها عند إهباط آدم إلى الأرض بمثل قوله: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين:" الأعراف: 24.

فالناس آمنون من الهلاك و عذاب الاستئصال على إسرافهم و كفرهم ما بين استقرارهم في الأرض و أجلهم المسمى إلا أن يجيئهم رسول فيقضي بينهم، قال تعالى: و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون:" يونس: 47 و إليه يرجع عذاب الاستئصال عن الآيات المقترحة إذا لم يؤمن بها بعد ما جاءت و هذه الأمة حالهم حال سائر الأمم في الأمن من عذاب الاستئصال بوعد سابق من الله، و أما القضاء بينهم و بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أخره الله إلى أمد كما تقدم استفادته من قوله: "و لكل أمة رسول" الآية من سورة يونس.



و احتمل بعضهم أن يكون المراد بالكلمة وعدا خاصا بهذه الأمة بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة و قد مر في تفسير سورة يونس أن ظاهر الآيات خلافه نعم يدل كلامه تعالى على تأخيره إلى أمد كما تقدم.

و نظيره في الفساد قول الآخرين إن المراد بالكلمة قضاء عذاب أهل بدر منهم بالسيف و الأجل المسمى لباقي كفار مكة و هو كما ترى.

و قوله: "و أجل مسمى" قد تقدم في تفسير أول سورة الأنعام أن الأجل المسمى هو الأجل المعين بالتسمية الذي لا يتخطا و لا يتخلف كما قال تعالى: "ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون:" الحجر: 5، و ذكر بعضهم أن المراد بالأجل المسمى يوم القيامة، و قال آخرون إن الأجل المسمى هو الكلمة التي سبقت من الله فيكون عطف الأجل على الكلمة من عطف التفسير، و لا معول على القولين لعدم الدليل.

فمحصل معنى الآية أنه لو لا أن الكلمة التي سبقت من ربك - و في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب إعزاز و تأييد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - تقضي بتأخير عذابهم و الأجل المسمى يعين وقته في ظرف التأخير لكان الهلاك ملازما لهم بمجرد الإسراف و الكفر.

و من هنا يظهر أن مجموع الكلمة التي سبقت و الأجل المسمى سبب واحد تام لتأخير العذاب عنهم لا أن كل واحد منهما سبب مستقل في ذلك كما اختاره كثير منهم.

قوله تعالى: "فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها" إلخ، يأمره بالصبر على ما يقولون و يفرعه على ما تقدم كأنه قيل: إذا كان من قضاء الله أن يؤخر عذابهم و لا يعاجلهم بالانتقام على ما يقولون فلا يبقى لك إلا أن تصبر راضيا على ما قضاه الله من الأمر و تنزهه عما يقولونه من كلمة الشرك و يواجهونك به من السوء، و تحمده على ما تواجهه من آثار قضائه فليس إلا الجميل فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك لعلك ترضى.

و قوله: "و سبح بحمد ربك" أي نزهه متلبسا بحمده و الثناء عليه فإن هذه الحوادث التي يشق تحملها و الصبر عليها لها نسبة إلى فواعلها و ليست إلا سيئة يجب تنزيهه تعالى عنها و لها نسبة بالإذن إليه تعالى و هي بهذه النسبة جميلة لا يترتب عليها إلا مصالح عامة يصلح بها النظام الكوني ينبغي أن يحمد الله و يثني عليه بها.

و قوله: "قبل طلوع الشمس و قبل غروبها" ظرفان متعلقان بقوله: "و سبح بحمد ربك".

و قوله: "و من آناء الليل فسبح" الجملة نظيرة قوله: "و إياي فارهبون:" البقرة: 40، و الآناء على أفعال جمع إني أو إنو بكسر الهمزة بمعنى الوقت و "من" للتبعيض و الجار و المجرور متعلق بقوله: "فسبح" دال على ظرف في معناه متعلق بالفعل و التقدير و بعض آناء الليل سبح فيها.

و قوله: "و أطراف النهار" منصوب بنزع الخافض على ما ذكروا معطوف على قوله: "و من آناء" و التقدير و سبح في أطراف النهار و هل المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها، أو غير ذلك؟ اختلفت فيه كلمات المفسرين و سنشير إليه.

و ما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الفرائض اليومية من الصلوات و إليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روي عن بعض القدماء كقتادة و غيره.



قالوا: إن مجموع الآية يدل على الأمر بالصلوات الخمس اليومية فقوله: "قبل طلوع الشمس" صلاة الصبح، و قوله: "و قبل غروبها" صلاة العصر و قوله: "و من آناء الليل" صلاتا المغرب و العشاء، و قوله: "و أطراف النهار" صلاة الظهر.

و معنى كونها في أطراف النهار مع أنها في منتصفه بعد الزوال أنه لو نصف النهار حصل نصفان: الأول و الأخير و صلاة الظهر في الجزء الأول من النصف الثاني فهي في طرف النصف الأول لأن آخر النصف الأول ينتهي إلى جزء يتصل بوقتها، و في طرف النصف الثاني لأنه يبتدىء من جزء هو وقتها فوقتها على وحدته طرف للنصف الأول باعتبار و طرف للنصف الثاني باعتبار فهو طرفان اثنان اعتبارا.

و أما إطلاق الأطراف - بصيغة الجمع - على وقتها و إنما هو طرفان اعتبارا فباعتبار أن الجمع قد يطلق على الاثنين و إن كان الأشهر الأعرف كون أقل الجمع في اللغة العربية ثلاثة.

و قيل: المراد بالنهار الجنس فهو في نهر لكل فرد منها طرفان فيكون أطرافا، و قد طال البحث بينهم حول التوجيه اعتراضا و جوابا.

لكن الإنصاف أن أصل التوجيه تعسف بعيد من الفهم فالذوق السليم - بعد اللتيا و التي - يأبى أن يسمي وسط النهار أطراف النهار بفروض و اعتبارات وهمية لا موجب لها في مقام التخاطب من أصلها و لا أمرا يرتضيه الذوق و لا يستبشعه.

و أما من قال: إن المراد بالتسبيح و التحميد غير الفرائض من مطلق التسبيح و الحمد إما بتذكر تنزيهه و الثناء عليه تعالى قلبا و إما بقول مثل سبحان الله و الحمد لله لسانا أو الأعم من القلب و اللسان فقالوا: المراد بما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها و آناء الليل الصبح و العصر و أوقات الليل و أطراف النهار الصبح و العصر.

و أما لزوم إطلاق الأطراف و هو جمع على الصبح و العصر و هما اثنان فقد أجابوا عنه بمثل ما تقدم في القول السابق من اعتبار أقل الجمع اثنين.

و أما لزوم التكرار بذكر تسبيح الصبح و العصر مرتين فقد التزم به بعضهم قائلا إن ذلك للتأكيد و إظهار مزيد العناية بالتسبيح في الوقتين، و يظهر من بعضهم أن المراد بالأطراف الصبح و العصر و وسط النهار.

و أنت خبير بأنه يرد عليه نظير ما يرد على الوجه السابق بتفاوت يسير، و الإشكال كله ناش من ناحية قوله: "و أطراف النهار" من جهة انطباقه على وسط النهار أو الصبح و العصر.

و الذي يمكن أن يقال إن قوله: "و أطراف النهار" مفعول معه و ليس بظرف بتقدير في و إن لم يذكره المفسرون على ما أذكر، و المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها بالنظر إلى كونهما وقتين ذوي سعة لكل منهما أجزاء كل جزء منها طرف بالنسبة إلى وسط النهار فيصح أن يسميا أطراف النهار كما يصح أن يسميا طرفي النهار و ذلك كما يسمى ما قبل طلوع الشمس أول النهار باعتبار وحدته و أوائل النهار باعتبار تجزيه إلى أجزاء، و يسمى ما قبل غروبها آخر النهار، و أواخر النهار.

فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا: "و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و هي أطراف النهار، و بعض أوقات الليل سبح فيها مع أطراف النهار التي أمرت بالتسبيح فيها.

فإن قلت: كيف يستقيم كون "أطراف النهار" مفعولا معه و هو ظرف للتسبيح بتقدير في نظير ظرفية "آناء الليل" له؟.



قلت: آناء الليل ليس ظرفا بلفظه كيف؟ و هو مدخول من و لا معنى لتقدير في معه و إنما يدل به على الظرف، و معنى "و من آناء الليل فسبح" و بعض آناء الليل سبح فيه، فليكن "و أطراف النهار" كذلك، و المعنى مع أطراف النهار التي تسبح فيها و الظرف في كلا الجانبين مدلول عليه مقدر.

هذا.

فلو قلنا: إن المراد بالتسبيح في الآية غير الصلوات المفروضة كان المراد التسبيح في أجزاء من أول النهار و أجزاء من آخره و أجزاء من الليل بمعية أجزاء أول النهار و آخره و لم يلزم محذور التكرار و لا محذور إطلاق لفظ الجمع على ما دون الثلاثة، و هو ظاهر.

و لو قلنا إن المراد بالتسبيح في الآية الفرائض اليومية كانت الآية متضمنة للأمر بصلاة الصبح و صلاة العصر و صلاتي المغرب و العشاء فحسب نظير الأمر في قوله تعالى: "أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل:" هود: 114، و لعل التعبير عن الوقتين في الآية المبحوث عنها بأطراف النهار للإشارة إلى سعة الوقتين.

و لا ضير في اشتمال الآية على أربع من الصلوات الخمس اليومية فإن السورة - كما سنشير إليه - من أوائل السور النازلة بمكة و قد دلت الأخبار المستفيضة التي رواها العامة و الخاصة أن الفرائض اليومية إنما شرعت خمسا في المعراج كما ذكرت في سورة الإسراء النازلة بعد المعراج خمسا في قوله: "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قرآن الفجر:" الإسراء: 78، فلعل التي شرعت من الفرائض اليومية حين نزول سورة طه و كذا سورة هود - و هما قبل سورة الإسراء نزولا - كانت هي الأربع و لم تكن شرعت صلاة الظهر بعد بل هو ظاهر الآيتين: آية طه و آية هود.

و معلوم أنه لا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على القول بكون المراد بالتسبيح الصلوات الخمس و انطباق أطراف النهار على وقت صلاة الظهر و هو وسط النهار.

هذا.

و قوله: "لعلك ترضى" السياق السابق و قد ذكر فيه إعراضهم عن ذكر ربهم و نسيانهم آياته و إسرافهم في أمرهم و عدم إيمانهم ثم ذكر تأخير الانتقام منهم و أمره بالصبر و التسبيح و التحميد يقضي أن يكون المراد بالرضا الرضا بقضاء الله و قدره، و المعنى: فاصبر و سبح بحمد ربك ليحصل لك الرضا بما قضى الله سبحانه فيعود إلى مثل معنى قوله: "و استعينوا بالصبر و الصلاة".

و الوجه فيه أن تكرار ذكره تعالى بتنزيه فعله عن النقص و الشين و ذكره بالثناء الجميل و المداومة على ذلك يوجب أنس النفس به و زيادته و زيادة الأنس بجمال فعله و نزاهته توجب رسوخه فيها و ظهوره في نظرها و زوال الخطورات المشوشة للإدراك و الفكر، و النفس مجبولة على الرضا بما تحبه و لا تحب غير الجميل المنزه عن القبح و الشين فإدامة ذكره بالتسبيح و التحميد تورث الرضا بقضائه.

و قيل: المراد لعلك ترضى بالشفاعة و الدرجة الرفيعة عند الله.

و قيل: لعلك ترضى بجميع ما وعدك الله به من النصر و إعزاز الدين في الدنيا و الشفاعة و الجنة في الآخرة.

قوله تعالى: "و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه" إلخ، مد العين مد نظرها و إطالته ففيه مجاز عقلي ثم مد النظر و إطالته إلى شيء كناية عن التعلق به و حبه و المراد بالأزواج - كما قيل - الأصناف من الكفار أو الأزواج من النساء و الرجال منهم و يرجع إلى البيوتات و تنكير الأزواج للتقليل و إظهار أنهم لا يعبأ بهم.



و قوله: "زهرة الحياة الدنيا" بمنزلة التفسير لقوله: "ما متعنا به" و هو منصوب بفعل مقدر و التقدير نعني به - أو جعلنا لهم - زهرة الحياة الدنيا و هي زينتها و بهجتها، و الفتنة الامتحان و الاختبار، و قيل: المراد بها العذاب لأن كثرة الأموال و الأولاد نوع عذاب من الله لهم كما قال: "و لا تعجبك أموالهم و أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون": التوبة: 85.

و قوله: "و رزق ربك خير و أبقى" المراد به بقرينة مقابلته لما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا هو رزق الآخرة و هو خير و أبقى.

و المعنى: لا تطل النظر إلى زينة الحياة الدنيا و بهجتها التي متعنا بها أصنافا أو أزواجا معدودة منهم لنمتحنهم فيما متعنا به، و الذي سيرزقك ربك في الآخرة خير و أبقى.

قوله تعالى: "و أمر أهلك بالصلوة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك و العاقبة للتقوى" الآية ذات سياق يلتئم بسياق سائر آيات السورة فهي مكية كسائرها على أنا لم نظفر بمن يستثنيها و يعدها مدنية، و على هذا فالمراد بقوله "أهلك" بحسب انطباقه على وقت النزول خديجة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي (عليه السلام) و كان من أهله و في بيته أو هما و بعض بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقول بعضهم: إن المراد به أزواجه و بناته و صهره علي، و قول آخرين: المراد به أزواجه و بناته و أقرباؤه من بني هاشم و المطلب، و قول آخرين: جميع متبعيه من أمته غير سديد، نعم لا بأس بالقول الأول من حيث جري الآية و انطباقها لا من حيث مورد النزول فإن الآية مكية و لم يكن له (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة من الأزواج غير خديجة (عليها السلام).

و قوله: "لا نسألك رزقا نحن نرزقك" ظاهر المقابلة بين الجملتين أن المراد سؤاله تعالى الرزق لنفسه و هو كناية عن أنا في غنى منك و أنت المحتاج المفتقر إلينا فيكون في معنى قوله: "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين:" الذاريات: 56 58، و أيضا هو من جهة تذييله بقوله: "و العاقبة للتقوى" في معنى قوله: "لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم:" الحج - 37، فتفسيرهم سؤال الرزق بسؤال الرزق للخلق أو لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بسديد.

و قوله: "و العاقبة للتقوى" تقدم البحث فيه كرارا.

و لا يبعد أن يستفاد من الآية من جهة قصر الأمر بالصلاة في أهله مع ما في الآيتين السابقتين من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه بالصلوات الأربع اليومية و الصبر و النهي عن أن يمد عينيه فيما متع به الكفار أن السورة نزلت في أوائل البعثة أو خصوص الآية.

و فيما روي عن ابن مسعود أن سورة طه من العتاق الأول.

قوله: "و قالوا لو لا يأتينا بآية من ربه أ و لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى" حكاية قول مشركي مكة و إنما قالوا هذا تعريضا للقرآن أنه ليس بآية دالة على النبوة فليأتنا بآية كما أرسل الأولون و البينة الشاهد المبين أو البين و قيل هو البيان.



و كيف كان فقولهم: "لو لا يأتينا بآية من ربه" تحضيض بداعي إهانة القرآن و تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باقتراح آية معجزة أخرى، و قوله: "أ و لم تأتهم بينة" إلخ، جواب عنه و معناه على الوجه الأول من معنيي البينة أ و لم تأتهم بينة و شاهد يشهد على ما في الصحف الأولى - و هي التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماوية - من حقائق المعارف و الشرائع و يبينها و هو القرآن و قد أتى به رجل لا عهد له بمعلم يعلمه و لا ملقن يلقنه ذلك.

و على الوجه الثاني: أ و لم يأتهم بيان ما في الصحف الأولى من أخبار الأمم الماضين الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات المعجزة فأتوا بها و كان إتيانها سببا لهلاكهم و استئصالهم لما لم يؤمنوا بها بعد إذ جاءتهم فلم لا ينتهون عن اقتراح آية بعد القرآن؟ و لكل من المعنيين نظير في كلامه تعالى.

قوله تعالى: "و لو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل و نخزى" الظاهر أن ضمير "من قبله" للبينة - في الآية السابقة - باعتبار أنها القرآن، و المعنى: و لو أنا أهلكناهم لإسرافهم و كفرهم بعذاب من قبل أن تأتيهم البينة لم تتم عليهم الحجة و لكانت الحجة لهم علينا و لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك و هي التي تدل عليها البينة من قبل أن نذل بعذاب الاستئصال و نخزى.

و قيل الضمير للرسول المعلوم من مضمون الآية السابقة بشهادة قولهم: "لو لا أرسلت إلينا رسولا" و هو قريب من جهة اللفظ و المعنى الأول من جهة المعنى و يؤيده قوله: "فنتبع آياتك" و لم يقل فنتبع رسولك.

قوله تعالى: "قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي و من اهتدى" التربص الانتظار، و الصراط السوي الطريق المستقيم، و قوله: "كل متربص" أي كل منا و منكم متربص منتظر فنحن ننتظر ما وعده الله لنا فيكم و في تقدم دينه و تمام نوره و أنتم تنتظرون بنا الدوائر لتبطلوا الدعوة الحقة و كل منا و منكم يسلك سبيلا إلى مطلوبه فتربصوا و انتظروا و فيه تهديد فستعلمون أي طائفة منا و منكم أصحاب الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مطلوبه و من الذين اهتدوا إلى المطلوب و فيه ملحمة و إخبار بالفتح.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لكان لزاما و أجل مسمى" قال: كان ينزل بهم العذاب و لكن قد أخرهم إلى أجل مسمى.

و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه و ابن عساكر عن جرير عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها" قال: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح و قبل غروبها صلاة العصر.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و من آناء الليل فسبح و أطراف النهار" قال: بالغداة و العشي.

أقول: و هو يؤيد ما قدمناه.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: "و أطراف النهار لعلك ترضى"؟ قال: يعني تطوع بالنهار.

أقول: و هو مبني على تفسير التسبيح بمطلق الصلاة أو بمطلق التسبيح.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لا تمدن عينيك" الآية: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما نزلت هذه الآية استوى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا ثم قال: من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، و من اتبع بصره ما في أيدي الناس طال همه و لم يشف غيظه، و من لم يعرف أن لله عليه نعمة لا في مطعم و لا في مشرب قصر أجله و دنا عذابه.



و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن راهويه و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الخرائطي في مكارم الأخلاق و أبو نعيم في المعرفة عن أبي رافع قال: أضاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضيفا و لم يكن عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يصلحه فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب فقال لا إلا برهن. فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أما و الله إني لأمين في السماء أمين في الأرض و لو أسلفني أو باعني لأديت إليه أذهب بدرعي الحديد فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية "و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم" كأنه يعزيه عن الدنيا.

أقول: و مضمون الآية و خاصة ذيلها لا يلائم القصة.

و فيه، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر و ابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت "و أمر أهلك بالصلاة" كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجيء إلى باب علي ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا.

أقول: و رواه في مجمع البيان، عن الخدري و فيه تسعة أشهر مكان ثمانية أشهر، و روى هذا المعنى في العيون، في مجلس الرضا مع المأمون عنه، (عليه السلام) و رواه القمي أيضا في تفسيره، مرفوعا، و التقييد بتسعة أشهر مبني على ما شاهده الراوي لا على تحديد أصل إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الشاهد عليه ما رواه الشيخ في الأمالي، بإسناده عن أبي الحميراء قال: شهدت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين صباحا يجيء إلى باب علي و فاطمة فيأخذ بعضادتي الباب ثم يقول: السلام عليكم أهل البيت و رحمة الله و بركاته الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا.

و ظاهر الرواية كون الآية مدنية و لم يذكر ذلك أحد فيما أذكر و لعل المراد بيان إتيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) الباب في المدينة عملا بالآية و لو كانت نازلة بمكة و إن كان بعيدا من اللفظ و في رواية القمي التي أومأنا إليها ما يؤيد هذا المعنى ففيها: فلم يزل يفعل ذلك كل يوم إذا شهد المدينة حتى فارق الدنيا، و حديث أمره أهل بيته بالصلاة مروي بطرق أخرى أيضا غير ما مرت الإشارة إليه.

و في الدر المنثور، أخرج أبو عبيد و سعيد بن منصور و ابن المنذر و الطبراني في الأوسط، و أبو نعيم في الحلية، و البيهقي في شعب الإيمان، بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة و تلا و أمر أهلك بالصلاة الآية.

أقول: و روى هذا المعنى أيضا عن أحمد في الزهد، و ابن أبي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان، عن ثابت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و فيه دلالة على التوسع في معنى التسبيح في الآية.

21 سورة الأنبياء - 1 - 15

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ اقْترَب لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فى غَفْلَةٍ مّعْرِضونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكرٍ مِّن رّبِّهِم محْدَثٍ إِلا استَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسرّوا النّجْوَى الّذِينَ ظلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشرٌ مِّثْلُكمْ أَ فَتَأْتُونَ السحْرَ وَ أَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فى السمَاءِ وَ الأَرْضِ وَ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضغَث أَحْلَمِ بَلِ افْترَاهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِئَايَةٍ كمَا أُرْسِلَ الأَوّلُونَ (5) مَا ءَامَنَت قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ مَا أَرْسلْنَا قَبْلَك إِلا رِجَالاً نّوحِى إِلَيهِمْ فَسئَلُوا أَهْلَ الذِّكرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَ مَا جَعَلْنَهُمْ جَسداً لا يَأْكلُونَ الطعَامَ وَ مَا كانُوا خَلِدِينَ (8) ثمّ صدَقْنَهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَهُمْ وَ مَن نّشاءُ وَ أَهْلَكنَا الْمُسرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتَباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (10) وَ كَمْ قَصمْنَا مِن قَرْيَةٍ كانَت ظالِمَةً وَ أَنشأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ (11) فَلَمّا أَحَسوا بَأْسنَا إِذَا هُم مِّنهَا يَرْكُضونَ (12) لا تَرْكُضوا وَ ارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَسكِنِكُمْ لَعَلّكُمْ تُسئَلُونَ (13) قَالُوا يَوَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظلِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْك دَعْوَاهُمْ حَتى جَعَلْنَهُمْ حَصِيداً خَمِدِينَ (15)

بيان

غرض السورة الكلام حول النبوة بانيا ذلك على التوحيد و المعاد فتفتتح بذكر اقتراب الحساب و غفلة الناس عن ذلك و إعراضهم عن الدعوة الحقة التي تتضمن الوحي السماوي فهي ملاك حساب يوم الحساب و تنتقل من هناك إلى موضوع النبوة و استهزاء الناس بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رميهم إياه بأنه بشر ساحر بل ما أتى به أضغاث أحلام بل مفتر بل شاعر! فترد ذلك بذكر أوصاف الأنبياء الماضين الكلية إجمالا و أن النبي لا يفقد شيئا مما وجدوه و لا ما جاء به يغاير شيئا مما جاءوا به.

ثم تذكر قصص جماعة من الأنبياء تأييدا لما تقدم من الإجمال و هم موسى و هارون و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و لوط و نوح و داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذو الكفل و ذو النون و زكريا و يحيى و عيسى.

ثم تتخلص إلى ذكر يوم الحساب و ما يلقاه المجرمون و المتقون فيه، و أن العاقبة للمتقين و أن الأرض يرثها عباده الصالحون ثم تذكر أن إعراضهم عن النبوة إنما هو لإعراضهم عن التوحيد فتقيم الحجة على ذلك كما تقيمها على النبوة و الغلبة في السورة للوعيد على الوعد و للإنذار على التبشير.

و السورة مكية بلا خلاف فيها و سياق آياتها يشهد بذلك.

قوله تعالى: "اقترب للناس حسابهم و هم في غفلة معرضون" الاقتراب افتعال من القرب و اقترب و قرب بمعنى واحد غير أن اقترب أبلغ لزيادة بنائه و يدل على مزيد عناية بالقرب، و يتعدى القرب و الاقتراب بمن و إلى يقال: قرب أو اقترب زيد من عمرو أو إلى عمرو و الأول يدل على أخذ نسبة القرب من عمرو و الثاني على أخذها من زيد لأن الأصل في معنى من ابتداء الغاية كما أن الأصل في معنى إلى انتهاؤها.

و من هنا يظهر أن اللام في "للناس" بمعنى إلى لا بمعنى "من" لأن المناسب للمقام أخذ نسبة الاقتراب من جانب الحساب لأنه الذي يطلب الناس بالاقتراب منهم و الناس في غفلة معرضون.

و المراد بالحساب - و هو محاسبة الله سبحانه أعمالهم يوم القيامة - نفس الحساب لا زمانه بنحو التجوز أو بتقدير الزمان و إن أصر بعضهم عليه و وجهه بعض آخر بأن الزمان هو الأصل في القرب و البعد و إنما ينسب القرب و البعد إلى الحوادث الواقعة فيه بتوسطه.

و ذلك لأن الغرض في المقام متعلق بتذكره نفس الحساب لتعلقه بأعمال الناس إذ كانوا مسئولين عن أعمالهم فكان من الواجب في الحكمة أن ينزل عليهم ذكر من ربهم ينبههم على ما فيه مسئوليتهم، و من الواجب عليهم أن يستمعوا له مجدين غير لاعبين و لا لاهية قلوبهم نعم لو كان الكلام مسوقا لبيان أهوال الساعة و ما أعد من العذاب للمجرمين كان الأنسب التعبير بيوم الحساب أو تقدير الزمان و نحو ذلك.



و المراد بالناس الجنس و هو المجتمع البشري الذي كان أكثرهم مشركين يومئذ لا المشركون خاصة و إن كان ما ذكر من أوصافهم كالغفلة و الإعراض و الاستهزاء و غيرها أوصاف المشركين فليس ذلك من نسبة حكم البعض إلى الكل مجازا بل من نسبة حكم المجتمع إلى نفسه حقيقة ثم استثناء البعض الذي لا يتصف بالحكم كما يلوح إليه أمثال قوله: "و أسروا النجوى الذين ظلموا" و قوله: "فأنجيناهم و من نشاء" على ما هو دأب القرآن في خطاباته الاجتماعية من نسبة الحكم إلى المجتمع ثم استثناء الأفراد غير المتصفة به.

و بالجملة فرق بين أخذ المجتمع موضوعا للحكم و استثناء أفراد منه غير متصفة به و بين أخذ أكثر الأفراد موضوع الحكم ثم نسبة حكمه إلى الكل مجازا و ما نحن فيه من القبيل الأول دون الثاني.

و قد وجه بعضهم اقتراب الحساب للناس بأن كل يوم يمر على الدنيا تصير أقرب إلى الحساب منها بالأمس، و قيل: الاقتراب إنما هو بعناية كون بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر الزمان كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): بعثت أنا و الساعة كهاتين، و أما الوجه السابق فإنما يناسب اللفظ الدال على الاستمرار دون الماضي الدال على الفراغ من تحققه و نظيره أيضا توجيهه بأن الاقتراب لتحقق الوقوع فكل ما هو آت قريب.

و قوله: "و هم في غفلة معرضون" ذلك أنهم تعلقوا بالدنيا و اشتغلوا بالتمتع فامتلأت قلوبهم من حبها فلم يبق فيها فراغ يقع فيها ذكر الحساب وقوعا تتأثر به حتى أنهم لو ذكروا لم يذكروا و هو الغفلة فإن الشيء كما يكون مغفولا عنه لعدم تصوره من أصله قد يكون مغفولا عنه لعدم تصوره كما هو حقه بحيث تتأثر النفس به.

و بهذا يظهر الجواب عن الإشكال بأن الجمع بين الغفلة و هي تلازم عدم التنبه للشيء و الإعراض و هو يستلزم التنبه له جمع بين المتنافيين، و محصل الجواب أنهم في غفلة عن الحساب لعدم تصورهم إياه كما هو حقه و هم معرضون عنه لاشتغالهم عن لوازم العلم بخلافها.

و أجاب عنه الزمخشري بما لفظه: وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم و لا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن و المسيء، و إذا قرعت لهم العصا و نبهوا عن سنة الغفلة و فطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات و النذر أعرضوا و سدوا أسماعهم و نفروا.

انتهي.

و الفرق بينه و بين ما وجهنا به أنه أخذ الإعراض في طول الغفلة لا في عرضه، و الإنصاف أن ظاهر الآية اجتماعهما لهم في زمان واحد، لا ترتب الوصفين زمانا.

و دفع بعضهم الإشكال بأخذ الإعراض بمعنى الاتساع فالمعنى و هم متسعون في غفلة، و آخرون بأخذ الغفلة بمعنى الإهمال و لا تنافي بين الإهمال و الإعراض، و الوجهان من قبيل الالتزام بما لا يلزم.

و المعنى: اقترب للناس حساب أعمالهم و الحال أنهم في غفلة مستمرة أو عظيمة معرضون عنه باشتغالهم بشواغل الدنيا و عدم التهيؤ له بالتوبة و الإيمان و التقوى.

قوله تعالى: "ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه و هم يلعبون لاهية قلوبهم" الآية بمنزلة التعليل لقوله: "و هم في غفلة معرضون" إذ لو لم يكونوا في غفلة معرضين لم يلعبوا و لم يتلهوا عند استماع الذكر الذي لا ينبههم إلا على ما يهمهم التنبه له و يجب عليهم التهيؤ له، و لذلك جيء بالفصل من غير عطف.



و المراد بالذكر ما يذكر به الله سبحانه من وحي إلهي كالكتب السماوية و منها القرآن الكريم، و المراد بإتيانه لهم نزوله على النبي و إسماعه و تبليغه، و محدث بمعنى جديد و هو معنى إضافي و هو وصف ذكر فالقرآن مثلا ذكر جديد أتاهم بعد الإنجيل و الإنجيل كان ذكرا جديدا أتاهم بعد التوراة و كذلك بعض سور القرآن و آياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض.

و قوله: "إلا استمعوه" استثناء مفرغ عن جميع أحوالهم و "استمعوه" حال و "هم يلعبون" "لاهية قلوبهم" حالان من ضمير الجمع في "استمعوه" فهما حالان متداخلتان.

و اللعب فعل منتظم الأجزاء لا غاية له إلا الخيال كلعب الأطفال و اللهو اشتغالك عما يهمك يقال: ألهاه كذا أي شغله عما يهمه و لذلك تسمى آلات الطرب آلات اللهو و ملاهي، و اللهو من صفة القلب و لذلك قال: "لاهية قلوبهم" فنسبه إلى قلوبهم.

و معنى الآية: و ما يأتيهم - بالنزول و البلوغ - ذكر جديد من ربهم في حال من الأحوال إلا و الحال أنهم لاعبون لاهية قلوبهم فاستمعوه فيها أي إن إحداث الذكر و تجديده لا يؤثر فيهم و لا أثرا قليلا و لا يمنعهم عن الاشتغال بلعب الدنيا عما وراءها و هذا كناية عن أن الذكر لا يؤثر فيهم في حال لا أن جديده لا يؤثر و قديمه يؤثر و هو ظاهر.

و استدل بظاهر الآية على كون القرآن محدثا غير قديم، و أولها الأشاعرة بأن توصيف الذكر بالمحدث من جهة نزوله و هو لا ينافي قدمه في نفسه و ظاهر الآية عليهم و للكلام تتمة نوردها في بحث مستقل.

كلام في معنى حدوث الكلام و قدمه في فصول

1 - ما معنى حدوث الكلام و بقائه؟

إذا سمعنا كلاما من متكلم كشعر من شاعر لم نلبث دون أن ننسبه إليه ثم إذا كرره و تكلم بمثله ثانيا لم نرتب في أنه هو كلامه الأول بعينه أعاده ثانيا ثم إذا نقل ناقل عنه ذلك حكمنا بأنه كلام ذلك القائل الأول بعينه ثم كلما تكرر النقل كان المنقول من الكلام هو بعينه الكلام الأول الصادر من المتكلم الأول و إن تكرر إلى ما لا نهاية له.

هذا بالبناء على ما يقضي به الفهم العرفي لكنا إذا أمعنا في ذلك قليل إمعان وجدنا حقيقة الأمر على خلاف ذلك فقول القائل: جاءني زيد مثلا ليس كلاما واحدا لأن فيه الجيم أو الألف أو الهمزة فإن كل واحدة منها فرد من أفراد الصوت المتكون من اعتماد نفس المتكلم على مخرج من مخارج فمه، و المجموع أصوات كثيرة ليست بواحدة البتة إلا بحسب الوضع و الاعتبار.

ثم إن الذي تكلم به قائل القول الأول ثانيا و الذي تكلم به الناقل الذي ينقله عن صاحبه الأول ثالثا و رابعا و غير ذلك أفراد أخر من الصوت مماثلة لما في الكلام الأول المفروض من الأصوات المتكونة و ليست عينها إلا بحسب الاعتبار و ضرب من التوسع.

و ليست هذه الأصوات كلاما إلا من حيث إنها علائم و أمارات بحسب الوضع و الاعتبار تدل على معان ذهنية، و لا واحدا إلا باعتبار تعلق غرض واحد بها.

و يتحصل بذلك أن الكلام بما أنه كلام أمر وضعي اعتباري لا تحقق له في الخارج من ظرف الدعوى و الاعتبار، و إنما المتحقق في الخارج حقيقة الأفراد من الصوت التي جعلت علائم بالوضع و الاعتبار بما أنها أصوات لا بما أنها علائم مجعولة، و إنما ينسب التحقق إلى الكلام بنوع من العناية.



و من هنا يظهر أن الكلام لا يتصف بشيء من الحدوث و البقاء فإن الحدوث و هو مسبوقية الوجود بالعدم الزماني و البقاء و هو كون الشيء موجودا في الآن بعد الآن على نعت الاتصال من شئون الحقائق الخارجية، و لا تحقق للأمور الاعتبارية في الخارج.

و كذا لا يتصف الكلام بالقدم و هو عدم كون وجود الشيء مسبوقا بعدم زماني لأن القدم أيضا كالحدوث في كونه من شئون الحقائق الخارجية دون الأمور الاعتبارية.

على أن في اتصاف الكلام بالقدم إشكالا آخر بحياله، و هو أن الكلام هو المؤلف من حروف مترتبة متدرجة بعضها قبل و بعضها بعد، و لا يتصور في القدم تقدم و تأخر و إلا كان المتأخر حادثا و هو قديم هذا خلف، فالكلام - بمعنى الحروف المؤلفة الدالة على معنى تام بالوضع - لا يتصور فيه قدم مع كونه محالا في نفس الأمر فافهم ذلك.

2 - هل الكلام بما هو كلام فعل أو صفة ذاتية

بمعنى أن ذات المتكلم هل هي تامة في نفسها مستغنية عن الكلام ثم يتفرع عليها الكلام أو أن قوام الذات متوقف عليه كتوقف الحيوان في ذاته على الحياة أو كعدم انفكاك الأربعة عن الزوجية في وجه، لا ريب أن الكلام بحسب الحقيقة ليس فعلا و لا صفة للمتكلم لأنه أمر اعتباري لا تحقق له إلا في ظرف الدعوى و الوضع فلا يكون فعلا حقيقيا صادرا عن ذات خارجية و لا صفة لموصوف خارجي.

نعم الكلام بما أنه عنوان لأمر خارجي و هو الأصوات المؤلفة و هي أفعال خارجية للمتصوت بها تعد فعلا للمتكلم بنوع من التوسع ثم يؤخذ عن نسبته إلى الفاعل وصف له و هو التكلم و التكليم كما في نظائره من الاعتباريات كالخضوع و الإعظام و الإهانة و البيع و الشرى و نحو ذلك.

3 -

من الممكن أن يحلل الكلام من جهة غرضه و هو الكشف عن المعاني المكنونة في الضمير فيعود بذلك أمرا حقيقيا بعد ما كان اعتباريا، و هذا أمر جار في جل الاعتباريات أو كلها، و قد استعمله القرآن في معان كثيرة كالسجود و القنوت و الطوع و الكره و الملك و العرش و الكرسي و الكتاب و غير ذلك.

فحقيقة الكلام هو ما يكشف به عن مكنونات الضمير فكل معلول كلام لعلته لكشفه بوجوده عن كمالها المكنون في ذاتها، و أدق من ذلك أن صفات الشيء الذاتية كلام له يكشف به عن مكنون ذاته، و هذا هو الذي يذكر الفلاسفة أن صفاته تعالى الذاتية كالعلم و القدرة و الحياة كلام له تعالى، و أيضا العالم كلامه تعالى.

و بين أن الكلام بناء على هذا التحليل في قدمه و حدوثه تابع لسنخ وجوده، فالعلم الإلهي كلام قديم بقدم الذات و زيد الحادث بما هو آية تكشف عن ربه كلام له حادث، و الوحي النازل على النبي بما أنه تفهيم إلهي حادث بحدوث التفهيم و بما أنه في علم الله - و اعتبر علمه كلاما له - قديم بقدم الذات كعلمه تعالى بجميع الأشياء من حادث و قديم.

4 -

تحصل من الفصول السابقة أن القرآن الكريم إن أريد به هذه الآيات التي نتلوها بما أنها كلام دال على معان ذهنية نظير سائر الكلام ليس بحسب الحقيقة لا حادثا و لا قديما.

نعم هو متصف بالحدوث بحدوث الأصوات التي هي معنونة بعنوان الكلام و القرآن.

و إن أريد به ما في علم الله من معانيها الحقة كان كعلمه تعالى بكل شيء حق قديما بقدمه فالقرآن قديم أي علمه تعالى به قديم كما أن زيدا الحادث قديم أي علمه تعالى به.



و من هنا يظهر أن البحث عن قدم القرآن و حدوثه بما أنه كلام الله مما لا جدوى فيه فإن القائل بالقدم إن أراد به أن المقروء من الآيات بما أنها أصوات مؤلفة دالة على معانيها قديم غير مسبوق بعدم فهو مكابر، و إن أراد به أنه في علمه تعالى و بعبارة أخرى علمه تعالى بكتابه قديم فلا موجب لإضافة علمه إليه ثم الحكم بقدمه بل علمه بكل شيء قديم بقدم ذاته لكون المراد بهذا العلم هو العلم الذاتي.

على أنه لا موجب حينئذ لعد الكلام صفة ثبوتية ذاتية أخرى له تعالى وراء العلم لرجوعه إليه و لو صح لنا عد كل ما ينطبق بحسب التحليل على بعض صفاته الحقيقية الثبوتية صفة ثبوتية له لم ينحصر عدد الصفات الثبوتية بحاصر لجواز مثل هذا التحليل في مثل الظهور و البطون و العظمة و البهاء و النور و الجمال و الكمال و التمام و البساطة، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

و الذي اعتبره الشرع و ورد من هذا اللفظ في القرآن الكريم ظاهر في المعنى الأول المذكور مما لا تحليل فيه كقوله تعالى: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله": البقرة: 253، و قوله: "و كلم الله موسى تكليما": النساء: 164، و قوله: "و قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه": البقرة: 75، و قوله: "يحرفون الكلم عن مواضعه:" المائدة: 13، إلى غير ذلك من الآيات.

و أما ما ذكره بعضهم أن هناك كلاما نفسيا قائما بنفس المتكلم غير الكلام اللفظي و أنشد في ذلك قول الشاعر: إن الكلام لفي الفؤاد و إنما.

جعل اللسان على الفؤاد دليلا.

و الكلام النفسي فيه تعالى هو الموصوف بالقدم دون الكلام اللفظي.

ففيه أنه إن أريد بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه عاد معناه إلى العلم و لم يكن أمرا يزيد عليه و صفة مغايرة له و إن أريد به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناها.

و أما ما أنشد من الشعر في بحث عقلي فلا ينفعه و لا يضرنا، و الأبحاث العقلية أرفع مكانة من أن يصارع فيها الشعراء.

قوله تعالى: "و أسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون" الإسرار يقابل الإعلان فإسرار النجوى هو المبالغة في كتمان القول و إخفائه فإن إسرار القول يفيد وحدة معنى النجوى فإضافته إلى النجوى تفيد المبالغة.

و ضمير الفاعل في "أسروا النجوى" راجع إلى الناس غير أنه لما لم يكن الفعل فعلا لجميعهم و لا لأكثرهم فإن فيهم المستضعف و من لا شغل له به و إن كان منسوبا إلى الكل من جهة ما في مجتمعهم من الغفلة و الإعراض أوضح النسبة بقوله: "الذين ظلموا" فهو عطف بيان دل به على أن النجوى إنما كان في الذين ظلموا منهم خاصة.

و قوله: "هل هذا إلا بشر مثلكم أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون" هو الذي تناجوا به، و قد كانوا يصرحون بتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يعلنون بأنه بشر و أن القرآن سحر من غير أن يخفوا شيئا من ذلك لكنهم إنما أسروه في نجواهم إذ كان ذلك منهم شورى يستشير بعضهم فيه بعضا ما ذا يقابلون به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يجيبون عما يسألهم من الإيمان بالله و برسالته؟ فما كان يسعهم إلا كتمان ما يذكر فيما بينهم و إن كانوا أعلنوا به بعد الاتفاق على رد الدعوة.



و قد اشتمل نجواهم على قولين قطعوا عليهما أو ردوهما بطريق الاستفهام الإنكاري و هما قوله: "هل هذا إلا بشر مثلكم" و قد اتخذوه حجة لإبطال نبوته و هو أنه كما تشاهدونه - و قد أتوا باسم الإشارة دون الضمير فقالوا: هل هذا؟ و لم يقولوا: هل هو؟ للدلالة على العلم به بالمشاهدة - بشر مثلكم لا يفارقكم في شيء يختص به فلو كان ما يدعيه من الاتصال بالغيب و الارتباط باللاهوت حقا لكان عندكم مثله لأنكم بشر مثله، فإذ ليس عندكم من ذلك نبأ فهو مثلكم لا خبر عنده فليس بنبي كما يدعي.

و قولهم: "أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون" و هو متفرع بفاء التفريع على نفي النبوة بإثبات البشرية فيرجع المعنى إلى أنه لما لم يكن نبيا متصلا بالغيب فالذي أتاكم به مدعيا أنه آية النبوة ليس بآية معجزة من الله بل سحر تعجزون عن مثله، و لا ينبغي لذي بصر سليم أن يذعن بالسحر و يؤمن بالساحر.

قوله تعالى: "قال ربي يعلم القول في السماء و الأرض و هو السميع العليم" أي أنه تعالى محيط علما بكل قول سرا أو جهرا و في أي مكان و هو السميع لأقوالكم العليم بأفعالكم فالأمر إليه و ليس لي من الأمر شيء.

و الآية حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم لما أسروا النجوى و قطعوا على تكذيب نبوته و رمي آيته و هو كتابه بالسحر و فيها إرجاع الأمر و إحالته إلى الله سبحانه كما في غالب الموارد التي اقترحوا عليه فيها الآية و كذلك سائر الأنبياء كقوله: "قل إنما العلم عند الله و إنما أنا نذير مبين": الملك: 26، و قوله: "قال إنما العلم عند الله و أبلغكم ما أرسلت به:" الأحقاف: 23، و قوله: "قل إنما الآيات عند الله و إنما أنا نذير مبين": العنكبوت: 50.

قوله تعالى: "بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون" تدرج منهم في الرمي و التكذيب، فقولهم: أضغاث أحلام أي تخاليط من رؤى غير منظمة رآها فحسبها نبوة و كتابا فأمره أهون من السحر، و قولهم: "بل افتراه" ترق من سابقه فإن كونه أضغاث أحلام كان لازمه التباس الأمر و اشتباهه عليه لكن الافتراء يستلزم التعمد، و قولهم: "بل هو شاعر" ترق من سابقه من جهة أخرى فإن المفتري إنما يقول عن ترو و تدبر فيه لكن الشاعر إنما يلفظ ما يتخيله و يروم ما يزينه له إحساسه من غير ترو و تدبر فربما مدح القبيح على قبحه و ربما ذم الجميل على جماله و ربما أنكر الضروري و ربما أصر على الباطل المحض، و ربما صدق الكذب أو كذب الصدق.

و قولهم: "فليأتنا بآية كما أرسل الأولون" الكلام متفرع على ما تقدمه و المراد بالأولين الأنبياء الماضون أي إذا كان هذا الذي أتى به و هو يعده آية و هو القرآن أضغاث أحلام أو افتراء أو شعر فليس يتم بذلك دعواه النبوة و لا يقنعنا ذلك فليأتنا بآية كما أتى الأولون من الآيات مثل الناقة و العصا و اليد البيضاء.

و في قوله: "كما أرسل الأولون" و كان الظاهر من السياق أن يقال: كما أتى بها الأولون إشارة إلى أن الآية من لوازم الإرسال فلو كان رسولا فليقتد بالأولين فيما احتجوا به على رسالتهم.

و المشركون من الوثنيين منكرون للنبوة من رأس فقول هؤلاء: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون دليل ظاهر على أنهم متحيرون في أمرهم لا يدرون ما يصنعون؟ فتارة يواجهونه بالتهكم و أخرى يتحكمون و ثالثة بما يناقض معتقد أنفسهم فيقترحون آية من آيات الأولين و هم لا يؤمنون برسالتهم و لا يعترفون بآياتهم.

و في قولهم: "فليأتنا بآية كما أرسل الأولون"، مع ذلك وعد ضمني بالإيمان لو أتى بآية من الآيات المقترحة.



قوله تعالى: "ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أ فهم يؤمنون" رد و تكذيب لما يشتمل عليه قولهم: "فليأتنا بآية كما أرسل الأولون" من الوعد الضمني بالإيمان لو أتى بشيء مما اقترحوه من آيات الأولين.

و محصل المعنى على ما يعطيه السياق أنهم كاذبون في وعدهم و لو أنزلنا شيئا مما اقترحوه من آيات الأولين لم يؤمنوا بها و كان فيها هلاكهم فإن الأولين من أهل القرى اقترحوها فأنزلناها فلم يؤمنوا بها فأهلكناهم، و طباع هؤلاء طباع أوليهم في الإسراف و الاستكبار فليسوا بمؤمنين فالآية بوجه مثل قوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل": يونس: 74.

و على هذا ففي الآية حذف و إيجاز و التقدير نحو من قولنا: ما آمنت قبلهم أهل قرية اقترحوا الآيات فأنزلناها عليهم و اهلكناهم لما لم يؤمنوا بها بعد النزول أ فهم يعني مشركي العرب يؤمنون و هم مثلهم في الإسراف فتوصيف القرية بقوله: "أهلكناها" توصيف بآخر ما اتصفت بها للدلالة على أن عاقبة إجابة ما اقترحوه هي الهلاك لا غير.

قوله تعالى: "و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" جواب عما احتجوا به على نفي نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولهم: "هل هذا إلا بشر مثلكم"، بأن الماضين من الأنبياء لم يكونوا إلا رجالا من البشر فالبشرية لا تنافي النبوة.

و توصيف "رجالا" بقوله: "نوحي إليهم" للإشارة إلى الفرق بين الأنبياء و غيرهم و محصله أن الفرق الوحيد بين النبي و غيره هو أنا نوحي إلى الأنبياء دون غيرهم و الوحي موهبة و من خاص لا يجب أن يعم كل بشر فيكون إذا تحقق تحقق في الجميع و إذا لم يوجد في واحد لم يوجد في الجميع حتى تحكموا بعدم وجدانه عندكم على عدم وجوده عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذلك كسائر الصفات الخاصة التي لا توجد إلا في الواحد بعد الواحد من البشر مما لا سبيل إلى إنكارها.

فالآية تنحل إلى حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته: إحداهما نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية و النبوة.

و الثانية: من طريق الحل و هو أن الفارق بين النبي و غيره ليس وصفا لا يوجد في البشر أو إذا وجد وجد في الجميع بل هو الوحي الإلهي و هو كرامة و من خاص من الله يختص به من يشاء فالآية بهذا النظر نظيرة قوله: "قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا - إلى أن قال -: قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم و لكن الله يمن على من يشاء:" إبراهيم: 11.

و قوله: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" تأييد و تحكيم لقوله: "و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا" أي إن كنتم تعلمون به فهو و إن لم تعلموا فارجعوا إلى أهل الذكر و اسألوهم هل كانت الأنبياء الأولون إلا رجالا من البشر؟.

و المراد بالذكر الكتاب السماوي و بأهل الذكر أهل الكتاب فإنهم كانوا يشايعون المشركين في عداوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان المشركون يعظمونهم و ربما شاوروهم في أمره و سألوهم عن مسائل يمتحنونه بها و هم القائلون للمشركين على المسلمين: "هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا:" النساء: 51، و الخطاب في قوله "فاسألوا" إلخ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كل من يقرع سمعه هذا الخطاب عالما كان أو جاهلا و ذلك لتأييد القول و هو شائع في الكلام.



قوله تعالى: "و ما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام و ما كانوا خالدين" - إلى قوله - المسرفين" أي هم رجال من البشر و ما سلبنا عنهم خواص البشرية بأن نجعلهم جسدا خاليا من روح الحياة لا يأكل و لا يشرب و لا عصمناهم من الموت فيكونوا خالدين بل هم بشر ممن خلق يأكلون الطعام و هو خاصة ضرورية و يموتون و هو مثل الأكل.

قوله تعالى: "ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم و من نشاء و أهلكنا المسرفين" عطف على قوله المتقدم: "و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا" و فيه بيان عاقبة إرسالهم و ما انتهى إليه أمر المسرفين من أممهم المقترحين عليهم الآيات، و فيه أيضا توضيح ما أشير إليه من هلاكهم في قوله: "من قرية أهلكناها" و تهديد للمشركين.

و المراد بالوعد في قوله: "ثم صدقناهم الوعد" ما وعدهم من النصرة لدينهم و إعلاء كلمتهم كلمة الحق كما في قوله: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون": الصافات: 173، إلى غير ذلك من الآيات.

و قوله: "فأنجيناهم و من نشاء" أي الرسل و المؤمنين و قد وعدهم النجاة كما يدل عليه قوله: "حقا علينا ننج المؤمنين": يونس: 103، و المسرفون هم المشركون المتعدون طور العبودية، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أ فلا تعقلون" امتنان منه تعالى بإنزال القرآن على هذه الأمة، فالمراد بذكرهم الذكر المختص بهم اللائق بحالهم و هو آخر ما تسعه حوصلة الإنسان من المعارف الحقيقية العالية و أقوم ما يمكن أن يجري في المجتمع البشري من الشريعة الحنيفية و الخطاب لجميع الأمة.

و قيل: المراد بالذكر الشرف، و المعنى: فيه شرفكم أن تمسكتم به تذكرون به كما فسر به قوله تعالى: "و إنه لذكر لك و لقومك:" الزخرف: 44، و الخطاب لجميع المؤمنين أو للعرب خاصة لأن القرآن إنما نزل بلغتهم و فيه بعد.

قوله تعالى: "و كم قصمنا من قرية كانت ظالمة" إلى آخر الآيات الخمس، القصم في الأصل الكسر، يقال: قصم ظهره أي كسره، و يكنى به عن الهلاك، و الإنشاء الإيجاد، و الإحساس الإدراك من طريق الحس، و البأس العذاب، و الركض العدو بشدة الوطء، و الإتراف التوسعة في النعمة، و الحصيد المقطوع و منه حصاد الزرع، و الخمود السكون و السكوت.

و المعنى: "و كم قصمنا" و أهلكنا "من قرية" أي أهلها "كانت ظالمة" لنفسها بالإسراف و الكفر "و أنشأنا" و أوجدنا "قوما آخرين فلما أحسوا" و وجدوا بالحس أي أهل القرية الظالمة "بأسنا" و عذابنا "إذا هم منها يركضون" و يعدون هاربين كالمنهزمين فيقال لهم توبيخا و تقريعا "لا تركضوا و ارجعوا إلى ما أترفتم فيه" من النعم "و مساكنكم" و إلى مساكنكم "لعلكم تسئلون" أي لعل المساكين و أرباب الحوائج يهجمون عليكم بالسؤال فتستكبروا عليهم و تختالوا أو تحتجبوا عنهم و هذا كناية عن اعتزازهم و استعلائهم و عد المتبوعين أنفسهم أربابا للتابعين من دون الله.

"قالوا" تندما "يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك" و هي كلمتهم يا ويلنا المشتملة على الاعتراف بربوبيته تعالى و ظلم أنفسهم "دعواهم حتى جعلناهم حصيدا" محصودا مقطوعا "خامدين" ساكنين ساكتين كما تخمد النار لا يسمع لهم صوت و لا يذكر لهم صيت.

و قد وجه قوله: "لعلكم تسئلون" بوجوه أخرى بعيدة من الفهم تركنا التعرض لها.

بحث روائي

في الاحتجاج، روي عن صفوان بن يحيى قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) لأبي قرة صاحب شبرمة: التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان و كل كتاب أنزل كان كلام الله أنزله للعالمين نورا و هدى، و هي كلها محدثة و هي غير الله حيث يقول: "أو يحدث لهم ذكرا" و قال: "و ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه و هم يلعبون" و الله أحدث الكتب كلها التي أنزلها. فقال أبو قرة: فهل تفنى؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فعل الله و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان فعل الله، أ لم تسمع الناس يقولون: رب القرآن؟ و أن القرآن يقول يوم القيامة: يا رب هذا فلان و هو أعرف به منه قد أظمأت نهاره و أصهرت ليله فشفعني فيه؟ و كذلك التوراة و الإنجيل و الزبور كلها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شيء لقوم يعقلون، فمن زعم أنهن لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم و لا واحد، و أن الكلام لم يزل معه و ليس له بدء.

الحديث.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لاهية قلوبهم" قال: من التلهي.

و فيه،: في قوله: "ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها - أ فهم يؤمنون" قال: كيف يؤمنون و لم يؤمن من كان قبلهم بالآيات حتى هلكوا.

و فيه، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" من المعنون بذلك؟ قال: نحن. قلت: فأنتم المسئولون؟ قال: نعم. قلت: و نحن السائلون؟ قال: نعم. قلت: فعلينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: فعليكم أن تجيبونا؟ قال: لا ذاك إلينا إن شئنا فعلنا و إن شئنا تركنا ثم قال: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.

أقول: و روى هذا المعنى الطبرسي في مجمع البيان، عن علي و أبي جعفر (عليه السلام) قال: و يؤيده أن الله تعالى سمى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرا رسولا.

و هو من الجري ضرورة أن الآية ليست بخاصة و الذكر إما القرآن أو مطلق الكتب السماوية أو المعارف الإلهية و هم على أي حال أهله و ليس بتفسير للآية بحسب مورد النزول إذ لا معنى لإرجاع المشركين إلى أهل الرسول أو أهل القرآن و هم خصماؤهم و لو قبلوا منهم لقبلوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه.

و في روضة الكافي، كلام لعلي بن الحسين (عليهما السلام) في الوعظ و الزهد في الدنيا يقول فيه: و لقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: "و كم قصمنا من قرية كانت ظالمة" و إنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: "و أنشأنا بعدها قوما آخرين" فقال عز و جل: "فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون" يعني يهربون قال: "لا تركضوا - و ارجعوا إلى ما أترفتم فيه و مساكنكم - لعلكم تسئلون فلما أتاهم العذاب قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين - فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين" و أيم الله إن هذه عظة لكم و تخويف إن اتعظتم و خفتم.

21 سورة الأنبياء - 16 - 33

وَ مَا خَلَقْنَا السمَاءَ وَ الأَرْض وَ مَا بَيْنهُمَا لَعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نّتّخِذَ لهَْواً لاتخَذْنَهُ مِن لّدُنّا إِن كنّا فَعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِف بِالحَْقِّ عَلى الْبَطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ (18) وَ لَهُ مَن فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَنْ عِندَهُ لا يَستَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لا يَستَحْسرُونَ (19) يُسبِّحُونَ الّيْلَ وَ النهَارَ لا يَفْترُونَ (20) أَمِ اتخَذُوا ءَالِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِمَا ءَالهَِةٌ إِلا اللّهُ لَفَسدَتَا فَسبْحَنَ اللّهِ رَب الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ (22) لا يُسئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسئَلُونَ (23) أَمِ اتخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالهَِةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَنَكمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مّعِىَ وَ ذِكْرُ مَن قَبْلى بَلْ أَكْثرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحَْقّ فَهُم مّعْرِضونَ (24) وَ مَا أَرْسلْنَا مِن قَبْلِك مِن رّسولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَ قَالُوا اتخَذَ الرّحْمَنُ وَلَداً سبْحَنَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ (26) لا يَسبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لا يَشفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُم مِّنْ خَشيَتِهِ مُشفِقُونَ (28) وَ مَن يَقُلْ مِنهُمْ إِنى إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِك نجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِك نجْزِى الظلِمِينَ (29) أَ وَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّ السمَوَتِ وَ الأَرْض كانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كلّ شىْءٍ حَىٍ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَ جَعَلْنَا فى الأَرْضِ رَوَسىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سبُلاً لّعَلّهُمْ يهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا السمَاءَ سقْفاً محْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ ءَايَتهَا مُعْرِضونَ (32) وَ هُوَ الّذِى خَلَقَ الّيْلَ وَ النهَارَ وَ الشمْس وَ الْقَمَرَ كلّ فى فَلَكٍ يَسبَحُونَ (33)

بيان

أول الآيات يوجه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة و أن الله لم يله بإيجاد السماء و الأرض و ما بينهما حتى يكونوا مخلين بأهوائهم يفعلون ما يشاءون و يلعبون كيفما أرادوا من غير أن يحاسبوا على أعمالهم بل إنما خلقوا ليرجعوا إلى ربهم فيحاسبوا فيجازوا على حسب أعمالهم فهم عباد مسئولون إن تعدوا عن طور العبودية أوخذوا بما تقتضيه الحكمة الإلهية و إن الله لبالمرصاد.

و إذ كان هذا البيان بعينه حجة على المعاد انتقل الكلام إليه و أقيمت الحجة عليه فيثبت بها المعاد و في ضوئه النبوة لأن النبوة من لوازم وجوب العبودية و هو من لوازم ثبوت المعاد فالآيتان الأوليان كالرابط بين السياق المتقدم و المتأخر.

و الآيات تشتمل على بيان بديع لإثبات المعاد و قد تعرض فيها لنفي جميع الاحتمالات المنافية للمعاد كما ستعرف.

قوله تعالى: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين" الآيتان توجهان نزول العذاب على القرى الظالمة التي ذكر الله سبحانه قصمها، و هما بعينهما - على ما يعطيه السياق السابق - حجة برهانية على ثبوت المعاد ثم في ضوئه النبوة و هي الغرض الأصيل من سرد الكلام في السورة.

فمحصل ما تقدم - أن هناك معادا سيحاسب فيه أعمال الناس فمن الواجب أن يميزوا بين الخير و الشر و صالح الأعمال و طالحها بهداية إلهية و هي الدعوة الحقة المعتمدة على النبوة و لو لا ذلك لكانت الخلقة عبثا و كان الله سبحانه لاعبا لاهيا بها تعالى عن ذلك.

فمقام الآيتين - كما ترى - مقام الاحتجاج على حقية المعاد لتثبت بها حقية دعوة النبوة لأن دعوة النبوة - على هذا - من مقتضيات المعاد من غير عكس.

و حجة الآيتين - كما ترى - تعتمد على معنى اللعب و اللهو و اللعب هو الفعل المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان التي لا أثر لها إلا مفاهيم خيالية من تقدم و تأخر و ربح و خسارة و نفع و ضرر كلها بحسب الفرض و التوهم و إذ كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الأعمال الواقعية فهو من مصاديق اللهو هذا.

فلو كان خلق العالم المشهود لا لغاية يتوجه إليها و يقصد لأجلها و كان الله سبحانه لا يزال يوجد و يعدم و يحيي و يميت و يعمر و يخرب لا لغاية تترتب على هذه الأفعال و لا لغرض يعمل لأجله ما يعمل بل إنما يفعلها لأجل نفسها و يريد أن يراها واحدا بعد واحد فيشتغل بها دفعا لضجر أو ملل أو كسل أو فرارا من الوحدة أو انطلاقا من الخلوة كحالنا نحن إذا اشتغلنا بعمل نلعب به و نتلهى لندفع به نقصا طرأ علينا و عارضة سوء لا نستطيبها لأنفسنا من ملال أو كلال أو كسل أو فشل و نحو ذلك.

فاللعب بنظر آخر لهو، و لذلك نراه سبحانه عبر في الآية الأولى باللعب "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما لاعبين" ثم بدله - في الآية الثانية التي هي في مقام التعليل لها - لهوا فوضع اللهو مكان اللعب لتتم الحجة.



و تلهيه تعالى بشيء من خلقه محال لأن اللهو لا يتم لهوا إلا برفع حاجة من حوائج اللاهي و دفع نقيصة من نقائصه نفسه فهو من الأسباب المؤثرة، و لا معنى لتأثير خلقه تعالى فيه و احتياجه إلى ما هو محتاج من كل جهة إليه فلو فرض تلهيه تعالى بلهو لم يجز أن يكون أمرا خارجا من نفسه، و خلقه فعله و فعله، خارج من نفسه، بل وجب أن يكون بأمر غير خارج من ذاته.

و بهذا يتم البرهان على أن الله ما خلق السماء و الأرض و ما بينهما لعبا و لهوا و ما أبدعها عبثا و لغير غاية و غرض، و هو قوله: "لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا".

و أما اللهو بأمر غير خارج من ذاته فهو و إن كان محالا في نفسه لاستلزامه حاجة في ذاته إلى ما يشغله و يصرفه عما يجده في نفسه فيكون ذاته مركبة من حاجة حقيقية متقررة فيها و أمر رافع لتلك الحاجة، و لا سبيل للنقص و الحاجة إلى ذاته المتعالية لكن البرهان لا يتوقف عليه لأنه في مقام بيان أن لا لعب و لا لهو في فعله تعالى و هو خلقه، و أما أنه لا لعب و لا لهو في ذاته تعالى فهو خارج عن غرض المقام و إنما أشير إلى نفي هذا الاحتمال بالتعبير بلفظة "لو" الدالة على الامتناع ثم أكده بقوله: "إن كنا فاعلين" فافهم ذلك.

و بهذا البيان يظهر أن قوله: "لو أردنا" إلخ، في مقام التعليل للنفي في قوله: "و ما خلقنا" إلخ، و أن قوله: "من لدنا" معناه من نفسنا، و في مرحلة الذات دون مرحلة الخلق الذي هو فعلنا الخارج من ذاتنا، و أن قوله: "إن كنا فاعلين" إشارة استقلالية إلى ما يدل عليه لفظة "لو" في ضمن الجملة فيكون نوعا من التأكيد.

و بهذا البيان يتم البرهان على المعاد ثم النبوة و يتصل الكلام بالسياق المتقدم و محصله أن للناس رجوعا إلى الله و حسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا و عقابا فمن الواجب أن يكون هناك نبوة و دعوة ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من الاعتقاد و العمل فالمعاد هو الغرض من الخلقة الموجب للنبوة و لو لم يكن معاد لم يكن للخلقة غرض و غاية فكانت الخلقة لعبا و لهوا منه تعالى و هو غير جائز، و لو جاز عليه اتخاذ اللهو لوجب أن يكون بأمر غير خارج من نفسه لا بالخلق الذي هو فعل خارج من ذاته لأن من المحال أن يؤثر غيره فيه و يحتاج إلى غيره بوجه و إذ لم يكن الخلق لعبا فهناك غاية و هو المعاد و يستلزم ذلك النبوة و من لوازمه أيضا نكال بعض الظالمين إذا ما طغوا و أسرفوا و توقف عليه إحياء الحق كما يشير إليه قوله بعد: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق".

و للقوم في تفسير قوله: "لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا" وجوه: منها ما ذكره في الكشاف، و محصله أن قوله: "من لدنا" معناه بقدرتنا، فالمعنى: أن لو شئنا اتخاذ اللهو لاتخذناه بقدرتنا لعمومها لكنا لا نشاء و ذلك بدلالة "لو" على الامتناع.

و فيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال و اللهو - و معناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه وجه - محال عليه تعالى.

على أن دلالة "من لدنا" على القدرة لا تخلو من خفاء.

و منها قول بعضهم: المراد بقوله: "من لدنا" من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فكان ستره أولى.



و فيه أن ستر النقص إنما هو للخوف من اللائمة عليه و إنما يخاف من لا يخلو من سمة العجز لا من هو على كل شيء قدير فإذ رفع نقصا باللهو فليرفع آخر بما يناسبه، على أنه إن امتنع عليه إظهاره لكونه نقصا فامتناع أصله عليه لكونه نقصا أقدم من امتناع الإظهار فيئول المعنى إلى أنا لو فعلنا هذا المحال لسترناه عنكم لأن إظهاره محال و هو كما ترى.

و منها قول بعضهم إن المراد باللهو المرأة و الولد و العرب تسمي المرأة لهوا و الولد لهوا لأن المرأة و الولد يستروح بهما و اللهو ما يروح النفس، فالمعنى: لو أردنا أن نتخذ صاحبة و ولدا - أو أحدهما - لاتخذناه من المقربين عندنا فهو كقوله: "لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء".

و قيل: لاتخذناه من المجردات العالية لا من الأجسام و الجسمانيات السافلة، و قيل: لاتخذناه من الحور العين، و كيف كان فهو رد على مثل النصارى المثبتين للصاحبة و الولد و هما مريم و المسيح (عليه السلام).

و فيه أنه إن صح من حيث اللفظ استلزم انقطاع الكلام عن السياق السابق.

و منها ما عن بعضهم أن المراد بقوله: "من لدنا" من جهتنا، و معنى الآية: لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم و هذا عين الجد و الحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع و محصله أن جهته تعالى لا تقبل إلا الجد و الحكمة فلو أراد لهوا صار جدا و حكمة أي يستحيل إرادة اللهو منه تعالى.

و فيه أنه و إن كان معنى صحيحا في نفسه غير خال من الدقة لكنه غير مفهوم من لفظ الآية كما هو ظاهر.

و قوله: "إن كنا فاعلين" الظاهر أن "إن" شرطية كما تقدمت الإشارة إليه، و على هذا فجزاؤه محذوف يدل عليه قوله: "لاتخذناه من لدنا" و قال بعضهم: إن "إن" نافية و الجملة نتيجة البيان السابق، و عن بعضهم أن إن النافية لا تفارق غالبا اللام الفارقة، و قد ظهر مما تقدم من معنى الآية أن كون إن شرطية أبلغ بحسب المقام من كونها نافية.

قوله تعالى: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق و لكم الويل مما تصفون" القذف الرمي البعيد، و الدمغ - على ما في مجمع البيان، - شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، يقال: دمغه يدمغه إذا أصاب دماغه، و زهوق النفس تلفها و هلاكها، يقال: زهق الشيء يزهق أي هلك.

و الحق و الباطل مفهومان متقابلان، فالحق هو الثابت العين، و الباطل ما ليس له عين ثابتة لكنه يتشبه بالحق تشبها فيظن أنه هو حتى إذا تعارضا بقي الحق و زهق الباطل كالماء الذي هو حقيقة من الحقائق، و السراب الذي ليس بالماء حقيقة لكنه يتشبه به في نظر الناظر فيحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

و قد عد سبحانه في كلامه أمثلة كثيرة من الحق و الباطل فعد الاعتقادات المطابقة للواقع من الحق و ما ليس كذلك من الباطل و عد الحياة الآخرة حقا و الحياة الدنيا بجميع ما يراه الإنسان لنفسه فيها و يسعى له سعيه من ملك و مال و جاه و أولاد و أعوان و نحو ذلك باطلا و عد ذاته المتعالية حقا و سائر الأسباب التي يغتر بها الإنسان و يركن إليها من دون الله باطلا، و الآيات في ذلك كثيرة لا مجال لنقلها في المقام.



و الذي يستند إليه تعالى بالأصالة هو الحق دون الباطل كما قال: "الحق من ربك:" آل عمران: 60، و قال: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا:" ص: 27، و أما الباطل من حيث إنه باطل فليس ينتسب إليه بالاستقامة و إنما هو لازم نقص بعض الأشياء إذا قيس الناقص منها إلى الكامل، فالعقائد الباطلة لوازم نقص الإدراك و سائر الأمور الباطلة لوازم الأمور إذا قيس إلى ما هو أكمل منها، و هي تنتسب إليه تعالى بالإذن بمعنى أن خلقه تعالى الأرض السبخة الصيقلية بحيث يتراءى للناظر في لون الماء و صفائه إذن منه تعالى في أن يتخيل عنده ماء و هو تحقق السراب تحققا تخيليا باطلا.

و من هنا يظهر أن لا شيء في الوجود إلا و فيه شوب بطلان إلا الله سبحانه فهو الحق الذي لا يخالطه بطلان و لا سبيل له إليه قال: "إن الله هو الحق:" النور: 25.

و يظهر أيضا أن الخلقة على ما فيها من النظام بامتزاج من الحق و الباطل، قال تعالى يمثل أمر الخلقة: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض:" الرعد: 17، و تحت هذا معارف جمة.

و قد جرت سنة الله تعالى أن يمهل الباطل حتى إذا اعترض الحق ليبطله و يحل محله قذفه بالحق فإذا هو زاهق فالاعتقاد الحق لا يقطع دابره و إن قلت حملته أحيانا أو ضعفوا، و الكمال الحق لا يهلك من أصله و إن تكاثرت أضداده، و النصر الإلهي لا يتخطى رسله و إن كانوا ربما بلغ بهم الأمر إلى أن استيئسوا و ظنوا أنهم قد كذبوا.

و هذا معنى قوله تعالى: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق" فإنه إضراب عن عدم خلق العالم لعبا أو عن عدم إرادة اتخاذ اللهو المدلول عليه بقوله: "لو أردنا أن نتخذ لهوا" إلخ، و في قوله: "نقذف" المفيد للاستمرار دلالة على كونه سنة جارية، و في قوله: "نقذف... فيدمغه" دلالة على علو الحق على الباطل، و في قوله: "فإذا هو زاهق" دلالة على مفاجاة القذف و مباغتته في حين لا يرجى للحق غلب و لا للباطل انهزام، و الآية مطلقة غير مقيدة بالحق و الباطل في الحجة أو في السيرة و السنة أو في الخلقة فلا دليل على تقييدها بشيء من ذلك.

و المعنى: ما خلقنا العالم لعبا أو لم نرد اتخاذ اللهو بل سنتنا أن نرمي بالحق على الباطل رميا بعيدا فيهلكه فيفاجئه الذهاب و التلف، فإن كان الباطل حجة أو عقيدة فحجة الحق تبطلها، و إن كان عملا و سنة كما في القرى المسرفة الظالمة فالعذاب المستأصل يستأصله و يبطله، و إن كان غير ذلك فغير ذلك.

و قد فسر الآية بعضهم بقوله: لكنا لا نريد اتخاذ اللهو بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، و هو خطأ فإن فيه اعترافا بوجود اللهو و لم يرد في سابق الكلام إلا اللهو المنسوب إليه تعالى الذي نفاه الله عن نفسه فالحق أن الآية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجد و اللهو إذ لا وجود للهو حتى تشمله الآية و تشمل ما يقابله.

و قوله: "و لكم الويل مما تصفون" وعيد للناس المنكرين للمعاد و النبوة على ما تقدم من توضيح مقتضى السياق.



و يظهر من الآية حقيقة الرجوع إلى الله تعالى و هو أنه تعالى لا يزال يقذف بالحق على الباطل فيحق الحق و يخلصه من الباطل الذي يشوبه أو يستره حتى لا يبقى إلا الحق المحض و هو الله الحق عز اسمه قال: "و يعلمون أن الله هو الحق المبين:" النور: 25، فيسقط يومئذ ما كان يظن للأسباب من استقلال التأثير و يزعم لغيره من القوة و الملك و الأمر كما قال: "لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون:" الأنعام: 94، و قال: "إن القوة لله جميعا:" البقرة: 165"، و قال: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار:" المؤمن: 16، و قال: "و الأمر يومئذ لله:" الانفطار: 19، و الآيات المشيرة إلى هذا المعنى كثيرة.

قوله تعالى: "و له من في السموات و الأرض" دفع لأحد الاحتمالات المنافية للمعاد في الجملة و هو أن لا يتسلط سبحانه على بعض أو كل الناس فينجو من لا يملكه من الرجوع إليه و الحساب و الجزاء فأجيب بأن ملكه تعالى عام شامل لجميع من في السماوات و الأرض فله أن يتصرف فيها أي تصرف أراد.

و من المعلوم أن هذا الملك حقيقي من لوازم الإيجاد بمعنى قيام الشيء بسببه الموجد له بحيث لا يعصيه في أي تصرف فيه، و الإيجاد يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره حتى عند الوثنيين المثبتين لآلهة أخرى للتدبير و العبادة فكل من في السماوات و الأرض مملوك لله لا مالك غيره.

قوله تعالى: "و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون" إلى آخر الآية التالية، قال في مجمع البيان،: الاستحسار الانقطاع عن الإعياء يقال: بعير حسير أي معي، و أصله من قولهم: حسر عن ذراعيه، فالمعنى أنه كشف قوته بإعياء انتهى.

و المراد بقوله: "و من عنده" المخصوصون بموهبة القرب و الحضور و ربما انطبق على الملائكة المقربين، و قوله: "يسبحون الليل و النهار لا يفترون" بمنزلة التفسير لقوله: "و لا يستحسرون" أي لا يأخذهم عي و كلال بل يسبحون الليل و النهار من غير فتور، و التسبيح بالليل و النهار كناية عن دوام التسبيح من غير انقطاع.

يصف تعالى حال المقربين من عباده و المكرمين من ملائكته أنهم مستغرقون في عبوديته مكبون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل و لا يصرفهم صارف، و كأن الكلام مسوق لبيان خصوصية مالكيته و سلطنته المذكورة في صدر الآية.

و ذلك أن السنة الجارية بين الموالي و عبيدهم في الملك الاعتباري أن العبد كلما زاد تقربا من مولاه خفف عنه بالإغماض عن كثير من الوظائف و الرسوم الجارية على عامة العبيد، و كان معفوا عن الحساب و المؤاخذة، و ذلك لكون الاجتماع المدني الإنساني مبنيا على التعاون بمبادلة المنافع بحسب مساس الحاجة، و الحاجة قائمة دائما، و المولى أحوج إلى مقربي عبيده من غيرهم كما أن الملك أحوج إلى مقربي حضرته من غيرهم، فإذا كان انتفاع المولى من عبده المقرب أكثر من غيره فليكن ما يبذله من الكرامة بإزاء منافع خدمته كذلك و لذا يرفع عنه كثير مما يوضع لغيره و يعفي عن بعض ما يؤاخذ به غيره فإنما هي معاملة و مبايعة.

و هذا بخلاف ملكه تعالى لعبيده فإنه ملك حقيقي مالكه في غنى مطلق عن مملوكه، و مملوكه في حاجة مطلقة إلى مالكه و لا يختلف الحال فيه بالقرب و البعد و علو المقام و دنوه بل كلما زاد العبد فيه قربا كانت العظمة و الكبرياء و العزة و البهاء عنده أظهر و الإحساس بذلة نفسه و مسكنتها و حاجتها أكثر و يلزمها الإمعان في خشوع العبودية و خضوع العبادة.

فكان قوله: "و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون" إلخ إشارة إلى أن ملكه تعالى - و قد أشار قبل إلى أنه مقتض للعبادة و الحساب و الجزاء - على خلاف الملك الدائر في المجتمع الإنساني، فلا يطمعن طامع أن يعفى عنه العمل أو الحساب و الجزاء.



و يمكن أن يكون الجملة في مقام الترقي و المعنى له من في السماوات و الأرض فعليهم أن يعبدوا و سيحاسبون من غير استثناء حتى أن من عنده من مقربي عباده و كرام ملائكته لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون بل يسبحونه تسبيحا دائما غير منقطع.

و قد تقدم في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: "إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون" استفادة أن المراد بقوله: "الذين عند ربك" أعم من الملائكة المقربين فلا تغفل.

قوله تعالى: أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون" الإنشار إحياء الموتى فالمراد به المعاد، و في الآية دفع احتمال آخر ينافي المعاد و الحساب المذكور سابقا و هو الرجوع إلى الله بأن يقال: إن هناك آلهة أخرى دون الله يبعثون الأموات و يحاسبونهم و ليس لله سبحانه من أمر المعاد شيء حتى نخافه و نضطر إلى إجابة رسله و اتباعهم في دعوتهم بل نعبدهم و لا جناح؟.

و تقييد قوله: "أم اتخذوا آلهة" بقوله "من الأرض" قيل: ليشير به إلى أنهم إذا كانوا من الأرض كان حكمهم حكم عامة أهل الأرض من الموت ثم البعث فمن الذي يميتهم ثم يبعثهم؟.

و يمكن أن يكون المراد اتخاذ آلهة من جنس الأرض كالأصنام المتخذة من الحجارة و الخشب و الفلزات فيكون فيه نوع من التهكم و التحقير و يئول المعنى إلى أن الملائكة الذين هم الآلهة عندهم إذا كانوا من عباده تعالى و عباده و انقطع هؤلاء عنهم و يئسوا من ألوهيتهم ليلتجئوا إليهم في أمر المعاد فهل يتخذون أصنامهم و تماثيلهم آلهة من دون الله مكان أرباب الأصنام و التماثيل.

قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون" قد تقدم في تفسير سورة هود و تكررت الإشارة إليه بعده أن النزاع بين الوثنيين و الموحدين ليس في وحدة الإله و كثرته بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته الموجد لغيره فهذا مما لا نزاع في أنه واحد لا شريك له، و إنما النزاع في الإله بمعنى الرب المعبود و الوثنيون على أن تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوضة إلى موجودات شريفة مقربين عند الله ينبغي أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبادهم عند الله و يقربوهم إليه زلفى كرب السماء و رب الأرض و رب الإنسان و هكذا و هم آلهة من دونهم و الله سبحانه إله الآلهة و خالق الكل كما يحكيه عنهم قوله: "و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله:" الزخرف: 87 و قوله: "و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم:" الزخرف: 9.

و الآية الكريمة إنما تنفي الآلهة من دون الله في السماء و الأرض بهذا المعنى لا بمعنى الصانع الموجد الذي لا قائل بتعدده، و المراد بكون الإله في السماء و الأرض تعلق ألوهيته بالسماء و الأرض لا سكناه فيهما فهو كقوله تعالى: "هو الذي في السماء إله و في الأرض إله:" الزخرف: 84.

و تقرير حجة الآية أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتا متباينين حقيقة و تباين حقائقهم يقضي بتباين تدبيرهم فيتفاسد التدبيرات و تفسد السماء و الأرض لكن النظام الجاري نظام واحد متلائم الأجزاء في غاياتها فليس للعالم آلهة فوق الواحد و هو المطلوب.

فإن قلت: يكفي في تحقق الفساد ما نشاهده من تزاحم الأسباب و العلل و تزاحمها في تأثيرها في المواد هو التفاسد.



قلت: تفاسد العلتين تحت تدبيرين غير تفاسدهما تحت تدبير واحد، ليحدد بعض إثر بعض و ينتج الحاصل من ذلك و ما يوجد من تزاحم العلل في النظام من هذا القبيل فإن العلل و الأسباب الراسمة لهذا النظام العام على اختلافها و تمانعها و تزاحمها لا يبطل بعضها فعالية بعض بمعنى أن ينتقض بعض القوانين الكلية الحاكمة في النظام ببعض فيختلف عن مورده مع اجتماع الشرائط و ارتفاع الموانع فهذا هو المراد من إفساد مدبر عمل مدبر آخر بل السببان المختلفان المتنازعان حالهما في تنازعهما حال كفتي الميزان المتنازعتين بالارتفاع و الانخفاض فإنهما في عين اختلافهما متحدان في تحصيل ما يريده صاحب الميزان و يخدمانه في سبيل غرضه و هو تعديل الوزن بواسطة اللسان.

فإن قلت: آثار العلم و الشعور مشهودة في النظام الجاري في الكون فالرب المدبر له يدبره عن علم و إذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يفرض هناك آلهة فوق الواحد يدبرون أمر الكون تدبيرا تعقليا و قد توافقوا على أن لا يختلفوا و لا يتمانعوا في تدبيرهم حفظا للمصلحة.

قلت: هذا غير معقول، فإن معنى التدبير التعقلي عندنا هو أن نطبق أفعالنا الصادرة منا على ما تقتضيه القوانين العقلية الحافظة لتلائم أجزاء الفعل و انسياقه إلى غايته، و هذه القوانين العقلية مأخوذة من الحقائق الخارجية و النظام الجاري فيها الحاكم عليها فأفعالنا التعقلية تابعة للقوانين العقلية و هي تابعة للنظام الخارجي لكن الرب المدبر للكون فعله نفس النظام الخارجي المتبوع للقوانين العقلية، فمن المحال أن يكون فعله تابعا للقوانين العقلية و هو متبوع، فافهم ذلك.

فهذا تقرير حجة الآية و هي حجة برهانية مؤلفة من مقدمات يقينية تدل على أن التدبير العام الجاري بما يشتمل عليه و يتألف منه من التدابير الخاصة صادر عن مبدإ واحد غير مختلف، لكن المفسرين قرروها حجة على نفي تعدد الصانع و اختلفوا في تقريرها و ربما أضاف بعضهم إليها من المقدمات ما هو خارج عن منطوق الآية و خاضوا فيها حتى قال القائل منهم إنها حجة إقناعية غير برهانية أوردت إقناعا للعامة.

قوله تعالى: "فسبحان الله رب العرش عما يصفون" تنزيه له تعالى عن وصفهم و هو أن معه آلهة هم ينشرون أو أن هناك آلهة من دونه يملكون التدبير في ملكه فالعرش كناية عن الملك، و قوله: "عما يصفون" "ما" فيه مصدرية و المعنى: عن وصفهم.

و للكلام تتمة ستوافيك.

قوله تعالى: "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون" الضمير في "لا يسأل" له تعالى بلا إشكال، و الضمير في "و هم يسألون" للآلهة الذين يدعونهم أو للآلهة و الناس جميعا أو للناس فقط، و أحسن الوجوه أولها لأن ذلك هو المناسب للسياق و الكلام في الآلهة الذين يدعونهم من دونه، فهم المسئولون و الله سبحانه لا يسأل عن فعله.

و السؤال عن الفعل هو قولنا لفاعله: لم فعلت كذا؟ و هو سؤال عن جهة المصلحة في الفعل فإن الفعل المقارن للمصلحة لا مؤاخذة عليه عند العقلاء، و الله سبحانه لما كان حكيما على الإطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه، و الحكيم هو الذي لا يفعل فعلا إلا لمصلحة مرجحة لا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله بخلاف غيره فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق و الباطل و أن يقارن فعلهم المصلحة و المفسدة فجاز في حقهم السؤال حتى يؤاخذوا بالذم العقلي أو العقاب المولوي إن لم يقارن الفعل المصلحة.

هذا ما ذكره جماعة من المفسرين في توجيه الآية و هو معنى صحيح في الجملة لكن يبقى عليه أمران: الأمر الأول: أن الآية مطلقة لا دليل فيها من جهة اللفظ على كون المراد فيها هو هذا المعنى فإن كون المعنى صحيحا في نفسه لا يستلزم كونه هو المراد من الآية.



و لذلك وجه بعضهم عدم السؤال بأنه مبني على كون أفعال الله لا تعلل بالأغراض لأن الغرض ما يبعث الفاعل إلى الفعل ليستكمل به و ينتفع به و إذ كان تعالى أجل من أن يحتاج إلى ما هو خارج عن ذاته و يستكمل بالانتفاع من غيره فلا يقال له: لم فعلت كذا سؤالا عن الغرض الذي دعاه إلى الفعل.

و إن رد بأن الفاعل التام الفاعلية إنما يصدر عنه الفعل لذاته فذاته هي غايته و غرضه في فعله من غير حاجة إلى غرض خارج عن ذاته كالإنسان البخيل الذي يكثر الإنفاق ليحصل ملكة الجود حتى إذا حصلت الملكة صدر عنها الإنفاق لذاتها لا لتحصيل ما هو حاصل فنفسها غاية لها في فعلها.

و لذلك أيضا وجه بعض آخر عدم السؤال في الآية بأن عظمته تعالى و كبرياءه و عزته و بهاءه تقهر كل شيء من أن يسأله عن فعله أو يعترض له في شيء من شئون إرادته فغيره تعالى أذل و أحقر من أن يجترىء عليه بسؤال أو مؤاخذة على فعل لكن له سبحانه أن يسأل كل فاعل عن فعله و يؤاخذ كل من حقت عليه المؤاخذة هذا.

و إن كان مردودا بأن عدم السؤال من جهة أن ليس هناك من يتمكن من سؤاله اتقاء من قهره و سخطه كالملوك الجبارين و الطغاة المتفرعنين غير كون الفعل بحيث لا يتسم بسمة النقص و الفتور و لا يعتريه عيب و قصور، و الذي يدل عليه عامة كلامه تعالى أن فعله من القبيل الثاني دون الأول كقوله: "الذي أحسن كل شيء خلقه:" الم السجدة: 7، و قوله: "له الأسماء الحسنى:" الحشر: 24، و قوله: "إن الله لا يظلم الناس شيئا:" يونس: 44، إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة قولهم: إنه تعالى إنما لا يسأل عن فعله لكونه حكيما على الإطلاق يئول إلى أن عدم السؤال عن فعله ليس لذات فعله بما هو فعله بل لأمر خارج عن ذات الفعل و هو كون فاعله حكيما لا يفعل إلا ما فيه مصلحة مرجحة، و قوله: لا يسأل عما يفعل و هم يسألون لا دلالة في لفظه على التقييد بالحكمة فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا.

و لو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الآية عن لفظها لكان أقرب منه التمسك بقوله - و هو متصل بالآية -: "سبحان الله رب العرش عما يصفون" فإن الآية تثبت له الملك المطلق و الملك متبع في إرادته مطاع في أمره لأنه ملك - أي لذاته - لا لأن فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة و إلا لم يكن فرق بينه و بين أدنى رعيته و كانت المصلحة هي المتبعة و لم تكن طاعته مفترضة في بعض الأحيان، و كذلك المولى متبع و مطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده منه و يأمره به عن وجه الحكمة و المصلحة فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات و سلطنة عليها لذاته.

فالله سبحانه ملك و مالك للكل و الكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و ليس لغيره ذلك، و له أن يسألهم عما يفعلون و ليس لغيره أن يسألوه عما يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة و لا يريد إلا ذلك فليس لنا أن نسيء به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الإجمالي بحكمته المطلقة فضلا عن سؤاله عما يفعل، و من ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم: "إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم:" المائدة: 118 حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له و يوجه مغفرتهم بكونه حكيما.



و من هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله: "لا يسأل عما يفعل" بخلاف الملك فالملك أقرب إلى توجيه الآية منها كما أشرنا إليه.

الأمر الثاني: أن الآية على ما وجهوها به خفية الاتصال بالسياق السابق و غاية ما قيل في اتصالها بما قبلها ما في مجمع البيان،: أنه تعالى لما بين التوحيد عطف عليه بيان العدل، و أنت خبير بأن مآله الاستطراد و لا موجب له.

و نظيره ما نقل عن أبي مسلم أنها تتصل بقوله في أول السورة: "اقترب للناس حسابهم" و الحساب هو السؤال عما أنعم الله عليهم به، و هل قابلوا نعمه بالشكر أم قابلوها بالكفر؟ و فيه أن للآيات التالية لهذه الآية اتصالا واضحا بما قبلها فلا معنى لاتصالها وحدها بأول السورة.

على أن قوله على تقدير تسليمه يوجه اتصال ذيل الآية و الصدر باق على ما كان.

و أنت خبير أن توجيه الآية بالملك دون الحكمة كما قدمناه يكشف عن اتصال الآية بما قبلها من قوله: "سبحان الله رب العرش عما يصفون" فالعرش - كما تقدم - كناية عن الملك فتتصل الآيتان و يكون قوله: "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون" بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى كما أن ملكه و عدم مسئوليته برهان على ربوبيته، و برهانا على مملوكيتهم كما أن مملوكيتهم و مسئوليتهم برهان على عدم ربوبيتهم فإن الفاعل الذي ليس بمسئولين عن فعله بوجه هو الذي يملك الفعل مطلقا لا محالة، و الفاعل الذي هو مسئول عن فعله هو الذي لا يملك الفعل إلا إذا كان ذا مصلحة و المصلحة هي التي تملكه و ترفع المؤاخذة عنه، و رب العالم أو جزء من أجزائه هو الذي يملك تدبيره باستقلال من ذاته أي لذاته لا بإعطاء من غيره فالله سبحانه هو رب العرش و غيره مربوبون له.

بحث في حكمته تعالى و معنى كون فعله مقارنا للمصلحة و هو بحث فلسفي و قرآني

الحركات المتنوعة المختلفة التي تصدر منا إنما تعد فعلا لنا إذا تعلقت نوعا من التعلق بإرادتنا فلا تعد الصحة و المرض و الحركة الاضطرارية بالحركة اليومية أو السنوية مثلا أفعالا لنا، و من الضروري أن إرادة الفعل تتبع العلم برجحانه و الإذعان بكونه كمالا لنا، بمعنى كون فعله خيرا من تركه و نفعه غالبا على ضرره فما في الفعل من جهة الخير المترتب عليه هو المرجح له أي هو الذي يبعثنا نحو الفعل أي هو السبب في فاعلية الفاعل منا و هذا هو الذي نسميه غاية الفاعل في فعله و غرضه من فعله و قد قطعت الأبحاث الفلسفية أن الفعل بمعنى الأثر الصادر عن الفاعل إراديا كان أو غير إرادي لا يخلو من غاية.

و كون الفعل مشتملا على جهة الخيرية المترتبة على تحققه هو المسمى بمصلحة الفعل فالمصلحة التي يعدها العقلاء و هم أهل الاجتماع الإنساني مصلحة هي الباعثة للفاعل على فعله، و هي سبب إتقان الفعل الموجب لعد الفاعل حكيما في فعله، و لولاها لكان الفعل لغوا لا أثر له.



و من الضروري أن المصلحة المترتبة على الفعل لا وجود لها قبل وجود الفعل، فكونها باعثة للفاعل نحو الفعل داعية له إليه إنما هو بوجودها علما لا بوجودها خارجا بمعنى أن الواحد منا عنده صورة علمية مأخوذة من النظام الخارجي بما فيه من القوانين الكلية الجارية و الأصول المنتظمة الحاكمة بانسياق الحركات إلى غاياتها و الأفعال إلى أغراضها و ما تحصل عنده بالتجربة من روابط الأشياء بعضها مع بعض، و لا ريب أن هذا النظام العلمي تابع للنظام الخارجي مترتب عليه.

و شأن الفاعل الإرادي منا أن يطبق حركاته الخاصة المسماة فعلا على ما عنده من النظام العلمي و يراعي المصالح المتقررة فيه في فعله ببناء إرادته عليها فإن أصاب في تطبيقه الفعل على العلم كان حكيما في فعله متقنا في عمله و إن أخطأ في انطباق العلم على المعلوم الخارجي و إن لم يصب لقصور أو تقصير لم يسم حكيما بل لاغيا و جاهلا و نحوهما.

فالحكمة صفة الفاعل من جهة انطباق فعله على النظام العلمي المنطبق على النظام الخارجي و اشتمال فعله على المصلحة هو ترتبه على الصورة العلمية المترتبة على الخارج، فالحكمة بالحقيقة صفة ذاتية للخارج و إنما يتصف الفاعل أو فعله بها من جهة انطباق الفعل عليه بوساطة العلم، و كذا الفعل مشتمل على المصلحة بمعنى تفرعه على صورتها العلمية المحاكية للخارج.

و هذا إنما يتم في الفعل الذي أريد به مطابقة الخارج كأفعالنا الإرادية و أما الفعل الذي هو نفس الخارج و هو فعل الله سبحانه فهو نفس الحكمة لا لمحاكاته أمرا آخر هو الحكمة و فعله مشتمل على المصلحة بمعنى أنه متبوع المصلحة لا تابع للمصلحة بحيث تدعوه إليه و تبعثه نحوه كما عرفت.

و كل فاعل غيره تعالى يسأل عن فعله بقول "لم فعلت كذا"؟ و المطلوب به أن يطبق فعله على النظام الخارجي بما عنده من النظام العلمي و يشير إلى وجه المصلحة الباعثة له نحو الفعل، و أما هو سبحانه فلا مورد للسؤال عن فعله إذ فعله نفس النظام الخارجي الذي يطلب بالسؤال تطبيق الفعل عليه و لا نظام خارجي آخر حتى يطبق هو عليه، و فعله هو الذي تكون صورته العلمية مصلحة داعية باعثة نحو الفعل و لا نظام آخر فوقه - كما سمعت - حتى تكون الصورة العلمية المأخوذة منه مصلحة باعثة نحو هذا النظام فافهم.

و أما ما ذكره بعضهم أن له تعالى علما تفصيليا بالأشياء قبل إيجادها و العلم تابع للمعلوم فللأشياء ثبوت ما في نفسها قبل الإيجاد يتعلق بها العلم بحسب ذلك الثبوت و لها مصالح مترتبة و استعدادات أزلية على الوجود و الخير و الشر يعلم تعالى بها بحسب ذلك الثبوت ثم يفيض عليها الوجود هاهنا على ما علم.

فغير سديد أما أولا: فلابتنائه على كون علمه تعالى التفصيلي بالأشياء قبل الإيجاد حصوليا و قد بين بطلانه في محله، بل هو علم حضوري و ليس هو بتابع للمعلوم بل الأمر بالعكس.

و أما ثانيا: فلعدم تعقل الثبوت قبل الوجود إذ الوجود مساوق للشيئية فما لا وجود له لا شيئية له و ما لا شيئية له لا ثبوت له.

و أما ثالثا: فلأن إثبات الاستعداد هناك لا يتم إلا مع فرض فعلية بإزائه و كذا فرض المصلحة لا يتم إلا مع فرض كمال و نقص، و هذه آثار خارجية تختص بالوجودات الخارجية فيعود ما فرض ثبوتا قبل الإيجاد وجودا عينيا بعده و هذا خلف.



هذا ما يعطيه البحث العقلي و يؤيده البحث القرآني و كفى في ذلك قوله تعالى: "و يوم يقول كن فيكون قوله الحق:" الأنعام: 73، فقد عد كلمة "كن" التي هي ما به يوجد الأشياء أي وجودها المنسوب إليه قولا لنفسه و ذكر أنه الحق أي العين الثابت الخارجي فقوله هو وجود الأشياء الخارجي و هو فعله أيضا فقوله فعله و قوله و فعله وجود الأشياء خارجا، و قال: "الحق من ربك فلا تكن من الممترين:" آل عمران: 60، و الحق هو القول أو الاعتقاد من جهة أن الخارج يطابقه فالخارج حق بالأصالة و القول أو الاعتقاد حق يتبع مطابقته، و إذا كان الخارج هو فعله تعالى و الخارج هو مبدأ القول و الاعتقاد فالحق منه تعالى يبتدأ و إليه يعود، و لذا قال: "الحق من ربك" و لم يقل: الحق مع ربك كما نقول في المخاصمات التي فيها بيننا: الحق مع فلان.

و من هنا يظهر أن كل فعل ففيه سؤال إلا فعله سبحانه لأن المطلوب بالسؤال بيان كون الفعل مطابقا - بصيغة اسم المفعول - للحق و هذا إنما يجري في غير نفس الحق و أما الحق نفسه فهو حق بذاته من غير حاجة إلى مطابقة.

قوله تعالى: "أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم" إلى آخر الآية.

"هاتوا" اسم فعل بمعنى ائتوا به، و البرهان الدليل المفيد للعلم، و المراد بالذكر - على ما يستفاد من السياق - الكتاب المنزل من عند الله فالمراد بذكر من معي القرآن المنزل عليه الذي هو ذكر أمته إلى يوم القيامة و بذكر من قبلي كتب الأنبياء السابقين كالتوراة و الإنجيل و الزبور و غيرها.

و يمكن أن يكون المراد به الوحي النازل عليه في القرآن و هو ذكر من معه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوحي النازل على من قبله في أمر توحيد العبادة المنقول في القرآن فالمشار إليه بهذا هو ما في القرآن من الأمر بتوحيد العبادة النازل عليه و النازل على من تقدمه من الأنبياء (عليهم السلام)، و ربما فسر الذكر بالخبر و غيره و لا يعبأ به.

و في الآية دفع احتمال آخر من الاحتمالات المنافية لإثبات المعاد و الحساب المذكور سابقا و هو أن يتخذوا آلهة من دون الله سبحانه فيعبدوهم و يستغنوا بذلك عن عبادة الله و ولايته المستلزمة للمعاد إليه و حسابه و وجوب إجابة دعوة أنبيائه، و دفع هذا الاحتمال بعدم الدليل عليه و قد خاصمهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطالبهم بالدليل بقوله: "قل هاتوا برهانكم"... إلخ.

و قوله: "قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي" من قبيل المنع مع السند - باصطلاح فن المناظرة - و محصل معناه طلب الخصم من المدعي الدليل على مدعاه غير المدلل مستندا في طلبه ذلك إلى أن عنده دليلا يدل على خلافه.

يقول تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهؤلاء المتخذين الآلهة من دون الله هاتوا برهانكم على دعواكم فإن الدعوى التي لا دليل عليها لا تسمع و لا يجوز عقلا أن يركن إليها، و الذي استند إليه في طلب الدليل أن الكتب السماوية النازلة من عند الله سبحانه لا يوافقكم على ما ادعيتم بل يخالفكم فيه فهذا القرآن و هو ذكر من معي و هذه سائر الكتب كالتوراة و الإنجيل و غيرهما و هي ذكر من قبلي تذكر انحصار الألوهية فيه تعالى وحده و وجوب عبادته.

أو أن ما في القرآن من الوحي النازل علي و هو ذكر من معي و الوحي النازل على من سبقني من الأنبياء و هو ذكر من قبلي في أمر عبادة الإله يحصر الألوهية و العبادة فيه تعالى.

و قوله: "بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون" رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإشارة إلى أن أكثرهم لا يميزون الحق من الباطل فليسوا من أهل التمييز الذين لا يتبعون إلا الدليل فهم معرضون عن الحق و اتباعه.

قوله تعالى: "و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" تثبيت لما قيل في الآية السابقة أن الذكر يذكر توحيده و وجوب عبادته و لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني من معنيي الذكر.



و قوله: "نوحي إليه" مفيد للاستمرار، و قوله: "فاعبدون" خطاب للرسل و من معهم من أممهم و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون" ظاهر السياق يشهد أنه حكاية قول الوثنيين أن الملائكة أولاده سبحانه فالمراد بالعباد المكرمين الملائكة، و قد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: "سبحانه" ثم ذكر حقيقة حالهم بالإضراب.

و إذ كان قوله بعد: "لا يسبقونه بالقول"... إلخ بيان كمال عبوديتهم من حيث الآثار و صفائها من جهة الخواص و التبعات و قد ذكر قبلا كونهم عبادا كان ظاهر ذلك أن المراد بإكرامهم إكرامهم بالعبودية لا بغيرها فيئول المعنى إلى أنهم عباد بحقيقة معنى العبودية و من الدليل عليه صدور آثارها الكاملة عنهم.

فالمراد بكونهم عبادا - و جميع أرباب الشعور عباد الله - إكرامهم في أنفسهم بالعبودية فلا يشاهدون من أنفسهم إلا أنهم عباد، و المراد بكونهم مكرمين إكرامه تعالى لهم بإفاضة العبودية الكاملة عليهم، و هذا نظير كون العبد مخلصا - بكسر اللام - لربه و مقابلته تعالى ذلك بجعله مخلصا - بفتح اللام - لنفسه، و إنما الفرق بين كرامة الملائكة و البشر أنها في البشر اكتسابي بخلاف ما في الملائكة، و أما إكرامه تعالى فهو موهبي في القبيلين جميعا فافهم ذلك.

قوله تعالى: "لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون" لا يسبق فلان فلانا بالقول أي لا يقول شيئا قبل أن يقوله فقوله تبع، و ربما يكنى به عن الإرادة و المشية أي إرادته تبع إرادته، و قوله: "و هم بأمره يعملون" الظرف متعلق بيعملون قدم عليه لإفادة الحصر أي يعملون بأمره لا بغير أمره، و ليس المراد لا يعملون بأمر غيره ففعلهم تابع لأمره أي لإرادته كما أن قولهم تابع لقوله فهم تابعون لربهم قولا و فعلا.

و بعبارة أخرى إرادتهم و عملهم تابعان لإرادته نظرا إلى كون القول كناية عن الإرادة - فلا يريدون إلا ما أراد و لا يعملون إلا ما أراد و هو كمال العبودية فإن لازم عبودية العبد أن يكون إرادته و عمله مملوكين لمولاه.

هذا ما يفيده ظاهر الآية على أن يكون المراد بالأمر ما يقابل النهي، و تفيد الآية أن الملائكة لا يعرفون النهي إذ النهي فرع جواز الإتيان بالفعل المنهي عنه و هم لا يفعلون إلا عن أمر.

و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء:" يس: 83، و قوله: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر:" القمر: 50، حقيقة معنى أمره تعالى و قد تقدم في بعض المباحث السابقة كلام في ذلك و سيجيء استيفاء البحث في كلام خاص بالملائكة فيما يعطيه القرآن في حقيقة الملك.

قوله تعالى: "يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون" فسروا "ما بين أيديهم و ما خلفهم" بما قدموا من أعمالهم و ما أخروا، و المعنى: يعلم ما عملوا و ما هم عاملون.



فقوله: "يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم" استئناف في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: "لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون" كأنه قيل: إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه يعلم ما قدموا من قول و عمل و ما أخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك.

و هو معنى جيد في نفسه لكنه إنما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية لا لتعليل قصر عملهم على مورد الأمر و هو المطلوب، على أن لفظ الآية لا دلالة فيه على أنهم يعلمون ذلك و لو لا ذلك لم يتم البيان.

و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان ربك نسيا:" مريم: 64، أن الأوجه حمل قوله: "ما بين أيدينا" على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم، و قوله: "و ما خلفنا" على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الآية على ما حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلا واضحا لمجموع قوله: "بل عباد مكرمون" - إلى قوله - بأمره يعملون" الذي يذكرهم بشرافة الذات و شرافة آثار الذات من القول و الفعل و يكون المعنى: إنما أكرم الله ذواتهم و حمد آثارهم لأنه يعلم أعمالهم و أقوالهم و هي ما بين أيديهم و يعلم السبب الذي به وجدوا و الأصل الذي عليه نشئوا و هو ما خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لأنه مرضي الأعمال من أسرة كريمة.

و قوله: "و لا يشفعون إلا لمن ارتضى" تعرض لشفاعتهم لغيرهم و هو الذي تعلق به الوثنيون في عبادتهم الملائكة كما ينبىء عنه قولهم: "هؤلاء شفعاؤنا عند الله" "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" فرد تعالى عليهم بأن الملائكة إنما يشفعون لمن ارتضاه الله و المراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء:" النساء: 48، فالإيمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، و الوثنيون مشركون، و من عجيب أمرهم أنهم يشركون بنفس الملائكة الذين لا يشفعون إلا لغير المشركين من الموحدين.

و قوله: "و هم من خشيته مشفقون" هي الخشية من سخطه و عذابه مع الأمن منه بسبب عدم المعصية و ذلك لأن جعله تعالى إياهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم من العصمة لا يحدد قدرته تعالى و لا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الأمن عين ما كان يملكه قبله، و هو على كل شيء قدير، و بذلك يستقيم معنى الآية التالية.

قوله تعالى: "و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين" أي من قال كذا كان ظالما و نجزيه جهنم لأنها جزاء الظالم، و الآية قضية شرطية و الشرطية لا تقتضي تحقق الشرط.

قوله تعالى: "أ و لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما و جعلنا من الماء كل شيء حي أ فلا يؤمنون" المراد بالرؤية العلم الفكري و إنما عبر بالرؤية لظهوره من حيث إنه نتيجة التفكير في أمر محسوس.

و الرتق و الفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات،: الرتق الضم و الالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى: "كانتا رتقا ففتقناهما" و قال: الفتق الفصل بين المتصلين و هو ضد الرتق.

انتهي.



و ضمير التثنية في "كانتا رتقا ففتقناهما" للسماوات و الأرض بعد السماوات طائفة و الأرض طائفة فهما طائفتان اثنتان، و مجيء الخبر أعني رتقا مفردا لكونه مصدرا و إن كان بمعنى المفعول و المعنى كانت هاتان الطائفتان منضمتين متصلتين ففصلناهما.

و هذه الآية و الآيات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيته للعالم كله أوردها بمناسبة ما انجر الكلام إلى توحيده و نفي ما اتخذوها آلهة من دون الله و عدوا الملائكة و هم من الآلهة عندهم أولادا له، بانين في ذلك على أن الخلقة و الإيجاد لله و الربوبية و التدبير للآلهة.

فأورد سبحانه في هذه الآيات أشياء من الخليقة خلقتها ممزوجة بتدبير أمرها فتبين بذلك أن التدبير لا ينفك عن الخلقة فمن الضروري أن يكون الذي خلقها هو الذي يدبر أمرها و ذلك كالسماوات و الأرض و كل ذي حياة و الجبال و الفجاج و الليل و النهار و الشمس و القمر في خلقها و أحوالها التي ذكرها سبحانه.

فقوله: "أ و لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما" المراد بالذين كفروا - بمقتضى السياق - هم الوثنيون حيث يفرقون بين الخلق و التدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه و التدبير إلى الآلهة من دونه و قد بين خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات و الأرض بعد رتقهما فإن في ذلك خلقا غير منفك عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد و قيام تدبيرهما بآخرين.

لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضية و الجوية بعضها من بعض و انفصال أنواع النباتات من الأرض و الحيوان من الحيوان و الإنسان من الإنسان و ظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار و خواص جديدة بعد ما كان متصلا بأصله الذي انفصله منه غير متميز الوجود و لا ظاهر الأثر و لا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة مودعة الذوات في المادة رتقا من غير فتق حتى فتقت بعد الرتق و ظهرت بفعلية ذواتها و آثارها.

و السماوات و الأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها و هذه الأجرام العلوية و الأرض التي نحن عليها و إن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكن المادة هي المادة و أحكامها هي أحكامها و القوانين الجارية فيها لا تختلف و لا تتخلف.

فتكرار انفصال جزئيات المركبات و المواليد من الأرض و نظير ذلك في الجو يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقا منضمة غير منفصلة من الأرض و كذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء و الأرض و كانت الجميع رتقا ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات و آثارها.

فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية و السفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع و قد قربت الأبحاث العلمية الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أن الأجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر معدودة مشتركة و لكل منها بقاء محدود و عمر مؤجل و إن اختلفت بالطول و القصر.



هذا لو أريد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض و بالفتق تميز السماوات من الأرض و لو أريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كل منهما في نفسه حتى ينزل من السماء شيء أو يخرج من الأرض شيء و بفتقها خلاف ذلك كان المعنى أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ففتقناها بالإمطار و الأرض كانت رتقا لا تنبت ففتقناها بالإنبات و تم البرهان و ربما أيده قوله بعد: "و جعلنا من الماء كل شيء حي" لكنه يختص من بين جميع الحوادث بالإمطار و الإنبات، بخلاف البرهان على التقريب الأول.

و ذكر بعض المفسرين و ارتضاه آخرون أن المراد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض حال عدمها السابق، و بفتقها تميز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجا بحدوث السماوات و الأرض على وجود محدثها و هو الله سبحانه.

و فيه أن الاحتجاج بالحدوث على المحدث تام في نفسه، لكنه لا ينفع قبال الوثنيين المعترفين بوجوده تعالى و استناد الإيجاد إليه و وجه الكلام إليهم، و إنما ينفع قبالهم من الحجة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى آلهتهم و يعلقون العبادة على ذلك.

و قوله: "و جعلنا من الماء كل شيء حي" ظاهر السياق أن الجعل بمعنى الخلق و "كل شيء حي" مفعوله و المراد أن للماء دخلا تاما في وجود ذوي الحياة كما قال: "و الله خلق كل دابة من ماء:" النور: 45، و لعل ورود القول في سياق تعداد الآيات المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة و من يحذو حذوهم، و قد اتضح ارتباط الحياة بالماء بالأبحاث العلمية الحديثة.

قوله تعالى: "و جعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم و جعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون" قال في المجمع،: الرواسي الجبال رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها، و الميد الاضطراب بالذهاب في الجهات، و الفج الطريق الواسع بين الجبلين.

انتهي.

و المعنى: و جعلنا في الأرض جبالا ثوابت لئلا تميل و تضطرب الأرض بهم و جعلنا في تلك الجبال طرقا واسعة هي سبل لعلهم يهتدون منها إلى مقاصدهم و مواطنهم.

و فيه دلالة على أن للجبال ارتباطا خاصا بالزلازل و لولاها لاضطربت الأرض بقشرها.

قوله تعالى: "و جعلنا السماء سقفا محفوظا و هم عن آياتها معرضون" كأن المراد بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال: "و حفظناها من كل شيطان رجيم:" الحجر: 17، و المراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماوية التي تدل على وحدة التدبير و استناده إلى موجدها الواحد.

قوله تعالى: "و هو الذي خلق الليل و النهار و الشمس و القمر كل في فلك يسبحون" الآية ظاهرة في إثبات الفلك لكل من الليل و هو الظل المخروطي الملازم لوجه الأرض المخالف لمسامتة الشمس، و النهار و هو خلاف الليل، و للشمس و القمر فالمراد بالفلك مدار كل منها.

و المراد مع ذلك بيان الأوضاع و الأحوال الحادثة بالنسبة إلى الأرض و في جوها و إن كانت حال الأجرام الأخر على خلاف ذلك فلا ليل و لا نهار يقابله للشمس و سائر الثوابت، التي هي نيرة بالذات و للقمر و سائر السيارات الكاسبة للنور من الليل و النهار غير ما لنا.

و قوله: "يسبحون" من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل و إنما قال: يسبحون لأنه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال: "و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين:" يوسف: 4.

بحث روائي

في المحاسن، بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلا غلب الحق الباطل و ذلك قول الله: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق".



و فيه، بإسناده عن أيوب بن الحر قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أيوب ما من أحد إلا و قد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه و ذلك أن الله يقول في كتابه: "بل نقذف بالحق على الباطل - فيدمغه فإذا هو زاهق و لكم الويل مما تصفون".

أقول: و الروايتان مبنيتان على تعميم الآية.

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في هاروت و ماروت في حديث: أن الملائكة معصومون محفوظون عن الكفر و القبائح بألطاف الله تعالى قال الله تعالى فيهم: "لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون" و قال عز و جل: "و له من في السماوات و الأرض و من عنده يعني الملائكة لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون - يسبحون الليل و النهار لا يفترون".

و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام) في وصف الملائكة: و مسبحون لا يسأمون، و لا يغشاهم نوم العيون، و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان، و لا غفلة النسيان.

أقول: و به يضعف ما في بعض الروايات أن الملائكة ينامون كما في كتاب كمال الدين بإسناده عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله: أنه سئل عن الملائكة أ ينامون؟ فقال: ما من حي إلا و هو ينام خلا الله وحده: فقلت: يقول الله عز و جل: "يسبحون الليل و النهار لا يفترون"؟ قال: أنفاسهم تسبيح.

على أن الرواية ضعيفة.

و في التوحيد، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما الدليل على أن الله واحد؟ قال: اتصال التدبير و تمام الصنع كما قال عز و جل: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا".

أقول: و هو يؤيد ما قدمناه في تقرير الدليل.

و فيه، بإسناده عن عمرو بن جابر قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام): يا بن رسول الله إنا نرى الأطفال منهم من يولد ميتا، و منهم من يسقط غير تام، و منهم من يولد أعمى و أخرس و أصم، و منهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض، و منهم من يبقى إلى الاحتلام، و منهم من يعمر حتى يصير شيخا فكيف ذلك و ما وجهه؟ فقال (عليه السلام): إن الله تبارك و تعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم و هو الخالق و المالك لهم فمن منعه التعمير فإنما منعه ما ليس له، و من عمره فإنما أعطاه ما ليس له فهو المتفضل بما أعطى و عادل فيما منع و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون. قال جابر: فقلت له: يا بن رسول الله و كيف لا يسأل عما يفعل؟ قال: لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة و صوابا، و هو المتكبر الجبار و الواحد القهار، فمن وجد في نفسه حرجا في شيء مما قضى كفر و من أنكر شيئا من أفعاله جحد.

أقول: و هي رواية شريفة تعطي أصلا كليا في الحسنات و السيئات و هو أن الحسنات أمور وجودية تستند إلى إعطائه و فضله تعالى، و السيئات أمور عدمية تنتهي إلى عدم الإعطاء لما لا يملكه العبد.

و ما ذكره (عليه السلام) أنه تعالى أولى بما لعبده منه وجهه أنه تعالى هو المالك لذاته و العبد إنما يملك ما يملك بتمليك منه تعالى و هو المالك لما ملكه و ملك العبد في طول ملكه.

و قوله: "لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة و صوابا إشارة إلى التقريب الأول الذي قدمناه، و قوله: "و هو المتكبر الجبار و الواحد القهار" إشارة إلى التقريب الثاني الذي أوردناه في تفسير الآية.



و في نور الثقلين، عن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله تبارك و تعالى: يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بقوتي أديت إلي فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك و ذلك أني أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني و ذلك أني لا أسأل عما أفعل و هم يسألون.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي" قال أبو عبد الله (عليه السلام): يعني بذكر من معي ما هو كائن و بذكر من قبلي ما قد كان.

و في العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، و من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثم قال (عليه السلام): إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز و جل: "و لا يشفعون إلا لمن ارتضى" قال: لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه.

و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن جابر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا قول الله: "و لا يشفعون إلا لمن ارتضى" فقال: إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.

و في الاحتجاج، و روي: أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) لامتحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: "أ و لم ير الذين كفروا - إن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما" ما هذا الرتق و الفتق؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): كانت السماء رتقا لا تنزل القطر و كانت الأرض رتقا لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر و فتق الأرض بالنبات فانقطع عمرو بن عبيد و لم يجد اعتراضا و مضى.

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي عنه (عليه السلام) بطريقين.

و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.
<<        الفهرس        >>