جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج16 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


28 سورة القصص - 1 - 14

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ طسم (1) تِلْك ءَايَت الْكِتَبِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْك مِن نّبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنّ فِرْعَوْنَ عَلا فى الأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَستَضعِف طائفَةً مِّنهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَ يَستَحْىِ نِساءَهُمْ إِنّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَ نُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلى الّذِينَ استُضعِفُوا فى الأَرْضِ وَ نجْعَلَهُمْ أَئمّةً وَ نجْعَلَهُمُ الْوَرِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لهَُمْ فى الأَرْضِ وَ نُرِى فِرْعَوْنَ وَ هَمَنَ وَ جُنُودَهُمَا مِنْهُم مّا كانُوا يحْذَرُونَ (6) وَ أَوْحَيْنَا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فى الْيَمِّ وَ لا تخَافى وَ لا تحْزَنى إِنّا رَادّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسلِينَ (7) فَالْتَقَطهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكونَ لَهُمْ عَدُوّا وَ حَزَناً إِنّ فِرْعَوْنَ وَ هَمَنَ وَ جُنُودَهُمَا كانُوا خَطِئِينَ (8) وَ قَالَتِ امْرَأَت فِرْعَوْنَ قُرّت عَينٍ لى وَ لَك لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشعُرُونَ (9) وَ أَصبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسى فَرِغاً إِن كادَت لَتُبْدِى بِهِ لَوْ لا أَن رّبَطنَا عَلى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَ قَالَت لأُخْتِهِ قُصيهِ فَبَصرَت بِهِ عَن جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشعُرُونَ (11) وَ حَرّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَت هَلْ أَدُلّكمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكمْ وَ هُمْ لَهُ نَصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَهُ إِلى أُمِّهِ كىْ تَقَرّ عَيْنُهَا وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَ لَكِنّ أَكثرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ لَمّا بَلَغَ أَشدّهُ وَ استَوَى ءَاتَيْنَهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِك نجْزِى الْمُحْسِنِينَ (14)

بيان

غرض السورة الوعد الجميل للمؤمنين و هم بمكة قبل الهجرة شرذمة قليلون يستضعفهم فراعنة قريش و طغاتها و اليوم يوم شدة و عسرة و فتنة بأن الله سيمن عليهم و يجعلهم أئمة و يجعلهم الوارثين و يمكن لهم و يرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون يقص تعالى للمؤمنين من قصة موسى و فرعون أنه خلق موسى في حين كان فرعون في أوج قدرته يستضعف بني إسرائيل يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم فرباه في حجر عدو، حتى إذا استوى و بلغ أشده نجاه و أخرجه من بينهم إلى مدين ثم رده إليهم رسولا منه بسلطان مبين حتى إذا أغرق فرعون و جنوده أجمعين و جعل بني إسرائيل هم الوارثين و أنزل التوراة على موسى هدى و بصائر للمؤمنين.

و على هذا المجرى يجري حال المؤمنين و فيه وعد لهم بالملك و العزة و السلطان و وعد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برده إلى معاد.

و انتقل من القصة إلى بيان أن من الواجب في حكمة الله أن ينزل كتابا من عنده للدعوة الحقة ثم ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم: لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى و الجواب عنه، و تعللهم عن الإيمان بقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا و الجواب عنه و فيه التمثل بقصة قارون و خسفه.

و السورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها، و ما أوردناه من الآيات فصل من قصة موسى و فرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشده.

قوله تعالى: "طسم تلك آيات الكتاب المبين" تقدم الكلام فيه في نظائره.

قوله تعالى: "نتلوا عليك من نبأ موسى و فرعون بالحق لقوم يؤمنون" "من" للتبعيض و "بالحق" متعلق بقوله: "نتلوا" أي نتلو تلاوة متلبسة بالحق فهو من عندنا و بوحي منا من غير أن يداخل في إلقائه الشياطين، و يمكن أن يكون متعلقا بنبإ أي حال كون النبإ الذي نتلوه عليك متلبسا بالحق لا مرية فيه.

و قوله: "لقوم يؤمنون" اللام فيه للتعليل و هو متعلق بقوله: "نتلوا" أي نتلو عليك من نبإهما لأجل قوم يؤمنون بآياتنا.

و محصل المعنى: نتلو عليك بعض نبإ موسى و فرعون تلاوة بالحق لأجل أن يتدبر فيه هؤلاء الذين يؤمنون بآياتنا ممن اتبعوك و هم طائفة أذلاء مستضعفون في أيدي فراعنة قريش و طغاة قومهم فيتحققوا أن الله الذي آمنوا به و برسوله و تحملوا كل أذى في سبيله هو الله الذي أنشأ موسى (عليه السلام) لإحياء الحق و إنجاء بني إسرائيل و إعزازهم بعد ذلتهم هاتيك الذلة يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم و قد علا فرعون و أنشب فيهم مخالب قهره و أحاط بهم بجوره.

أنشأه و الجو ذلك الجو المظلم الذي لا مطمع فيه فرباه في حجر عدوه ثم أخرجه من مصر ثم أعاده إليهم بسلطان فأنجى به بني إسرائيل و أفنى بيده فرعون و جنوده و جعلهم أحاديث و أحلاما.

فهو الله جل شأنه يقص على نبيه قصتهم و يرمز له و لهم بقوله: "لقوم يؤمنون" أنه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل بأولئك و يمن على هؤلاء المستضعفين و يجعلهم أئمة و يجعلهم الوارثين حذو ما صنع ببني إسرائيل.



قوله تعالى: "إن فرعون علا في الأرض و جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم" إلخ، العلو في الأرض كناية عن التجبر و الاستكبار، و الشيع جمع شيعة و هي الفرقة، قال في المجمع:، الشيع: الفرق و كل فرقة شيعة و سموا بذلك لأن بعضهم يتابع بعضا.

انتهي.

و كان المراد بجعل أهل الأرض - و كأنهم أهل مصر و اللام للعهد - فرقا إلقاء الاختلاف بينهم لئلا يتفق كلمتهم فيثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور على ما هو من دأب الملوك في بسط القدرة و تقوية السلطة، و استحياء النساء إبقاء حياتهن.

و محصل المعنى: أن فرعون علا في الأرض و تفوق فيها ببسط السلطة على الناس و إنفاذ القدرة فيهم و جعل أهلها شيعا و فرقا مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شيء و بذلك ضعف عامة قوتهم على المقاومة دون قوته و الامتناع من نفوذ إرادته.

و هو يستضعف طائفة منهم و هم بنو إسرائيل و هم أولاد يعقوب (عليه السلام) و قد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسف (عليه السلام) أباه و إخوته و أشخصهم هناك فسكنوها و تناسلوا بها حتى بلغوا الألوف.

و كان فرعون هذا و هو ملك مصر المعاصر لموسى (عليه السلام) يعاملهم معاملة الأسراء الأرقاء و يزيد في تضعيفهم حتى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم و استبقاء نسائهم و كان فيه إفناء رجالهم بقتل الأبناء الذكور و فيه فناء القوم.

و السبب في ذلك أنه كان من المفسدين في الأرض فإن الخلقة العامة التي أوجدت الإنسان لم يفرق في بسط الوجود بين شعب و شعب من الشعوب الإنسانية ثم جهز الكل بما يهديهم إلى حياة اجتماعية بالتمتع من أمتعة الحياة الأرضية و لكل ما يعادل قيمته في المجتمع و ما يساوي زنته في التعاون.

هذا هو الإصلاح الذي يهتف به الصنع و الإيجاد، و التعدي عن ذلك بتحرير قوم و تعبيد آخرين و تمتيع شعب بما لا يستحقونه و تحريم غيرهم ما يصلحون له هو الإفساد الذي يسوق الإنسانية إلى البيد و الهلاك.

و في الآية تصوير الظرف الذي ولد فيه موسى (عليه السلام) و قد أحدقت الأسباب المبيدة لبني إسرائيل على إفنائه.

قوله تعالى: "و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض إلى قوله - ما كانوا يحذرون" الأصل في معنى المن - على ما يستفاد من كلام الراغب - الثقل و منه تسمية ما يوزن به منا، و المنة النعمة الثقيلة و من عليه منا أي أثقله بالنعمة.

قال: و يقال ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله: "و نريد أن نمن على الذين استضعفوا" أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم و الثاني بالقول كقوله: "يمنون عليك أن أسلموا" و هو مستقبح إلا عند كفران النعمة.

انتهى ملخصا.

و تمكينهم في الأرض إعطاؤهم فيها مكانا يملكونه و يستقرون فيه، و عن الخليل أن المكان مفعل من الكون و لكثرته في الكلام أجري مجرى فعال.

فقيل: تمكن و تمسكن نحو تمنزل انتهى.

و قوله: "و نريد أن نمن" إلخ الأنسب أن يكون حالا من "طائفة" و التقدير يستضعف طائفة منهم و نحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا إلخ و قيل: معطوف على قوله: "إن فرعون علا في الأرض" و الأول أظهر، و "نريد" على أي حال لحكاية الحال الماضية.

و قوله: "و نجعلهم أئمة" عطف تفسير على قوله: "نمن" و كذا ما بعده من الجمل المتعاقبة.



و المعنى: أن الظرف كان ظرف علو فرعون، و تفريقه بين الناس و استضعافه لبني إسرائيل استضعافا يبيدهم و يفنيهم و الحال أنا نريد أن ننعم على هؤلاء الذين استضعفوا من كل وجه نعمة تثقلهم و ذلك بأن نجعلهم أئمة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين بعد ما كانوا تابعين، و نجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم و نمكن لهم في الأرض بأن نجعل لهم مكانا يستقرون فيه و يملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان إلا ما أراد غيرهم أن يبوأهم فيه و يقرهم عليه، و نري فرعون و هو ملك مصر و هامان و هو وزيره و جنودهما منهم أي من هؤلاء الذين استضعفوا ما كانوا يحذرون و هو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم و مالهم و سنتهم كما قالوا في موسى و أخيه لما أرسلا إليهم: "يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما و يذهبا بطريقتكم المثلى:" طه: 63.

و الآية تصور ما في باطن هذا الظرف الهائل الذي قضى على بني إسرائيل أن لا يعيش منهم متنفس و لا يبقى منهم نافخ نار و قد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية و ملأ أقطار وجودهم رعبه و هو يستضعفهم حتى يقضي عليهم بالبيد هذا ظاهر الأمر و في باطنه الإرادة الإلهية تعلقت بأن تنجيهم منهم و تحول ثقل النعمة من آل فرعون الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلاء المستضعفين و تبدل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم و ما كان لآل فرعون عليهم و الله يحكم لا معقب لحكمه.

قوله تعالى: "و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم" إلى آخر الآية، الإيحاء هو التكليم الخفي و يستعمل في القرآن في تكليمه تعالى بعض خلقه بنحو الإلهام و الإلقاء في القلب كما في قوله: "بأن ربك أوحى لها": الزلزال: 5، و قوله: "و أوحى ربك إلى النحل": النحل: 68، و قوله في أم موسى: "و أوحينا إلى أم موسى" الآية أو بنحو آخر كما في الأنبياء و الرسل، و في غيره تعالى كما في قوله: "إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم": الأنعام: 121، و الإلقاء الطرح، و اليم البحر و النهر الكبير.

و قوله: "و أوحينا إلى أم موسى" في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير و حبلت أم موسى به - و الحال هذه الحال من الشدة و الحدة - و وضعته و أوحينا إليها إلخ.

و المعنى: و قلنا بنوع من الإلهام لأم موسى لما وضعته: أرضعيه ما دمت لا تخافين عليه من قبل فرعون فإذا خفت عليه - أن يطلع عليه آل فرعون فيأخذوه و يقتلوه - فألقيه في البحر و هو النيل على ما وردت به الرواية و لا تخافي عليه القتل و لا تحزني لفقده و مفارقته إياك إنا رادوه إليك بعد ذلك و جاعلوه من المرسلين فيكون رسولا إلى آل فرعون و بني إسرائيل.

فقوله: "إنا رادوه إليك" تعليل للنهي في قوله: "و لا تحزني" كما يشهد به أيضا قوله بعد: "فرددناه إلى أمه كي تقر عينها و لا تحزن" و الفرق بين الخوف و الحزن بحسب المورد أن الخوف إنما يكون في مكروه محتمل الوقوع و الحزن في مكروه قطعي الوقوف.

قوله تعالى: "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا إن فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين" الالتقاط أصابه الشيء و أخذه من غير طلب، و منه اللقطة و اللام في قوله: "ليكون لهم عدوا و حزنا" للعاقبة - على ما قيل - و الحزن بفتحتين و الحزن بالضم فالسكون بمعنى واحد كالسقم و السقم، و المراد بالحزن سبب الحزن فإطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيته لحزنهم.

و الخاطئين اسم فاعل من خطىء يخطأ خطأ كعلم يعلم علما كما أن المخطىء اسم فاعل من أخطأ يخطىء إخطاء، و الفرق بين الخاطىء و المخطىء على ما ذكره الراغب أن الخاطىء يطلق على من أراد فعلا لا يحسنه ففعله قال تعالى: "إن قتلهم كان خطأ كبيرا"، و قال: "و إن كنا لخاطئين"، و المخطىء يستعمل فيمن أراد فعلا يحسنه فوقع منه غيره و اسم مصدره الخطأ بفتحتين، قال تعالى: "و من قتل مؤمنا خطأ": النساء: 92، و المعنى الجامع هو العدول عن الجهة.

انتهى ملخصا.



فقوله: "إن فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين" أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل و موسى تحذرا من انهدام ملكهم و ذهاب سلطانهم بيدهم إرادة لتغيير المقادير عن مجاريها فقتلوا الجم الغفير من الأبناء و لا شأن لهم في ذلك و تركوا موسى حيث التقطوه و ربوه في حجورهم و كان هو الذي بيده انقراض دولتهم و زوال ملكهم.

و المعنى: فأصابه آل فرعون و أخذوه من اليم و كان غاية ذلك أن يكون لهم عدوا و سبب حزن إن فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين في قتل الأبناء و ترك موسى: أرادوا أن يقضوا على من سيقضي عليهم فعادوا يجتهدون في حفظه و يجدون في تربيته.

و بذلك يظهر أن تفسير بعضهم كونهم خاطئين بأنهم كانوا مذنبين فعاقبهم الله أن ربى عدوهم على أيديهم ليس بسديد.

قوله تعالى: "و قالت امرأة فرعون قرة عين لي و لك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا و هم لا يشعرون" شفاعة من امرأة فرعون و قد كانت عنده حينما جاءوا إليه بموسى - و هو طفل ملتقط من اليم - تخاطب فرعون بقوله: "قرة عين لي و لك" أي هو قرة عين لنا "لا تقتلوه" و إنما خاطب بالجمع لأن شركاء القتل كانوا كثيرين من سبب و مباشر و آمر و مأمور.

و إنما قالت ما قالت لأن الله سبحانه ألقى محبة منه في قلبها فعادت لا تملك نفسها دون أن تدفع عنه القتل و تضمه إليها، قال تعالى فيما يمن به على موسى (عليه السلام): "و ألقيت عليك محبة مني و لتصنع على عيني": طه: 39.

و قوله: "عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا" قالته لما رأت في وجهه من آثار الجلال و سيماء الجذبة الإلهية، و في قولها: "أو نتخذه ولدا" دلالة على أنهما كانا فاقدين للابن.

و قوله: "و هم لا يشعرون" جملة حالية أي قالت ما قالت و شفعت له و صرفت عنه القتل و القوم لا يشعرون ما ذا يفعلون و ما هي حقيقة الحال و ما عاقبته؟ قوله تعالى: "و أصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لو لا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين" الإبداء بالشيء إظهاره، و الربط على الشيء شدة و هو كناية عن التثبيت.

و المراد بفراغ فؤاد أم موسى فراغه و خلوه من الخوف و الحزن و كان لازم ذلك أن لا يتوارد عليه خواطر مشوشة و أوهام متضاربة يضطرب بها القلب فيأخذها الجزع فتبدي ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها.

و ذلك أن ظاهر السياق أن سبب عدم إبدائها له فراغ قلبها و سبب فراغ قلبها الربط على قلبها و سبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها: "لا تخافي و لا تحزني إنا رادوه إليك" إلخ.

و قوله: "إن كادت لتبدي به لو لا" إلخ، "إن" مخففة من الثقيلة أي إنها قربت من أن تظهر الأمر و تفشي السر لو لا أن ثبتنا قلبها بالربط عليه، و قوله: "لتكون من المؤمنين" أي الواثقين بالله في حفظه فتصبر و لا تجزع عليه فلا يبدو أمره.

و المجموع أعني قوله: "إن كادت لتبدي به" إلى آخر الآية في مقام البيان لقوله: "و أصبح فؤاد أم موسى فارغا" و محصل معنى الآية و صار قلب أم موسى بسبب وحينا خاليا من الخوف و الحزن المؤديين إلى إظهار الأمر، لو لا أن ثبتنا قلبها بسبب الوحي لتكون واثقة بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه.



و بما تقدم يظهر ضعف بعض ما قيل في تفسير جمل الآية كقول بعضهم في "و أصبح فؤاد أم موسى فارغا" أي صفرا من العقل لما دهمها من الخوف و الحيرة حين سمعت بوقوع الطفل في يد فرعون، و قول آخرين: أي فارغا من الوحي الذي أوحي إليها بالنسيان، و ما قيل: أي فارغا من كل شيء إلا ذكر موسى أي صار فارغا له.

فإنها جميعا وجوه لا يحتمل شيئا منها السياق.

و نظير ذلك في الضعف قولهم: إن جواب لو لا محذوف و التقدير لو لا أن ربطنا على قلبها لأبدته و أظهرته، و الوجه في تقديرهم ذلك ما قيل: إن لو لا شبيهه بأدوات الشرط فلها الصدر و لا يتقدم جوابها عليها.

و قد تقدمت المناقشة فيه في الكلام على قوله تعالى: "و لقد همت به و هم بها لو لا أن رأى برهان ربه": يوسف: 24.

قوله تعالى: "و قالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب و هم لا يشعرون" قال في المجمع:، القص اتباع الأثر و منه القصص في الحديث لأنه يتبع فيه الثاني الأول.

و قال: و معنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد.

انتهي.

و المعنى: و قالت أم موسى لأخته اتبعي أثر موسى حتى ترين إلام يئول أمره فرأته عن بعد و قد أخذه خدم فرعون و هم لا يشعرون بأنها تقصه و تراقبه.

قوله تعالى: "و حرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم و هم له ناصحون" التحريم في الآية تكويني لا تشريعي و معناه جعله بحيث لا يقبل ثدي مرضع و يمتنع من ارتضاعها.

و قوله: "من قبل" أي من قبل حضورها هناك و مجيئها إليهم و المراضع جمع مرضعة كما قيل.

و قوله: "فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه و هم له ناصحون" تفريع على ما تقدمه غير أن السياق يدل على أن هناك حذفا كأنه قيل: و حرمنا عليه المراضع غير أمه من قبل أن تجيء أخته فكلما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها فلما جاءت أخته و رأت الحال قالت عند ذلك لآل فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم و هم له ناصحون؟.

قوله تعالى: "فرددناه إلى أمه كي تقر عينها و لا تحزن و لتعلم أن وعد الله حق و لكن أكثرهم لا يعلمون" تفريع على ما تقدمه مع تقدير ما يدل عليه السياق، و المحصل أنها قالت: هل أدلكم على أهل بيت كذا فأنعموا لها بالقبول فدلتهم على أمه فسلموه إليها فرددناه إلى أمه بنظم هذه الأسباب.

و قوله: "كي تقر عينها و لا تحزن و لتعلم" إلخ، تعليل للرد و المراد بالعلم هو اليقين بالمشاهدة فإنها كانت تعلم من قبل أن وعد الله حق و كانت مؤمنة و إنما أريد بالرد أن توقن بالمشاهدة أن وعد الله حق.

و المراد بوعد الله مطلق الوعد الإلهي بدليل قوله: "و لكن أكثرهم لا يعلمون" أي لا يوقنون بذلك و يرتابون في مواعده تعالى و لا تطمئن إليها نفوسهم، و محصله أن توقع بمشاهدة حقية هذا الذي وعدها الله به أن مطلق وعده تعالى حق.

و ربما يقال: إن المراد بوعد الله خصوص الوعد المذكور في الآية السابقة: "إنا رادوه إليك و جاعلوه من المرسلين" و لا يلائمه قوله بعد: "و لكن" إلخ على ما تقدم.



قوله تعالى: "و لما بلغ أشده و استوى آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين" بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد عند ذلك قواه و يكون في الغالب في الثمان عشرة، و الاستواء الاعتدال و الاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الإنسان في أمر حياته و يختلف في الأفراد و هو على الأغلب بعد بلوغ الأشد، و قد تقدم الكلام في معنى الحكم و العلم و إيتائهما و معنى الإحسان في مواضع من الكتاب.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رض: في قوله تعالى: "و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض" قال: يوسف و ولده.

أقول: لعل المراد بنو إسرائيل، و إلا فظهور الآية في خلافه غير خفي.

و في معاني الأخبار، بإسناده عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى علي و الحسن و الحسين (عليهما السلام) فبكى و قال: أنتم المستضعفون بعدي. قال المفضل: فقلت له: ما معنى ذلك؟ قال: معناه أنكم الأئمة بعدي إن الله عز و جل يقول: "و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض - و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين" فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة.

أقول: و الروايات من طرق الشيعة في كون الآية في أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة و بهذه الرواية يظهر أنها جميعا من قبيل الجري و الانطباق.

و في نهج البلاغة،: لتعطفن الدنيا عليا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها و تلا عقيب ذلك "و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض - و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين".

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و أوحينا إلى أم موسى" إلى آخر الآية: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنه لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن و ذلك أنه كان لما بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس. فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمت و بكت و قالت: يذبح الساعة فعطف الله عز و جل قلب الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت أخاف أن يذبح ولدي فقالت: لا تخافي و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قول الله: "و ألقيت عليك محبة مني". فأحبته القبطية الموكلة بها و أنزل الله على أم موسى التابوت، و نوديت ضعيه في التابوت فألقيه في اليم و هو البحر "و لا تخافي و لا تحزني - إنا رادوه إليك و جاعلوه من المرسلين" فوضعته في التابوت و أطبقته عليه و ألقته في النيل. و كان لفرعون قصر على شط النيل متنزه فنظر من قصره و معه آسية امرأته إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج و الرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون فأمر فرعون بأخذه فأخذ التابوت و رفع إليه فلما فتحه وجد فيه صبيا فقال: هذا إسرائيلي فألقى الله في قلب فرعون محبة شديدة و كذلك في قلب آسية. و أراد فرعون أن يقتله فقالت آسية: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا - و هم لا يشعرون أنه موسى.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "قرة عين لي و لك لا تقتلوه" إلخ، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): و الذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها و لكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه.

و في المعاني، بإسناده عن محمد بن نعمان الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "فلما بلغ أشده و استوى" قال: أشده ثمان عشرة سنة "و استوى" التحى.

28 سورة القصص - 15 - 21

وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَينِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَ هَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاستَغَثَهُ الّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلى الّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشيْطنِ إِنّهُ عَدُوّ مّضِلّ مّبِينٌ (15) قَالَ رَب إِنى ظلَمْت نَفْسى فَاغْفِرْ لى فَغَفَرَ لَهُ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ (16) قَالَ رَب بِمَا أَنْعَمْت عَلىّ فَلَنْ أَكُونَ ظهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصبَحَ فى الْمَدِينَةِ خَائفاً يَترَقّب فَإِذَا الّذِى استَنصرَهُ بِالأَمْسِ يَستَصرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسى إِنّك لَغَوِىّ مّبِينٌ (18) فَلَمّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِش بِالّذِى هُوَ عَدُوّ لّهُمَا قَالَ يَمُوسى أَ تُرِيدُ أَن تَقْتُلَنى كَمَا قَتَلْت نَفْسا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبّاراً فى الأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصلِحِينَ (19) وَ جَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصا الْمَدِينَةِ يَسعَى قَالَ يَمُوسى إِنّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِك لِيَقْتُلُوك فَاخْرُجْ إِنى لَك مِنَ النّصِحِينَ (20) فخَرَجَ مِنهَا خَائفاً يَترَقّب قَالَ رَب نجِّنى مِنَ الْقَوْمِ الظلِمِينَ (21)

بيان

فصل ثان من قصة موسى (عليه السلام) فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشده فأدى إلى خروجه من مصر و قصده مدين.

قوله تعالى: "و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها" إلخ، لا ريب أن المدينة التي دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر، و أنه كان يعيش عند فرعون، و يستفاد من ذلك أن القصر الملكي الذي كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة و أنه خرج منه و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، و يؤيد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله: "و جاء رجل من أقصى المدينة يسعى" على ما سيجيء من الاستظهار.

و حين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطل الأسواق و تخلو الشوارع و الأزقة من المارة كالظهيرة و أواسط الليل.

و قوله: "فوجد فيها رجلين يقتتلان" أي يتنازعان و يتضاربان، و قوله: "هذا من شيعته و هذا من عدوه" حكاية حال تمثل به الواقعة، و معناه: أن أحدهما كان إسرائيليا من متبعيه في دينه - فإن بني إسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليهما السلام) في دينهم و إن كان لم يبق لهم منه إلا الاسم و كانوا يتظاهرون بعبادة فرعون - و الآخر قبطيا عدوا له لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، و من الشاهد أيضا على كون هذا الرجل قبطيا قوله في موضع آخر يخاطب ربه: "و لهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون": الشعراء: 14.

و قوله: "فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه" الاستغاثة: الاستنصار من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوه القبطي.

و قوله: "فوكزه موسى فقضى عليه" ضميرا "وكزه" و "عليه" للذي من عدوه و الوكز - على ما ذكره الراغب و غيره - الطعن و الدفع و الضرب بجمع الكف، و القضاء هو الحكم و القضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته، و المعنى: فدفعه أو ضربه موسى بالوكز فمات، و كان قتل خطإ و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يعبر بالقتل.

و قوله: "قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين" الإشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتى أدى إلى موت القبطي و قد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال: "هذا من عمل الشيطان" و "من" ابتدائية تفيد معنى الجنس أو نشوئية، و المعنى: هذا الذي وقع من المعاداة و الاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فإنه هو الذي أوقع العداوة و البغضاء بينهما و أغرى على الاقتتال حتى أدى ذلك إلى مداخلة موسى و قتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم و قد كان يعلم أن الواقعة لا تبقى خفية مكتومة و أن القبط سيثورون عليه و أشرافهم و ملؤهم و على رأسهم فرعون سينتقمون منه و من كل من تسبب إلى ذلك أشد الانتقام.

فعند ذلك تنبه (عليه السلام) أنه أخطأ فيما فعله من الوكز الذي أورده مورد الهلكة و لا ينسب الوقوع في الخطإ إلى الله سبحانه لأنه لا يهدي إلا إلى الحق و الصواب فقضي أن ذلك منسوب إلى الشيطان.



و فعله ذاك و إن لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ و كون دفاعه عن الإسرائيلي دفعا لكافر ظالم، لكن الشيطان كما يوقع بوسوسته الإنسان في الإثم و المعصية كذلك يوقعه في أي مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة و المشقة كما أوقع آدم و زوجه فيما أوقع من أكل الشجرة المنهية فأدى ذلك إلى خروجهما من الجنة.

فقوله: "هذا من عمل الشيطان" انزجار منه عما وقع من الاقتتال المؤدي إلى قتل القبطي و وقوعه في عظيم الخطر و ندم منه على ذلك، و قوله: "إنه عدو مضل مبين" إشارة منه إلى أن فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان و إن لم يكن من المعصية التي فيها إثم و مؤاخذة بل خطأ محضا لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الذي هو عدو مضل مبين، فكان ذلك منه نوعا من سوء التدبير و ضلال السعي يسوقه إلى عاقبة وخيمة و لذا لما اعترض عليه فرعون بقوله: "و فعلت فعلتك التي فعلت و أنت من الكافرين" أجابه بقوله: "فعلتها إذا و أنا من الضالين": الشعراء: 20.

قوله تعالى: "قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم" اعتراف منه عند ربه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر و ألقاها في التهلكة، و منه يظهر أن المراد بالمغفرة المسئولة في قوله: "فاغفر لي" هو إلغاء تبعة فعله و إنجاؤه من الغم و تخليصه من شر فرعون و ملئه، كما يظهر من قوله تعالى: "و قتلت نفسا فنجيناك من الغم": طه: 40.

و هذا الاعتراف بالظلم و سؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم و زوجه المحكي في قوله تعالى: "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين"،: الأعراف: 23.

قوله تعالى: "قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين" قيل: الباء في قوله: "بما أنعمت" للسببية و المعنى رب بسبب ما أنعمت علي، لك علي أن لا أكون معينا للمجرمين فيكون عهدا منه لله تعالى و قيل: الباء للقسم و الجواب محذوف و المعنى: أقسم بما أنعمت علي لأتوبن أو لأمتنعن فلن أكون ظهيرا للمجرمين، و قيل: القسم استعطافي و هو القسم الواقع في الإنشاء كقولك بالله زرني، و المعنى أقسمك أن تعطف علي و تعصمني فلن أكون ظهيرا للمجرمين.

و الوجه الأول هو الأوجه لأن المراد بقوله: "بما أنعمت علي" - على ما ذكروه - أما إنعامه تعالى عليه إذ حفظه و خلصه من قتل فرعون و رده إلى أمه، و أما إنعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطي و غفر له بناء على أنه علم مغفرته تعالى بإلهام أو رؤيا أو نحوهما و كيف كان فهو إقسام بغيره تعالى، و المعنى أقسم بحفظك إياي أو أقسم بمغفرتك لي، و لم يعهد في كلامه تعالى حكاية قسم من غيره بغيره بهذا النحو.

و قوله: "فلن أكون ظهيرا للمجرمين" قيل: المراد بالمجرم من أوقع غيره في الجرم أو من أدت إعانته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأوقعت إعانته موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب الموقع في الجرم مجرما.

و قيل: المراد بالمجرمين فرعون و قومه و المعنى: أقسم بإنعامك علي لأتوبن فلن أكون معينا لفرعون و قومه بصحبتهم و ملازمتهم و تكثير سوادهم كما كنت أفعله إلى هذا اليوم.

و رد هذا الوجه الثاني بأنه لا يناسب المقام.



و الحق أن قوله: "رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين" عهد من موسى (عليه السلام) أن لا يعين مجرما على إجرامه شكرا لله تعالى على ما أنعم عليه، و المراد بالنعمة و قد أطلقت إطلاقا الولاية الإلهية على ما يشهد به قوله تعالى: "فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين": النساء: 69.

و هؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال و الغضب لقوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين": الفاتحة: 7، و ترتب الامتناع عن إعانة المجرمين على الإنعام بهذا المعنى ظاهر لا سترة عليه.

و من هنا يظهر أن المراد بالمجرمين أمثال فرعون و قومه دون أمثال الإسرائيلي الذي أعانه فلم يكن في إعانته جرم و لا كان وكز القبطي جرما حتى يتوب (عليه السلام) منه كيف؟ و هو (عليه السلام) من أهل الصراط المستقيم الذين لا يضلون بمعصيته، و قد نص تعالى على كونه من المخلصين الذين لا سبيل للشيطان إليهم بالإغواء حيث قال: "إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا": مريم: 51.

و قد نص تعالى أيضا آنفا بأنه آتاه حكما و علما و أنه من المحسنين و من المتقين من أمره أن لا تستخفه عصبية قومية أو غضب في غير ما ينبغي أو إعانة و نصرة لمجرم في إجرامه.

و قد كرر "قال" ثلاثا حيث قيل: "قال هذا من عمل الشيطان" "قال رب إني ظلمت نفسي" "قال رب بما أنعمت علي" و ذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث فالجملة الأولى قضاء منه و حكم، و الجملة الثانية استغفار و دعاء، و الجملة الثالثة عهد و التزام.

قوله تعالى: "فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين" تقييد "أصبح" بقوله: "في المدينة" دليل على أنه بقي في المدينة و لم يرجع إلى قصر فرعون، و الاستصراخ الاستغاثة برفع الصوت من الصراخ بمعنى الصياح، و الغواية إخطاء الصواب خلاف الرشد.

و المعنى: فأصبح موسى في المدينة - و لم يرجع إلى بلاط فرعون - و الحال أنه خائف من فرعون ينتظر الشر ففاجأه أن الإسرائيلي الذي استنصره على القبطي بالأمس يستغيث به رافعا صوته على قبطي آخر قال موسى للإسرائيلي توبيخا و تأنيبا: إنك لغوي مبين لا تسلك سبيل الرشد و الصواب لأنه كان يخاصم و يقتتل قوما ليس في مخاصمتهم و المقاومة عليهم إلا الشر كل الشر.

قوله تعالى: "فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أ تريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس" إلى آخر الآية، ذكر جل المفسرين أن ضمير "قال" للإسرائيلي الذي كان يستصرخه و ذلك أنه ظن أن موسى إنما يريد أن يبطش به لما سمعه يعاتبه قبل بقوله: "إنك لغوي مبين" فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال: "يا موسى أ تريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس" إلخ، فعلم القبطي عند ذلك أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فائتمروا بموسى و عزموا على قتله.

و ما ذكروه في محله لشهادة السياق بذلك فلا يعبأ بما قيل: إن القائل هو القبطي دون الإسرائيلي، هذا و معنى باقي الآية ظاهر.

و في قوله: "أن يبطش بالذي هو عدو لهما" تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أن المتقاتلين هذين كانا جميعا إسرائيليين، و فيه أيضا تأييد أن القائل: "يا موسى أ تريد" إلخ، الإسرائيلي دون القبطي لأن سياقه سياق اللوم و الشكوى.



قوله تعالى: "و جاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك" إلخ، الائتمار المشاورة، و النصيحة خلاف الخيانة.

و الظاهر كون قوله: "من أقصى المدينة" قيدا لقوله: "جاء" فسياق القصة يعطي أن الائتمار كان عند فرعون و بأمر منه، و أن هذا الرجل جاء من هناك و قد كان قصر فرعون في أقصى المدينة و خارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله و أشار عليه بالخروج من المدينة.

و هذا الاستئناس من الكلام يؤيد ما تقدم أن قصر فرعون الذي كان يسكنه كان خارج المدينة، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين" فيه تأييد أنه ما كان يرى قتله القبطي خطأ جرما لنفسه.

بحث روائي

في تفسير القمي، قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال و كان ينكر عليه ما يتكلم به موسى (عليه السلام) من التوحيد حتى هم به فخرج موسى من عنده و دخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى و الآخر يقول بقول فرعون فاستغاثه الذي من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه و توارى في المدينة. فلما كان الغد جاء آخر فتشبث بذلك الرجل الذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلما نظر صاحبه إلى موسى قال له. أ تريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ فخلى عن صاحبه و هرب.

و في العيون، بإسناده إلى علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله: "فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان" قال الرضا (عليه السلام): إن موسى (عليه السلام) دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها و ذلك بين المغرب و العشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته و هذا من عدوه فقضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال: هذا من عمل الشيطان يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله "إنه" يعني الشيطان "عدو مضل مبين". قال المأمون: فما معنى قول موسى: "رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي"؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له إنه هو الغفور الرحيم. قال موسى: رب بما أنعمت علي من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل أجاهدهم بهذه القوة حتى ترضى. فأصبح موسى (عليه السلام) في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه على آخر قال له موسى إنك لغوي مبين قاتلت رجلا بالأمس و تقاتل هذا اليوم لأؤدبنك و أراد أن يبطش به فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما و هو من شيعته قال: يا موسى أ تريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض - و ما تريد أن تكون من المصلحين. قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن.

28 سورة القصص - 22 - 28

وَ لَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسى رَبى أَن يَهْدِيَنى سوَاءَ السبِيلِ (22) وَ لَمّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مِّنَ النّاسِ يَسقُونَ وَ وَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطبُكُمَا قَالَتَا لا نَسقِى حَتى يُصدِرَ الرِّعَاءُ وَ أَبُونَا شيْخٌ كبِيرٌ (23) فَسقَى لَهُمَا ثُمّ تَوَلى إِلى الظلِّ فَقَالَ رَب إِنى لِمَا أَنزَلْت إِلىّ مِنْ خَيرٍ فَقِيرٌ (24) فجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشى عَلى استِحْيَاءٍ قَالَت إِنّ أَبى يَدْعُوك لِيَجْزِيَك أَجْرَ مَا سقَيْت لَنَا فَلَمّا جَاءَهُ وَ قَص عَلَيْهِ الْقَصص قَالَ لا تخَف نجَوْت مِنَ الْقَوْمِ الظلِمِينَ (25) قَالَت إِحْدَاهُمَا يَأَبَتِ استَئْجِرْهُ إِنّ خَيرَ مَنِ استَئْجَرْت الْقَوِى الأَمِينُ (26) قَالَ إِنى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَك إِحْدَى ابْنَتىّ هَتَينِ عَلى أَن تَأْجُرَنى ثَمَنىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْت عَشراً فَمِنْ عِندِك وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشقّ عَلَيْك ستَجِدُنى إِن شاءَ اللّهُ مِنَ الصلِحِينَ (27) قَالَ ذَلِك بَيْنى وَ بَيْنَك أَيّمَا الأَجَلَينِ قَضيْت فَلا عُدْوَنَ عَلىّ وَ اللّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكيلٌ (28)

بيان

فصل ثالث من قصته (عليه السلام) يذكر فيه خروجه من مصر إلى مدين عقيب قتله القبطي خوفا من فرعون و تزوجه هناك بابنة شيخ كبير لم يسم في القرآن لكن تذكر روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و بعض روايات أهل السنة أنه هو شعيب النبي المبعوث إلى مدين.

قوله تعالى: "و لما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل" قال في المجمع:، تلقاء الشيء حذاؤه، و يقال: فعل ذلك من تلقاء نفسه أي من حذاء داعي نفسه.

و قال: سواء السبيل وسط الطريق انتهى.

و مدين - على ما في مراصد الاطلاع -، مدينة قوم شعيب و هي تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل و هي أكبر من تبوك و بها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب (عليه السلام)

انتهي.

و يقال: إنه كان بينهما و بين مصر مسيرة ثمان و كانت خارجة من سلطان فرعون و لذا توجه إليها.

و المعنى: و لما صرف وجهه بعد الخروج من مصر حذاء مدين قال: أرجو من ربي أن يهديني وسط الطريق فلا أضل بالعدول عنه و الخروج منه إلى غيره.

و السياق - كما ترى - يعطي أنه (عليه السلام) كان قاصدا لمدين و هو لا يعرف الطريق الموصلة إليها فترجى أن يهديه ربه.

قوله تعالى: "و لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون" إلخ الذود الحبس و المنع، و المراد بقوله: "تذودان" أنهما يحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو تختلط بأغنام القوم كما أن المراد بقوله: "يسقون" سقيهم أغنامهم و مواشيهم، و الرعاء جمع الراعي و هو الذي يرعى الغنم.

و المعنى: و لما ورد موسى ماء مدين وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم و وجد بالقرب منهم مما يليه امرأتين تحبسان أغنامهما و تمنعانها أن ترد المورد قال موسى مستفسرا عنهما - حيث وجدهما تذودان الغنم و ليس على غنمهما رجل -: ما شأنكما؟ قالتا لا نسقي غنمنا أي عادتنا ذلك حتى يصدر الراعون و يخرجوا أغنامهم و أبونا شيخ كبير - لا يقدر أن يتصدى بنفسه أمر السقي و لذا تصدينا الأمر.

قوله تعالى: "فسقى لهما ثم تولى إلى الظل و قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فهم" (عليهم السلام) من كلامهما أن تأخرهما في السقي نوع تعفف و تحجب منهما و تعد من الناس عليهما فبادر إلى ذلك و سقى لهما.

و قوله: "ثم تولى إلى الظل و قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" أي انصرف إلى الظل ليستريح فيه و الحر شديد و قال ما قال، و قد حمل الأكثرون قوله: "رب إني لما أنزلت" إلخ على سؤال طعام يسد به الجوع، و عليه فالأولى أن يكون المراد بقوله "ما أنزلت إلي" القوة البدنية التي كان يعمل بها الأعمال الصالحة التي فيها رضى الله كالدفاع عن الإسرائيلي و الهرب من فرعون بقصد مدين و سقي غنم شعيب و اللام في "لما أنزلت" بمعنى إلى و إظهار الفقر إلى هذه القوة التي أنزلها الله إليه من عنده بالإفاضة كناية عن إظهار الفقر إلى شيء من الطعام تستبقى به هذه القوة النازلة الموهوبة.



و يظهر منه أنه (عليه السلام) كان ذا مراقبة شديدة في أعماله فلا يأتي بعمل و لا يريده و إن كان مما يقتضيه طبعه البشري إلا ابتغاء مرضاة ربه و جهادا فيه، و هذا ظاهر بالتدبر في القصة فهو القائل لما وكز القبطي: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ثم القائل لما خرج من مصر خائفا يترقب: "رب نجني من القوم الظالمين" ثم القائل لما أخذ في السلوك: "عسى ربي أن يهديني سواء السبيل" ثم القائل لما سقى و تولى إلى الظل: "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" ثم القائل لما آجر نفسه شعيبا و عقد على بنته: "و الله على ما نقول وكيل".

و ما نقل عن بعضهم أن اللام في "لما أنزلت" للتعليل و كذا قول بعضهم إن المراد بالخير خير الدين و هو النجاة من الظالمين بعيد مما يعطيه السياق.

قوله تعالى: "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء" إلى آخر الآية.

ضمير إحداهما للمرأتين، و تنكير الاستحياء للتفخيم و المراد بكون مشيها على استحياء ظهور التعفف من مشيتها، و قوله: "ليجزيك أجر ما سقيت لنا" ما مصدرية أي ليعطيك جزاء سقيك لنا، و قوله: "فلما جاءه و قص عليه القصص قال لا تخف" إلخ يلوح إلى أن شعيبا استفسره حاله فقص عليه قصته فطيب نفسه بأنه نجا منهم إذ لا سلطان لهم على مدين.

و عند ذلك تمت استجابته تعالى لموسى (عليه السلام) أدعيته الثلاثة فقد كان سأل الله تعالى عند خروجه من مصر أن ينجيه من القوم الظالمين فأخبره شعيب (عليه السلام) بالنجاة و ترجى أن يهديه سواء السبيل و هو في معنى الدعاء فورد مدين، و سأله الرزق فدعاه شعيب ليجزيه أجر ما سقى و زاد تعالى فكفاه رزق عشر سنين و وهب له زوجا يسكن إليها.

قوله تعالى: "قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" إطلاق الاستيجار يفيد أن المراد استخدامه لمطلق حوائجه التي تستدعي من يقوم مقامه و إن كانت العهدة باقتضاء المقام رعي الغنم.

و قوله: "إن خير من استأجرت" إلخ، في مقام التعليل لقوله: "استأجره" و هو من وضع السبب موضع المسبب و التقدير استأجره لأنه قوي أمين و خير من استأجرت هو القوي الأمين.

و في حكمها بأنه قوي أمين دلالة على أنها شاهدت من نحو عمله في سقي الأغنام ما استدلت به على قوته و كذا من ظهور عفته في تكليمهما و سقي أغنامهما ثم في صحبته لها عند ما انطلق إلى شعيب حتى أتاه ما استدلت به على أمانته.

و من هنا يظهر أن هذه القائلة: "يا أبت استأجره" إلخ، هي التي جاءته و أخبرته بدعوة أبيها له كما وردت به روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و ذهب إليه جمع من المفسرين.

قوله تعالى: "قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج" إلخ، عرض من شعيب لموسى (عليهما السلام) أن يأجره نفسه ثماني سنين أو عشرا قبال تزويجه إحدى ابنتيه و ليس بعقد قاطع و من الدليل عدم تعين المعقودة في كلامه (عليه السلام).

فقوله: "إحدى ابنتي هاتين" دليل على حضورهما إذ ذاك، و قوله: "على أن تأجرني ثماني حجج" أي على أن تأجرني نفسك أي تكون أجيرا لي ثماني حجج، و الحجج جمع حجة و المراد بها السنة بعناية أن كل سنة فيها حجة للبيت الحرام، و به يظهر أن حج البيت - و هو من شريعة إبراهيم (عليه السلام) - كان معمولا به عندهم.

و قوله: "فإن أتممت عشرا فمن عندك" أي فإن أتممته عشر سنين فهو من عندك و باختيار منك من غير أن تكون ملزما من عندي.

و قوله: "و ما أريد أن أشق عليك" إخبار عن نحو ما يريده منه من الخدمة و أنه عمل غير موصوف بالمشقة و أنه مخدوم صالح.



و قوله: "ستجدني إن شاء الله من الصالحين" أي إني من الصالحين و ستجدني منهم إن شاء الله فالاستثناء متعلق بوجدان موسى إياه منهم لا بكونه في نفسه منهم.

قوله تعالى: "قال ذلك بيني و بينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي و الله على ما نقول وكيل" الضمير لموسى (عليه السلام).

و قوله: "ذلك بيني و بينك" أي ذلك الذي ذكرته و قررته من المشارطة و المعاهدة و عرضته علي ثابت بيننا ليس لي و لا لك أن نخالف ما شارطناه، و قوله: "أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي" بيان للأجل المردد المضروب في كلام شعيب (عليه السلام) و هو قوله: "ثماني حجج و إن أتممت عشرا فمن عندك" أي لي أن أختار أي الأجلين شئت فإن اخترت الثماني سنين فليس لك أن تعدو علي و تلزمني بالزيادة و إن اخترت الزيادة و خدمتك عشرا فليس لك أن تعدو علي بالمنع من الزيادة.

و قوله: "و الله على ما نقول وكيل" توكيل له تعالى فيما يشارطان يتضمن إشهاده تعالى على ما يقولان و إرجاع الحكم و القضاء بينهما إليه لو اختلفا، و لذا اختار التوكيل على الإشهاد لأن الشهادة و القضاء كليهما إليه تعالى، و هذا كقول يعقوب (عليه السلام) حين أخذ الموثق من بنيه أن يردوا إليه ابنه فيما يحكيه الله: "فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل": يوسف: 66.

بحث روائي

في كتاب كمال الدين، بإسناده إلى سدير الصيرفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل: و جاء من أقصى المدينة رجل يسعى - قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك - فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب من مصر بغير ظهر و لا دابة و لا خادم تخفضه أرض و ترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين. فانتهى إلى أصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر و إذا عندها أمة من الناس يسقون و إذا جاريتان ضعيفتان و إذا معهما غنيمة لهما قال ما خطبكما قالتا أبونا شيخ كبير و نحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ دلوهما فقال لهما: قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس. ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها و قال: "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" فروي أنه قال ذلك و هو محتاج إلى شق تمرة فلما رجعتا إلى أبيهما قال: ما أعجلكما في هذه الساعة قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فروي أن موسى (عليه السلام) قال لها: وجهني إلى الطريق و امشي خلفي فإنا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء، فلما جاءه و قص عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين. قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين - على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك فروي أنه قضى أتمهما لأن الأنبياء (عليهم السلام) لا تأخذ إلا بالفضل و التمام.

أقول: و روى ما في معناه القمي في تفسيره.

و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل حكاية عن موسى (عليه السلام): "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" قال: سأل الطعام.



أقول: و روى العياشي عن حفص عنه (عليه السلام): مثله، و لفظه إنما عنى الطعام: و أيضا عن ليث عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله، و في نهج البلاغة،: مثله و لفظه و الله ما سأله إلا خبزا يأكله.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير قال: إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر.

و في تفسير القمي، قال: قالت إحدى بنات شعيب: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، فقال لها شعيب (عليه السلام): أما قوته فقد عرفتنيه أنه يستقي الدلو وحده فبم عرفت أمانته؟ فقالت: إنه لما قال لي: تأخري عني و دليني على الطريق فإنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته: أقول: و روي مثله في المجمع، عن علي (عليه السلام).

و في المجمع، و روى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رسائل أيتهما التي قالت: إن أبي يدعوك؟ قال: التي تزوج بها. قيل: فأي الأجلين قضى؟ قال: أوفاهما و أبعدهما عشر سنين. قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: قبل أن ينقضي. قيل له: فالرجل يتزوج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين أ يجوز ذلك؟ قال: إن موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل: كيف؟ قال: علم أنه سيبقى حتى يفي.

أقول: و روى قضاء عشر سنين في الدر المنثور، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدة طرق.

و في تفسير العياشي، و قال الحلبي: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن البيت أ كان يحج قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: نعم و تصديقه في القرآن قول شعيب حين قال لموسى (عليه السلام) حيث تزوج: "على أن تأجرني ثماني حجج" و لم يقل ثماني سنين.

28 سورة القصص - 29 - 42

فَلَمّا قَضى مُوسى الأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ ءَانَس مِن جَانِبِ الطورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنى ءَانَست نَاراً لّعَلى ءَاتِيكُم مِّنْهَا بخَبرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النّارِ لَعَلّكُمْ تَصطلُونَ (29) فَلَمّا أَتَاهَا نُودِى مِن شطِى الْوَادِ الأَيْمَنِ فى الْبُقْعَةِ الْمُبَرَكةِ مِنَ الشجَرَةِ أَن يَمُوسى إِنى أَنَا اللّهُ رَب الْعَلَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصاك فَلَمّا رَءَاهَا تهْتزّ كَأَنهَا جَانّ وَلى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّب يَمُوسى أَقْبِلْ وَ لا تخَف إِنّك مِنَ الاَمِنِينَ (31) اسلُك يَدَك فى جَيْبِك تخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيرِ سوءٍ وَ اضمُمْ إِلَيْك جَنَاحَك مِنَ الرّهْبِ فَذَنِك بُرْهَنَانِ مِن رّبِّك إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلايهِ إِنّهُمْ كانُوا قَوْماً فَسِقِينَ (32) قَالَ رَب إِنى قَتَلْت مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَاف أَن يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصحُ مِنى لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصدِّقُنى إِنى أَخَاف أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سنَشدّ عَضدَك بِأَخِيك وَ نجْعَلُ لَكُمَا سلْطناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِئَايَتِنَا أَنتُمَا وَ مَنِ اتّبَعَكُمَا الْغَلِبُونَ (35) فَلَمّا جَاءَهُم مّوسى بِئَايَتِنَا بَيِّنَتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مّفْترًى وَ مَا سمِعْنَا بِهَذَا فى ءَابَائنَا الأَوّلِينَ (36) وَ قَالَ مُوسى رَبى أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَ مَن تَكُونُ لَهُ عَقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لا يُفْلِحُ الظلِمُونَ (37) وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْت لَكم مِّنْ إِلَهٍ غَيرِى فَأَوْقِدْ لى يَهَمَنُ عَلى الطينِ فَاجْعَل لى صرْحاً لّعَلى أَطلِعُ إِلى إِلَهِ مُوسى وَ إِنى لأَظنّهُ مِنَ الْكَذِبِينَ (38) وَ استَكْبرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فى الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ وَ ظنّوا أَنّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَهُمْ فى الْيَمِّ فَانظرْ كَيْف كانَ عَقِبَةُ الظلِمِينَ (40) وَ جَعَلْنَهُمْ أَئمّةً يَدْعُونَ إِلى النّارِ وَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ لا يُنصرُونَ (41) وَ أَتْبَعْنَهُمْ فى هَذِهِ الدّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

بيان

فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) و قد أودع فيه إجمال قصته من حين سار بأهله من مدين قاصدا لمصر و بعثته بالرسالة إلى فرعون و ملئه لإنجاء بني إسرائيل و تكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم و تنتهي القصة إلى إيتائه الكتاب و كأنه هو العمدة في سرد القصة.

قوله تعالى: "فلما قضى موسى الأجل و سار بأهله آنس من جانب الطور نارا" إلخ، المراد بقضائه الأجل إتمامه مدة خدمته لشعيب (عليه السلام) و المروي أنه قضى أطول الأجلين، و الإيناس الإبصار و الرؤية، و الجذوة من النار القطعة منها، و الاصطلاء الاستدفاء.

و السياق يشهد أن الأمر كان بالليل و كانت ليلة شديدة البرد و قد ضلوا الطريق فرأى من جانب الطور و قد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها، و قد وقع في القصة من سورة طه موضع قوله: "لعلي آتيكم منها بخبر" إلخ قوله: "لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى:" طه: 10، و هو أدل على كونهم ضلوا الطريق.

و كذا في قوله خطابا لأهله: "امكثوا" إلخ، شهادة على أنه كان معها من يصح معه خطاب الجمع.

قوله تعالى: "فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة" إلخ قال في المفردات:، شاطىء الوادي جانبه، و قال: أصل الوادي الموضع الذي يسيل منه الماء و منه سمي المنفرج بين الجبلين واديا و جمعه أودية انتهى و البقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها.

و المراد بالأيمن الجانب الأيمن مقابل الأيسر و هو صفة الشاطىء و لا يعبأ بما قاله بعضهم: إن الأيمن من اليمين مقابل الأشأم من الشؤم.

و البقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطىء الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها، و مباركتها لتشرفها بالتقريب و التكليم الإلهي و قد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: "فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى": طه: 12.

و لا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءا للنداء و التكليم بوجه غير أن الكلام و هو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب و هو على كل شيء محيط، قال تعالى: "و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء": الشورى: 51.

و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن الشجرة كانت محل الكلام لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به.

و كذا ما قيل: إن هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء (عليهم السلام) أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة و مبلغ.

و ذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب و الحجاب واسطة و ظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ.



و قوله: "أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين" أن فيه تفسيرية، و فيه إنباء عن الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ كونه ربا للعالمين جميعا - و الرب هو المالك المدبر لملكه الذي يستحق العبادة من مملوكيه - لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره و إله معبود سواه.

ففي الآية إجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الإشارة إلى الأصول الثلاثة أعني التوحيد و النبوة و المعاد إذ قال: "إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني و أقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية" الآيات: طه: 14 - 16.

قوله تعالى: "و أن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى: مدبرا و لم يعقب" تقدم تفسيره في سورة النمل.

قوله تعالى: "يا موسى أقبل و لا تخف إنك من الآمنين" بتقدير القول أي قيل له: أقبل و لا تخف إنك من الآمنين، و في هذا الخطاب تأمين له، و به يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل: "يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون": النمل: 10 و أنه تأمين معناه أنك مرسل و المرسلون آمنون لدي و ليس من العتاب و التوبيخ في شيء.

قوله تعالى: "اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" المراد بسلوك يده في جيبه إدخاله فيه، و المراد بالسوء - على ما قيل - البرص.

و الظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا الموضع من القصة: ثم قال له الرب أيضا: أدخل يدك في عبك فأدخل يده في عبه ثم أخرجها و إذا يده برصاء مثل الثلج.

قوله تعالى: "و اضمم إليك جناحك من الرهب" إلى آخر الآية، الرهب بالفتح فالسكون و بفتحتين و بالضم فالسكون الخوف، و الجناح قيل: المراد به اليد و قيل: العضد.

قيل: المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف.

و قيل: إنه لما ألقى العصا و صارت حية بسط يديه كالمتقي و هما جناحاه فقيل له: اضمم إليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فإنك آمن من ضررها.

و الوجهان - كما ترى - مبنيان على كون الجملة أعني قوله: "و اضمم" إلخ، من تتمة قوله: "أقبل و لا تخف إنك من الآمنين" و هذا لا يلائم تخلل قوله: "اسلك يدك في جيبك" إلخ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف.

و قيل: الجملة كناية عن الأمر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه و الحث على الجد في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الأحوال.

و لا يبعد أن يكون المراد بالجملة الأمر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع فإن من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه و جنبيه كالمتمطي في مشيته فيكون في معنى ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من التواضع للمؤمنين بقوله: "و اخفض جناحك للمؤمنين": الحجر: 88 على بعض المعاني.

قوله تعالى: "قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون" إشارة إلى قتله القبطي بالوكز و كان يخاف أن يقتلوه قصاصا.

قوله تعالى: "و أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون" قال في المجمع:، يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره و يشد ظهره.

انتهي.



و قوله: "إني أخاف أن يكذبون" تعليل لسؤاله إرسال هارون معه، و السياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب و لا يستطيع بيان حجته للكنة كانت في لسانه لا أنه سأل إرساله لئلا يكذبوه فإن من يكذبه لا يبالي أن يكذب هارون معه و من الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة من قوله: "قال رب إني أخاف أن يكذبون و يضيق صدري و لا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون": الشعراء: 13.

فمحصل المعنى: أن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين صدقي في دعواي إذا خاصموني إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي.

قوله تعالى: "قال سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما و من اتبعكما الغالبون" شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به، و عدم الوصول إليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل و نحوه كأن الطائفتين يتسابقان و إحداهما متقدمة دائما و الأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم.

و المعنى: قال سنقويك و نعينك بأخيك هارون و نجعل لكما سلطة و غلبة عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التي نظهركما بها.

ثم قال: "أنتما و من اتبعكما الغالبون" و هو بيان لقوله: "و نجعل لكما سلطانا" إلخ، يوضح أن هذا السلطان يشملهما و من اتبعهما من الناس.

و قد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر و الغلبة و قيل: هو بمعنى الحجة و الأولى حينئذ أن يكون قوله: "بآياتنا" متعلقا بقوله: "الغالبون" لا بقوله: "فلا يصلون إليكما" و قد ذكروا في الآية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها.

قوله تعالى: "فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى" إلخ، أي سحر موصوف بأنه مفترى و المفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمي وصف به السحر مبالغة.

و الإشارة في قوله: "ما هذا إلا سحر مفترى" إلى ما جاء به من الآيات أي ليس ما جاء به من الخوارق إلا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا.

و الإشارة في قوله: "و ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين" إلى ما جاء به من الدعوة و أقام عليها حجة الآيات، و أما احتمال أن يراد بها الإشارة إلى الآيات فلا يلائمه تكرار اسم الإشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في قوله: "فلنأتينك بسحر مثله": طه: 58، على أن عدم معهودية السحر و عدم مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه.

فالمعنى: أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين أنهم اتخذوه في وقت من الأوقات، و يناسبه ما حكي في الآية التالية من قول موسى: "ربي أعلم بمن جاء بالهدى" إلخ.

قوله تعالى: "و قال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده و من تكون له عاقبة الدار" إلخ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم: "و ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين" في رد دعوى موسى، و هو جواب مبني على التحدي كأنه يقول: إن ربي - و هو رب العالمين له الخلق و الأمر - هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى و من تكون له عاقبة الدار و هو الذي أرسلني رسولا جائيا بالهدى - و هو دين التوحيد - و وعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار، و الحجة على ذلك الآيات البينات التي آتانيها من عنده.

فقوله: "ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده" يريد به نفسه و المراد بالهدى الدعوة الدينية التي جاء بها.



و قوله: "و من تكون له عاقبة الدار" المراد بعاقبة الدار إما الجنة التي هي الدار الآخرة التي يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم: "و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء": الزمر: 74، و إما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله: "قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين": الأعراف: 128، و إما الأعم الشامل للدنيا و الآخرة، و الثالث أحسن الوجوه ثم الثاني كما يؤيده تعليله بقوله: "إنه لا يفلح الظالمون".

و في قوله: "إنه لا يفلح الظالمون" تعريض لفرعون و قومه و فيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم و فيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني.

قال بعض المفسرين: و الوجه في عطف قوله: "و قال موسى ربي أعلم" إلخ، على قولهم: "ما هذا إلا سحر مفترى" إلخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز صحيحهما من الفاسد.

انتهي.

و ما قدمناه من كون قول موسى (عليه السلام) مسوقا لرد قولهم أوفق للسياق.

قوله تعالى: "و قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري" إلى آخر الآية، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة يريد أنه لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى و لا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من عند الله و أنه ما علم لهم من إله غيره.

فقوله: "ما علمت لكم من إله غيري" سوق للكلام في صورة الإنصاف ليقع في قلوب الملأ موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكي في موضع آخر: "ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد": المؤمن: 29.

فمحصل المعنى: أنه ظهر للملإ أنه لم يتضح له من دعوة موسى و آياته أن هناك إلها هو رب العالمين و لا حصل له علم بأن هناك إلها غيره ثم أمر هامان أن يبني له صرحا لعله يطلع إلى إله موسى.

و بذلك يظهر أن قوله: "ما علمت لكم من إله غيري" من قبيل قصر القلب فقد كان موسى (عليه السلام) يثبت الألوهية لله سبحانه و ينفيها عن غيره و هو ينفيها عنه تعالى و يثبتها لنفسه، و أما سائر الآلهة التي كان يعبدها هو و قومه فلا تعرض لها.

و قوله: "فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا" المراد بالإيقاد على الطين تأجيج النار عليه لصنعة الأجر المستعمل في الأبنية، و الصرح البناء العالي المكشوف من صرح الشيء إذا ظهر ففي الجملة أمر باتخاذ الأجر و بناء قصر عال منه.

و قوله: "لعلي أطلع إلى إله موسى" نسب الإله إلى موسى بعناية أنه هو الذي يدعو إليه، و الكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة و التقدير: اجعل لي صرحا أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلي أطلع إلى إله موسى كأنه كان يرى أنه تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس و إضلالهم.

و يمكن أن يكون المراد أن يبني له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى (عليه السلام)، و يؤيد هذا قوله على ما حكى في موضع آخر: "يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى و إني لأظنه كاذبا": المؤمن: 37.

و قوله: "و إني لأظنه من الكاذبين" ترق منه من الجهل الذي يدل عليه قوله: "ما علمت لكم من إله غيري" إلى الظن بعدم الوجود و قد كان كاذبا في قوله هذا و لا يقوله إلا تمويها و تعمية على الناس و قد خاطبه موسى بقوله: "لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات و الأرض": إسراء: 102.



و ذكر بعضهم أن قوله: "ما علمت لكم من إله غيري" من قبيل نفي المعلوم بنفي العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله: "قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في السماوات و الأرض": يونس: 18، و أنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الآية.

قوله تعالى: "و استكبر هو و جنوده في الأرض بغير الحق و ظنوا أنهم إلينا لا يرجعون" أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع و ذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم كما قال تعالى: "و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا".

قوله تعالى: "فأخذناه و جنوده" إلخ النبذ الطرح، و اليم البحر و الباقي ظاهر.

و في الآية من الاستهانة بأمرهم و تهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى.

قوله تعالى: "و جعلناهم أئمة يدعون إلى النار و يوم القيامة لا ينصرون" الدعوة إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر و المعاصي لكونها هي التي تتصور لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب إطلاق المسبب و إرادة سببه.

و معنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون و لا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر و الجحود و ليس من الإضلال الابتدائي في شيء.

و قيل: المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله: "و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا": الزخرف: 19.

و فيه أن الآية التالية على ما سيجيء من معناها لا تلائمه.

على أن كون الجعل في الآية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم.

و قوله: "و يوم القيامة لا ينصرون" أي لا تنالهم شفاعة من ناصر.

قوله تعالى: "و أتبعناهم في هذه الدنيا لعنة و يوم القيامة هم من المقبوحين" بيان للازم ما وصفهم به في الآية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر و المعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر و المعاصي من مقتديهم و متبعيهم و عليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر و المعاصي بعدهم.

فالآية في معنى قوله: "و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم": العنكبوت: 13 و قوله: "و نكتب ما قدموا و آثارهم": يس: 12، و تنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها و استمرارها.

و كذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر و يشمئز عنهم النفوس و يفر منهم الناس و لا يدنو منهم أحد و هو معنى القبح و قد وصف الله تعالى من قبح منظرهم شيئا كثيرا في كلامه.

بحث روائي

في المجمع، روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما و أبطأهما.

أقول: و روي ما في معناه بالإسناد عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن مقسم قال: لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رض فقلت له: أي الأجلين قضى موسى؟ الأول أو الآخر؟ قال: الآخر.

و في المجمع، روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قضى موسى الأجل و سار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا "قال لأهله امكثوا إني آنست نارا".

و عن كتاب طب الأئمة، بإسناده عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: و قال الله عز و جل في قصة موسى (عليه السلام): "و أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" يعني من غير برص.



و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و أخي هارون هو أفصح مني لسانا - فأرسله معي ردءا يصدقني" قال الراوي: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فكم مكث موسى (عليه السلام) غائبا عن أمه حتى رده الله عز و جل عليها؟ قال: ثلاثة أيام. قال: فقلت: فكان هارون أخا موسى (عليه السلام) لأبيه و أمه؟ قال: نعم أ ما تسمع الله عز و جل يقول: "يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي"؟ فقلت: فأيهما كان أكثر سنا؟ قال: هارون. قلت: فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال: كان الوحي ينزل على موسى و موسى يوحيه إلى هارون. فقلت له: أخبرني عن الأحكام و القضاء و الأمر و النهي كان ذلك إليهما؟ قال: كان موسى الذي يناجي ربه و يكتب العلم و يقضي بين بني إسرائيل و هارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة. قلت: فأيهما مات قبل صاحبه؟ قال: مات هارون قبل موسى و ماتا جميعا في التيه. قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون و الذرية له.

أقول: و آخر الرواية لا يوافق روايات أخر تدل على أنه كان له ولد، و في التوراة الحاضرة أيضا دلالة على ذلك.

في جوامع الجامع،: في قوله تعالى: "و استكبر هو و جنوده" قال (عليه السلام) فيما حكاه عن ربه عز و جل: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار.

و في الكافي، بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الأئمة في كتاب الله عز و جل إمامان قال الله تبارك و تعالى: "و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا" لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم و حكم الله قبل حكمهم. قال: "و جعلناهم أئمة يدعون إلى النار" يقدمون أمرهم قبل أمر الله و حكمهم قبل حكم الله و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز و جل.

كلام حول قصص موسى و هارون (عليهما السلام)

في فصول 1 - منزلة موسى عند الله و موقفه العبودي:

كان (عليه السلام) أحد الخمسة أولي العزم الذين هم سادة الأنبياء و لهم كتاب و شريعة كما خصهم الله تعالى بالذكر في قوله: "و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم و أخذنا منهم ميثاقا غليظا": الأحزاب: 7، و قال: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى": الشورى: 13. و لقد امتن الله سبحانه عليه و على أخيه في قوله: "و لقد مننا على موسى و هارون": الصافات: 114 و سلم عليهما في قوله: "سلام على موسى و هارون": الصافات: 120.

و أثنى على موسى (عليه السلام) بأجمل الثناء في قوله: "و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا و ناديناه من جانب الطور الأيمن و قربناه نجيا": مريم: 52، و قال: "و كان عند الله وجيها": الأحزاب: 69، و قال: "و كلم الله موسى تكليما": النساء: 164.

و ذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام الآية 84 - 88 فأخبر أنهم كانوا محسنين صالحين و أنه فضلهم على العالمين و اجتباهم و هداهم إلى صراط مستقيم.

و ذكره في جملة الأنبياء في سورة مريم ثم ذكر في الآية 58 منها أنهم الذين أنعم الله عليهم.

فاجتمع بذلك له (عليه السلام) معنى الإخلاص و التقريب و الوجاهة و الإحسان و الصلاح و التفضيل و الاجتباء و الهداية و الإنعام و قد مر البحث عن معاني هذه الصفات في مواضع تناسبها من هذا الكتاب و كذا البحث عن معنى النبوة و الرسالة و التكليم.

و ذكر الكتاب النازل عليه و هو التوراة فوصفها بأنها إمام و رحمة سورة الأحقاف: 12 و بأنها فرقان و ضياء و ذكر: الأنبياء: 48 و بأن فيها هدى و نور: المائدة: 44 و قال: "و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء": الأعراف: 145.

غير أنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنهم حرفوها و اختلفوا فيها.



و قصة بخت نصر و فتحه فلسطين ثانيا و هدمه الهيكل و إحراقه التوراة و حشره اليهود إلى بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثمانين قبل المسيح ثم فتح كورش الملك بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثلاثين قبل المسيح و إذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانيا و كتابة عزراء الكاهن التوراة لهم معروف في التواريخ و قد تقدمت الإشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب في قصص المسيح (عليه السلام).

2 - قصص موسى (عليه السلام)

في القرآن: هو (عليه السلام) أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن الكريم فقد ذكر اسمه - على ما عدوه - في مائة و ستة و ستين موضعا من كلامه تعالى، و أشير إلى قصته إجمالا أو تفصيلا في أربع و ثلاثين سورة من سور القرآن، و قد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات، و قد ذكر في القرآن شيء كثير من معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعبانا، و اليد البيضاء، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم، و فلق البحر، و إنزال المن و السلوى، و انبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، و إحياء الموتى، و رفع الطور فوق القوم و غير ذلك.

و قد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصه (عليه السلام) من دون استيفائها في كل ما دق و جل بل بالاقتصار على فصول منها يهم ذكرها لغرض الهداية و الإرشاد على ما هو دأب القرآن الكريم في الإشارة إلى قصص الأنبياء و أممهم.

و هذه الفصول التي فيها كليات قصصه هي أنه تولد بمصر في بيت إسرائيلي حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بني إسرائيل بأمر فرعون و جعلت أمه إياه في تابوت و ألقته في البحر و أخذ فرعون إياه ثم رده إلى أمه للإرضاع و التربية و نشأ في بيت فرعون.

ثم بلغ أشده و قتل القبطي و هرب من مصر إلى مدين خوفا من فرعون و ملئه أن يقتلوه قصاصا.

ثم مكث في مدين عند شعيب النبي (عليه السلام) و تزوج إحدى بنتيه.

ثم لما قضى موسى الأجل و سار بأهله آنس من جانب الطور نارا و قد ضلوا الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم و ذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلما أتاها ناداه الله من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة و كلمه و اجتباه و آتاه معجزة العصا و اليد البيضاء في تسع آيات و اختاره للرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و أمره بالذهاب إليه.

فأتى فرعون و دعاه إلى كلمة الحق و أن يرسل معه بني إسرائيل و لا يعذبهم و أراه آية العصا و اليد البيضاء فأبى و عارضه بسحر السحرة و قد جاءوا بسحر عظيم من ثعابين و حيات فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى و هارون و أصر فرعون على جحوده و هدد السحرة و لم يؤمن.

فلم يزل موسى (عليه السلام) يدعوه و ملأه و يريهم الآية بعد الآية كالطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات و هم يصرون على استكبارهم، و كلما وقع عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون.

فأمره الله أن يسري بني إسرائيل ليلا فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم فرعون بجنوده فلما تراءى الفريقان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأمر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر و اتبعهم فرعون و جنوده حتى إذا اداركوا فيها جميعا أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم.



و لما أنجاهم الله من فرعون و جنوده و أخرجهم إلى البر و لا ماء فيه و لا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المن و السلوى و أمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم فشربوا منها و أكلوا منهما و ظللهم الغمام.

ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى إياه فسمعوا ثم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة و هم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى، و لما تم الميقات أنزل الله عليه التوراة و أخبره أن السامري قد أضل قومه بعده فعبدوا العجل.

فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأحرق العجل و نسفه في اليم و طرد السامري و قال له: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس و أما القوم فأمروا أن يتوبوا و يقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع الله الطور فوقهم.

ثم إنهم ملوا المن و السلوى و قالوا لن نصبر على طعام واحد و سألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها فأمروا أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فأبوا فحرمها الله عليهم و ابتلاهم بالتيه يتيهون في الأرض أربعين سنة.

و من قصص موسى (عليه السلام) ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيه مع فتاه إلى مجمع البحرين للقاء العبد الصالح و صحبته حتى فارقه.

3 - منزلة هارون (عليه السلام)

عند الله و موقفه العبودي: أشركه الله تعالى مع موسى (عليه السلام) في سورة الصافات في المن و إيتاء الكتاب و الهداية إلى الصراط المستقيم و في التسليم و أنه من المحسنين و من عباده المؤمنين الصافات: 114 - 122 و عده مرسلا طه: 47 و نبيا مريم: 53 و أنه ممن أنعم عليهم مريم: 58 و أشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان و الصلاح و الفضل و الاجتباء و الهداية الإنعام: 84 - 88.

و في دعاء موسى ليلة الطور: "و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا": طه: 35.

و كان (عليه السلام) ملازما لأخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره و يعينه على جميع مقاصده.

و لم يرد في القرآن الكريم مما يختص به من القصص إلا خلافته لأخيه حين غاب عن القوم للميقات و قال لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا و قد عبدوا العجل ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القول استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين.

4 - قصة موسى (عليه السلام)

في التوراة الحاضرة: قصصه (عليه السلام) موضوعة فيما عدا السفر الأول من أسفار التوراة الخمسة و هي: سفر الخروج و سفر اللاويين و سفر العدد و سفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصه (عليه السلام) من حين ولادته إلى حين وفاته و ما أوحي إليه من الشرائع و الأحكام.

غير أن فيها اختلافات في سرد القصة مع القرآن في أمور غير يسيرة.



و من أهمها أنها تذكر أن نداء موسى و تكليمه من الشجرة كان في أرض مدين قبل أن يسير بأهله و ذلك حين كان يرعى غنم يثرون حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية و جاء إلى جبل الله حوريب و ظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فناداه الله و كلمه بما كلمه و أرسله إلى فرعون لإنجاء بني إسرائيل.

و منها ما ذكرت أن فرعون الذي أرسل إليه موسى غير فرعون الذي أخذ موسى و رباه ثم هرب منه موسى لما قتل القبطي خوفا من القصاص.

و منها أنها لم تذكر إيمان السحرة لما ألقوا عصيهم فصارت حيات فتلقفتها عصا موسى بل تذكر أنهم كانوا عند فرعون و عارضوا موسى في آيتي الدم و الضفادع فأتوا بسحرهم مثل ما أتى به موسى (عليه السلام) معجزة.

و منها أنها تذكر أن الذي صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبي أخو موسى (عليه السلام) و ذلك أنه لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون و قالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير إمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه؟ فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الشعب التي في آذان نسائكم و بنيكم و بناتكم و أتوني بها.

فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم و أتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم و صوره بالإزميل فصبغه عجلا مسبوكا فقالوا أ هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

و في الآيات القرآنية تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصه (عليه السلام) غير خفية على المتدبر فيها.

و هناك اختلافات جزئية كثيرة كما وقع في التوراة في قصة قتل القبطي أن المتضاربين ثانيا كانا جميعا إسرائيليين.

و أيضا وقع فيها أن الذي ألقى العصا فتلقفت حيات السحرة هو هارون ألقاها بأمر موسى.

و أيضا لم تذكر فيها قصة انتخاب السبعين رجلا للميقات و نزول الصاعقة عليهم و إحياءهم بعده.

و أيضا فيها أن الألواح التي كانت مع موسى لما نزل من الجبل و ألقاها كانت لوحين من حجر و هما لوحا الشهادة.

إلى غير ذلك من الاختلافات.
<<        الفهرس        >>