جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج16 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


28 سورة القصص - 43 - 56

وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسى الْكتَب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولى بَصائرَ لِلنّاسِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ (43) وَ مَا كُنت بجَانِبِ الْغَرْبىِّ إِذْ قَضيْنَا إِلى مُوسى الأَمْرَ وَ مَا كُنت مِنَ الشهِدِينَ (44) وَ لَكِنّا أَنشأْنَا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيهِمُ الْعُمُرُ وَ مَا كنت ثَاوِياً فى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِنَا وَ لَكِنّا كنّا مُرْسِلِينَ (45) وَ مَا كُنت بجَانِبِ الطورِ إِذْ نَادَيْنَا وَ لَكِن رّحْمَةً مِّن رّبِّك لِتُنذِرَ قَوْماً مّا أَتَاهُم مِّن نّذِيرٍ مِّن قَبْلِك لَعَلّهُمْ يَتَذَكرُونَ (46) وَ لَوْ لا أَن تُصِيبَهُم مّصِيبَةُ بِمَا قَدّمَت أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبّنَا لَوْ لا أَرْسلْت إِلَيْنَا رَسولاً فَنَتّبِعَ ءَايَتِك وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمّا جَاءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْ لا أُوتىَ مِثْلَ مَا أُوتىَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكفُرُوا بِمَا أُوتىَ مُوسى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظهَرَا وَ قَالُوا إِنّا بِكلٍّ كَفِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَبٍ مِّنْ عِندِ اللّهِ هُوَ أَهْدَى مِنهُمَا أَتّبِعْهُ إِن كنتُمْ صدِقِينَ (49) فَإِن لّمْ يَستَجِيبُوا لَك فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَ مَنْ أَضلّ مِمّنِ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ (50) وَ لَقَدْ وَصلْنَا لهَُمُ الْقَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ (51) الّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَ إِذَا يُتْلى عَلَيهِمْ قَالُوا ءَامَنّا بِهِ إِنّهُ الْحَقّ مِن رّبِّنَا إِنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسلِمِينَ (53) أُولَئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مّرّتَينِ بِمَا صبرُوا وَ يَدْرَءُونَ بِالْحَسنَةِ السيِّئَةَ وَ مِمّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَ إِذَا سمِعُوا اللّغْوَ أَعْرَضوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَلُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَلُكمْ سلَمٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَهِلِينَ (55) إِنّك لا تهْدِى مَنْ أَحْبَبْت وَ لَكِنّ اللّهَ يهْدِى مَن يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

بيان

سياق الآيات يشهد أن المشركين من قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راجعوا بعض أهل الكتاب و استفتوهم في أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) و عرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه و هو مصدق للتوراة فأجابوا بتصديقه و الإيمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة و أنهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى: "و إذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين".

فساء المشركين ذلك و شاجروهم و أغلظوا عليهم في القول و قالوا: إن القرآن سحر و التوراة سحر مثله "سحران تظاهرا" و "إنا بكل كافرون" فأعرض الكتابيون عنهم و قالوا: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

هذا ما يلوح إليه الآيات الكريمة بسياقها، و هو سبحانه لما ساق قصة موسى (عليه السلام) و أنبأ أنه كيف أظهر قوما مستضعفين معبدين معذبين يذبح أبناؤهم و تستحيى نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم رباه في حجر عدوه الذي يذبح بأمره الألوف من أبنائهم ثم أخرجه لما نشأ من بينهم ثم بعثه و رده إليهم و أظهره عليهم حتى أغرقهم أجمعين و أنجى شعب إسرائيل فكانوا هم الوارثين.

عطف القول على الكتاب السماوي الذي هو المتضمن للدعوة و به تتم الحجة و هو الحامل للتذكرة فذكر أنه أنزل التوراة على موسى (عليه السلام) فيه بصائر للناس و هدى و رحمة لعلهم يتذكرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الأولى بمعاصيهم.

و كذا أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن و قص عليه قصص موسى (عليه السلام) و لم يكن هو شاهدا لنزول التوراة عليه و لا حاضرا في الطور لما ناداه و كلمه، و قص عليه ما جرى بين موسى و شعيب (عليهما السلام) و لم يكن هو ثاويا في مدين يتلو عليهم آياته و لكن أنزله و قص عليه ما قصه رحمة منه لينذر به قوما ما أتاهم من نذير من قبله لأنهم بسبب كفرهم و فسوقهم في معرض نزول العذاب و أصابه المصيبة فلو لم ينزل الكتاب و لم يبلغ الدعوة لقالوا: ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك و كانت الحجة لهم على الله سبحانه.

فلما جاءهم الحق من عنده ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول القرآن قالوا: لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى أ و لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل حين راجعوا أهل الكتاب في أمره فصدقوه فقال المشركون: سحران تظاهرا يعنون التوراة و القرآن، و قالوا إنا بكل كافرون.

ثم لقن سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة عليهم بقوله: "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين" أي إن من الواجب في حكمة الله أن يكون هناك كتاب نازل من عند الله يهدي إلى الحق و تتم به الحجة على الناس و هم يعرفون فإن لم تكن التوراة و القرآن كتابي هدى و كافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى منهما و ليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقة مؤيدة بالإعجاز و بدلالة البراهين العقلية.



على أنه ليس هناك كتاب سماوي هو أهدى منهما فالكتابان كتابا هدى و القوم في الإعراض عنهما متبعون للهوى ضالون عن الصراط المستقيم و هو قوله: "فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم" إلخ.

ثم مدح سبحانه قوما من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و القرآن فأظهروا لهم الإيمان و التصديق و أعرضوا عن لغو القول الذي جبهوهم به.

قوله تعالى: "و لقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس" إلخ اللام للقسم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة بوحيه إليه.

و قوله: "من بعد ما أهلكنا القرون الأولى" أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح و من بعدهم من الأمم الهالكة و لعل منهم قوم فرعون، و في هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهي بمضي الماضين و ليشار في الكتاب الإلهي إلى قصصهم و حلول العذاب الإلهي بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون و يتذكر به المتذكرون.

و قوله: "بصائر للناس" جمع بصيرة بمعنى ما يبصره به و كان المراد بها الحجج البينة التي يبصر بها الحق و يميز بها بينه و بين الباطل، و هي حال من الكتاب و قيل: مفعول له.

و قوله: "و هدى" بمعنى الهادي أو ما يهتدى به و كذا قوله: "و رحمة" بمعنى ما يرحم به و هما حالان من الكتاب كبصائر، و قيل: كل منهما مفعول له.

و المعنى: و أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة من بعد ما أهلكنا الأجيال الأولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة و الإنذار حال كون الكتاب حججا بينة يبصر بها الناس المعارف الحقة و هدى يهتدون به إليها و رحمة يرحمون بسبب العمل بشرائعه و أحكامه لعلهم يتذكرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد و العمل.

قوله تعالى: "و ما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر و ما كنت من الشاهدين" الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الغربي صفة محذوفة الموصوف و المراد جانب الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي.

و قوله: "إذ قضينا إلى موسى الأمر" كان القضاء مضمن معنى العهد، و المراد بعهد الأمر إليه - على ما قيل - أحكام أمر نبوته بإنزال التوراة إليه و أما العهد إليه بأصل الرسالة فيدل عليه قوله بعد: "و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا" و قوله: "و ما كنت من الشاهدين" تأكيد لسابقه.

و المعنى: و ما كنت حاضرا و شاهدا حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربي من الوادي أو الجبل.

قوله تعالى: "و لكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر" تطاول العمر تمادي الأمد و الجملة استدراك عن النفي في قوله: "و ما كنت بجانب الغربي"، و المعنى: ما كنت حاضرا هناك شاهدا لما جرى فيه و لكنا أوجدنا أجيالا بعده فتمادى بهم الأمد ثم أنزلنا عليك قصته و خبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام إيجاز بالحذف لدلالة المقام عليه.

قوله تعالى: "و ما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا و لكنا كنا مرسلين" الثاوي المقيم يقال: ثوى في المكان إذا أقام فيه، و الضمير في "عليهم" لمشركي مكة الذين كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو عليهم آيات الله التي تقص ما جرى على موسى (عليه السلام) في مدين زمن كونه فيه.



و قوله: "و لكنا كنا مرسلين" استدراك من النفي في صدر الآية.

و المعنى: و ما كنت مقيما في أهل مدين - و هم شعيب و قومه - مشاهدا لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصة لخبره هناك و لكنا كنا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم.

قوله تعالى: "و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا و لكن رحمة من ربك" إلى آخر الآية، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق: "و ما كنت بجانب الغربي إذ قضينا" إلخ، إن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التي آنس فيها من جانب الطور نارا.

و قوله: "و لكن رحمة من ربك" إلخ، استدراك عن النفي السابق، و الظاهر أن "رحمة" مفعول له، و الالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: "من ربك" للدلالة على كمال عنايته تعالى به (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قوله: "لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك" الظاهر أن المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبوية أو هم و من يقارنهم من آبائهم فإن العرب خلت فيهم رسل منهم كهود و صالح و شعيب و إسماعيل (عليهما السلام).

و المعنى: و ما كنت حاضرا في جانب الطور إذ نادينا موسى و كلمناه و اخترناه للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة إخبار الحاضر المشاهد و لكن لرحمة منا أخبرناك بها لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون.

قوله تعالى: "و لو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا" إلخ، المراد بما قدمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد و العمل بدليل ذيل الآية، و المراد بالمصيبة التي تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا و الآخرة فإن الإعراض عن الحق بالكفر و الفسوق يستتبع المؤاخذة الإلهية في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة، و قد تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض": الأعراف: 96 و غيره.

و قوله: "فيقولوا ربنا لو لا أرسلت" متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم إرسال الرسول و جواب لو لا محذوف لظهوره و التقدير: لما أرسلنا رسولا.

و محصل المعنى: أنه لو لا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم إرسال الرسول و أخذهم بالعذاب بما قدمت أيديهم من الكفر و الفسوق لما أرسلنا إليهم رسولا لكنهم يقولون ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك التي يتلوها علينا و نكون من المؤمنين.

قوله تعالى: "فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى" إلخ، أي فأرسلنا إليهم الرسول بالحق و أنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا و الظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول و هو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و المراد بقولهم: "لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى" أي لو لا أوتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل التوراة التي أوتيها موسى (عليه السلام)، و كأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: "و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة": الفرقان: 32.



و قد أجاب الله عن قولهم بقوله: "أ و لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا" يعنون القرآن و التوراة "و قالوا إنا بكل كافرون".

و الفرق بين القولين أن الأول كفر بالكتابين و الثاني كفر بأصل النبوة و لعله الوجه لتكرار "قالوا" في الكلام.

قوله تعالى: "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين" تفريع على كون القرآن و التوراة سحرين تظاهرا، و لا يصح هذا التفريع إلا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم و يجب عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما، و هو كذلك على ما تبين بقوله: "و لو لا أن تصيبهم مصيبة" إلخ، إن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب و يرسل إليهم الرسول، و لذلك أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتبعه.

ثم الكتابان لو كانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلين لا هدى فيهما حتى يكون غيرهما من الكتاب الذي يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضل و المفضل عليه في أصل الوصف - لكن المقام لما كان مقام المحاجة ادعى أن الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فإن لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما.

و القرآن الكريم و إن كان يصرح بتسرب التحريف و الخلل في التوراة الحاضرة و ذلك لا يلائم عدها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة على موسى (عليه السلام) و هي التي يصدقها القرآن.

على أن موضوع الكلام هما معا و القرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معا هدى لا كتاب أهدى منهما.

و قوله: "إن كنتم صادقين" أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا.

قوله تعالى: "فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم" إلى آخر الآية، الاستجابة و الإجابة بمعنى واحد، قال في الكشاف: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه و إلى الداعي باللام، و يحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال: استجاب الله دعاءه أو استجاب له، و لا يكاد يقال: استجاب له دعاءه.

انتهي.

فقوله: "فإن لم يستجيبوا لك" تفريع على قوله: "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه" أي فإن قلت لهم كذا و كلفتهم بذلك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن و التوراة و تعين أن لا هدى أتم و أكمل من هداهما و هم مع ذلك يرمونها بالسحر و يعرضون عنهما فاعلم أنهم ليسوا في طلب الحق و لا بصدد اتباع ما هو صريح حجة العقل و إنما يتبعون أهواءهم و يدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل: "سحران تظاهرا" "إنا بكل كافرون".

و يمكن أن يكون المراد بقوله: "إنما يتبعون أهواءهم" إنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و هم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم إنما يبنون سنة الحياة على اتباع الأهواء و لا يعتقدون بأصل النبوة و أن لله دينا سماويا نازلا عليهم من طريق الوحي و عليهم أن يتبعوه و يسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم، و ربما أيد هذا المعنى قوله بعد: "و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" إلخ.



و قوله: "و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" استفهام إنكاري و المراد به استنتاج أنهم ضالون، و قوله: "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" تعليل لكونهم ضالين باتباع الهوى فإن اتباع الهوى إعراض عن الحق و انحراف عن صراط الرشد و ذلك ظلم و الله لا يهدي القوم الظالمين و غير المهتدي هو الضال.

و محصل الحجة أنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و ليسوا مؤمنين بهما فهم متبعون للهوى، و متبع الهوى ظالم و الظالم غير مهتد و غير المهتدي ضال فهم ضالون.

قوله تعالى: "و لقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون" التوصيل تفعيل من الوصل يفيد التكثير كالقطع و التقطيع و القتل و التقتيل، و الضمير لمشركي مكة و المعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولا بعضه ببعض: الآية بعد الآية، و السورة إثر السورة من وعد و وعيد و معارف و أحكام و قصص و عبر و حكم و مواعظ لعلهم يتذكرون.

قوله تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون" الضميران للقرآن و قيل: للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و الأول أوفق للسياق، و في الآية و ما بعدها مدح طائفة من مؤمني أهل الكتاب بعد ما تقدم في الآيات السابقة من ذم المشركين من أهل مكة.

و سياق ذيل الآيات يشهد على أن هؤلاء الممدوحين طائفة خاصة من أهل الكتاب آمنوا به فلا يعبأ بما قيل إن المراد بهم مطلق المؤمنين منهم.

قوله تعالى: "و إذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا" إلخ، ضمائر الإفراد للقرآن، و اللام في "الحق" للعهد و المعنى و إذا يقرأ القرآن عليهم قالوا: آمنا به إنه الحق الذي نعهده من ربنا فإنه عرفناه من قبل.

و قوله: "إنا كنا من قبله مسلمين" تعليل لكونه حقا معهودا عندهم أي إنا كنا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الذي يدعو إليه و يسميه إسلاما.

و قيل: الضميران للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما تقدم أوفق للسياق، و كيف كان فهم يعنون بذلك ما قرءوه في كتبهم من أوصاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الكتاب النازل عليه كما يشير إليه قوله تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل": الأعراف: 157، و قوله: "أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل": الشعراء: 197.

قوله تعالى: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا و يدرءون بالحسنة السيئة" إلخ في الآية وعد جميل لهم على ما فعلوا و مدح لهم على حسن سلوكهم و مداراتهم مع جهلة المشركين و لذا كان الأقرب إلى الفهم أن يكون المراد بإيتائهم أجرهم مرتين إيتاؤهم أجر الإيمان بكتابهم و أجر الإيمان بالقرآن و صبرهم على الإيمان بعد الإيمان بما فيهما من كلفة مخالفة الهوى.

و قيل: المراد إيتاؤهم الأجر بما صبروا على دينهم و على أذى الكفار و تحمل المشاق و قد عرفت ما يؤيده السياق.

و قوله: "و يدرءون بالحسنة السيئة" إلخ الدرء الدفع، و المراد بالحسنة و السيئة قيل: الكلام الحسن و الكلام القبيح، و قيل: العمل الحسن و السيىء و هما المعروف و المنكر، و قيل: الخلق الحسن و السيىء و هما الحلم و الجهل، و سياق الآيات أوفق للمعنى الأخير فيرجع المعنى إلى أنهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمدارأة، و الباقي ظاهر.



قوله تعالى: "و إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه و قالوا لنا أعمالنا و لكم أعمالكم" إلخ، المراد باللغو لغو الكلام بدليل تعلقه بالسمع، و المراد سقط القول الذي لا ينبغي الاشتغال به من هذر أو سب و كل ما فيه خشونة، و لذا لما سمعوه أعرضوا عنه و لم يقابلوه بمثله و قالوا: لنا أعمالنا و لكم أعمالكم و هو متاركة، و قوله: "سلام عليكم" أي أمان منا لكم، و هو أيضا متاركة و توديع تكرما كما قال تعالى: "و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما".

و قوله: "لا نبتغي الجاهلين" أي لا نطلبهم بمعاشرة و مجالسة، و فيه تأكيد لما تقدمه، و هو حكاية عن لسان حالهم إذ لو تلفظوا به لكان من مقابلة السيىء بالسيىء.

قوله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء و هو أعلم بالمهتدين" المراد بالهداية الإيصال إلى المطلوب و مرجعه إلى إفاضة الإيمان على القلب و معلوم أنه من شأنه تعالى لا يشاركه فيه أحد، و ليس المراد بها إراءة الطريق فإنه من وظيفة الرسول لا معنى لنفيه عنه، و المراد بالاهتداء قبول الهداية.

لما بين في الآيات السابقة حرمان المشركين و هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من نعمة الهداية و ضلالهم باتباع الهوى و استكبارهم عن الحق النازل عليهم و إيمان أهل الكتاب به و اعترافهم بالحق ختم القول في هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية إلى الله لا إليك يهدي هؤلاء و هم من غير قومك الذين تدعوهم و لا يهدي هؤلاء و هم قومك الذين تحب اهتداءهم و هو أعلم بالمهتدين.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج البزار و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أهلك الله قوما و لا قرنا و لا أمة و لا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة. أ لم تر إلى قوله تعالى: "و لقد آتينا موسى الكتاب - من بعد ما أهلكنا القرون الأولى"؟ أقول: و في دلالة الآية على الإهلاك بخصوص العذاب السماوي ثم انقطاعه بنزول التوراة خفاء.

و فيه،: في قوله تعالى: "و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا" الآية،: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لما قرب الله موسى إلى طور سيناء نجيا قال: أي رب هل أحد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا و كلمتني تكليما. قال: نعم، محمد أكرم علي منك. قال: فإن كان محمد أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت لهم البحر و أنجيتهم من فرعون و عمله و أطعمتهم المن و السلوى. قال: نعم، أمة محمد أكرم علي من بني إسرائيل. قال: إلهي أرنيهم. قال: إنك لن تراهم و إن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم إلهي. فنادى ربنا أمة محمد: أجيبوا ربكم، فأجابوا و هم في أصلاب آبائهم و أرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا و نحن عبيدك حقا. قال: صدقتم و أنا ربك و أنتم عبيدي حقا قد غفرت لكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة. قال ابن عباس: فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يمن عليه بما أعطاه و بما أعطى أمته فقال: يا محمد "و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا". أقول: و رواه فيه أيضا بطرق أخرى عن غيره، و روى هذا المعنى أيضا الصدوق في العيون، عن الرضا (عليه السلام) لكن حمل الآية على هذا المعنى يوجب اختلال السياق و فساد ارتباط الجمل المتقدمة و المتأخرة بعضها ببعض.



و في البصائر، بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله" يعني من اتخذ دينه هواه بغير هدى من أئمة الهدى.

أقول: و روي مثله بإسناده عن المعلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) و هو من الجري أو من البطن.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب" الآيات، نزل قوله: "الذين آتيناهم الكتاب" و ما بعده في عبد الله بن سلام و تميم الداري و الجارود و العبدي و سلمان الفارسي فإنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات. عن قتادة. و قيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مبعثه اثنان و ثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه و ثمانية قدموا من الشام منهم بحيراء و أبرهة و الأشرف و أيمن و إدريس و نافع و تميم.

أقول: و روي غير ذلك.

و فيه،: في معنى قوله تعالى: "و يدرءون بالحسنة السيئة" و قيل: يدفعون بالحلم جهل الجاهل. عن يحيى بن سلام، و معناه يدفعون بالمدارأة مع الناس أذاهم عن أنفسهم: و روي مثل ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و مسلم و الترمذي و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا عماه قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لو لا أن يعيرني قريش يقولون ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عليك فأنزل الله عليه: "إنك لا تهدي من أحببت - و لكن الله يهدي من يشاء و هو أعلم بالمهتدين" أقول: و روي ما في معناه عن ابن عمر و ابن المسيب و غيرهما، و روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة على إيمانه و المنقول من أشعار مشحون بالإقرار على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حقية دينه، و هو الذي آوى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صغيرا و حماه بعد البعثة و قبل الهجرة فقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين و الأنصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة.

28 سورة القصص - 57 - 75

وَ قَالُوا إِن نّتّبِع الهُْدَى مَعَك نُتَخَطف مِنْ أَرْضِنَا أَ وَ لَمْ نُمَكِّن لّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يجْبى إِلَيْهِ ثَمَرَت كلِّ شىْءٍ رِّزْقاً مِّن لّدُنّا وَ لَكِنّ أَكثرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَ كَمْ أَهْلَكنَا مِن قَرْيَةِ بَطِرَت مَعِيشتَهَا فَتِلْك مَسكِنُهُمْ لَمْ تُسكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلاً وَ كنّا نحْنُ الْوَرِثِينَ (58) وَ مَا كانَ رَبّك مُهْلِك الْقُرَى حَتى يَبْعَث فى أُمِّهَا رَسولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِنَا وَ مَا كنّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلا وَ أَهْلُهَا ظلِمُونَ (59) وَ مَا أُوتِيتُم مِّن شىْءٍ فَمَتَعُ الْحَيَوةِ الدّنْيَا وَ زِينَتُهَا وَ مَا عِندَ اللّهِ خَيرٌ وَ أَبْقَى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (60) أَ فَمَن وَعَدْنَهُ وَعْداً حَسناً فَهُوَ لَقِيهِ كَمَن مّتّعْنَهُ مَتَعَ الْحَيَوةِ الدّنْيَا ثمّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ مِنَ الْمُحْضرِينَ (61) وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شرَكاءِى الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الّذِينَ حَقّ عَلَيهِمُ الْقَوْلُ رَبّنَا هَؤُلاءِ الّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبرّأْنَا إِلَيْك مَا كانُوا إِيّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَ قِيلَ ادْعُوا شرَكاءَكمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَستَجِيبُوا لهَُمْ وَ رَأَوُا الْعَذَاب لَوْ أَنّهُمْ كانُوا يهْتَدُونَ (64) وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَا ذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسلِينَ (65) فَعَمِيَت عَلَيهِمُ الأَنبَاءُ يَوْمَئذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمّا مَن تَاب وَ ءَامَنَ وَ عَمِلَ صلِحاً فَعَسى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَ رَبّك يخْلُقُ مَا يَشاءُ وَ يخْتَارُ مَا كانَ لهَُمُ الخِْيرَةُ سبْحَنَ اللّهِ وَ تَعَلى عَمّا يُشرِكونَ (68) وَ رَبّك يَعْلَمُ مَا تُكِنّ صدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ (69) وَ هُوَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فى الأُولى وَ الاَخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَ رَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكمُ الّيْلَ سرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيرُ اللّهِ يَأْتِيكم بِضِيَاءٍ أَ فَلا تَسمَعُونَ (71) قُلْ أَ رَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكمُ النّهَارَ سرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيرُ اللّهِ يَأْتِيكم بِلَيْلٍ تَسكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (72) وَ مِن رّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكمُ الّيْلَ وَ النّهَارَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضلِهِ وَ لَعَلّكمْ تَشكُرُونَ (73) وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شرَكاءِى الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنَا مِن كلِّ أُمّةٍ شهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَنَكُمْ فَعَلِمُوا أَنّ الْحَقّ للّهِ وَ ضلّ عَنهُم مّا كانُوا يَفْترُونَ (75)

بيان

تذكر الآيات عذرا آخر مما اعتذر به مشركو مكة عن الإيمان بكتاب الله بعد ما ذكرت عذرهم السابق: "لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى" و ردته و هو قولهم: إن آمنا بما جاء به كتابك من الهدى و هو دين التوحيد تخطفنا مشركو العرب من أرضنا بالقتل و السبي و النهب و سلب الأمن و السلام.

فرده تعالى بأنا جعلنا لهم حرما آمنا يحترمه العرب و يجبى إليه ثمرات كل شيء فلا موجب لخوفهم من تخطفهم.

على أن تنعمهم بالأموال و الأولاد و بطر معيشتهم لا يضمن لهم الأمن من الهلاك حتى يرجحوه على اتباع الهدى فكم من قرية بطرت معيشتها أهلكها الله و استأصلها و ورثها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا.

على أن الذي يؤثرونه على اتباع الهدى إنما هو متاع الحياة الدنيا العاجلة و لا يختاره عاقل على الحياة الآخرة الخالدة التي عند الله سبحانه.

على أن الخلق و الأمر لله فإذا اختار شيئا و أمر به فليس لأحد أن يخالفه إلى ما يشتهيه لنفسه فيختار ما يميل إليه طبعه ثم استشهد تعالى بقصة قارون و خسفه به و بداره الأرض.

قوله تعالى: "و قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" إلى آخر الآية.

التخطف الاختلاس بسرعة، و قيل الخطف و التخطف الاستلاب من كل وجه، و كان تخطفهم من أرضهم استعارة أريد به القتل و السبي و نهب الأموال كأنهم و ما يتعلق بهم من أهل و مال يؤخذون فتخلو منهم أرضهم، و المراد بالأرض أرض مكة و الحرم بدليل قوله بعد: "أ و لم نمكن لهم حرما آمنا" و القائل بعض مشركي مكة.

و الجملة مسوقة للاعتذار عن الإيمان بأنهم إن آمنوا تخطفتهم العرب من أرضهم أرض مكة لأنهم مشركون لا يرضون بإيمانهم و رفض أوثانهم فهو من قبيل إبداء المانع ففيه اعتراف بحقية أصل الدعوة و أن الكتاب بما يشتمل عليه حق لكن خطر التخطف مانع من قبوله و الإيمان به، و لهذا عبر بقوله: "إن نتبع الهدى معك" و لم يقل: إن نتبع كتابك أو دينك أو ما يقرب من ذلك.

و قوله: "أ و لم نمكن لهم حرما آمنا" قيل: التمكين مضمن معنى الجعل و المعنى أ و لم نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم، و قيل: حرما منصوبا على الظرفية و المعنى: أ و لم نمكن لهم في حرم، و "آمنا" صفة "حرما" أي حرما ذا أمن، و عد الحرم ذا أمن - و المتلبس بالأمن أهله - من المجاز في النسبة، و الجملة معطوفة على محذوف و التقدير أ و لم نعصمهم و نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم.

و هذا جواب أول منه تعالى لقولهم: "إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" و محصله: أنا مكناهم في أرض جعلناها حرما ذا أمن تحترمه العرب فلا موجب لخوفهم أن يتخطفوا منها أن آمنوا.

و قوله: "يجبى إليه ثمرات كل شيء" الجباية الجمع، و الكل للتكثير لا للعموم لعدم إرادة العموم قطعا، و المعنى: يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الأشياء، و الجملة صفة لحرما جيء بها لما عسى أن يتوهم أنهم يتضررون إن آمنوا بانقطاع الميرة.



و قوله: "رزقا من لدنا" مفعول مطلق أو حال من ثمرات، و قوله: "و لكن أكثرهم لا يعلمون" استدراك عن جميع ما تقدم أي إنا نحن حفظناهم في أمن و رزقناهم من كل الثمرات لكن أكثرهم جاهلون بذلك فيحسبون أن الذي يحفظهم من تخطف العرب هو شركهم و عبادتهم الأصنام.

قوله تعالى: "و كم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها" إلى آخر الآية البطر الطغيان عند النعمة، و "معيشتها" منصوب بنزع الخافض أي و كم أهلكنا من قرية طغت في معيشتها.

و قوله: "فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا" أي إن مساكنهم الخربة الخاوية على عروشها مشهودة لكم نصب أعينكم باقية على خرابها لم تعمر و لم تسكن بعد هلاكهم إلا قليلا منها.

و بذلك يظهر أن الأنسب كون "إلا قليلا" استثناء من "مساكنهم" لا من قوله: "من بعدهم" بأن يكون المعنى لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم في الأسفار.

و قوله: "و كنا نحن الوارثين" حيث ملكوها ثم تركوها فلم يخلفهم غيرنا فنحن ورثناهم مساكنهم، و في الجملة أعني قوله: "كنا نحن الوارثين" عناية لطيفة فإنه تعالى هو المالك لكل شيء ملكا حقيقيا مطلقا فهو المالك لمساكنهم و قد ملكها إياهم بتسليطهم عليها ثم نزعها من أيديهم بإهلاكهم و بقيت بعدهم لا مالك لها إلا هو فسمى نفسه وارثا لهم بعناية أنه الباقي بعدهم و هو المالك لما كان بأيديهم كان ملكهم الاعتباري انتقل إليه و لا انتقال هناك بالحقيقة و إنما ظهر ملكه الحقيقي بزوال ملكهم الاعتباري.

و الآية جواب ثان منه تعالى لقولهم: "إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" و محصله أن مجرد عدم تخطف العرب لكم من أرضكم لا يضمن لكم البقاء و لا يحفظ لكم أرضكم و التنعم فيها كما تشاءون فكم من قرية بالغة في التنعم ذات أشر و بطر أهلكنا أهلها و بقيت مساكنهم خالية غير مسكونة لا وارث لها إلا الله.

قوله تعالى: "و ما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا" أم القرى هي أصلها و كبيرتها التي ترجع إليها و في الآية بيان السنة الإلهية في عذاب القرى بالاستئصال و هو أن عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى إلا بعد إتمام الحجة عليهم بإرسال رسول يتلو عليهم آيات الله، و إلا بعد كون المعذبين ظالمين بالكفر بآيات الله و تكذيب رسوله.

و في تعقيب الآية السابقة بهذه الآية الشارحة لسنته تعالى في إهلاك القرى تخويف لأهل مكة المشركين بالإيماء إلى أنهم لو أصروا على كفرهم كانوا في معرض نزول العذاب لأن الله قد بعث في أم قراهم و هي مكة رسولا يتلو عليهم آياته و هم مع ذلك ظالمون بتكذيب رسولهم.

و بذلك يظهر النكتة في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: "و ما كان ربك مهلك القرى" فإن في الإيماء إلى حصول شرائط العذاب فيهم لو كذبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقوية لنفسه و تأكيدا لحجته، و أما العدول بعده إلى سياق التكلم بالغير في قوله: "و ما كنا مهلكي القرى" فهو رجوع إلى السياق السابق بعد قضاء الوطر.



قوله تعالى: "و ما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا" إلخ الإيتاء: الإعطاء و "من شيء" بيان لما لإفادة العموم أي كل شيء أوتيتموه، و المتاع ما يتمتع به و الزينة ما ينضم إلى الشيء ليفيده جمالا و حسنا، و الحياة الدنيا الحياة المؤجلة المقطوعة التي هي أقرب الحياتين منا و تقابلها الحياة الآخرة التي هي خالدة مؤبدة، و المراد بما عند الله الحياة الآخرة السعيدة التي عند الله و جواره و لذا عد خيرا و أبقى.

و المعنى: أن جميع النعم الدنيوية التي أعطاكم الله إياها متاع و زينة زينت بها هذه الحياة الدنيا التي هي أقرب الحياتين منكم و هي بائدة فانية و ما عند الله من ثوابه في الدار الآخرة المترتب على اتباع الهدى و الإيمان بآيات الله خير و أبقى فينبغي أن تؤثروه على متاع الدنيا و زينتها أ فلا تعقلون.

و الآية جواب ثالث عن قولهم: "إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" محصله لنسلم أنكم إن اتبعتم الهدى تخطفكم العرب من أرضكم لكن الذي تفقدونه هو متاع الحياة الدنيا و زينتها الفانية فما بالكم تؤثرونه على ما عند الله من ثواب اتباع الهدى و سعادة الحياة الآخرة و هي خير و أبقى.

قوله تعالى: "أ فمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين" الآية إلى تمام سبع آيات إيضاح لمضمون الآية السابقة - و هو أن إيثار اتباع الهدى أولى من تركه و التمتع بمتاع الحياة الدنيا - ببيان آخر فيه مقايسة حال من اتبع الهدى و ما يلقاه من الوعد الحسن الذي وعده الله، من حال من لم يتبعه و اقتصر على التمتع من متاع الحياة الدنيا و سيستقبله يوم القيامة الإحضار و تبري آلهته منه و عدم استجابتهم لدعوته و مشاهدة العذاب و السؤال عن إجابتهم الرسل.

فقوله: "أ فمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه" الاستفهام إنكاري، و الوعد الحسن هو وعده تعالى بالمغفرة و الجنة كما قال تعالى: "وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة و أجر عظيم": المائدة: 9، و لا يكذب وعده تعالى قال: "ألا إن وعد الله حق:" يونس: 55.

و قوله: "كمن متعناه متاع الحياة الدنيا" أي و هو محروم من ذلك الوعد الحسن لاقتصاره على التمتع بمتاعها، و الدليل على هذا التقييد المقابلة بين الوعد و التمتيع.

و قوله: "ثم هو يوم القيامة من المحضرين" أي للعذاب، أو للسؤال و المؤاخذة و "ثم" للترتيب الكلامي و إتيان الجملة اسمية كما فيما يقابلها من قوله: "فهو لاقيه" للدلالة على التحقق.

قوله تعالى: "و يوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون" الشركاء هم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا و كونهم شركاء عندهم لكونهم يعطونهم أو ينسبون إليهم بعض ما هو من شئونه تعالى كالعبادة و التدبير، و في قوله: "يناديهم" إشارة إلى بعدهم و خذلانهم يومئذ.

قوله تعالى: "قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا" آلهتهم الذين يرونهم شركاء لله سبحانه صنفان صنف منهم عباد لله مكرمون كالملائكة المقربين و عيسى بن مريم (عليهما السلام)، و صنف منهم كعتاة الجن و مدعي الألوهية من الإنس كفرعون و نمرود و غيرهما و قد ألحق الله سبحانه بهم كل مطاع في باطل كإبليس و قرناء الشياطين و أئمة الضلال كما قال: أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان - إلى أن قال - و لقد أضل منكم جبلا كثيرا": يس: 62، و قال: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه:" الجاثية: 23، و قال: "اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله": التوبة: 31.



و الذين يشير إليهم قوله: "قال الذين حق عليهم القول" هم من الصنف الثاني بدليل ذكرهم إغواءهم و تبريهم من عبادتهم و هؤلاء المشركون و إن كانوا أنفسهم أيضا ممن حق عليهم القول كما يشير إليه قوله: "حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين": الم السجدة: 13، و لكن المراد بهم في الآية المبحوث عنها المتبوعون منهم الذين ينتهي إليهم الشرك و الضلال.

و إيراد قول هؤلاء الشركاء مع عدم ذكر أن المسئولين أشاروا إليهم لعله للإشارة إلى أنهم ضلوا عنهم في هذا الموقف كما في قوله تعالى: "و يوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد و ضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل:" حم السجدة: 48.

و قوله: "ربنا هؤلاء الذين أغوينا" أي هؤلاء - يشيرون إلى المشركين - هم الذين أغويناهم و الجملة توطئة للجملة التالية.

و قوله: "أغويناهم كما غوينا" أي كانت غوايتهم بإغوائنا لغوايتنا أنفسنا فكما كنا غوينا باختيارنا من غير إلجاء كذلك هم غووا باختيار منهم من غير إلجاء، و الدليل على هذا المعنى ما حكاه الله عن إبليس يومئذ إذ قال: "و ما كان لي عليكم من سلطان. إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم": إبراهيم: 22، و قال حاكيا لتساؤل الظالمين و قرنائهم: "و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين و ما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين": الصافات: 32، أي ما كان ليصل إليكم منا و نحن غاون غير الغواية.

و من هنا يظهر أن لقولهم: "أغويناهم كما غوينا" معنى آخر، و هو أنهم اكتسبوا نظير الوصف الذي كان فينا غير أنا نتبرأ منهم حيث لم نلجئهم إلى الغواية ما كانوا يعبدوننا بإلجاء.

و قوله: "تبرأنا إليك" تبر منهم مطلقا حيث لم يكن لهم أن يلجئوهم و يسلبوا منهم الاختيار، و قوله "ما كانوا إيانا يعبدون" أي بإلجاء منا، أو لتبرينا من أعمالهم فإن من تبرأ من عمل لم ينتسب إليه و إلى هذا المعنى يئول قوله تعالى في مواضع من كلامه في وصف هذا الموقف: "و ضل عنهم ما كانوا يفترون": الأنعام: 24 "و ضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل": حم السجدة: 48 "و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم و قال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون": يونس: 28، إلى غير ذلك من الآيات فافهم.

و قيل: المعنى تبرأنا إليك من أعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون بل كانوا يعبدون أهواءهم أو كانوا يعبدون الشياطين.

و لا يخلو من سخافة.

و لكون كل من قوليه: "تبرأنا إليك" "ما كانوا إيانا يعبدون" في معنى قوله: "أغويناهم كما غوينا" جيء بالفصل من غير عطف.

قوله تعالى: "و قيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم و رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون" المراد بشركائهم الآلهة التي كانوا شركاء لله بزعمهم و لذا أضافهم إليهم.

و المراد بدعوتهم دعوتهم إياهم لينصروهم و يدفعوا عنهم العذاب و لذا قال: "و رأوا العذاب" بعد قوله: "فلم يستجيبوا لهم".

و قوله: "لو أنهم كانوا يهتدون" قيل: جواب لو محذوف لدلالة الكلام عليه و التقدير لو أنهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي اعتقدوا أن العذاب حق، و يمكن أن يكون لو للتمني أي ليتهم كانوا يهتدون.



قوله تعالى: "و يوم يناديهم فيقول ما ذا أجبتم المرسلين" معطوف على قوله السابق: "و يوم يناديهم" إلخ، سئلوا أولا: عن شركائهم و أمروا أن يستنصروهم، و ثانيا: عن جوابهم للمرسلين إليهم من عند الله.

و المعنى: ما ذا قلتم في جواب من أرسل إليكم من رسل الله فدعوكم إلى الإيمان و العمل الصالح؟.

قوله تعالى: "فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون" العمى استعارة عن جعل الإنسان بحيث لا يهتدي إلى خبر، و كان مقتضى الظاهر أن ينسب العمى إليهم لا إلى الأنباء لكن عكس الأمر فقيل: "فعميت عليهم الأنباء" للدلالة على أخذهم من كل جانب و سد جميع الطرق و تقطع الأسباب بهم كما قال: "و تقطعت بهم الأسباب": البقرة: 166، فلسقوط الأسباب عن التأثير يومئذ لا تهتدي إليهم الأخبار و لا يجدون شيئا يعتذرون به للتخلص من العذاب.

و قوله: "فهم لا يتساءلون" تفريع على عمى الأنباء من قبيل تفرع بعض أفراد العام عليه أي لا يسأل بعضهم بعضا ليعدوا به عذرا يعتذرون به عن تكذيبهم الرسل و ردهم الدعوة.

و قد فسر صدر الآية و ذيلها بتفاسير كثيرة مختلفة لا جدوى في التعرض لها فرأينا الصفح عنها أولى.

قوله تعالى: "فأما من تاب و آمن و عمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين" أي هذه حال من كفر و لم يرجع إلى الله سبحانه فأما من رجع و آمن و عمل صالحا فمن المرجو أن يكون من المفلحين، و عسى - كما قيل - للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب، و المعنى: فليتوقع الفلاح.

قوله تعالى: "و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله و تعالى عما يشركون" الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير.

و الآية جواب رابع عن قولهم: "إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" و الذي يتضمنه حجة قاطعة.

بيان ذلك: أن الخلق و هو الصنع و الإيجاد ينتهي إليه تعالى كما قال: "الله خالق كل شيء": الزمر: 62 فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير غيره تعالى فلا شيء هناك يلجئه تعالى على فعل من الأفعال فإن هذا الشيء المفروض إما مخلوق له منته في وجوده إليه فوجوده و آثار وجوده ينتهي إليه تعالى و لا معنى لتأثير الشيء و لا لتأثير أثره في نفسه و إما غير مخلوق له و لا منته في وجوده إليه يؤثر فيه بالإلجاء و القهر و لا مؤثر في الوجود غيره و لا أن هناك شيئا لا ينتهي في وجوده إليه تعالى فلا يعطيه شيء أثرا و لا يمنعه شيء من أثر كما قال: "و الله يحكم لا معقب لحكمه": الرعد: 41، و قال: و الله غالب على أمره": يوسف: 21.

و إذ لا قاهر يقهره على فعل و لا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى الاختيار هذا بحسب التكوين و التشريع يتبعه فإن حقيقة التشريع هي أنه فطر الناس على فطرة لا تستقيم إلا بإتيان أمور هي الواجبات و ما في حكمها و ترك أمور هي المحرمات و ما في حكمها فما ينتفع به الإنسان في كماله و سعادته هو الذي أمر به و ندب إليه و ما يتضرر به هو الذي نهى عنه و حذر منه.

فله تعالى أن يختار في مرحلة التشريع من الأحكام و القوانين ما يشاء كما أن له أن يختار في مرحلة التكوين من الخلق و التدبير ما يشاء، و هذا معنى قوله: "و ربك يخلق ما يشاء و يختار" و قد أطلق إطلاقا.



و الظاهر أن قوله: "يخلق ما يشاء" إشارة إلى اختياره التكويني فإن معنى إطلاقه أنه لا تقصر قدرته عن خلق شيء و لا يمنعه شيء عما يشاؤه و بعبارة أخرى لا يمتنع عن مشيته شيء لا بنفسه و لا بمانع يمنع و هذا هو الاختيار بحقيقة معناه، و قوله: "و يختار" إشارة إلى اختياره التشريعي الاعتباري و يكون عطفه على قوله: "يخلق ما يشاء" من عطف المسبب على سببه لكون التشريع و الاعتبار متفرعا على التكوين و الحقيقة.

و يمكن حمل قوله: "يخلق ما يشاء" على الاختيار التكويني و قوله: "و يختار" على الأعم من الحقيقة و الاعتبار لكن الوجه السابق أوجه، و من الدليل عليه كون المنفي في قوله الآتي: "ما كان لهم الخيرة" هو الاختيار التشريعي الاعتباري، و الاختيار المثبت في قوله "و يختار" يقابله فالمراد إثبات الاختيار التشريعي الاعتباري.

ثم لا ريب في أن الإنسان له اختيار تكويني بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنه بالعلم و الإرادة و إن لم يكن اختيارا مطلقا فإن للأسباب و العلل الخارجية دخلا في أفعاله إذ أكله لقمة من الطعام مثلا متوقف على تحقق مادة الطعام خارجا و قابليته و ملائمته و قربه منه و مساعدة أدوات الأخذ و القبض و الالتقام و المضغ و البلع و غير ذلك مما لا يحصى.

فصدور الفعل الاختياري عنه مشروط بموافقة الأسباب الخارجية الداخلية في تحقق فعله، و الله سبحانه في رأس تلك الأسباب جميعا و إليه ينتهي الكل و هو الذي خلق الإنسان منعوتا بنعت الاختيار و أعطاه خيرته كما أعطاه خلقه.

ثم إن الإنسان يرى بالطبع لنفسه اختيارا تشريعيا اعتباريا فيما يشاؤه من فعل أو ترك بحذاء اختياره التكويني فله أن يفعل ما يشاء و يترك ما يشاء من غير أن يكون لأحد من بني نوعه أن يحمله على شيء أو يمنعه عن شيء لكونهم أمثالا له لا يزيدون عليه بشيء في معنى الإنسانية و لا يملكون منه شيئا، و هذا هو المراد بكون الإنسان حرا بالطبع.

فالإنسان مختار في نفسه حر بالطبع إلا أن يملك غيره من نفسه شيئا فيسلب بنفسه عن نفسه الحرية كما أن الإنسان الاجتماعي يسلب عن نفسه الحرية بالنسبة إلى موارد السنن و القوانين الجارية في مجتمعه بدخوله في المجتمع و إمضائه ما يجري فيه من سنن و قوانين سواء كانت دينية أو اجتماعية، و كما أن المتقاتلين يملك كل منهما الآخر من نفسه ما يغلب عليه فللغالب منهما أن يفعل بأسيره ما يشاء، و كما أن الأجير إذا ابتاع عمله و آجر نفسه فليس بحر في عمله إذ المملوكية لا تجامع الحرية.

فالإنسان بالنسبة إلى سائر بني نوعه حر في عمله مختار في فعله إلا أن يسلب باختيار منه شيئا من اختياره فيملك غيره، و الله سبحانه يملك الإنسان في نفسه و في فعله الصادر منه ملكا مطلقا بالملك التكويني و بالملك الوضعي الاعتباري فلا خيرة له و لا حرية بالنسبة إلى ما يريده منه تشريعا بأمر أو نهي تشريعيين كما لا خيرة و لا حرية له بالنسبة إلى ما يشاؤه بمشيته التكوينية.

و هذا هو المراد بقوله: "ما كان لهم الخيرة" أي لا اختيار لهم إذا اختار الله سبحانه لهم شيئا من فعل أو ترك حتى يختاروا لأنفسهم ما يشاءون و إن خالف ما اختاره الله و الآية قريبة المعنى من قوله تعالى: "و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم": الأحزاب: 36، و للقوم في تفسير الآية أقاويل مختلفة غير مجدية أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى المطولات.

و قوله: "سبحان الله و تعالى عما يشركون" أي عن شركهم باختيارهم أصناما آلهة يعبدونها من دون الله.



و هاهنا معنى آخر أدق أي تنزه و تعالى عن شركهم بادعاء أن لهم خيرة بالنسبة إلى ما يختاره تعالى بقبوله أو رده فإن الخيرة بهذا المعنى لا تتم إلا بدعوى الاستقلال في الوجود و الاستغناء عنه تعالى و لا تتم إلا مع الاشتراك معه تعالى في صفة الألوهية.

و في قوله: "و ربك يخلق" التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة و النكتة فيه تأييد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقويته و تطييب نفسه بإضافة صفة الرب إليه فإن معناه أن ما أرسله به من الحكم ماض غير مردود فلا خيرة لهم في قبوله و رده، و لأنهم لا يقبلون ربوبيته.

و في قوله: "سبحان الله" وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه إرجاع الأمر إلى الذات المتعالية التي هي المبدأ للتنزه و التعالي عن كل ما لا يليق بساحة قدسه فإنه تعالى يتصف بكل كمال و يتنزه عن كل نقص لأنه هو الله عز اسمه.

قوله تعالى: "و ربك يعلم ما تكن صدورهم و ما يعلنون" الإكنان الإخفاء و الإعلان الإظهار، و لكون الصدر يعد مخزنا للأسرار نسب الإكنان إلى الصدور و الإعلان إليهم أنفسهم.

و لعل تعقيب الآية السابقة بهذه الآية للإشارة إلى أنه تعالى إنما اختار لهم ما اختار لعلمه بما في ظاهرهم و باطنهم من أوساخ الشرك و المعصية فطهرهم بذلك بحكمته.

قوله تعالى: "و هو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم و إليه ترجعون" ظاهر السياق أن الضمير في صدر الآية راجع إلى "ربك" في الآية السابقة، و الظاهر على هذا أن اللام في اسم الجلالة للتلميح إلى معنى الوصف، و قوله: "لا إله إلا هو" تأكيد للحصر المستفاد من قوله: "هو الله" كأنه قيل: و هو الإله - المتصف وحده بالألوهية - لا إله إلا هو.

و على ذلك فالآية كالمتمم لبيان الآية السابقة كأنه قيل: هو سبحانه مختار له أن يختار عليهم أن يعبدوه وحده، و هو يعلم ظاهرهم و باطنهم فله أن يقضي عليهم أن يعبدوه وحده و هو الإله المستحق للعبادة وحده فيجب عليهم أن يعبدوه وحده.

و يكون ما في ذيل الآية من قوله: "له الحمد" إلخ، وجوها ثلاثة توجه كونه تعالى معبودا مستحقا للعبادة وحده.

أما قوله: "له الحمد في الأولى و الآخرة" فلأن كل كمال موجود في الدنيا و الآخرة نعمة نازلة منه تعالى يستحق بها جميل الثناء، و كل جميل من هذه النعم الموهوبة مترشحة من كمال ذاتي من صفاته الذاتية يستحق بها الثناء فله كل الثناء و لا يستقل شيء غيره بشيء من الثناء يثنى عليه به إلا و ينتهي إليه و العبادة ثناء بقول أو فعل فهو المعبود المستحق للعبادة وحده.

و أما قوله: "و له الحكم" فلأنه سبحانه هو المالك على الإطلاق لا يملك غيره إلا ما ملكه إياه و هو المالك لما ملكه و هو سبحانه مالك في مرحلة التشريع و الاعتبار كما أنه مالك في مرحلة التكوين و الحقيقة، و من آثار ملكه أن يقضي على عبيده و مملوكيه أن لا يعبدوا إلا إياه.

و أما قوله: "و إليه ترجعون" فلأن الرجوع للحساب و الجزاء و إذ كان هو المرجع فهو المحاسب المجازي و إذ كان هو المحاسب المجازي وحده فهو الذي يجب أن يعبد وحده و له دين يجب أن يتعبد به وحده.



قوله تعالى: "قل أ رأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة" إلى آخر الآية، السرمد على فعلل بمعنى الدائم، و قيل: هو من السرد و الميم زائدة و معناه المتتابع المطرد، و تقييده بيوم القيامة إذ لا ليل بعد يوم القيامة.

و قوله: "من إله غير الله يأتيكم بضياء" أي من الإله الذي ينقض حكمه تعالى و يأتيكم بضياء تستضيئون به و تسعون في طلب المعاش، هذا ما يشهد به السياق، و يجري نظيره في قوله الآتي: "من إله غير الله يأتيكم بليل" إلخ.

و بذلك يندفع ما استشكل على الآيتين من أنه لو فرض تحقق جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة لم يتصور معه الإتيان بضياء أصلا لأن الذي يأتي به إما هو الله تعالى و إما هو غيره أما غيره فعجزه عن ذلك ظاهر، و أما الله تعالى فإتيانه به يستلزم اجتماع الليل و النهار و هو محال و المحال لا يتعلق به القدرة و لا الإرادة، و كذا الكلام في جانب النهار.

و ربما أجيب عنه بأن المراد بقوله: "إن جعل الله عليكم" إن أراد الله أن يجعل عليكم.

و هو كما ترى.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: من إله غير الله يأتيكم بنهار، على ما يقتضيه سياق المقابلة بين الليل و النهار في الكلام لكن العدول إلى ذكر الضياء بدل النهار من قبيل الإلزام في الحجة بأهون ما يفرض و أيسره ليظهر بطلان مدعى الخصم أتم الظهور كأنه قيل: لو كان غيره تعالى إله يدبر أمر العالم فإن جعل الله الليل سرمدا فليقدر أن يأتي بالنهار، تنزلنا عن ذلك فليقدر أن يأتي بضياء ما تستضيئون به لكن لا قدرة لشيء على ذلك إن القدرة كلها لله سبحانه.

و لا يجري نظير هذا الوجه في الآية التالية في الليل حتى يصح أن يقال مثلا: من إله غير الله يأتيكم بظلمة لأن المأتي به إن كان ظلمة ما لم تكف للسكن و إن كان ظلمة ممتدة كانت هي الليل.

و تنكير "ضياء" يؤيد ما ذكر من الوجه، و قد أوردوا وجوها أخرى في ذلك لا تخلو من تعسف.

و قوله: "أ فلا تسمعون" أي سمع تفهم و تفكر حتى تتفكروا فتفهموا أن لا إله غيره تعالى.

قوله تعالى: "قل أ رأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه" أي تستريحون فيه مما أصابكم من تعب السعي للمعاش.

و قوله: "أ فلا تبصرون" أي إبصار تفهم و تذكر و إذ لم يبصروا و لم يسمعوا فهم عمي صم، و من اللطيف تذييل الآيتين بقوله: "أ فلا تسمعون" "أ فلا تبصرون" و لعل آية النهار خص بالإبصار لمناسبة ضوء النهار الإبصار و بقي السمع لآية الليل و هو لا يخلو من مناسبة معه.

قوله تعالى: "و من رحمته جعل لكم الليل و النهار لتسكنوا فيه و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون" الآية بمنزلة نتيجة الحجة المذكورة في الآيتين السابقتين سيقت بعد إبطال دعوى الخصم في صورة الإخبار الابتدائي لثبوته من غير معارض.

و قوله: "لتسكنوا فيه" اللام للتعليل و الضمير لليل، أي جعل لكم الليل لتستريحوا فيه، و قوله: "لتبتغوا من فضله" أي و جعل لكم النهار لتطلبوا من رزقه الذي هو عطيته فرجوع "لتسكنوا" و "لتبتغوا" إلى الليل و النهار بطريق اللف و النشر المرتب، و قوله: "و لعلكم تشكرون" راجع إليهما جميعا.



و قوله: "و من رحمته جعل لكم" في معنى قولنا: جعل لكم و ذلك رحمة منه و فيه إشارة إلى أن التكوين كالسكون و الابتغاء و التشريع و هو هدايتهم إلى الشكر من آثار صفة رحمته تعالى فافهم ذلك.

قوله تعالى: "و يوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون" تقدم تفسيره و قد كررت الآية لحاجة مضمون الآية التالية إليها.

قوله تعالى: "و نزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم" إلى آخر الآية، إشارة إلى ظهور بطلان مزعمتهم لهم يوم القيامة، و المراد بالشهيد شهيد الأعمال - كما تقدمت الإشارة إليه مرارا - و لا ظهور للآية في كونه هو النبي المبعوث إلى الأمة نظرا إلى إفراد الشهيد و ذكر الأمة إذ الأمة هي الجماعة من الناس و لا ظهور و لا نصوصية له في الجماعة الذين أرسل إليهم نبي و إن كانت من مصاديقها.

و قوله: "فقلنا هاتوا برهانكم" أي طالبناهم بالحجة القاطعة على ما زعموا أن لله شركاء.

و قوله: "فعلموا أن الحق لله و ضل عنهم ما كانوا يفترون" أي غاب عنهم زعمهم الباطل أن لله سبحانه شركاء فعلموا عند ذلك أن الحق في الألوهية لله وحده فالمراد بالضلال الغيبة على طريق الاستعارة.

كذا فسروه، ففي الكلام تقديم و تأخير و الأصل فضل عنهم ما كانوا يفترون فعلموا أن الحق لله.

و على هذا فقوله: "إن الحق لله" نظير ما يقال في القضاء بين المتخاصمين إذا تداعيا في حق يدعيه كل لنفسه: أن الحق لفلان لا لفلان كأنه تعالى يخاصم المشركين حيث يدعون أن الألوهية بمعنى المعبودية حق لشركائهم فيدعي تعالى أنه حقه فيطالبهم البرهان على دعواهم فيضل عنهم البرهان فيعلمون عندئذ أن هذا الحق لله فالألوهية حق ثابت لا ريب فيه فإذا لم يكن حقا لغيره تعالى فهو حق له.

و هذا وجه بظاهره وجيه لا بأس به لكن الحقيقة التي يعطيها كلامه تعالى أن من خاصة يوم القيامة أن الحق يتمحض فيه للظهور ظهورا مشهودا لا ستر عليه فليرتفع به كل باطل يلتبس به الأمر و يتشبه بالحق، و لازمه أن يظهر أمر الألوهية ظهورا لا ستر عليه فيرتفع به افتراء الشركاء ارتفاعا مترتبا عليه لا أن يفتقد الدليل على الشركاء فيستنتج منه توحده تعالى بالألوهية على سبيل الاحتجاجات الفكرية فافهم ذلك.

و بذلك يندفع أولا ما يرد على الوجه السابق أن المستفاد من كلامه تعالى أنهم لا حجة عقلية لهم على مدعاهم و لا موجب على هذا لتأخر علمهم أن الحق لله إلى يوم القيامة، و يرتفع ثانيا حديث التقديم و التأخير المذكور الذي لا نكتة له ظاهرا إلا رعاية السجع.

و من الممكن أن يكون "الحق" في قوله: "فعلموا أن الحق لله" مصدرا فيرجع معنى الجملة إلى معنى قوله: "و يعلمون أن الله هو الحق المبين": النور: 25، فكون الحق لله هو كونه تعالى حقا إن أريد به الحق في ذاته أو كونه منتهيا إليه قائما به إن أريد به غيره، كما قال تعالى: "الحق من ربك": آل عمران: 60، و لم يقل: الحق مع ربك.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" الآية، قال: نزلت في قريش حين دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام و الهجرة و قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا فقال الله عز و جل: "أ و لم نمكن لهم حرما آمنا - يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا - و لكن أكثرهم لا يعلمون". أقول: و روي هذا المعنى في كشف المحجة، و روضة الواعظين، للمفيد و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس.

و في الدر المنثور، أخرج النسائي و ابن المنذر عن ابن عباس: أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال: "إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا". و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة" الآية، قال: يختار الله عز و جل الإمام و ليس لهم أن يختاروا.

أقول: و هو من الجري مبنيا على وجوب نصب الإمام المعصوم من قبل الله تعالى كالنبي، و قد مر تفصيل الكلام فيه.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "و نزعنا من كل أمة شهيدا" يقول: من هذه الأمة إمامها.

أقول: و هو من الجري.

28 سورة القصص - 76 - 84

إِنّ قَرُونَ كانَ مِن قَوْمِ مُوسى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَ ءَاتَيْنَهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنّ مَفَاتحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصبَةِ أُولى الْقُوّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنّ اللّهَ لا يحِب الْفَرِحِينَ (76) وَ ابْتَغ فِيمَا ءَاتَاك اللّهُ الدّارَ الاَخِرَةَ وَ لا تَنس نَصِيبَك مِنَ الدّنْيَا وَ أَحْسِن كمَا أَحْسنَ اللّهُ إِلَيْك وَ لا تَبْغ الْفَسادَ فى الأَرْضِ إِنّ اللّهَ لا يحِب الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِندِى أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنّ اللّهَ قَدْ أَهْلَك مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشدّ مِنْهُ قُوّةً وَ أَكثرُ جَمْعاً وَ لا يُسئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فى زِينَتِهِ قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدّنْيَا يَلَيْت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتىَ قَرُونُ إِنّهُ لَذُو حَظٍ عَظِيمٍ (79) وَ قَالَ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكمْ ثَوَاب اللّهِ خَيرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَ عَمِلَ صلِحاً وَ لا يُلَقّاهَا إِلا الصبرُونَ (80) فخَسفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ الأَرْض فَمَا كانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَ مَا كانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81) وَ أَصبَحَ الّذِينَ تَمَنّوْا مَكانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنّ اللّهَ يَبْسط الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَن مّنّ اللّهُ عَلَيْنَا لَخَسف بِنَا وَيْكَأَنّهُ لا يُفْلِحُ الْكَفِرُونَ (82) تِلْك الدّارُ الاَخِرَةُ نجْعَلُهَا لِلّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فى الأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعَقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ (83) مَن جَاءَ بِالحَْسنَةِ فَلَهُ خَيرٌ مِّنهَا وَ مَن جَاءَ بِالسيِّئَةِ فَلا يجْزَى الّذِينَ عَمِلُوا السيِّئَاتِ إِلا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (84)

بيان

قصة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين: "إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" و أجاب عنه بما مر من الأجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أداه الكفر بالله إلى ما أدى ما أدى من سوء العاقبة فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه و جودة فكره و حسن تدبيره فآمن العذاب الإلهي و آثر الحياة الدنيا على الآخرة و بغى الفساد في الأرض فخسف الله به و بداره الأرض فلما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين.

قوله تعالى: "إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم و آتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة" قال في المجمع:، البغي طلب العتو بغير حق.

قال: و المفاتح جمع مفتح و المفاتيح جمع مفتاح و معناهما واحد و هو عبارة عما يفتح به الأغلاق.

قال: و ناء بحمله ينوء نوءا إذا نهض به مع ثقله عليه.

انتهي.

و قال غيره: ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله و هو الأوفق للآية.

و قال في المجمع، أيضا: العصبة الجماعة الملتف بعضها ببعض.

و قال: و اختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، و قيل: ما بين عشرة إلى أربعين عن قتادة، و قيل أربعون رجلا عن أبي صالح، و قيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عباس، و قيل: إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض.

انتهي.

و يزيف غير القولين الأخيرين قول إخوة يوسف: "و نحن عصبة": يوسف: 8، و هم تسعة نفر.

و المعنى: أن قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتو عليهم بغير حق و أعطيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوة، و ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالمفاتح الخزائن، و ليس بذاك.

قوله تعالى: "إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين" فسر الفرح بالبطر و هو لازم الفرح و السرور المفرط بمتاع الدنيا فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا ينسي الآخرة و يورث البطر و الأشر، و لذا قال تعالى: "و لا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور": الحديد: 23.

و لذا أيضا علل النهي بقوله: "إن الله لا يحب الفرحين".

قوله تعالى: "و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة" إلى آخر الآية أي و اطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله و وضعه فيما فيه مرضاته تعالى.

و قوله: "و لا تنس نصيبك من الدنيا" أي لا تترك ما قسم الله لك و رزقك من الدنيا ترك المنسي و اعمل فيه لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته فهو الذي يبقى له.

و قيل: معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا - و قد أقبلت عليك - شيء قليل مما أوتيت و هو ما تأكله و تشربه و تلبسه مثلا و الباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك و أحسن بالفضل و هذا وجه جيد.

و هناك وجوه أخر غير ملائمة للسياق.



و قوله: "و أحسن كما أحسن الله إليك" أي أنفقه لغيرك إحسانا كما آتاكه الله إحسانا من غير أن تستحقه و تستوجبه، و هذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله: "و لا تنس نصيبك من الدنيا" على أول الوجهين السابقين و متممة له على الوجه الثاني.

و قوله: "و لا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين" أي لا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال و ما اكتسبت به من جاه و حشمة إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح و الإصلاح.

قوله تعالى: "قال إنما أوتيته على علم عندي" إلى آخر الآية.

لا شك أن قوله "إنما أوتيته على علم عندي" جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه و نصحوه به و كان كلامهم مبنيا على أن ما له من الثروة إنما آتاه الله إحسانا إليه و فضلا منه من غير استيجاب و استحقاق فيجب عليه أن يبتغي فيه الدار الآخرة و يحسن به إلى الناس و لا يفسد في الأرض بالاستعلاء و الاستكبار و البطر.

فأجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق و دعوى أنه إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال و تدبيره و ليس عند غيره ذلك، و إذا كان ذلك باستحقاق فقد استقل بملكه و له أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء و يستدره في أنواع التنعم و بسط السلطة و العلو و البلوغ إلى الآمال و الأماني.

و هذه المزعمة التي ابتلي بها قارون فأهلكته - أعني زعمه أن الذي حصل له الكنوز و ساق إليه القوة و الجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة و قدرته النفسانية لا غير - مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير و وافقته الأسباب الظاهرة من عزة عاجلة و قوة مستعارة إلا أن نفسه هي الفاعلة له و علمه هو السائق له إليه و خبرته هي الماسكة له لأجله.

و إلى عموم هذه المزعمة و ركون الإنسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى: "و إذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة و لكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا و الذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا و ما هم بمعجزين أ و لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون": الزمر: 52، و قال: "أ فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم و أشد قوة و آثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون": المؤمن: 83، و عرض الآيات على قصة قارون لا يبقي شكا في أن المراد بالعلم في كلام ما قدمناه.

و في قوله: "إنما أوتيته" من غير إسناد الإيتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له: "فيما آتاك الله" نوع إعراض عن ذكره تعالى و إزراء بساحة كبريائه.



و قوله: "أ و لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة و أكثر جمعا" استفهام توبيخي و جواب عن قوله: "إنما أوتيته على علم عندي" بأيسر ما يمكن أن يتنبه به لفساد قوله فإنه كان يرى أن الذي اقتنى به المال و هو يبقيه له و يمتعه منه هو علمه الذي عنده و هو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هو أشد منه قوة و أكثر جمعا، و كان ما له من القوة و الجمع عن علم عنده على زعمه، و قد أهلكه الله بجرمه، فلو كان العلم الذي يغتر و يتبجح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتع منه و لم يكن بإيتاء الله فضلا و إحسانا لنجاهم من الهلاك و متعهم من أموالهم و دافعوا بقوتهم و انتصروا بجمعهم.

و قوله: "و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون" ظاهر السياق أن المراد به بيان السنة الإلهية في تعذيب المجرمين و إهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم إمهالهم و الإصغاء إلى ما لفقوه من المعاذير أو هيئوه من التذلل و الإنابة ليرجو بذلك النجاة كما أن أولي الطول و القوة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثم العذاب، و ربما صرف المجرم بما لفقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكن الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم و إنما يقضي عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود.

و الظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمة التوبيخ السابق و يكون جوابا عن إسناده ثروته إلى علمه، و محصله أن المؤاخذة الإلهية ليست كمؤاخذة الناس حتى إذا لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفقه من الجواب حتى ينتفع في ذلك بعلمه، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه و إنما يؤاخذه بذنبه، و أيضا يؤاخذه بغتة و هو لا يشعر.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية و لهم فيها أقاويل أخرى: فقيل: المراد بالعلم في قوله: "إنما أوتيته على علم عندي" علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها.

و قيل: المراد علم الكيمياء و كان قد تعلمه من موسى و يوشع بن نون و كالب بن يوقنا و المراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس و قد صنع به مقدارا كثيرا من الذهب.

و قيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز و الدفائن و قد استخرج به كنوزا و دفائن كثيرة.

و قيل: المراد بالعلم علم الله تعالى و المعنى: أوتيته على علم من الله و تخصيص منه قصدني به، و معنى قوله: "عندي" هو كذلك في ظني و رأيي.

و قيل: العلم علم الله لكنه بمعنى المعلوم، و المعنى أوتيته على خير علمه الله تعالى عندي، و "على" على جميع هذه الأقوال للاستعلاء و جوز أن تكون للتعليل.

و قيل: المراد بالسؤال في قوله: "و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون" سؤال يوم القيامة و المنفي سؤال الاستعلام لأن الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال و الملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم و يعرفونهم بسيماهم و أما قوله تعالى: "و قفوهم إنهم مسئولون": الصافات: 24 فهو سؤال تقريع و توبيخ لا سؤال استعلام، و يمكن أن يكون السؤال في الآيتين بمعنى واحد و النفي و الإثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف و لا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين.

و قيل: الضمير في قوله: "عن ذنوبهم" لمن هو أشد و المراد بالمجرمين غيرهم و المعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين.

و هذه كلها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق.

قوله تعالى: "فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم" الحظ هو النصيب من السعادة و البخت.



و قوله: "يريدون الحياة الدنيا" أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة و ما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى: "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم" : النجم: 30 و لذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد و شرط.

قوله تعالى: "و قال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا" إلخ، الويل الهلاك و يستعمل للدعاء بالهلاك و زجرا عما لا يرتضي، و هو في المقام زجرا عن التمني.

و القائلون بهذا القول هم المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون و عدوه سعادة عظيمة على الإطلاق، و مرادهم أن ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا مما أوتي قارون فإن كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوه.

و قوله: "و لا يلقاها إلا الصابرون" التلقية التفهيم و التلقي التفهم و الأخذ، و الضمير - على ما قالوا - للكلمة المفهومة من السياق، و المعنى: و ما يفهم هذه الكلمة - و هي قولهم: ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا - إلا الصابرون.

و قيل: الضمير للسيرة أو الطريقة و معنى تلقيها فهمها أو التوفيق للعمل بها.

و الصابرون هم المتلبسون بالصبر عند الشدائد و على الطاعات و عن المعاصي، و وجه كونهم هم المتلقين لهذه الكلمة أو السيرة أو الطريقة أن التصديق بكون ثواب الآخرة خيرا من الحظ الدنيوي - و هو لا ينفك عن الإيمان و العمل الصالح الملازمين لترك كثير من الأهواء و الحرمان عن كثير من المشتهيات - لا يتحقق إلا ممن له صفة الصبر على مرارة مخالفة الطبع و عصيان النفس الأمارة.

قوله تعالى: "فخسفنا به و بداره الأرض" إلى آخر الآية، الضميران لقارون و الجملة متفرعة على بغيه.

و قوله: "فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين" الفئة الجماعة يميل بعضهم إلى بعض، و في النصر و الانتصار معنى المنع و الامتناع، و محصل المعنى: فما كان له جماعة يمنعونه العذاب و ما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه اللذان اكتسبهما بعلمه فلم يقه جمعه و لم تفده قوته من دون الله و بان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه.

فالفاء في قوله: "فما كان" لتفريع الجملة على قوله: "فخسفنا به" إلخ، أي فظهر بخسفنا به و بداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق و الاستغناء عن الله سبحانه و أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه و قد اكتسبهما بنبوغه العلمي.

قوله تعالى: "و أصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر" إلخ، ذكروا أن "وي" كلمة تندم و ربما تستعمل للتعجب و كلا المعنيين يقبلان الانطباق على المورد و إن كان التندم أسبق إلى الذهن.

و قوله: "كان الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر" اعتراف منهم ببطلان ما كان يزعمه قارون و هم يصدقونه أن القوة و الجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان في علمه و جودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه بل سعة الرزق و ضيقه بمشية من الله.

و المقام مقام التحقيق دون التشبيه المناسب للشك و التردد لكنهم إنما استعملوا في كلامهم "كان" للدلالة على ابتداء ترددهم في قول قارون و قد قبلوه و صدقوه من قبل و هذه صنعة شائعة في الاستعمال.



و الدليل على ذلك قولهم بعده: "لو لا أن من الله علينا لخسف بنا" على طريق الجزم و التحقيق.

و قوله: "ويكأنه لا يفلح الكافرون" تندم منهم ثانيا و انتزاع مما كان لازم تمنيتهم مكان قارون.

قوله تعالى: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين" الآية و ما بعدها بمنزلة النتيجة المستخرجة من القصة.

و قوله: "تلك الدار الآخرة" الإشارة إليها بلفظ البعيد للدلالة على شرفها و بهائها و علو مكانتها و هو الشاهد على أن المراد بها الدار الآخرة السعيدة و لذا فسروها بالجنة.

و قوله: "نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا" أي نختصها بهم و إرادة العلو هو الاستعلاء و الاستكبار على عباد الله و إرادة الفساد فيها ابتغاء معاصي الله تعالى فإن الله بنى شرائعه التي هي تكاليف للإنسان على مقتضيات فطرته و خلقته و لا تقتضي فطرته إلا ما يوافق النظام الأحسن الجاري في الحياة الإنسانية الأرضية فكل معصية تقضي إلى فساد في الأرض بلا واسطة أو بواسطة، قال تعالى: "ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس": الروم: 41.

و من هنا ظهر أن إرادة العلو من مصاديق إرادة الفساد و إنما أفردت و خصت بالذكر اعتناء بأمرها، و محصل المعنى: تلك الدار الآخرة السعيدة تخصها بالذين لا يريدون فسادا في الأرض بالعلو على عباد الله و لا بأي معصية أخرى.

و الآية عامة يخصصها قوله تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا كريما": النساء: 31.

و قوله: "و العاقبة للمتقين" أي العاقبة المحمودة الجميلة و هي الدار الآخرة السعيدة أو العاقبة السعيدة في الدنيا و الآخرة لكن سياق الآيتين يؤيد الأول.

قوله تعالى: "من جاء بالحسنة فله خير منها" أي لأنها تتضاعف له بفضل من الله، قال تعالى: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها": الأنعام: 160.

قوله تعالى: "و من جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون" أي لا يزيدون على ما عملوا شيئا و فيه كمال العدل، كما أن في جزاء الحسنة بخير منها كمال الفضل.

و كان مقتضى الظاهر في قوله: "فلا يجزى الذين عملوا" إلخ، الإضمار و لعل في وضع الموصول موضع الضمير إشارة إلى أن هذا الجزاء إنما هو لمن أكثر من اقتراف المعصية و أحاطت به الخطيئة كما يفيده جمع السيئات، و قوله: "كانوا يعملون" الدال على الإصرار و الاستمرار، و أما من جاء بالسيئة و الحسنة فمن المرجو أن يغفر الله له كما قال: "و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم": التوبة: 102.

و ليعلم أن الملاك في الحسنة و السيئة على الأثر الحاصل منها عند الإنسان و بها تسمى الأعمال حسنة أو سيئة و عليها - لا على متن العمل الخارجي الذي هو نوع من الحركة - يثاب الإنسان أو يعاقب، قال تعالى: "و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله": البقرة: 284.

و به يظهر الجواب عما استشكل على إطلاق الآية بأن التوحيد حسنة و لا يعقل خير منه و أفضل، فالآية إما خاصة بغير الاعتقادات الحقة أو مخصصة بالتوحيد.



و ذلك أن الأثر الحاصل من التوحيد يمكن أن يفرض ما هو خير منه و إن لم يقبله التوحيد بحسب الاعتبار.

على أن التوحيد أيا ما فرض يقبل الشدة و الضعف و الزيادة و النقيصة و إذا ضوعف عند الجزاء كما تقدم كان مضاعفه خيرا من غيره.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس: أن قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن عمه و كان يبتغي العلم حتى جمع علما فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى و حسده. فقال له موسى (عليه السلام): إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة و جاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت نعم. فجاء قارون إلى موسى (عليه السلام) قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و أن تصلوا الرحم و كذا و كذا و قد أمرني في الزاني إذا زنى و قد أحصن أن يرجم. قالوا: و إن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟. فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى (عليه السلام): أنشدتك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فإنهم دعوني و جعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي و أنا أشهد أنك بريء و أنك رسول الله. فخر موسى (عليه السلام) ساجدا يبكي فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله: يا موسى سألك عبادي و تضرعوا إليك فلم تجبهم فوعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم. قال ابن عباس: و ذلك قوله تعالى: "فخسفنا به و بداره الأرض" خسف به إلى الأرض السفلى.

أقول: و روي فيه، أيضا عن عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن ابن نوفل الهاشمي القصة: لكن فيها أن المرأة أحضرت إلى مجلس قارون لتشهد عند الملإ من بني إسرائيل على موسى (عليه السلام) بالفجور و تشكوه إلى قارون فجاءت إليه و اعترفت عند الملإ بالحق فبلغ ذلك موسى (عليه السلام) فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه.

و روى القمي في تفسيره،: في القصة أن موسى (عليه السلام) جاء إلى قارون و بلغه حكم الزكاة فاستهزأ به و أخرجه من داره فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه فخسف به و بداره الأرض، و الرواية موقوفة مشتملة على أمور منكرة و لذلك تركنا نقلها كما أن روايتي ابن عباس و ابن نوفل أيضا موقوفتان.

على أن رواية ابن عباس تقصص بغيه على موسى (عليه السلام) و الذي تقصه الآيات بغيه على بني إسرائيل، و تشير إلى أن العلم الذي عنده هو ما حصله بالتعلم و ظاهر الآية كما مر أنه العلم بطرق تحصيل الثروة و نحوها.



و قد سيقت القصة في التوراة الحاضرة على نحو آخر ففي الإصحاح السادس عشر من سفر العدد: و أخذ قورح بن بصهار بن نهات بن لاوي و داثان و أبيرام ابنا ألياب و أون بن فالت بنور أوبين يقاومون موسى مع أناس من بني إسرائيل مائتين و خمسين رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى و هارون و قالوا لهما كفاكما. إن كل الجماعة بأسرها مقدسة و في وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟. فلما سمع موسى سقط على وجهه ثم كلم قورح و جميع قومه قائلا: غدا يعلن الرب من هو له؟ و من المقدس؟ حتى يقربه إليه فالذي يختاره يقربه إليه. افعلوا هذا: خذوا لكم محابر قورح و كل جماعته و اجعلوا فيها نارا و ضعوا عليها بخورا أمام الرب غدا فالرجل الذي يختاره الرب هو المقدس. كفاكم يا بني لاوي. ثم سيقت القصة و ذكر فيها حضورهم غدا و مجيؤهم بالمجامر و فيها النار و البخور و اجتماعهم على باب خيمة الاجتماع ثم قيل: انشقت الأرض التي تحتهم و فتحت الأرض فاها و ابتلعتهم و بيوتهم و كل من كان لقورح مع كل الأموال فنزلوا هم و كل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية فانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة، و كل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم، لأنهم قالوا: لعل الأرض تبتلعنا، و خرجت نار من عند الرب و أكلت المائتين و الخمسين رجلا الذين قربوا البخور.

انتهى موضع الحاجة.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "إن قارون كان من قوم موسى": و هو ابن خالته: عن عطاء عن ابن عباس و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "ما إن مفاتحه لتنوء" الآية، قال: كان يحمل مفاتيح خزائنه العصبة أولوا القوة.

و في المعاني، بإسناده عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن جده عن آبائه عن علي (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "و لا تنس نصيبك من الدنيا" قال: لا تنس صحتك و قوتك و فراغك و شبابك و نشاطك أن تطلب بها الآخرة.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "فخرج على قومه في زينته" قال: في الثياب المصبغات يجرها بالأرض.

و في المجمع، و روى زاذان عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه كان يمشي في الأسواق و هو وال يرشد الضال و يعين الضعيف و يمر بالبياع و البقال فيفتح عليه القرآن و يقرأ: "تلك الدار الآخرة - نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا" و يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من سائر الناس.

و فيه، روى سلام الأعرج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية "تلك الدار الآخرة" الآية.

أقول: و عن السيد ابن طاووس في سعد السعود، أنه رواه عن الطبرسي هكذا: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها.

و في الدر المنثور، أخرج المحاملي و الديلمي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في الآية قال: التجبر في الأرض و الأخذ بغير الحق.

28 سورة القصص - 85 - 88

إِنّ الّذِى فَرَض عَلَيْك الْقُرْءَانَ لَرَادّك إِلى مَعَادٍ قُل رّبى أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالهُْدَى وَ مَنْ هُوَ فى ضلَلٍ مّبِينٍ (85) وَ مَا كُنت تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْك الْكتَب إِلا رَحْمَةً مِّن رّبِّك فَلا تَكُونَنّ ظهِيراً لِّلْكَفِرِينَ (86) وَ لا يَصدّنّك عَنْ ءَايَتِ اللّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَت إِلَيْك وَ ادْعُ إِلى رَبِّك وَ لا تَكُونَنّ مِنَ الْمُشرِكينَ (87) وَ لا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كلّ شىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الحُْكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

بيان

الآيات خاتمة السورة و فيها وعد جميل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الله سبحانه سيمن عليه برفع قدره و نفوذ كلمته و تقدم دينه و انبساط الأمن و السلام عليه و على المؤمنين به كما فعل ذلك بموسى و بني إسرائيل، و قد كانت قصة موسى و بني إسرائيل مسوقة في السورة لبيان ذلك.

قوله تعالى: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" إلى آخر الآية الفرض - على ما ذكره - بمعنى الإيجاب فمعنى "فرض عليك القرآن" أي أوجب عليك العمل به أي بما فيه من الأحكام ففيه مجاز في النسبة.

و أحسن منه قول بعضهم: إن المعنى أوجب عليك تلاوته و تبليغه و العمل به و ذلك لكونه أوفق لقوله: "لرادك إلى معاد" بما سيجيء من معناه.

و قوله: "لرادك إلى معاد" المعاد اسم مكان أو زمان من العود و قد اختلفت كلماتهم في تفسير هذا المعاد فقيل: هو مكة فالآية وعد له أن الله سيرده بعد هجرته إلى مكة ثانيا، و قيل: هو الموت، و قيل: هو القيامة، و قيل: هو المحشر، و قيل هو المقام المحمود و هو موقف الشفاعة الكبرى، و قيل: هو الجنة، و قيل: هو بيت المقدس، و هو في الحقيقة وعد بمعراج ثان يعود فيه إلى بيت المقدس بعد ما كان دخله في المعراج الأول: و قيل: هو الأمر المحبوب فيقبل الانطباق على جل الأقوال السابقة أو كلها.

و الذي يعطيه التدبر في سياق آيات السورة هو أن تكون الآية تصريحا بما كانت القصة المسرودة في أول السورة تلوح إليه ثم الآيات التالية لها تؤيده.

فإنه تعالى أورد قصة بني إسرائيل و موسى (عليهما السلام) في أول السورة ففصل القول في أنه كيف من عليهم بالأمن و السلام و العزة و التمكن بعد ما كانوا أذلاء مستضعفين بأيدي آل فرعون يذبحون أبناءهم يستحيون نساءهم، و قد كانت القصة تدل بالالتزام - و مطلع السورة يؤيده - على وعد جميل للمؤمنين أن الله سبحانه سينجيهم مما هم عليه من الفتنة و الشدة و العسرة و يظهر دينهم على الدين كله و يمكنهم في الأرض بعد ما كانوا لا سماء تظلهم و لا أرض تقلهم.

ثم ذكر بعد الفراغ من القصة أن من الواجب في الحكمة أن ينزل كتابا يهدي الناس إلى الحق تذكرة و إتماما للحجة ليتقوا بذلك من عذاب الله كما نزله على موسى بعد ما أهلك القرون الأولى و كما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كذبوا به عنادا للحق و إيثارا للدنيا على الآخرة.

و هذا السياق يرجي السامع أنه تعالى سيتعرض صريحا لما أشار إليه في سرد القصة تلويحا فإذا سمع قوله: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" لم يلبث دون أن يفهم أنه هو الوعد الجميل الذي كان يترقبه و خاصة مع الابتداء بقوله: "إن الذي فرض عليك القرآن" و قد قدم تنظير التوراة بالقرآن و قد كان ما قصه في إنجاء بني إسرائيل مقدمة لنزول التوراة حتى يكونوا بالأخذ بها و العمل بها أئمة و يكونوا هم الوارثين.

فمعنى الآية: إن الذي فرض عليك القرآن لتقرأه على الناس و تبلغه و تعملوا به سيردك و يصيرك إلى محل تكون هذه الصيرورة منك إليه عودا و يكون هو معادا لك كما فرض التوراة على موسى و رفع به قدره و قدر قومه، و من المعلوم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بمكة على ما فيها من الشدة و الفتنة ثم هاجر منها ثم عاد إليها فاتحا مظفرا و ثبتت قواعد دينه و استحكمت أركان ملته و كسرت الأصنام و انهدم بنيان الشرك و المؤمنون هم الوارثون للأرض بعد ما كانوا أذلاء معذبين.

و في تنكير قوله: "معاد" إشارة إلى عظمة قدر هذا العود و أنه لا يقاس إلى ما قبله من القطون بها و التاريخ يصدقه.

و قوله: "قل ربي أعلم من جاء بالهدى و من هو في ضلال مبين" يؤيد ما قدمنا من المعنى فإنه يحاذي قول موسى (عليه السلام) - لما كذبوه و رموا آياته البينات بأنها سحر مفترى -: "ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده و من تكون له عاقبة الدار" فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول للفراعنة من مشركي قومه لما كذبوه و رموه بالسحر ما قال موسى لآل فرعون لما كذبوه و رموه بالسحر للتشابه التام بين مبعثيهما و سير دعوتهما كما يظهر من القصة و يظهر ذلك تمام الظهور بالتأمل في قوله تعالى: "إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا": المزمل: 15.

و لعل الاكتفاء بالشطر الأول من قول موسى (عليه السلام) و السكوت عن الشطر الثاني أعني قوله: "و من تكون له عاقبة الدار" لبناء الكلام بحسب سياقه على أن لا يتعدى حد الإشارة و الإيماء كما يستشم من سياق قوله: "لرادك إلى معاد" أيضا حيث خص الخطاب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نكر معادا.

و كيف كان فالمراد بقوله: "من جاء بالهدى" النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه و بقوله: "و من هو في ضلال مبين" المشركون من قومه، و اختلاف سياق الجملتين - حيث قيل في جانبه (صلى الله عليه وآله وسلم): "من جاء بالهدى" و في جانبهم: "من هو في ضلال مبين" فقوبل بين ضلالهم و بين مجيئه بالهدى لا بين ضلالهم و اهتدائه - لكون تكذيبهم متوجها بالطبع إلى ما جاء به لا إلى نفسه.

و قد ذكروا في قوله: "أعلم من جاء بالهدى" أن "من" منصوب بفعل مقدر يدل عليه "أعلم" و التقدير يعلم من جاء به بناء على ما هو المشهور أن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، و ذكر بعضهم أنه منصوب بأعلم و هو بمعنى عالم و لا دليل عليه، و ما أذكر قائلا بأنه منصوب بنزع الخافض و إن لم يظهر فيه النصب لبنائه و التقدير ربي أعلم بمن جاء بالهدى، و لا دليل على منعه.

1614 16 قوله تعالى: "و ما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين" صدر الآية تقرير للوعد الذي في قوله: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" أي أنه سيردك إلى معاد - و ما كنت ترجوه كما ألقى إليك الكتاب و ما كنت ترجوه -.

و قيل: تذكرة استينافية لنعمته تعالى عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هذا وجه وجيه و تقريره أنه تعالى لما وعده بالرد إلى معاد و فيه ارتفاع ذكره و تقدم دعوته و انبساط دينه خط له السبيل التي يجب عليه سلوكها بجهد و مراقبة فبين له أن إلقاء الكتاب إليه لم يكن على نهج الحوادث العادية التي من شأنها أن ترتجى و تترقب بل كانت رحمة خاصة من ربه و قد وعده في فرضه عليه ما وعده فمن الواجب عليه قبال هذه النعمة و في تقدم دعوته و بلوغها الغاية التي وعدها أن لا ينصر الكافرين و لا يطيعهم و يدعو إلى ربه و لا يكون من المشركين و لا يدعو معه إلها آخر.

و قوله: "إلا رحمة من ربك" استثناء منقطع أي لكنه ألقى إليك رحمة من ربك و ليس بإلقاء عادي يرجى مثله.

و قوله: "فلا تكونن ظهيرا للكافرين" تفريع على قوله: "إلا رحمة من ربك" أي فإذا كان إلقاؤه إليك رحمة من ربك خصك بها و هو فوق رجائك فتبرء من الكافرين و لا تكن معينا و ناصرا لهم.



و من المحتمل قريبا أن يكون في الجملة نوع محاذاة لقول موسى (عليه السلام) - لما قتل القبطي: "رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين" و على هذا يكون في النهي عن إعانتهم إشارة إلى أن إلقاء الكتاب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) نعمة أنعمها الله عليه يهدي به إلى الحق و يدعو إلى التوحيد فعليه أن لا يعين الكافرين على كفرهم و لا يميل إلى صدهم إياه عن آيات الله بعد نزولها عليه كما عاهد موسى (عليه السلام) ربه بما أنعم عليه من الحكم و العلم أن لا يكون ظهيرا للمجرمين أبدا، و سيأتي أن قوله: "و لا يصدنك" إلخ، بمنزلة الشارح لهذه الجملة.

قوله تعالى: "و لا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك" إلى آخر الآية، نهي له (صلى الله عليه وآله وسلم) على الانصراف عن آيات الله بلسان نهي الكفار عن الصد و الصرف و وجهه كون انصرافه مسببا لصدهم و هو كقوله لآدم و زوجه: "فلا يخرجنكما من الجنة" أي لا تخرجا منها بإخراجه لكما بالوسوسة.

و الظاهر أن الآية و ما بعدها في مقام الشرح لقوله: "فلا تكونن ظهيرا للكافرين" و فائدته تأكيد النهي بعد موارده واحدا بعد واحد فنهاه أولا عن الانصراف عن القرآن النازل عليه برميهم كتاب الله بأنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين اكتتبها، و أمره ثانيا أن يدعو إلى ربه، و نهاه ثالثا أن يكون من المشركين و فسره بأن يدعو مع الله إلها آخر.

و قد كرر صفة الرب مضافا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) للدلالة على اختصاصه بالرحمة و النعمة و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) متفرد في عبادته لا يشاركه المشركون فيها.

قوله تعالى: "و لا تدع مع الله إلها آخر" قد تقدم أنه كالتفسير لقوله: "و لا تكونن من المشركين".

قوله تعالى: "لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون" كلمة الإخلاص في مقام التعليل لقوله قبله: "و لا تدع مع الله إلها آخر" أي لأنه لا إله غيره و ما بعدها في مقام التعليل بالنسبة إليها كما سيتضح.

و قوله: "كل شيء هالك إلا وجهه" الشيء مساو للموجود و يطلق على كل أمر موجود حتى عليه تعالى كما يدل عليه قوله: "قل أي شيء أكبر شهادة قل الله": الأنعام: 19، و الهلاك البطلان و الانعدام.

و الوجه و الجهة واحد كالوعد و العدة، و وجه الشيء في العرف العام ما يستقبل به غيره و يرتبط به إليه كما أن وجه الجسم السطح الظاهر منه و وجه الإنسان النصف المقدم من رأسه و وجهه تعالى ما يستقبل به غيره من خلقه و يتوجه إليه خلقه به و هو صفاته الكريمة من حياة و علم و قدرة و سمع و بصر و ما ينتهي إليها من صفات الفعل كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و المغفرة و الرحمة و كذا آياته الدالة عليه بما هي آياته.

فكل شيء هالك في نفسه باطل في ذاته لا حقيقة له إلا ما كان عنده مما أفاضه الله عليه و أما ما لا ينسب إليه تعالى فليس إلا ما اختلقه وهم المتوهم أو سرابا صوره الخيال و ذلك كالأصنام ليس لها من الحقيقة إلا أنها حجارة أو خشبة أو شيء من الفلزات و أما أنها أرباب أو آلهة أو نافعة أو ضارة أو غير ذلك فليست إلا أسماء سماها عبدتهم و كالإنسان ليس له من الحقيقة إلا ما أودعه فيه الخلقة من الروح و الجسم و ما اكتسبه من صفات الكمال و الجميع منسوبة إلى الله سبحانه و أما ما يضيفه إليه العقل الاجتماعي من قوة و سلطة و رئاسة و وجاهة و ثروة و عزة و أولاد و أعضاد فليس إلا سرابا هالكا و أمنية كاذبة و على هذا السبيل سائر الموجودات.

فليس عندها من الحقيقة إلا ما أفاض الله عليها بفضله و هي آياته الدالة على صفاته الكريمة من رحمة و رزق و فضل و إحسان و غير ذلك.

فالحقيقة الثابتة في الواقع التي ليست هالكة باطلة من الأشياء هي صفاته الكريمة و آياته الدالة عليها و الجميع ثابتة بثبوت الذات المقدسة.

هذا على تقدير كون المراد بالهالك في الآية الهالك بالفعل و على هذا يكون محصل تعليل كلمة الإخلاص بقوله: "كل شيء هالك إلا وجهه" أن الإله و هو المعبود بالحق إنما يكون إلها معبودا إذا كان أمرا ذا حقيقة واقعية غير هالك و لا باطل له تدبير في العالم بهذا النعت و كل شيء غيره تعالى هالك باطل في نفسه إلا ما كان وجها له منتسبا إليه فليس في الوجود إله غيره سبحانه.

و الوثنيون و إن كانوا يرون وجود آلهتهم منسوبا إليه تعالى و من جهته إلا أنهم يجعلونها مستقلة في التدبير مقطوعة النسبة في ذلك عنه من دون أن يكون حكمها حكمه، و لذلك يعبدونها من دون الله، و لا استقلال لشيء في شيء عنه تعالى فلا يستحق العبادة إلا هو.

و هاهنا وجه آخر أدق منه بناء على أن المراد بالوجه ذات الشيء فقد ذكر بعضهم ذلك من معاني الوجه كما يقال: وجه النهار و وجه الطريق لنفسهما و إن أمكنت المناقشة فيه، و ذكر بعض آخر: أن المراد به الذات الشريفة كما يقال: وجوه الناس أي أشرافهم و هو من المجاز المرسل أو الاستعارة و على كلا التقديرين فالمراد أن غيره تعالى من الموجودات ممكنة و الممكن و إن كان موجودا بإيجاده تعالى فهو معدوم بالنظر إلى حد ذاته هالك في نفسه و الذي لا سبيل للبطلان و الهلاك إليه هو ذاته الواجبة بذاتها.

و محصل التعليل على هذا المعنى: أن الإله المعبود بالحق يجب أن يكون ذاتا بيده شيء من تدبير العالم، و التدبير الكوني لا ينفك عن الخلق و الإيجاد فلا معنى لأن يوجد الحوادث شيء و يدبر أمرها شيء آخر - و قد أوضحناه مرارا في هذا الكتاب - و لا يكون الخالق الموجد إلا واجب الوجود و لا واجب إلا هو تعالى فلا إله إلا هو.

و قولهم: إنه تعالى أجل من أن يحيط به عقل أو وهم فلا يمكن التوجه العبادي إليه فلا بد أن يتوجه بالعبادة إلى بعض مقربي حضرته من الملائكة الكرام و غيرهم ليكونوا شفعاء عنده.

مدفوع بمنع توقف التوجه بالعبادة على العلم الإحاطي بل يكفي فيه المعرفة بوجه و هو حاصل بالضرورة.

و أما على تقدير كون المراد بالهالك ما يستقبله الهلاك و الفناء بناء على ما قيل: إن اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال فظاهر الآية أن كل شيء سيستقبله الهلاك بعد وجوده إلا وجهه.

نعم استقبال الهلاك يختلف باختلاف الأشياء فاستقباله في الزمانيات انتهاء أمد وجودها و بطلانها بعده و في غيرها كون وجودها محاطا بالفناء من كل جانب.

و هلاك الأشياء على هذا بطلان وجودها الابتدائي و خلو النشأة الأولى عنها بانتقالها إلى النشأة الأخرى و رجوعها إلى الله و استقرارها عنده، و أما البطلان المطلق بعد الوجود فصريح كتاب الله ينفيه فالآيات متتابعة في أن كل شيء مرجعه إلى الله و أنه المنتهى و إليه الرجعى و هو الذي يبدىء الخلق ثم يعيده.

فمحصل معنى الآية - لو أريد بالوجه صفاته الكريمة - أن كل شيء سيخلي مكانه و يرجع إليه إلا صفاته الكريمة التي هي مبادىء فيضه فهي تفيض ثم تفيض إلى ما لا نهاية له و الإله يجب أن يكون كذلك لا بطلان لذاته و لا انقطاع لصفاته الفياضة و ليس شيء غيره تعالى بهذه الصفة فلا إله إلا هو.

و لو أريد بوجهه الذات المقدسة فالمحصل أن كل شيء سيستقبله الهلاك و الفناء بالرجوع إلى الله سبحانه إلا ذاته الحقة الثابتة التي لا سبيل للبطلان إليها - و الصفات على هذا محسوبة من صقع الذات - و الإله يجب أن يكون بحيث لا يتطرق الفناء إليه و ليس شيء غيره بهذه الصفة فلا إله إلا هو.



و بما تقدم من التقرير يندفع الاعتراض على عموم الآية بمثل الجنة و النار و العرش فإن الجنة و النار لا تنعدمان بعد الوجود و تبقيان إلى غير النهاية، و العرش أيضا كذلك بناء على ما ورد في بعض الروايات أن سقف الجنة هو العرش.

وجه الاندفاع أن المراد بالهلاك هو تبدل نشأة الوجود و الرجوع إلى الله المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة و التلبس بالعود بعد البدء، و هذا إنما يكون فيما هو موجود بوجود بدئي دنيوي، و أما الدار الآخرة و ما هو موجود بوجود أخروي كالجنة و النار فلا يتصف شيء من هذا القبيل بالهلاك بهذا المعنى.

قال تعالى: "ما عندكم ينفد و ما عند الله باق": النحل: 96، و قال: "و ما عند الله خير للأبرار": آل عمران: 198، و قال: "سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله و عذاب شديد": الأنعام: 124، و نظيرتهما خزائن الرحمة كما قال: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه": الحجر: 21، و كذا اللوح المحفوظ كما قال: "و عندنا كتاب حفيظ": ق: 4.

و أما ما ذكروه من العرش فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: "إن ربكم الله" الآية،: الأعراف: 54.

و يمكن أن يراد بالوجه جهته تعالى التي تنسب إليه و هي الناحية التي يقصد منها و يتوجه إليه بها، و تؤيده كثرة استعمال الوجه في كلامه تعالى بهذا المعنى كقوله: "يريدون وجهه": الأنعام: 52، و قوله: "إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى": الليل: 20، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.

و عليه فتكون عبارة عن كل ما ينسب إليه وحده فإن كان الكلام على ظاهر عمومه انطبق على الوجه الأول الذي أوردناه و يكون من مصاديقه أسماؤه و صفاته و أنبياؤه و خلفاؤه و دينه الذي يؤتى منه.

و إن خص الوجه بالدين فحسب - كما وقع في بعض الروايات إن لم يكن من باب التطبيق - كان المراد بالهلاك الفساد و عدم الأثر، و كانت الجملة تعليلا لقوله: "و لا تدع مع الله إلها آخر" و كان ما قبلها قرينة على أن المراد بالشيء الدين و الأعمال المتعلقة به و كان محصل المعنى: و لا تتدين بغير دين التوحيد لأن كل دين باطل لا أثر له إلا دينه.

و الأنسب على هذا أن يكون الحكم في ذيل الآية بمعنى الحكم التشريعي أو الأعم منه و من التكويني و المعنى: كل دين هالك إلا دينه لأن تشريع الدين إليه و إليه ترجعون لا إلى مشرعي الأديان الأخر.

هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و للمفسرين فيها أقوال أخر مختلفة.

فقيل: المراد بالوجه ذاته تعالى المقدسة و بالهلاك الانعدام، و المعنى: كل شيء في نفسه عرضة للعدم لكون وجوده عن غيره إلا ذاته الواجبة الوجود، و الكلام على هذا مبني على التشبيه أي كل شيء غيره كالهالك لاستناد وجوده إلى غيره.

و قيل: الوجه بمعنى الذات و المراد به ذات الشيء و الضمير لله باعتبار أن وجه الشيء مملوك له، و المعنى: كل شيء هالك إلا وجه الله الذي هو ذات ذلك الشيء و وجوده.

و قيل: المراد بالوجه الجهة المقصودة و الضمير لله، و المعنى: كل شيء هالك بجميع ما يتعلق به إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى و هو الوجود الذي أفاضه الله تعالى عليه.

و قيل: الوجهة هو الجهة المقصودة و المراد به الله سبحانه الذي يتوجه إليه كل شيء و الضمير للشيء، و المعنى: كل شيء هالك إلا الله الذي هو الجهة المطلوبة له.

و قيل: المراد بالهلاك هلاك الموت و العموم مخصوص بذوي الحياة و المعنى: كل ذي حياة فإنه سيموت إلا وجهه.

و قيل: المراد بالوجه العمل الصالح و المعنى أن العمل كان في حيز العدم، فلما فعله العبد ممتثلا لأمره تعالى أبقاه الله من غير إحباط حتى يثيبه أو أنه بالقبول صار غير قابل للهلاك لأن الجزاء قائم مقامه و هو باق.

و قيل: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي أثبته في الناس.

و قيل: الهلاك عام لجميع ما سواه تعالى دائما لكون الوجود المفاض عليها متجددا في كل آن فهي متغيرة هالكة دائما في الدنيا و الآخرة و المعنى كل شيء متغير الذات دائما إلا وجهه.

و هذه الوجوه بين ما لا ينطبق على سياق الآية و بين ما لا ينجح به حجتها و بين ما هو بعيد عن الفهم، و بالتأمل فيما قدمناه يظهر ما في كل منها فلا نطيل.

و قوله: "له الحكم و إليه ترجعون" الحكم هو قضاؤه النافذ في الأشياء و عليه يدور التدبير في نظام الكون، و أما كونه بمعنى فصل القضاء يوم القيامة فيبعده تقديم الحكم في الذكر على الرجوع إليه الذي هو يوم القيامة فإن فصل القضاء متفرع عليه.

و كلتا الجملتين مسوقتان للتعليل و كل واحدة منهما وحدها حجة تامة على توحده.

تعالى بالألوهية صالحة للتعليل كلمة الإخلاص، و قد تقدم إمكان أخذ الحكم على بعض الوجوه بمعنى الحكم التشريعي.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و البخاري و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس: في قوله تعالى: "لرادك إلى معاد" قال: إلى مكة. زاد ابن مردويه كما أخرجك منها.

أقول: و روي عنه و عن أبي سعيد الخدري: أن المراد به الموت، و أيضا عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن المراد به الجنة و انطباقهما على الآية لا يخلو من خفاء.

و روى القمي في تفسيره، عن حريز عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين (عليهما السلام): أن المراد به الرجعة و لعله من البطن دون التفسير.

و في الإحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل: و أما قوله "كل شيء هالك إلا وجهه" فالمراد كل شيء هالك إلا دينه، لأن من المحال أن يهلك منه كل شيء و يبقى الوجه. هو أجل و أعظم من ذلك و إنما يهلك من ليس منه أ لا ترى أنه قال: "كل من عليها فان و يبقى وجه ربك" ففصل بين خلقه و وجهه؟.

و في الكافي، بإسناده عن سيف عمن ذكره عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك و تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه" فقال: ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون: يهلك كل شيء إلا وجه الله فقال: سبحان الله لقد قالوا عظيما إنما عنى به وجه الله الذي يؤتى منه.

أقول: و روى مثله في التوحيد، بإسناده عن الحارث بن المغيرة النصري عنه (عليه السلام) و لفظه: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "كل شيء هالك إلا وجهه" قال: كل شيء هالك إلا من أخذ طريق الحق.

و في محاسن البرقي،: مثله إلا أن آخره "من أخذ الطريق الذي أنتم عليه".

و التشويش الذي يتراءى في الروايات تطرق إليها من جهة النقل بالمعنى، فإن كان المراد بالوجه الذي يؤتى منه مطلق ما ينسب إليه و كان من صقعه تعالى و من جانبه كان منطبقا على المعنى الأول الذي قدمناه في معنى الآية.

و إن كان الوجه بمعنى الدين الذي يتوجه إليه تعالى بقصده كان المراد بالهلاك البطلان و عدم التأثير و كان المعنى: لا إله إلا هو كل دين باطل إلا دينه الحق الذي يؤتى منه فإنه سينفع و يثاب عليه، و قد تقدمت الإشارة إلى الوجهين في تفسير الآية.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "فلا تكونن ظهيرا للكافرين" قال: المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى للناس، و قوله: "و لا تدع مع الله إلها آخر" المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى للناس، و هو قول الصادق (عليه السلام) إن الله بعث نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): بإياك أعني، و اسمعي يا جارة.

<<        الفهرس        >>