جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج16 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


33 سورة الأحزاب - 28 - 35

يَأَيهَا النّبىّ قُل لأَزْوَجِك إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدّنْيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَينَ أُمَتِّعْكُنّ وَ أُسرِّحْكُنّ سرَاحاً جَمِيلاً (28) وَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَ رَسولَهُ وَ الدّارَ الاَخِرَةَ فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْمُحْسِنَتِ مِنكُنّ أَجْراً عَظِيماً (29) يَنِساءَ النّبىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنّ بِفَحِشةٍ مّبَيِّنَةٍ يُضعَف لَهَا الْعَذَاب ضِعْفَينِ وَ كانَ ذَلِك عَلى اللّهِ يَسِيراً (30) وَ مَن يَقْنُت مِنكُنّ للّهِ وَ رَسولِهِ وَ تَعْمَلْ صلِحاً نّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرّتَينِ وَ أَعْتَدْنَا لهََا رِزْقاً كرِيماً (31) يَنِساءَ النّبىِّ لَستنّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّساءِ إِنِ اتّقَيْتنّ فَلا تخْضعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطمَعَ الّذِى فى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مّعْرُوفاً (32) وَ قَرْنَ فى بُيُوتِكُنّ وَ لا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الْجَهِلِيّةِ الأُولى وَ أَقِمْنَ الصلَوةَ وَ ءَاتِينَ الزّكوةَ وَ أَطِعْنَ اللّهَ وَ رَسولَهُ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِب عَنكمُ الرِّجْس أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطهِّرَكمْ تَطهِيراً (33) وَ اذْكرْنَ مَا يُتْلى فى بُيُوتِكنّ مِنْ ءَايَتِ اللّهِ وَ الحِْكمَةِ إِنّ اللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنّ الْمُسلِمِينَ وَ الْمُسلِمَتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَتِ وَ الْقَنِتِينَ وَ الْقَنِتَتِ وَ الصدِقِينَ وَ الصدِقَتِ وَ الصبرِينَ وَ الصبرَتِ وَ الْخَشِعِينَ وَ الْخَشِعَتِ وَ الْمُتَصدِّقِينَ وَ الْمُتَصدِّقَتِ وَ الصئمِينَ وَ الصئمَتِ وَ الحَْفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحَفِظتِ وَ الذّكرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَ الذّكرَتِ أَعَدّ اللّهُ لهَُم مّغْفِرَةً وَ أَجْراً عظِيماً (35)

بيان

آيات راجعة إلى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تأمره أولا: أن ينبئهن أن ليس لهن من الدنيا و زينتها إلا العفاف و الكفاف إن اخترن زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم تخاطبهن ثانيا: أنهن واقفات في موقف صعب على ما فيه من العلو و الشرف فإن اتقين الله يؤتين أجرهن مرتين و إن أتين بفاحشة مبينة يضاعف لهن العذاب ضعفين و يأمرهن بالعفة و لزوم بيوتهن من غير تبرج و الصلاة و الزكاة و ذكر ما يتلى في بيوتهن من الآيات و الحكمة ثم يعد مطلق الصالحين من الرجال و النساء وعدا بالمغفرة و الأجر العظيم.

قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك" إلى تمام الآيتين، سياق الآيتين يلوح أن أزواج النبي أو بعضهن كانت لا ترتضي ما في عيشتهن في بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الضيق و الضنك فاشتكت إليه ذلك و اقترحت عليه أن يسعدهن في الحياة بالتوسعة فيها و إيتائهن من زينتها.

فأمر الله سبحانه نبيه أن يخيرهن بين أن يفارقنه و لهن ما يردن و بين أن يبقين عنده و لهن ما هن عليه من الوضع الموجود.

و قد ردد أمرهن بين أن يردن الحياة الدنيا و زينتها و بين أن يردن الله و رسوله و الدار الآخرة، و هذا الترديد يدل أولا: أن الجمع بين سعة العيش و صفائها بالتمتع من الحياة و زينتها و زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و العيشة في بيته مما لا يجتمعان.

و ثانيا: أن كلا من طرفي الترديد مقيد بما يقابل الآخر، و المراد بإرادة الحياة الدنيا و زينتها جعلها هي الأصل سواء أريدت الآخرة أو لم يرد، و المراد بإرادة الحياة الآخرة جعلها - هي الأصل في تعلق القلب بها سواء توسعت معها الحياة الدنيا و نيلت الزينة و صفاء العيش أو لم يكن شيء من ذلك.

ثم الجزاء أعني نتيجة اختيارهن كلا من طرفي الترديد مختلف فلهن على تقدير اختيارهن الحياة الدنيا و زينتها بمفارقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطلقهن و يمتعهن جمعاء من مال الدنيا، و على تقدير بقائهن على زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اختيار الآخرة على الحياة الدنيا و زينتها الأجر العظيم عند الله لكن لا مطلقا بل بشرط الإحسان و العمل الصالح.

و يتبين بذلك أن ليس لزوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث هي زوجية كرامة عند الله سبحانه و إنما الكرامة لزوجيته المقارنة للإحسان و التقوى و لذلك لما ذكر ثانيا علو منزلتهن قيده أيضا بالتقوى فقال: "لستن كأحد من النساء إن اتقيتن" و هذا كقوله في النبي و أصحابه: "محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما" حيث مدحهم عامة بظاهر أعمالهم أولا ثم قيد وعدهم الأجر العظيم بالإيمان و العمل الصالح.

و بالجملة فإطلاق قوله: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم": الحجرات: 10 على حاله غير منتقض بكرامة أخرى بسبب أو نسب أو غير ذلك.



فقوله: "يا أيها النبي قل لأزواجك" أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغ الآيتين أزواجه و لازمه أن يطلقهن و يمتعهن إن اخترن الشق الأول و يبقيهن على زوجيته إن اخترن الله و رسوله و الدار الآخرة.

و قوله: "إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها" إرادة الحياة الدنيا و زينتها كناية بقرينة المقابلة عن اختيارها و تعلق القلب بتمتعاتها و الإقبال عليها و الإعراض عن الآخرة.

و قوله: "فتعالين أمتعكن و أسرحكن سراحا جميلا" قال في الكشاف:، أصل تعال أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطأ ثم كثرت حتى استوت في استعماله الأمكنة، و معنى تعالين أقبلن بإرادتكن و اختياركن لأحد أمرين و لم يرد نهوضهن بأنفسهن كما تقول: أقبل يخاصمني و ذهب يكلمني و قام يهددني.

انتهي.

و التمتيع إعطاؤهن عند التطليق مالا يتمتعن به و التسريح هو التطليق و السراح الجميل هو الطلاق من غير خصومة و مشاجرة بين الزوجين.

و في الآية أبحاث فقهية أوردها المفسرون و الحق أن ما تتضمنه من الأحكام الشخصية خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا دليل من جهة لفظها على شموله لغيره و تفصيل القول في الفقه.

و قوله: "و إن كنتن تردن الله و رسوله و الدار الآخرة" فقد تقدم أن المقابلة بين هذه الجملة و بين قوله: "إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها" إلخ، تقيد كلا منهما بخلاف الأخرى و عدمها، فمعنى الجملة: و إن كنتن تردن و تخترن طاعة الله و رسوله و سعادة الدار الآخرة مع الصبر على ضيق العيش و الحرمان من زينة الحياة الدنيا و هي مع ذلك كناية عن البقاء في زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصبر على ضيق العيش و إلا لم يصح اشتراك الإحسان في الأجر الموعود و هو ظاهر.

فالمعنى: و إن كنتن تردن و تخترن البقاء على زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصبر على ضيق العيش فإن.

الله هيأ لكن أجرا عظيما بشرط أن تكن محسنات في أعمالكن مضافا إلى إرادتكن الله و رسوله و الدار الآخرة فإن لم تكن محسنات لم يكن لكن إلا خسران الدنيا و الآخرة جميعا.

قوله تعالى: "يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين" إلخ، عدل عن مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهن إلى مخاطبتهن أنفسهن لتسجيل ما لهن من التكليف و زيادة التوكيد، و الآية و التي بعدها تقرير و توضيح بنحو لما يستفاد من قوله: "فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما" إثباتا و نفيا.

فقوله: "من يأت منكن بفاحشة مبينة" الفاحشة الفعلة البالغة في الشناعة و القبح و هي الكبيرة كإيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الافتراء و الغيبة و غير ذلك، و المبينة هي الظاهرة.

و و قوله: "يضاعف لها العذاب ضعفين" أي حال كونه ضعفين و الضعفان المثلان و يؤيد هذا المعنى قوله في جانب الثواب بعد: "نؤتها أجرها مرتين" فلا يعبأ بما قيل إن المراد بمضاعفة العذاب ضعفين تعذيبهم بثلاثة أمثاله بتقريب أن مضاعفة العذاب زيادته و إذا زيد على العذاب ضعفاه صار المجموع ثلاثة أمثاله.



و ختم الآية بقوله: "و كان ذلك على الله يسيرا" للإشارة إلى أنه لا مانع من ذلك من كرامة الزوجية و نحوها إذ لا كرامة إلا للتقوى و زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما تؤثر الأثر الجميل إذا قارن التقوى و أما مع المعصية فلا تزيد إلا بعدا و وبالا.

قوله تعالى: "و من يقنت منكن لله و رسوله و تعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين" إلخ، القنوت الخضوع، و قيل: الطاعة و قيل: لزوم الطاعة مع الخضوع، و الإعتاد التهيئة، و الرزق الكريم مصداقه الجنة.

و المعنى: و من يخضع منكن لله و رسوله أو لزم طاعة الله و رسوله مع الخضوع و يعمل عملا صالحا نعطها أجرها مرتين أي ضعفين و هيأنا لها رزقا كريما و هي الجنة.

و الالتفات من الغيبة إلى التكلم بالغير في قوله: "نؤتها" و "أعتدنا" للإيذان بالقرب و الكرامة، خلاف البعد و الخزي المفهوم من قوله: "يضاعف لها العذاب ضعفين".

قوله تعالى: "يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض" إلخ، الآية تنفي مساواتهن لسائر النساء إن اتقين و ترفع منزلتهن على غيرهن ثم تذكر أشياء من النهي و الأمر متفرعة على كونهن لسن كسائر النساء كما يدل عليه قوله: فلا تخضعن بالقول و قرن و لا تبرجن إلخ، و هي خصال مشتركة بين نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سائر النساء.

فتصدير الكلام بقوله: "لستن كأحد من النساء إن اتقيتن" ثم تفريع هذه التكاليف المشتركة عليه، يفيد تأكد هذه التكاليف عليهن كأنه قيل: لستن كغيركن فيجب عليكن أن تبالغن في امتثال هذه التكاليف و تحتطن في دين الله أكثر من سائر النساء.

و تؤيد بل تدل على تأكد تكاليفهن مضاعفة جزائهن خيرا و شرا كما دلت عليها الآية السابقة فإن مضاعفة الجزاء لا تنفك عن تأكد التكليف.

و قوله: "فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض" بعد ما بين علو منزلتهن و رفعة قدرهن لمكانهن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و شرط في ذلك التقوى فبين أن فضيلتهن بالتقوى لا بالاتصال بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهاهن عن الخضوع في القول و هو ترقيق الكلام و تليينه مع الرجال بحيث يدعو إلى الريبة و تثير الشهوة فيطمع الذي في قلبه مرض و هو فقدان قوة الإيمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء.

و قوله: "و قلن قولا معروفا" أي كلاما معمولا مستقيما يعرفه الشرع و العرف الإسلامي و هو القول الذي لا يشير بلحنه إلى أزيد من مدلوله معرى عن الإيماء إلى فساد و ريبة.

قوله تعالى: "و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى - إلى قوله - و أطعن الله و رسوله" "قرن" من قر يقر إذا ثبت و أصله اقررن حذفت إحدى الرائين أو من قار يقار إذا اجتمع كناية عن ثباتهن في بيوتهن و لزومهن لها، و التبرج الظهور للناس كظهور البروج لناظريها.

و الجاهلية الأولى الجاهلية قبل البعثة فالمراد الجاهلية القديمة، و قول بعضهم: إن المراد به زمان ما بين آدم و نوح (عليهما السلام) ثمان مائة سنة، و قول آخرين إنها ما بين إدريس و نوح، و قول آخرين زمان داود و سليمان و قول آخرين إنه زمان ولادة إبراهيم، و قول آخرين إنه زمان الفترة بين عيسى (عليه السلام) و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أقوال لا دليل يدل عليها.



و قوله: "و أقمن الصلاة و آتين الزكاة و أطعن الله و رسوله" أمر بامتثال الأوامر الدينية و قد أفرد الصلاة و الزكاة بالذكر من بينها لكونهما ركنين في العبادات و المعاملات ثم جمع الجميع في قوله: "و أطعن الله و رسوله".

و طاعة الله هي امتثال تكاليفه الشرعية و طاعة رسوله فيما يأمر به و ينهى بالولاية المجعولة له من عند الله كما قال: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم".

قوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا" كلمة "إنما" تدل على حصر الإرادة في إذهاب الرجس و التطهير و كلمة أهل البيت سواء كان لمجرد الاختصاص أو مدحا أو نداء يدل على اختصاص إذهاب الرجس و التطهير بالمخاطبين بقوله: "عنكم"، ففي الآية في الحقيقة قصران قصر الإرادة في إذهاب الرجس و التطهير و قصر إذهاب الرجس و التطهير في أهل البيت.

و ليس المراد بأهل البيت نساء النبي خاصة لمكان الخطاب الذي في قوله: "عنكم" و لم يقل: عنكن فأما أن يكون الخطاب لهن و لغيرهن كما قيل: إن المراد بأهل البيت أهل البيت الحرام و هم المتقون لقوله تعالى: "إن أولياؤه إلا المتقون" أو أهل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم الذين يصدق عليهم عرفا أهل بيته من أزواجه و أقربائه و هم آل عباس و آل عقيل و آل جعفر و آل علي أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أزواجه، و لعل هذا هو المراد مما نسب إلى عكرمة و عروة أنها في أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة.

أو يكون الخطاب لغيرهن كما قيل: إنهم أقرباء النبي من آل عباس و آل عقيل و آل جعفر و آل علي.

و على أي حال فالمراد بإذهاب الرجس و التطهير مجرد التقوى الديني بالاجتناب عن النواهي و امتثال الأوامر فيكون المعنى أن الله لا ينتفع بتوجيه هذه التكاليف إليكم و إنما يريد إذهاب الرجس عنكم و تطهيركم على حد قوله: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و لكن يريد ليطهركم و يتم نعمته عليكم": المائدة: 6، و هذا المعنى لا يلائم شيئا من معاني أهل البيت السابقة لمنافاته البينة للاختصاص المفهوم من أهل البيت لعمومه لعامة المسلمين المكلفين بأحكام الدين.

و إن كان المراد بإذهاب الرجس و التطهير التقوى الشديد البالغ و يكون المعنى: أن هذا التشديد في التكاليف المتوجهة إليكن أزواج النبي و تضعيف الثواب و العقاب ليس لينتفع الله سبحانه به بل ليذهب عنكم الرجس و يطهركم و يكون من تعميم الخطاب لهن و لغيرهن بعد تخصيصه بهن، فهذا المعنى لا يلائم كون الخطاب خاصا بغيرهن و هو ظاهر و لا عموم الخطاب لهن و لغيرهن فإن الغير لا يشاركهن في تشديد التكليف و تضعيف الثواب و العقاب.

لا يقال: لم لا يجوز أن يكون الخطاب على هذا التقدير متوجها إليهن مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تكليفه شديد كتكليفهن.



لأنه يقال: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤيد بعصمة من الله و هي موهبة إلهية غير مكتسبة بالعمل فلا معنى لجعل تشديد التكليف و تضعيف الجزاء بالنسبة إليه مقدمة أو سببا لحصول التقوى الشديد له امتنانا عليه على ما يعطيه سياق الآية و لذلك لم يصرح بكون الخطاب متوجها إليهن مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط أحد من المفسرين و إنما احتملناه لتصحيح قول من قال: إن الآية خاصة بأزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و إن كان المراد إذهاب الرجس و التطهير بإرادته تعالى ذلك مطلقا لا بتوجيه مطلق التكليف و لا بتوجيه التكليف الشديد بل إرادة مطلقة لإذهاب الرجس و التطهير لأهل البيت خاصة بما هم أهل البيت كان هذا المعنى منافيا لتقييد كرامتهن بالتقوى سواء كان المراد بالإرادة الإرادة التشريعية أو التكوينية.

و بهذا الذي تقدم يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الآية نزلت في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي و فاطمة و الحسنين (عليهم السلام) خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم.

و هي روايات جمة تزيد على سبعين حديثا يربو ما ورد منها من طرق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة فقد روتها أهل السنة بطرق كثيرة عن أم سلمة و عائشة و أبي سعيد الخدري و سعد و وائلة بن الأسقع و أبي الحمراء و ابن عباس و ثوبان مولى النبي و عبد الله بن جعفر و علي و الحسن بن علي (عليهما السلام) في قريب من أربعين طريقا.

و روتها الشيعة عن علي و السجاد و الباقر و الصادق و الرضا (عليهما السلام) و أم سلمة و أبي ذر و أبي ليلى و أبي الأسود الدؤلي و عمرو بن ميمون الأودي و سعد بن أبي وقاص في بضع و ثلاثين طريقا.

فإن قيل: إن الروايات إنما تدل على شمول الآية لعلي و فاطمة و الحسنين (عليهم السلام) و لا ينافي ذلك شمولها لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يفيده وقوع الآية في سياق خطابهن.

قلنا: إن كثيرا من هذه الروايات و خاصة ما رويت عن أم سلمة - و في بيتها نزلت الآية - تصرح باختصاصها بهم و عدم شمولها لأزواج النبي و سيجيء الروايات و فيها الصحاح.

فإن قيل: هذا مدفوع بنص الكتاب على شمولها لهن كوقوع الآية في سياق خطابهن.

قلنا: إنما الشأن كل الشأن في اتصال الآية بما قبلها من الآيات فهذه الأحاديث على كثرتها البالغة ناصة في نزول الآية وحدها، و لم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه الآية في ضمن آيات نساء النبي و لا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي كما ينسب إلى عكرمة و عروة، فالآية لم تكن بحسب النزول جزءا من آيات نساء النبي و لا متصلة بها و إنما وضعت بينها إما بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عند التأليف بعد الرحلة، و يؤيده أن آية "و قرن في بيوتكن" على انسجامها و اتصالها لو قدر ارتفاع آية التطهير من بين جملها، فموقع آية التطهير من آية "و قرن في بيوتكن" كموقع آية "اليوم يئس الذين كفروا" من آية محرمات الأكل من سورة المائدة، و قد تقدم الكلام في ذلك في الجزء الخامس من الكتاب.

و بالبناء على ما تقدم تصير لفظة أهل البيت اسما خاصا - في عرف القرآن - بهؤلاء الخمسة و هم النبي و علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) لا يطلق على غيرهم، و لو كان من أقربائه الأقربين و إن صح بحسب العرف العام إطلاقه عليهم.



و الرجس - بالكسر فالسكون - صفة من الرجاسة و هي القذارة، و القذارة هيئة في الشيء توجب التجنب و التنفر منها، و تكون بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير، قال تعالى: "أو لحم الخنزير فإنه رجس": الأنعام: 154، و بحسب باطنه - و هو الرجاسة و القذارة المعنوية - كالشرك و الكفر و أثر العمل السيىء، قال تعالى: "و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم و ماتوا و هم كافرون": التوبة: 152، و قال: "و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون": الأنعام: 152.

و أيا ما كان فهو إدراك نفساني و أثر شعوري من تعلق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيىء و إذهاب الرجس - و اللام فيه للجنس - إزالة كل هيئة خبيثة في النفس تخطىء حق الاعتقاد و العمل فتنطبق على العصمة الإلهية التي هي صورة علمية نفسانية تحفظ الإنسان من باطل الاعتقاد و سيىء العمل.

على أنك عرفت أن إرادة التقوى أو التشديد في التكاليف لا تلائم اختصاص الخطاب في الآية بأهل البيت، و عرفت أيضا أن إرادة ذلك لا تناسب مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من العصمة.

فمن المتعين حمل إذهاب الرجس في الآية على العصمة و يكون المراد بالتطهير في قوله: "و يطهركم تطهيرا" - و قد أكد بالمصدر - إزالة أثر الرجس بإيراد ما يقابله بعد إذهاب أصله، و من المعلوم أن ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحق فتطهيرهم هو تجهيزهم بإدراك الحق في الاعتقاد و العمل، و يكون المراد بالإرادة أيضا غير الإرادة التشريعية لما عرفت أن الإرادة التشريعية التي هي توجيه التكاليف إلى المكلف لا تلائم المقام أصلا.

و المعنى: أن الله سبحانه تستمر إرادته أن يخصكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل و أثر العمل السيىء عنكم أهل البيت و إيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم و هي العصمة.

قوله تعالى: "و اذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا" ظاهر السياق أن المراد بالذكر ما يقابل النسيان إذ هو المناسب لسياق التأكيد و التشديد الذي في الآيات فيكون بمنزلة الوصية بعد الوصية بامتثال ما وجه إليهن من التكاليف، و في قوله في بيوتكن تأكيد آخر.

و المعنى: و احفظن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة و ليكن منكن في بال حتى لا تغفلن و لا تتخطين مما خط لكم من المسير.

و أما قول بعضهم: إن المراد و اشكرن الله إذ صيركن في بيوت يتلى فيهن القرآن و السنة فبعيد من السياق و خاصة بالنظر إلى قوله في ذيل الآية: "إن الله كان لطيفا خبيرا".

قوله تعالى: "إن المسلمين و المسلمات و المؤمنين و المؤمنات" إلخ، الإسلام لا يفرق بين الرجال و النساء في التلبس بكرامة الدين و قد أشار سبحانه إلى ذلك إجمالا في مثل قوله: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم": الحجرات: 13، ثم صرح به في مثل قوله: "إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر و أنثى": آل عمران: 159، ثم صرح به تفصيلا في هذه الآية.

فقوله: "إن المسلمين و المسلمات و المؤمنين و المؤمنات" المقابلة بين الإسلام و الإيمان تفيد مغايرتهما نوعا من المغايرة و الذي يستفاد منه نحو مغايرتهما قوله تعالى: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبكم - إلى أن قال - إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله": الحجرات: 15، يفيد أولا أن الإسلام هو تسليم الدين بحسب العمل و ظاهر الجوارح و الإيمان أمر قلبي.



و ثانيا: أن الإيمان الذي هو أمر قلبي اعتقاد و إذعان باطني بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح.

فالإسلام هو التسليم العملي للدين بإتيان عامة التكاليف و المسلمون و المسلمات هم المسلمون لذلك و الإيمان هو عقد القلب على الدين، بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح و المؤمنون و المؤمنات هم الذين عقدوا قلوبهم على الدين بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح فكل مؤمن مسلم و لا عكس.

و قوله: "و القانتين و القانتات" القنوت على ما قيل لزوم الطاعة مع الخضوع و قوله: "و الصادقين و الصادقات" الصدق مطابقة ما يخبر به الإنسان أو يظهره، للواقع.

فهم صادقون في دعواهم صادقون في قولهم صادقون في وعدهم.

و قوله: "و الصابرين و الصابرات" فهم متلبسون بالصبر عند المصيبة و النائبة و بالصبر على الطاعة و بالصبر عن المعصية، و قوله: "و الخاشعين و الخاشعات" الخشوع تذلل باطني بالقلب كما أن الخضوع تذلل ظاهري بالجوارح.

و قوله: "و المتصدقين و المتصدقات" و الصدقة إنفاق المال في سبيل الله و منه الزكاة الواجبة، و قوله: "و الصائمين و الصائمات" بالصوم الواجب و المندوب، و قوله: "و الحافظين فروجهم و الحافظات" أي لفروجهن و ذلك بالتجنب عن غير ما أحل الله لهم، و قوله: "و الذاكرين الله كثيرا و الذاكرات" أي الله كثيرا حذف لظهوره و هم الذين يكثرون من ذكر الله بلسانهم و جنانهم و يشمل الصلاة و الحج.

و قوله: "أعد الله لهم مغفرة و أجرا عظيما" التنكير للتعظيم.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك" كان سبب نزولها أنه لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوة خيبر و أصاب كنز آل أبي الحقيق قلن أزواجه أعطنا ما أصبت فقال لهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسمته بين المسلمين على ما أمر الله عز و جل فغضبن من ذلك، و قلن: لعلك ترى أنك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا؟. فأنف الله عز و جل لرسوله فأمره أن يعزلهن فاعتزلهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مشربة أم إبراهيم تسعة و عشرين يوما حتى حضن و طهرن ثم أنزل الله عز و جل هذه الآية و هي آية التخيير فقال: "يا أيها النبي قل لأزواجك إلى قوله أجرا عظيما" فقامت أم سلمة أول من قامت فقالت: قد اخترت الله و رسوله فقمن كلهن فعانقنه و قلن مثل ذلك الحديث.

أقول: و روي ما يقرب من ذلك من طرق أهل السنة و فيها أن أول من اختارت الله و رسوله منهن عائشة.

و في الكافي، بإسناده عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن زينب بنت جحش قالت: يرى رسول الله إن خلى سبيلنا أن لا نجد زوجا غيره و قد كان اعتزل نساءه تسعة و عشرين ليلة فلما قالت زينب الذي قالت بعث الله جبرائيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "قل لأزواجك" الآيتين كلتيهما فقلن: بل نختار الله و رسوله و الدار الآخرة.



و فيه، بإسناده عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها بانت؟ قال: لا. إنما هذا شيء كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة أمر بذلك ففعل، و لو اخترن أنفسهن لطلقهن و هو قول الله عز و جل: "قل لأزواجك - إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها، فتعالين أمتعكن و أسرحكن سراحا جميلا".

و في المجمع، روى الواحدي بالإسناد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا مع حفصة فتشاجرا بينهما فقال لها: هل لك أن أجعل بيني و بينك رجلا؟ قالت: نعم. فأرسل إلى عمر فلما أن دخل عليهما قال لها: تكلمي، فقالت: يا رسول الله تكلم و لا تقل إلا حقا فرفع عمر يده فوجأ وجهها ثم رفع يده فوجأ وجهها. فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كف فقال عمر: يا عدوة الله النبي لا يقول إلا حقا و الذي بعثه بالحق، لو لا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فصعد إلى غرفة فمكث فيها شهرا لا يقرب شيئا من نسائه يتغدى و يتعشى فيها فأنزل الله تعالى هذه الآيات.

و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال: تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمس عشرة امرأة و دخل بثلاث عشر امرأة منهن، و قبض عن تسع فأما اللتان لم يدخل بهما فعمرة و سنا. و أما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن فأولهن خديجة بنت خويلد ثم سودة بنت زمعة ثم أم سلمة و اسمها هند بنت أبي أمية ثم أم عبد الله عائشة بنت أبي بكر ثم حفصة بنت عمر ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين، ثم زينب بنت جحش ثم أم حبيب رملة بنت أبي سفيان ثم ميمونة بنت الحارث ثم زينب بنت عميس ثم جويرية بنت الحارث ثم صفية بنت حيي بن أخطب و التي وهبت نفسها للنبي خولة بنت حكيم السلمي. و كان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه مارية القبطية و ريحانة الخندفية. و التسع اللاتي قبض عنهن عائشة و حفصة و أم سلمة و زينب بنت جحش و ميمونة بنت الحارث و أم حبيب بنت أبي سفيان و جويرية و سودة و صفية. و أفضلهن خديجة بنت خويلد ثم أم سلمة ثم ميمونة.

و في المجمع،: في قوله: "يا نساء النبي من يأت منكن" الآيتين: روى محمد بن أبي عمير عن إبراهيم بن عبد الحميد عن علي بن عبد الله بن الحسين عن أبيه عن علي بن الحسين (عليهما السلام): أنه قال رجل إنكم أهل بيت مغفور لكم. قال: فغضب و قال: نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النبي من أن نكون كما تقول إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر و لمسيئنا ضعفين من العذاب.

و في تفسير القمي، مسندا عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام): في هذه الآية "و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" قال: أي ستكون جاهلية أخرى.

أقول: و هو استفادة لطيفة.

و في الدر المنثور، أخرج الطبراني عن أم سلمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال لفاطمة: ائتيني بزوجك و ابنيه فجاءت بهم فألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إن هؤلاء أهل محمد و في لفظ آل محمد فاجعل صلواتك و بركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي و قال: إنك على خير: أقول: و رواه في غاية المرام، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه بإسناده عن أم سلمة.



و فيه، أخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا" و في البيت سبعة جبريل و ميكائيل و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و أنا على باب البيت. قلت: يا رسول الله أ لست من أهل البيت؟ قال: إنك على خير إنك من أزواج النبي.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أم سلمة زوج النبي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ادعي زوجك و ابنيك حسنا و حسينا فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا". فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بفضلة إزاره فغشاهم إياها ثم أخرج يده من الكساء و أومأ بها إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، قالها ثلاث مرات. قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله و أنا معكم؟ فقال: إنك إلى خير مرتين. أقول: و روى الحديث في غاية المرام، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل بثلاث طرق عن أم سلمة و كذا عن تفسير الثعلبي.

و فيه، أخرج ابن مردويه و الخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: كان يوم أم سلمة أم المؤمنين فنزل جبريل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الآية "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا" قال: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسن و حسين و فاطمة و علي فضمهم إليه و نشر عليهم الثوب، و الحجاب على أم سلمة مضروب، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: فأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك و إنك على خير.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نزلت هذه الآية في خمسة في و في علي و فاطمة و حسن و حسين "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا": أقول: و رواه أيضا في غاية المرام، عن الثعلبي في تفسيره.

و فيه، أخرج الترمذي و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" و في البيت فاطمة و علي و الحسن و الحسين فجللهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

و في غاية المرام، عن الحميدي قال: الرابع و الستون من المتفق عليه من الصحيحين عن البخاري و مسلم من مسند عائشة عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن عائشة قالت: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات غداة و عليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا: أقول: و الحديث مروي عنها بطرق مختلفة.



و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما دخل علي بفاطمة جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين صباحا إلى بابها يقول: السلام عليكم أهل البيت و رحمة الله و بركاته الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا أنا حرب لمن حاربتم أنا سلم لمن سالمتم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أهل البيت "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا" أقول: و رواه أيضا عن الطبراني عن أبي الحمراء و لفظه: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي باب علي و فاطمة ستة أشهر فيقول: "إنما يريد الله" الآية.

و أيضا عن ابن جرير و ابن مردويه عن أبي الحمراء و لفظه: حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى إلى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال: الصلاة الصلاة "إنما يريد الله ليذهب" الآية.

و رواه أيضا عن ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و حسنه و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أنس و لفظه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر و يقول: الصلاة يا أهل البيت الصلاة إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا.

أقول: و الروايات في هذه المعاني من طرق أهل السنة كثيرة و كذا من طرق الشيعة، و من أراد الاطلاع عليها فليراجع غاية المرام للبحراني و العبقات.

و في غاية المرام، عن الحمويني بإسناده عن يزيد بن حيان قال: دخلنا على زيد بن أرقم فقال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ألا إني تركت فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله عز و جل من اتبعه كان على هدى و من تركه كان على ضلالة، ثم أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاث مرات. قلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا أهل بيته عصبته الذين حرموا الصدقة بعده آل علي و آل عباس و آل جعفر و آل عقيل.

و فيه، أيضا عن مسلم في صحيحه بإسناده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى و من تركه كان على ضلالة، فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر ثم الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أهلها و قومها. أهل بيته أصله و عصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

أقول: فسر البيت بالنسب كما يطلق عرفا على هذا المعنى، يقال: بيوتات العرب بمعنى الأنساب، لكن الروايات السابقة عن أم سلمة و غيرها تدفع هذا المعنى و تفسير أهل البيت بعلي و فاطمة و ابنيهما (عليهم السلام).

و في المجمع، قال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا. فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة و خسار، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): و مم ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله تعالى هذه الآية "إن المسلمين و المسلمات" إلخ.

أقول: و في روايات أخر أن القائلة هي أم سلمة.

33 سورة الأحزاب - 36 - 40

وَ مَا كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضى اللّهُ وَ رَسولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لهَُمُ الخِْيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَن يَعْصِ اللّهَ وَ رَسولَهُ فَقَدْ ضلّ ضلَلاً مّبِيناً (36) وَ إِذْ تَقُولُ لِلّذِى أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْت عَلَيْهِ أَمْسِك عَلَيْك زَوْجَك وَ اتّقِ اللّهَ وَ تخْفِى فى نَفْسِك مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَ تخْشى النّاس وَ اللّهُ أَحَقّ أَن تخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِّنهَا وَطراً زَوّجْنَكَهَا لِكَىْ لا يَكُونَ عَلى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فى أَزْوَج أَدْعِيَائهِمْ إِذَا قَضوْا مِنهُنّ وَطراً وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (37) مّا كانَ عَلى النّبىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَض اللّهُ لَهُ سنّةَ اللّهِ فى الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُوراً (38) الّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسلَتِ اللّهِ وَ يخْشوْنَهُ وَ لا يخْشوْنَ أَحَداً إِلا اللّهَ وَ كَفَى بِاللّهِ حَسِيباً (39) مّا كانَ محَمّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَ لَكِن رّسولَ اللّهِ وَ خَاتَمَ النّبِيِّينَ وَ كانَ اللّهُ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيماً (40)

بيان

الآيات أعني قوله: "و إذ تقول للذي أنعم الله عليه - إلى قوله - و كان الله بكل شيء عليما" في قصة تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بزوج مولاه زيد الذي كان قد اتخذه ابنا، و لا يبعد أن تكون الآية الأولى أعني قوله: "و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة" الآية، مرتبطة بالآيات التالية كالتوطئة لها.

قوله تعالى: "و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" إلخ، يشهد السياق على أن المراد بالقضاء هو القضاء التشريعي دون التكويني فقضاء الله تعالى حكمه التشريعي في شيء مما يرجع إلى أعمال العباد أو تصرفه في شأن من شئونهم بواسطة رسول من رسله، و قضاء رسوله هو الثاني من القسمين و هو التصرف في شأن من شئون الناس بالولاية التي جعلها الله تعالى له بمثل قوله: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم".

فقضاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) قضاء منه بولايته و قضاء من الله سبحانه لأنه الجاعل لولايته المنفذ أمره، و يشهد سياق قوله: "إذا قضى الله و رسوله أمرا" حيث جعل الأمر الواحد متعلقا لقضاء الله و رسوله معا، على أن المراد بالقضاء التصرف في شئون الناس دون الجعل التشريعي المختص بالله.

و قوله: "و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة" أي ما صح و لا يحق لأحد من المؤمنين و المؤمنات أن يثبت لهم الاختيار من أمرهم بحيث يختارون ما شاءوا و قوله: "إذا قضى الله و رسوله أمرا" ظرف لنفي الاختيار.

و ضميرا الجمع في قوله: "لهم الخيرة من أمرهم" للمؤمن و المؤمنة المراد بهما جميع المؤمنين و المؤمنات لوقوعهما في حيز النفي و وضع الظاهر موضع المضمر حيث قيل: "من أمرهم" و لم يقل: أن يكون لهم الخيرة فيه للدلالة على منشإ توهم الخيرة و هو انتساب الأمر إليهم.

و المعنى: ليس لأحد من المؤمنين و المؤمنات إذا قضى الله و رسوله بالتصرف في أمر من أمورهم أن يثبت لهم الاختيار من جهته لانتسابه إليهم و كونه أمرا من أمورهم فيختاروا منه غير ما قضى الله و رسوله بل عليهم أن يتبعوا إرادة الله و رسوله.

و الآية عامة لكنها لوقوعها في سياق الآيات التالية يمكن أن تكون كالتمهيد لما سيجيء من قوله: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" الآية، حيث يلوح منه أن بعضهم كان قد اعترض على تزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بزوج زيد و تعييره بأنها كانت زوج ابنه المدعو له بالتبني و سيجيء في البحث الروائي بعض ما يتعلق بالمقام.

قوله تعالى: "و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه أمسك عليك زوجك و اتق الله" إلى آخر الآية المراد بهذا الذي أنعم الله عليه و أنعم النبي عليه زيد بن حارثة الذي كان عبدا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم حرره و اتخذه ابنا له و كان تحته زينب بنت جحش بنت عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى زيد النبي فاستشاره في طلاق زينب فنهاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الطلاق ثم طلقها زيد فتزوجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزلت الآيات.

فقوله: "أنعم الله عليه" أي بالهداية إلى الإيمان و تحبيبه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قوله: "و أنعمت عليه" أي بالإحسان إليه و تحريره و تخصيصه بنفسك، و قوله: أمسك عليك زوجك و اتق الله" كناية عن الكف عن تطليقها، و لا يخلو من إشعار بإصرار زيد على تطليقها.

و قوله: "و تخفي في نفسك ما الله مبديه" أي مظهره "و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه" ذيل الآيات أعني قوله: "الذين يبلغون رسالات الله و لا يخشون أحدا إلا الله" دليل على أن خشيته (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس لم تكن خشية على نفسه بل كان خشية في الله فأخفى في نفسه ما أخفاه استشعارا منه أنه لو أظهره عابه الناس و طعن فيه بعض من في قلبه مرض فأثر ذلك أثرا سيئا في إيمان العامة، و هذا الخوف - كما ترى ليس خوفا مذموما بل خوف في الله هو في الحقيقة خوف من الله سبحانه.

و قوله: "و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه" الظاهر في نوع من العتاب ردع عن نوع من خشية الله و هي خشيته عن طريق الناس و هداية إلى نوع آخر من خشيته تعالى و أنه كان من الحري أن يخشى الله دون الناس و لا يخفي ما في نفسه ما الله مبديه و هذا نعم الشاهد على أن الله كان قد فرض له أن يتروج زوج زيد الذي كان تبناه ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوج بأزواج الأدعياء و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخفيه في نفسه إلى حين مخافة سوء أثره في الناس فآمنه الله ذلك بعتابه عليه نظير ما تقدم في قوله تعالى: "يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك - إلى قوله - و الله يعصمك من الناس" الآية.

فظاهر العتاب الذي يلوح من قوله: "و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه" مسوق لانتصاره و تأييد أمره قبال طعن الطاعنين ممن في قلوبهم مرض نظير ما تقدم في قوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين": التوبة: 43.

و من الدليل على أنه انتصار و تأييد في صورة العتاب قوله بعد: "فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها" حيث أخبر عن تزويجه إياها كأنه أمر خارج عن إرادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اختياره ثم قوله: "و كان أمر الله مفعولا".

فقوله: "فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها" متفرع على ما تقدم من قوله: و تخفي في نفسك ما الله مبديه" و قضاء الوطر منها كناية عن الدخول و التمتع، و قوله: "لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا" تعليل للتزويج و مصلحة للحكم، و قوله: "و كان أمر الله مفعولا" مشير إلى تحقق الوقوع و تأكيد للحكم.

و من ذلك يظهر أن الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخفيه في نفسه هو ما فرض الله له أن يتزوجها لا هواها و حبه الشديد لها و هي بعد مزوجة كما ذكره جمع من المفسرين و اعتذروا عنه بأنها حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر فإن فيه أولا: منع أن يكون بحيث لا يقوى عليه التربية الإلهية، و ثانيا: أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه و إخفائه في نفسه فلا مجوز في الإسلام لذكر حلائل الناس و التشبب بهن.

قوله تعالى: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له" إلخ، الفرض هو التعيين و الإسهام يقال: فرض له كذا أي عينه له و أسهمه به، و قيل: هو في المقام بمعنى الإباحة و التجويز، و الحرج الكلفة و الضيق، و المراد بنفي الحرج نفي سببه و هو المنع عما فرض له.

و المعنى: ما كان على النبي من منع فيما عين الله له أو أباح الله له حتى يكون عليه حرج في ذلك.

و قوله: "سنة الله في الذين خلوا من قبل" اسم موضوع موضع المصدر فيكون مفعولا مطلقا و التقدير سن الله ذلك سنة، و المراد بالذين خلوا من قبل هم الأنبياء و الرسل الماضون بقرينة قوله بعد: "الذين يبلغون رسالات الله" إلخ.



و قوله: "و كان أمر الله قدرا مقدورا" أي يقدر من عنده لكل أحد ما يلائم حاله و يناسبها، و الأنبياء لم يمنعوا مما قدره الله و أباحه لغيرهم حتى يمنع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعض ما قدر و أبيح.

قوله تعالى: "الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله" إلخ، الموصول بيان للموصول المتقدم أعني قوله: "الذين خلوا من قبل".

و الخشية هي تأثر خاص للقلب عن المكروه و ربما ينسب إلى السبب الذي يتوقع منه المكروه، يقال: خشيت أن يفعل بي فلان كذا أو خشيت فلانا أن يفعل بي كذا، و الأنبياء يخشون الله و لا يخشون أحدا غيره لأنه لا مؤثر في الوجود عندهم إلا الله.

و هذا غير الخوف الذي هو توقع المكروه بحيث يترتب عليه الاتقاء عملا سواء كان معه تأثر قلبي أو لا فإنه أمر عملي ربما ينسب إلى الأنبياء كقوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): "ففررت منكم لما خفتكم": الشعراء: 21، و قوله في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "و إما تخافن من قوم خيانة": الأنفال: 58، و هذا هو الأصل في معنى الخوف و الخشية و ربما استعملا كالمترادفين.

و مما تقدم يظهر أن الخشية منفية عن الأنبياء (عليهم السلام) مطلقا و إن كان سياق قوله: "يبلغون رسالات الله و يخشونه" إلخ، يلوح إلى أن المنفي هو الخشية في تبليغ الرسالة.

على أن جميع أفعال الأنبياء كأقوالهم من باب التبليغ فالخشية في أمر التبليغ مستوعبة لجميع أعمالهم.

و قوله: "و كفى بالله حسيبا" أي محاسبا يحاسب على الصغيرة و الكبيرة فيجب أن يخشى و لا يخشى غيره.

قوله تعالى:" ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين" إلخ، لا شك في أن الآية مسوقة لدفع اعتراضهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه تزوج زوج ابنه و محصل الدفع أنه ليس أبا زيد و لا أبا أحد من الرجال الموجودين في زمن الخطاب حتى يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا بزوج ابنه فالخطاب في قوله: "من رجالكم" للناس الموجودين في زمن نزول الآية، و المراد بالرجال ما يقابل النساء و الولدان و نفي الأبوة نفي تكويني لا تشريعي و لا تتضمن الجملة شيئا من التشريع.

و المعنى: ليس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا أحد من هؤلاء الرجال الذين هم رجالكم حتى يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا منه بزوج ابنه و زيد أحد هؤلاء الرجال فتزوجه بعد تطليقه ليس تزوجا بزوج الابن حقيقة و أما تبنيه زيدا فإنه لا يترتب عليه شيء من آثار الأبوة و البنوة و ما جعل أدعياءكم أبناءكم.

و أما القاسم و الطيب و الطاهر و إبراهيم فإنهم أبناؤه حقيقة لكنهم ماتوا قبل أن يبلغوا فلم يكونوا رجالا حتى ينتقض الآية و كذا الحسن و الحسين و هما ابنا رسول الله فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض قبل أن يبلغا حد الرجال.

و مما تقدم ظهر أن الآية لا تقتضي نفي أبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) للقاسم و الطيب و الطاهر و إبراهيم و كذا للحسنين لما عرفت أنها خاصة بالرجال الموجودين في زمن النزول على نعت الرجولية.

و قوله: "و لكن رسول الله و خاتم النبيين" الخاتم بفتح التاء ما يختم به كالطابع و القالب بمعنى ما يطبع به و ما يقلب به و المراد بكونه خاتم النبيين أن النبوة اختتمت به (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا نبي بعده.

و قد عرفت فيما مر معنى الرسالة و النبوة و أن الرسول هو الذي يحمل رسالة من الله إلى الناس و النبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين و حقائقه و لازم ذلك أن يرتفع الرسالة بارتفاع النبوة فإن الرسالة من أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه الأنباء انقطعت الرسالة.

و من هنا يظهر أن كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين يستلزم كونه خاتما للرسل.

و في الآية إيماء إلى أن ارتباطه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تعلقه بكم تعلق الرسالة و النبوة و أن ما فعله كان بأمر من الله سبحانه.

و قوله: "و كان الله بكل شيء عليما" أي ما بينه لكم إنما كان بعلمه.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه و قالت: أنا خير منه حسبا و كانت امرأة فيها حدة فأنزل الله "و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة" الآية كلها.

أقول: و في معناها روايات أخر.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و كانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي و أخوها و قالت إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده فنزلت.

أقول: و الروايتان أشبه بالتطبيق منهما بسبب النزول.

و في العيون،: في باب مجلس الرضا (عليه السلام) عند المأمون مع أصحاب الملل في حديث يجيب فيه عن مسألة علي بن الجهم في عصمة الأنبياء:. قال: و أما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و قول الله عز و جل: "و تخفي في نفسك ما الله مبديه - و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه" فإن الله عز و جل عرف نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أسماء أزواجه في دار الدنيا و أسماء أزواجه في الآخرة و أنهن أمهات المؤمنين و أحد من سمي له زينب بنت جحش و هي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى (صلى الله عليه وآله وسلم) اسمها في نفسه و لم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: أنه قال في امرأة في بيت رجل: إنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين و خشي قول المنافقين. قال الله عز و جل: "و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه" يعني في نفسك الحديث.

أقول: و روي ما يقرب منه فيه عنه (عليه السلام) في جواب مسألة المأمون عنه في عصمة الأنبياء.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و تخفي في نفسك ما الله مبديه" قيل: إن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه و أن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد و قال له: أريد أن أطلق زينب قال له: أمسك عليك زوجك، فقال سبحانه: لم قلت: أمسك عليك زوجك و قد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟: و روي ذلك عن علي بن الحسين (عليهما السلام).

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري و الترمذي و ابن المنذر و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: اتق الله و أمسك عليك زوجك فنزلت: "و تخفي في نفسك ما الله مبديه". قال أنس: فلو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كاتما شيئا لكتم هذه الآية، فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحديث.



أقول: و الروايات كثيرة في المقام و إن كان كثير منها لا يخلو من شيء و في الروايات: ما أولم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على امرأة من نسائه ما أولم على زينب ذبح شاة و أطعم الناس الخبز و اللحم، و في الروايات أنها كانت تفتخر على سائر نساء النبي بثلاث أن جدها و جد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واحد فإنها كانت بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن الذي زوجها منه هو الله سبحانه و أن السفير جبريل.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و لكن رسول الله و خاتم النبيين": و صح الحديث عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و حسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها و نظر إليها فقال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء: أورده البخاري و مسلم في صحيحيهما.

أقول: و روى هذا المعنى غيرهما كالترمذي و النسائي و أحمد و ابن مردويه عن غير جابر كأبي سعيد و أبي هريرة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنت أقرىء الحسن و الحسين فمر بي علي بن أبي طالب و أنا أقرئهما فقال لي: أقرئهما و خاتم النبيين بفتح التاء.

33 سورة الأحزاب - 41 - 48

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَ سبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (42) هُوَ الّذِى يُصلى عَلَيْكُمْ وَ مَلَئكَتُهُ لِيُخْرِجَكم مِّنَ الظلُمَتِ إِلى النّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلَمٌ وَ أَعَدّ لهَُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يَأَيهَا النّبىّ إِنّا أَرْسلْنَك شهِداً وَ مُبَشراً وَ نَذِيراً (45) وَ دَاعِياً إِلى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجاً مّنِيراً (46) وَ بَشرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ لهَُم مِّنَ اللّهِ فَضلاً كَبِيراً (47) وَ لا تُطِع الْكَفِرِينَ وَ الْمُنَفِقِينَ وَ دَعْ أَذَاهُمْ وَ تَوَكلْ عَلى اللّهِ وَ كَفَى بِاللّهِ وَكيلاً (48)

بيان

آيات تدعو المؤمنين إلى الذكر و التسبيح و تبشرهم و تعدهم الوعد الجميل و تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصفاته الكريمة و تأمره أن يبشر المؤمنين و لا يطيع الكافرين و المنافقين، و يمكن أن يكون القبيلان مختلفين في النزول زمانا.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا" الذكر ما يقابل النسيان و هو توجيه الإدراك نحو المذكور و أما التلفظ بما يدل عليه من أسمائه و صفاته فهو بعض مصاديق الذكر.

قوله تعالى: "و سبحوه بكرة و أصيلا" التسبيح هو التنزيه و هو مثل الذكر لا يتوقف على اللفظ و إن كان التلفظ بمثل سبحان الله بعض مصاديق التسبيح.

و البكرة أول النهار و الأصيل آخره بعد العصر و تقييد التسبيح بالبكرة و الأصيل لما فيهما من تحول الأحوال فيناسب تسبيحه و تنزيهه من التغير و التحول و كل نقص طار، و يمكن أن يكون البكرة و الأصيل معا كناية عن الدوام كالليل و النهار في قوله: "يسبحون له بالليل و النهار": حم السجدة: 38.

قوله تعالى: "هو الذي يصلي عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور" المعنى الجامع للصلاة على ما يستفاد من موارد استعمالها هو الانعطاف فيختلف باختلاف ما نسب إليه و لذلك قيل: إن الصلاة من الله الرحمة و من الملائكة الاستغفار و من الناس الدعاء لكن الذي نسب من الصلاة إلى الله سبحانه في القرآن هو الصلاة بمعنى الرحمة الخاصة بالمؤمنين و هي التي تترتب عليها سعادة العقبى و الفلاح المؤبد و لذلك علل تصليته عليهم بقوله: "ليخرجكم من الظلمات إلى النور و كان بالمؤمنين رحيما".

و قد رتب سبحانه في كلامه على نسيانهم له نسيانه لهم و على ذكرهم له ذكره لهم فقال: "نسوا الله فنسيهم": التوبة: 67، و قال: "فاذكروني أذكركم": البقرة: 125 و تصليته عليهم ذكر منه لهم بالرحمة فإن ذكروه كثيرا و سبحوه بكرة و أصيلا صلى عليهم كثيرا و غشيهم بالنور و أبعدهم من الظلمات.

و من هنا يظهر أن قوله: "هو الذي يصلي عليكم" إلخ، في مقام التعليل لقوله: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا" و تفيد التعليل أنكم إن ذكرتم الله كثيرا ذكركم برحمته كثيرا و بالغ في إخراجكم من الظلمات إلى النور و يستفاد منه أن الظلمات إنما هي ظلمات النسيان و الغفلة و النور نور الذكر.

و قوله: "و كان بالمؤمنين رحيما" وضع الظاهر موضع المضمر، أعني قوله: "بالمؤمنين" و لم يقل: و كان بكم رحيما، ليدل به على سبب الرحمة و هو وصف الإيمان.

قوله تعالى: "تحيتهم يوم يلقونه سلام و أعد لهم أجرا كريما" ظاهر السياق أن "تحيتهم" مصدر مضاف إلى المفعول أي إنهم يحيون - بالبناء للمفعول - يوم يلقون ربهم من عند ربهم و من ملائكته بالسلام أي إنهم يوم اللقاء في أمن و سلام لا يصيبهم مكروه و لا يمسهم عذاب.

و قوله: "و أعد لهم أجرا كريما" أي و هيأ الله لهم ثوابا جزيلا.

قوله تعالى: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا" شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأعمال أن يتحملها في هذه النشأة و يؤديها يوم القيامة و قد تقدم في قوله: "لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا": البقرة: 121، و غيره من آيات الشهادة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد الشهداء.

و كونه مبشرا و نذيرا تبشيره المؤمنين المطيعين لله و رسوله بثواب الله و الجنة و إنذاره الكافرين و العاصين بعذاب الله و النار.

قوله تعالى: "و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا" دعوته إلى الله هي دعوته الناس إلى الإيمان بالله وحده، و لازمه الإيمان بدين الله و تقيد الدعوة بإذن الله يجعلها مساوقة للبعثة.

و كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) سراجا منيرا هو كونه بحيث يهتدي به الناس إلى سعادتهم و ينجون من ظلمات الشقاء و الضلالة فهو من الاستعارة، و قول بعضهم: إن المراد بالسراج المنير القرآن و التقدير ذا سراج منير تكلف من غير موجب.

قوله تعالى: "و بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا"، الفضل من العطاء ما كان من غير استحقاق ممن يأخذه و قد وصف الله عطاءه فقال: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها": الأنعام: 106، و قال: "لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد": ق: 35، فبين أنه يعطي من الثواب ما لا يقابل العمل و هو الفضل و لا دليل في الآية يدل على اختصاصه بالآخرة.

قوله تعالى: "و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم و توكل على الله" إلخ، تقدم معنى طاعة الكافرين و المنافقين في أول السورة.

و قوله: "و دع أذاهم" أي اترك ما يؤذونك بالإعراض عنه و عدم الاشتغال به و الدليل على هذا المعنى قوله: "و توكل على الله" أي لا تستقل بنفسك في دفع أذاهم بل اجعل الله وكيلا في ذلك و كفى بالله وكيلا.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من شيء إلا و له حد ينتهي إليه إلا الذكر فليس له حد ينتهي إليه فرض الله عز و جل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن و شهر رمضان فمن صامه فهو حده و الحج فمن حج فهو حده إلا الذكر فإن الله عز و جل لم يرض منه بالقليل و لم يجعل له حدا ينتهي إليه ثم تلا: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا - و سبحوه بكرة و أصيلا" فقال: لم يجعل الله له حدا ينتهي إليه. قال: و كان أبي كثير الذكر لقد كنت أمشي معه و إنه ليذكر الله و آكل معه الطعام و إنه ليذكر الله و لقد كان يحدث القوم ما يشغله ذلك عن ذكر الله و كنت أرى لسانا لازقا بحنكه يقول: لا إله إلا الله. و كان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس و يأمر بالقراءة من كان يقرأ منا و من كان لا يقرأ منا أمره بالذكر، و البيت الذي يقرأ فيه القرآن و يذكر الله عز و جل فيه يكثر بركته و يحضره الملائكة و يهجره الشياطين و يضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب لأهل الأرض و البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن و لا يذكر الله يقل بركته و يهجره الملائكة و يحضره الشياطين. و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لا أخبركم بخير أعمالكم أرفعها في درجاتكم و أزكاها عند مليككم و خير لكم من الدينار و الدرهم و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلوهم و يقتلوكم؟ فقالوا: بلى. قال: ذكر الله عز و جل كثيرا. ثم قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: من خير أهل المسجد؟ فقال: أكثرهم لله ذكرا. و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أعطي لسانا ذاكرا فلقد أعطي خير الدنيا و الآخرة. و قال في قوله تعالى: "و لا تمنن تستكثر" قال: لا تستكثر ما عملت من خير لله. و فيه، بإسناده عن أبي المعزى رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيرا إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية و لا يذكرونه في السر فقال الله عز و جل: "يراءون الناس و لا يذكرون الله إلا قليلا". أقول: و هو استفادة لطيفة.

و في الخصال، عن زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من ثلاث خصال يحرمها. قيل: و ما هي؟ قال: المواساة في ذات يده، و الإنصاف من نفسه، و ذكر الله كثيرا. أما إني لا أقول: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و إن كان منه و لكن ذكر الله عند ما أحل له و ذكر الله عند ما حرم عليه.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و البيهقي عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا. قلت: يا رسول الله و من الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار و المشركين حتى ينكسر و يختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل درجة منه.

و في العلل، بإسناده عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن جده الحسن بن علي (عليهما السلام) قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله أعلمهم فيما سأله فقال: لأي شيء سميت محمدا و أحمد و أبا القاسم و بشيرا و نذيرا و داعيا؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أما الداعي فإني أدعو الناس إلى دين ربي عز و جل، و أما النذير فإني أنذر بالنار من عصاني، و أما البشير فإني أبشر بالجنة من أطاعني.

الحديث.

و في تفسير القمي،: في قوله: "يا أيها النبي إنا أرسلناك إلى قوله و دع أذاهم و توكل على الله و كفى بالله وكيلا" أنها نزلت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين.

33 سورة الأحزاب - 49 - 62

يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَتِ ثُمّ طلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونهَا فَمَتِّعُوهُنّ وَ سرِّحُوهُنّ سرَاحاً جَمِيلاً (49) يَأَيّهَا النّبىّ إِنّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَجَك الّتى ءَاتَيْت أُجُورَهُنّ وَ مَا مَلَكَت يَمِينُك مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْك وَ بَنَاتِ عَمِّك وَ بَنَاتِ عَمّتِك وَ بَنَاتِ خَالِك وَ بَنَاتِ خَلَتِك الّتى هَاجَرْنَ مَعَك وَ امْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَت نَفْسهَا لِلنّبىِّ إِنْ أَرَادَ النّبىّ أَن يَستَنكِحَهَا خَالِصةً لّك مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضنَا عَلَيْهِمْ فى أَزْوَجِهِمْ وَ مَا مَلَكت أَيْمَنُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً (50) تُرْجِى مَن تَشاءُ مِنهُنّ وَ تُئْوِى إِلَيْك مَن تَشاءُ وَ مَنِ ابْتَغَيْت مِمّنْ عَزَلْت فَلا جُنَاحَ عَلَيْك ذَلِك أَدْنى أَن تَقَرّ أَعْيُنهُنّ وَ لا يحْزَنّ وَ يَرْضينَ بِمَا ءَاتَيْتَهُنّ كلّهُنّ وَ اللّهُ يَعْلَمُ مَا فى قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يحِلّ لَك النِّساءُ مِن بَعْدُ وَ لا أَن تَبَدّلَ بهِنّ مِنْ أَزْوَجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَك حُسنهُنّ إِلا مَا مَلَكَت يَمِينُك وَ كانَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ رّقِيباً (52) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوت النّبىِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طعَامٍ غَيرَ نَظِرِينَ إِنَاهُ وَ لَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَ لا مُستَئْنِسِينَ لحَِدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِى النّبىّ فَيَستَحْىِ مِنكمْ وَ اللّهُ لا يَستَحْىِ مِنَ الْحَقِّ وَ إِذَا سأَلْتُمُوهُنّ مَتَعاً فَسئَلُوهُنّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكمْ أَطهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنّ وَ مَا كانَ لَكمْ أَن تُؤْذُوا رَسولَ اللّهِ وَ لا أَن تَنكِحُوا أَزْوَجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنّ ذَلِكُمْ كانَ عِندَ اللّهِ عَظِيماً (53) إِن تُبْدُوا شيْئاً أَوْ تخْفُوهُ فَإِنّ اللّهَ كانَ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيماً (54) لا جُنَاحَ عَلَيهِنّ فى ءَابَائهِنّ وَ لا أَبْنَائهِنّ وَ لا إِخْوَنهِنّ وَ لا أَبْنَاءِ إِخْوَنهِنّ وَ لا أَبْنَاءِ أَخَوَتِهِنّ وَ لا نِسائهِنّ وَ لا مَا مَلَكت أَيْمَنهُنّ وَ اتّقِينَ اللّهَ إِنّ اللّهَ كانَ عَلى كلِّ شىْءٍ شهِيداً (55) إِنّ اللّهَ وَ مَلَئكتَهُ يُصلّونَ عَلى النّبىِّ يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا صلّوا عَلَيْهِ وَ سلِّمُوا تَسلِيماً (56) إِنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسولَهُ لَعَنهُمُ اللّهُ فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ أَعَدّ لهَُمْ عَذَاباً مّهِيناً (57) وَ الّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَتِ بِغَيرِ مَا اكتَسبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَناً وَ إِثْماً مّبِيناً (58) يَأَيهَا النّبىّ قُل لأَزْوَجِك وَ بَنَاتِك وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيهِنّ مِن جَلَبِيبِهِنّ ذَلِك أَدْنى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً (59) لّئن لّمْ يَنتَهِ الْمُنَفِقُونَ وَ الّذِينَ فى قُلُوبِهِم مّرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنّك بِهِمْ ثُمّ لا يجَاوِرُونَك فِيهَا إِلا قَلِيلاً (60) مّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سنّةَ اللّهِ فى الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَ لَن تجِدَ لِسنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً (62)

بيان

تتضمن الآيات أحكاما متفرقة بعضها خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أزواجه و بعضها عامة.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن و سرحوهن سراحا جميلا" المراد بنكاحهن العقد عليهن بالنكاح، و بالمس الدخول، و بالتمتيع إعطاؤهن شيئا من المال يناسب شأنهن و حالهن و التسريح بالجميل إطلاقهن من غير خصومة و خشونة.

و المعنى: إذا طلقتم النساء بعد النكاح و قبل الدخول فلا عدة لهن للطلاق و يجب تمتيعهن بشيء من المال و السراح الجميل.

و الآية مطلقة تشمل ما إذا فرض لهن فريضة المهر و ما إذا لم يفرض فيقيدها قوله: "و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم": البقرة: 273، و تبقى حجة فيما لم يفرض لهن فريضة.

قوله تعالى: "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن" إلى آخر الآية، يذكر سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإحلال سبعة أصناف من النساء: الصنف الأول ما في قوله: "أزواجك اللاتي آتيت أجورهن" و المراد بالأجور المهور، و الثاني ما في قوله: "و ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك" أي من يملكه من الإماء الراجعة إليه من الغنائم و الأنفال، و تقييد ملك اليمين بكونه مما أفاء الله عليه كتقييد الأزواج بقوله: "اللاتي آتيت أجورهن" للتوضيح لا للاحتراز.

و الثالث و الرابع ما في قوله: "و بنات عمك و بنات عماتك" قيل: يعني نساء قريش، و الخامس و السادس ما في قوله: "و بنات خالك و بنات خالاتك" قيل: يعني نساء بني زهرة، و قوله: "اللاتي هاجرن معك" قال في المجمع:، هذا إنما كان قبل تحليل غير المهاجرات ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.

و السابع ما في قوله: "و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها" و هي المرأة المسلمة التي بذلت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعنى أن ترضى أن يتزوج بها من غير صداق و مهر فإن الله أحلها له إن أراد أن يستنكحها، و قوله: "خالصة لك من دون المؤمنين" إيذان بأن هذا الحكم - أي حلية المرأة للرجل ببذل النفس - من خصائصه لا يجري في المؤمنين، و قوله بعده: "قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم و ما ملكت أيمانهم" تقرير لحكم الاختصاص.

و قوله: "لكيلا يكون عليك حرج" تعليل لقوله في صدر الآية: "إنا أحللنا لك" أو لما في ذيلها من حكم الاختصاص و الأول أظهر و قد ختمت الآية بالمغفرة و الرحمة.

قوله تعالى: "ترجي من تشاء منهن و تؤوي إليك من تشاء" إلخ، الإرجاء التأخير و التبعيد، و هو كناية عن الرد، و الإيواء: الإسكان في المكان و هو كناية عن القبول و الضم إليه.

و السياق يدل على أن المراد به أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) على خيرة من قبول من وهبت نفسها له أو رده.



و قوله: "و من ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك"، الابتغاء هو الطلب أي و من طلبتها من اللاتي عزلتها و لم تقبلها فلا إثم عليك و لا لؤم أي يجوز لك أن تضم إليك من عزلتها و رددتها من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لك بعد العزل و الرد.

و يمكن أن يكون إشارة إلى أن له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقسم بين نسائه و أن يترك القسم فيؤخر من يشاء منهن و يقدم من يشاء و يعزل بعضهن من القسم فلا يقسم لها أو يبتغيها فيقسم لها بعد العزل و هو أوفق لقوله بعده: "و من ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى - أي أقرب - أن تقر أعينهن - أي يسررن - و لا يحزن و يرضين بما آتيتهن كلهن و الله يعلم ما في قلوبكم" و ذلك لسرور المتقدمة بما قسمت له و رجاء المتأخرة أن تتقدم بعد.

و قوله: "و كان الله عليما حليما" أي يعلم مصالح عباده و لا يعاجل في العقوبة.

و في الآية أقوال مختلفة أخر و الذي أوردناه هو الأوفق لوقوعها في سياق سابقتها متصلة بها و به وردت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما سيجيء.

قوله تعالى: "لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج و لو أعجبك حسنهن" إلخ، ظاهر الآية لو فرضت مستقلة في نفسها غير متصلة بما قبلها تحريم النساء له (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا من خيرهن فاخترن الله و نفي جواز التبدل بهن يؤيد ذلك.

لكن لو فرضت متصلة بما قبلها و هو قوله: "إنا أحللنا لك" إلخ، كان مدلولها تحريم ما عدا المعدودات و هي الأصناف الستة التي تقدمت.

و في بعض الروايات عن بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بالآية محرمات النساء المعدودة في قوله: "حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم" الآية: النساء: 23.

فقوله: "لا يحل لك النساء من بعد" أي من بعد اللاتي اخترن الله و رسوله و هي التسعة على المعنى الأول أو من بعد من عددناه في قولنا: "إنا أحللنا لك" على المعنى الثاني أو من بعد المحللات و هي المحرمات على المعنى الثالث.

و قوله: "و لا أن تبدل بهن من أزواج" أي أن تطلق بعضهن و تزوج مكانها من غيرهن، و قوله: "إلا ما ملكت يمينك" يعني الإماء و هو استثناء من قوله في صدر الآية "لا يحل لك النساء".

و قوله: "و كان الله على كل شيء رقيبا" معناه ظاهر و فيه تحذير عن المخالفة.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم - إلى قوله - من الحق" بيان لأدب الدخول في بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله: "إلا أن يؤذن لكم" استثناء من النهي، و قوله: "إلى طعام" متعلق بالإذن، و قوله: "غير ناظرين إناه" أي غير منتظرين لورود إناء الطعام بأن تدخلوا من قبل فتطيلوا المكث في انتظار الطعام و يبينه قوله: "و لكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم - أي أكلتم - فانتشروا"، و قوله: "و لا مستأنسين لحديث" عطف على قوله: "غير ناظرين إناه" و هو حال بعد حال، أي غير ماكثين في حال انتظار الإناء قبل الطعام و لا في حال الاستئناس لحديث بعد الطعام.

و قوله: "إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم" تعليل للنهي أي لا تمكثوا كذلك لأن مكثكم ذلك كان يتأذى منه النبي فيستحيي منكم أن يسألكم الخروج و قوله: "و الله لا يستحيي من الحق" أي من بيان الحق لكم و هو ذكر تأذيه و التأديب بالأدب اللائق.



قوله تعالى: "و إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن"، ضمير "هن" لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سؤالهن متاعا كناية عن تكليمهن لحاجة أي إذا مست الحاجة إلى تكليمكم أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلموهن من وراء حجاب، و قوله: "ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن" بيان لمصلحة الحكم.

قوله تعالى: "و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا" إلخ، أي ليس لكم إيذاؤه بمخالفة ما أمرتم في نسائه و في غير ذلك و ليس لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم أي نكاحكم أزواجه من بعده كان عند الله عظيما، و في الآية إشعار بأن بعضهم ذكر ما يشير إلى نكاحهم أزواجه بعده و هو كذلك كما سيأتي في البحث الروائي الآتي.

قوله تعالى: "إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما" معناه ظاهر و هو في الحقيقة تنبيه تهديدي لمن كان يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يذكر نكاح أزواجه من بعده.

قوله تعالى: "لا جناح عليهن في آبائهن" إلى آخر الآية ضمير "عليهن" لنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب و قد استثنى الآباء و الأبناء و الإخوان و أبناء الإخوان و أبناء الأخوات و هؤلاء محارم، قيل: و لم يذكر الأعمام و الأخوال لأنهم من الممكن أن يصفوهن لأبنائهم.

و استثنى أيضا نساءهن و إضافة النساء إلى ضمير هن يلوح إلى أن المراد النساء المؤمنات دون الكوافر كما مر في قوله تعالى: "أو نسائهن": النور: 31، و استثنى أيضا ما ملكت أيمانهن من العبيد و الإماء.

و قوله: "و اتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا" فيه تأكيد الحكم و خاصة من جهة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في "اتقين الله".

قوله تعالى: "إن الله و ملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما" قد تقدم أن أصل الصلاة الانعطاف فصلاته تعالى انعطافه عليه بالرحمة انعطافا مطلقا لم يقيد في الآية بشيء دون شيء و كذلك صلاة الملائكة عليه انعطاف عليه بالتزكية و الاستغفار و هي من المؤمنين الدعاء بالرحمة.

و في ذكر صلاته تعالى و صلاة ملائكته عليه قبل أمر المؤمنين بالصلاة عليه دلالة على أن في صلاة المؤمنين له اتباعا لله سبحانه و ملائكته و تأكيدا للنهي الآتي.

و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن طريق صلاة المؤمنين أن يسألوا الله تعالى أن يصلي عليه و آله.

قوله تعالى: "إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا" من المعلوم أن الله سبحانه منزه من أن يناله الأذى و كل ما فيه وصمة النقص و الهوان فذكره مع الرسول و تشريكه في إيذائه تشريف للرسول و إشارة إلى أن من قصد رسوله بسوء فقد قصده أيضا بالسوء إذ ليس للرسول بما أنه رسول إلا ربه فمن قصده فقد قصد ربه.

و قد أوعدهم باللعن في الدنيا و الآخرة و اللعن هو الإبعاد من الرحمة و الرحمة الخاصة بالمؤمنين هي الهداية إلى الاعتقاد الحق و حقيقة الإيمان، و يتبعه العمل الصالح فالإبعاد من الرحمة في الدنيا تحريمه عليه جزاء لعمله فيرجع إلى طبع القلوب كما قال: "لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية": المائدة: 13، و قال: "و لكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا": النساء: 46، و قال: "أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم": سورة محمد: 23.



و أما اللعن في الآخرة فهو الإبعاد من رحمة القرب فيها و قد قال تعالى: "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون": المطففين: 15.

ثم أوعدهم بأنه أعد لهم - أي في الآخرة - عذابا مهينا و وصف العذاب بالمهين لأنهم يقصدون باستكبارهم في الدنيا إهانة الله و رسوله فقوبلوا في الآخرة بعذاب يهينهم.

قوله تعالى: "و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا و إثما مبينا" تقييد إيذائهم بغير ما اكتسبوا لأن إيذاءهم بما اكتسبوا كما في القصاص و الحد و التعزير لا إثم فيه.

و أما إيذاؤهم بغير ما اكتسبوا و من دون استحقاق فيعده سبحانه احتمالا للبهتان و الإثم المبين، و البهتان هو الكذب على الغير يواجهه به، و وجه كون الإيذاء من غير اكتساب بهتانا أن المؤذي إنما يؤذي لسبب عنده يعده جرما له يقول: لم قال كذا؟ لم فعل كذا؟ و ليس بجرم فيبهته عند الإيذاء بنسبة الجرم إليه مواجهة و ليس بجرم.

و كونه إثما مبينا لأن الافتراء و البهتان مما يدرك العقل كونه إثما من غير حاجة إلى ورود النهي عنهما شرعا.

قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" إلخ، الجلابيب جمع جلباب و هو ثوب تشتمل به المرأة فيغطي جميع بدنها أو الخمار الذي تغطي به رأسها و وجهها.

و قوله: "يدنين عليهن من جلابيبهن" أي يتسترن بها فلا تظهر جيوبهن و صدورهن للناظرين.

و قوله: "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين" أي ستر جميع البدن أقرب إلى أن يعرفن أنهن أهل الستر و الصلاح فلا يؤذين أي لا يؤذيهن أهل الفسق بالتعرض لهن.

و قيل: المعنى ذلك أقرب من أن يعرفن أنهن مسلمات حرائر فلا يتعرض لهن بحسبان أنهن إماء أو من غير المسلمات من الكتابيات أو غيرهن و الأول أقرب.

قوله تعالى: "لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم" إلخ، الانتهاء عن الشيء الامتناع و الكف عنه، و الإرجاف إشاعة الباطل للاغتمام به و إلقاء الاضطراب بسببه، و الإغراء بالفعل التحريض عليه.

و المعنى: أقسم لئن لم يكف المنافقون و الذين في قلوبهم مرض عن الإفساد و الذين يشيعون الأخبار الكاذبة في المدينة لإلقاء الاضطراب بين المسلمين لنحرضنك عليهم ثم يجاورونك في المدينة بسبب نفيهم عنها إلا زمانا قليلا و هو ما بين صدور الأمر و فعلية إجرائه.

قوله تعالى: "ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا" الثقف إدراك الشيء و الظفر به، و الجملة حال من المنافقين و من عطف عليهم أي حال كونهم ملعونين أينما وجدوا أخذوا و بولغ في قتلهم فعمهم القتل.

قوله تعالى: "سنة الله في في الذين خلوا من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلا" السنة هي الطريقة المعمولة التي تجري بطبعها غالبا أو دائما.

يقول سبحانه هذا النكال الذي أوعدنا به المنافقين و من يحذو حذوهم من النفي و القتل الذريع هي سنة الله التي جرت في الماضين فكلما بالغ قوم في الإفساد و إلقاء الاضطراب بين الناس و تمادوا و طغوا في ذلك أخذناهم كذلك و لن تجد لسنة الله تبديلا فتجري فيكم كما جرت في الأمم من قبلكم.

بحث روائي

في الفقيه، روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن - فما لكم عليهن من عدة تعتدونها - فمتعوهن و سرحوهن سراحا جميلا" قال: متعوهن أي أجملوهن بما قدرتم عليه من معروف فإنهن يرجعن بكآبة و وحشة و هم عظيم و شماتة من أعدائهن فإن الله كريم يستحيي و يحب أهل الحياء إن أكرمكم أشدكم إكراما لحلائلهم.

و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها. قال: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا و إن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع به مثلها من النساء.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و هي مبنية على تخصيص الآية بآية البقرة كما تقدم في تفسير الآية.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن حبيب بن ثابت قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين فسأله عن رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق قال: ليس بشيء بدأ الله بالنكاح قبل الطلاق فقال: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن": أقول: و رواه في المجمع، عن حبيب بن ثابت عنه (عليه السلام).

و فيه، أخرج ابن ماجة و ابن مردويه عن المسور بن مخرمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا طلاق قبل نكاح و لا عتق قبل ملك: أقول: و روي مثله عن جابر و عائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الكافي، بإسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) و بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك" كم أحل له من النساء؟ قال: ما شاء من شيء.

و فيه، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: "لا يحل لك النساء من بعد و لا أن تبدل بهن من أزواج"؟ فقال: لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينكح ما شاء من بنات عمه و بنات عماته و بنات خاله و بنات خالاته و أزواجه اللاتي هاجرن معه. و أحل له أن ينكح من عرض المؤمنين بغير مهر و هي الهبة و لا تحل الهبة إلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأما لغير رسول الله فلا يصلح نكاح إلا بمهر و ذلك معنى قوله تعالى: "و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي" و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني عن علي بن الحسين: في قوله: "و امرأة مؤمنة" هي أم شريك الأزدية التي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

أقول: و روي أنها خولة بنت الحكيم و أنها ليلى بنت الخطيم و أنها ميمونة، و الظاهر أن الواهبة نفسها عدة من النساء.



و في الكافي، مسندا عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج و أنا امرأة أيم لا زوج لي منذ دهر و لا ولد فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني. فقال لها رسول الله خيرا و دعا لها. ثم قال: يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا فقد نصرني رجالكم و رغبت في نساؤكم. فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك و أجرأك و أنهمك للرجال. فقال رسول الله: كفي عنها يا حفصة فإنها خير منك رغبت في رسول الله و لمتها و عبتها. ثم قال للمرأة: انصرفي رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك في و تعرضك لمحبتي و سروري و سيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عز و جل "و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي - إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين" قال: فأحل الله عز و جل هبة المرأة نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يحل ذلك لغيره.

و في المجمع، و قيل: إنها لما وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهن بلا مهر؟ فنزلت الآية، فقالت عائشة: ما أرى الله إلا يسارع في هواك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإنك إن أطعت الله سارع في هواك.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "ترجي من تشاء منهن و تؤوي إليك من تشاء" قال أبو جعفر و أبو عبد الله (عليه السلام). من أرجى لم ينكح و من آوى فقد نكح.

و في الكافي، بإسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "لا يحل لك النساء من بعد" فقال: إنما عنى به لا يحل لك النساء التي حرم الله عليك في هذه الآية "حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم - و أخواتكم و عماتكم و خالاتكم" إلى آخرها. و لو كان الأمر كما يقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له لأن أحدكم يستبدل كلما أراد و لكن الأمر ليس كما يقولون إن الله عز و جل أحل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينكح من النساء ما أراد إلا ما حرم في هذه الآية في سورة النساء.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق علي بن زيد عن الحسن: في قوله: "و لا أن تبدل بهن من أزواج" قال: قصره الله على نسائه التسع اللاتي مات عنهن. قال علي فأخبرت علي بن الحسين فقال: لو شاء تزوج غيرهن. و لفظ عبد بن حميد فقال: بل كان له أيضا أن يتزوج غيرهن.

و في تفسير القمي،: و أما قوله عز و جل يا أيها الذين آمنوا - لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم" فإنه لما أن تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بزينب بنت جحش و كان يحبها فأولم و دعا أصحابه فكان أصحابه إذا أكلوا يحبون أن يتحدثوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان يحب أن يخلو مع زينب فأنزل الله عز و جل. "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم" و ذلك أنهم كانوا يدخلون بلا إذن فقال عز و جل: "إلا أن يؤذن لكم إلى قوله - من وراء حجاب": أقول: و روي تفصيل القصة عن أنس بطرق مختلفة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان قال: نزل حجاب رسول الله على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.

أقول: و رواها أيضا ابن سعد عن أنس و فيه: أن السنة كانت مبتنى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بزينب.

و فيه،: في قوله تعالى: "و ما كان لكم أن تؤذوا" الآية: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أ يحجبنا محمد عن بنات عمنا و يتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده فنزلت الآية.

أقول: و قد وردت بذلك عدة من الروايات و في بعضها أنه كان يريد عائشة و أم سلمة.

و في ثواب الأعمال، عن أبي المعزى عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال: قلت: ما معنى صلاة الله و صلاة ملائكته و صلاة المؤمن؟ قال: صلاة الله رحمة من الله، و صلاة الملائكة تزكية منهم له، و صلاة المؤمنين دعاء منهم له.



و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: صلوا على محمد و آل محمد فإن الله تعالى يقبل دعاءكم عند ذكر محمد و دعاءكم و حفظكم إياه إذا قرأتم "إن الله و ملائكته يصلون على النبي" فصلوا عليه في الصلاة كنتم أو في غيرها.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن مردويه عن كعب بن عجرة قال: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صل على محمد و على آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد و على آل محمد كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أقول: و قد أورد ثماني عشرة حديثا غير هذه الرواية تدل على تشريك آل النبي معه في الصلاة روتها أصحاب السنن و الجوامع عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس و طلحة و أبو سعيد الخدري و أبو هريرة و أبو مسعود الأنصاري و بريدة و ابن مسعود و كعب بن عجرة و علي (عليه السلام) و أما روايات الشيعة فهي فوق حد الإحصاء.

و فيه، أخرج أحمد و الترمذي عن الحسن بن علي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين - يدنين عليهن من جلابيبهن" فإنه كان سبب نزولها أن النساء كن يخرجن إلى المسجد و يصلين خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا كان الليل و خرجن إلى صلاة المغرب و العشاء الآخرة يقعد الشباب لهن في طريقهن فيؤذونهن و يتعرضون لهن فأنزل الله: "يا أيها النبي" الآية.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و أبو داود و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية "يدنين عليهن من جلابيبهن" خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لئن لم ينته المنافقون" نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خرج في بعض غزواته يقولون: قتل و أسر فيغتم المسلمون لذلك و يشكون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله عز و جل في ذلك "لئن لم ينته إلى قوله إلا قليلا" أي نأمرك بإخراجهم من المدينة إلا قليلا. "ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا" و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "ملعونين" فوجبت عليهم اللعنة بعد اللعنة بقول الله.

33 سورة الأحزاب - 63 - 73

يَسئَلُك النّاس عَنِ الساعَةِ قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَ مَا يُدْرِيك لَعَلّ الساعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنّ اللّهَ لَعَنَ الْكَفِرِينَ وَ أَعَدّ لهَُمْ سعِيراً (64) خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يجِدُونَ وَلِيّا وَ لا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلّب وُجُوهُهُمْ فى النّارِ يَقُولُونَ يَلَيْتَنَا أَطعْنَا اللّهَ وَ أَطعْنَا الرّسولا (66) وَ قَالُوا رَبّنَا إِنّا أَطعْنَا سادَتَنَا وَ كُبرَاءَنَا فَأَضلّونَا السبِيلا (67) رَبّنَا ءَاتهِمْ ضِعْفَينِ مِنَ الْعَذَابِ وَ الْعَنهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كالّذِينَ ءَاذَوْا مُوسى فَبرّأَهُ اللّهُ مِمّا قَالُوا وَ كانَ عِندَ اللّهِ وَجِيهاً (69) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سدِيداً (70) يُصلِحْ لَكُمْ أَعْمَلَكمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِع اللّهَ وَ رَسولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ الْجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يحْمِلْنهَا وَ أَشفَقْنَ مِنهَا وَ حَمَلَهَا الانسنُ إِنّهُ كانَ ظلُوماً جَهُولاً (72) لِّيُعَذِّب اللّهُ الْمُنَفِقِينَ وَ الْمُنَفِقَتِ وَ الْمُشرِكينَ وَ الْمُشرِكَتِ وَ يَتُوب اللّهُ عَلى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَتِ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيمَا (73)

بيان

آيات تذكر شأن الساعة و بعض ما يجري على الكفار من عذابها و تأمر المؤمنين بالقول السديد و تعدهم عليه وعدا جميلا ثم تختتم السورة بذكر الأمانة.

قوله تعالى: "يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله و ما يدريك لعل الساعة تكون قريبا" تذكر الآية سؤال الناس عن الساعة و إنما كانوا يريدون أن يقدر لهم زمن وقوعها و أنها قريبة أو بعيدة كما يومىء إليه التعبير عنها بالساعة فأمر أن يجيبهم بقصر العلم بها في الله سبحانه و على ذلك جرت الحال كلما ذكرت في القرآن.

و قوله: "و ما يدريك لعل الساعة تكون قريبا" زيادة في الإبهام و ليعلموا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل غيره في عدم العلم بها و ليس من الستر الذي أسره إليه و ستره من الناس.

قوله تعالى: "إن الله لعن الكافرين و أعد لهم سعيرا" لعن الكفار إبعادهم من الرحمة، و الإعداد التهيئة، و السعير النار التي أشعلت فالتهبت، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا و لا نصيرا" الفرق بين الولي و النصير أن الولي يلي بنفسه تمام الأمر و المولى عليه بمعزل، و النصير يعين المنصور على بعض الأمر و هو إتمامه فالولي يتولى الأمر كله و النصير يتصدى بعضه، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله و أطعنا الرسولا" تقلب وجوههم في النار تحولها لحال بعد حال فتصفر و تسود و تكون كالحة أو انتقالها من جهة إلى جهة لتكون أبلغ في مس العذاب كما يفعل باللحم المشوي.

و قولهم: "يا ليتنا أطعنا الله و أطعنا الرسولا" كلام منهم على وجه التحسر و التمني.

قوله تعالى: "و قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا فأضلونا السبيلا" السادة جمع سيد و هو - على ما في المجمع، - المالك المعظم الذي يملك تدبير السواد الأعظم و هو الجمع الأكثر، و الكبراء جمع كبير و لعل المراد به الكبير سنا فالعامة تطيع و تقلد أحد رجلين إما سيد القوم و إما أسنهم.

قوله تعالى: "ربنا آتهم ضعفين من العذاب و العنهم لعنا كبيرا" الضعفان المثلان و إنما سألوا لهم ضعفي العذاب لأنهم ضلوا في أنفسهم و أضلوا غيرهم، و لذلك أيضا سألوا لهم اللعن الكبير.

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا و كان عند الله وجيها" نهي عن أن يكونوا كبعض بني إسرائيل فيعاملوا نبيهم بمثل ما عامل به بنو إسرائيل من الإيذاء و ليس المراد مطلق الإيذاء بقول أو فعل و إن كان منهيا عنه بل قوله: "فبرأه الله" يشهد بأنه كان إيذاء من قبيل التهمة و الافتراء المحوج في رفعه إلى التبرئة و التنزيه.

و لعل السكوت عن ذكر ما آذوا به موسى (عليه السلام) يؤيد ما ورد في الحديث أنهم قالوا: ليس لموسى ما للرجال فبرأه الله من قولهم و سيوافيك.

و أوجه ما قيل في إيذائهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه إشارة إلى قصة زيد و زينب، و إن يكن كذلك فمن إيذائه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما في كثير من روايات القصة من سردها على نحو لا يناسب ساحة قدسه.



و قوله: "و كان عند الله وجيها" أي ذا جاه و منزلة و الجملة مضافا إلى اشتمالها على التبرئة إجمالا تعلل تبرئته تعالى له و للآية و ما بعدها نوع اتصال بالآيات الناهية عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا"، السديد من السداد و هو الإصابة و الرشاد فالسديد من القول ما يجتمع فيه مطابقة الواقع و عدم كونه لغوا أو ذا فائدة غير مشروعة كالنميمة و غير ذلك فعلى المؤمن أن يختبر صدق ما يتكلم به و أن لا يكون لغوا أو يفسد به إصلاح.

قوله تعالى: "يصلح لكم أعمالكم و يغفر لكم ذنوبكم و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما" رتب على ملازمة القول السديد إصلاح الأعمال و مغفرة الذنوب و ذلك أن النفس إذا لازمت القول السديد انقطعت عن كذب القول و لغو الحديث و الكلام الذي يترتب عليه فساد، و برسوخ هذه الصفة فيها تنقطع طبعا عن الفحشاء و المنكر و اللغو في الفعل و عند ذلك يصلح أعمال الإنسان فيندم بالطبع على ما ضيعه من عمره في موبقات الذنوب إن كان قد ابتلي بشيء من ذلك و كفى بالندم توبة.

و يحفظه الله فيما بقي من عمره عن اقتحام المهلكات و إن رام شيئا من صغائر الذنوب غفر الله له فقد قال الله تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم": النساء: 31، فملازمة القول السديد تسوق الإنسان إلى صلاح الأعمال و مغفرة الذنوب بإذن الله.

و قوله: "و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما" وعد جميل على الإتيان بجميع الأعمال الصالحة و الاجتناب عن جميع المناهي بترتيب الفوز العظيم على طاعة الله و رسوله.

و بذلك تختتم السورة في معناها في الحقيقة لأن طاعة الله و رسوله هي الكلمة الجامعة بين جميع الأحكام السابقة، من واجبات و محرمات و الآيتان التاليتان كالمتمم لمعنى هذه الآية.

قوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا - إلى قوله - غفورا رحيما" الأمانة - أيا ما كانت - شيء يودع عند الغير ليحتفظ عليه ثم يرده إلى من أودعه، فهذه الأمانة المذكورة في الآية شيء ائتمن الله الإنسان عليه ليحفظ على سلامته و استقامته ثم يرده إليه سبحانه كما أودعه.

و يستفاد من قوله: "ليعذب الله المنافقين و المنافقات" إلخ، أنه أمر يترتب على حمله النفاق و الشرك و الإيمان، فينقسم حاملوه باختلاف كيفية حملهم إلى منافق و مشرك و مؤمن.

فهو لا محالة أمر مرتبط بالدين الحق الذي يحصل بالتلبس به و عدم التلبس به النفاق و الشرك و الإيمان.

فهل هو الاعتقاد الحق و الشهادة على توحده تعالى أو مجموع الاعتقاد و العمل بمعنى أخذ الدين الحق بتفاصيله مع الغض عن العمل به، أو التلبس بالعمل به أو الكمال الحاصل للإنسان من جهة التلبس بواحد من هذه الأمور.

و ليست هي الأول أعني التوحيد فإن السماوات و الأرض و غيرهما من شيء توحده تعالى و تسبح بحمده، و قد قال تعالى: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده": إسراء: 44، و الآية تصرح بإبائها عنه.



و ليست هي الثاني أعني الدين الحق بتفاصيله فإن الآية تصرح بحمل الإنسان كائنا من كان من مؤمن و غيره له و من البين أن أكثر من لا يؤمن لا يحمله و لا علم له به، و بهذا يظهر أنها ليست بالثالث و هو التلبس بالعمل بالدين الحق تفصيلا.

و ليست هي الكمال الحاصل له بالتلبس بالتوحيد فإن السماوات و الأرض و غيرهما ناطقة بالتوحيد فعلا متلبسة به.

و ليست هي الكمال الحاصل من أخذ دين الحق و العلم به إذ لا يترتب على نفس الاعتقاد الحق و العلم بالتكاليف الدينية نفاق و لا شرك و لا إيمان و لا يستعقب سعادة و لا شقاء و إنما يترتب الأثر على الالتزام بالاعتقاد الحق و التلبس بالعمل.

فبقي أنها الكمال الحاصل له من جهة التلبس بالاعتقاد و العمل الصالح و سلوك سبيل الكمال بالارتقاء من حضيض المادة إلى أوج الإخلاص الذي هو أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره فيتولى هو سبحانه تدبير أمره و هو الولاية الإلهية.

فالمراد بالأمانة الولاية الإلهية و بعرضها على هذه الأشياء اعتبارها مقيسة إليها و المراد بحملها و الإباء عنه وجود استعدادها و صلاحية التلبس بها و عدمه، و هذا المعنى هو القابل لأن ينطبق على الآية فالسماوات و الأرض و الجبال على ما فيها من العظمة و الشدة و القوة فاقدة لاستعداد حصولها فيها و هو المراد بإبائهن عن حملها و إشفاقهن منها.

لكن الإنسان الظلوم الجهول لم يأب و لم يشفق من ثقلها و عظم خطرها فحملها على ما بها من الثقل و عظم الخطر فتعقب ذلك أن انقسم الإنسان من جهة حفظ الأمانة و عدمه بالخيانة إلى منافق و مشرك و مؤمن بخلاف السماوات و الأرض و الجبال فما منها إلا مؤمن مطيع.

فإن قلت: ما بال الحكيم العليم حمل على هذا المخلوق الظلوم الجهول حملا لا يتحمله لثقله و عظم خطره السماوات و الأرض و الجبال على عظمتها و شدتها و قوتها و هو يعلم أنه أضعف من أن يطيق حمله و إنما حمله على قبولها ظلمه و جهله و أجرأه عليه غروره و غفلته عن عواقب الأمور فما تحميله الأمانة باستدعائه لها ظلما و جهلا إلا كتقليد مجنون ولاية عامة يأبى قبولها العقلاء و يشفقون منها يستدعيها المجنون لفساد عقله و عدم استقامة فكره.

قلت: الظلم و الجهل في الإنسان و إن كانا بوجه ملاك اللوم و العتاب فهما بعينهما مصحح حمله الأمانة و الولاية الإلهية فإن الظلم و الجهل إنما يتصف بهما من كان من شأنه الاتصاف بالعدل و العلم فالجبال مثلا لا تتصف بالظلم و الجهل فلا يقال: جبل ظالم أو جاهل لعدم صحة اتصافه بالعدل و العلم و كذلك السماوات و الأرض لا يحمل عليها الظلم و الجهل لعدم صحة اتصافها بالعدل و العلم بخلاف الإنسان.

و الأمانة المذكورة في الآية و هي الولاية الإلهية و كمال صفة العبودية إنما تتحصل بالعلم بالله و العمل الصالح الذي هو العدل و إنما يتصف بهذين الوصفين أعني العلم و العدل الموضوع القابل للجهل و الظلم فكون الإنسان في حد نفسه و بحسب طبعه ظلوما جهولا هو المصحح لحمل الأمانة الإلهية فافهم ذلك.

فمعنى الآيتين يناظر بوجه معنى قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون": التين: 6.



فقوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة" أي الولاية الإلهية و الاستكمال بحقائق الدين الحق علما و عملا و عرضها هو اعتبارها مقيسة إلى هذه الأشياء.

و قوله: "على السماوات و الأرض و الجبال" أي هذه المخلوقات العظيمة التي خلقها أعظم من خلق الإنسان كما قال: "لخلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس": المؤمن: 57، و قوله: "فأبين أن يحملنها و أشفقن منها" إباؤها عن حملها و إشفاقها منها عدم اشتمالها على صلاحية التلبس و تجافيها عن قبولها و في التعبير بالحمل إيماء إلى أنها ثقيلة ثقلا لا يحتملها السماوات و الأرض و الجبال.

و قوله: "و حملها الإنسان" أي اشتمل على صلاحيتها و التهيؤ للتلبس بها على ضعفه و صغر حجمه "إنه كان ظلوما جهولا" أي ظالما لنفسه جاهلا بما تعقبه هذه الأمانة لو خانها من وخيم العاقبة و الهلاك الدائم.

و بمعنى أدق لكون الإنسان خاليا بحسب نفسه عن العدل و العلم قابلا للتلبس بما يفاض عليه من ذلك و الارتقاء من حضيض الظلم و الجهل إلى أوج العدل و العلم.

و الظلوم و الجهول وصفان من الظلم و الجهل معناهما من كان من شأنه الظلم و الجهل نظير قولنا: فرس شموس و دابة جموح و ماء طهور أي من شأنها ذلك كما قاله الرازي أو معناهما المبالغة في الظلم و الجهل كما ذكر غيره، و المعنى مستقيم كيفما كانا.

و قوله: "ليعذب الله المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات" اللام للغاية أي كانت عاقبة هذا الحمل أن يعذب الله المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات و ذلك أن الخائن للأمانة يتظاهر في الأغلب بالصلاح و الأمانة و هو النفاق و قليلا ما يتظاهر بالخيانة لها و لعل اعتبار هذا المعنى هو الموجب لتقديم المنافقين و المنافقات في الآية على المشركين و المشركات.

و قوله: "و يتوب الله على المؤمنين و المؤمنات و كان الله غفورا رحيما" عطف على "يعذب" أي و كان عاقبة ذلك أن يتوب الله على المؤمنين و المؤمنات، و التوبة من الله هي رجوعه إلى عبده بالرحمة فيرجع إلى الإنسان إذا آمن به و لم يخن بالرحمة و يتولى أمره و هو ولي المؤمنين فيهديه إليه بالستر على ظلمه و جهله و تحليته بالعلم النافع و العمل الصالح لأنه غفور رحيم.

فإن قلت: ما هو المانع من جعل الأمانة بمعنى التكليف و هو الدين الحق و كون الحمل بمعنى الاستعداد و الصلاحية و الإباء هو فقده و العرض هو اعتبار القياس فيجري فيه حينئذ جميع ما تقدم في بيان الانطباق على الآية.

قلت: نعم لكن التكليف إنما هو مطلوب لكونه مقدمة لحصول الولاية الإلهية و تحقق صفة العبودية الكاملة فهي المعروضة بالحقيقة و المطلوبة لنفسها.

و الالتفات في قوله: "ليعذب الله" من التكلم إلى الغيبة و الإتيان باسم الجلالة للدلالة على أن عواقب الأمور إلى الله سبحانه لأنه الله.

و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: "و يتوب الله على المؤمنين و المؤمنات" للإشعار بكمال العناية في حقهم و الاهتمام بأمرهم.



و لهم في تفسير الأمانة المذكورة في الآية أقوال مختلفة: فقيل: المراد بها التكاليف الموجبة طاعتها دخول الجنة و معصيتها دخول النار و المراد بعرضها على السماوات و الأرض و الجبال اعتبارها بالنسبة إلى استعدادها و إباؤهن عن حملها و إشفاقهن منها عدم استعدادهن لها، و حمل الإنسان لها استعداده، و الكلام جار مجرى التمثيل.

و قيل: المراد بها العقل الذي هو ملاك التكليف و مناط الثواب و العقاب.

و قيل: هي قول لا إله إلا الله.

و قيل: هي الأعضاء فالعين أمانة من الله يجب حفظها و عدم استعمالها إلا فيما يرتضيه الله تعالى، و كذلك السمع و اليد و الرجل و الفرج و اللسان.

و قيل: المراد بها أمانات الناس و الوفاء بالعهود.

و قيل: المراد بها معرفة الله بما فيها و هذا أقرب الأقوال من الحق يرجع بتقريب ما إلى ما قدمنا.

و كذلك اختلف في معنى عرض الأمانة عليها على أقوال: منها: أن العرض بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالسماوات و الأرض و الجبال أهلها فعرضت على أهل السماء من الملائكة و بين لهم أن في خيانتها الإثم العظيم فأبوها و خافوا حملها و عرض على الإنسان فلم يمتنع.

و منها: أنه بمعناه الحقيقي و ذلك أن الله لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما و قال لها: إني فرضت فريضة و خلقت جنة لمن أطاعني فيها و نارا لمن عصاني فيها فقلن: نحن مسخرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة و لا نبغي ثوابا و لا عقابا و لما خلق آدم عرض عليه ذلك فاحتمله و كان ظلوما لنفسه جهولا بوخامة عاقبته.

و منها: أن المراد بالعرض المعارضة و المقابلة، و محصل الكلام أنا قابلنا بهذه الأمانة السماوات و الأرض و الجبال فكانت هذه أرجح و أثقل منها.

و منها أن الكلام جار مجرى الفرض و التقدير و المعنى: أنا لو قدرنا أن السماوات و الأرض و الجبال فهما، و عرضنا عليها هذه الأمانة لأبين حملها و أشفقن منها لكن الإنسان تحملها.

و بالمراجعة إلى ما قدمناه يظهر ما في كل من هذه الأقوال من جهات الضعف و الوهن فلا تغفل.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و لا يلعن الله مؤمنا قال الله عز و جل: "إن الله لعن الكافرين و أعد لهم سعيرا - خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا و لا نصيرا".

و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن بني إسرائيل كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرجال، و كان موسى إذا أراد الاغتسال ذهب إلى موضع لا يراه فيه أحد فكان يوما يغتسل على شط نهر و قد وضع ثيابه على صخرة فأمر الله الصخرة فتباعدت عنه حتى نظر بنو إسرائيل إليه فعلموا أن ليس كما قالوا فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى" الآية. و في المجمع،: و اختلفوا فيما أوذي به موسى على أقوال: أحدها: أن موسى و هارون صعدا الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته فأمر الله الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل و تكلمت الملائكة بموته حتى عرفوا أنه قد مات و برأه الله من ذلك عن علي و ابن عباس. و ثانيها: أن موسى كان حييا ستيرا يغتسل وحده فقالوا: ما يستتر منا إلا لعيب في جلده إما برص و أما أدرة فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر فمر الحجر بثوبه فطلبه موسى فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا فبرأه الله مما قالوا. رواه أبو هريرة مرفوعا.



أقول: و روى الرواية الأولى في الدر المنثور، أيضا عن ابن مسعود و الثانية أيضا عن أنس و ابن عباس.

و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال: ما جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا المنبر قط إلا تلا هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا". أقول: و روي ما يقرب منه أيضا عن عائشة و أبي موسى الأشعري و عروة.

و في نهج البلاغة،: ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها إنها عرضت على السماوات المبنية و الأرض المدحوة و الجبال ذات الطول المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها و لو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عز لأمتنعن و لكن أشفقن من العقوبة، و عقلن ما جهل من هو أضعف منهن و هو الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "إنا عرضنا الأمانة" الآية، قال: هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).

أقول: المراد بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ما كان هو أول فاتح لبابه من هذه الأمة و هو كون الإنسان، بحيث يتولى الله سبحانه أمره بمجاهدته فيه بإخلاص العبودية له دون الولاية بمعنى المحبة أو بمعنى الإمامة و إن كان ظاهر بعض الروايات ذلك بنوع من الجري و الانطباق.

34 سورة سبأ - 1 - 9

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الحَْمْدُ للّهِ الّذِى لَهُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ لَهُ الحَْمْدُ فى الاَخِرَةِ وَ هُوَ الحَْكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فى الأَرْضِ وَ مَا يخْرُجُ مِنهَا وَ مَا يَنزِلُ مِنَ السمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ الرّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَ قَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا الساعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبى لَتَأْتِيَنّكمْ عَلِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُب عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فى السمَوَتِ وَ لا فى الأَرْضِ وَ لا أَصغَرُ مِن ذَلِك وَ لا أَكبرُ إِلا فى كتَبٍ مّبِينٍ (3) لِّيَجْزِى الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ أُولَئك لهَُم مّغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كرِيمٌ (4) وَ الّذِينَ سعَوْ فى ءَايَتِنَا مُعَجِزِينَ أُولَئك لهَُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَ يَرَى الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الّذِى أُنزِلَ إِلَيْك مِن رّبِّك هُوَ الْحَقّ وَ يَهْدِى إِلى صِرَطِ الْعَزِيزِ الحَْمِيدِ (6) وَ قَالَ الّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلّكمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كلّ مُمَزّقٍ إِنّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْترَى عَلى اللّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنّةُ بَلِ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ فى الْعَذَابِ وَ الضلَلِ الْبَعِيدِ (8) أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَينَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُم مِّنَ السمَاءِ وَ الأَرْضِ إِن نّشأْ نخْسِف بِهِمُ الأَرْض أَوْ نُسقِط عَلَيهِمْ كِسفاً مِّنَ السمَاءِ إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّكلِّ عَبْدٍ مّنِيبٍ (9)

بيان

تتكلم السورة حول الأصول الثلاثة أعني الوحدانية و النبوة و البعث فتذكرها و تذكر ما لمنكريها من الاعتراض فيها و الشبه التي ألقوها ثم تدفعها بوجوه الدفع من حكمة و موعظة و مجادلة حسنة و تهتم ببيان أمر البعث أكثر من غيره فتذكره في مفتتح الكلام ثم تعود إليه عودة بعد عودة إلى مختتمه.

و هي مكية بشهادة مقاصد آياتها على ذلك.

قوله تعالى: "الحمد لله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض" إلخ، المطلوب بيان البعث و الجزاء بيانا لا يعتريه شك بالإشارة إلى الحجة التي ينقطع بها الخصم و الأساس الذي يقوم عليه ذلك أمران أحدهما عموم ملكه تعالى لكل شيء من كل جهة حتى يصح له أي تصرف أراد فيها من إبداء و رزق و إماتة و إحياء بالإعادة و جزاء، و ثانيهما كمال علمه تعالى بالأشياء من جميع جهاتها علما لا يطرأ عليه عزوب و زوال حتى يعيد كل من أراد و يجزيه على ما علم من أعماله خيرا أو شرا.

و قد أشير إلى أول الأمرين في الآية الأولى التي نحن فيها و إلى الثانية في الآية الثانية و بذلك يظهر أن الآيتين تمهيد لما في الآية الثالثة و الرابعة.

فقوله: "الحمد لله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض" ثناء عليه على ملكه المنبسط على كل شيء بحيث له أن يتصرف في كل شيء بما شاء و أراد.

و قوله: "و له الحمد في الآخرة" تخصيص الحمد بالآخرة لما أن الجملة الأولى تتضمن الحمد في الدنيا فإن النظام المشهود في السماوات و الأرض نظام دنيوي كما يشهد به قوله تعالى: "يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات": إبراهيم: 48. و قوله: "و هو الحكيم الخبير" ختم الآية بالاسمين الكريمين للدلالة على أن تصرفه في نظام الدنيا ثم تعقيبه بنظام الآخرة مبني على الحكمة و الخبرة فبحكمته عقب الدنيا بالآخرة و إلا لغت الخلقة و بطلت و لم يتميز المحسن من المسيء كما قال: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا - إلى أن قال - أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار": ص: 28، و بخبرته يحشرهم و لا يغادر منهم أحدا و يجزي كل نفس بما كسبت.

و الخبير من أسماء الله الحسنى مأخوذة من الخبرة و هي العلم بالجزئيات فهو أخص من العليم.

قوله تعالى: "يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء و ما يعرج فيها" الولوج مقابل الخروج و العروج مقابل النزول و كان العلم بالولوج و الخروج و النزول و العروج كناية عن علمه بحركة كل متحرك و فعله و اختتام الآية بقوله: "و هو الرحيم الغفور" كان فيه إشارة إلى أن له رحمة ثابتة و مغفرة ستصيب قوما بإيمانهم.

قوله تعالى: "و قال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى و ربي لتأتينكم عالم الغيب" إلخ، يذكر إنكارهم لإتيان الساعة و هي يوم القيامة و هم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه و علمه بكل شيء و لا مورد للارتياب في إتيانها مع ذلك كما تقدم فضلا عن إنكار إتيانها و لذلك أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عن قولهم بقوله: "قل بلى و ربي لتأتينكم" أي الساعة.



و لما كان السبب العمدة في إنكارهم هو اختلاط الأشياء و منها أبدان الأموات بعضها ببعض و تبدل صورها تبدلا بعد تبدل بحيث لا خبر عن أعيانها فيمتنع إعادتها من دون تميز بعضها من بعض أشار إلى دفع ذلك بقوله: "عالم الغيب لا يعزب" أي لا يفوت "عن علمه مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض".

و قوله: "و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين" تعميم لعلمه لكل شيء و فيه مع ذلك إشارة إلى أن للأشياء كائنة ما كانت ثبوتا في كتاب مبين لا تتغير و لا تتبدل و إن زالت رسومها عن صفحة الكون و قد تقدم بعض الكلام في الكتاب المبين في سورة الأنعام و غيرها.

قوله تعالى: "ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة و رزق كريم" اللام في "ليجزي" للتعليل و هو متعلق بقوله: "لتأتينكم" و في قوله: "لهم مغفرة و رزق كريم" نوع محاذاة لقوله السابق: "و هو الرحيم الغفور".

و في الآية بيان أحد السببين لقيام الساعة و هو أن يجزي الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالمغفرة و الرزق الكريم و هو الجنة بما فيها و السبب الأخير ما يشير إليه قوله: "و الذين سعوا في آياتنا معاجزين" إلخ.

قوله تعالى: "و الذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم" السعي الجد في المشي و المعاجزة المبالغة في الإعجاز و قيل: المسابقة و الكلام مبني على الاستعارة بالكناية كان الآيات مسافة يسيرون فيها سيرا حثيثا ليعجزوا الله و يسبقوه و الرجز كالرجس القذر و لعل المراد به العمل السيىء فيكون إشارة إلى تبدل العمل عذابا أليما عليهم أو سببا لعذابهم، و قيل: الرجز هو سيء العذاب.

و في الآية تعريض للكفار الذين يصرون على إنكار البعث.

قوله تعالى: "و يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق" الموصول الأول فاعل يرى و الموصول الثاني مفعوله الأول و الحق مفعوله الثاني و المراد بالذين أوتوا العلم العلماء بالله و بآياته، و بالذي أنزل إليه القرآن النازل إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و جملة "و يرى" إلخ، استئناف متعرض لقوله السابق: "و قال الذين كفروا" أو حال من فاعل كفروا، و المعنى: أولئك يقولون: لا تأتينا الساعة و ينكرونه جهلا، و العلماء بالله و آياته يرون أن هذا القرآن النازل إليك المخبر بأن الساعة آتية هو الحق.

و قوله: "و يهدي إلى صراط العزيز الحميد" معطوف على الحق أي و يرون القرآن يهدي إلى صراط من هو عزيز لا يغلب على ما يريد محمود يثنى على جميع أفعاله لأنه لا يفعل مع عزته إلا الجميل و هو الله سبحانه، و في التوصيف بالعزيز الحميد مقابلة لما وصفهم به في قوله: "الذين سعوا في آياتنا معاجزين".

قوله تعالى: "و قال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد" كلام منهم وارد مورد الاستهزاء يعرفون فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعضهم لبعض بالقول بالمعاد.

و التمزيق التقطيع و التفريق، و كونهم في خلق جديد استقرارهم فيه أي تجديد خلقتهم بإحيائهم بعد موتهم و وجودهم ثانيا بعد عدمهم، و قوله: "إذا مزقتم" ظرف لقوله: "إنكم لفي خلق جديد".



و المعنى: و قال الذين كفروا بعضهم لبعض على طريق الاستهزاء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لإنذاره إياهم بالبعث و الجزاء: هل ندلكم على رجل و المراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينبئكم و يخبركم أنكم ستستقرون في خلق جديد و يتجدد لكم الوجود إذا فرقت أبدانكم كل التفريق و قطعت بحيث لا يتميز شيء منها من شيء.

قوله تعالى: "افترى على الله كذبا أم به جنة" إلخ، الاستفهام للتعجيب فإن القول ببعث الأجساد بعد فنائها عجيب عندهم لا يقول به عاقل إلا لتلبيس الأمر على الناس و إضلالهم لينال بعض ما عندهم و إلا فكيف يلتبس فيه الأمر على عاقل، و لهذا رددوا الأمر بين الافتراء و الجنة في الاستفهام و المعنى: أ هو عاقل يكذب على الله افتراء عليه بالقول بالبعث أم به نوع جنون يتفوه بما بدا له من غير فكر مستقيم.

و قوله: "بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب و الضلال البعيد" رد لقولهم و إضراب عن الترديد الذي أتوا به مستفهمين، و محصله أن ذلك ليس افتراء على الله و لا جنون فيه بل هؤلاء الكفار مستقرون في عذاب سيظهر لهم و قد أبعدهم ذلك عن الحق فكانوا في ضلال بعيد لا يسعهم مع ذلك أن يعقلوا الحق و يذعنوا به.

و وضع الموصول موضع الضمير في قوله: "بل الذين لا يؤمنون بالآخرة" للدلالة على أن علة وقوعهم فيما وقعوا فيه من العذاب و الضلال عدم إيمانهم بالآخرة.

قوله تعالى: "أ فلم يروا إلى ما بين أيديهم و ما خلفهم من السماء و الأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء" إلخ، وعظ و إنذار لهم باستعظام ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات الله و الاستهزاء برسوله فالمراد بقوله: "ما بين أيديهم و ما خلفهم من السماء و الأرض" إحاطة السماء و الأرض بهم من بين أيديهم و من خلفهم فأينما نظروا وجدوا سماء تظلهم و أرضا تقلهم لا مفر لهم منهما.

و قوله: "إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء" أي إذ أحاط بهم الأرض و السماء و هما مدبرتان بتدبيرنا منقادتان مسخرتان لنا أن نشأ نخسف بهم الأرض فنهلكهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء فنهلكهم فما لهم لا ينتهون عن هذه الأقاويل؟.

و قوله: "إن في ذلك لآية لكل عبد منيب"، أي فيما ذكر من إحاطة السماء و الأرض و كونهما مدبرتين لله سبحانه أن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفا من السماء لآية لكل عبد منيب، راجع إلى ربه بالطاعة، فهؤلاء لا يستهينون بهذه الأمور و لا يجترءون على تكذيب هذه الآيات إلا لكونهم مستكبرين عاتين لا يريدون إنابة إلى ربهم و رجوعا إلى طاعته.
<<        الفهرس        >>