جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج16 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


34 سورة سبأ - 10 - 21

وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ مِنّا فَضلاً يَجِبَالُ أَوِّبى مَعَهُ وَ الطيرَ وَ أَلَنّا لَهُ الحَْدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سبِغَتٍ وَ قَدِّرْ فى السرْدِ وَ اعْمَلُوا صلِحاً إِنى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَ لِسلَيْمَنَ الرِّيحَ غُدُوّهَا شهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شهْرٌ وَ أَسلْنَا لَهُ عَينَ الْقِطرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَينَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَن يَزِغْ مِنهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِن محَرِيب وَ تَمَثِيلَ وَ جِفَانٍ كالجَْوَابِ وَ قُدُورٍ رّاسِيَتٍ اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شكْراً وَ قَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِى الشكُورُ (13) فَلَمّا قَضيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْت مَا دَلهُّمْ عَلى مَوْتِهِ إِلا دَابّةُ الأَرْضِ تَأْكلُ مِنسأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِْنّ أَن لّوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فى الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كانَ لِسبَإٍ فى مَسكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَ شِمَالٍ كلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طيِّبَةٌ وَ رَبّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضوا فَأَرْسلْنَا عَلَيهِمْ سيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدّلْنَهُم بجَنّتَيهِمْ جَنّتَينِ ذَوَاتىْ أُكلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِك جَزَيْنَهُم بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نجَزِى إِلا الْكَفُورَ (17) وَ جَعَلْنَا بَيْنهُمْ وَ بَينَ الْقُرَى الّتى بَرَكنَا فِيهَا قُرًى ظهِرَةً وَ قَدّرْنَا فِيهَا السيرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالىَ وَ أَيّاماً ءَامِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبّنَا بَعِدْ بَينَ أَسفَارِنَا وَ ظلَمُوا أَنفُسهُمْ فَجَعَلْنَهُمْ أَحَادِيث وَ مَزّقْنَهُمْ كلّ مُمَزّقٍ إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لِّكلِّ صبّارٍ شكُورٍ (19) وَ لَقَدْ صدّقَ عَلَيهِمْ إِبْلِيس ظنّهُ فَاتّبَعُوهُ إِلا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَ مَا كانَ لَهُ عَلَيهِم مِّن سلْطنٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاَخِرَةِ مِمّنْ هُوَ مِنْهَا فى شكٍ وَ رَبّك عَلى كلِّ شىْءٍ حَفِيظٌ (21)

بيان

تشير الآيات إلى نبذة من قصص داود و سليمان إذ آتاهما الله من فضله إذ أنعم على داود بتسخير الجبال و الطير معه و تليين الحديد له، و سخر لسليمان الريح غدوها شهر و رواحها شهر و سخر الجن يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و غيرها و أمرهما بالعمل الصالح شكرا و كانا عبدين شكورين.

ثم إلى قصة سبإ حيث أنعم عليهم بجنتين عن اليمين و الشمال ليعيشوا فيها عيشا رغدا فكفروا بالنعمة و أعرضوا عن الشكر فأرسل عليهم سيل العرم و بدل جنتيهم جنتين دون ذلك و قد كان عمر بلادهم فكفروا فجعلهم أحاديث و مزقهم كل ممزق، كل ذلك لكفرهم النعمة و إعراضهم عن الشكر و لا يجازى إلا الكفور.

وجه اتصال القصص على ما تقدم من حديث البعث أن الله هو المدبر لأمور عباده و هم مغمورون في أنواع نعمه و للمنعم على المنعم عليه الشكر على نعمته و عليه أن يميز بين الشاكرين لنعمته و الكافر بها و إذ لا ميز في هذه النشأة فهناك نشأة أخرى يتميز فيها الفريقان فالبعث لا مفر عنه.

قوله تعالى: "و لقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه و الطير و ألنا له الحديد" الفضل العطية و التأويب الترجيع من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به ترجيع الصوت بالتسبيح بدليل قوله فيه في موضع آخر: "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي و الإشراق و الطير محشورة كل له أواب": ص: 19. و الطير معطوف على محل الجبال و منه يظهر فساد قول بعضهم: إن الأوب بمعنى السير و أن الجبال كانت تسير معه حيثما سار.

و قوله: "يا جبال أوبي معه و الطير" بيان للفضل الذي أوتي داود و قد وضع فيه الخطاب الذي خوطبت به الجبال و الطير فسخرتا به موضع نفس التسخير الذي هو العطية و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبب و المعنى: سخرنا الجبال له تئوب معه و الطير، و هذا هو المتحصل من تسخير الجبال و الطير له كما يشير إليه قوله: "إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي و الإشراق و الطير محشورة كل له أواب": ص: 19. و قوله: "و ألنا له الحديد" أي و جعلناه لينا له على ما به من الصلابة.

قوله تعالى: "أن اعمل سابغات و قدر في السرد" إلخ، السابغات جمع سابغة و هي الدرع الواسعة، و السرد نسج الدرع، و تقديره الاقتصاد فيه بحيث تتناسب حلقه أي اعمل دروعا واسعة و أجعلها متناسبة الحلق، و جملة "أن اعمل" إلخ، نوع تفسير لا لأنه الحديد له.

و قوله: "و اعملوا صالحا إني بما تعملون بصير" معنى الجملة في نفسها ظاهر و هي لوقوعها في سياق بيان إيتاء الفضل و عد النعم تفيد معنى الأمر بالشكر كأنه قيل: و قلنا اشكر النعم أنت و قومك بالعمل الصالح.

قوله تعالى: "و لسليمان الريح غدوها شهر و رواحها شهر" إلخ، أي و سخرنا لسليمان الريح مسير غدو تلك الريح - و هو أول النهار إلى الظهر - مسير شهر و رواح تلك الريح - و هو من الظهر إلى آخر النهار - مسير شهر أي أنها تسير في يوم مسير شهرين.

و قوله: "و أسلنا له عين القطر" الإسالة إفعال من السيلان بمعنى الجريان و القطر النحاس أي و أذبنا له القطر فسالت كالعين الجارية.



قوله: "و من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه"، أي و جمع من الجن - بدليل قوله بعد: "يعملون له" - يعمل بين يديه بإذن ربه مسخرين له "و من يزغ" أي ينحرف "عن أمرنا" و لم يطع سليمان "نذقه من عذاب السعير" ظاهر السياق أن المراد به عذاب النار في الدنيا دون الآخرة، و في لفظ الآية دلالة على أن المسخر له كان بعض الجن لا جميعهم.

قوله تعالى: "يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و جفان كالجواب و قدور راسيات" إلخ، المحاريب جمع محراب و هو مكان إقامة الصلاة و العبادة، و التماثيل جمع تمثال و هي الصورة المجسمة من الشيء و الجفان جمع جفنة و هي صحفة الطعام، و الجوابي جمع جابية الحوض الذي يجبى أي يجمع فيه الماء، و القدور جمع قدر و هو ما يطبخ فيه الطعام، و الراسيات الثابتات و المراد بكون القدور راسيات كونها ثابتات في أمكنتها لا يزلن عنها لعظمها.

و قوله: "اعملوا آل داود شكرا" خطاب لسليمان و سائر من معه من آل داود أن يعملوا و يعبدوا الله شكرا له، و قوله: "و قليل من عبادي الشكور" أي الشاكر لله شكرا بعد شكر و الجملة إما في مقام ترفيع مقام أهل الشكر بأن المتمكنين في هذا المقام قليلون و هم الأوحديون من الناس، و إما في مقام التعليل كأنه قيل: إنهم قليل فكثروا عدتهم.

قوله تعالى: "فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته" المراد بدابة الأرض الأرضة على ما وردت به الروايات و المنسأة العصا و قوله: "فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين" الخرور السقوط على الأرض.

و يستفاد من السياق أنه (عليه السلام) لما قبض كان متكئا على عصاه فبقي على تلك الحال قائما متكئا على عصاه زمانا لا يعلم بموته إنس و لا جن فبعث الله عز و جل أرضة فأخذت في أكل منسأته حتى إذا أكلت انكسرت العصا و سقط سليمان على الأرض فعلموا عند ذلك بموته و تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان المستور عنهم و ما لبثوا هذا المقدار من الزمان - و هو من حين قبضه إلى خروره - في العذاب المهين المذل لهم.

قوله تعالى: "لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين و شمال" إلخ، سبأ العرب العاربة باليمن سموا - كما قيل - باسم أبيهم سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و قوله: "عن يمين و شمال" أي عن يمين مسكنهم و شماله.

و قوله: "كلوا من رزق ربكم" أمر بالأكل من جنتين و هو كناية عن رزقهم منهما، ثم بالشكر له على نعمته و رزقه، و قوله: "بلدة طيبة و رب غفور" أي بلدة ملائمة صالحة للمقام و رب كثير الغفران لا يؤاخذكم بسيئاتكم.

قوله تعالى: "فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم و بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط و أثل و شيء من سدر قليل" العرم المسناة التي تحبس الماء، و قيل: المطر الشديد و قيل غير ذلك، و الأكل بضمتين كل ثمرة مأكولة، و الخمط - على ما قيل - كل نبت أخذ طعما من المرارة، و الأثل الطرفاء و قيل: شجر يشبهها أعظم منها لا ثمرة له، و السدر معروف، و الأثل و شيء معطوفان على "أكل" لا على خمط.

و المعنى: فأعرضوا أي قوم سبإ عن الشكر الذي أمروا به فجازيناهم و أرسلنا عليهم سيل العرم فأغرق بلادهم و ذهب بجنتيهم و بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي ثمرة مرة و ذواتي طرفاء و شيء قليل من السدر.



قوله تعالى: "ذلك جزيناهم بما كفروا و هل نجازي إلا الكفور" "ذلك" إشارة إلى ما ذكر من إرسال السيل و تبديل الجنتين و محله النصب مفعولا ثانيا لجزيناهم و الفرق بين الجزاء و المجازاة - كما قيل إن المجازاة لا تستعمل إلا في الشر و الجزاء أعم.

و المعنى: جزينا سبأ ذلك الجزاء بسبب كفرهم و إعراضهم عن الشكر - أو في مقابلة ذلك - و لا نجازي بالسوء إلا من كان كثير الكفران لأنعم الله.

قوله تعالى: "و جعلنا بينهم و بين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة" إلخ، ضمير "بينهم" لسبإ و الكلام مسوق لبيان تتمة قصتهم المطلوب ذكرها و هو عطف على قوله: "كان لسبإ" و المراد بالقرى التي باركنا فيها القرى الشامية، و المراد بكون القرى ظاهرة كونها متقاربة يرى بعضها من بعض.

و قوله: "و قدرنا فيها السير" أي جعلنا السير فيها على نسبة مقدرة متناسبة غير مختلفة فالنسبة بين واحدة منها و ما يليها كالنسبة بين ما يليها و ما يليه، و قوله: "سيروا فيها ليالي و أياما آمنين" على تقدير القول أي و قلنا: سيروا في هذه القرى على أمن إن شئتم ليالي و إن شئتم أياما، و المراد قررنا فيها الأمن يسيرون فيها متى ما شاءوا من غير خوف و قلق.

قوله تعالى: "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا و ظلموا أنفسهم" إلخ، أي أنعمنا عليهم ما أنعمنا من وفور الفواكه و قرب المنازل و أمن الطرق و سهولة السير و رغد العيش فملوا ذلك و سئموه و قالوا: ربنا باعد بين أسفارنا أي اجعل أسفارنا ذوات مسافات بعيدة نركب فيها الرواحل و نقطع المفاوز و البوادي و هذا بغي منهم و كفران كما طلبت بنو إسرائيل الثوم و البصل مكان المن و السلوى.

و بالجملة أتم الله نعمه عليهم في السفر بقرب المنازل و أمن الطرق و وفور النعمة كما أتم نعمه عليهم في الحضر و أراد منهم الشكر على ذلك فكفروا بنعمه في السفر كما كفروا بها في الحضر، فأسرع الله في إسعاف ما اقترحوه فخرب بلادهم و فرق جمعهم و شتت شملهم.

فقوله: "فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا" اقتراح ضمني لتخريب بلادهم، و قوله: "و ظلموا أنفسهم" أي بالمعاصي.

و قوله: "فجعلناهم أحاديث و مزقناهم كل ممزق" أي أزلنا أعيانهم و آثارهم فلم يبق منهم إلا أحاديث يحدث بها فيما يحدث فعادوا أسماء لا مسمى لهم إلا في وهم المتوهم و خيال المتخيل و فرقناهم كل تفرق فلم يبق من أجزاء وجودهم جزآن مجتمعان إلا فرقنا بينهما فصاروا كسدى لا شبح له بعد ما كانوا مجتمعا ذا قوة و شوكة حتى ضرب بهم المثل "تفرقوا أيادي سبإ".

و قوله: "إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" أي في هذا الذي ذكر من قصتهم لآيات لكل من كثر صبره في جنب الله و كثر شكره لنعمه التي لا تحصى يستدل بتلك الآيات على أن على الإنسان أن يعبد ربه شكرا لنعمه و أن وراءه يوما يبعث فيه و يجزى بعمله.

قوله تعالى: "و لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين" أي حقق إبليس عليهم ظنه أو وجد ظنه صادقا عليهم إذ قال لربه: "لأغوينهم و لأضلنهم" "و لا تجد أكثرهم شاكرين"، و قوله: "فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين" بيان لتصديقه ظنه.

و منه يظهر أن ضمير الجمع في "عليهم" هاهنا و كذا في الآية التالية لعامة الناس لا لسبإ خاصة و إن كانت الآية منطبقة عليهم.



قوله تعالى: "و ما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك" ظاهر السياق أن المراد أنهم لم يتبعوه عن سلطان له عليهم يضطرهم إلى اتباعه حتى يكونوا معذورين بل إنما اتبعوه عن سوء اختيارهم فهم يختارون اتباعه فيتسلط عليهم لا أنه يتسلط فيتبعونه، قال تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42، و قال حاكيا عن إبليس يوم القيامة: "و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم": إبراهيم: 22.

و منشأ اتباعهم له ريب و شك في قلوبهم من الآخرة يظهر منهم بظهور أثره الذي هو الاتباع لإبليس، فإذنه سبحانه لإبليس أن يتسلط عليهم من طريق اختيارهم هذا المقدار من التسلط ليمتاز به أهل الشك في الآخرة من أهل الإيمان به و لا يرفع ذلك مسئوليتهم في اتباعه لكونه عن اختيار منهم.

فقوله: "و ما كان له عليهم من سلطان" نفي لكل سلطان، و قوله: "إلا لنعلم" أي لنميز "من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك" استثناء لسلطانه عليهم من طريق اتباعهم له عن اختيار منهم، و قد وضع فيه الغاية موضع ذي الغاية أي التمييز المذكور موضع التسلط من طريق الاتباع الاختياري.

و تقييد الإيمان و الشك بالآخرة في الآية لمكان أن الرادع الوحيد عن المعصية و الداعي إلى الطاعة هو الإيمان بالآخرة دون الإيمان بالله و رسوله لو لا الآخرة كما قال تعالى: "إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب": ص: 26. و قوله: "و ربك على كل شيء حفيظ" أي عالم علما لا يفوته المعلوم بنسيان أو سهو أو غير ذلك و فيه تحذير عن الكفران و المعصية و إنذار لأهل الكفر و المعصية.

بحث روائي

في كمال الدين، بإسناده إلى هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام): في حديث يذكر فيه قصة داود (عليه السلام) قال: إنه خرج يقرأ الزبور و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلا أجابه.

و في تفسير القمي،: قوله عز و جل: "أن اعمل سابغات" قال: الدروع "و قدر في السرد" قال: المسامير التي في الحلقة، و قوله عز و جل: "و لسليمان الريح غدوها شهر و رواحها شهر" قال: كانت الريح تحمل كرسي سليمان فتسير به في الغداة مسيرة شهر و بالعشي مسيرة شهر.

و في الكافي، بإسناده عن داود بن الحصين و عن أبان بن عثمان عن الفضل أبي العباس قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): "يعملون له ما يشاء - من محاريب و تماثيل و جفان كالجواب" قال: ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنها تماثيل الشجر و شبهه.

و فيه، عن بعض أصحابنا مرفوعا عن هشام بن الحكم قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا هشام ثم مدح الله القلة فقال: "و قليل من عبادي الشكور". أقول: و قد وقع هذا المعنى في عدة روايات و هو ينطبق على أحد المعنيين المتقدمين في ذيل الآية.

و في العلل، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أمر سليمان بن داود الجن فصنعوا له قبة من قوارير فبينا هو متكىء على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف ينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبة قال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أقبل الرشا و لا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه و هو قائم متكىء على عصاه في القبة و الجن ينظرون إليه. قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتى بعث الله عز و جل الأرضة فأكلت منسأته و هي العصا، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين الحديث.

أقول: و بقاؤه (عليه السلام) على حال القيام متكئا على عصاه سنة وارد في عدة من روايات الشيعة و أهل السنة.



و في المجمع، في الحديث عن فروة بن مسيك قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبإ أ رجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة و تشاءم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد و كندة و مذحج و الأشعرون و أنمار و حمير فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم و بجيلة. و أما الذين تشاءموا فعاملة و جذام و لخم و غسان: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع و السنن عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد بالتيامن و التشاؤم السكونة باليمن و الشام.

و في الكافي، بإسناده عن سدير قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل. "قالوا ربنا باعد بين أسفارنا و ظلموا أنفسهم" الآية فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض و أنهار جارية و أموال ظاهرة فكفروا نعم الله عز و جل و غيروا ما بأنفسهم من عافية الله فغير الله ما بهم من نعمة و الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرق قراهم و خرب ديارهم و ذهب بأموالهم و أبدلهم مكان جنانهم جنتين ذواتي أكل خمط و أثل و شيء من سدر قليل ثم قال: "ذلك جزيناهم بما كفروا و هل نجازي إلا الكفور".

أقول: و ورد في عدة من الروايات أن القرى التي بارك الله فيها هم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و القرى الظاهرة هم الوسائط بينهم و بين الناس من حملة أحاديثهم و غيرهم، و هو من بطن القرآن و ليس من التفسير في شيء.

34 سورة سبأ - 22 - 30

قُلِ ادْعُوا الّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكونَ مِثْقَالَ ذَرّةٍ فى السمَوَتِ وَ لا فى الأَرْضِ وَ مَا لهَُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَ مَا لَهُ مِنهُم مِّن ظهِيرٍ (22) وَ لا تَنفَعُ الشفَعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُوا الْحَقّ وَ هُوَ الْعَلىّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ قُلِ اللّهُ وَ إِنّا أَوْ إِيّاكمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فى ضلَلٍ مّبِينٍ (24) قُل لا تُسئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنَا وَ لا نُسئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يجْمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونىَ الّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شرَكاءَ َكلا بَلْ هُوَ اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَ مَا أَرْسلْنَك إِلا كافّةً لِّلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لَكِنّ أَكثرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْدُ إِن كنتُمْ صدِقِينَ (29) قُل لّكم مِّيعَادُ يَوْمٍ لا تَستَئْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَستَقْدِمُونَ (30)

بيان

آيات مقررة للتوحيد و احتجاجات حوله.

قوله تعالى: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة" إلى آخر الآية، أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحتج على إبطال ألوهية آلهتهم بعدم قدرتهم على استجابة الدعاء، فقوله: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله" أي ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله - فمفعولا "زعمتم" محذوفان لدلالة السياق عليهما - و دعاؤهم هو مسألتهم شيئا من الحوائج.

و قوله: "لا يملكون مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض" واقع موقع الجواب كأنه قيل: فما ذا يكون إذا دعوهم؟ فقيل: لا يستجيبون لهم بشيء لأنهم "لا يملكون مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض" و لو ملكوا لاستجابوا، و لا تتم الربوبية و الألوهية إلا بأن يملك الرب و الإله شيئا مما يحتاج إليه الإنسان فيملكه له و ينعم عليه به فيستحق بإزائه العبادة شكرا له فيعبد، أما إذا لم يملك شيئا فلا يكون ربا و لا إلها.

و قوله: "و ما لهم فيهما من شرك" كان الملك المنفي في الجملة السابقة "لا يملكون" إلخ، الملك المطلق المنبسط على الجميع و المنفي في هذه الجملة الملك المحدود المتبعض الذي ينبسط على البعض دون الكل إما مشاعا أو مفروزا، لكن المشركين ما كانوا يقولون بالملك المشترك بينهم و بين الله سبحانه مشاعا بل كانوا يقولون بملك كل من آلهتهم لنوع من الخلقة أو بعض منها، و أما الله سبحانه فهو رب الأرباب و إله الآلهة.

و على هذا كان من الواجب أن يستجيب آلهتهم إذا دعوا فيما يملكونه من الخلقة و عدم استجابتهم كاشف عن عدم ربوبيتهم و ألوهيتهم.

و قوله: "و ما له منهم من ظهير" أي ليس لله سبحانه منهم كلا أو بعضا من معين يعينه فيما يفرض فيه عجزه عن القيام بأمر تدبيره إذ لو كان له منهم ظهير يظهره على التدبير كان مالكا فيستجيب إذا دعي فيما هو ظهير بالنسبة إليه و إذ ليس فليس.

فتبين مما تقدم أن احتجاج الآية على نفي الملك بانتفاء استجابتهم دعاء الداعي يجري في جميع الصور الثلاث و هي ملكهم لما في السماوات و ما في الأرض مطلقا و ملكهم على وجه الشركة مع الله سبحانه و كونهم أو بعضهم ظهيرا لله سبحانه.

قوله تعالى: "و لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له" المشركون كانوا يقولون بشفاعة آلهتهم كما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله: "هؤلاء شفعاؤنا عند الله": يونس: 18، و ليس مرادهم بالشفاعة شفاعة يوم القيامة التي يثبتها القرآن الكريم فإنهم ما كانوا يقولون بالمعاد بل الشفاعة في الدنيا لعبادهم عند الله سبحانه ليسعدهم بقضاء حوائجهم و إصلاح شئونهم بتوسط آلهتهم.

و إذ كانت الآلهة مخلوقين لله مملوكين له من كل وجه فلا يملكون الشفاعة من عند أنفسهم مستقلين بها إلا أن يملكهم الله سبحانه ذلك و هو الإذن لهم في أن يشفعوا فأصل شفاعتهم لو شفعوا بإذن الله سبحانه.

و قوله: "إلا لمن أذن له" يحتمل أن يكون اللام في "لمن" لام الملك و المراد بمن أذن له الشافع من الملائكة، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا أن يملكه الشافع بالإذن من الله و أن يكون لام التعليل و المراد بمن أذن له المشفوع له، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا لأجل من أذن له من المشفوع لهم، قال في الكشاف: و هذا يعني الوجه الثاني وجه لطيف و هو الوجه.

انتهي.

و هو الوجه فإن الملائكة على ما يستفاد من كلامه تعالى وسائط لإنفاذ الأمر الإلهي و إجرائه، قال تعالى: "لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون": الأنبياء: 27، و قال: "جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة": فاطر: 1، و الوساطة المذكورة من الشفاعة كما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.

فالملائكة جميعا شفعاء لكن لا في كل أمر و لكل أحد بل في أمر أذن الله فيه و لمن أذن له فنفي شفاعتهم إلا مع الإذن يناسب المشفوع لهم دون الشفعاء، فالآية في معنى قوله تعالى: "و لا يشفعون إلا لمن ارتضى": الأنبياء: 28، لا في معنى قوله: "ما من شفيع إلا من بعد إذنه": يونس: 3.

قوله تعالى: "حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق و هو العلي الكبير" التفزيع إزالة الفزع و كشفه و ضمائر الجمع - على ما يعطيه السياق - للشفعاء و هم الملائكة.

و لازم قوله: "حتى إذا فزع عن قلوبهم" - و هو غاية - أن يكون هناك أمر مغيى بها و هو كون قلوبهم في فزع ممتد في انتظار أمر الله سبحانه حتى يرتفع بصدور الأمر منه، فالآية في معنى قوله تعالى: "و لله يسجد - إلى أن قال - و الملائكة و هم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم و يفعلون ما يؤمرون": النحل: 50، فالفزع هو التأثر و الانقباض من الخوف و هو المراد بسجدتهم تذللا من خوف ربهم من فوقهم.

و بذلك يظهر أن المراد بفزعهم حتى يفزع عنهم أن التذلل غشي قلوبهم و هو تذللهم من حيث إنهم أسباب و شفعاء في نفوذ الأوامر الإلهية و وقوعه على ما صدر و كما أريد، و كشف هذا التذلل هو تلقيهم الأمر الإلهي و اشتغالهم بالعمل كأنهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلا فعلهم و طاعتهم لله فيما أمرهم به و أنه لا واسطة بين الله سبحانه و بين الفعل إلا أمره فافهم ذلك.

و إنما نسب الفزع و التفزيع إلى قلوبهم للدلالة على أنهم ذاهلون منصرفون عن أنفسهم و عن كل شيء إلا ربهم و هم على هذه الحالة لا يشعرون بشيء غيره حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند صدور الأمر الإلهي بلا مهل و لا تخلف فليس الأمر بحيث يعطل أو يتأخر عن الوقوع، قال تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون": يس: 82، فالمستفاد من الآية نظرا إلى هذا المعنى أنهم في فزع حتى إذا أزيل فزعهم بصدور الأمر الإلهي.

و قوله: "قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق" يدل على أنهم طوائف كثيرون يسأل بعضهم بعضا عن الأمر الإلهي بعد صدوره و انكشاف الفزع عن قلوب السائلين.

و يتبين منه أن كشف الفزع و نزول الأمر إلى بعضهم أسبق منه إلى بعض آخر فإن لازم السؤال أن يكون المسئول عالما بما سئل عنه قبل السائل.

فلهم مراتب مختلفة و مقامات متفاوتة بعضها فوق بعض تتلقى الدانية منها الأمر الإلهي من العالية من غير تخلف و لا مهلة و هو طاعة الداني منهم للعالي، كما يستفاد ذلك أيضا بالتدبر في قوله تعالى: "و ما منا إلا له مقام معلوم": الصافات: 164، و قوله في وصف الروح الأمين: "ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين": التكوير: 21.

فبينهم مطاع و مطيع و لا طاعة مع ذلك إلا لله سبحانه لأن المطاع منهم لا شأن له إلا إيصال ما وصل إليه من الأمر الإلهي إلى مطيعه الذي دونه، و يمكن أن يستفاد ذلك من توصيف القول بالحق في قوله: "قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق" أي قال القول الثابت الذي لا سبيل للبطلان و التبدل إليه.



و ما ألطف ختم الآية بقوله تعالى: "و هو العلي الكبير" أي هو العلي الذي دونه كل شيء و الكبير الذي يصغر عنده كل شيء فليس للملائكة المكرمين إلا تلقي قوله الحق و امتثاله و طاعته كما يريد.

فقد تحصل من الآية الكريمة أن الملائكة فزعون في أنفسهم متذللون في ذواتهم ذاهلون عن كل شيء إلا عن ربهم محدقون إلى ساحة العظمة و الكبرياء في انتظار صدور الأمر حتى يكشف عن قلوبهم الفزع، بصدور الأمر و نزوله و هم مع ذلك طوائف مختلفة ذووا مقامات متفاوتة علوا و دنوا يتوسط كل عال في إيصال الأمر النازل إلى من هو دونه.

فهم مع كونهم شفعاء و أسبابا متوسطة لا يشفعون و لا يتوسطون في حدوث حادث من حوادث الخلق و التدبير إلا بإذن خاص من ربهم في حدوثه فيتحملون الأمر النازل إليهم حتى يحققوه في الكون من غير أن يستقلوا من أنفسهم في شيء أو يستبدوا برأي، و من كان هذا شأنه لا يشعر بشيء إلا طاعة ربه فيما يأمره به كيف يكون ربا مستقلا في أمره مفوضا إليه التدبير يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء؟ و في الآية أقوال مختلفة أخر: منها: أن ضمير "قلوبهم" و "قالوا" الثاني للمشركين دون الملائكة و ضمير "قالوا" الأول للملائكة و المعنى: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين وقت الفزع قالت الملائكة لهم: ما ذا قال ربكم؟ قالت المشركون لهم: الحق فيعترفون بما أنكروه في الدنيا.

و منها: أن ضمير "قلوبهم" للملائكة و المراد أن الملائكة الموكلين بالأعمال إذا صعدوا بأعمال العباد إلى السماء و لهم زجل و صوت عظيم خشيت الملائكة أنها الساعة فيفزعون و يخرون سجدا لله سبحانه حتى إذا كشف عن قلوبهم الفزع و علموا أنه ليس الأمر كذلك فسألوا ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق.

و منها: أن الله لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد فترة بينه و بين عيسى (عليه السلام) لم ينزل فيها شيء من الوحي أنزل الله سبحانه جبريل بالوحي فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمر بكل سماء و يكشف الفزع عن الملائكة الساكنين فيها فرفعوا رءوسهم و قال بعضهم لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق أي الوحي.

و منها: أن الضمير للملائكة و المراد أن الله سبحانه إذا أوحى إلى بعض الملائكة غشي على الملائكة عند سماع الوحي و يصعقون و يخرون سجدا للآية العظيمة فإذا فزع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الذي أوحي إليه ما ذا قال ربك؟ أو سأل بعضهم بعضا ما ذا قال ربكم؟ فيعلمون أن الأمر في غيرهم.

و أنت بعد التدبر في الآية الكريمة و التأمل فيما قدمناه تعلم وجه الضعف في هذه الأقوال و أن شيئا منها على تقدير صحته في نفسه لا يصلح تفسيرا لها.

قوله تعالى: "قل من يرزقكم من السموات و الأرض قل الله" إلخ، احتجاج آخر على المشركين من جهة الرزق الذي هو الملاك العمدة في اتخاذهم الآلهة فإنهم يتعللون في عبادتهم الآلهة بأنها ترضيهم فيوسعون لهم في رزقهم فيسعدون بذلك.

فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم من يرزقهم من السماوات و الأرض؟ و الجواب عنه أنه الله سبحانه لأن الرزق خلق في نفسه و لا خالق - حتى عند المشركين - إلا الله عز اسمه لكنهم يستنكفون عن الاعتراف به بألسنتهم و إن أذعنت به قلوبهم و لذلك أمر أن ينوبهم في الجواب فقال: "قل الله".

و قوله: "و إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"، تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هذا القول بعد إلقاء الحجة القاطعة و وضوح الحق في مسألة الألوهية مبني على سلوك طريق الإنصاف، و مفاده أن كل قول إما هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفيا و إثباتا و نحن و أنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فإما أن نكون نحن على هدى و أنتم في ضلال و إما أن تكونوا أنتم على هدى و نحن في ضلال فانظروا بعين الإنصاف إلى ما ألقي إليكم من الحجة و ميزوا المهدي من الضال و المحق من المبطل.

و اختلاف التعبير في قوليه: "على هدى" و "في ضلال" بلفظة على و في - كما قيل - للإشارة إلى أن المهتدي كأنه مستعل على منار يتطلع على السبيل و غايتها التي فيها سعادته، و الضال منغمر في ظلمة لا يدري أين يضع قدمه و إلى أين يسير و ما ذا يراد به؟.

قوله تعالى: "قل لا تسألون عما أجرمنا و لا نسأل عما تعملون" أي إن العمل و خاصة عمل الشر لا يتعدى عن عامله و لا يلحق وباله إلا به فلا يسأل عنه غيره فلا تسألون عما أجرمنا بل نحن المسئولون عنه و لا نسأل عما تعملون بل أنتم المسئولون.

و هذا تمهيد لما في الآية التالية من حديث الجمع و الفتح فإن الطائفتين إذا اختلفا في الأعمال خيرا و شرا كان من الواجب أن يفتح بينهما و يتميز كل من الأخرى حتى يلحق به جزاء عمله من خير أو شر أو سعادة أو شقاء و الذي يفتح و يميز هو الرب تعالى.

و في التعبير عن عمل أنفسهم بالإجرام و في ناحية المشركين بقوله: "تعملون" و لم يقل تجرمون أخذ بحسن الأدب في المناظرة.

قوله تعالى: "قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق و هو الفتاح العليم" لما كان من الواجب أن يلحق بكل من المحسن و المسيء جزاء عمله و كان لازمه التمييز بينهما بالجمع ثم الفرق كان ذلك شأن مدبر الأمر و هو الرب أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكرهم أن الذي يجمع بين الجميع ثم يفتح بينهم بالحق هو الله، فهو رب هؤلاء و أولئك فإنه هو الفتاح العليم يفتح بين كل شيئين بالخلق و التدبير فيتميز بذلك الشيء من الشيء كما قال: "إن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما": الأنبياء: 30، و هو العليم بكل شيء.

فالآية تثبت البعث لتمييز المحسن من المسيء أولا ثم انحصار التمييز و الجزاء في جانبه تعالى بانحصار الربوبية فيه و يبطل بذلك ربوبية من اتخذوه من الأرباب.

و الفتاح من أسماء الله الحسنى و الفتح إيجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتب عليه كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه و الفتح بين الشيئين ليتميز كل منهما عن الآخر بذاته و صفاته و أفعاله.

قوله تعالى: "قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم" أمر آخر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم أن يروه آلهتهم حتى يختبر هل فيهم الصفات الضرورية للإله المستحق للعبادة من الاستقلال بالحياة و العلم و القدرة و السمع و البصر؟ و هذا معنى قوله: "أروني الذين ألحقتم به شركاء" أي ألحقتموهم به شركاء له.

ثم ردع بنفسه و قال: كلا لا يكونون شركاء له لأنهم إما أن يروه الأصنام بما أنها معبودة لهم معدودة آلهتهم و هي أجسام ميتة خالية عن الحياة و العلم و القدرة و إما أن يروه أرباب هذه الأصنام و هم الملائكة و غيرهم بجعل الأصنام تماثيل مشيرة إليهم و هم و إن لم يخلوا عن حياة و علم و قدرة إلا أن ما لهم من صفات الكمال مفاضة عليهم من الله سبحانه لا استقلال لهم في شيء من هذه الصفات و لا في الأفعال المتفرعة عليها فأين الاستقلال في التدبير الذي يدعون أنه مفوض إليهم فالوجود الواجبي بكماله اللامتناهي يمنع أن يكون في خلقه من يشاركه في شيء من كماله.



اللهم إلا أن يدعوا أنه شاركهم في بعض ما له من الشئون لتدبير خلقه من غير صلاحية لهم ذاتية و هذا ينافي حكمته تعالى.

و قد أشير إلى هذه الحجة بقوله: "بل هو الله العزيز الحكيم" فإن عزته تعالى - و هو منع جانبه أن يعدو إلى حريم كماله عاد لكونه لا يحد بحد - تمنع أن يشاركه في شيء من صفات كماله كالربوبية و الألوهية المنتهيتين إلى الذات أحد غيره هذا لو كانت الشركة عن صلاحية ذاتية من الشريك و لو كانت عن إرادة حزافية منه من غير صلاحية حقيقة من الشريك فالحكمة الإلهية تمنع ذلك.

و قد تبين بذلك أن الآية متضمنة لحجة قاطعة برهانية فأحسن التدبر فيها.

قوله تعالى: "و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا و لكن أكثر الناس لا يعلمون" قال الراغب في المفردات:، الكف كف الإنسان و هي ما بها يقبض و يبسط و كففته أصبت كفه، و كففته أصبته بالكف و دفعته بها و تعورف الكف بالدفع على أي وجه كان بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره، و قوله: و ما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي و الهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية و علامة و نسابة.

انتهي.

و يؤيد هذا المعنى توصيفه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبشير و النذير، فقوله: "بشيرا و نذيرا" حالان يبينان صفته لقوله: "كافة للناس".

و ربما قيل: إن التقدير و ما أرسلناك إلا إرساله كافة للناس و لا يخلو من تكلف و بعد.

و أما كون كافة بمعنى جميعا و حالا من الناس، و المعنى: و ما أرسلناك إلا للناس جميعا فهم يمنعون عن تقدم الحال على صاحبه المجرور.

و اعلم أن منطوق الآية و إن كان راجعا إلى النبوة و فيها انتقال من الكلام في التوحيد إلى الكلام في النبوة على حد الآيات التالية، لكن في مدلولها حجة أخرى على التوحيد و ذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم و مسيرهم إلى غايات وجودهم فعموم رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو رسول الله تعالى لا رسول غيره دليل على أن الربوبية منحصرة في الله سبحانه فلو كان هناك رب غيره لجاءهم رسوله و لم يعم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عمتهم و احتاجوا معه إلى غيره، و هذا معنى قول علي (عليه السلام) - على ما روي - لو كان لربك شريك لأتتك رسله.

و يؤيده ما في ذيل الآية من قوله: "و لكن أكثر الناس لا يعلمون" فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه أمس بجهل الناس من كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا و نذيرا.

فمفاد الآية على هذا: لا يمكنهم أن يروك شريكا له و الحال أنا لم نرسلك إلا كافا لجميع الناس بشيرا و نذيرا و لو كان لهم إله غيرنا لم يسع لنا أن نرسلك إليهم و هم عباد لإله آخر و الله أعلم.

قوله تعالى: "و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" سؤال عن وقت الجمع و الفتح و هو البعث فالآية متصلة بقوله السابق: "قل يجمع بيننا ربنا" الآية، و هذا أيضا من شواهد ما قدمنا من المعنى لقوله: "و ما أرسلناك إلا كافة" و إلا كانت هذه الآية و التي بعدها متخللتين بين قوله: "و ما أرسلناك" الآية، و الآيات التالية المتعرضة لمسألة النبوة.

قوله تعالى: "قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة و لا تستقدمون" أمر منه تعالى أن يجيبهم بأن لهم ميعاد يوم مقضي محتوم لا يتخلف عن الوقوع فهو واقع قطعا و لا يختلف وقت وقوعه البتة أي إن الله وعد به وعدا لا يخلفه إلا أن وقت وقوعه مستور لا يعلمه إلا الله سبحانه.

و ما قيل: إن المراد به يوم الموت غير سديد فإنهم لم يسألوا إلا عما تقدم وعده و هو يوم الجمع و الفتح و الجمع ثم الفتح من خصائص يوم القيامة دون يوم الموت.

بحث روائي

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "حتى إذا فزع عن قلوبهم - قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق و هو العلي الكبير" و ذلك أن أهل السماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين أن بعث عيسى بن مريم إلى أن بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما بعث الله جبرئيل إلى محمد سمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا فصعق أهل السماوات. فلما فرغ عن الوحي انحدر جبرئيل كلما مر بأهل سماء فزع عن قلوبهم يقول: كشف عن قلوبهم، فقال بعض لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق و هو العلي الكبير: أقول: و روي مثله من طرق أهل السنة موصولا و موقوفا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مدلول الرواية على أي حال مصداق من مصاديق الآية و لا تصلح لتفسيرها البتة.

و في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس و في المجمع عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي. بعثت إلى الناس كافة الأحمر و الأسود و إنما كان النبي يبعث إلى قومه، و نصرت بالرعب يرعب مني عدوي على مسيرة شهر، و أطعمت المغنم، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و أعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي إلى يوم القيامة و هي إن شاء الله نائلة من لا يشرك بالله شيئا.

أقول: و روي أيضا هذا المعنى عن ابن المنذر عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و الرواية معارضة لما ورد مستفيضا أن نوحا كان مبعوثا إلى الناس كافة و ذكر في بعضها إبراهيم (عليه السلام) و في بعضها أن أولي العزم كلهم مبعوثون إلى الدنيا كافة، و تخالف أيضا عموم الشفاعة للأنبياء المستفاد من عدة من الروايات و قد قال تعالى: "و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون": الزخرف: 86، و قد شهد القرآن بأن المسيح (عليه السلام) من الشهداء قال تعالى: "و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا": النساء: 159.

و الروايات من طرق العامة و الخاصة كثيرة في عموم رسالته للناس كافة و ظاهر كثير منها أخذ "كافة" في قوله تعالى: "و ما أرسلناك إلا كافة للناس" حالا من "للناس" قدم عليه و يمنعه البصريون من النحاة و يجوزه الكوفيون.

34 سورة سبأ - 31 - 54

وَ قَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَن نّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْءَانِ وَ لا بِالّذِى بَينَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبهِمْ يَرْجِعُ بَعْضهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الّذِينَ استُضعِفُوا لِلّذِينَ استَكْبرُوا لَوْ لا أَنتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الّذِينَ استَكْبرُوا لِلّذِينَ استُضعِفُوا أَ نحْنُ صدَدْنَكُمْ عَنِ الهُْدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكم بَلْ كُنتُم مجْرِمِينَ (32) وَ قَالَ الّذِينَ استُضعِفُوا لِلّذِينَ استَكْبرُوا بَلْ مَكْرُ الّيْلِ وَ النّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نّكْفُرَ بِاللّهِ وَ نجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَ أَسرّوا النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذَاب وَ جَعَلْنَا الأَغْلَلَ فى أَعْنَاقِ الّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يجْزَوْنَ إِلا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَ مَا أَرْسلْنَا فى قَرْيَةٍ مِّن نّذِيرٍ إِلا قَالَ مُترَفُوهَا إِنّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَفِرُونَ (34) وَ قَالُوا نحْنُ أَكثرُ أَمْوَلاً وَ أَوْلَداً وَ مَا نحْنُ بِمُعَذّبِينَ (35) قُلْ إِنّ رَبى يَبْسط الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لَكِنّ أَكْثرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَ مَا أَمْوَلُكمْ وَ لا أَوْلَدُكم بِالّتى تُقَرِّبُكمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ ءَامَنَ وَ عَمِلَ صلِحاً فَأُولَئك لهَُمْ جَزَاءُ الضعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فى الْغُرُفَتِ ءَامِنُونَ (37) وَ الّذِينَ يَسعَوْنَ فى ءَايَتِنَا مُعَجِزِينَ أُولَئك فى الْعَذَابِ محْضرُونَ (38) قُلْ إِنّ رَبى يَبْسط الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مَا أَنفَقْتُم مِّن شىْءٍ فَهُوَ يخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيرُ الرّزِقِينَ (39) وَ يَوْمَ يحْشرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ يَقُولُ لِلْمَلَئكَةِ أَ هَؤُلاءِ إِيّاكمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سبْحَنَك أَنت وَلِيّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنّ أَكثرُهُم بهِم مّؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِك بَعْضكمْ لِبَعْضٍ نّفْعاً وَ لا ضرّا وَ نَقُولُ لِلّذِينَ ظلَمُوا ذُوقُوا عَذَاب النّارِ الّتى كُنتُم بهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَ إِذَا تُتْلى عَلَيهِمْ ءَايَتُنَا بَيِّنَتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصدّكمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُكُمْ وَ قَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مّفْترًى وَ قَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مّبِينٌ (43) وَ مَا ءَاتَيْنَهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسونهَا وَ مَا أَرْسلْنَا إِلَيهِمْ قَبْلَك مِن نّذِيرٍ (44) وَ كَذّب الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَ مَا بَلَغُوا مِعْشارَ مَا ءَاتَيْنَهُمْ فَكَذّبُوا رُسلى فَكَيْف كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنّمَا أَعِظكُم بِوَحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للّهِ مَثْنى وَ فُرَدَى ثُمّ تَتَفَكرُوا مَا بِصاحِبِكم مِّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لّكُم بَينَ يَدَى عَذَابٍ شدِيدٍ (46) قُلْ مَا سأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِى إِلا عَلى اللّهِ وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْءٍ شهِيدٌ (47) قُلْ إِنّ رَبى يَقْذِف بِالحَْقِّ عَلّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الحَْقّ وَ مَا يُبْدِئُ الْبَطِلُ وَ مَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِن ضلَلْت فَإِنّمَا أَضِلّ عَلى نَفْسى وَ إِنِ اهْتَدَيْت فَبِمَا يُوحِى إِلىّ رَبى إِنّهُ سمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَ لَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْت وَ أُخِذُوا مِن مّكانٍ قَرِيبٍ (51) وَ قَالُوا ءَامَنّا بِهِ وَ أَنى لهَُمُ التّنَاوُش مِن مّكانِ بَعِيدٍ (52) وَ قَدْ كفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مّكانِ بَعِيدٍ (53) وَ حِيلَ بَيْنهُمْ وَ بَينَ مَا يَشتهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنهُمْ كانُوا فى شكٍ مّرِيبِ (54)

بيان

فصل آخر من آيات السورة تتكلم في أمر النبوة و ما يرجع إليها و ما يقول المشركون فيها و تتخلص في خلالها بما يجري عليهم يوم الموت أو يوم القيامة، و قد اتصلت بقوله في الفصل السابق: "و ما أرسلناك إلا كافة للناس" الآية، و قد عرفت أن الآية كالبرزخ بين الفصلين تذكر الرسالة و تجعلها دليلا على التوحيد.

قوله تعالى: "و قال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن و لا بالذي بين يديه" المراد بالذين كفروا المشركون و المراد بالذي بين يديه الكتب السماوية من التوراة و الإنجيل و ذلك أن المشركين و هم الوثنيون ليسوا قائلين بالنبوة و يتبعها الكتاب السماوي.

و قول بعضهم: إن المراد بالذي بين يديه هو أمر الآخرة مما لا دليل يساعده، و قد أكثر القرآن الكريم من التعبير عن التوراة و الإنجيل بالذي بين يديه، و من الخطإ قول بعضهم: إن المراد بالذين كفروا هم اليهود.

قوله تعالى: "و لو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم" إلخ، الظاهر أن اللام في "الظالمون" للعهد، و هذه الآية و الآيتان بعدها تشير إلى أن وبال هذا الكفر - و أساسه ضلال أئمة الكفر و إضلالهم تابعيهم - سيلحق بهم و سيندمون عليه و لن ينفعهم الندم.

فقوله: "و لو ترى" خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ هم بمعزل عن فهم الخطاب "إذ الظالمون" و هم الكافرون بكتب الله و رسله، الذين ظلموا أنفسهم بالكفر "موقوفون عند ربهم" للحساب و الجزاء يوم القيامة "يرجع بعضهم إلى بعض القول" أي يتحاورون و يتراجعون في الكلام متخاصمين "يقول الذين استضعفوا" بيان لرجوع بعضهم إلى بعض في القول و المستضعفون الأتباع الذين استضعفتهم المتبوعون "للذين استكبروا" و هم الأئمة القادة "لو لا أنتم لكنا مؤمنين" يريدون أنكم أجبرتمونا على الكفر و حلتم بيننا و بين الإيمان.

"قال الذين استكبروا للذين استضعفوا" جوابا عن قولهم و ردا لما اتهموهم به من الإجبار و الإكراه "أ نحن صددناكم" الاستفهام للإنكار أي أ نحن صرفناكم "عن الهدى بعد إذ جاءكم" فبلوغه إليكم بالدعوة النبوية أقوى الدليل على أنا لم نحل بينه و بينكم و كنتم مختارين في الإيمان به و الكفر "بل كنتم مجرمين" متلبسين بالإجرام مستمرين عليه فأجرمتم بالكفر به لما جاءكم من غير أن نجبركم عليه فكفركم منكم و نحن برآء منه.

"و قال الذين استضعفوا للذين استكبروا" ردا لقولهم و دعواهم البراءة "بل مكر الليل و النهار" أي مكركم بالليل و النهار حملنا على الكفر "إذ تأمروننا أن نكفر بالله و نجعل له أندادا" و أمثالا من الآلهة أي أنكم لم تزالوا في الدنيا تمكرون الليل و النهار و تخطون الخطط لتستضعفونا و تتآمروا علينا فتحملونا على طاعتكم فيما تريدون، فلم نشعر إلا و نحن مضطرون على الائتمار بأمركم إذ تأمروننا بالكفر و الشرك.



"و أسروا" و أخفوا "الندامة لما رأوا العذاب" و شاهدوا أن لا مناص، و إخفاؤهم الندامة يوم القيامة - و هو يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء - نظير كذبهم على الله و إنكارهم الشرك بالله و حلفهم لله كان بين كل ذلك من قبيل ظهور ملكاتهم الرذيلة التي رسخت في نفوسهم فقد كانوا يسرون الندامة في الدنيا خوفا من شماتة الأعداء و كذلك يفعلون يوم القيامة مع ظهور ما أسروا و اليوم يوم تبلى السرائر كما يكذبون بمقتضى ملكة الكذب مع ظهور أنهم كاذبون في قولهم.

ثم ذكر سبحانه أخذهم للعذاب فقال: "و جعلنا الأغلال" السلاسل "في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون" فصارت أعمالهم أغلالا في أعناقهم تحبسهم في العذاب.

قوله تعالى: "و ما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون" المترفون اسم مفعول من الإتراف و هو الزيادة في التنعيم، و فيه إشعار بأن الإتراف يفضي إلى الاستكبار على الحق كما تفيده الآية اللاحقة.

قوله تعالى: "و قالوا نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذبين" ضمير الجمع للمترفين، و من شأن الإتراف و الترفه و التقلب في نعم الدنيا أن يتعلق قلب الإنسان بها و يستعظمها فيرى السعادة فيها سواء وافق الحق أم خالفه فلا يذكر إلا ظاهر الحياة و ينسى ما وراءه.

و لذا حكى سبحانه عنهم ذلك إذ قالوا: "نحن أكثر أموالا و أولادا" فلا سعادة إلا فيها و لا شقوة معها "و ما نحن بمعذبين" في آخرة، و لم ينفوا العذاب إلا للغفلة و الانصراف عما وراء كثرة الأموال و الأولاد فإذ كانت هي السعادة و الفلاح فحسب فالعذاب في فقدها و لا عذاب معها.

و هاهنا وجه آخر و هو أنهم لغرورهم بما رزقوا به من المال و الولد ظنوا أن لهم كرامة على الله سبحانه و هم على كرامتهم عليهم ما داموا، و المعنى: أنا ذوو كرامة على الله بما أوتينا من كثرة الأموال و الأولاد و نحن على كرامتنا فما نحن بمعذبين لو كان هناك عذاب.

فتكون الآية في معنى قوله: "و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى": حم السجدة: 50.

قوله تعالى: "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر و لكن أكثر الناس لا يعلمون" الآية و ما يتلوها إلى تمام أربع آيات جواب عن قولهم: "نحن أكثر أموالا" إلخ، و قد أجيب عنه بوجهين أحدهما أن أمر الرزق من الأموال و الأولاد سعة و ضيقا بيد الله على ما تستدعيه الحكمة و المصلحة و هيأ من الأسباب لا بمشية الإنسان و لا لكرامة له على الله فربما بسط في رزق مؤمن أو كافر أو عاقل ذي حزم أو أحمق خفيف العقل، و ربما بسط على واحد ثم قدر له.

فلا دلالة في الإتراف على سعادة أو كرامة.

و هذا معنى قوله: "قل إن ربي" نسبه إلى نفسه لأنهم لم يكونوا يرون الله ربا لأنفسهم و الرزق من شئون الربوبية "يبسط" أي يوسع "الرزق لمن يشاء" من عباده بحسب الحكمة و المصلحة "و يقدر" أي يضيق "و لكن أكثر الناس لا يعلمون" فينسبونه ما لم يؤتوه إلى الأسباب الظاهرية الاتفاقية ثم إذا أوتوه نسبوه إلى حزمهم و حسن تدبيرهم أنفسهم و كفى به دليلا على الحمق.



قوله تعالى: "و ما أموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى" إلى آخر الآيتين هذا هو الجواب الثاني عن قولهم: "نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذبين" و محصله أن انتفاء العذاب المترتب على القرب من الله لا يترتب على الأموال و الأولاد إذ لا توجب الأموال و الأولاد قربا و زلفى من الله حتى ينتفي معها العذاب الإلهي فوضع تقريب المال في الآية موضع انتفاء العذاب من قبيل وضع السبب موضع المسبب.

و هذا معنى قوله: "و ما أموالكم و لا أولادكم" التي تعتمدون عليها في السعادة و انتفاء عذاب الله "بالتي" أي بالجماعة التي "تقربكم عندنا زلفى" أي تقريبا.

"إلا من آمن و عمل صالحا" في ماله و ولده بأن أنفق من أمواله في سبيل الله و بث الإيمان و العمل الصالح في أولاده بتربية دينية "فأولئك لهم جزاء الضعف" لعله من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الجزاء المضاعف من جهة أنهم اهتدوا و هدوا و أيضا من جهة تضعيف الحسنات إلى عشر أضعافها و زيادة "و هم في الغرفات" أي في القباب العالية "آمنون" من العذاب فما هم بمعذبين.

"و الذين يسعون في آياتنا معاجزين" أي يجدون في آياتنا و هم يريدون أن يعجزونا - أو أن يسبقونا - أولئك في العذاب محضرون" و إن كثرت أموالهم و أولادهم.

و في قوله: "و ما أموالكم و لا أولادكم" إلخ، انتقال إلى خطاب عامة الناس من الكفار و غيرهم و الوجه فيه أن ما ذكره من الحكم حكم الأموال و الأولاد سواء في ذلك المؤمن و الكافر فالمال و الولد إنما يؤثران أثرهما الجميل إذا كان هناك إيمان و عمل صالح فيهما و إلا فلا يزيدان إلا وبالا.

قوله تعالى: "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه و هو خير الرازقين" قال في مجمع البيان،: يقال: أخلف الله له و عليه إذا أبدل له ما ذهب عنه.

انتهي.

سياق الآية يدل على أن المراد بالإنفاق فيها الإنفاق في وجوه البر و المراد بيان أن هذا النحو من الإنفاق لا يضيع عند الله بل يخلفه و يرزق بدله.

فقوله في صدر الآية: "قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر" للإشارة إلى أن أمر الرزق في سعته و ضيقه إلى الله سبحانه لا ينقص بالإنفاق و لا يزيد بالإمساك ثم قال: "و ما أنفقتم من شيء" قليلا كان أو كثيرا و أيا ما كان من المال "فهو يخلفه" و يرزقكم بدله إما في الدنيا و إما في الآخرة "و هو خير الرازقين" فإنه يرزق جودا و رزق غيره معاملة في الحقيقة و معاوضة، و لأنه الرازق في الحقيقة و غيره ممن يسمى رازقا واسطة لوصول الرزق.

قوله تعالى: "و يوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أ هؤلاء إياكم كانوا يعبدون" المراد بهم جميعا بشهادة السياق العابدون و المعبودون جميعا.

و قوله: "ثم يقول للملائكة أ هؤلاء إياكم كانوا يعبدون" ليس سؤال استخبار عن أصل عبادتهم لهم و لو كان كذلك لم يسعهم إنكارها لأنهم عبدوهم في الدنيا و قد أنكروها كما في الآية بل المراد السؤال عن رضاهم بعبادتهم على حد قوله تعالى لعيسى بن مريم: "أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله".

و الغرض من السؤال تبكيت المشركين و إقناطهم من نصرة الملائكة و شفاعتهم لهم و قد عبدوهم في الدنيا لذلك.



قوله تعالى: "قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" أخذت الملائكة في جوابهم عن سؤاله تعالى بجوامع الأدب فنزهوه سبحانه أولا تنزيها مطلقا فيه تنزيهه من أن يعبدوا من دونه ثم نفوا رضاهم بعبادة المشركين لهم لكن لا بالتصريح بنفي الرضا بالعبادة و لا بالتفوه بعبادتهم صونا لساحة المخاطبة عما يقرع السمع بذلك، و لو تصورا لا تصديقا بل أجابوا بقصر ولايتهم فيه تعالى و نفيها عنهم ليدل على نفي الرضا بعبادتهم لهم على طريق الكناية فإن الرضا بعبادتهم لازمه الموالاة بينهم، و الموالاة بينهم تنافي قصر الولاية في الله سبحانه فإذا انحصرت الولاية فيه تعالى لم تكن موالاة و إذا لم تكن موالاة لم يكن رضا.

ثم قالوا على ما حكاه الله سبحانه: "بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون" و الجن هم الطائفة الثانية من الطوائف الثلاث التي يعبدهم الوثنيون و هم الملائكة و الجن و القديسون من البشر، و الأقدم في استحقاق العبادة عندهم هم الطائفتان الأوليان و الطائفة الثالثة ملحقة بهما بعد الكمال و إن كانوا أفضل منهما.

و الإضراب في قولهم: "بل كانوا يعبدون الجن" يدل على أن الجن كانوا على رضى من عبادتهم لهم.

و هؤلاء من الجن هم الذين يعدهم الوثنيون مبادىء الشرور في العالم فيعبدونهم اتقاء من شرورهم كما يعبدون الملائكة طمعا في خيراتهم لما أنهم مباد للخيرات لا كما قيل: إن المراد بالجن إبليس و ذريته و قبيله و معنى عبادتهم لهم طاعتهم فيما دعوهم إليه من عبادة الملائكة أو مطلق المعاصي، و يرده ما وقع في الآية من التعبير بلفظ الإيمان دون الطاعة و لا ما قيل: إنهم كانوا يتمثلون لهم و يخيلون لهم أنهم الملائكة فيعبدونهم و لا ما قيل: إنهم كانوا يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها.

و لعل الوجه في نسبة الإيمان بهم إلى أكثرهم دون جميعهم أن أكثرهم يعبدون الآلهة اتقاء من طروق الشر من قبلهم، و مبادىء الشر عندهم مطلقا الجن لا كما قيل: إن المراد بالأكثر الكل، و هو مبني على تفسير العبادة بمعنى الطاعة و قد عرفت ما فيه.

قوله تعالى: "فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا و لا ضرا و نقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون" نوع تفريع على تبري الملائكة منهم و قد بين تبري عامة المتبوعين من تابعيهم و التابعين من متبوعيهم في مواضع كقوله تعالى: "و يوم القيامة يكفرون بشرككم": فاطر: 14، و قوله: "ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا": العنكبوت: 25.

و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: "و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم" إلخ، خطابهم هذا لعامتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجد في التمسك بدين آبائهم و تحريض لهم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في توصيف الآيات بالبينات نوع عتبى كأنه قيل: إذا تتلى عليهم هذه الآيات و هي بينة لا ريب فيها فبدلا من أن يدعوا عامتهم إلى اتباعها حثوهم على الإصرار على تقليد آبائهم و حرضوهم عليه - و في إضافة الآباء إلى ضمير "كم" مبالغة في التحريض و الإثارة.

و قوله: "و قالوا ما هذا إلا إفك مفترى" معطوف على "قالوا" أي و قالوا مشيرا إلى الآيات البينات إشارة تحقير ليس هذا إلا كلاما مصروفا عن وجهه مكذوبا به على الله، بدلا من أن يقولوا: إنها آيات بينات نازلة من عند الله تعالى - و قد أشاروا إلى الآيات البينات بهذا دلالة على أنهم لم يفهموا منها إلا أنها شيء ما لا أزيد من ذلك.



ثم غير سبحانه السياق و قال: "و قال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين" و مجيء الحق لهم بلوغه و ظهوره لهم، و الأخذ بوصف الكفر للإشعار بالتعليل و المعنى: و الذين كفروا بعثهم الكفر إلى أن يقولوا للحق الصريح الذي بلغهم و ظهر لهم هذا سحر ظاهر سحريته و بطلانه.

و أكد إصرارهم على دحض الحق باتباع الهوى من غير دليل يدل عليه بقوله: "و ما آتيناهم من كتب يدرسونها و ما أرسلنا إليهم قبلك من نذير" و الجملة حالية أي و عد الذين كفروا - أي كفار قريش - الحق الصريح الظاهر لهم سحرا مبينا و الحال أنا لم نعطهم كتبا يدرسونها حتى يميزوا بها الحق من الباطل و لم نرسل إليهم قبلك من رسول ينذرهم و يبين لهم ذلك فيقولوا استنادا إلى الكتاب الإلهي أو إلى قول الرسول النذير: إنه حق أو باطل.

قوله تعالى: "و كذب الذين من قبلهم و ما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير" ضميرا الجمع الأول و الثاني لكفار قريش و من يتلوهم و الثالث و الرابع للذين من قبلهم، و المعشار العشر و النكير الإنكار، و المراد به في الآية لازمه و هو الأخذ بالعذاب.

و المعنى: و كذب بالحق من الآيات الذين كانوا من قبل كفار قريش من الأمم الماضية و لم يبلغ كفار قريش عشر ما آتيناهم من القوة و الشدة فكذب أولئك الأقوام رسلي فكيف كان أخذي بالعذاب و ما أهون أمر قريش.

و الالتفات في الآية إلى التكلم لاستعظام الجرم و تهويل المؤاخذة.

قوله تعالى: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى و فرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة" المراد بالموعظة الوصية كناية أو تضمينا، و قوله: "أن تقوموا لله" أي تنهضوا لأجل الله و لوجهه الكريم، و قوله: "مثنى و فرادى" أي اثنين اثنين و واحدا واحدا كناية عن التفرق و تجنب التجمع و الغوغاء فإن الغوغاء لا شعور لها و لا فكر و كثيرا ما تميت الحق و تحيي الباطل.

و قوله: "ما بصاحبكم من جنة" استئناف "ما" نافية و يشهد بذلك قوله بعد: "إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد" و يمكن أن يكون "ما" استفهامية أو موصولة و "من جنة" بيانا له.

و المراد بصاحبكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه و الوجه في التعبير به تذكرتهم بصحبته الممتدة لهم أربعين سنة من حين ولادته إلى حين بعثته ليتذكروا أنهم لم يعهدوا منه اختلالا في فكر أو خفة في رأي أو أي شيء يوهم أن به جنونا.

و المعنى: قل لهم: إنما أوصيكم بالعظة أن تنهضوا و تنتصبوا لوجه الله متفرقين حتى يصفو فكركم و يستقيم رأيكم اثنين اثنين و واحدا واحدا و تتفكروا في أمري فقد صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي و صدق و أمانة ليس في من جنة.

ما أنا إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد في يوم القيامة فأنا ناصح لكم غير خائن.

قوله تعالى: "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم" إلخ، كناية عن عدم سؤال أجر على الدعوة فإنه إذا وهبهم كما سألهم من أجر فليس له عليهم أجر مسئول و لازمه أن لا يسألهم و هذا تطييب لنفوسهم أن لا يتهموه بأنه جعل الدعوة ذريعة إلى نيل مال أو جاه.

ثم تمم القول بقوله: "إن أجري إلا على الله و هو على كل شيء شهيد" لئلا يرد عليه قوله بأنه دعوى غير مسموعة فإن الإنسان لا يروم عملا بغير غاية فدفعه بأن لعملي أجرا لكنه على الله لا عليكم و هو يشهد عملي و هو على كل شيء شهيد.



قوله تعالى: "قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب" القذف الرمي، و قوله: "علام الغيوب" خبر بعد خبر أو خبر لمبتدء محذوف و هو الضمير الراجع إليه تعالى.

و مقتضى سياق الآيات السابقة أن المراد بالحق المقذوف القرآن النازل إليه بالوحي من عنده تعالى الذي هو قول فصل يحق الحق و يبطل الباطل فهو الحق المقذوف إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من عند علام الغيوب فيدمغ الباطل و يزهقه، قال تعالى: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق": الأنبياء: 18، و قال: "قل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا": إسراء: 81.

قوله تعالى: "قل جاء الحق و ما يبدىء الباطل و ما يعيد" المراد بمجيء الحق على ما تهدي إليه الآية السابقة نزول القرآن المبطل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة لكل باطل من أصله.

و قوله: "و ما يبدىء الباطل و ما يعيد" أي ما يظهر أمرا ابتدائيا جديدا بعد مجيء الحق و ما يعيد أمرا كان قد أظهره من قبل إظهارا ثانيا بنحو الإعادة فهو كناية عن بطلان الباطل و سقوطه عن الأثر من أصله بالحق الذي هو القرآن.

قوله تعالى: "قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي و إن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب" بيان لأثر الحق الذي هو الوحي فإنه عرفه حقا مطلقا فالحق إذا كان حقا من كل جهة لم يخطىء في إصابة الواقع في جهة من الجهات و إلا كان باطلا من تلك الجهة فالوحي يهدي و لا يخطىء البتة.

و لذا قال تأكيدا لما تقدم: "قل إن ضللت" و فرض مني ضلال "فإنما أضل" مستقرا ذلك الضلال "على نفسي" فإن للإنسان من نفسه أن يضل "و إن اهتديت فبما يوحي إلي ربي" فوحيه حق لا يحتمل ضلالا و لا يؤثر إلا الهدى.

و قد علل الكلام بقوله: "إنه سميع قريب" للدلالة على أنه يسمع الدعوة و لا يحجبه عنها حاجب البعد و قد مهد له قبلا وصفه تعالى في قذف الحق بأنه علام الغيوب فلا يغيب عنه أمر يخل بأمره و يمنع نفوذ مشيته هداية الناس بالوحي قال تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى كل شيء عددا": الجن: 28.

قوله تعالى: "و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت و أخذوا من مكان قريب" ظاهر السياق السابق و يشعر به قوله الآتي: "و حيل بينهم و بين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل" أن الآيات الأربع وصف حال مشركي قريش و من يلحق بهم حال الموت.

فقوله: "و لو ترى إذ فزعوا" أي حين فزع هؤلاء المشركون عند الموت "فلا فوت" أي لا يفوتون الله بهرب أو تحصن أو أي حائل آخر.



و قوله: "و أخذوا من مكان قريب" كناية عن عدم فصل بينهم و بين من يأخذهم و قد عبر بقوله: "أخذوا" مبنيا للمفعول ليستند الأخذ إليه سبحانه، و قد وصف نفسه بأنه قريب، و كشف عن معنى قربه بقوله: "و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون": الواقعة: 85، و أزيد منه في قوله: "من حبل الوريد": ق: 16، و أزيد منه في قوله: "إن الله يحول بين المرء و قلبه": الأنفال: 24، فبين أنه أقرب إلى الإنسان من نفسه و هذا الموقف هو المرصاد الذي ذكره في قوله: "إن ربك لبالمرصاد": الفجر: 14، فكيف يتصور فوت الإنسان منه و هو أقرب إليه من نفسه؟ أو من ملائكته المكرمين الذين يأخذون الأمر منه تعالى من غير حاجب يحجبهم عنه أو واسط يتوسط بينه و بينهم.

فقوله: "و أخذوا من مكان قريب" نوع تمثيل لقربه تعالى من الإنسان بحسب ما نتصوره من معنى القرب لاحتباسنا في سجن الزمان و المكان و أنسنا بالأمور المادية و إلا فالأمر أعظم من ذلك.

قوله تعالى: "و قالوا آمنا به و أنى لهم التناوش من مكان بعيد" التناوش التناول و ضمير "به" للقرآن على ما يعطيه السياق.

و المراد بكونهم في مكان بعيد أنهم في عالم الآخرة و هي دار تعين الجزاء و هي أبعد ما يكون من عالم الدنيا التي هي دار العمل و موطن الاكتساب بالاختيار و قد تبدل الغيب شهادة لهم و الشهادة غيبا كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: "و قد كفروا به من قبل و يقذفون بالغيب من مكان بعيد" حال من الضمير في "و أنى لهم التناوش" و المراد بقوله: "و يقذفون بالغيب من مكان بعيد" رميهم عالم الآخرة و هم في الدنيا بالظنون مع عدم علمهم به و كونه غائبا عن حواسهم إذ كانوا يقولون: لا بعث و لا جنة و لا نار، و قيل: المراد به رميهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر و الكذب و الافتراء و الشعر.

و العناية في إطلاق المكان البعيد على الدنيا بالنسبة إلى الآخرة نظيره إطلاقه على الآخرة بالنسبة إلى الدنيا و قد تقدمت الإشارة إليه.

و معنى الآيتين: و قال المشركون حينما أخذوا آمنا بالحق الذي هو القرآن و أنى لهم تناول الإيمان به - إيمانا يفيد النجاة - من مكان بعيد و هو الآخرة و الحال أنهم كفروا به من قبل في الدنيا و هم ينفون أمور الآخرة بالظنون و الأوهام من مكان بعيد و هو الدنيا.

قوله تعالى: "و حيل بينهم و بين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب" ظاهر السياق أن المراد بما يشتهون اللذائذ المادية الدنيوية التي يحال بينهم و بينها بالموت، و المراد بأشياعهم من قبل أشباههم من الأمم الماضية أو موافقوهم في المذهب، و قوله: "إنهم كانوا في شك مريب" تعليل لقوله: "كما فعل" إلخ.

و المعنى: و وقعت الحيلولة بين المشركين المأخوذين و بين ما يشتهون من ملاذ الدنيا كما فعل ذلك بأشباههم من مشركي الأمم الدارجة من قبلهم إنهم كانوا في شك مريب من الحق أو من الآخرة فيقذفونها بالغيب.

و اعلم أن ما قدمناه من الكلام في هذه الآيات الأربع مبني على ما يعطيه ظاهر السياق و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن الآيات ناظرة إلى خسف جيش السفياني بالبيداء و هو من علائم ظهور المهدي (عليه السلام) المتصلة به فعلى تقدير نزول الآيات في ذلك يكون ما قدمناه من المعنى من باب جري الآيات فيه.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و أسروا الندامة لما رأوا العذاب" قال: يسرون الندامة في النار إذا رأوا ولي الله فقيل: يا بن رسول الله و ما يغنيهم أسرارهم الندامة و هم في العذاب؟ قال: يكرهون شماتة الأعداء:. أقول: و رواه أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام).



و فيه،: و ذكر رجل عند أبي عبد الله (عليه السلام) الأغنياء و وقع فيهم فقال أبو عبد الله (عليه السلام): اسكت فإن الغني إذا كان وصولا لرحمه بارا بإخوانه أضعف الله له الأجر ضعفين لأن الله يقول: "و ما أموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى - إلا من آمن و عمل صالحا - فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا - و هم في الغرفات آمنون".

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يقول فيه: حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز و جل: "جزاء من ربك عطاء حسابا" و قال: "أولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا - و هم في الغرفات آمنون".

و في الكافي، بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من صدق بالخلف جاد بالعطية.

و فيه، بإسناده عن سماعة عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة، ثم قال: اقرءوا مواضع الخلف فإني سمعت الله يقول: "و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه" إذا لم ينفقوا كيف يخلف؟ و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "قل ما سألتكم عليه من أجر فهو لكم" و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل قومه أن يودوا أقاربه و لا يؤذوهم. و أما قوله: "فهو لكم" يقول: ثوابه لكم.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "و لو ترى إذ فزعوا" الآية،: أخرج الحاكم و صححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يخرج رجل يقال له السفياني في عمق دمشق و عامة من يتبعه من كلب فيقتل حتى يبقر بطون النساء و يقتل الصبيان فيجمع لهم قيس فيقتلها حتى لا يمنع ذنب تلعة و يخرج رجل من أهل بيتي فيبلغ السفياني فيبعث إليه جندا من جنده فيهزمهم فيسير إليه السفياني بمن معه حتى إذا صار ببيداء من الأرض خسف بهم فلا ينجو منهم إلا المخبر منهم.

أقول: و الرواية مستفيضة من طرق أهل السنة مختصرة أو مفصلة و قد رووها من طرق مختلفة عن ابن عباس و ابن مسعود و حذيفة و أبي هريرة و جد عمرو بن شعيب و أم سلمة و صفية و عائشة و حفصة أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نفيرة امرأة القعقاع عن سعيد بن جبير موقوفا.



و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت": حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي خالد الكابلي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): و الله لكأني أنظر إلى القائم (عليه السلام) و قد أسند ظهره إلى الحجر ثم ينشد الله حقه ثم يقول: يا أيها الناس من يحاجني في الله. فأنا أولى بالله أيها الناس من يحاجني بآدم فأنا أولى بآدم. أيها الناس من يحاجني في نوح فأنا أولى بنوح. أيها الناس من يحاجني بإبراهيم فأنا أولى بإبراهيم. أيها الناس من يحاجني بموسى فأنا أولى بموسى. أيها الناس من يحاجني بعيسى فأنا أولى بعيسى. أيها الناس من يحاجني بمحمد فأنا أولى بمحمد. أيها الناس من يحاجني بكتاب الله فأنا أولى بكتاب الله. ثم ينتهي إلى المقام فيصلي ركعتين و ينشد الله حقه. ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): هو و الله المضطر في كتاب الله في قوله: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض". فيكون أول من يبايعه جبرئيل ثم الثلاثمائة و الثلاثة عشر فمن كان ابتلي بالمسير وافى و من لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه و هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): هم المفقودون عن فرشهم و ذلك قول الله: "فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا" قال: الخيرات الولاية، و قال في موضع آخر: "و لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة" و هم أصحاب القائم (عليه السلام) يجتمعون و الله إليه في ساعة واحدة. فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفياني فيأمر الله عز و جل الأرض فيأخذ بأقدامهم و هو قوله عز و جل: "و لو ترى إذ فزعوا فلا فوت - و أخذوا من مكان قريب و قالوا آمنا به" يعني بالقائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) "و أنى لهم التناوش من مكان بعيد و حيل بينهم و بين ما يشتهون" يعني أن لا يعذبوا "كما فعل بأشياعهم" يعني من كان قبلهم من المكذبين هلكوا "من قبل إنهم كانوا في شك مريب".

تم و الحمد لله.

<<        الفهرس        >>