جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج17 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


36 سورة يس - 13 - 32

وَ اضرِب لهَُم مّثَلاً أَصحَب الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسلُونَ (13) إِذْ أَرْسلْنَا إِلَيهِمُ اثْنَينِ فَكَذّبُوهُمَا فَعَزّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنّا إِلَيْكُم مّرْسلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلا بَشرٌ مِّثْلُنَا وَ مَا أَنزَلَ الرّحْمَنُ مِن شىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبّنَا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكمْ لَمُرْسلُونَ (16) وَ مَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنّا تَطيرْنَا بِكُمْ لَئن لّمْ تَنتَهُوا لَنرْجُمَنّكمْ وَ لَيَمَسنّكم مِّنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طئرُكُم مّعَكُمْ أَ ئن ذُكرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مّسرِفُونَ (19) وَ جَاءَ مِنْ أَقْصا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسعَى قَالَ يَقَوْمِ اتّبِعُوا الْمُرْسلِينَ (20) اتّبِعُوا مَن لا يَسئَلُكمْ أَجْراً وَ هُم مّهْتَدُونَ (21) وَ مَا لىَ لا أَعْبُدُ الّذِى فَطرَنى وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) ءَ أَتخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرّحْمَنُ بِضرٍّ لا تُغْنِ عَنى شفَعَتُهُمْ شيْئاً وَ لا يُنقِذُونِ (23) إِنى إِذاً لّفِى ضلَلٍ مّبِينٍ (24) إِنى ءَامَنت بِرَبِّكُمْ فَاسمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الجَْنّةَ قَالَ يَلَيْت قَوْمِى يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لى رَبى وَ جَعَلَنى مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَ مَا أَنزَلْنَا عَلى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمَاءِ وَ مَا كُنّا مُنزِلِينَ (28) إِن كانَت إِلا صيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَمِدُونَ (29) يَحَسرَةً عَلى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رّسولٍ إِلا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ (30) أَ لَمْ يَرَوْا كمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنهُمْ إِلَيهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَ إِن كلّ لّمّا جَمِيعٌ لّدَيْنَا محْضرُونَ (32)

بيان

مثل مشتمل على الإنذار و التبشير ضربه الله سبحانه لعامة القوم يشير فيه إلى الرسالة الإلهية و ما تستتبعه الدعوة الحقة من المغفرة و الأجر الكريم لمن آمن بها و اتبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب، و من العذاب الأليم لمن كفر و كذب بها فحق عليه القول، و فيه إشارة إلى وحدانيته تعالى و معاد الناس إليه جميعا.

و لا منافاة بين إخباره بأنهم لا يؤمنون سواء أنذروا أم لم ينذروا و بين إنذارهم لأن في البلاغ إتماما للحجة و تكميلا للسعادة أو الشقاوة قال تعالى: "ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة:" الأنفال: - 42، و قال: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا:" الإسراء: - 82.

قوله تعالى: "و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون" المثل كلام أو قصة يمثل به مقصد من المقاصد فيتضح للمخاطب، و لما كانت قصتهم توضح ما تقدم من الوعد و الوعيد أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضربها مثلا لهم.

و الظاهر أن "مثلا" مفعول ثان لقوله: "اضرب" و مفعوله الأول قوله: "أصحاب القرية" و المعنى و اضرب لهم أصحاب القرية و حالهم هذه الحال مثلا و قد قدم المفعول الثاني تحرزا عن الفصل المخل.

قوله تعالى: "إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون" التعزيز من العزة بمعنى القوة و المنعة، و قوله: "إذ أرسلنا إليهم" بيان تفصيلي لقوله: "إذ جاءها المرسلون".

و المعنى: و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية و هم في زمان أرسلنا إليهم رسولين اثنين من رسلنا فكذبوهما أي الرسولين فقويناهما برسول ثالث فقالت الرسل إنا إليكم مرسلون من جانب الله.

قوله تعالى: "قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا و ما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون" كانوا يرون أن البشر لا ينال النبوة و الوحي، و يستدلون على ذلك بأنفسهم حيث لا يجدون من أنفسهم شيئا من ذاك القبيل فيسرون الحكم إلى نفوس الأنبياء مستندين إلى أن حكم الأمثال واحد.

و على هذا التقرير يكون معنى قوله: "و ما أنزل الرحمن من شيء" لم ينزل الله وحيا و لو نزل شيئا على بشر لنلناه من نفوسنا كما تدعون أنتم ذلك، و تعبيرهم عن الله سبحانه بالرحمن إنما هو لكونهم كسائر الوثنيين معترفين بالله سبحانه و اتصافه بكرائم الصفات 1 كالخلق و الرحمة و الملك غير أنهم يرون أنه فوض أمر التدبير إلى مقربي خلقه كالملائكة الكرام فهم الأرباب المدبرون و الآلهة المعبودون، و أما الله عز اسمه فهو رب الأرباب و إله الآلهة.

و من الممكن أن يكون ذكر اسم الرحمن في الحكاية دون المحكي فيكون التعبير به لحلمه و رحمته تعالى قبل إنكارهم و تكذيبهم للحق الصريح.

و قوله: "إن أنتم إلا تكذبون" بمنزلة النتيجة لصدر الآية، و محصل قولهم إنكم بشر مثلنا و لا نجد نحن على بشريتنا في نفوسنا شيئا من الوحي النازل الذي تدعونه و أنتم مثلنا فما أنزل الرحمن شيئا من الوحي فدعواكم كاذبة و إذ ليس لكم إلا هذه الدعوى فإن أنتم إلا تكذبون.



و يظهر بما تقدم نكتة الحصر في قوله: "إن أنتم إلا تكذبون" و كذا الوجه في نفي الفعل و لم يقل: إن أنتم إلا كاذبون لأن المراد نفي الفعل في الحال دون الاستمرار و الاستقبال.

قوله تعالى: "قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون و ما علينا إلا البلاغ المبين" لم يحك الله سبحانه عن هؤلاء الرسل جوابا عن حجة قومهم ما أنتم إلا بشر مثلنا" إلخ.

كما نقل عن الرسل المبعوثين إلى الأمم الدارجة لما احتجت أممهم بمثل هذه الحجة "إن أنتم إلا بشر مثلنا" فردتها رسلهم بقولهم: "إن نحن إلا بشر مثلكم و لكن الله يمن على من يشاء من عباده:" إبراهيم: - 11 و قد مر تقريره.

بل حكى عنهم أنهم ذكروا للقوم أنهم مرسلون إليهم مأمورون بتبليغ الرسالة ليس عليهم إلا ذلك و أنهم في غنى عن تصديقهم لهم و إيمانهم بهم و يكفيهم فيه أن يعلم ربهم بأنهم مرسلون لا حاجة لهم إلى أزيد من ذلك.

فقوله: "قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون" إخبار عن رسالتهم و قد أكد الكلام بأن المشددة المكسورة و اللام، و الاستشهاد بعلم ربهم بذلك، و قوله: "ربنا يعلم" معترض بمنزلة القسم، و المعنى إنا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة و يكفينا في ذلكم علم ربنا الذي أرسلنا بها و لا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا و لا نفع لنا فيه من أجر و نحوه و لا يهمنا تحصيله منكم بل الذي يهمنا هو تبليغ الرسالة و إتمام الحجة.

و قوله: "و ما علينا إلا البلاغ المبين" البلاغ هو التبليغ و المراد به تبليغ الرسالة أي لم يؤمر و لم نكلف إلا بتبليغ الرسالة و إتمام الحجة.

قوله تعالى: "قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم و ليمسنكم منا عذاب أليم" القائلون أصحاب القرية و المخاطبون هم الرسل، و التطير هو التشؤم و قولهم: "لئن لم تنتهوا" إلخ.

تهديد منهم للرسل.

و المعنى: قالت أصحاب القرية لرسلهم، إنا تشأمنا بكم و نقسم لئن لم تنتهوا عن التبليغ و لم تكفوا عن الدعوة لنرجمنكم بالحجارة و ليصلن إليكم و ليقعن بكم منا عذاب أليم.

قوله تعالى: "قالوا طائركم معكم أ ئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون" القائلون هم الرسل يخاطبون به أصحاب القرية.

و قوله: "طائركم معكم" الطائر في الأصل هو الطير و كان يتشاءم به ثم توسع و استعمل في كل ما يتشاءم به، و ربما يستعمل فيما يستقبل الإنسان من الحوادث، و ربما يستعمل في البخت الشقي الذي هو أمر موهوم يرونه مبدأ لشقاء الإنسان و حرمانه من كل خير.

و كيف كان فقوله: "طائركم معكم" ظاهر معناه أن الذي ينبغي أن تتشأموا به هو معكم و هو حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد و إقبالكم إلى الباطل الذي هو الشرك.

و قيل: المعنى طائركم أي حظكم و نصيبكم من الخير و الشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير و إن شرا فشر، هذا و هو أخذ الطائر بالمعنى الثاني لكن قوله بعد: "أ ئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون" أنسب بالنسبة إلى المعنى الأول.

و قوله: "أ ئن ذكرتم" استفهام توبيخي و المراد بالتذكير تذكيرهم بالحق من وحدانيته تعالى و رجوع الكل إليه و نحوهما و جزاء الشرط محذوف في الكلام تلويحا إلى أنه مما لا ينبغي أن يذكر أو يتفوه به و التقدير أ إن ذكرتم بالحق قابلتموه بمثل هذا الجحود الشنيع و الصنيع الفظيع من التطير و التوعد.



و قوله: "بل أنتم قوم مسرفون" أي مجاوزون للحد في المعصية و هو إضراب عما تقدم و المعنى بل السبب الأصلي في جحودكم و تكذيبكم للحق أنكم قوم تستمرون على الإسراف و مجاوزة الحد.

قوله تعالى: "و جاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين" أقصى المدينة أبعد مواضعها بالنسبة إلى مبدإ مفروض، و قد بدلت القرية في أول الكلام مدينة هنا للدلالة على عظمها و السعي هو الإسراع في المشي.

و وقع نظير هذا التعبير في قصة موسى و القبطي و فيها "و جاء رجل من أقصى المدينة يسعى" فقدم "رجل" هناك و أخر هاهنا و لعل النكتة في ذلك أن الاهتمام هناك بمجيء الرجل و إخباره موسى بائتمار الملإ لقتله فقدم الرجل ثم أشير إلى اهتمام الرجل نفسه بإيصال الخبر و إبلاغه فجيء بقوله: "يسعى" حالا مؤخرا بخلاف ما هاهنا فالاهتمام بمجيئه من أقصى المدينة ليعلم أن لا تواطؤ بينه و بين الرسل في أمر الدعوة فقدم "من أقصى المدينة" و أخر الرجل و سعيه.

و قد اشتد الخلاف بينهم في اسم الرجل و اسم أبيه و حرفته و شغله و لا يهمنا الاشتغال بذلك في فهم المراد و لو توقف عليه الفهم بعض التوقف لأشار سبحانه في كلامه إليه و لم يهمله.

و إنما المهم هو التدبر في حظه من الإيمان في هذا الموقف الذي انتهض فيه لتأييد الرسل (عليهم السلام) و نصرتهم فقد كان على ما يعطيه التدبر في المنقول من كلامه رجلا نور الله سبحانه قلبه بنور الإيمان يؤمن بالله إيمان إخلاص يعبده لا طمعا في جنة أو خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة و لذلك كان من المكرمين و لم يصف الله سبحانه في كلامه بهذا الوصف إلا ملائكته المقربين و عباده المخلصين، و قد خاصم القوم فخصمهم و أبطل ما تعلق به القوم من الحجة على عدم جواز عبادة الله سبحانه و وجوب عبادة آلهتهم و أثبت وجوب عبادته وحده و صدق الرسل في دعواهم الرسالة ثم آمن بهم.

قوله تعالى: "اتبعوا من لا يسألكم أجرا و هم مهتدون" بيان لقوله: "اتبعوا المرسلين" و في وضع قوله: "من لا يسألكم أجرا و هم مهتدون" في هذه الآية موضع قوله: "المرسلين" في الآية السابقة إشعار بالعلية و بيانها أن عدم جواز اتباع قائل في قوله إنما يكون لأحد أمرين: إما لكون قوله ضلالا و القائل به ضالا و لا يجوز اتباع الضال في ضلاله، و إما لأن القول و إن كان حقا و الحق واجب الاتباع لكن لقائله غرض فاسد يريد أن يتوسل إليه بكلمة الحق كاقتناء المال و اكتساب الجاه و المقام و نحو ذلك، و أما إذا كان القول حقا و كان القائل بريئا من الغرض الفاسد منزها من الكيد و المكر و الخيانة كان من الواجب اتباعه في قوله، و هؤلاء الرسل مهتدون في قولهم: لا تعبدوا إلا الله، و هم لا يريدون منكم أجرا من مال أو جاه فمن الواجب عليكم أن تتبعوهم في قولهم.

أما أنهم مهتدون فلقيام الحجة على صدق ما يدعون إليه من التوحيد و كونه حقا، و الحجة هي قوله: "و ما لي لا أعبد" إلى تمام الآيتين.

و أما أنهم لا يريدون منكم أجرا فلما دل عليه قولهم: "ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون" و قد تقدم تقريره.

و بهذا البيان يتأيد ما قدمناه من كون قولهم: "ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون" مسوقا لنفي إرادتهم من القوم أجرا أو غير ذلك.



قوله تعالى: "و ما لي لا أعبد الذي فطرني و إليه ترجعون ء أتخذ من دونه آلهة" - إلى قوله - و لا ينقذون" شرع في استفراغ الحجة على التوحيد و نفي الآلهة في آيتين و اختار لذلك سياق التكلم وحده إلا في جملة اعترض بها في خلال الكلام و هي قوله: "و إليه ترجعون" و ذلك بإجراء الحكم في نفسه بما أنه إنسان أوجده الله و فطره حتى يجري في كل إنسان هو مثله و الأفراد أمثال فقوله: "و ما لي لا أعبد" إلخ.

في معنى و ما للإنسان لا يعبد إلخ.

أ يتخذ الإنسان من دونه آلهة إلخ.

و قد عبر عنه تعالى بقوله: "الذي فطرني" للإشعار بالعلية فإن فطره تعالى للإنسان و إيجاده له بعد العدم لازمه رجوع كل ما للإنسان من ذات و صفات و أفعال إليه تعالى و قيامه به و ملكه له فليس للإنسان إلا العبودية محضة فعلى الإنسان أن ينصب نفسه في مقام العبودية و يظهرها بالنسبة إليه تعالى و هذا هو العبادة فعليه أن يعبده تعالى لأنه أهل لها.

و هذا هو الذي أشرنا إليه آنفا أن الرجل كان يعبد الله بالإخلاص له لا طمعا في جنة و لا خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة.

و إذ كان الإيمان به تعالى و عبادته هكذا أمرا لا يناله عامة الناس فإن الأكثرين منهم إنما يعبدون خوفا أو طمعا أو لكليهما التفت الرجل بعد بيان حال نفسه إلى القوم فقال: "و إليه ترجعون" يريد به إنذارهم بيوم الرجوع و أنه تعالى سيحاسبهم على ما عملوا فيجازيهم بمساوىء أعمالهم فقوله: "و إليه ترجعون" كالمعترضة الخارجة عن السياق أو هي هي.

ثم إن الآيتين حجتان قائمتان على إبطال ما احتج به الوثنية و بنوا على ذلك عبادة الأصنام و أربابها.

توضيح ذلك أنهم قالوا: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو خيال أو عقل لا يناله شيء من القوى الإدراكية فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فسبيل العبادة أن نتوجه إلى مقربي حضرته و الأقوياء من خلقه كالملائكة الكرام و الجن و القديسين من البشر حتى يكونوا شفعاء لنا عند الله في إيصال الخيرات و دفع الشرور و المكاره.

و الجواب عن أولى الحجتين بما حاصله أن الإنسان و إن كان لا يحيط علما بالذات المتعالية لكنه يعرفه تعالى بصفاته الخاصة به مثل كونه فاطرا له موجدا إياه فله أن يتوجه إليه من طريق هذه الصفات و إنكار إمكانه مكابرة، و هذا الجواب هو الذي أشار إليه بقوله: "و ما لي لا أعبد الذي فطرني".

و عن الثانية أن هؤلاء الآلهة إن كانت لهم شفاعة كانت مما أفاضه الله عليهم و الله سبحانه لا يعطيهم ذلك إلا فيما لا تتعلق به منه إرادة حاتمة و لازمه أن شفاعتهم فيما أذن الله لهم فيه كما قال: "ما من شفيع إلا من بعد إذنه:" يونس: - 3 أما إذا أراد الله شيئا إرادة حتم فلا تنفع شفاعتهم شيئا في المنع عن نفوذها فاتخاذهم آلهة و عدمه سواء في عدم التأثير لجلب خير أو دفع شر، و إلى ذلك أشار بقوله: "ء أتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا و لا ينقذون".

و تعبيره عنه تعالى بالرحمن إشارة إلى سعة رحمته و كثرتها و أن النعم كلها من عنده و تدبير الخير و الشر إليه و يتحصل من هنا برهان آخر على وحدانيته تعالى في الربوبية، إذ لما كان جميع النعم و كذا النظام الجاري فيها، من رحمته و قائمة به من غير استقلال في شيء منها كان المستقل بالتدبير هو تعالى حتى أن تدبير الملائكة لو فرض تدبيرهم لشيء من رحمته و تدبيره تعالى و كانت الربوبية له تعالى وحده و كذا الألوهية.

قوله تعالى: "إني إذا لفي ضلال مبين" تسجيل للضلال على اتخاذ الآلهة.



قوله تعالى: "إني آمنت بربكم فاسمعون" من كلام الرجل خطابا للرسل و قوله: "فاسمعون" كناية عن الشهادة بالتحمل، و قوله: "إني آمنت بربكم" إلخ.

تجديد الشهادة بالحق و تأكيد للإيمان فإن ظاهر السياق أنه إنما قال: "إني آمنت بربكم" بعد محاجته خطابا للرسل ليستشهدهم على إيمانه و ليؤيدهم بإيمانهم بمرأى من القوم و مسمع.

و قيل: إنه خطاب للقوم تأييدا للرسل، و المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك أو المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني و آمنوا به أو أنه أراد به أن يغضبهم و يشغلهم عن الرسل بنفسه حيث إنه رأى أنهم بصدد الإيقاع بهم.

هذا.

و فيه أنه لا يلائمه التعبير عن الله سبحانه بقوله: "ربكم" فإن القوم ما كانوا يتخذونه تعالى ربا لهم و إنما كانوا يعبدون الأرباب من دون الله سبحانه.

و رد بأن المعنى إني آمنت بربكم الذي قامت الحجة على ربوبيته لكم و هو الله سبحانه.

و فيه أنه تقييد من غير مقيد.

قوله تعالى: "قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين" الخطاب للرجل و هو - كما يفيده السياق - يلوح إلى أن القوم قتلوه فنودي من ساحة العزة أن ادخل الجنة كما يؤيده قوله بعد: "و ما أنزلنا على قومه من بعده" إلخ فوضع قوله: "قيل ادخل الجنة موضع الإخبار عن قتلهم إياه إشارة إلى أنه لم يكن بين قتله بأيديهم و بين أمره بدخول الجنة أي فصل و انفكاك كأن قتله بأيديهم هو أمره بدخول الجنة.

و المراد بالجنة على هذا جنة البرزخ دون جنة الآخرة، و قول بعضهم: إن المراد بها جنة الآخرة و المعنى سيقال له: ادخل الجنة يوم القيامة و التعبير بالماضي لتحقق الوقوع تحكم من غير دليل كما قيل: إن الله رفعه إلى السماء فقيل له ادخل الجنة فهو حي يتنعم فيها إلى قيام الساعة، و هو تحكم كسابقه.

و قيل: إن القائل: "ادخل الجنة" هو القوم قالوا له ذاك حين قتله استهزاء و فيه أنه لا يلائم ما أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد: "قال يا ليت قومي يعلمون" إلخ فإن ظاهره أنه تمنى علم قومه بما هو فيه بعد استماع نداء "ادخل الجنة" و لم يسبق من الكلام ما يصح أن يبتني عليه قوله ذاك.

و قوله: "قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين" استئناف كسابقه كالجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان بعد تأييده للرسل؟ فقيل: "قيل ادخل الجنة" ثم قيل: فما ذا كان بعد؟ فقيل: "قال يا ليت قومي يعلمون" إلخ و هو نصح منه لقوله ميتا كما كان ينصحهم حيا.

و "ما" في قوله: "بما غفر لي" إلخ مصدرية، و قوله: "و جعلني" عطف على "غفر" و المعنى بمغفرة ربي لي و جعله إياي من المكرمين.



و موهبة الإكرام و إن كانت وسيعة ينالها كثيرون كالإكرام بالنعمة كما في قوله: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربي أكرمن:" الفجر: - 15، و قوله: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم:" الحجرات: - 13 فإن كرامة العبد عند الله إكرام منه له لكنه لم يعد من المكرمين بوصف الإطلاق إلا طائفتين من خلقه: الملائكة الكرام كما في قوله: "بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون:" الأنبياء: - 27، و الكاملين في إيمانهم من المؤمنين سواء كانوا من المخلصين بكسر اللام كما في قوله: "أولئك في جنات مكرمون:" المعارج: - 35، أو من المخلصين بفتح اللام كما في قوله: "إلا عباد الله المخلصين - إلى أن قال - و هم مكرمون:" الصافات: - 42.

و الآية من أدلة وجود البرزخ.

قوله تعالى: "و ما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء و ما كنا منزلين" الضميران للرجل، و "من بعده" أي من بعد قتله، و "من" الأولى و الثالثة لابتداء الغاية، و الثانية مزيدة لتأكيد النفي.

و الآية توطئة للآية التالية، و هي مسوقة لبيان هوان أمر القوم و الانتقام منهم بإهلاكهم على الله سبحانه و أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى عدة و عدة حتى ينزل من السماء جندا من الملائكة يقاتلونهم فيهلكونهم فلم يفعل ذلك فيهم و لا فعل ذلك في إهلاك من أهلك من الأمم الماضين و إنما أهلكهم بصيحة واحدة تقضي عليهم.

قوله تعالى: "إن كانت إلا صيحة واحدة، فإذا هم خامدون" أي ما كان الأمر الذي كان سبب إهلاكهم بمشيتنا إلا صيحة واحدة، و تأنيث الفعل لتأنيث الخبر و تنكير "صيحة" و توصيفها بالوحدة للاستحقار، و الخمود السكون و استئناف الجملة لكونها كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان سبب إهلاكهم؟ فقيل: إن كانت إلا صيحة واحدة.

و المعنى: كان سبب هلاكهم أيسر أمر و هي صيحة واحدة ففاجأهم السكون فصاروا ساكنين لا يسمع لهم حس و هم عن آخرهم موتى لا يتحركون.

قوله تعالى: "يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون" أي يا ندامة العباد و نداء الحسرة عليهم أبلغ من إثباتها لهم، و سبب الحسرة ما يتضمنه قوله: "ما يأتيهم من رسول" إلخ.

و من هذا السياق يستفاد أن المراد بالعباد عامة الناس و تتأكد الحسرة بكونهم عبادا فإن رد العبد دعوة مولاه و تمرده عنه أشنع من رد غيره نصيحة الناصح.

و بذلك يظهر سخافة قول من قال: إن المراد بالعباد الرسل أو الملائكة أو هما جميعا.

و كذا قول من قال: إن المراد بالعباد الناس لكن المتحسر هو الرجل.

و ظهر أيضا أن قوله: "يا حسرة على العباد" إلخ من قول الله تعالى لا من تمام قول الرجل.

قوله تعالى: "أ لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون" توبيخ لأولئك الذين نودي عليهم بالحسرة، و "من القرون" بيان لكم، و القرون جمع قرن و هو أهل عصر واحد.

و قوله: "إنهم إليهم لا يرجعون" بيان لقوله: "كم أهلكنا قبلهم من القرون" ضمير الجمع الأول للقرون و الثاني و الثالث للعباد.

و المعنى: أ لم يعتبروا بكثرة المهلكين بأمر الله من القرون الماضية و أنهم مأخوذون بأخذ إلهي لا يتمكنون من الرجوع إلى ما كانوا يترفون فيه؟ و للقوم في مراجع الضمائر و في معنى الآية أقوال أخر بعيدة عن الفهم تركنا إيرادها.

قوله تعالى: "و إن كل لما جميع لدينا محضرون" لفظة "إن" حرف نفي و "كل" مبتدأ تنوينه عوض عن المضاف إليه، و "لما" بمعنى إلا، و جميع بمعنى مجموع، و لدينا ظرف متعلق به، و محضرون خبر بعد خبر و هو جميع، و احتمل بعضهم أن يكون صفة لجميع.

و المعنى: و ما كلهم إلا مجموعون لدينا محضرون للحساب و الجزاء يوم القيامة فالآية في معنى قوله: "ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود:" هود - 103.

بحث روائي



في المجمع، قالوا: بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له و هو حبيب صاحب يس فسلما عليه فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال: أ معكما آية؟ قالا نعم نحن نشفي المريض و نبرىء الأكمه و الأبرص بإذن الله تعالى فقال الشيخ: إن لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزل نتطلع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ففشا الخبر في المدينة و شفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى. و كان لهم ملك يعبد الأصنام فأنهي الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع و لا يبصر إلى عبادة من يسمع و يبصر. قال الملك: و لنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك و آلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما فأخذهما الناس في السوق و ضربوهما. قال وهب بن منبه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها و لم يصلا إلى ملكها و طالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا و ذكرا الله فغضب الملك و أمر بحبسهما و جلد كل واحد منهما مائة جلدة. فلما كذب الرسولان و ضربا، بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على أمرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه و رضي عشرته و أنس به و أكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن و ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما؟ قال الملك: حال الغضب بيني و بين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما. فدعاهما الملك فقال لها شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء لا شريك له. قال: و ما آتاكما؟ قالا: ما تتمناه، فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين و موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان الله حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك ثم قال شمعون للملك: أ رأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا؟ فيكون لك و لأهلك شرفا. فقال الملك: ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يضر و لا ينفع. ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به و بكما. قالا: إلهنا قادر على كل شيء فقال، الملك إن هاهنا ميتا مات منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه و كان غائبا فجاءوا بالميت و قد تغير و أروح فجعلا يدعوان ربهما علانية و جعل شمعون يدعو ربه سرا فقام الميت و قال لهم إني قد مت منذ سبعة أيام و أدخلت في سبعة أودية من النار و أنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله فتعجب الملك، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك دعاه إلى الله فآمن و آمن من أهل مملكته قوم و كفر آخرون.

قال: و قد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالي و غيره عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) إلا أن في بعض الروايات: بعث الله الرسولين إلى أهل أنطاكية ثم بعث الثالث و في بعضها أن عيسى أوحى الله إليه أن يبعثهما ثم بعث وصيه شمعون ليخلصهما، و أن الميت الذي أحياه الله بدعائهما كان ابن الملك و أنه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بني ما حالك؟ قال: كنت ميتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان الله تعالى أن يحييني. قال: يا بني فتعرفهما إذا رأيتهما؟ قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمر عليه رجل بعد رجل فمر أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما. ثم مر الآخر فعرفهما و أشار بيده إليهما فآمن الملك و أهل مملكته.

و قال ابن إسحاق: بل كفر الملك و أجمع هو و قومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا و هو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم و يدعوهم إلى طاعة الرسل.

أقول: سياق آيات القصة لا يلائم بعض هذه الروايات.

و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و أبو نعيم و ابن عساكر و الديلمي عن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصديقين ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال: يا قوم اتبعوا المرسلين، و حزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله، و علي بن أبي طالب و هو أفضلهم.

أقول: و رواه أيضا عن البخاري في تأريخه عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظه: الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون و حبيب النجار صاحب آل ياسين و علي بن أبي طالب.

في المجمع، عن تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب و صاحب يس و مؤمن آل فرعون فهم الصديقون و علي أفضلهم.

أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن الطبراني و ابن مردويه و ضعفه عن ابن عباس عنه (عليه السلام) و لفظه: السبق ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون و السابق إلى عيسى صاحب يس و السابق إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب.

36 سورة يس - 33 - 47

وَ ءَايَةٌ لهُّمُ الأَرْض الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَهَا وَ أَخْرَجْنَا مِنهَا حَبّا فَمِنْهُ يَأْكلُونَ (33) وَ جَعَلْنَا فِيهَا جَنّتٍ مِّن نخِيلٍ وَ أَعْنَبٍ وَ فَجّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكلُوا مِن ثَمَرِهِ وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشكرُونَ (35) سبْحَنَ الّذِى خَلَقَ الأَزْوَجَ كلّهَا مِمّا تُنبِت الأَرْض وَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَ مِمّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَ ءَايَةٌ لّهُمُ الّيْلُ نَسلَخُ مِنْهُ النهَارَ فَإِذَا هُم مّظلِمُونَ (37) وَ الشمْس تجْرِى لِمُستَقَرٍّ لّهَا ذَلِك تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَ الْقَمَرَ قَدّرْنَهُ مَنَازِلَ حَتى عَادَ كالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشمْس يَنبَغِى لهََا أَن تُدْرِك الْقَمَرَ وَ لا الّيْلُ سابِقُ النهَارِ وَ كلّ فى فَلَكٍ يَسبَحُونَ (40) وَ ءَايَةٌ لهُّمْ أَنّا حَمَلْنَا ذُرِّيّتهُمْ فى الْفُلْكِ الْمَشحُونِ (41) وَ خَلَقْنَا لهَُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَ إِن نّشأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صرِيخَ لهَُمْ وَ لا هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلا رَحْمَةً مِّنّا وَ مَتَعاً إِلى حِينٍ (44) وَ إِذَا قِيلَ لهَُمُ اتّقُوا مَا بَينَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا خَلْفَكمْ لَعَلّكمْ تُرْحَمُونَ (45) وَ مَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَتِ رَبهِمْ إِلا كانُوا عَنهَا مُعْرِضِينَ (46) وَ إِذَا قِيلَ لهَُمْ أَنفِقُوا مِمّا رَزَقَكمُ اللّهُ قَالَ الّذِينَ كفَرُوا لِلّذِينَ ءَامَنُوا أَ نُطعِمُ مَن لّوْ يَشاءُ اللّهُ أَطعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلا فى ضلَلٍ مّبِينٍ (47)

بيان

بعد ما قص عليهم قصة أصحاب القرية و ما آل إليه أمرهم في الشرك و تكذيب الرسل و وبخهم على الاستهانة بأمر الرسالة، و أنذرهم بنزول العذاب عليهم كما نزل على المكذبين من القرون الأولى، و بأنهم جميعا محضرون للحساب و الجزاء.

أورد آيات من الخلق و التدبير تدل على ربوبيته و ألوهيته تعالى وحده لا شريك له ثم وبخهم على ترك النظر في آيات الوحدانية و المعاد و الإعراض عنها و الاستهزاء بالحق و الإمساك عن الإنفاق للفقراء و المساكين.

قوله تعالى: "و آية لهم الأرض الميتة أحييناها و أخرجنا منها حبا فمنه يأكلون" يذكر سبحانه في الآية و اللتين بعدها آية من آيات الربوبية و هي تدبير أمر أرزاق الناس و تغذيتهم من أثمار النبات من الحبوب و التمر و العنب و غيرها.

فقوله: "و آية لهم الأرض الميتة أحييناها" و إن كان ظاهره أن الآية هي الأرض إلا أن الجملتين توطئتان لقوله: "و أخرجنا منها حبا" إلخ و مسوقتان للإشارة إلى أن هذه الأغذية النباتية من آثار نفخ الحياة في الأرض الميتة و تبديلها حبا و ثمرا يأكلون من ذلك فالآية بنظر هي الأرض الميتة من حيث ظهور هذه الخواص فيها و تمام تدبير أرزاق الناس بها.

و قوله: "و أخرجنا منها حبا" أي و أخرجنا من الأرض بإنبات النبات حبا كالحنطة و الشعير و الأرز و سائر البقولات.

و قوله: "فمنه يأكلون" تفريع على إخراج الحب و بالأكل يتم التدبير، و ضمير "فمنه" للحب.

قوله تعالى: "و جعلنا فيها جنات من نخيل و أعناب و فجرنا فيها من العيون" قال الراغب: الجنة كل بستان ذي شجر تستر بأشجاره الأرض انتهى.

و النخيل جمع نخل و هو معروف، و الأعناب جمع عنب يطلق على الشجرة و هي الكرم و على الثمرة.

و قال الراغب: العين الجارحة - إلى أن قال - و يستعار العين لمعان هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة - إلى أن قال - و يقال لمنبع الماء عين تشبيها بها لما فيها من الماء

انتهي.

و التفجير في الأرض شقها لإخراج المياه، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "ليأكلوا من ثمره و ما عملته أيديهم أ فلا يشكرون اللام لتعليل ما ذكر في الآية السابقة أي جعلنا فيها جنات و فجرنا فيها العيون بشقها ليأكل الناس من ثمره.

و قوله: "من ثمره" قيل: الضمير للمجعول من الجنات و لذا أفرد و ذكر و لم يقل: من ثمرها أي من ثمر الجنات، أو من ثمرهما أي من ثمر النخيل و الأعناب.

و قيل: الضمير للمذكور و قد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة كما في قول رؤبة: فيها خطوط من سواد و بلق.

كأنه في الجلد توليع البهق.

فقد روي أن أبا عبيدة سأله عن قوله "كأنه" فقال كان ذاك.

و في مرجع ضمير "من ثمره" أقوال أخر رديئة كقول بعضهم إن الضمير للنخيل فقط، و قول آخر: إنه للماء لدلالة العيون عليه أو بحذف مضاف و التقدير ماء العيون و قول آخر: إن الضمير للتفجير المفهوم من "فجرنا" و المراد بالثمر على هذين الوجهين الفائدة، و قول آخر: إن الضمير له تعالى و إضافته إليه لأنه خلقه و ملكه.



و قوله: "و ما عملته أيديهم" العمل هو الفعل و الفرق بينهما - على ما ذكره الراغب - أن أكثر ما يستعمل العمل في الفعل المقارن للقصد و الإرادة، و لذلك يشذ استعماله في الحيوان و الجماد، و لذلك أيضا يتصف العمل بالصلاح و خلافه فيقال.

عمل صالح و عمل طالح و لا يتصف بهما مطلق الفعل.

و "ما" في "و ما عملته" نافية و المعنى و لم يعمل الثمر بأيديهم حتى يشاركونا في تدبير الأرزاق بل هو مما اختصصنا بخلقه و تتميم التدبير به من دون أن نستعين بهم فما بالهم لا يشكرون.

و يؤيد هذا المعنى قوله في أواخر السورة و هو يمتن عليهم بخلق الأنعام لتدبير أمر رزقهم و حياتهم: "أ و لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما - إلى أن قال - و منها يأكلون و لهم فيها منافع و مشارب أ فلا يشكرون".

و احتمل بعضهم كون "ما" في "و ما عملته" موصولة معطوفة على "ثمره" و المعنى ليأكلوا من ثمره و من الذي عملته أيديهم من ثمره كالخل و الدبس المأخوذين من التمر و العنب و غير ذلك.

و هذا الوجه و إن عده بعضهم أوجه من سابقه ليس بذاك فإن المقام مقام بيان آيات دالة على ربوبيته تعالى بذكر أمور من التدبير يخصه تعالى و لا يناسبه ذكر شيء من تدبير الغير معه و تتميم الحجة بذلك، و لو كان المراد ذكر عملهم بما أنه منته إلى خلقه تعالى و جزء من التدبير العام كان الأنسب أن يقال: و ما هديناهم إلى عمله أو ما يؤدي معناه لينتفي به توهم الشركة في التدبير.

و احتمل بعضهم كون "ما" نكرة موصوفة معطوفة على "ثمره" و المعنى ليأكلوا من ثمره و من شيء عملته أيديهم.

هذا و يرد عليه ما يرد على سابقه.

و قوله: "أ فلا يشكرون" توبيخ و استقباح لعدم شكره و شكره تعالى منهم على هذا التدبير إظهارهم جميل نعمه بذكره قولا و فعلا أي إظهارهم أنهم عباد له مدبرون بتدبيره و هو العبادة فشكره تعالى هو الاعتراف بربوبيته و اتخاذه إلها معبودا.

قوله تعالى: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض و من أنفسهم و مما لا يعلمون" إنشاء لتنزيهه تعالى، لما ذكر عدم شكرهم له على ما خلق لهم من أنواع النبات و رزقهم من الحبوب و الأثمار، و إنما عمل ذلك بتزويج بعض النبات بعضا كما قال: "و أنبتنا فيها من كل زوج بهيج:" ق: - 7 أشار إلى ما هو أعظم و أوسع من خلق أزواج النبات و هو خلق الأزواج كلها و تنظيم العالم المشهود باستيلاد كل شيء من فاعل و منفعل قبله هما أبواه كالذكر و الأنثى من الإنسان و الحيوان و النبات، و كل فاعل و منفعل يتلاقيان فينتجان بتلاقيهما أمرا ثالثا، أشار تعالى إلى ذلك فنزه نفسه بقوله: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها" إلخ.

فقوله: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها" إنشاء تسبيح على ما يعطيه السياق لا إخبار.

و قوله: "مما تنبت الأرض" هو و ما بعده بيان للأزواج و الذي تنبت الأرض هو النبات و لا يبعد شموله الحيوان و قد قال تعالى في الإنسان و هو من أنواع الحيوان "و الله أنبتكم من الأرض نباتا:" نوح: - 17 و يؤيد ذلك أن ظاهر سياق البيان استيعابه للمبين مع عدم ذكر الحيوان في عدد الأزواج.

و قوله: "و من أنفسهم" أي الناس، و قوله: "و مما لا يعلمون" و هو الذي يجهله الإنسان من الخليقة أو يجهل كيفية ظهوره أو ظهور الكثرة فيه.



و ربما قيل في الآية: إن المراد بالأزواج الأنواع و الأصناف، و لا يساعد عليه الآيات التي تذكر خلق الأزواج كقوله تعالى: "و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون:" الذاريات: - 49 و المقارنة و نوع من التألف و التركب من لوازم مفهوم الزوجية.

قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر و الأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، و لكل قرينين فيها و في غيرها: زوج كالخف و النعل، و لكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا: زوج، قال: و قوله: "خلقنا زوجين" فبين أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب.

انتهي.

فزوجية الزوج هي كونه مفتقرا في تحققه إلى تألف و تركب و لذلك يقال لكل واحد من القرينين من حيث هما قرينان: زوج لافتقاره إلى قرينه، و كذا يقال لمجموع القرينين: زوج لافتقاره في تحققه زوجا إلى التألف و التركب فكون الأشياء أزواجا مقارنة بعضها بعضا لإنتاج ثالث أو كونه مولدا من تألف اثنين.

قوله تعالى: "و آية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون" آية أخرى من آيات الربوبية الدالة على وقوع التدبير العام السماوي للعالم الإنساني مذكورة في أربع آيات.

و لا شك أن الآية تشير إلى مفاجأة الليل عقيب ذهاب النهار، و السلخ في الآية بمعنى الإخراج و لذلك عدي بمن و لو كان بمعنى النزع كما في قولنا: سلخت الإهاب عن الشاة تعين تعديه بعن دون من.

و يؤيد ذلك أنه تعالى عبر في مواضع من كلامه عن ورود كل من الليل و النهار عقيب الآخر بإيلاجه فيه فقال في مواضع من كلامه: "يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل:" الحج: - 61 فإذا كان ورود النهار بعد الليل إيلاجا للنهار في الليل اعتبارا كان مفاجأة الليل بعد النهار إخراجا للنهار من الليل اعتبارا.

كأن الليل أطبق عليهم و أحاطت بهم ظلمته ثم ولج فيه النهار فوسعهم نوره و ضياؤه ثم خرج منه ففاجأهم الليل ثانيا بانطباق الظلام و إحاطته بما أضاءه النهار ففي الكلام نوع من الاستعارة بالكناية.

و لعل فيما ذكرناه من الوجه كفاية عما أطنبوا فيه من البحث في معنى سلخ النهار من الليل ثم مفاجأة الليل.

قوله تعالى: "و الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم" جريها حركتها و قوله "لمستقر لها" اللام بمعنى إلى أو للغاية، و المستقر مصدر ميمي أو اسم زمان أو مكان، و المعنى أنها تتحرك نحو مستقرها أو حتى تنتهي إلى مستقرها أي استقرارها و سكونها بانقضاء أجلها أو زمن استقرارها أو محله.

و أما جريها و هو حركتها فظاهر النظر الحسي يثبت لها حركة دورية حول الأرض لكن الأبحاث العلمية تقضي بالعكس و تكشف أن لها مع سياراتها حركة انتقالية نحو النسر الواقع.

و كيف كان فمحصل المعنى أن الشمس لا تزال تجري ما دام النظام الدنيوي على حاله حتى تستقر و تسكن بانقضاء أجلها فتخرب الدنيا و يبطل هذا النظام، و هذا المعنى يرجع بالمال إلى معنى القراءة المنسوبة إلى أهل البيت و غيرهم: "و الشمس تجري لا مستقر لها" كما قيل.

و أما حمل جريها على حركتها الوضعية حول مركزها فهو خلاف ظاهر الجري الدال على الانتقال من مكان إلى مكان.

و قوله: "ذلك تقدير العزيز العليم" أي الجري المذكور تقدير و تدبير ممن لا يغلبه غالب في إرادته و لا يجهل جهات الصلاح في أفعاله.



قوله تعالى: "و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم" المنازل جمع منزل اسم مكان من النزول و الظاهر أن المراد به المنازل الثمانية و العشرون التي يقطعها القمر في كل ثمانية و عشرين يوما و ليلة تقريبا.

و العرجون عود عذق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته و هو عود أصفر مقوس يشبه الهلال، و القديم العتيق.

و قد اختلفت الأنظار في معنى الآية للاختلاف في تركيبها، و أقرب التقديرات من الفهم قول من قال: إن التقدير و القمر قدرناه ذا منازل أو قدرنا له منازل حتى عاد هلالا يشبه العرجون العتيق المصفر لونه.

تشير الآية إلى اختلاف مناظر القمر بالنسبة إلى أهل الأرض فإن نوره مكتسب من الشمس يستنير بها نصف كرته تقريبا و ما يقرب من النصف الآخر غير المسامت للشمس مظلم ثم يتغير موضع الاستنارة و لا يزال كذلك حتى يعود إلى الوضع الأول و يعرض ذلك أن يظهر لأهل الأرض في صورة هلال ثم لا يزال ينبسط عليه النور حتى يتبدر ثم لا يزال ينقص حتى يعود إلى ما كان عليه أوله.

و لاختلاف صوره آثار بارزة في البر و البحر و حياة الناس على ما بين في الأبحاث المربوطة.

فالآية الكريمة تذكر من آية القمر أحواله الطارئة له بالنسبة إلى الأرض و أهلها دون حاله في نفسه و دون حاله بالنسبة إلى الشمس فقط.

و من هنا لا يبعد أن يقال في قوله تعالى: "و الشمس تجري لمستقر لها" إن المراد بقوله: "تجري" الإشارة إلى ما يعطيه ظاهر الحس من حركتها اليومية و الفصلية و السنوية و هي حالها بالنسبة إلينا، و بقوله: "لمستقر لها" حالها في نفسها و هي سكونها بالنسبة إلى سياراتها المتحركة حولها كأنه قيل: و آية لهم أن الشمس على استقرارها تجري عليهم و قد دبر العزيز العليم بذلك كينونة العالم الأرضي و حياة أهله و الله أعلم.

قوله تعالى: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار و كل في فلك يسبحون" لفظة ينبغي تدل على الترجح و نفي ترجح الإدراك من الشمس نفي وقوعه منها، و المراد به أن التدبير ليس مما يجري يوما و يقف آخر بل هو تدبير دائم غير مختل و لا منقوض حتى ينقضي الأجل المضروب منه تعالى لذلك.

فالمعنى أن الشمس و القمر ملازمان لما خط لهما من المسير فلا تدرك الشمس القمر حتى يختل بذلك التدبير المعمول بهما و لا الليل سابق النهار و هما متعاقبان في التدبير فيتقدم الليل و النهار فيجتمع ليلتان ثم نهاران بل يتعاقبان.

و لم يتعرض لنفي إدراك القمر للشمس و لا لنفي سبق النهار الليل لأن المقام مقام بيان انحفاظ النظم الإلهي عن الاختلال و الفساد فنفى إدراك ما هو أعظم و أقوى و هو الشمس لما هو أصغر و أضعف و هو القمر، و يعلم منه حال العكس و نفى سبق الليل الذي هو افتقاده للنهار الذي هو ليله و الليل مضاف إليه متأخر طبعا منه و يعلم به حال العكس.

و قوله: "و كل في فلك يسبحون" أي كل من الشمس و القمر و غيرهما من النجوم و الكواكب يجرون في مجرى خاص به كما تسبح السمكة في الماء فالفلك هو المدار الفضائي الذي يتحرك فيه الجرم العلوي، و لا يبعد حينئذ أن يكون المراد بالكل كل من الشمس و القمر و الليل و النهار و إن كان لا يوجد في كلامه تعالى ما يشهد على ذلك.



و الإتيان بضمير الجمع الخاص بالعقلاء في قوله "يسبحون" لعله للإشارة إلى كونها مطاوعة لمشيته مطيعة لأمره تعالى كالعقلاء كما في قوله: "ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين:" حم السجدة: - 11.

و للمفسرين في جمل الآية آراء أخر مضطربة أضربنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع المفصلات.

قوله تعالى: "و آية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون" قال الراغب: الذرية أصلها الصغار من الأولاد، و تقع في التعارف على الصغار و الكبار معا، و يستعمل للواحد و الجمع و أصله للجمع.

انتهي.

و الفلك السفينة، و المشحون المملوء.

آية أخرى من آيات ربوبيته تعالى و هو جريان تدبيره في البحر حيث يحمل ذريتهم في الفلك المشحون بهم و بأمتعتهم يجوزون به من جانب إلى جانب للتجارة و غيرها، و لا حامل لهم فيه و لا حافظ لهم عن الغرق إلا هو تعالى و الخواص التي يستفيدون منها في ركوب البحر أمور مسخرة له تعالى منتهية إلى خلقه على أن هذه الأسباب لو لم تنته إليه تعالى لم تغن طائلا.

و إنما نسبت الحمل إلى الذرية دونهم أنفسهم فلم يقل: أنا حملناهم لإثارة الشفقة و الرحمة.

قوله تعالى: "و خلقنا لهم من مثله ما يركبون" المراد به - على ما فسروه - الأنعام قال تعالى: "و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون:" الزخرف: - 12 و قال: "و عليها و على الفلك تحملون:" المؤمن - 80.

و فسر بعضهم الفلك المذكور في الآية السابقة بسفينة نوح (عليه السلام) و ما في هذه الآية بالسفن و الزوارق المعمولة بعدها و هو تفسير رديء و مثله تفسير ما في هذه الآية بالإبل خاصة.

و ربما فسر ما في هذه الآية بالطيارات و السفن الجوية المعمولة في هذه الأعصار و التعميم أولى.

قوله تعالى: "و إن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم و لا هم ينقذون" الصريخ هو الذي يجيب الصراخ و يغيث، الاستغاثة و الإنقاذ هو الإنجاء من الغرق.

و الآية متصلة بقوله السابق: "أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون" أي إن الأمر إلى مشيتنا فإن نشأ نغرقهم فلا يغيثهم مغيث و لا ينقذهم منقذ.

قوله تعالى: "إلا رحمة منا و متاعا إلى حين" استثناء مفرغ و التقدير لا ينجون بسبب من الأسباب و أمر من الأمور إلا لرحمة منا تنالهم و لتمتع إلى حين الأجل المسمى الذي قدرناه لهم.

قوله تعالى: "و إذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم و ما خلفكم لعلكم ترحمون" لما ذكر الآيات الدالة على الربوبية ذمهم على عدم رعايتهم حقها و عدم إقبالهم عليها و عدم ترتيبهم عليها آثارها فإذا قيل لهم هذه الآيات البينات ناطقة أن ربكم الله فاتقوا معصيته في حالكم الحاضرة و ما قدمتم من المعاصي، أو عذاب الشرك و المعاصي التي أنتم مبتلون بها و ما خلفتم وراءكم، أو اتقوا ما بين أيديكم من الشرك و المعاصي في الحياة الدنيا و ما خلفكم من العذاب في الآخرة، أعرضوا عنه و لم يستجيبوا له على ما هو دأبهم في جميع الآيات التي ذكروا بها.

و من هنا يظهر أولا أن المراد بما بين أيديهم و ما خلفهم الشرك و المعاصي التي هم مبتلون بها في حالهم الحاضرة و ما كانوا مبتلين به قبل، أو العذاب الذي استوجبوه بذلك و المآل واحد، أو الشرك و المعاصي في الدنيا و العذاب في الآخرة و هو أوجه الوجوه.



و ثانيا: أن حذف جواب إذا للدلالة على أن حالهم بلغت من الجرأة على الله و الاستهانة بالحق مبلغا لا يستطاع معها ذكر ما يجيبون به داعي الحق إذا دعاهم إلى التقوى فيجب أن يترك أسفا و لا يذكر، و قد دل عليه بقوله: "و ما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين".

قوله تعالى: "و ما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين" المراد بإتيان الآيات موافاتها لهم بالمشاهدة أو بالتلاوة و الذكر، و أيضا هي أعم من أن تكون آية آفاقية أو أنفسية، أو تكون آية معجزة كالقرآن فهم معرضون عنها جميعا.

قوله تعالى: "و إذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله" إلى آخر الآية كان قوله: "و إذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم و ما خلفكم" متعرضا لجوابهم إذا دعوا إلى عبادة الله و هي أحد ركني الدين الحق، و هذه الآية تعرضت لجوابهم إذا دعوا إلى الشفقة على خلق الله و هو الركن الآخر و معلوم أن جوابهم الرد دون القبول.

فقوله: "و إذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله" يتضمن دعوتهم إلى الإنفاق على الفقراء و المساكين من أموالهم و في التعبير عن الأموال بما رزقهم الله إشعار بأن المالك لها حقيقة هو الله الذي رزقهم بها و سلطهم عليها، و هو الذي خلق الفقراء و المساكين و أقام حاجتهم إلى ما عند هؤلاء من فضل المؤن الذي لا يفتقرون إليه فلينفقوا عليهم و ليحسنوا و ليجملوا و الله يحب الإحسان و جميل الفعل.

و قوله: "قال الذين كفروا للذين آمنوا أ نطعم من لو يشاء الله أطعمه" جوابهم للدعوة إلى الإنفاق، و إنما أظهر القائل - الذين كفروا - و مقتضى المقام الإضمار للإشارة إلى أن كفرهم بالحق و إعراضهم عنه باتباع الشهوات هو الذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبني على الإعراض عما تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله و إصلاح ما فسد في المجتمع كما أن الإظهار في قوله: "للذين آمنوا" للإشارة إلى أن قائل "أنفقوا مما رزقكم الله" هم الذين آمنوا.

و في قولهم: "أ نطعم من لو يشاء الله أطعمه" إشعار بأن المؤمنين إنما قالوا لهم: "أنفقوا مما رزقكم الله" بعنوان أنه مما يشاؤه الله و يريده حكما دينيا فردوه بأن إرادة الله لا تتخلف عن مراده فلو شاء أن يطعمهم أطعمهم أي وسع في رزقهم و جعلهم أغنياء.

و هذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الإرادة التشريعية المبنية على الابتلاء و الامتحان و هداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم و آخرتهم و من الجائز أن تتخلف عن المراد بالعصيان، و بين الإرادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد و من المعلوم أن مشيئة الله و إرادته المتعلقة بإطعام الفقراء و الإنفاق عليهم من المشيئة التشريعية دون التكوينية فتخلفها في مورد الفقراء إنما يدل على عصيان الذين كفروا و تمردهم عما أمروا به لا على عدم تعلق الإرادة به و كذب مدعيه.

و هذه مغالطة بنوا عليها جل ما افتعلوه من سنن الوثنية و قد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله: "و قال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن و لا آباؤنا و لا حرمنا من دونه من شيء:" النحل: - 35، و قوله: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا و لا حرمنا من شيء:" الأنعام: - 148، و قوله: "و قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم:" الزخرف: - 20.



و قوله: "إن أنتم إلا في ضلال مبين" من تمام قول الذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنكم في ضلال مبين في دعواكم أن الله أمرنا بالإنفاق و شاء منا ذلك.

بحث روائي

في المجمع، روي عن علي بن الحسين زين العابدين و أبي جعفر الباقر و جعفر الصادق (عليه السلام): "لا مستقر لها" بنصب الراء.

و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أحمد البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: "و الشمس تجري لمستقر لها" قال: مستقرها تحت العرش.

أقول: و قد روي هذا المعنى عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق الخاصة و العامة مختصرة و مطولة، و في بعضها أنها بعد الغروب تصعد سماء سماء حتى تصل إلى ما دون العرش فتسجد و تستأذن في الطلوع و تبقى على ذلك حتى تكسى نورا و يؤذن لها في الطلوع.

و الرواية إن صحت فهي مؤولة.

و في روضة الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الشمس قبل القمر و خلق النور قبل الظلمة.

و في المجمع، روى العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا و الفضل بن سهل و المأمون في الإيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا (عليه السلام): إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل؟ فما عندكم؟ قال: و أداروا الكلام فلم يكن عندهم في ذلك شيء. فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله. قال: نعم من القرآن أم من الحساب قال له الفضل من جهة الحساب فقال: قد علمت يا فضل إن طالع الدنيا السرطان و الكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان و المشتري في السرطان و المريخ في الجدي و الشمس في الحمل و الزهرة في الحوت و عطارد في السنبلة و القمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، و من القرآن قوله تعالى: "و لا الليل سابق النهار" أي الليل قد سبقه النهار:. أقول: نقل الآلوسي في روح المعاني، هذا الحديث ثم قال: و في الاستدلال بالآية بحث ظاهر، و أما بالحساب فله وجه في الجملة و رأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار و له موافقة لما ذكر و الذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضا أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه انتهى.

و قد اختلط عليه الأمر في تحصيل حقيقة معنى الليل و النهار.

توضيحه: أن الليل و النهار متقابلان تقابل العدم و الملكة كالعمى و البصر فكما أن العمى ليس مطلق عدم البصر حتى يكون الجدار مثلا أعمى لعدم البصر فيه بل هو عدم البصر مما من شأنه أن يتصف بالبصر كالإنسان كذلك الليل ليس هو مطلق عدم النور بل هو زمان عدم استضاءة ناحية من نواحي الأرض بنور الشمس و من المعلوم أن عدم الملكة يتوقف في تحققه على تحقق الملكة المقابلة له قبله حتى يتعين بالإضافة إليه فلو لا البصر لم يتحقق عمى و لو لا النهار لم يتحقق الليل.



فمطلق الليل بمعناه الذي هو به ليل مسبوق الوجود بالنهار و قوله: "و لا الليل سابق النهار" و إن كان ناظرا إلى الترتيب المفروض بين النهر و الليالي و أن هناك نهارا و ليلا و نهارا و ليلا و أن واحدا من هذه الليالي لا يسبق النهار الذي بجنبه.

لكنه تعالى أخذ في قوله: "و لا الليل سابق النهار" مطلق الليل و نفى تقدمه على مطلق النهار و لم يقل: إن واحدا من الليالي الواقعة في هذا الترتيب لا يسبق النهار الواقع في الترتيب قبله.

فالحكم في الآية مبني على ما يقتضيه طبيعة الليل و النهار بحسب التقابل الذي أودعه الله بينهما و قد استفيد منه الحكم بانحفاظ الترتيب في تعاقب الليل و النهار فإن كل ليل هو افتقاد النهار الذي هو يتلوه فلا يتقدم عليه و إلى هذا يشير (عليه السلام) بعد ذكر الآية بقوله: "أي الليل قد سبقه النهار" يعني أن سبق النهار الليل هو خلقه قبله و ليس كما يتوهم أن هناك نهر أو ليالي موجودة ثم يتعين لكل منها محله.

و قول المعترض: "و أما بالحساب فله وجه في الجملة" لا يدرى وجه قوله: في الجملة و هو وجه تام مبني على تسليم أصول التنجيم صحيح بالجملة على ذلك التقدير لا في الجملة.

و كذا قوله: "و رأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار و له موافقة لما ذكر" لا محصل له لأن دائرة نصف النهار و هي الدائرة المارة على القطبين و نقطة ثالثة بينهما غير متناهية في العدد لا تتعين لها نقطة معينة في السماء دون نقطة أخرى فيكون كون الشمس في إحداهما نهارا للأرض دون أخرى.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و إذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم و ما خلفكم": روى الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب و ما خلفكم من العقوبة.

36 سورة يس - 48 - 65

وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (48) مَا يَنظرُونَ إِلا صيْحَةً وَحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يخِصمُونَ (49) فَلا يَستَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَ نُفِخَ فى الصورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرّحْمَنُ وَ صدَقَ الْمُرْسلُونَ (52) إِن كانَت إِلا صيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لّدَيْنَا محْضرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظلَمُ نَفْسٌ شيْئاً وَ لا تجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنّ أَصحَب الجَْنّةِ الْيَوْمَ فى شغُلٍ فَكِهُونَ (55) هُمْ وَ أَزْوَجُهُمْ فى ظِلَلٍ عَلى الأَرَائكِ مُتّكِئُونَ (56) لهَُمْ فِيهَا فَكِهَةٌ وَ لهَُم مّا يَدّعُونَ (57) سلَمٌ قَوْلاً مِّن رّبٍ رّحِيمٍ (58) وَ امْتَزُوا الْيَوْمَ أَيهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَبَنى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشيْطنَ إِنّهُ لَكمْ عَدُوّ مّبِينٌ (60) وَ أَنِ اعْبُدُونى هَذَا صِرَطٌ مّستَقِيمٌ (61) وَ لَقَدْ أَضلّ مِنكمْ جِبِلاّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنّمُ الّتى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نخْتِمُ عَلى أَفْوَهِهِمْ وَ تُكلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ (65)

بيان

لما فرغ من تفصيل آيات التوحيد المشار إليه إجمالا في أول الكلام شرع في تفصيل خبر المعاد و ذكر كيفية قيام الساعة و إحضارهم للحساب و الجزاء و ما يجزى به أصحاب الجنة و ما يجازى به المجرمون كل ذلك تبيينا لما تقدم من إجمال خبر المعاد.

قوله تعالى: "و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" كلام منهم وارد مورد الاستهزاء مبني على الإنكار، و لعله لذلك جيء باسم الإشارة الموضوعة للقريبة و لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين كثيرا ما كانوا يسمعونهم حديث يوم القيامة و ينذرونهم به، و الوعد يستعمل في الخير و الشر إذا ذكر وحده و إذا قابل الوعيد تعين الوعد للخير و الوعيد للشر.

قوله تعالى: "ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم و هم يخصمون" النظر بمعنى الانتظار، و المراد بالصيحة نفخة الصور الأولى بإعانة السياق، و توصيف الصيحة بالوحدة للإشارة إلى هوان أمرهم على الله جلت عظمته فلا حاجة إلى مئونة زائدة، و "يخصمون" أصله يختصمون من الاختصام بمعنى المجادلة و المخاصمة.

و الآية جواب لقولهم: "متى هذا الوعد" مسوقة سوق الاستهزاء بهم و الاستهانة بأمرهم كما كان قولهم كذلك، و المعنى ما ينتظر هؤلاء القائلون: متى هذا الوعد في سؤالهم عن وقت الوعد المنبىء عن الانتظار إلا صيحة واحدة - يسيرة علينا بلا مئونة و لا تكلف - تأخذهم فلا يسعهم أن يفروا و ينجوا منها و الحال أنهم غافلون عنها يختصمون فيما بينهم.

قوله تعالى: "فلا يستطيعون توصية و لا إلى أهلهم يرجعون" أي يتفرع على هذه الصيحة بما أنها تفاجئهم و لا تمهلهم أن يموتوا من فورهم فلا يستطيعوا توصية - على أن الموت يعمهم جميعا دفعة فلا يترك منهم أحدا يوصى إليه - و لا أن يرجعوا إلى أهلهم إذا كانوا في الخارج من بيوتهم مثلا.

قوله تعالى: "و نفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون" هذه هي نفخة الصور الثانية التي بها الإحياء و البعث، و الأجداث جمع جدث و هو القبر و النسل الإسراع في المشي و في التعبير عنه بقوله: "إلى ربهم" تقريع لهم لأنهم كانوا ينكرون ربوبيته و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: "قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون" البعث الإقامة، و المرقد محل الرقاد و المراد به القبر، و تعبيرهم عنه تعالى بالرحمن نوع استرحام و قد كانوا يقولون في الدنيا: "و ما الرحمن:" الفرقان: - 60، و قوله: "و صدق المرسلون" عطف على قوله: "هذا ما وعد الرحمن" و الجملة الفعلية قد تعطف على الاسمية.



و قولهم: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا مبني على إنكارهم البعث و هم في الدنيا و رسوخ أثر الإنكار و الغفلة عن يوم الجزاء في نفوسهم و هم لا يزالون مستغرقين في الأهواء فإذا قاموا من قبورهم مسرعين إلى المحشر فاجأهم الورود في عالم لا يستقبلهم فيه إلا توقع الشر فأخذهم الفزع الأكبر و الدهشة التي لا تقوم لها الجبال و لذا يتبادرون أولا إلى دعوة الويل و الهلاك كما كان ذلك دأبهم في الدنيا عند الوقوع في المخاطر ثم سألوا عمن بعثهم من مرقدهم لأن الذي أحاط بهم من الدهشة أذهلهم من كل شيء.

ثم ذكروا ما كانت الرسل (عليهم السلام) يذكرونهم به من الوعد الحق بالبعث و الجزاء فشهدوا بحقية الوعد و استعصموا بالرحمة فقالوا: "هذا ما وعد الرحمن" على ما هو دأبهم في الدنيا حيث يكيدون عدوهم إذا ظهر عليهم بالتملق و إظهار الذلة و الاعتراف بالظلم و التقصير ثم صدقوا الرسل بقولهم: "و صدق المرسلون".

و بما تقدم ظهر أولا وجه دعوتهم بالويل إذا بعثوا.

و ثانيا وجه سؤالهم عمن بعثهم من مرقدهم الظاهر في أنهم جاهلون به أولا ثم إقرارهم بأنه الذي وعده الرحمن و تصديقهم المرسلين فيما بلغوا عنه تعالى.

و يظهر أيضا أن قوله: "من بعثنا من مرقدنا" إلخ و قوله: "هذا ما وعد الرحمن" إلخ.

من قولهم.

و قيل: قوله: "و صدق المرسلون" عطف على مدخول "ما" و "ما" موصولة أو مصدرية و "هذا ما وعد الرحمن" إلخ جواب من الله أو من الملائكة أو من المؤمنين لقولهم: "من بعثنا من مرقدنا"؟.

و غير خفي أنه خلاف الظاهر و خاصة على تقدير كون "ما" مصدرية و لو كان قوله: "هذا ما وعد الرحمن" إلخ.

جوابا من الله أو الملائكة لقولهم: "من بعثنا من مرقدنا" لأجيب بالفاعل دون الفعل لأنهم سألوا عن فاعل البعث! و ما قيل: إن العدول إليه لتذكير كفرهم و تقريعهم عليه مع تضمنه الإشارة إلى الفاعل هذا.

لا يغني طائلا.

و ظهر أيضا أن قوله: "هذا ما وعد الرحمن" مبتدأ و خبر، و قيل "هذا" صفة لمرقدنا بتأويل اسم الإشارة إلى المشتق و "ما" مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حق و هو بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: "إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون" اسم كان محذوف و التقدير إن كانت الفعلة أو النفخة إلا نفخة واحدة تفاجئهم أنهم مجموع محضرون لدينا من غير تأخير و مهلة.

و التعبير بقوله: "لدينا" لأن اليوم يوم الحضور لفصل القضاء عند الله سبحانه.

قوله تعالى: "فاليوم لا تظلم نفس شيئا و لا تجزون إلا ما كنتم تعملون" أي في هذا اليوم يقضي بينهم قضاء عدلا و يحكم حكما حقا فلا تظلم نفس شيئا.

و قوله: "و لا تجزون إلا ما كنتم تعملون" عطف تفسير لقوله: فاليوم لا تظلم نفس شيئا" و هو في الحقيقة بيان برهاني لانتفاء الظلم يومئذ لدلالته على أن جزاء أعمال العاملين يومئذ نفس أعمالهم، و لا يتصور مع ذلك ظلم لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه و تحميل العامل عمله وضع الشيء في موضعه ضرورة.

و خطاب الآية من باب تمثيل يوم القيامة و إحضاره و إحضار من فيه بحسب العناية الكلامية، و ليس - كما توهم - حكاية عما سيقال لهم أو يخاطبون به من جانب الله سبحانه أو الملائكة أو المؤمنين يوم القيامة فلا موجب له من جهة السياق.

و المخاطب بقوله: "و لا تجزون إلا ما كنتم تعملون" السعداء و الأشقياء جميعا.

و ما قيل عليه أن الحصر يأبى التعميم فإنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم و يزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة مدفوع بأن الحصر في الآية نازل إلى جزاء العمل و أجره و ما يدل من الآيات على المزيد كقوله: "لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد:" ق: - 35 أمر وراء الجزاء و الأجر خارج عن طور العمل.



و ربما أجيب عنه بأن معنى الآية أن الصالح لا ينقص ثوابه و الطالح لا يزاد عقابه فإن الحكمة تنافيه أما زيادة الثواب و نقض العقاب فلا مانع منه أو أن المراد بقوله: "لا تجزون إلا ما كنتم تعملون" أنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

و فيه أن مدلول الآية لو كان ما ذكر اندفع الإشكال لكن الشأن في دلالتها على ذلك.

قوله تعالى: "إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون" الشغل الشأن الذي يشغل الإنسان و يصرفه عما عداه، و الفاكه من الفكاهة و هي التحدث بما يسر أو التمتع و التلذذ و لا فعل له من الثلاثي المجرد على ما قيل.

و قيل: "فاكهون" معناه ذوو فاكهة نحو لابن و تامر و يبعده أن الفاكهة مذكورة في السياق و لا موجب لتكرارها.

و المعنى أن أصحاب الجنة في هذا اليوم في شأن يشغلهم عن كل شيء دونه و هو التنعم في الجنة متمتعون فيها.

قوله تعالى: "هم و أزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون" الظلال جمع ظل و قيل جمع ظلة بالضم و هي السترة من الشمس من سقف أو شجر أو غير ذلك، و الأريكة كل ما يتكأ عليه من وسادة أو غيرها.

و المعنى: هم أي أصحاب الجنة و أزواجهم من حلائلهم المؤمنات في الدنيا أو من الحور العين في ظلال أو أستار من الشمس و غيرها متكئون على الأرائك اتكاء الأعزة.

قوله تعالى: "لهم فيها فاكهة و لهم ما يدعون" الفاكهة ما يتفكه به من الثمرات كالتفاح و الأترج و نحوهما، و قوله: "يدعون" من الادعاء بمعنى التمني أي لهم في الجنة فاكهة و لهم فيها ما يتمنونه و يطلبونه.

قوله تعالى: "سلام قولا من رب رحيم" سلام مبتدأ محذوف الخبر و التنكير للتفخيم و التقدير سلام عليهم أو لهم سلام، و "قولا" مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير أقوله قولا من رب رحيم.

و الظاهر أن السلام منه تعالى و هو غير سلام الملائكة المذكور في قوله: "و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار:" الرعد: - 24.

قوله تعالى: "و امتازوا اليوم أيها المجرمون" أي و نقول اليوم للمجرمين امتازوا من أصحاب الجنة و هو تمييزهم منهم يوم القيامة و إنجاز لما في قوله في موضع آخر: "أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار:" ص: - 28، و قوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم:" الجاثية: - 21.

قوله تعالى: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين" العهد الوصية، و المراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس و يأمر به إذ لا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته، و قد علل النهي عن طاعته بكونه عدوا مبينا لأن العدو لا يريد بعدوه خيرا.

و قيل: المراد بعبادته عبادة الآلهة من دون الله و إنما نسبت إلى الشيطان لكونها بتسويله و تزيينه، و هو تكلف من غير موجب.

و إنما وجه الخطاب إلى المجرمين بعنوان أنهم بنو آدم لأن عداوة الشيطان إنما نشبت أول ما نشبت بآدم حيث أمر أن يسجد له فأبى و استكبر فرجم ثم عاد ذريته بعداوته و أوعدهم كما حكاه الله تعالى إذ قال: "أ رأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا:" الإسراء: - 62.



و أما عهده تعالى و وصيته إلى بني آدم أن لا يطيعوه فهو الذي وصاهم به بلسان رسله و أنبيائه و حذرهم عن اتباعه كقوله تعالى: "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة:" الأعراف: - 27: و قوله: "و لا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين:" الزخرف: - 62.

و قيل: المراد بالعهد عهده تعالى إليهم في عالم الذر حيث قال: "أ لست بربكم قالوا بلى".

و قد عرفت مما قدمناه في تفسير آية الذر أن العهد الذي هناك هو بوجه عين العهد الذي وجه إليهم في الدنيا.

قوله تعالى: "و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم" عطف تفسير لما سبقه، و قد تقدم كلام في معنى الصراط المستقيم في تفسير قوله: "اهدنا الصراط المستقيم" من سورة الفاتحة.

قوله تعالى: "و لقد أضل منكم جبلا كثيرا أ فلم تكونوا تعقلون" الجبل الجماعة و قيل: الجماعة الكثيرة و الكلام مبني على التوبيخ و العتاب.

قوله تعالى: "هذه جهنم التي كنتم توعدون" أي كان يستمر عليكم الإيعاد بها مرة بعد مرة بلسان الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) و أول ما أوعد الله سبحانه بها حين قال لإبليس: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين:" الحجر: - 43 و في لفظ الآية إشارة إلى إحضار جهنم يومئذ.

قوله تعالى: "اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون" الصلا.

اللزوم و الاتباع، و قيل: مقاساة الحرارة و يظهر بقوله: "بما كنتم تكفرون" أن الخطاب للكفار و هم المراد بالمجرمين.

قوله تعالى: "اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون" أي يشهد كل منها بما كانوا يكسبونه بواسطته فالأيدي بالمعاصي التي كسبوها بها و الأرجل بالمعاصي الخاصة بها على ما يعطيه السياق.

و من هنا يظهر أن كل عضو ينطق بما يخصه من العمل و أن ذكر الأيدي و الأرجل من باب الأنموذج و لذا ذكر في موضع آخر السمع و البصر و الفؤاد كما في سورة الإسراء الآية 36.

و في موضع آخر الجلود كما في سورة حم السجدة الآية 20، و سيأتي بعض ما يتعلق به من الكلام في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "ما ينظرون إلا صيحة واحدة" الآية قال: ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة و هم في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلهم في مكانهم لا يرجع أحد منهم إلى منزله و لا يوصي بوصية، و ذلك قوله عز و جل: "فلا يستطيعون توصية و لا إلى أهلهم يرجعون".

و في المجمع، في الحديث: تقوم الساعة و الرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعان فما يطويانه حتى تقوم الساعة، و الرجل يرفع أكلته إلى فيه حتى تقوم الساعة، و الرجل يليط 1 حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم:. أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا عن قتادة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسلا.

و في تفسير القمي،: و قوله عز و جل: "و نفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون" قال:. من القبور: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: تعالى "يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا" فإن القوم كانوا في القبور فلما قاموا حسبوا أنهم كانوا نياما و قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا. قالت الملائكة: هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون.



و في الكافي، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو ذر رحمه الله يقول في خطبته: و ما بين الموت و البعث إلا كنومة نمتها ثم استيقظت منها.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون" قال يفاكهون النساء و يلاعبونهن.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله عز و جل: "في ظلال على الأرائك متكئون" الأرائك السرر عليها الحجال.

و فيه،: في قوله عز و جل: "سلام قولا من رب رحيم" قال: السلام منه هو الأمان. و قوله: "و امتازوا اليوم أيها المجرمون" قال: إذا جمع الله الخلق يوم القيامة بقوا قياما على أقدامهم حتى يلجمهم العرق فينادون: يا رب حاسبنا و لو إلى النار قال: فيبعث الله رياحا فتضرب بينهم و ينادي مناد: "و امتازوا اليوم أيها المجرمون" فيميز بينهم فصار المجرمون في النار، و من كان في قلبه الإيمان صار إلى الجنة.

أقول: و قد ورد في بعض الروايات أن الله سبحانه يتجلى لهم فيشتغلون به عن كل من سواه ما دام التجلي و المراد به ارتفاع كل حجاب بينهم و بين ربهم دون الرؤية البصرية التي لا تتحقق إلا بمقارنة الجهات و الأبعاد فإنها مستحيلة في حقه تعالى.

و في اعتقادات الصدوق، قال (عليه السلام): من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، و إن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.

و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز و جل: "فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم - و لا يظلمون فتيلا:" الإسراء: - 71.

و في تفسير العياشي، عن مسعد بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم الله على الأفواه فلا تكلم و تكلمت الأيدي و شهدت الأرجل و نطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخر يأتي بعضها في ذيل تفسير قوله تعالى: "شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم" الآية: حم السجدة: - 20، و تقدم بعضها في الكلام على قوله: "إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا:" الإسراء: - 36.
<<        الفهرس        >>