جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير الميزان ـ ج17 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


36 سورة يس - 66 - 83

وَ لَوْ نَشاءُ لَطمَسنَا عَلى أَعْيُنهِمْ فَاستَبَقُوا الصرَط فَأَنى يُبْصِرُونَ (66) وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسخْنَهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا استَطعُوا مُضِيّا وَ لا يَرْجِعُونَ (67) وَ مَن نّعَمِّرْهُ نُنَكسهُ فى الخَْلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ (68) وَ مَا عَلّمْنَهُ الشعْرَ وَ مَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَ قُرْءَانٌ مّبِينٌ (69) لِّيُنذِرَ مَن كانَ حَيّا وَ يحِقّ الْقَوْلُ عَلى الْكَفِرِينَ (70) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمّا عَمِلَت أَيْدِينَا أَنْعَماً فَهُمْ لَهَا مَلِكُونَ (71) وَ ذَلّلْنَهَا لهَُمْ فَمِنهَا رَكُوبهُمْ وَ مِنهَا يَأْكلُونَ (72) وَ لهَُمْ فِيهَا مَنَفِعُ وَ مَشارِب أَ فَلا يَشكُرُونَ (73) وَ اتخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ ءَالِهَةً لّعَلّهُمْ يُنصرُونَ (74) لا يَستَطِيعُونَ نَصرَهُمْ وَ هُمْ لهَُمْ جُندٌ محْضرُونَ (75) فَلا يحْزُنك قَوْلُهُمْ إِنّا نَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ (76) أَ وَ لَمْ يَرَ الانسنُ أَنّا خَلَقْنَهُ مِن نّطفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ (77) وَ ضرَب لَنَا مَثَلاً وَ نَسىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظمَ وَ هِىَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يحْيِيهَا الّذِى أَنشأَهَا أَوّلَ مَرّةٍ وَ هُوَ بِكلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الّذِى جَعَلَ لَكم مِّنَ الشجَرِ الأَخْضرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَ وَ لَيْس الّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض بِقَدِرٍ عَلى أَن يخْلُقَ مِثْلَهُم بَلى وَ هُوَ الخَْلّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82) فَسبْحَنَ الّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوت كلِّ شىْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

بيان

بيان تلخيصي للمعاني السابقة في سياق آخر ففيه تهديد لهم بالعذاب، و الإشارة إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول و أن كتابه ذكر و قرآن و ليس بشاعر و لا كتابه بشعر، و الإشارة إلى خلق الأنعام آية للتوحيد، و الاحتجاج على الميعاد.

قوله تعالى: "و لو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون" قال في مجمع البيان،: الطمس محو الشيء حتى يذهب أثره فالطمس على العين كالطمس على الكتاب و مثله الطمس على المال و هو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك، و أعمى مطموس و طميس و هو أن يذهب الشق الذي بين الجفنين، انتهى.

فقوله: "و لو نشاء لطمسنا على أعينهم" أي لو أردنا لأذهبنا أعينهم فصارت ممسوحة لا أثر منها فذهبت به أبصارهم و بطل أبصارهم.

و قوله: "فاستبقوا الصراط" أي أرادوا السبق إلى الطريق الواضح الذي لا يخطىء قاصده و لا يظل سالكه فلم يبصروه و لن يبصروه فالاستبعاد المفهوم من قوله: "فأنى يبصرون" كناية عن الامتناع.

و قول بعضهم: إن المراد باستباق الصراط مبادرتهم إلى سلوك طريق الحق و عدم اهتدائهم إليها، لا يخلو من بعد.

قوله تعالى: "و لو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا و لا يرجعون" قال في المجمع،: و المسخ قلب الصورة إلى خلقة مشوهة كما مسخ قوم قردة و خنازير و قال: و المكانة و المكان واحد.

انتهي.

و المراد بمسخهم على مكانتهم تشويه خلقهم و هم قعود في مكانهم الذي هم فيه من غير أن يغيرهم عن حالهم بعلاج و تكلف بل بمجرد المشية فهو كناية عن كونه هينا سهلا عليه تعالى من غير أي صعوبة.

و قوله: "فما استطاعوا مضيا و لا يرجعون" أي مضيا في العذاب و لا يرجعون إلى حالهم قبل العذاب و المسخ فالمضي و الرجوع كنايتان عن الرجوع إلى حال السلامة و البقاء على حال العذاب و المسخ.

و قيل: المراد مضيهم نحو مقاصدهم و رجوعهم إلى منازلهم و أهليهم و لا يخلو من بعد.

قوله تعالى: "و من نعمره ننكسه في الخلق أ فلا يعقلون" التعمير التطويل في العمر، و التنكيس تقليب الشيء بحيث يعود أعلاه أسفله و يتبدل قوته ضعفا و زيادته نقصا و الإنسان في عهد الهرم منكس الخلق يتبدل قوته ضعفا و علمه جهلا و ذكره نسيانا.

و الآية في مقام الاستشهاد بتنكيس الخلق على إمكان مضمون الآيتين السابقتين و المراد أن الذي ينكس خلق الإنسان إذا عمره قادر على أن يطمس على أعينهم و على أن يمسخهم على مكانتهم.

و في قوله: "أ فلا يعقلون" توبيخهم على عدم التعقل و حثهم على التدبر في هذه الأمور و الاعتبار بها.

قوله تعالى: "و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له إن هو إلا ذكر و قرآن مبين عطف و رجوع إلى ما تقدم في صدر السورة من تصديق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كون كتابه تنزيلا من عنده تعالى.

فقوله: "و ما علمناه الشعر" نفى أن يكون علمه الشعر و لازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه و يمتنع من قوله للنهي من الله متوجه إليه، و لا أن النازل من القرآن ليس بشعر و إن أمكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوله.



و به يظهر أن قوله: "و ما ينبغي له" في مقام الامتنان عليه بأنه نزهه عن أن يقول شعرا فالجملة في مقام دفع الدخل و المحصل أن عدم تعليمنا إياه الشعر ليس يوجب نقصا فيه و لا أنه تعجيز له بل لرفع درجته و تنزيه ساحته عما يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيلات الشعرية الكاذبة التي كلما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، و تنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول الشعر و هو رسول من الله و آية رسالته و متن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي هو ذكر و قرآن مبين.

و قوله: "إن هو إلا ذكر و قرآن مبين" تفسير و توضيح لقوله: "و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له" بما أن لازم معناه أن القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من قوله: "إن هو إلا ذكر" إلخ من قصر القلب و المعنى ليس هو بشعر ما هو إلا ذكر و قرآن مبين.

و معنى كونه ذكرا و قرآنا أنه ذكر مقروء من الله ظاهر ذلك.

قوله تعالى: "لينذر من كان حيا و يحق القول على الكافرين" تعليل متعلق بقوله: "و ما علمناه الشعر" و المعنى و لم نعلمه الشعر لينذر بالقرآن المنزه من أن يكون شعرا من كان حيا "إلخ" أو متعلق بقوله: "إن هو إلا ذكر" إلخ و المعنى ليس ما يتلوه على الناس إلا ذكرا و قرآنا مبينا نزلناه إليه لينذر من كان حيا "إلخ" و مآل الوجهين واحد.

و الآية - كما ترى - تعد غاية إرسال الرسول و إنزال القرآن إنذار من كان حيا - و هو كناية عن كونه يعقل الحق و يسمعه - و حقيقة القول و وجوبه على الكافرين فمحاذاة الآية لما في صدر السورة من الآيات في هذا المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "أ و لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون" ذكر آية من آيات التوحيد تدل على ربوبيته تعالى و تدبيره للعالم الإنساني و هي نظيرة ما تقدم في ضمن آيات التوحيد السابقة من إحياء الأرض الميتة بإخراج الحب و الثمرات و تفجير العيون.

و المراد بكون الأنعام مما عملته أيديه تعالى عدم إشراكهم في خلقها و اختصاصه به تعالى فعمل الأيدي كناية عن الاختصاص.

و قوله: "فهم لها مالكون" تفريع على قوله: "خلقنا لهم" فإن المعنى خلقنا لأجلهم فهي مخلوقة لأجل الإنسان و لازمه اختصاصها به و ينتهي الاختصاص إلى الملك فإن الملك الاعتباري الذي في المجتمع من شعب الاختصاص.

و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن في تفرع قوله: "فهم لها مالكون" على قوله: "خلقنا لهم" خفاء، و الظاهر تفرعها على مقدر و التقدير خلقناها لهم فهم لها مالكون، و أنت خبير بعدم خفاء تفرعها على "خلقنا لهم" و عدم الحاجة إلى تقدير.

و قيل: الملك بمعنى القدرة و القهر، و فيه أنه مفهوم من قوله بعد: "و ذللناها لهم" و التأسيس خير من التأكيد.

قوله تعالى: "و ذللناها لهم فمنها ركوبهم و منها يأكلون" تذليل الأنعام جعلها منقادة لهم غير عاصية و هو تسخيرها لهم، و الركوب بفتح الراء الحمولة كالإبل و البقر، و قوله: "و منها يأكلون" أي من لحمها يأكلون.

قوله تعالى: "و لهم فيها منافع و مشارب أ فلا يشكرون" المراد بالمنافع ما ينتفعون به من شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و المشارب جمع مشرب - مصدر ميمي بمعنى المفعول - و المراد بها الألبان، و الكلام في معنى الشكر كالكلام فيما تقدم في قوله: "و ما عملته أيديهم أ فلا يشكرون".



و معنى الآيات الثلاث: أ و لم يعلموا أنا خلقنا لأجلهم و لتدبير أمر حياتهم الدنيا أنعاما من الإبل و البقر و الغنم فتفرع على ذلك أنهم مالكون لها ملكا يصحح لهم أنواع تصرفاتهم فيها من غير معارض، و ذللناها لهم بجعلها مسخرة لهم منقادة غير عاصية فمنها ركوبهم الذي يركبونه، و منها أي من لحومها يأكلون، و لهم فيها منافع ينتفعون بأشعارها و أوبارها و جلودها و مشروبات من ألبانها يشربونها أ فلا يشكرون الله على هذا التدبير الكامل الذي يكشف عن ربوبيته لهم؟ أ و لا يعبدونه شكرا لأنعمه؟.

قوله تعالى: "و اتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون" ضمائر الجمع للمشركين، و المراد بالآلهة الأصنام أو الشياطين و فراعنة البشر دون الملائكة المقربين و الأولياء من الإنسان لعدم ملاءمة ذيل الكلام: "و هم لهم جند محضرون" لذلك.

و إنما اتخذوهم آلهة رجاء أن ينصروا من ناحيتهم لأن عامتهم تتخذ إلها زعما منهم أن تدبير أمره مفوض إلى من اتخذه إلها من خير أو شر فيعبده العابد منهم ليرضيه بعبادته فلا يسخط فيقطع النعمة أو يرسل النقمة.

قوله تعالى: "لا يستطيعون نصرهم و هم لهم جند محضرون" أي لا يستطيع هؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم آلهة نصر هؤلاء المشركين لأنهم لا يملكون شيئا من خير أو شر.

و قوله: "و هم لهم جند محضرون" الظاهر أن أول الضميرين للمشركين و ثانيهما للآلهة من دون الله و المراد أن المشركين جند للآلهة و ذلك أن من لوازم معنى الجندية التبعية و الملازمة و المشركون هم المعدودون أتباعا لآلهتهم مطيعين لهم دون العكس.

و المراد بالإحضار في قوله: "محضرون" الإحضار للجزاء يوم القيامة قال تعالى: "و جعلوا بينه و بين الجنة نسبا و لقد علمت الجنة إنهم لمحضرون:" الصافات: - 158 و قال: "و لو لا نعمة ربي لكنت من المحضرين:" الصافات: - 57.

و محصل المعنى لا يستطيع الآلهة المتخذون نصر المشركين و هم أي المشركون لهم أي لآلهتهم أتباع مطيعون محضرون معهم يوم القيامة.

و أما قول القائل: إن المعنى أن المشركين جند لآلهتهم معدون للذب عنهم في الدنيا، أو إن المعنى و هم أي الآلهة لهم أي للمشركين جند محضرون لعذاب المشركين يوم القيامة لأنهم وقود النار التي يعذب بها المشركون، أو محضرون لعذابهم إظهارا لعجزهم عن النصر أو لإقناط المشركين عن شفاعتهم فهي معان رديئة.

قوله تعالى: "فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون و ما يعلنون" الفاء لتفريع النهي عن الحزن على حقيقة اتخاذهم الآلهة من دون الله رجاء للنصر أي إذا كان هذا حقيقة حالهم أن الذين استنصروهم لا يستطيعون نصرهم أبدا و أنهم سيحضرون معهم للعذاب فلا يحزنك قولهم ما قالوا به من الشرك فإنا لسنا بغافلين عنهم حتى يعجزونا أو يفسدوا علينا بعض الأمر بل نعلم ما يسرون من أقوالهم و ما يعلنون، و في تركيب الآية بعض أقوال رديئة أضربنا عنه.

قوله تعالى: "أ و لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين" رجوع إلى ما تقدم من حديث البعث و الاحتجاج عليه إثر إنكارهم، و لا يبعد أن يكون بيانا تفصيليا لقولهم المشار إليه في قوله تعالى: "فلا يحزنك قولهم" إلخ و المراد بالرؤية العلم القطعي أي أ و لم يعلم الإنسان علما قاطعا أنا خلقناه من نطفة، و تنكير نطفة للتحقير و الخصيم المصر على خصومته و جداله.

و الاستفهام للتعجب و المعنى من العجيب أن الإنسان يعلم أنا خلقناه من نطفة مهينة فيفاجئه أنه خصيم مجادل مبين.



قوله تعالى: "و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم" الرميم البالي من العظام، و "نسي خلقه" حال من فاعل ضرب، و قوله: "قال من يحيي العظام و هي رميم" بيان للمثل الذي ضربه الإنسان، و لذلك جيء به مفصولا من غير عطف لأن الكلام في معنى أن يقال: فما ذا ضرب مثلا؟ فقيل قال من يحيي العظام و هي رميم.

و المعنى و ضرب الإنسان لنا مثلا و قد نسي خلقه من نطفة لأول مرة، و لو كان ذاكره لم يضرب المثل الذي ضربه و هو قوله: "من يحيي العظام و هي بالية؟" لأنه كان يرد على نفسه و يجيب عن المثل الذي ضربه بخلقه الأول كما لقنه الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) جوابا عنه.

قوله تعالى: "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم" تلقين الجواب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

الإنشاء هو الإيجاد الابتدائي و تقييده بقوله ""أول مرة" للتأكيد، و قوله: "و هو بكل خلق عليم" إشارة إلى أنه تعالى لا ينسى و لا يجهل شيئا من خلقه فإذا كان هو خالق هذه العظام لأول مرة و هو لا يجهل شيئا مما كانت عليه قبل الموت و بعده فإحياؤه ثانيا بمكان من الإمكان لثبوت القدرة و انتفاء الجهل و النسيان.

قوله تعالى: "الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون" بيان لقوله: "الذي أنشأها أول مرة" و الإيقاد إشعال النار.

و الآية مسوقة لرفع استبعاد جعل الشيء الموات شيئا ذا حياة و الحياة و الموت متنافيان و الجواب أنه لا استبعاد فيه فإنه هو الذي جعل لكم من الشجر الأخضر الذي يقطر ماء نارا فإذا أنتم منه توقدون و تشعلون النار، و المراد به على المشهور بين المفسرين شجر 1 المرخ و العفار كانوا يأخذون منهما على خضرتهما فيجعل العفار زندا أسفل و يجعل المرخ زندا أعلى فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله فحصول الحي من الميت ليس بأعجب من انقداح النار من الشجرة الخضراء و هما متضادان.

قوله تعالى: "أ و ليس الذي خلق السموات و الأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى و هو الخلاق العليم" الاستفهام للإنكار و الآية بيان للحجة السابقة المذكورة في قوله : "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة" إلخ.

ببيان أقرب إلى الذهن و ذلك بتبديل إنشائهم أول مرة من خلق السماوات و الأرض الذي هو أكبر من خلق الإنسان كما قال تعالى: "لخلق السموات و الأرض أكبر من خلق الناس:" المؤمن: - 57.

فالآية في معنى قولنا: و كيف يمكن أن يقال: إن الله الذي خلق عوالم السماوات و الأرض بما فيها من سعة الخلقة البديعة و عجيب النظام العام المتضمن لما لا يحصى من الأنظمة الجزئية المدهشة للعقول المحيرة للألباب و العالم الإنساني جزء يسير منها، لا يقدر أن يخلق مثل هؤلاء الناس، بلى و إنه خلاق عليم.

و المراد بمثلهم قيل: هم و أمثالهم و فيه أنه مغاير لمعنى مثل على ما يعرف من اللغة و العرف.

و قيل: المراد بمثلهم هم أنفسهم بنحو الكناية على حد قولهم: مثلك غني عن كذا أي أنت غني عنه، و فيه أنه لو كان كناية لصح التصريح به لكن لا وجه لقولنا: أ و ليس الذي خلق السماوات و الأرض بقادر على أن يخلقهم فإن الكلام في بعثهم لا في خلقهم و المشركون معترفون بأن خالقهم هو الله سبحانه.

و قيل: ضمير "مثلهم" للسماوات و الأرض فإنهما تشملان ما فيهما من العقلاء فأعيد إليهما ضمير العقلاء تغليبا فالمراد أن الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله.



و فيه أن المقام مقام إثبات بعث الإنسان لا بعث السماوات و الأرض.

على أن الكلام في الإعادة و خلق مثل الشيء ليس إعادة لعينه بل بالضرورة.

فالحق أن يقال: إن المراد بخلق مثلهم إعادتهم للجزاء بعد الموت كما يستفاد من كلام الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان،.

بيانه أن الإنسان مركب من نفس و بدن، و البدن في هذه النشأة في معرض التحلل و التبدل دائما فهو لا يزال يتغير أجزاؤه و المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فهو في كل آن غيره في الآن السابق بشخصه و شخصية الإنسان محفوظة بنفسه - روحه - المجردة المنزهة عن المادة و التغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت و الفساد.

و المتحصل من كلامه تعالى أن النفس لا تموت بموت البدن و أنها محفوظة حتى ترجع إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى: "و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون:" الم السجدة: - 11.

فالبدن اللاحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه لكن الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله لأن الشخصية بالنفس و هي واحدة بعينها.

و لما كان استبعاد المشركين في قولهم: "من يحيي العظام و هي رميم" راجعا إلى خلق البدن الجديد دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم و أما عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس و الأرواح المحفوظة عند الله بالأبدان المخلوقة جديدا، فيكون الأشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال تعالى: "أ و لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الأرض و لم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى:" الأحقاف - 33 فعلق الإحياء على الموتى بأعيانهم فقال: على أن يحيي الموتى و لم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى.

قوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" الآية من غرر الآيات القرآنية تصف كلمة الإيجاد و تبين أنه تعالى لا يحتاج في إيجاد شيء مما أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في إيجاده أو يدفع عنه مانعا يمنعه.

و قد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه فقال: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون:" النحل: - 40، و قال: "و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون:" البقرة: - 117.

فقوله: "إنما أمره" الظاهر أن المراد بالأمر الشأن، و قوله في آية النحل المنقولة آنفا: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه" إن كان يؤيد كون الأمر بمعنى القول و هو الأمر اللفظي بلفظة كن إلا أن التدبر في الآيات يعطي أن الغرض فيها وصف الشأن الإلهي عند إرادة خلق شيء من الأشياء لا بيان أن قوله تعالى عند خلق شيء من الأشياء هذا القول دون غيره، فالوجه حمل القول على الأمر بمعنى الشأن بمعنى أنه جيء به لكونه مصداقا للشأن لا حمل الأمر على القول بمعنى ما يقابل النهي.



و قوله: "إذا أراد شيئا" أي إذا أراد إيجاد شيء كما يعطيه سياق الآية و قد ورد في عدة من الآيات القضاء مكان الإرادة كقوله: "إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون 1" و لا ضير فالقضاء هو الحكم و القضاء و الحكم و الإرادة من الله شيء واحد و هو كون 2 الشيء الموجود بحيث ليس له من الله سبحانه إلا أن يوجد فمعنى إذا أردناه إذا أوقفناه موقف تعلق الإرادة.

و قوله: "أن يقول له كن" خبر إنما أمره أي يخاطبه بكلمة كن و من المعلوم أن ليس هناك لفظ يتلفظ به و إلا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر و هلم جرا فيتسلسل و لا أن هناك مخاطبا ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به لأدائه إلى الخلف فالكلام تمثيل لإفاضته تعالى وجود الشيء من غير حاجة إلى شيء آخر وراء ذاته المتعالية و من غير تخلف و لا مهل.

و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال: الظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن و إليه ذهب معظم السلف و شئون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام و الخصام.

انتهي.

و ذلك أن ما ذكره من كون شئونه تعالى وراء طور الأفهام لو أبطل الحجة العقلية القطعية بطلت بذلك المعارف الدينية من أصلها فصحة الكتاب مثلا بما يفيده من المعارف الحقيقية إنما تثبت بالحجة العقلية فلو بطلت الحجة العقلية بكتاب أو سنة أو شيء آخر مما يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلا لنفسه أولا فلا تزل قدم بعد ثبوتها.

و من المعلوم أن ليس هناك إلا الله عز اسمه و الشيء الذي يوجد لا ثالث بينهما و إسناد العلية و السببية إلى - إرادته دونه تعالى و الإرادة صفة فعلية منتزعة من مقام الفعل كما تقدم - يستلزم انقطاع حاجة الأشياء إليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الأشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى و تقدس.

و من المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمى إيجادا و وجودا ثم يتصل بالشيء فيصير به موجودا و هو ظاهر فليس بعده تعالى إلا وجود الشيء فحسب.

و من هنا يظهر أن كلمة الإيجاد و هي كلمة كن هي وجود الشيء الذي أوجده لكن بما أنه منتسب إليه قائم به و أما من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا إيجاد و مخلوق لا خلق.

و يظهر أيضا أن الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة و لا نظرة و لا يتحمل تبدلا و لا تغيرا، و لا يتلبس بتدريج و ما يتراءى في الخلق من هذه الأمور إنما يتأتى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه و هذا باب ينفتح منه ألف باب.

و في الآيات للتلويح إلى هذه الحقائق إشارات لطيفة كقوله تعالى: "كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون:" آل عمران: - 59، و قوله تعالى: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر:" القمر: 50، و قوله تعالى: "و كان أمر الله قدرا مقدورا:" الأحزاب: - 38 إلى غير ذلك.

و قوله في آخر الآية: "فيكون" بيان لطاعة الشيء المراد له تعالى و امتثاله لأمر "كن" و لبسه الوجود.

قوله تعالى: "فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء و إليه ترجعون" الملكوت مبالغة في معنى الملك كالرحموت و الرهبوت في معنى الرحمة و الرهبة.

و انضمام الآية إلى ما قبلها يعطي أن المراد بالملكوت الجهة التالية له تعالى من وجهي وجود الأشياء، و بالملك الجهة التالية للخلق أو الأعم الشامل للوجهين.

و عليه يحمل قوله تعالى: "و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين:" الأنعام: - 75.



و قوله: "أ و لم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض:" الأعراف: - 185: و قوله: "قل من بيده ملكوت كل شيء:" المؤمنون: - 88.

و جعل الملكوت بيده تعالى للدلالة على أنه متسلط عليها لا نصيب فيها لغيره.

و مآل المعنى قوله: "فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء" تنزيهه تعالى عما استبعدوا منكرين للمعاد لغفلتهم عن أن ملكوت كل شيء بيده و في قبضته.

و قوله: "و إليه ترجعون" خطاب لعامة الناس من مؤمن و مشرك، و بيان لنتيجة البيان السابق بعد التنزيه.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له" الآية قال: كانت قريش تقول: إن هذا الذي يقوله محمد شعر فرد الله عليهم فقال: "و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له - إن هو إلا ذكر و قرآن مبين" و لم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شعرا قط.

و في المجمع، روي عن الحسن: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتمثل بهذا البيت: كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا فقال له أبو بكر: يا رسول الله إنما قال: كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا و أشهد أنك رسول الله و ما علمك الله الشعر و ما ينبغي لك.

و فيه، عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتمثل ببيت أخي بني قيس: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا. و يأتيك بالأخبار من لم تزود. فجعل يقول: و يأتيك من لم تزود بالأخبار فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فيقول: إني لست بشاعر و لا ينبغي لي:. أقول: و روي في الدر المنثور، الخبرين عن الحسن و عائشة كما رواه و روي في الدر المنثور غير ذلك مما تمثل به (صلى الله عليه وآله وسلم).

و قال في المجمع، فأما قوله: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب. فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، و قال آخرون: إنما هو اتفاق منه و ليس يقصد إلى شعر انتهى.

و البيت منقول عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أكثروا من البحث فيه و طرح الرواية أهون من نفي كونه شعرا أو شعرا مقصودا إليه.

و فيه،: في قوله تعالى: "لينذر من كان حيا" الآية و يجوز أن يكون المراد بمن كان حيا عاقلا: و روي ذلك عن علي (عليه السلام).

و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "و اتخذوا من دون الله إلى قوله محضرون" يقول: لا تستطيع الآلهة لهم نصرا و هم للآلهة جند محضرون.

و عن تفسير العياشي، عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء أبي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال: إذا كنا عظاما و رفاتا أ إنا لمبعثون خلقا؟ فأنزل الله: قال من يحيي العظام و هي رميم - قل يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم:. أقول: و روي مثله في الدر المنثور، بطرق كثيرة عن ابن عباس و عروة بن الزبير و عن قتادة و السدي و عكرمة و روي أيضا عن ابن عباس: أن القائل هو العاص بن وائل و بطريق آخر عنه أن القائل هو عبد الله بن أبي.



و في الإحتجاج،: في احتجاج أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): قال السائل: أ فيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الأشياء و تنفى فلا حس و لا محسوس ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها و ذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق و ذلك بين النفختين. قال: و أنى له بالبعث و البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكله سباعها و عضو بأخرى تمزقه هوامها و عضو قد صار ترابا يبنى به مع الطين في حائط. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الذي أنشأه من غير شيء و صوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه. قال: أوضح لي ذلك. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء و فسحة، و روح المسيء في ضيق و ظلمة و البدن يصير ترابا كما منه خلق و ما تقذف به السباع و الهوام من أجوافها فما أكلته و مزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض و يعلم عدد الأشياء و وزنها و إن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب. فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء و الزبد من اللبن إذا مخض فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها و يلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا.

و في نهج البلاغة،: يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع و لا نداء يسمع و إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا و لو كان قديما لكان إلها ثانيا.

و فيه،: يقول و لا يلفظ و يريد و لا يضمر.

و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال:. قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله و من الخلق قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي و لا يهم و لا يتفكر، و هذه الصفات منفية عنه و هي صفات الخلق. فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.

أقول: و الروايات عنهم (عليهم السلام) في كون إرادته من صفات الفعل مستفيضة.

37 سورة الصافات - 1 - 11

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَ الصفّتِ صفّا (1) فَالزّجِرَتِ زَجْراً (2) فَالتّلِيَتِ ذِكْراً (3) إِنّ إِلَهَكمْ لَوَحِدٌ (4) رّب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَيْنهُمَا وَ رَب الْمَشرِقِ (5) إِنّا زَيّنّا السمَاءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِّن كلِّ شيْطنٍ مّارِدٍ (7) لا يَسمّعُونَ إِلى الْمَلا الأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِن كلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَ لهَُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلا مَنْ خَطِف الخَْطفَةَ فَأَتْبَعَهُ شهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاستَفْتهِمْ أَ هُمْ أَشدّ خَلْقاً أَم مّنْ خَلَقْنَا إِنّا خَلَقْنَهُم مِّن طِينٍ لازِبِ (11)

بيان

في السورة احتجاج على التوحيد، و إنذار للمشركين و تبشير للمخلصين من المؤمنين، و بيان ما يئول إليه حال كل من الفريقين ثم ذكر عدة من عباده المؤمنين ممن من الله عليهم و قضى أن ينصرهم على عدوهم، و في خاتمة السورة ما هو بمنزلة محصل الغرض منها و هو تنزيهه و السلام على عباده المرسلين و تحميده تعالى فيما فعل و السورة مكية بشهادة سياقها.

قوله تعالى: "و الصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا" الصافات - على ما قيل - جمع صافة و هي جمع صاف، و المراد بها على أي حال الجماعة التي تصطف أفرادها و الزاجرات من الزجر و هو الصرف عن الشيء بالتخويف بذم أو عقاب و التاليات من التلاوة بمعنى القراءة.

و قد أقسم الله تعالى بهذه الطوائف الثلاث: الصافات و الزاجرات و التاليات و قد اختلفت كلماتهم في المراد بها: فأما الصافات فقيل: إن المراد بها الملائكة تصف أنفسها في السماء صفوفا كصفوف المؤمنين في الصلاة، و قيل: إنها الملائكة تصف أجنحتها في الهواء إذا أرادت النزول إلى الأرض واقفة في انتظار أمر الله تعالى، و قيل: إنها الجماعة من المؤمنين يقومون في الصلاة أو في الجهاد مصطفين.

و أما الزاجرات فقيل: إنها الملائكة تزجر العباد عن المعاصي فيوصله الله إلى قلوب الناس في صورة الخطرات كما يوصل وساوس الشياطين، و قيل: إنها الملائكة الموكلة بالسحاب تزجرها و تسوقها إلى حيث أراد الله سبحانه، و قيل: هي زواجر القرآن و هي آياته الناهية عن القبائح، و قيل: هم المؤمنون يرفعون أصواتهم بالقرآن عند قراءته فيزجرون الناس عن المنهيات.

و أما التاليات فقيل: هم الملائكة يتلون الوحي على النبي الموحى إليه، و قيل: هي الملائكة تتلو الكتاب الذي كتبه الله و فيها ذكر الحوادث، و قيل: جماعة قراء القرآن يتلونه في الصلاة.

و يحتمل - و الله العالم - أن يكون المراد بالطوائف الثلاث المذكورة في الآيات طوائف الملائكة النازلين بالوحي المأمورين بتأمين الطريق و دفع الشياطين عن المداخلة فيه و إيصاله إلى النبي مطلقا أو خصوص محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يستفاد من قوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم:" الجن: - 28.

و عليه فالمعنى أقسم بالملائكة الذين يصفون في طريق الوحي صفا فبالذين يزجرون الشياطين و يمنعونهم عن المداخلة في الوحي فبالذين يتلون على النبي الذكر و هو مطلق الوحي أو خصوص القرآن كما يؤيده التعبير عنه بتلاوة الذكر.

و يؤيد ما ذكرنا وقوع حديث رمي الشياطين بالشهب بعد هذه الآيات، و كذا قوله بعد: "فاستفتهم أ هم أشد خلقا أم من خلقنا" الآية كما سنشير إليه.

و لا ينافي ذلك إسناد النزول بالقرآن إلى جبرئيل وحده في قوله: "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك:" البقرة: - 97 و قوله: "نزل به الروح الأمين على قلبك:" الشعراء: - 194 لأن الملائكة المذكورين أعوان جبرئيل فنزولهم به نزوله به و قد قال تعالى: "في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة:" عبس: - 16، و قال حكاية عنهم: "و ما نتنزل إلا بأمر ربك:" مريم: - 64، و قال: "و إنا لنحن الصافون و إنا لنحن المسبحون:" الصافات: - 166 و هذا كنسبة التوفي إلى الرسل من الملائكة في قوله: "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا:" الأنعام: - 61 و إلى ملك الموت و هو رئيسهم في قوله: "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم:" السجدة: - 11.

و لا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث: الصافات و الزاجرات و التاليات لأن موصوفها الجماعة، و التأنيث لفظي.

و هذه أول سورة في القرآن صدرت بالقسم و قد أقسم الله سبحانه في كلامه بكثير من خلقه كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و النجم و الليل و النهار و الملائكة و الناس و البلاد و الأثمار، و ليس ذلك إلا لما فيها من الشرف باستناد خلقها إليه تعالى و هو قيومها المنبع لكل شرف و بهاء.

قوله تعالى: "إن إلهكم لواحد" الخطاب لعامة الناس و هو مقسم به، و هو كلام مسوق بدليل كما سيأتي.

قوله تعالى: "رب السماوات و الأرض و ما بينهما و رب المشارق" خبر بعد خبر لأن، أو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير هو رب السماوات "إلخ" أو بدل من واحد.

و في سوق الأوصاف إشعار بعلة كون الإله واحدا كما أن خصوصية القسم مشعر بعلة كونه رب السماوات و الأرض و ما بينهما.

كأنه قيل إن إلهكم لواحد لأن الملاك في ألوهية الإله و هي كونه معبودا بالحق أن يكون ربا يدبر الأمر على ما تعترفون و هو سبحانه رب السماوات و الأرض و ما بينهما الذي يدبر أمرها و يتصرف في جميعها.

و كيف لا؟ و هو تعالى يوحي إلى نبيه فيتصرف في السماء و سكانها بإرسال ملائكة يصطفون بينها و بين الأرض و هناك مجال الشياطين فيزجرونهم و هو تصرف منه فيما بين السماء و الأرض و في الشياطين ثم يتلون الذكر على نبيه و فيه تكميل للناس و تربية لهم سواء صدقوا أم كذبوا ففي الوحي تصرف منه في السماوات و الأرض و ما بينهما فهو على وحدانيته رب الجميع المدبر لأمرها و الإله الواحد.

و قوله: "و رب المشارق" أي مشارق الشمس باختلاف الفصول أو المراد مشارق مطلق النجوم أو مطلق المشارق، و في تخصيص المشارق بالذكر مناسبة لطلوع الوحي بملائكته من السماء و قد قال تعالى: "و لقد رآه بالأفق المبين:" التكوير - 23، و قال: "و هو بالأفق الأعلى:" النجم: - 7.

قوله تعالى: "إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب" المراد بالزينة ما يزين به، و الكواكب بيان أو بدل من الزينة و قد تكرر حديث تزيين السماء الدنيا بزينة الكواكب في كلامه كقوله: "و زينا السماء الدنيا بمصابيح:" حم السجدة: - 12 و قوله: "و لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح:" الملك: - 5، و قوله: "أ و لم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها و زيناها:" ق: - 6.

و لا يخلو من ظهور في كون السماء الدنيا من السماوات السبع التي يذكرها القرآن هو عالم الكواكب فوق الأرض و إن وجهه بعضهم بما يوافق مقتضى الهيئة القديمة أو الجديدة.

قوله تعالى: "و حفظا من كل شيطان مارد" حفظا مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير و حفظناها حفظا من كل شيطان مارد، و المراد بالشيطان الشرير من الجن و المارد الخبيث العاري من الخير.

قوله تعالى: "لا يسمعون إلى الملإ الأعلى و يقذفون من كل جانب" أصل "لا يسمعون" لا يتسمعون و التسمع الإصغاء، و هو كناية عن كونهم ممنوعين مدحورين و بهذه العناية صار وصفا لكل شيطان و لو كان بمعنى الإصغاء صريحا أفاد لغوا من الفعل إذ لو كانوا لا يصغون لم يكن وجه لقذفهم.



و الملأ من الناس الأشراف منهم الذين يملئون العيون، و الملأ الأعلى هم الذين يريد الشياطين التسمع إليهم و هم الملائكة الكرام الذين هم سكنة السماوات العلى على ما يدل عليه كلامه تعالى كقوله: "لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا:" الإسراء: - 95.

و قصدهم من التسمع إلى الملإ الأعلى الاطلاع على أخبار الغيب المستوردة عن هذا العالم الأرضي كالحوادث المستقبلة و الأسرار المكنونة كما يشير إليه قوله تعالى: "و ما تنزلت به الشياطين و ما ينبغي لهم و ما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون:" الشعراء: - 212، و قوله حكاية عن الجن: "و أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا:" الجن: - 9.

و قوله: "و يقذفون من كل جانب" القذف الرمي و الجانب الجهة.

قوله تعالى: "دحورا و لهم عذاب واصب" الدحور الطرد و الدفع، و هو مصدر بمعنى المفعول منصوب حالا أي مدحورين أو مفعول له أو مفعول مطلق، و الواصب الواجب اللازم.

قوله تعالى: "إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب" الخطفة الاختلاس و الاستلاب، و الشهاب ما يرى في الجو كالكوكب المنقض، و الثقوب الركوز و سمي الشهاب ثاقبا لأنه لا يخطىء هدفه و غرضه.

و المراد بالخطفة اختلاس السمع و قد عبر عنه في موضع آخر باستراق السمع قال تعالى: "إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين:" الحجر: - 18، و الاستثناء من ضمير الفاعل في قوله: "لا يسمعون" و جوز بعضهم كون الاستثناء منقطعا.

و معنى الآيات الخمس: أنا زينا السماء التي هي أقرب السماوات منكم - أو السماء السفلى بزينة و هي الكواكب، و حفظناها حفظا من كل شيطان خبيث عار من الخير ممنوعين من الإصغاء إلى الملإ الأعلى - للاطلاع إلى ما يلقون بين أنفسهم من أخبار الغيب - و يرمون من كل جهة حال كونهم مطرودين و لهم عذاب لازم لا يفارقهم إلا من اختلس من أخبارهم الاختلاسة فأتبعه شهاب ثاقب لا يخطىء غرضه.

كلام في معنى الشهب

أورد المفسرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين و رميهم بالشهب و هي مبنية على ما يسبق إلى الذهن من ظاهر الآيات و الأخبار أن هناك أفلاكا محيطة بالأرض تسكنها جماعات الملائكة و لها أبواب لا يلج فيها شيء إلا منها و أن في السماء الأولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.

و قد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء و يتفرع على ذلك بطلان الوجوه التي أوردوها في تفسير الشهب و هي وجوه كثيرة أودعوها في المطولات كالتفسير الكبير، للرازي و روح المعاني، للآلوسي و غيرهما.

و يحتمل - و الله العالم أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس و هو القائل عز و جل: "و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون:" العنكبوت: - 43.

و هو كثير في كلامه تعالى و منه العرش و الكرسي و اللوح و الكتاب و قد تقدمت الإشارة إليها و سيجيء بعض منها.

و على هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا أفق أعلى نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض، و المراد باقتراب الشياطين من السماء و استراقهم السمع و قذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة و الحوادث المستقبلة و رميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت، أو كرتهم على الحق لتلبيسه و رمي الملائكة إياهم بالحق الذي يبطل أباطيلهم.

و إيراده تعالى قصة استراق الشياطين للسمع و رميهم بالشهب عقيب الإقسام بملائكة الوحي و حفظهم إياه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه و الله أعلم.

قوله تعالى: "فاستفتهم أ هم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب" اللازب الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره، و قال في مجمع البيان،: اللازب و اللازم بمعنى.

انتهي.

و المراد بقوله: "من خلقنا" إما الملائكة المشار إليهم في الآيات السابقة و هم حفظة الوحي و رماة الشهب، و إما غير الناس من الخلق العظيم كالسماوات و الأرض و الملائكة، و التعبير بلفظ أولي العقل للتغليب.

و المعنى: فإذا كان الله هو رب السماوات و الأرض و ما بينهما و الملائكة فاسألهم أن يفتوا أ هم أشد خلقا أم غيرهم ممن خلقنا فهم أضعف خلقا لأنا خلقناهم من طين ملتزق فليسوا بمعجزين لنا.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و الصافات صفا" قال: الملائكة و الأنبياء.

و فيه، عن أبيه و يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض.

الحديث.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "عذاب واصب" أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم.

و فيه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في حديث المعراج: قال: فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى سماء الدنيا و عليها ملك يقال له: إسماعيل و هو صاحب الخطفة التي قال الله عز و جل: "إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب" و تحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك.

الحديث.

أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة أوردنا بعضا منها في تفسير قوله تعالى: "إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين:" الحجر: - 18 و سيأتي بعضها في تفسير سورتي الملك و الجن إن شاء الله تعالى.

و في نهج البلاغة،: ثم جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت و لاطها بالبلة حتى لزبت.

37 سورة الصافات - 12 - 70

بَلْ عَجِبْت وَ يَسخَرُونَ (12) وَ إِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذَا رَأَوْا ءَايَةً يَستَسخِرُونَ (14) وَ قَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مّبِينٌ (15) أَ ءِذَا مِتْنَا وَ كُنّا تُرَاباً وَ عِظماً أَ ءِنّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ ءَابَاؤُنَا الأَوّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَ أَنتُمْ دَخِرُونَ (18) فَإِنّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظرُونَ (19) وَ قَالُوا يَوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصلِ الّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشرُوا الّذِينَ ظلَمُوا وَ أَزْوَجَهُمْ وَ مَا كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِرَطِ الجَْحِيمِ (23) وَ قِفُوهُمْ إِنهُم مّسئُولُونَ (24) مَا لَكمْ لا تَنَاصرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُستَسلِمُونَ (26) وَ أَقْبَلَ بَعْضهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قَالُوا إِنّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَل لّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ مَا كانَ لَنَا عَلَيْكم مِّن سلْطنِ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طغِينَ (30) فَحَقّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنّا لَذَائقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَكُمْ إِنّا كُنّا غَوِينَ (32) فَإِنهُمْ يَوْمَئذٍ فى الْعَذَابِ مُشترِكُونَ (33) إِنّا كَذَلِك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنهُمْ كانُوا إِذَا قِيلَ لهَُمْ لا إِلَهَ إِلا اللّهُ يَستَكْبرُونَ (35) وَ يَقُولُونَ أَ ئنّا لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا لِشاعِرٍ مجْنُونِ (36) بَلْ جَاءَ بِالحَْقِّ وَ صدّقَ الْمُرْسلِينَ (37) إِنّكمْ لَذَائقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ (38) وَ مَا تجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلا عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئك لهَُمْ رِزْقٌ مّعْلُومٌ (41) فَوَكِهُ وَ هُم مّكْرَمُونَ (42) فى جَنّتِ النّعِيمِ (43) عَلى سرُرٍ مّتَقَبِلِينَ (44) يُطاف عَلَيهِم بِكَأْسٍ مِّن مّعِينِ (45) بَيْضاءَ لَذّةٍ لِّلشرِبِينَ (46) لا فِيهَا غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنهَا يُنزَفُونَ (47) وَ عِندَهُمْ قَصِرَت الطرْفِ عِينٌ (48) كَأَنهُنّ بَيْضٌ مّكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قَالَ قَائلٌ مِّنهُمْ إِنى كانَ لى قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ ءِنّك لَمِنَ الْمُصدِّقِينَ (52) أَ ءِذَا مِتْنَا وَ كُنّا تُرَاباً وَ عِظماً أَ ءِنّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مّطلِعُونَ (54) فَاطلَعَ فَرَءَاهُ فى سوَاءِ الجَْحِيمِ (55) قَالَ تَاللّهِ إِن كِدت لَترْدِينِ (56) وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبى لَكُنت مِنَ الْمُحْضرِينَ (57) أَ فَمَا نحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلا مَوْتَتَنَا الأُولى وَ مَا نحْنُ بِمُعَذّبِينَ (59) إِنّ هَذَا لهَُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَمِلُونَ (61) أَ ذَلِك خَيرٌ نّزُلاً أَمْ شجَرَةُ الزّقّومِ (62) إِنّا جَعَلْنَهَا فِتْنَةً لِّلظلِمِينَ (63) إِنّهَا شجَرَةٌ تخْرُجُ فى أَصلِ الجَْحِيمِ (64) طلْعُهَا كَأَنّهُ رُءُوس الشيَطِينِ (65) فَإِنهُمْ لاَكلُونَ مِنهَا فَمَالِئُونَ مِنهَا الْبُطونَ (66) ثمّ إِنّ لَهُمْ عَلَيهَا لَشوْباً مِّنْ حَمِيمٍ (67) ثمّ إِنّ مَرْجِعَهُمْ لالى الجَْحِيمِ (68) إِنهُمْ أَلْفَوْا ءَابَاءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى ءَاثَرِهِمْ يهْرَعُونَ (70)

بيان

حكاية استهزائهم بآيات الله و بعض أقاويلهم المبنية على الكفر و إنكار المعاد و الرد عليهم بتقرير أمر البعث و ما يجري عليهم فيه من الشدة و ألوان العذاب و ما يكرم الله به عباده المخلصين من النعمة و الكرامة.

و فيها ذكر تخاصم أهل النار يوم القيامة، و ذكر محادثة بين أهل الجنة و أخرى بين بعضهم و بعض أهل النار.

قوله تعالى: "بل عجبت و يسخرون و إذا ذكروا لا يذكرون" أي بل عجبت يا محمد من تكذيبهم إياك مع دعوتك إياهم إلى كلمة الحق، و هم يسخرون و يهزءون من تعجبك منهم أو من دعائك إياهم إلى الحق، و إذا ذكروا بآيات الله الدالة على التوحيد و دين الحق لا يذكرون و لا يتنبهون.

قوله تعالى: "و إذا رأوا آية يستسخرون" في مجمع البيان،: سخر و استسخر بمعنى واحد.

انتهي.

و المعنى: و إذا رأوا هؤلاء المشركون أية معجزة من آيات الله المعجزة كالقرآن و شق القمر يستهزءون بها.

قوله تعالى: "و قالوا إن هذا إلا سحر مبين" في إشارتهم إلى الآية بلفظة هذا إشعار منهم أنهم لا يفقهون منها إلا أنها شيء ما من غير زيادة و هو من أقوى الإهانة و الاستسخار.

قوله تعالى: "أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ إنا لمبعوثون أ و آباؤنا الأولون" إنكار منهم للبعث مبني على الاستبعاد فمن المستبعد عند الوهم أن يموت الإنسان فيتلاشى بدنه و يعود ترابا و عظاما ثم يعود إلى صورته الأولى.

و من الدليل على أن الكلام مسوق لإفادة الاستبعاد تكرارهم الاستفهام الإنكاري بالنسبة إلى آبائهم الأولين فإن استبعاد الوهم لبعثهم و قد انمحت رسومهم و لم يبق منهم إلا أحاديث أشد و أقوى من استبعاده بعثهم أنفسهم.

و لو كان إنكارهم البعث مبنيا على أنهم ينعدمون بالموت فتستحيل إعادتهم كان الحكم فيهم و في آبائهم على نهج واحد و لم يحتج إلى تجديد استفهام بالنسبة إلى آبائهم.

قوله تعالى: "قل نعم و أنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون" أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بأنهم مبعوثون.

و قوله: "و أنتم داخرون" أي صاغرون مهانون أذلاء، و هذا في الحقيقة احتجاج بعموم القدرة و نفوذ الإرادة من غير مهلة، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون و لذا عقبه بقوله: "فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون" و قد قال تعالى: "و لله غيب السماوات و الأرض و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير:" النحل - 77.

و قوله: "فإنما هي زجرة واحدة" إلخ الفاء لإفادة التعليل و الجملة تعليل لقوله: "و أنتم داخرون" و في التعبير بزجرة إشعار باستذلالهم.

قوله تعالى: "و قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون" معطوف على قوله: "ينظرون" المشعر بأنهم مبهوتون مدهوشون متفكرون ثم يتنبهون بكونه يوم البعث فيه الدين و الجزاء و هم يحذرون منه بما كفروا و كذبوا و لذا قالوا: يوم الدين، و لم يقولوا يوم البعث، و التعبير بالماضي لتحقق الوقوع.



و قوله: "هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون" قيل هو كلام بعضهم لبعض و قيل: كلام الملائكة أو كلامه تعالى لهم، و يؤيده الآية التالية، و الفصل هو التمييز بين الشيئين و سمي يوم الفصل لكونه يوم التمييز بين الحق و الباطل بقضائه و حكمه تعالى أو التمييز بين المجرمين و المتقين قال تعالى: "و امتازوا اليوم أيها المجرمون:" يس: - 59.

قوله تعالى: "احشروا الذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم" من كلامه تعالى للملائكة و المعنى و قلنا للملائكة: احشروهم و قيل: هو من كلام الملائكة بعضهم لبعض.

و الحشر - على ما ذكره الراغب - إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها.

و المراد بالذين ظلموا على ما يؤيده آخر الآية المشركون و لا كل المشركين بل المعاندون للحق الصادون عنه منهم قال تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون:" الأعراف: - 44 45، و التعبير بالماضي في المقام يفيد فائدة الوصف فليس المراد بالذين ظلموا من تحقق منه ظلم ما و لو مرة واحدة بل تعريف لهم بحاصل ما اكتسبوا في حياتهم الدنيا كما لو قيل: ما ذا فعل فلان في حياته فيقال ظلم، فالفعل يفيد فائدة الوصف، و في كلامه تعالى من ذلك شيء كثير كقوله تعالى: "و سيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا:" الزمر: - 73: "و قوله و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا:" الزمر: - 71 و قوله: "للذين أحسنوا الحسنى و زيادة:" يونس - 26.

و قوله: "و أزواجهم" الظاهر أن المراد به قرناؤهم من الشياطين قال تعالى: "و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين - إلى أن قال - حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين:" الزخرف: - 38.

و قيل: المراد بالأزواج الأشباه و النظائر فأصحاب الزنا يحشرون مع أصحاب الزنا و أصحاب الخمر مع أصحاب الخمر و هكذا.

و فيه أن لازمه أن يراد بالذين ظلموا طائفة خاصة من أصحاب كل معصية و اللفظ لا يساعد عليه على أن ذيل الآية لا يناسبه.

و قيل: المراد بالأزواج نساؤهم الكافرات و هو ضعيف كسابقه.

و قوله: "و ما كانوا يعبدون من دون الله" الظاهر أن المراد به الأصنام التي يعبدونها نظرا إلى ظاهر لفظة "ما" فالآية نظيرة قوله: "إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم:" الأنبياء: - 98.

و يمكن أن يكون المراد بلفظة "ما" ما يعم أولي العقل من المعبودين كالفراعنة و النماردة، و أما الملائكة المعبودون و المسيح (عليه السلام) فيخرجهم من العموم قوله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون:" الأنبياء: - 101.

و قوله: "فاهدوهم إلى صراط الجحيم" الجحيم من أسماء جهنم في القرآن و هو من الجحمة بمعنى شدة تأجج النار على ما ذكره الراغب.

و المراد بهدايتهم إلى صراطها إيصالهم إليه و إيقاعهم فيه بالسوق، و قيل: تسمية ذلك بالهداية من الاستهزاء، و قال في مجمع البيان،: إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله: "فبشرهم بعذاب أليم" من حيث إن هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم.

انتهي.

قوله تعالى: "و قفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون" قال في المجمع، يقال: وقفت أنا و وقفت غيري - أي يعدى و لا يعدى - و بعض بني تميم يقول: أوقفت الدابة و الدار.

انتهي.



فقوله: "و قفوهم إنهم مسئولون" أي احبسوهم لأنهم مسئولون أي حتى يسأل عنهم.

و السياق يعطي أن هذا الأمر بالوقوف و السؤال إنما يقع في صراط الجحيم.

و اختلفت كلماتهم فيما هو السؤال عنه فقيل: يسألون عن قول لا إله إلا الله، و قيل: عن شرب الماء البارد استهزاء بهم، و قيل: عن ولاية علي (عليه السلام).

و هذه الوجوه لو صحت فإنما تشير إلى مصاديق ما يسأل عنه و السياق يشهد أن السؤال هو ما يشتمل عليه قوله: "ما لكم لا تناصرون" أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه في الدنيا فتستعينون به على حوائجكم و مقاصدكم، و ما يتلوه من قوله: "بل هم اليوم مستسلمون" أي مسلمون لا يستكبرون يدل على أن المراد بقوله: "ما لكم لا تناصرون" السؤال عن استكبارهم عن طاعة الحق كما كانوا يستكبرون في الدنيا.

فالسؤال عن عدم تناصرهم سؤال عن سبب الاستكبار الذي كانوا عليه في الدنيا فقد تبين به أن المسئول عنه هو كل حق أعرضوا عنه في الدنيا من اعتقاد حق أو عمل صالح استكبارا على الحق تظاهرا بالتناصر.

قوله تعالى: "و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - إنا كنا غاوين" تخاصم واقع بين الأتباع و المتبوعين يوم القيامة، و التعبير عنه بالتساؤل لأنه في معنى سؤال بعضهم بعضا تلاوما و تعاتبا يقول التابعون لمتبوعيهم: لم أضللتمونا؟ فيقول المتبوعون: لم قبلتم منا و لا سلطان لنا عليكم؟.

فقوله: "و أقبل بعضهم على بعض يتساءلون" البعض الأول هم المعترضون و البعض الثاني المعترض عليهم كما يعطيه سياق التساؤل و تساؤلهم تخاصمهم.

و قوله: "قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين" أي من جهة الخير و السعادة فاستعمال اليمين فيها شائع كثير كقوله: "و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين:" الواقعة: - 27 و المعنى أنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير و السعادة فتقطعون الطريق و تحولون بيننا و بين الخير و السعادة و تضلوننا.

و قيل: المراد باليمين الدين و هو قريب من الوجه السابق، و قيل: المراد باليمين القهر و القوة كما في قوله تعالى: "فراغ عليهم ضربا باليمين:" الصافات: - 93 و لا يخلو من وجه نظرا إلى جواب المتبوعين.

و قوله: "قالوا بل لم تكونوا مؤمنين و ما كان لنا عليكم من سلطان - إلى قوله - غاوين" جواب المتبوعين بتبرئة أنفسهم من إشقاء التابعين و أن جرمهم مستند إلى سوء اختيار أنفسهم.

فقالوا: بل لم تكونوا مؤمنين أي لم نكن نحن السبب الموجب لإجرامكم و هلاككم بخلوكم عن الإيمان بل لم تكونوا مؤمنين لا أنا جردناكم من الإيمان.

ثم قالوا: "و ما كان لنا عليكم من سلطان" و هو في معنى الجواب على فرض التسليم كأنه قيل: و لو فرض أنه كان لكم إيمان فما كان لنا عليكم من سلطان حتى نسلبه منكم و نجردكم منه.

على أن سلطان المتبوعين إنما هو بالتابعين فهم الذين يعطونهم السلطة و القوة فيتسلطون عليهم أنفسهم.



ثم قالوا: "بل كنتم قوما طاغين" و الطغيان هو التجاوز عن الحد و هو إضراب عن قوله: "لم تكونوا مؤمنين" كأنه قيل: و لم يكن سبب هلاككم مجرد الخلو من الإيمان بل كنتم قوما طاغين كما كنا مستكبرين طاغين فتعاضدنا جميعا على ترك سبيل الرشد و اتخاذ سبيل الغي فحق علينا كلمة العذاب التي قضى بها الله سبحانه قال تعالى: "إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا:" النبأ: - 22 و قال: "فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى:" النازعات: - 39.

و لهذا المعنى عقب قوله: "بل كنتم قوما طاغين" بقوله: "فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون" أي لذائقون العذاب.

ثم قالوا: "فأغويناكم إنا كنا غاوين" و هو متفرع على ثبوت كلمة العذاب و آخر الأسباب لهلاكهم فإن الطغيان يستتبع الغواية ثم نار جهنم، قال تعالى لإبليس "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين:" الحجر: - 43.

فكأنه قيل: فلما تلبستم بالطغيان حل بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم إلا اتباعكم لنا و اتصالكم بنا فسرى إليكم ما فينا من الصفة و هي الغواية فالغاوي لا يتأتى منه إلا الغواية و الإناء لا يترشح منه إلا ما فيه، و بالجملة إنكم لم تجبروا و لم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته و هي الغواية فحق عليكم القول.

قوله تعالى: "فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون - إلى قوله - يستكبرون" ضمير "فإنهم" للتابعين و المتبوعين فهم مشتركون في العذاب لاشتراكهم في الظلم و تعاونهم على الجرم من غير مزية لبعضهم على بعض.

و استظهر بعضهم أن المغوين أشد عذابا و ذلك في مقابلة أوزارهم و أوزار أمثال أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة و الحق أن الآيات مسوقة لبيان اشتراكهم في الظلم و الجرم و العذاب اللاحق بهم من قبله، و يمكن مع ذلك أن يلحق بكل من المتبوعين و التابعين ألوان من العذاب ناشئة عن خصوص شأنهم قال تعالى: "و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم:" العنكبوت: - 13، و قال: "ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف و لكن لا تعلمون:" الأعراف: - 38.

و قوله: "إنا كذلك نفعل بالمجرمين" تأكيد لتحقيق العذاب، و المراد بالمجرمين المشركون بدليل قوله بعد: "إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون" أي إذا عرض عليهم التوحيد أن يؤمنوا به أو كلمة الإخلاص أن يقولوها استمروا على استكبارهم و لم يقبلوا.

قوله تعالى: "و يقولون أ إنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق و صدق المرسلين" قولهم هذا إنكار منهم للرسالة بعد استكبارهم عن التوحيد و إنكارهم له.

و قوله: "بل جاء بالحق و صدق المرسلين" رد لقولهم: "لشاعر مجنون" حيث رموه (عليه السلام) بالشعر و الجنون و فيه رمي لكتاب الله بكونه شعرا و من هفوات الجنون فرد عليهم بأن ما جاء به حق و فيه تصديق الرسل السابقين فليس بباطل من القول كالشعر و هفوة الجنون و ليس ببدع غير مسبوق في معناه.

قوله تعالى: "إنكم لذائقوا العذاب الأليم" تهديد لهم بالعذاب لاستكبارهم و رميهم الحق بالباطل.

قوله تعالى: "و ما تجزون إلا ما كنتم تعملون" أي لا ظلم فيه لأنه نفس عملكم يرد إليكم.



قوله تعالى: "إلا عباد الله المخلصين - إلى قوله - بيض مكنون" استثناء منقطع من ضمير "لذائقوا" أو من ضمير "ما تجزون" و لكل وجه و المعنى على الأول لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم و ليسوا بذائقي العذاب الأليم و المعنى على الثاني لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وراء جزاء عملهم و سيجيء الإشارة إلى معناه.

و احتمال كون الاستثناء متصلا ضعيف لا يخلو من تكلف.

و قد سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه و العبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة و لا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله و لا يعملون إلا له.

ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلق لهم بشيء غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا و لا من نعم العقبى و ليس في قلوبهم إلا الله سبحانه.

و من المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه و تنعمه غير ما يلتذ و يتنعم غيره و ارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه و إن شاركهم في ضروريات المأكل و المشرب و من هنا يتأيد أن المراد بقوله: "أولئك لهم رزق معلوم" الإشارة إلى أن رزقهم في الجنة - و هم عباد مخلصون - رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم و لا يختلط بما يتمتع به من دونهم و إن اشتركا في الاسم.

فقوله: "أولئك لهم رزق معلوم" أي رزق خاص متعين ممتاز من رزق غيرهم فكونه معلوما كناية عن امتيازه كما في قوله: "و ما منا إلا له مقام معلوم:" الصافات: - 164 و الإشارة بلفظ البعيد للدلالة على علو مقامهم.

و أما ما فسره بعضهم أن المراد بكون رزقهم معلوما كونه معلوم الخصائص مثل كونه غير مقطوع و لا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة، و كذا ما ذكره آخرون أن المراد أنه معلوم الوقت لقوله: "و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا:" مريم: - 62 و كذا قول القائل: إن المراد به الجنة فهي وجوه غير سديدة.

و من هنا يظهر أن أخذ قوله: "إلا عباد الله المخلصين" استثناء من ضمير "و ما تجزون" لا يخلو من وجه كما تقدمت الإشارة إليه.

و قوله: "فواكه و هم مكرمون في جنات النعيم" الفواكه جمع فاكهة و هي ما يتفكه به من الأثمار بيان لرزقهم المعلوم غير أنه تعالى شفعه بقوله: "و هم مكرمون" للدلالة على امتياز هذا الرزق أعني الفاكهة مما عند غيرهم بأنها مقارنة لإكرام خاص يخصهم قبال اختصاصهم بالله سبحانه و كونه لهم لا يشاركهم فيه شيء.

و في إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ذلك فقد تقدم في قوله: "فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" الآية: النساء: - 69، و قوله: "و أتممت عليكم نعمتي:" المائدة: - 3 و غيرهما أن حقيقة النعمة هي الولاية و هي كونه تعالى هو القائم بأمر عبده.

و قوله: "على سرر متقابلين" السرر جمع سرير و هو معروف و كونهم متقابلين معناه استئناس بعضهم ببعض و استمتاعهم بنظر بعضهم في وجه بعض من غير أن يرى بعضهم قفا بعض.

و قوله: "يطاف عليهم بكأس من معين" الكأس إناء الشراب و نقل عن كثير من اللغويين أن إناء الشراب لا يسمى كأسا إلا و فيه الشراب فإن خلا منه فهو قدح و المعين من الشراب الظاهر منه من عان الماء إذا ظهر و جرى على وجه الأرض، و المراد بكون الكأس من معين صفاء الشراب فيها و لذا عقبه بقوله: "بيضاء".

و قوله: "بيضاء لذة للشاربين" أي صافية في بياضها لذيذة للشاربين فاللذة مصدر أريد به الوصف مبالغة أو هي مؤنث لذ بمعنى لذيذ كما قيل.



و قوله: "لا فيها غول و لا هم عنها ينزفون" الغول الإضرار و الإفساد، قال الراغب: الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به انتهى.

فنفي الغول عن الخمر نفي مضارها و الإنزاف فسر بالسكر المذهب للعقل و أصله إذهاب الشيء تدريجا.

و محصل المعنى: أنه ليس فيها مضار الخمر التي في الدنيا و لا إسكارها بإذهاب العقل.

و قوله: "و عندهم قاصرات الطرف عين" وصف للحور التي يرزقونها و قصور طرفهن كناية عن نظرهن نظرة الغنج و الدلال و يؤيده ذكر العين بعده و هو جمع عيناء مؤنث أعين و هي الواسعة العين في جمال.

و قيل: المراد بقاصرات الطرف أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لحبهن لهم، و بالعين أن أعينهن شديدة في سوادها شديدة في بياضها.

و قوله: "كأنهن بيض مكنون" البيض معروف و هو اسم جنس واحدته بيضة و المكنون هو المستور بالادخار قيل: المراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي و لم يصبه الغبار، و قيل: المراد تشبيههن ببطن البيض قبل أن يقشر و قبل أن تمسه الأيدي.

قوله تعالى: "فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - فليعمل العاملون" حكاية محادثة تقع بين أهل الجنة فيسأل بعضهم عن أحوال بعض و يحدث بعضهم بما جرى عليه في الدنيا و تنتهي المحادثة إلى تكليمهم بعض أهل النار و هو في سواء الجحيم.

فقوله: "فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" ضمير الجمع لأهل الجنة من عباد الله المخلصين و تساؤلهم - كما تقدم - سؤال بعضهم عن بعض و ما جرى عليه.

و قوله: "قال قائل منهم إني كان لي قرين" أي قال قائل من أهل الجنة المتسائلين إني كان لي في الدنيا مصاحب يختص بي من الناس.

كذا يعطي السياق.

و قيل: المراد بالقرين القرين من الشياطين و فيه أن القرآن إنما يثبت قرناء الشياطين في المعرضين عن ذكر الله و المخلصون في عصمة إلهية من قرين الشياطين و كذا من تأثير الشيطان فيهم كما حكى عن إبليس استثناءهم من الإغواء: "فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين:" ص: - 83 نعم ربما أمكن أن يتعرض لهم الشيطان من غير تأثير فيهم لكنه غير أثر القرين.

و قوله: "يقول أ إنك لمن المصدقين أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ إنا لمدينون" ضمير "يقول" للقرين، و مفعول "المصدقين" البعث للجزاء و قد قام مقامه قوله: "أ إذا متنا" إلخ و المدينون المجزيون.

و المعنى: كأن يقول لي قريني مستبعدا منكرا أ إنك لمن المصدقين للبعث للجزاء أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما فتلاشت أبداننا و تغيرت صورها أ إنا لمجزيون بالإحياء و الإعادة؟ فهذا مما لا ينبغي أن يصدق.

و قوله: "قال هل أنتم مطلعون" ضمير "قال" للقائل المذكور قبلا، و الاطلاع الإشراف و المعنى ثم قال القائل المذكور مخاطبا لمحادثيه من أهل الجنة: هل أنتم مشرفون على النار حتى تروا قريني و الحال التي هو فيها؟.

و قوله: "فاطلع فرآه في سواء الجحيم" السواء الوسط و منه سواء الطريق أي وسطه و المعنى فأشرف القائل المذكور على النار فرآه أي قرينه في وسط الجحيم.



و قوله: "قال تالله إن كدت لتردين" "إن" مخففة من الثقيلة، و الإرداء السقوط من مكان عال كالشاهق و يكنى به عن الهلاك و المعنى أقسم بالله إنك قربت أن تهلكني و تسقطني فيما سقطت فيه من الجحيم.

و قوله: "و لو لا نعمة ربي لكنت من المحضرين" المراد بالنعمة التوفيق و الهداية الإلهية، و الإحضار الإشخاص للعذاب قال في مجمع البيان،: و لا يستعمل "أحضر" مطلقا إلا في الشر.

و المعنى و لو لا توفيق ربي و هدايته لكنت من المحضرين للعذاب مثلك.

و قوله: "أ فما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين" الاستفهام للتقرير و التعجيب، و المراد بالموتة الأولى هي الموتة عن الحياة الدنيا و أما الموتة عن البرزخ المدلول عليها بقوله: "ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين:" المؤمن: - 11 فلم يعبأ بها لأن الموت الذي يزعم الزاعم فيه الفناء و البطلان هو الموت الدنيوي.

و المعنى - على ما في الكلام من الحذف و الإيجاز - ثم يرجع القائل المذكور إلى نفسه و أصحابه فيقول متعجبا أ نحن خالدون منعمون فما نحن بميتين إلا الموتة الأولى و ما نحن بمعذبين؟.

قال في مجمع البيان،: و يريدون به التحقيق لا الشك و إنما قالوا هذا القول لأن لهم في ذلك سرورا مجددا و فرحا مضاعفا و إن كان قد عرفوا أنهم سيخلدون في الجنة و هذا كما أن الرجل يعطى المال الكثير فيقول مستعجبا: كل هذا المال لي؟ و هو يعلم أن ذلك له و هذا كقوله: أ بطحاء مكة هذا الذي.

أراه عيانا و هذا أنا؟.

قال: و لهذا عقبه بقوله: "إن هذا لهو الفوز العظيم" انتهى.

و قوله: "إن هذا لهو الفوز العظيم" هو من تمام قول القائل المذكور و فيه إعظام لموهبة الخلود و ارتفاع العذاب و شكر للنعمة.

و قوله: "لمثل هذا فليعمل العاملون" ظاهر السياق أنه من قول القائل المذكور و الإشارة بهذا إلى الفوز أو الثواب أي لمثل هذا الفوز أو الثواب فليعمل العاملون في دار التكليف، و قيل: هو من قول الله سبحانه و قيل: من قول أهل الجنة.

و اعلم أن لهم أقوالا مختلفة في نسبة أكثر الجمل السابقة إلى قول الله تعالى أو قول الملائكة أو قول أهل الجنة غير القائل المذكور و الذي أوردناه هو الذي يساعد عليه السياق.

قوله تعالى: "أ ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم - إلى قوله - يهرعون" مقايسة بين ما هيأه الله نزلا لأهل الجنة مما وصفه من الرزق الكريم و بين ما أعده نزلا لأهل النار من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رءوس الشياطين و شراب من حميم.

فقوله: "أ ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم" الإشارة بذلك إلى الرزق الكريم المذكورة سابقا المعد لورود أهل الجنة و النزل بضمتين ما يهيأ لورود الضيف فيقدم إليه إذا ورد من الفواكه و نحوها.

و الزقوم - على ما قيل - اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة و البلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت به الشجرة الموصوفة بما في الآية من الأوصاف، و قيل: إن قريشا ما كانت تعرفه و سيأتي ذلك في البحث الروائي.

و لفظة خير في الآية بمعنى الوصف دون التفضيل إذ لا خيرية في الزقوم أصلا فهو كقوله: "ما عند الله خير من اللهو:" الجمعة: - 11 و الآية على ما يعطيه السياق من كلامه تعالى.



و قوله: "إنا جعلناها فتنة للظالمين" الضمير لشجرة الزقوم، و الفتنة المحنة و العذاب.

و قوله: "إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم" وصف لشجرة الزقوم، و أصل الجحيم قعرها، و لا عجب في نبات شجرة في النار و بقائها فيها فحياة الإنسان و بقاؤه خالدا فيها أعجب و الله يفعل ما يشاء.

و قوله: "طلعها كأنه رءوس الشياطين" الطلع حمل النخلة أو مطلق الشجرة أول ما يبدو، و تشبيه ثمرة الزقوم برءوس الشياطين بعناية أن الأوهام العامية تصور الشيطان في أقبح صورة كما تصور الملك في أحسن صورة و أجملها قال تعالى: "ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم:" يوسف: - 31، و بذلك يندفع ما قيل: إن الشيء إنما يشبه بما يعرف و لا معرفة لأحد برءوس الشياطين.

و قوله: "فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون" الفاء للتعليل يبين به كونها نزلا للظالمين يأكلون منها، و في قوله: "فمالئون منها البطون" إشارة إلى تسلط جوع شديد عليهم يحرصون به على الأكل كيفما كان.

و قوله: "ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم" الشوب المزيج و الخليط، و الحميم الماء الحار البالغ في حرارته، و المعنى ثم إن لأولئك الظالمين - زيادة عليها - لخليطا مزيجا من ماء حار بالغ الحرارة يشربونه فيختلط به ما ملئوا منه البطون من الزقوم.

و قوله: "ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم" أي إنهم بعد شرب الحميم يرجعون إلى الجحيم فيستقرون فيها و يعذبون، و في الآية تلويح إلى أن الحميم خارج الجحيم.

و قوله: "إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون" ألفيت كذا أي وجدته و صادفته، و الإهراع الإسراع و المعنى أن سبب أكلهم و شربهم ثم رجوعهم إلى الجحيم أنهم صادفوا آباءهم ضالين - و هم مقلدون و أتباع لهم و هم أصلهم و مرجعهم - فهم يسرعون على آثارهم فجوزوا بنزل كذلك و الرجوع إلى الجحيم جزاء وفاقا.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله تعالى: "بل عجبت" قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عجبت بالقرآن حين أنزل و يسخر منه ضلال بني آدم.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "احشروا الذين ظلموا" قال: الذين ظلموا آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حقهم "و أزواجهم" قال: أشباههم.

أقول: صدر الرواية من الجري.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "و قفوهم إنهم مسئولون" قيل: عن ولاية علي (عليه السلام) عن أبي سعيد الخدري:. أقول: و رواه الشيخ في الأمالي، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في العيون، عن علي و عن الرضا (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في تفسير القمي، عن الإمام (عليه السلام).

و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و شبابه فيما أبلاه، و عن ماله من أين كسبه و فيما أنفقه، و عن حبنا أهل البيت:. أقول: و روي في العلل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله.

و في نهج البلاغة،: اتقوا الله في عباده و بلاده فإنكم مسئولون حتى عن البقاع و البهائم.



و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تأريخه و الترمذي و الدارمي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه و إن دعا رجل رجلا ثم قرأ "و قفوهم إنهم مسئولون".

و في روضة الكافي، بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: و أما قوله: "أولئك لهم رزق معلوم" قال: يعلمه 1 الخدام فيأتون به إلى أولياء الله قبل أن يسألوهم إياه. أما قوله: "فواكه و هم مكرمون" قال: فإنهم لا يشتهون شيئا في الجنة إلا أكرموا به.

و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): "فاطلع فرآه في سواء الجحيم" يقول: في وسط الجحيم.

و فيه،: في قوله تعالى: "أ فما نحن بميتين": إلخ بإسناده عن أبيه عن علي بن مهزيار و الحسن بن محبوب عن النضر بن سويد عن درست عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار جيء بالموت و يذبح كالكبش بين الجنة و النار ثم يقال: خلود فلا موت أبدا فيقول أهل الجنة: "أ فما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين - إن هذا لهو الفوز العظيم - لمثل هذا فليعمل العاملون".

أقول: و حديث ذبح الموت في صورة كبش يوم القيامة من المشهورات رواه الشيعة و أهل السنة، و هو تمثل الخلود يومئذ.

و في المجمع،: في قوله تعالى: "شجرة الزقوم" روي أن قريشا لما سمعت هذه الآية قالت: ما نعرف هذه الشجرة قال ابن الزبعري: الزقوم بكلام البربر التمر و الزبد و في رواية بلغة اليمن فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية زقمينا فأتته الجارية بتمر و زبد فقال لأصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد فيزعم أن النار تنبت الشجر و النار تحرق الشجر فأنزل الله سبحانه "إنا جعلناها فتنة للظالمين".

أقول: و هذا المعنى مروي بطرق عديدة.

37 سورة الصافات - 71 - 113

وَ لَقَدْ ضلّ قَبْلَهُمْ أَكثرُ الأَوّلِينَ (71) وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا فِيهِم مّنذِرِينَ (72) فَانظرْ كيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلا عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَ لَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَ نجّيْنَهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنَا ذُرِّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فى الاَخِرِينَ (78) سلَمٌ عَلى نُوحٍ فى الْعَلَمِينَ (79) إِنّا كَذَلِك نجْزِى الْمُحْسِنِينَ (80) إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثمّ أَغْرَقْنَا الاَخَرِينَ (82) وَ إِنّ مِن شِيعَتِهِ لابْرَهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا ذَا تَعْبُدُونَ (85) أَ ئفْكاً ءَالِهَةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظنّكم بِرَب الْعَلَمِينَ (87) فَنَظرَ نَظرَةً فى النّجُومِ (88) فَقَالَ إِنى سقِيمٌ (89) فَتَوَلّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلى ءَالِهَتهِمْ فَقَالَ أَ لا تَأْكلُونَ (91) مَا لَكمْ لا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيهِمْ ضرْبَا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفّونَ (94) قَالَ أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَ اللّهُ خَلَقَكمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَناً فَأَلْقُوهُ فى الجَْحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فجَعَلْنَهُمُ الأَسفَلِينَ (98) وَ قَالَ إِنى ذَاهِبٌ إِلى رَبى سيهْدِينِ (99) رَب هَب لى مِنَ الصلِحِينَ (100) فَبَشرْنَهُ بِغُلَمٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السعْىَ قَالَ يَبُنىّ إِنى أَرَى فى الْمَنَامِ أَنى أَذْبحُك فَانظرْ مَا ذَا تَرَى قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ستَجِدُنى إِن شاءَ اللّهُ مِنَ الصبرِينَ (102) فَلَمّا أَسلَمَا وَ تَلّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نَدَيْنَهُ أَن يَإِبْرَهِيمُ (104) قَدْ صدّقْت الرّءْيَا إِنّا كَذَلِك نجْزِى الْمُحْسِنِينَ (105) إِنّ هَذَا لهَُوَ الْبَلَؤُا الْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْنَهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فى الاَخِرِينَ (108) سلَمٌ عَلى إِبْرَهِيمَ (109) كَذَلِك نجْزِى الْمُحْسِنِينَ (110) إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَ بَشرْنَهُ بِإِسحَقَ نَبِيّا مِّنَ الصلِحِينَ (112) وَ بَرَكْنَا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسحَقَ وَ مِن ذُرِّيّتِهِمَا محْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

بيان

تعقيب لغرض السياق السابق المتعرض لشركهم و تكذيبهم بآيات الله و تهديدهم بأليم العذاب يقول: إن أكثر الأولين ضلوا كضلالهم و كذبوا الرسل المنذرين كتكذيبهم و يستشهد بقصص نوح و إبراهيم و موسى و هارون و إلياس و لوط و يونس (عليهما السلام) و ما في الآيات المنقولة إشارة إلى قصة نوح و خلاصة قصص إبراهيم (عليه السلام).

قوله تعالى: "و لقد ضل قبلهم أكثر الأولين - إلى قوله - المخلصين" كلام مسوق لإنذار مشركي هذه الأمة بتنظيرهم للأمم الهالكين من قبلهم فقد ضل أكثرهم كما ضل هؤلاء و أرسل إليهم رسل منذرون كما أرسل منذر إلى هؤلاء فكذبوا فكان عاقبة أمرهم الهلاك إلا المخلصين منهم.

و اللام في "لقد ضل" للقسم و كذا في "لقد أرسلنا" و المنذرين الأول بكسر الذال المعجمة و هم الرسل و الثاني بفتح الذال المعجمة و هم الأمم الأولون، و "إلا عباد الله" إن كان المراد بهم من في الأمم من المخلصين كان استثناء متصلا و إن عم الأنبياء كان منقطعا إلا بتغليبه غير الأنبياء عليهم و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: "و لقد نادانا نوح فلنعم المجيبون" اللامان للقسم و هو يدل على كمال العناية بنداء نوح و إجابته تعالى، و قد مدح تعالى نفسه في إجابته فإن التقدير فلنعم المجيبون نحن، و جمع المجيب لإفادة التعظيم و قد كان نداء نوح - على ما يفيده السياق - دعاءه على قومه و استغاثته بربه المنقولين في قوله تعالى: "و قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا:" نوح: - 26، و في قوله تعالى: "فدعا ربه أني مغلوب فانتصر:" القمر: - 10.

قوله تعالى: "و نجيناه و أهله من الكرب العظيم" الكرب - على ما ذكره الراغب - الغم الشديد و المراد به الطوفان أو أذى قومه، و المراد بأهله أهل بيته و المؤمنون به من قومه و قد قال تعالى في سورة هود: "قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين و أهلك إلا من سبق عليه القول و من آمن:" هود: - 40 و الأهل كما يطلق على زوج الرجل و بنيه يطلق على كل من هو من خاصته.

قوله تعالى: "و جعلنا ذريته هم الباقين" أي الباقين من الناس بعد قرنهم و قد بحثنا في هذا المعنى في قصة نوح من سورة هود.

قوله تعالى: "و تركنا عليه في الآخرين" المراد بالترك الإبقاء و بالآخرين الأمم الغابرة غير الأولين، و قد ذكرت هذه الجملة بعد ذكر إبراهيم (عليه السلام) أيضا في هذه السورة و قد بدلت في القصة بعينها من سورة الشعراء من قوله: "و اجعل لي لسان صدق في الآخرين:" الشعراء: - 84 و استفدنا منه هناك أن المراد بلسان صدق كذلك أن يبعث الله بعده من يقوم بدعوته و يدعو إلى ملته و هي دين التوحيد.

فيتأيد بذلك أن المراد بالإبقاء في الآخرين هو إحياؤه تعالى دعوة نوح (عليه السلام) إلى التوحيد و مجاهدته في سبيل الله عصرا بعد عصر و جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة.



قوله تعالى: "سلام على نوح في العالمين" المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلى باللام مفيدا للعموم، و الظاهر أن المراد به عالمو البشر و أممهم و جماعاتهم إلى يوم القيامة فإنه تحية من عند الله مباركة طيبة تهدى إليه من قبل الأمم الإنسانية ما جرى فيها شيء من الخيرات اعتقادا أو عملا فإنه (عليه السلام) أول من انتهض لدعوة التوحيد و دحض الشرك و ما يتبعه من العمل و قاسى في ذلك أشد المحنة فيما يقرب من ألف سنة لا يشاركه في ذلك أحد فله نصيب من كل خير واقع بينهم إلى يوم القيامة، و لا يوجد في كلامه تعالى سلام على هذه السعة على أحد ممن دونه.

و قيل: المراد بالعالمين عوالم الملائكة و الثقلين من الجن و الإنس.

قوله تعالى: "إنا كذلك نجزي المحسنين تعليل لما امتن عليه من الكرامة كإجابة ندائه و تنجيته و أهله من الكرب العظيم و إبقاء ذريته و تركه عليه في الآخرين و السلام عليه في العالمين، و تشبيه جزائه بجزاء عموم المحسنين من حيث أصل الجزاء الحسن لا في خصوصياته فلا يوجب ذلك اشتراك الجميع فيما اختص به (عليه السلام) و هو ظاهر.

قوله تعالى: "إنه من عبادنا المؤمنين" تعليل لإحسانه المدلول عليه بالجملة السابقة و ذلك لأنه (عليه السلام) لكونه عبدا لله بحقيقة معنى الكلمة كان لا يريد و لا يفعل إلا ما يريده الله، و لكونه من المؤمنين حقا كان لا يرى من الاعتقاد إلا الحق و سرى ذلك إلى جميع أركان وجوده و من كان كذلك لا يصدر منه إلا الحسن الجميل فكان من المحسنين.

قوله تعالى: "ثم أغرقنا الآخرين" ثم للتراخي الكلامي دون الزماني و المراد بالآخرين قومه المشركون.

قوله تعالى: "و إن من شيعته لإبراهيم" الشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم و بالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر قال تعالى: "و حيل بينهم و بين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل:" سبأ: - 54.

و ظاهر السياق أن ضمير "شيعته" لنوح أي إن إبراهيم كان ممن يوافقه في دينه و هو دين التوحيد، و قيل: الضمير لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا دليل عليه من جهة اللفظ.

قيل: و من حسن الإرداف في نظم الآيات تعقيب قصة نوح (عليه السلام) و هو آدم الثاني أبو البشر بقصة إبراهيم (عليه السلام) و هو أبو الأنبياء إليه تنتهي أنساب جل الأنبياء بعده و على دينه تعتمد أديان التوحيد الحية اليوم كدين موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أيضا نوح (عليه السلام) نجاه الله من الغرق و إبراهيم (عليه السلام) نجاه الله من الحرق.

قوله تعالى: "إذ جاء ربه بقلب سليم" مجيئه ربه كناية عن تصديقه له و إيمانه به، و يؤيد ذلك أن المراد بسلامة القلب عروه عن كل ما يضر التصديق و الإيمان بالله سبحانه من الشرك الجلي و الخفي و مساوىء الأخلاق و آثار المعاصي و أي تعلق بغيره ينجذب إليه الإنسان و يختل به صفاء توجهه إليه سبحانه.

و بذلك يظهر أن المراد بالقلب السليم ما لا تعلق له بغيره تعالى كما في الحديث و سيجيء إن شاء الله في البحث الروائي الآتي.

و قيل: المراد به السالم من الشرك، و يمكن أن يوجه بما يرجع إلى الأول و قيل: المراد به القلب الحزين، و هو كما ترى.

و الظرف في الآية متعلق بقوله سابقا "من شيعته" و الظروف يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها، و قيل متعلق باذكر المقدر.

قوله تعالى: "إذ قال لأبيه و قومه ما ذا تعبدون" أي أي شيء تعبدون؟ و إنما سألهم عن معبودهم و هو يرى أنهم يعبدون الأصنام تعجبا و استغرابا.

قوله تعالى: "أ إفكا آلهة دون الله تريدون" أي تقصدون آلهة دون الله إفكا و افتراء، إنما قدم الإفك و الآلهة لتعلق عنايته بذلك.



قوله تعالى: "فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم" لا شك أن ظاهر الآيتين أن إخباره (عليه السلام) بأنه سقيم مرتبط بنظرته في النجوم و مبني عليه و نظرته في النجوم إما لتشخيص الساعة و خصوص الوقت كمن به حمى ذات نوبة يعين وقتها بطلوع كوكب أو غروبها أو وضع خاص من النجوم و إما للوقوف على الحوادث المستقبلة التي كان المنجمون يرون أن الأوضاع الفلكية تدل عليها، و قد كان الصابئون مبالغين فيها و كان في عهده (عليه السلام) منهم جم غفير.

فعلى الوجه الأول لما أراد أهل المدينة أن يخرجوا كافة إلى عيد لهم نظر إلى النجوم و أخبرهم أنه سقيم ستعتريه العلة فلا يقدر على الخروج معهم.

و على الوجه الثاني نظر (عليه السلام) حينذاك إلى النجوم نظرة المنجمين فأخبرهم أنها تدل على أنه سيسقم فليس في وسعه الخروج معهم.

و أول الوجهين أنسب لحاله (عليه السلام) و هو في إخلاص التوحيد بحيث لا يرى لغيره تعالى تأثيرا، و لا دليل لنا قويا يدل على أنه (عليه السلام) لم يكن به في تلك الأيام سقم أصلا، و قد أخبر القرآن بإخباره بأنه سقيم و ذكر سبحانه قبيل ذلك أنه جاء ربه بقلب سليم فلا يجوز عليه كذب و لا لغو من القول.

و لهم في الآيتين وجوه أخر أوجهها أن نظرته في النجوم و إخباره بالسقم من المعاريض في الكلام و المعاريض أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره و يفهم منه غير ما يقصده فلعله نظر (عليه السلام) في النجوم نظر الموحد في صنعه تعالى يستدل به عليه تعالى و على وحدانيته و هم يحسبون أنه ينظر إليها نظر المنجم فيها ليستدل بها على الحوادث ثم قال: إني سقيم يريد أنه سيعتريه سقم فإن الإنسان لا يخلو في حياته من سقم ما و مرض ما كما قال: "و إذا مرضت فهو يشفين:" الشعراء: - 80 و هم يحسبون أنه يخبر عن سقمه يوم يخرجون فيه لعيد لهم، و المرجح عنده لجميع ذلك ما كان يهتم به من الرواغ إلى أصنامهم و كسرها.

لكن هذا الوجه مبني على أنه كان صحيحا غير سقيم يومئذ، و قد سمعت أن لا دليل يدل عليه.

على أن المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.

قوله تعالى: "فتولوا عنه مدبرين" ضمير الجمع للقوم و ضمير الإفراد لإبراهيم (عليه السلام) أي خرجوا من المدينة و خلفوه.

قوله تعالى: "فراغ إلى آلهتهم فقال أ لا تأكلون ما لكم لا تنطقون" الروغ و الرواغ و الروغان الحياد و الميل، و قيل أصله الميل في جانب ليخدع من يريده.

و في قوله: "أ لا تأكلون"؟ تأييد لما ذكروا أن المشركين كانوا يضعون أيام أعيادهم طعاما عند آلهتهم.

و قوله: "أ لا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون"؟ تكليم منه لآلهتهم و هي جماد و هو يعلم أنها جماد لا تأكل و لا تنطق لكن الوجد و شدة الغيظ حمله على أن يمثل موقفها موقف العقلاء ثم يؤاخذها مؤاخذة العقلاء كما يفعل بالمجرمين.

فنظر إليها و هي ذوات أبدان كهيئة من يتغذى و يأكل و عندها شيء من الطعام فامتلأ غيظا و جاش وجدا فقال: أ لا تأكلون؟ فلم يسمع منها جوابا فقال: "ما لكم لا تنطقون"؟ و أنتم آلهة يزعم عبادكم أنكم عقلاء قادرون مدبرون لأمورهم فلما لم يسمع لها حسا راغ عليها ضربا باليمين.

قوله تعالى: "فراغ عليهم ضربا باليمين" أي تفرع على ذاك الخطاب أن مال على آلهتهم يضربهم ضربا باليد اليمنى أو بقوة بناء على كون المراد باليمين القوة.

و قول بعضهم: إن المراد باليمين القسم و المعنى مال عليهم ضربا بسبب القسم الذي سبق منه و هو قوله: "تالله لأكيدن أصنامكم:" الأنبياء: - 57 بعيد.



قوله تعالى: "فأقبلوا إليه يزفون" الزف و الزفيف الإسراع في المشي أي فجاءوا إلى إبراهيم و الحال أنهم يسرعون اهتماما بالحادثة التي يظنون أنه الذي أحدثها.

و في الكلام إيجاز و حذف من خبر رجوعهم إلى المدينة و وقوفهم على ما فعل بالأصنام و تحقيقهم الأمر و ظنهم به (عليه السلام) مذكور في سورة الأنبياء.

قوله تعالى: "قال أ تعبدون ما تنحتون و الله خلقكم و ما تعملون" فيه إيجاز و حذف من حديث القبض عليه و الإتيان به على أعين الناس و مسألته و غيرها.

و الاستفهام للتوبيخ و فيه مع ذلك احتجاج على بطلان طريقتهم فهو يقول: لا يصلح ما نحته الإنسان بيده أن يكون ربا للإنسان معبودا له و الله سبحانه خلق الإنسان و ما يعمله و الخلق لا ينفك عن التدبير فهو رب الإنسان و من السفه أن يترك هذا و يعبد ذاك.

و قد بان بذلك أن الأظهر كون ما في قوله: "ما تنحتون" موصولة و التقدير ما تنحتونه، و كذا في قوله: "و ما تعملون" و جوز بعضهم كون "ما" فيها مصدرية و هو في أولهما بعيد جدا.

و لا ضير في نسبة الخلق إلى ما عمله الإنسان أو إلى عمله لأن ما يريده الإنسان و يعمله من طريق اختياره مراد الله سبحانه من طريق إرادة الإنسان و اختياره و لا يوجب هذا النوع من تعلق الإرادة بالفعل بطلان تأثير إرادة الإنسان و خروج الفعل عن الاختيار و صيرورته مجبرا عليه، و هو ظاهر.

و لو كان المراد نسبة خلق أعمالهم إلى الله سبحانه بلا واسطة لا من طريق إرادتهم بل بتعلق إرادته بنفس عملهم و أفاد الجبر لكان القول أقرب إلى أن يكون عذرا لهم من أن يكون توبيخا و تقبيحا، و كانت الحجة لهم لا عليهم.

قوله تعالى: "قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم" البنيان مصدر بنى يبني و المراد به المبني، و الجحيم النار في شدة تأججها.

قوله تعالى: "فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين" الكيد الحيلة و المراد احتيالهم إلى إهلاكه و إحراقه بالنار.

و قوله: "فجعلناهم الأسفلين" كناية عن جعل إبراهيم فوقهم لا يؤثر فيه كيدهم شيئا إذ قال سبحانه: "يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم:" الأنبياء: - 69.

و قد اختتم بهذا فصل من قصص إبراهيم (عليه السلام) و هو انتهاضه أولا على عبادة الأوثان و اختصامه لعبادها و انتهاء أمره إلى إلقائه النار و إبطاله تعالى كيدهم.

قوله تعالى: "و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين" فصل آخر من قصصه (عليه السلام) يذكر عزمه على المهاجرة من بين قومه و استيهابه من الله ولدا صالحا و إجابته إلى ذلك و قصة ذبحه و نزول الفداء.

فقوله: "و قال إني ذاهب إلى ربي" إلخ كالإنجاز لما وعدهم به مخاطبا لآزر: "و أعتزلكم و ما تدعون من دون الله و أدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا:" مريم: - 48 و منه يعلم أن مراده بالذهاب إلى ربه الذهاب إلى مكان يتجرد فيه لعبادته تعالى و دعائه و هو الأرض المقدسة.

و قول بعضهم: إن المراد أذهب إلى حيث أمرني ربي لا شاهد عليه.

و كذا قول بعضهم: إن المراد أني ذاهب إلى لقاء ربي حيث يلقونني في النار فأموت و ألقى ربي سيهديني إلى الجنة.

و فيه - كما قيل - إن ذيل الآية لا يناسبه و هو قوله: "رب هب لي من الصالحين" و كذا قوله بعده: "فبشرناه بغلام حليم".



قوله تعالى: "رب هب لي من الصالحين" حكاية دعاء إبراهيم (عليه السلام) و مسألته الولد أي قال: رب هب لي "إلخ" و قد قيده بكونه من الصالحين.

قوله تعالى: "فبشرناه بغلام حليم" أي فبشرناه أنا سنرزقه غلاما حليما و فيه إشارة إلى أنه يكون ذكرا و يبلغ حد الغلمان، و أخذ الغلومة في وصفه مع أنه بلغ مبلغ الرجال للإشارة إلى حاله التي يظهر فيها صفة كماله و صفاء ذاته و هو حلمه الذي مكنه من الصبر في ذات الله إذ قال: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين".

و لم يوصف في القرآن من الأنبياء بالحلم إلا هذا النبي الكريم في هذه الآية و أبوه في قوله تعالى: "إن إبراهيم لحليم أواه منيب:" هود: - 75.

قوله تعالى: "فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى" إلخ الفاء في أول الآية فصيحة تدل على محذوف و التقدير فلما ولد له و نشأ و بلغ معه السعي، و المراد ببلوغ السعي بلوغه من العمر مبلغا يسعى فيه لحوائج الحياة عادة و هو سن الرهاق، و المعنى فلما راهق الغلام قال له يا بني "إلخ".

و قوله: "قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك" هي رؤيا إبراهيم ذبح ابنه، و قوله: "إني أرى" يدل على تكرر هذه الرؤيا له كما في قوله: "و قال الملك إني أرى" إلخ: يوسف: - 33.

و قوله: "فانظر ما ذا ترى" هو من الرأي بمعنى الاعتقاد أي فتفكر فيما قلت و عين ما هو رأيك فيه، و هذه الجملة دليل على أن إبراهيم (عليه السلام) فهم من منامه أنه أمر له بالذبح مثل له في مثال نتيجة الأمر و لذا طلب من ابنه الرأي فيه و هو يختبره بما ذا يجيبه؟.

و قوله: "قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين" جواب ابنه، و قوله: "يا أبت افعل ما تؤمر" إظهار رضا بالذبح في صورة الأمر و قد قال: افعل ما تؤمر و لم يقل اذبحني إشارة إلى أن أباه مأمور بأمر ليس له إلا ائتماره و طاعته.

و قوله: "ستجدني إن شاء الله من الصابرين" تطييب منه لنفس أبيه أنه لا يجزع منه و لا يأتي بما يهيج وجد الوالد عن ولده المزمل بدمائه، و قد زاد في كلامه صفاء على صفاء إذ قيد وعده بالصبر بقوله: "إن شاء الله" فأشار إلى أن اتصافه بهذه الصفة الكريمة أعني الصبر ليس له من نفسه و لا أن زمامه بيده بل هو من مواهب الله و مننه إن يشأ تلبس به و له أن لا يشاء فينزعه منه.

قوله تعالى: "فلما أسلما و تله للجبين" الإسلام الرضا و الاستسلام: و التل الصرع و الجبين أحد جانبي الجبهة و اللام في "للجبين" لبيان ما وقع عليه الصراع كقوله: "يخرون للأذقان سجدا:" الإسراء: - 107، و المعنى فلما استسلما إبراهيم و ابنه لأمر الله و رضيا به و صرعه إبراهيم على جبينه.

و جواب لما محذوف إيماء إلى شدة المصيبة و مرارة الواقعة.

قوله تعالى: "و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا" معطوف على جواب لما المحذوف، و قوله: "قد صدقت الرؤيا" أي أوردتها مورد الصدق و جعلتها صادقة و امتثلت الأمر الذي أمرناك فيها أي إن الأمر فيها كان امتحانيا يكفي في امتثاله تهيؤ المأمور للفعل و إشرافه عليه فحسب.



قوله تعالى: "إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين" الإشارة بكذلك إلى قصة الذبح بما أنها محنة شاقة و ابتلاء شديد و الإشارة بهذا إليها أيضا و هو تعليل لشدة الأمر.

و المعنى: إنا على هذه الوتيرة نجزي المحسنين فنمتحنهم امتحانات شاقة صورة هينة معنى فإذا أتموا الابتلاء جزيناهم أحسن الجزاء في الدنيا و الآخرة، و ذلك لأن الذي ابتلينا به إبراهيم لهو البلاء المبين.

قوله تعالى: "و فديناه بذبح عظيم" أي و فدينا ابنه بذبح عظيم و كان كبشا أتى به جبرئيل من عند الله سبحانه فداء على ما في الأخبار، و المراد بعظمة الذبح عظمة شأنه بكونه من عند الله سبحانه و هو الذي فدى به الذبيح.

قوله تعالى: "و تركنا عليه في الآخرين" تقدم الكلام فيه.

قوله تعالى: "سلام على إبراهيم" تحية منه تعالى عليه، و في تنكير سلام تفخيم له.

قوله تعالى: "كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين" تقدم تفسير الآيتين.

قوله تعالى: "و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين" الضمير لإبراهيم (عليه السلام).

و اعلم أن هذه الآية المتضمنة للبشرى بإسحاق بوقوعها بعد البشرى السابقة بقوله: "فبشرناه بغلام حليم" المتعقبة بقوله: "فلما بلغ معه السعي" إلى آخر القصة ظاهرة كالصريحة أو هي صريحة في أن الذبيح غير إسحاق و هو إسماعيل (عليه السلام) و قد فصلنا القول في ذلك في قصص إبراهيم (عليه السلام) من سورة الأنعام.

قوله تعالى: "و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين" المباركة على شيء جعل الخير و النماء و الثبات فيه أي و جعلنا فيما أعطينا إبراهيم و إسحاق الخير الثابت و النماء.

و يمكن أن يكون قوله: "و من ذريتهما" إلخ قرينة على أن المراد بقوله: "باركنا" إعطاء البركة و الكثرة في أولاده و أولاد إسحاق، و الباقي ظاهر.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "بقلب سليم" قال: القلب السليم الذي يلقى الله عز و جل و ليس فيه أحد سواه.

و فيه، قال: القلب السليم من الشك.

و في روضة الكافي، بإسناده عن حجر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال أبو جعفر (عليه السلام): عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم. قال أبو جعفر (عليه السلام): و الله ما كان سقيما و ما كذب.

أقول: و في معناه روايات أخر و في بعضها: ما كان إبراهيم سقيما و ما كذب إنما عنى سقيما في دينه مرتادا.

و قد تقدم الروايات في قصة حجاج إبراهيم (عليه السلام) قومه و كسره الأصنام و إلقائه في النار في تفسير سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الشعراء.

و في التوحيد، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: و قد أعلمتك أن رب شيء من كتاب الله عز و جل تأويله غير تنزيله و لا يشبه كلام البشر و سأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله. من ذلك قول إبراهيم (عليه السلام): "إني ذاهب إلى ربي سيهدين" فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة و اجتهادا و قربة إلى الله عز و جل أ لا ترى أن تأويله غير تنزيله؟.



و فيه، بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: يا فتح إن لله إرادتين و مشيئتين: إرادة حتم، و إرادة عزم ينهى و هو يشاء ذلك و يأمر و هو لا يشاء أ و ما رأيت أنه نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة و هو يشاء ذلك؟ و لو لم يشأ لم يأكلا، و لو أكلا لغلبت شهوتهما مشيئة الله تعالى، و أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) و شاء أن لا يذبحه و لو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عز و جل. قلت: فرجت عني فرج الله عنك.

و عن أمالي الشيخ، بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدثنا علي بن موسى قال: حدثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: الذبيح إسماعيل (عليه السلام): أقول: و روي مثله في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)، و بهذا المضمون روايات كثيرة أخرى عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد وقع في بعض رواياتهم أنه إسحاق و هو مطروح لمخالفة الكتاب.

و عن الفقيه،: سئل الصادق (عليه السلام) عن الذبيح من كان؟ فقال إسماعيل لأن الله تعالى ذكر قصته في كتابه ثم قال: "و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين.

أقول: هذا ما تقدم في بيان الآية أن الآية بسياقها ظاهرة بل صريحة في ذلك.

و في المجمع، عن ابن إسحاق: أن إبراهيم كان إذا زار إسماعيل و هاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة و يروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن 1 يذبحه فقال له: يا بني خذ الحبل و المدية 2 ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب. فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب و اكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح من دمي شيئا فتراه أمي و اشحذ شفرتك و أسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله. ثم ساق القصة و فيها ثم انحنى إليه بالمدية و قلب جبرئيل المدية على قفاها و اجتر الكبش من قبل ثبير و اجتر الغلام من تحته و وضع الكبش مكان الغلام، و نودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.

أقول: و الروايات في القصة كثيرة و لا تخلو من اختلاف.

و فيه،: روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل و بين بشارته بإسحاق (عليه السلام)؟ قال: كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه فبشرناه بغلام حليم يعني إسماعيل و هي أول بشارة بشر الله به إبراهيم (عليه السلام) في الولد.
<<        الفهرس        >>