في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


الصفحة 281

عدم المانعية الواقعية فيه أيضاً وتحقيق هذه الجهة موكول إلى البحث عن حديث لا تعاد المعروف .

وبالجملة فالصحيحة أجنبية عن المقام بعد وضوح انّه لا مجال للتعدّي عن موردها إلى مثله فهذا الوجه غير تامّ .

الثاني : ما عنه (قدس سره) أيضاً من دعوى الفرق بين ما إذا استفيدت المانعية من لسان الوضع وبين ما إذا استفيدت من لسان التكليف وانّه يختص الثاني بصورة العلم والأوّل يعمّ صورة الجهل أيضاً ومنشأ هذا التفصيل ما أفاده استاده ـ استاد الكلّ ـ الوحيد البهبهاني (قدس سره) في مسألة القدرة التي هي إحدى الشرائط العامّة فقال : كلّ جزء استفيدت جزئيته من خطاب الوضع مثل : لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب فهو جزء مطلقاً من غير اختصاص بحال التمكّن ولازمه سقوط وجوب الكلّ بالعجز عن إتيانه ، وكلّ جزء استفيدت جزئيته من خطاب تكليفي غيري فجزئيته مختصّة بحال القدرة لكونها من الشرائط العامّة ولازمه عدم سقوط وجوب الكلّ بالعجز عن إتيانه وقد قاس تلميذه العلم بالقدرة لكونه أيضاً من الشرائط العامّة ومقتضاه عدم ثبوت المانعية في المقام في صورة الشكّ والجهل واقعاً لاستفادتها من لسان التكليف .

ويرد عليه أوّلاً انّه لو سلّم ما أفاده من ثبوت الفرق في المقام نقول انّ المانعية فيه قد اُستفيدت من لسان الوضع لأنّ قوله (عليه السلام) في موثقة ابن بكير المتقدّمة : إنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره . . . وكلّ شيء منه فاسد . . . ظاهر بل صريح في خطاب الوضع ودعوى وجود خطاب التكليف أيضاً مثل قوله (صلى الله عليه وآله)لعليّ (عليه السلام) في بعض الروايات المتقدّمة : لا تصلِّ في جلد ما لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه مدفوعة بعدم المنافاة بين الخطابين ولا مجال لحمل الأوّل على الثاني فإنّ

الصفحة 282

خطاب التكليف لا دلالة له على الانحصار غايته عدم الدلالة على التعميم وهو لا ينافي ما يدلّ عليه كما هو ظاهر ، وعليه فالمانعية في المقام لا تختص بصورة العلم .

وثانياً : انّ قياس العلم في المقام بالقدرة غير صحيح; لأنّ العلم الذي يكون مثل القدرة من الشرائط العامّة للتكليف هو العلم بأصل التكليف لا العلم بالمكلّف به الذي هو ثبوت المانع فيما نحن فيه وانّ اللباس من أجزاء غير المأكول وقد وقع الخلط بين العلمين .

وامّا ما أفاده استاده فهو أيضاً مخدوش لعدم كون القدرة شرطاً لمطلق التكليف ، بل العجز يكون عذراً للمخالفة وعدم كون الخطاب التكليفي في المقام دالاًّ على التكليف لكونه إرشاداً إلى المانعية ، كما انّ في الأوامر تكون إرشاداً إلى الجزئية أو الشرطية وعدم كون التكليف الغيري مشروطاً بالقدرة على خصوص متعلّقه بعد عدم استقلال متعلّقه فتدبّر .

الثالث : ما عن الفاضل النراقي (قدس سره) من دعوى اختصاص الحرام الذي لا تجوز الصلاة في أجزائه بالمعلوم .

واُجيب عنه بأنّه إن كان وجه الاختصاص هو دعوى وضع الألفاظ للمعاني المعلومة أو انصرافها إليها فهو واضح الفساد ، وإن كان دعوى ظهور الحرام في الحرمة المنجزة التي تتوقّف على العلم ففيه انّه خلاف الظاهر إذ الظاهر من الموثقة هو ابتناء الفساد واقعاً على الحرام الواقعي لأنّها مسوقة لبيان الحكم الواقعي الوضعي ، مع أنّه إنّما يتمّ فيما إذا كان المشتبه هو الحيوان الخارجي الذي لم يعلم انّه من الحلال أو الحرام لا في المقام الذي علم بحرمة حيوان معيّن كالأرنب وحلّية آخر كالشاة والشكّ في وبر معيّن انّه من الأرنب أو الشاة لثبوت العلم والتنجّز فيه كما هو واضح .

الصفحة 283

وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذه الجهة عدم مدخلية العلم في ثبوت المانعية الواقعية وانّ الحكم بالجواز في اللباس المشكوك على تقديره حكم ظاهري ثابت في مورد الشبهة .

الجهة السادسة : انّه قد عرفت من الجواهر انّ المسألة مبتنية على القول بالشرطية والمانعية وانّ الجواز متفرّع على الثاني والعدم على الأوّل ونحن نقول امّا القول بالشرطية .

فإن كان المراد به هي الشرطية المنجزة المعيّنة بأن كان من شرائط لباس المصلّي أن يكون من أجزاء الحيوان الذي يحلّ أكل لحمه وهو الذي قد عرفت قيام الإجماع والضرورة على خلافه فاللاّزم هو الاحتياط ولزوم إحراز تحقّق الشرط كسائر الشرائط التي تكون كذلك .

وإن كان المراد به هي الشرطية المعلّقة بأن كان من شرائط اللباس إذا كان حيواناً أن يكون مأكول اللحم كما حكى عن منظومة الطباطبائي ومن تبعه فإن كانت الجزئية للحيوان معلومة والمأكولية مشكوكة فاللاّزم هو الاحتياط أيضاً لأنّه بعد ثبوت المعلّق عليه لابدّ من إحراز تحقّق الشرط المعلّق عليه وإن لم تكن الجزئية للحيوان معلومة بل احتمل كونه من القطن أو الكتّان تجري اصالة البراءة لأنّه بعد عدم ثبوت المعلّق عليه يشكّ في ثبوت الشرطية والأصل المذكور ينفيها وهذا هو الوجه في التفصيل الذي نقلناه آخر الأقوال .

وإن كان المراد به هي الشرطية التخييرية بأن كان الشرط امّا كون اللباس من أجزاء غير الحيوان وامّا كونه من أجزاء الحيوان الذي يحلّ أكل لحمه فاللاّزم هو الاحتياط للزوم إحراز أحد الطرفين وعدم جواز الاكتفاء بمجرّد الاحتمال كما هو ظاهر .

الصفحة 284

وامّا القول بالمانعية فربّما يقال : بأنّه لو كان موضوع المانعية ملحوظاً بنحو الطبيعة السارية بحيث يكون كلّ جزء من أجزاء كلّ حيوان لا يؤكل لحمه مانعاً مستقلاًّ في قبال غيره من الأجزاء وغيره من الحيوانات الاُخر التي تكون كذلك فالمرجع هي اصالة البراءة لانحلال التكليف فيه إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد أفراد الحيوان الذي يحرم أكل لحمه وأجزاء كلّ فرد ، ومن المعلوم انّ تعلّقه في المقام مشكوك فتجري البراءة ، وامّا لو كان موضوع المانعية ملحوظاً بنحو صرف الوجود فلا يكون شكّ في المانعية لأنّ جعل مانعية واحدة لصرف الوجود الصادق على القليل والكثير معلوم والشكّ إنّما هو في انطباق المانع عليه فلا مجال لأصل البراءة لاختصاص مجراه بالشكّ في التكليف وهو مفقود ولا مجال لأن يقال إنّ عدم صرف الوجود من غير المأكول الذي تقيّدت به الصلاة عبارة عن اعدام متعدّدة بعدد وجودات خاصّة لعنوان غير المأكول وما هو معلوم كونه مصداقاً لغير المأكول يعلم اعتبار عدمه في الصلاة والمشكوك لا يعلم اعتباره فيكون من مصاديق تردّد الأمر بين الأقلّ المتيقّن والأكثر المشكوك .

وذلك لما عرفت من أنّ الشكّ في هذا الفرض إنّما هو في انطباق المكلّف به على الخارج ومجرى البراءة ما إذا كان الشكّ في أصل التكليف .

هذا والظاهر انّ المانعية في المقام إنّما كان موضوعها ملحوظاً بالنحو الأوّل لأنّ الظاهر من النواهي المتعلّقة بالعناوين التي لها أفراد في الخارج تعلّقها بها على نحو السريان الاستغراقي بمعنى كون كلّ جزئي خارجي يصدق عليه عنوان المنهي عنه مورداً للنهي استقلالاً من دون فرق بين النواهي النفسية والغيرية فكما انّ معنى لا تشرب الخمر يرجع إلى استقلال كلّ خمر في تعلّق النهي بشربه لقيام المفسدة الباعثة عليه به فكذلك معنى لا تصلِّ في جلد ما لا يؤكل لحمه يرجع إلى استقلال

الصفحة 285

كلّ جلد من غير المأكول في تعلّق النهي الغيري به وثبوت وصف المانعية له ومن ثمراته لزوم الاقتصار في موارد الضرورة على مقدارها كما هو الحال في المحرمات النفسية .

إذا عرفت ما ذكرناه من الجهات فاعلم انّ الالتزام بجريان اصالة البراءة العقلية في المقام بناء على المانعية كما انّه يتوقّف على كون موضوعها ملحوظاً بنحو الطبيعة السارية على ما عرفت كذلك يتوقّف :

أوّلاً : على الالتزام بجريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية في التكاليف النفسية ضرورة انّه مع عدم جريان البراءة هناك مع كون التكليف نفسياً لا يبقى مجال لدعوى جريانها في المقام بعد كون التكليف فيه غيرياً .

وثانياً : على الالتزام بجريانها في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بالإضافة إلى الشبهة الحكمية لأنّه مع عدم جريانها في تلك المسألة لا مجال لدعوى جريانها هنا بعد كونه شبهة موضوعية لتلك المسألة .

وبعبارة اُخرى المقام من موارد الشبهة الموضوعية لمسألة الأقلّ والأكثر المذكورة ودعوى جريان البراءة فيها تتوقّف على جريانها في الشبهة الموضوعية التحريمية النفسية وفي الشبهة الحكمية في مسألة الأقلّ والأكثر ولأجله لابدّ لنا هنا من البحث في كلا المقامين على سبيل الإجمال والتفصيل موكول إلى علم الاُصول فنقول :

جريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية

المقام الأوّل : في جريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية التحريمية في التكاليف النفسية وعدمه . صريح الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في الرسالة هو الجريان كجريانها في الشبهة الحكمية فانّه (قدس سره) بعد استناده إلى الأخبار الكثيرة التي

الصفحة 286

تدلّ على جريان البراءة الشرعية في الشبهة الموضوعية قال : «ولكن في الأخبار المتقدّمة بل في جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفاية» ثمّ دفع توهّم عدم جريان حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان نظراً إلى تمامية البيان من قبل الشارع فيجب الاجتناب عن الافراد المحتملة بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الافراد المعلومة تفصيلاً والمعلومة إجمالاً المتردّدة بين محصورين والأوّل لا يحتاج إلى مقدّمة علمية والثاني يتوقّف على الاجتناب من أفراد الشبهة لا غير ، وامّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجمالي فلم يعلم من النهي تحريمه وليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرم معلوم فلا فرق بينها وبين الموضوع الكلّي المشتبه حكمه ، وما ذكر من التوهّم جار فيه أيضاً لأنّ العمومات الدالّة على حرمة الخبائث والفواحش وما نهاكم عنه فانتهوا تدلّ على حرمة اُمور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها .

وأورد عليه سيّدنا العلاّمة الاستاذ البروجردي (قدس سره) بأنّ الحكم بعدم الفرق بين الشبهتين في غير محلّه; لأنّ العقل يحكم في المقام بأنّ المخالفة مع العلم بالحكم موجبة لخروج العبد عن رسوم العبودية وكونه طاغياً على مولاه دون ذلك المقام ، والحكم بأنّ النهي عن الخمر لا يدلّ إلاّ على حرمة الافراد المعلومة كما هو ظاهر كلام الشيخ (قدس سره) بل صريحه مدفوع بأنّ المفروض ـ مع قطع النظر عن الأخبار الدالّة على حلّية المشتبه ـ انّ الحكم بالتحريم ثابت للخمر الواقعي من دون دخالة العلم في موضوعه كيف ومعه لا مجال لاحتمال التكليف في الفرد المشتبه لفرض عدم وجود العلم المأخوذ في موضوعه وهو ممّا يقطع بخلافه فالنهي عام والمخالفة مع احتمال ثبوته غير جائزة عند العقل .

أقول : ويمكن الجواب عن نقضه الأخير بأنّ وجوب الانتهاء في قوله تعالى :

الصفحة 287

}وما نهاكم عنه فانتهوا{ وجوب إرشادي كوجوب الإطاعة في آية }وأطيعوا الله . . .{ وكذا التحريم اثابت في الخبائث والفواحش بنحو العموم يكون إرشادياً بناء على ثبوت العنوانين في كلّ محرم كما هو ظاهر النقض ضرورة انّ العناوين الخاصّة المتعلّقة للتحريم لا تكون محكومة بالحرمة من جهة نفسها ومن جهة كونها مصداقاً للخبيث والفاحشة بحيث يكون المرتكب لشيء منها آتياً بمحرمين ومستحقّاً لعقوبتين فالنقض المذكور في غير محلّه .

ولبعض الأعلام من المعاصرين كلام طويل في وجه جريان البراءة في المقام في الرسالة التي صنّفها في حكم الصلاة في الألبسة المشكوكة وقد لخّصناه في كتاب «نهاية التقرير» الذي هو تقرير الاستاذ المذكور وهو انّه لا خفاء في أنّه لابدّ أن يكون متعلّق التكليف عنواناً اختيارياً للمكلّف قابلاً لأن يتعلّق به الإرادة امّا بنفسه أو بالتوسيط وذلك العنوان على أربعة أقسام :

الأوّل : العنوان الذي يكون متعلّقاً للتكليف بلا تعلّق له بموضوع خارجي خارج عن تحت القدرة والاختيار كالتكلّم والضحك ونحوهما .

الثاني : العنوان الذي يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي وكان ذلك الموضوع أمراً جزئياً متحقّقاً في الخارج كاستقبال القبلة واستدبارها .

الثالث : أن يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي الذي أخذ وجوده ولو ببعض أفراده موضوعاً للحكم . وبعبارة اُخرى : موضوع الحكم هو صرف وجوده المساوق للإيجاب الجزئي كما في الوضوء والتيمّم بالنسبة إلى الماء والتراب .

الرابع : أن يتعلّق بالموضوع الخارجي الذي يكون عنواناً كلّياً ذا أفراد محقّقة الوجود ومقدرته ، ولوحظ ذلك العنوان في مقام تعلّق الحكم مرآتاً للأفراد الموجودة والمقدرة كالشرب المتعلّق بالخمر وغيره ممّا يكون موضوعاً للحكم على

الصفحة 288

نحو القضايا الحقيقية .

وينحلّ الحكم في هذا القسم إلى أحكام كثيرة حسب تعدّد الموضوع وكثرته فيختصّ كلّ واحد من أفراد الموضوع بحكم خاصّ كما هو الشأن في القضايا الحقيقية فانّ كلّ واحد من أشخاص موضوعاتها له حكم خاص ففي الحقيقة يصير معنى لا تشرب الخمر انّه يحرم شرب كلّ خمر موجود في الخارج أو يوجد بعد .

وبملاحظة ما ذكره المنطقيون من انحلال القضايا الحقيقية إلى قضية شرطية مقدّمها عقد الوضع فيها وتاليها عقد الحمل يصير معنى لا تشرب الخمر هكذا كلّ خمر إذا وجد في الخارج فهو بحيث إذا وجد يحرم شربه ، وهذه القضية كما ترى تكون الحرمة فيها مرتبة على وجود الخمر ، فالحرمة المجعولة للخمر قبل تحقّقه ووجوده في الخارج تكون حكماً إنشائياً ، وفعليتها وكونها زجراً للمكلّف يتوقّف على وجوده في الخارج ، ومن المعلوم انّ المنجز للتكليف إنّما هو العلم بالتكليف الفعلي لا العلم بالحكم الإنشائي وقد عرفت انّ فعليته متوقّفة على وجود موضوعه ، فتنجز الحرمة يتوقّف على العلم بالتكليف الفعلي وهو يتوقّف على وجود موضوعه فتنجّزها يتوقّف على العلم بوجود الموضوع ففي الحقيقة يكون وجود الموضوع من جملة شرائط وجود التكليف ، ومن هنا يظهر بطلان ما يترائى من كلام الشيخ (قدس سره) في الرسالة حيث إنّ الظاهر منه انّ عدم وجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعية إنّما هو لعدم كونها مقدّمة علمية حتى تجب بوجوب ذيها وذلك لما عرفت من أنّ جواز الاقتحام وعدم جوب الاجتناب فيها إنّما هو لعدم العلم بتحقّق شرط التكليف فهو نظير ما إذا شكّ في تحقّق الاستطاعة التي يكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجودهاً وهذا هو الفارق بين هذا القسم والأقسام الثلاثة المتقدّمة حيث إنّ الحكم فيها منجز بنفس العلم به واجتماع شرائط التكليف من

الصفحة 289

القدرة وغيرها بخلاف هذا القسم الذي يتوقّف على أمر زائد أيضاً وهو العلم بوجود الموضوع كما عرفت انتهى .

أقول : محلّ البحث من هذه الأقسام الأربعة هو القسم الرابع ويظهر منه (قدس سره) انّ جريان البراءة العقلية فيه مبني على أمرين وهما الانحلال إلى التكاليف المتعدّدة حسب تعدّد الموضوع الذي يكون المتعلّق مضافاً إليه ورجوع القضية الحقيقية إلى الشرطية الظاهرة في ترتّب الجزاء على وجود الشرط .

وقد أنكر الأمر الأوّل سيّدنا الاستاذ البروجردي (قدس سره) وملخّص ما أفاده في توضيحه انّ المشهور ذهبوا إلى أنّ معنى النهي هو طلب الترك واختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) وعليه فيشترك النهي مع الأمر في أنّ معناه أيضاً هو الطلب غاية الأمر انّ الطلب في الأمر متعلّق بوجود الطبيعة وفي النهي بتركها ولازم ما ذكره المشهور سقوط النهي بالكلّية عن عهدة من خالفه وعصاه ولو مرّة فإنّ عدم الطبيعة ليس كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة لأنّه ليس شيئاً متحقّقاً وأمراً ثابتاً حتّى يكون واحداً وكثيراً ، غاية الأمر انّ العقل بعد إضافته إلى الطبيعة التي لا تكون في حدّ ذاتها واحدة ولا متكثّرة يعتبره أمراً واحداً و ـ حينئذ ـ يتحقّق اللزوم المذكور لأنّ المعصية عندهم مسقطة للتكليف كالامتثال فلا تستحق العقوبة إذا ارتكبه ثانياً وثالثاً وهكذا ، وكذا يلزم عدم الفرق بين الارتكاب قليلاً أو كثيراً وكذا عدم القدرة على الامتثال مع المخالفة ولو مرّة وبطلان اللوازم بمكان من الوضوح .

فالتحقيق أن يقال : إنّ معنى النهي ليس هو طلب الترك ، بل معناه هو الزجر عن إيجاد الفعل المنهي عنه كما انّ معنى الأمر هو إيجاد البعث إلى الفعل المأمور به ، غاية الأمر انّ للنهي عصيانات متعدّدة حسب تعدّد وجود الطبيعة المتعلّقة للنهي وتوهّم

الصفحة 290

انّه لا يعقل تحقّق المعاصي المتعدّدة بالنسبة إلى تكليف واحد لأنّ المعصية إذا تحقّقت يسقط بها التكليف مدفوع بمنع ذلك إذ لا معنى لكون المعصية مسقطة للتكليف وسقوطه في بعض موارد العصيان إنّما هو لكون التكليف فيه مشروطاً وموقتاً بوقت خاص ولم يؤت به في وقته فسقوطه إنّما هو لمضي وقته وهو يوجب سلب القدرة على الامتثال وهذا بخلاف الامتثال فإنّه لكونه موجباً لحصول الغرض ولا معنى لثبوت الأمر مع حصول الغرض يوجب سقوط التكليف .

فقد ظهر انّ النهي مع كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة موجبة لاستحقاق عقوبات متكثرة كما انّ له أيضاً امتثالات فالقول بانحلال النهي إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد الموضوع ممّا لا سبيل إليه انتهى .

وما أفاده (قدس سره) في الإشكال على المشهور في باب معنى النهي من عدم كون المطلوب في هذا الباب وهو عدم الطبيعة وتركها متعدّداً لأنّه ليس عدم الطبيعة كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة وإن كان محلّ نظر بل منع; لأنّه كما أنّ للطبيعة وجودات متكثّرة كذلك لها أعدام متعدّدة لأنّه كما انّ وجود فرد ما يكفي في تحقّق الطبيعة لكونه تمام تلك الطبيعة وليست النسبة بينه وبينها هي النسبة بين المركّب وأجزائه لعدم كون الفرد حصّة من الطبيعة بل تمامها كذلك يكفي عدمه في اتصاف الطبيعة بالعدم لأنّه لا يعقل أن يكون وجوده كافياً في وجودها ولا يكون عدمه موجباً لعدمها ولا مانع من اتصاف الطبيعة في أنّ واحد بالوجود والعدم بلحاظ اختلاف أفرادها كما لا مانع من اتصافها بالبياض والسواد والطول والقصر والحركة والسكون وأمثالها فوجودات الطبيعة إذا كانت متّصفة بالكثرة يكون اعدامها أيضاً كذلك إلاّ انّ ما أفاده في الإشكال على المحقّق النائيني (قدس سره) من إبطال الانحلال وعدم كون النواهي المتعلّقة بالطبايع راجعة إلى القضايا الحقيقية في

الصفحة 291

كمال المتانة والسداد لأنّه لا وجه لإرجاعها إليها المستلزم للانحلال وثبوت تكاليف متعدّدة حسب تعدّد الموضوعات ، والظاهر انّ منشأ الإرجاع ملاحظة عدم ارتفاع النهي بالمخالفة وثبوته بعدها أيضاً مع أنّه لو كان تكليفاً واحداً غير منحلّ إلى تكاليف متعدّدة لكان اللاّزم سقوطه بالمرّة بالمخالفة ولو مرّة لأنّ العصيان يوجب ارتفاع التكليف فاللاّزم هو الالتزام بالانحلال حتّى تكون المخالفة في كلّ فرد من أفراد الموضوع موجبة لسقوط التكليف الخاص المتعلّق به مع بقاء التكليف بالإضافة إلى الأفراد الاُخر بحاله .

والحقّ انّ بقاء النهي بعد المخالفة لا يلازم الانحلال والإرجاع إلى القضايا الحقيقية ، بل حيث إنّ الزجر متعلّق بوجود الطبيعة يكون لازمه بقائه بعد المخالفة أيضاً لأنّه لم يقم دليل على أنّ التكليف الواحد لابدّ وأن لا يكون له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة ، كما انّك عرفت انّه لا وجه لدعوى كون المعصية مسقطة للتكليف فالإنصاف تمامية ما أفاده الاستاذ (قدس سره) في مقام الإشكال على المحقّق المزبور .

وأمّا الأمر الثاني فقد أنكره سيّدنا الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ في مباحثه الاُصولية ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك انّ القضايا الحقيقية قضايا بتيّة كالقضايا الخارجية من دون فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً ، غاية الأمر انّ الحكم في القضايا الحقيقية إنّما يكون على الطبيعة بوجودها الساري أعمّ من الافراد المحقّقة والمقدّرة وفي القضايا الخارجية يكون مقصوراً على خصوص الأفراد الموجودة فقولنا : كلّ نار حارّة يكون الحكم بالحرارة فيه حكماً بتيّاً ثابتاً لجميع أفراد طبيعة النار ولا يكون حكماً مشروطاً بوجوده ، كيف ولو كان الحكم في مثله مشروطاً بوجود الموضوع لكان اللاّزم في مثل ما إذا كان المحمول من لوازم ماهية الموضوع كقولنا :

الصفحة 292

«الأربعة زوج» أن يكون ترتّب الزوجية على الأرضعة مشروطاً بوجودها مع أنّ المفروض كونها من لوازم الماهية التي مرجعها إلى ثبوتها لنفس الماهية مع قطع النظر عن الوجودين بحيث لو فرض لها تقرّر وثبوت في غير عالم الوجودين لكانت تلزمها .

وبالجملة معنى القضية الشرطية هو كون الشرط فيها دخيلاً في ثبوت المحمول وترتّبه على الموضوع مع أنّ القضايا الحقيقية لا يكون كلّها كذلك فالحقّ انّها قضايا بتيّة غير مشروطة ولذا جعلها المنطقيون من الحمليات التي تكون قسيماً للشرطيات .

نعم لا شبهة في أنّ الحكم ما لم يتحقّق موضوعه لا يثبت وليس ذلك لأجل اشتراطه بوجود الموضوع ، بل لأنّ الموضوع ما لم يوجد لا يكون موضوعاً فإنّ النار ما لم تتحقّق في الخارج لا تكون ناراً والحكم بالحرارة معلّق على النار وـ حينئذـ فمع الشكّ في وجوده لا يكون حجّة ما لم ينضمّ إليه العلم بالصغرى لا لأجل الشكّ في وجود الشرط ، المستلزم للشكّ في المشروط وهو فعلية الحكم ، بل لأجل ما عرفت فالأمر الثاني ممنوع أيضاً .

هذا وعلى تقدير إنكار الأمر الأوّل كما عرفت انّه الحقّ فهل لازمه إنكار البراءة العقلية نظراً إلى ثبوت تكليف واحد معلوم فيجب الخروج عن عهدته وتلزم رعايته بالاجتناب عن الفرد المشكوك أيضاً أو انّه تجري بناء عليه أيضاً ، والظاهر هو الثاني; لأنّ وحدة التكليف مع ثبوت الإطاعات المتعدّدة والعصيانات المتكثّرة لا توجب تمامية الحجّة على العبد من دون العلم بموضوعه وليس المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو البيان الجائي من قبل المولى اللاّزم على عهدته حتّى يقال بأنّ البيان من قبله تام لا نقص فيه لأنّه ليس من شأنه بيان الصغريات

الصفحة 293

وتشخيص المصاديق ، بل المراد به هي الحجّة على التكليف وما يصحّ للمولى الاحتجاج به والظاهر عدم تماميتها بمجرّد العلم بالكبرى لأنّه لا يكفي في ترتّب النتيجة وثبوتها ، بل لابدّ من ثبوت الصغرى والعلم بها فكما انّ ثبوت الكبرى واقعاً من دون العلم بها لا يصحّح الاحتجاج ولا يسوغ المؤاخذة فكذلك ثبوت الصغرى كذلك لا يوجب ذلك ، بل لابدّ من إحرازها وتعلّق العلم بها فالإنصاف جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية في التكاليف النفسية .

جريان البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر

المقام الثاني : في جريان البراءة العقلية فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين وقد قرّبه الشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسائل بأنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ البدوي في وجوب الأكثر وذلك لوجوب الأقلّ على التقديرين لأنّه إن كان الأكثر واجباً واقعاً يكون الأقلّ أيضاً واجباً ، غاية الأمر انّ وجوبه وجوب تبعي وإن لم يكن كذلك يكون الأقلّ واجباً بالوجوب النفسي ، فوجوبه الأعمّ من النفسي والغيري معلوم تفصيلاً وهذا بخلاف الأكثر فإنّ وجوبه مشكوك فتجري فيه البراءة .

وأورد عليه تلميذه المحقّق الخراساني (قدس سره) في الكفاية بأنّ الانحلال مستلزم للخلف أو المحال الذي هو عبارة عن استلزام وجود الشيء لعدمه :

امّا الخلف فلأنّه يتوقّف لزوم الأقلّ فعلاً ـ امّا لنفسه أو لغيره ـ على تنجّز التكليف مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر ضرورة انّه لو لم يتنجّز على تقدير تعلّقه به لم يكن الأقلّ واجباً بالوجوب الغيري لأنّه تابع لوجوب ذي المقدّمة ومع عدمه لا مجال له ، كما انّه لو لم يتنجّز على تقدير تعلّقه بالأقل لا يكون واجباً بالوجوب النفسي فوجوبه الأعمّ من النفسي والغيري يتوقّف على تنجّز التكليف على أي

الصفحة 294

تقدير فلو كان لزومه كذلك موجباً لعدم تنجّز التكليف إلاّ على تقدير تعلّقه بالأقلّ يلزم الخلف .

وامّا استلزام وجوده للعدم فلأنّ لزوم الأقلّ على الفرض يستلزم عدم تنجّز التكليف على كلّ حال وهو يستلزم عدم لزوم الأقلّ مطلقاً وهو يستلزم عدم الانحلال فلزم من وجود الانحلال عدمه وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال .

أقول : وهنا تقريب ثالث زائد على التقريبين المذكورين وهو انّ العلم التفصيلي لو تولّد من العلم الإجمالي بحيث كان معلولاً له ومسبّباً عنه لا يعقل أن يؤثّر في انحلال ذاك العلم الإجمالي لأنّه لا يمكن أن يؤثّر المعلول في رفع علّته واعدامها مع بقائه ، والمقام من هذا القبيل فإنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ امّا لنفسه أو لغيره إنّما نشأ من العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر نظير ما إذا تردّد أمر الوضوء ـ مثلاً ـ بين أن يكون وجوبه نفسياً أو غيرياً ناشئاً من الوجوب المتعلّق بما هو مقدّمة له ولكن كان وجوب ذي المقدّمة مشكوكاً فإنّه لا يعقل أن يصير العلم التفصيلي بوجوب الوضوء على أي تقدير موجباً لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفساً أو بوجوب ما يكون هو مقدّمة له لأنّه مع الانحلال واجراء اصالة البراءة بالإضافة إلى وجوب ذي المقدّمة لا يكون العلم التفصيلي باقياً بحاله ، فالعلم التفصيلي المسبّب عن العلم الإجمالي يستحيل أن يؤثّر في انحلاله واضمحلاله كما هو ظاهر .

هذا والاستدلال والإشكال بتقريباته الثلاثة كلاهما مبتنيان على أمرين : ثبوت المقدّمية للاجزاء واتصافها بالوجوب الغيري كالمقدّمات الخارجية والأوّل وإن كان يمكن توجيهه كما قرّر في محلّه إلاّ انّ الثاني لا مجال له بوجه لأنّ الوجوب الغيري ـ على تقدير القول به وثبوت الملازمة العقلية بينه وبين الوجوب النفسي

الصفحة 295

المتعلّق بذي المقدّمة ـ إنّما هو لأجل انّ الوجوب المتعلّق بذي المقدّمة لا يكاد يدعو إلى المقدّمة لأنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه فالالتزام بالوجوب الغيري إنّما هو لأن يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة لأجل تحقّق ذيها وبدونه لا يكون هنا ما يدعو إليه بعد عدم كون الأمر بذي المقدّمة صالحاً للدعوة إلى غير المتعلّق ومن الواضح انّ هذا المناط موجود في المقدّمات الخارجية لكونها مغايرة لذي المقدّمة ماهية ووجوداً فالأمر الداعي إليها لابدّ وأن يكون غير الأمر المتعلّق بذيها ، وامّا المقدّمات الداخلية فلا حاجة فيها إلى الأمر الغيري بعد كون الأمر المتعلّق بذيها داعياً إليها لعدم كون المركّب مغايراً لها لأنّه إجمالها وصورتها الوحدانية وتلك تفصيله وتحليله وهو لا ينافي مقدّمية الاجزاء لأنّ المقدّمة إنّما هو كلّ جزء مستقلاًّ لا مجموع الأجزاء ،فالأمر المتعلّق بالمركّب يدعو بعينه إلى الاجزاء ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر داعياً إلى غير متعلّقه لأنّ الاجزاء هي نفس المركّب والفرق إنّما هو بالإجمال والتفصيل ، والبساطة والتحليل .

وتقريب البراءة على ما ذكرنا انّ الأمر يدعو إلى الاجزاء بعين دعوته إلى المركّب ويترتّب على ذلك انّ الحجّة على الاجزاء إنّما هي بعينها الحجّة على المركّب لكن مع قيام الحجّة على الاجزاء التي ينحلّ إليها ، وامّا مع عدم قيامها على جزئية بعض ما تحتمل الجزئية فيه فلا يكون الأمر بالمركّب داعياً إلى ذلك الجزء المشكوك أيضاً لعدم العلم بتعلّق الأمر بما ينحلّ إليه ، ومن المعلوم انّ تمامية الحجّة تتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً ومع الشكّ في إحداهما لا معنى لتماميتها المصحّحة للعقاب لعدم كونه عقاباً من دون بيان ومؤاخذة بلا برهان ، فاللاّزم العلم بتعلّق الأمر بالمركّب وبأجزائه التحليلية أيضاً وبدون ذلك تجري البراءة العقلية الراجعة إلى قبح العقاب المذكور وثبوت الارتباط بين الاجزاء على ما هو

الصفحة 296

المفروض لا يقدح في جريان البراءة عقلاً بعد عدم تمامية الحجّة بالإضافة إلى مشكوك الجزئية .

ولا يتفاوت في جريان البراءة بين القول بكون مدلول ألفاظ العبادات خصوص الصحيح منها وبين القول بالأعمّ من الفاسد لما حقّقناه في الاُصول من أنّ مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين مسألة مستقلّة لا يبتنى جريان البراءة فيها وعدمه على مسألة الصحيح والأعمّ وإن ذهب جماعة كالمحقّق النائيني (قدس سره) إلى أنّ الصحيحي لابدّ وأن يقول بجريان قاعدة الاشتغال في مسألة الأقلّ والأكثر ولكنّه ممنوع ، نعم على تقدير تصوير الجامع على بعض الوجوه كالتصوير على النحو الذي اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) في الكفاية لا محيص عن الالتزام بقاعدة الاشتغال كما أوضحناه في محلّه .

ثمّ إنّه لسيّدنا الاستاذ البروجردي (قدس سره) تقريب آخر لجريان البراءة تبعاً لبعض الأعلام وهو انّ الأمر مع كونه واحداً حقيقة له أبعاض كثيرة يتعلّق كلّ بعض منها بجزء من أجزاء متعلّقه وذلك لأنّ المركّبات الشرعية مركّبات اعتبارية والمراد بها هي الأشياء المتغايرة في الحقيقة المتكثّرة في الوجود ، غاية الأمر اعتبار الوحدة فيها باعتبار ترتّب حكم واحد عليها وكونها معنونة بعنوان حسن بخلاف المركّبات الحقيقية وـ حينئذ ـ فإذا تعلّق أمر واحد بتلك الأشياء فقد تعلّق بكلّ واحد منها بعض ذلك الأمر الواحد فإذا شكّ في متعلّقه من حيث القلّة والكثرة فقد شكّ بعد العلم بتعلّق أبعاضه المعلومة إلى الأجزاء المعلومة في تعلّق بعضه بالجزء المشكوك فيحكم العقل بالبراءة وعدم تنجّز ذلك الأمر بالإضافة إلى البعض المشكوك على تقدير تعلّقه بالأكثر واقعاً ولا ينافي ذلك تنجّزه بالنسبة إلى أبعاضه المعلومة ، ولا منافاة بين كون الأمر واحداً حقيقة وكونه ذا أبعاض كثيرة إذ هو نظير بعض الاُمور

الصفحة 297

الخارجية الذي يكون واحداً حقيقة مع كونه ذا أبعاض كثيرة كالماء الواقع في الحوض ـ مثلاً ـ فإنّه مع كونه واحداً لمساوقة الاتصال مع الوحدة على ما قرّر في محلّه يعدله أبعاض ، بل قد يكون بعضه معروضاً لعرض كالحمرة وبعضه الآخر معروضاً لضدّ ذلك العرض كالصفرة ـ مثلاً ـ فلا منافاة بينهما أصلاً .

فانقدح من البحث في المقامين انّ الأقوى جريان البراءة العقلية في كليهما وهل يكفي ذلك في الذهاب إلى جريانها في مسألة اللباس المشكوك أو انّه لا يكفي ذلك لوجود عنوان ثالث في المقام مانع عن التمسّك بالبراءة وهو الشكّ في المحصل كما اختاره سيّدنا الاستاذ المذكور (قدس سره) حيث إنّه بعد الحكاية عن الشيخ الأعظم (قدس سره) القول بالبطلان في المقام مع ذهابه إلى البراءة في المسألتين المذكورتين وبعد نقل اعتراض بعض من أجلاّء تلامذة الميرزا الشيرازي (قدس سره) عليه بأنّه لا مجال للبطلان مع اختيار البراءة فيهما قال ما ملخّصه : «إنّ ظاهر الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول انّ المعتبر في الصلاة أن لا تقع في شيء من أجزاء كلّ فرد من أفراد ما لا يؤكل لحمه . وبعبارة اُخرى : المعتبر هو عدم تحقّق هذه الطبيعة المتوقّف على عدم وجود شيء من أفراده وينتزع منه مانعية كلّ فرد لا بنحو يكون كلّ فرد مانعاً مستقلاًّ حتّى يلازم ذلك كون القيد هو عدمه بنحو الاستقلال بحيث كانت هناك قيود متعدّدة حسب تعدّد الوجودات المانعة بل بمعنى انّه حيث كان القيد هو عدم تحقّق الطبيعة فوجودها مانع عنه ، ومن المعلوم انّ تحقّق الطبيعة إنّما يكون بوجود كلّ فرد منها فمانعية وبر الأرانب إنّما هي لتحقّق الطبيعة به وكذا مانعية وبر الثعالب وغيره ممّا لا يؤكل لحمه وهذا بخلاف عدم الطبيعة إذ هو ليس شيئاً حتّى يكون له مصاديق وأفراد ، بل هو أمر واحد باعتبار من العقل بعد إضافته إلى طبيعة خاصّة . ومن الواضح لزوم إحراز هذا القيد وهو عدم تحقّق الطبيعة المذكورة ومع الإتيان

الصفحة 298

بالصلاة في اللباس المشكوك لا يعلم بحصول الشرط فلا يعلم بتحقّق المشروط وهذا من دون فرق بين أن نقول برجوع الشرائط الشرعية إلى شرائط العقلية كما اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) وبين أن نقول بأنّ الشرطية والمانعية إنّما تنتزعان من تقييد المأمور به بوجود شيء أو بعدمه فإنّه على كلا المذهبين لابدّ من إحراز وجود القيد بعد كونه أمراً واحداً مبيّناً مفهوماً» .

ويرد عليه مضافاً إلى ما عرفت من أنّ عدم الطبيعة لا يكون إلاّ كوجودها ، فكما انّ وجودات الطبيعة متعدّدة متكثّرة كذلك اعدام الطبيعة فإنّها أيضاً متعدّدة فعدم الطبيعة بعدم زيد يغاير عدمها بعدم عمرو وهكذا ولا مانع من اتصاف الطبيعة في أنّ واحد بالوجود والعدم معاً كاتصافها بالسواد والبياض وبالطول والقصر وغيرهما من المتضادين وإلى أنّ التقيّد بالعدم الراجع إلى شرطية العدم غير معقول فإنّ الشرطية من الأوصاف الوجودية المفتقرة إلى موصوف متحقّق والعدم ليس بشيء حتّى يتصف بالشرطية ويؤثّر في تأثير السبب والمقتضى ، انّه على تقدير إمكانه خلاف ظاهر الأدلّة الواردة في الصلاة في أجزاء غير المأكول فإنّ ظاهرها كما عرفت في بعض الجهات المتقدّمة ثبوت المانعية التي هي أيضاً أمر وجودي معروضها وجود المانع ومرجعها إلى كونه حائلاً بين الطبيعة المأمور بها وبين وجودها ويمنع عن تحقّقها في الخارج ، والتعبيرات التي يستفاد منها المانعية بين ما ظاهره النهي عن الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه وبين ما ظاهره الحكم بالفساد في الصلاة في أجزائه وبين ما ظاهره نفي الجواز الظاهر في الحكم الوضعي الراجع إلى الفساد .

امّا ما يدلّ على النهي فحكمه حكم النواهي الواردة في التكاليف النفسية من جهة جريان البراءة في الشبهات الموضوعية فكما انّ قوله : «لا تشرب الخمر» مع

الصفحة 299

كونه حكماً واحداً وهو الزجر عن وجودات الطبيعة ، غاية الأمر له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة لا ينافيه جريان البراءة في الشبهة الموضوعية لعدم تمامية الحجّة المتوقّفة على ثبوت الكبرى والصغرى معاً وليس المراد من البيان في القاعدة هو خصوص البيان الذي يكون من وظيفة المولى بل الحجّة المتوقّفة على ما ذكر كذلك قوله (عليه السلام)  : «لا تصلّ في جلد ما لا يؤكل لحمه» زجر واحد عن وجودات الطبيعة ويجري فيه جميع ما ذكر والفرق إنّما هو في النفسية والغيرية وانّ الزجر عن وجود الشرب إنّما هو لجهة في نفسه وعن الصلاة في أجزاء غير المأكول إنّما هو لجهة فيها كما لا يخفى فلا فرق في جريان البراءة العقلية بينهما أصلاً .

وامّا ما يدلّ على الفساد فحكمه حكم النهي ، بل أظهر لاحتمال كونه من القضايا الحقيقية الموجبة للانحلال إلى التكاليف المتعدّدة حسب تعدّد وجودات الموضوع وعليه فيصير جريان البراءة في مورد الشكّ أوضح لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في حكم مستقلّ على ما هو المفروض .

ثمّ إنّه على تقدير تسليم كون المانعية منتزعة من تقييد المأمور به بعدم شيء فهل تجري البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية للمانع أم لا؟ صريح المحقّق النائيني (قدس سره)الأوّل حيث إنّه بعد بيان انّ قيدية العدم في المقام تتصوّر على وجوه ثلاثة :

أحدها : أن يكون القيد نعتاً عدمياً مساوقاً لمحمول المعدولة .

ثانيها : أن يكون من باب سلب المحصل لكن بنحو يكون السلب الكلّي بوحدته الشاملة لمجموع وجودات الموضوع قيداً واحداً .

ثالثها : أن يكون من هذا الباب لكن بنحو يكون منحلاًّ إلى عدم وجود كلّ فرد وكان القيد آحاد ذلك العدم ، قال ـ بعد استظهار الوجه الثالث من الأدلّة الواردة في الباب ـ ما ملخّصه : إنّه أيّ فرق يعقل بين موضوعية الخمر لحرمة شربه وبين

الصفحة 300

موضوعية المانع لتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه فكما تجري البراءة في الأوّل على ما عرفت لا ينبغي الإشكال في جريانها في الثاني .

وأورد عليه سيّدنا الاستاذ (قدس سره) بعد حمل الوجه الثاني على خلاف ظاهره والدالّ على أنّ المانع هو مجموع وجودات الموضوع لا كلّ فرد منها فيستلزم عدم تحقّق المانع في زمان أصلاً وكذا صحّة الصلاة فيما إذا صلّى في بعض أفراده وإنّ المراد منه هو كون نفس السلب الكلّي قيداً واحداً ـ بأنّ المستفاد من الأدلّة المانعة انّ المطلوب للشارع هو عدم وقوع الصلاة في شيء من أجزاء غير المأكول والعدم أمر واحد عند اعتبار العقل بخلاف الوجود فإنّ الطبيعة توجد بوجود فرد ما ولا تنعدم إلاّ بعدم جميع الافراد فالقيد أمر واحد لابدّ من العلم بتحقّقه وحصول اليقين بوجوده فلا مجال لجريان البراءة في صورة الشكّ .

أقول : قد ذكرنا انّ الاعدام تتكثّر حسب تكثّر الوجودات وان كون القيد أمراً واحداً لا يقدح في جريان البراءة العقلية أصلاً مضافاً إلى ظهور بعض الروايات في كون الحكم ثابتاً في المقام على نحو القضية الحقيقية مع أنّ حمل الوجه الثاني في كلامه (قدس سره) على خلاف ظاهره لا وجه له بعد كونه في مقام التصوير بحسب الثبوت لا مقام الاستظهار من الأدلّة والإثبات كما لا يخفى هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بجريان البراءة العقلية في المقام .

جريان البراءة الشرعية في المقام

من الأخبار الدالّة عليها حديث الرفع المعروف واشتهاره بين الأصحاب يغني عن التكلّم في سنده مع أنّه ظاهراً من الصحاح وتقريب الاستدلال به للمقام من وجوه :

الأوّل : ما احتمله الشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسالة من أنّ قرينة السياق تقتضي أن

<<التالي الفهرس السابق>>