في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة161)

الشرط الرّابع والخامس: العقل والبلوغ ، فلا يقتل المجنون سواء قتل عاقلاً أو مجنوناً ، نعم تثبت الدية على عاقلته ، ولا يقتل الصبيّ بصبي ولا ببالغ وإن بلغ عشراً ، أو بلغ خمسة أشبار ، فعمده خطأ حتى يبلغ حدّ الرجال في السنّ أو سائر الأمارات ، والدية على عاقلته1.


منها . الحديث(1) .
فإنّ مقتضى عموم التعليل عدم ثبوت القصاص في المقام ، خصوصاً بملاحظة صدر الرواية الظاهر في الملازمة بين القصاص وحدّ القذف ، فإذا لم يثبت الحدّ في الفرض المذكور في الذيل ، فالظاهر عدم ثبوت القصاص أيضاً .
ودعوى كون مجرى التعليل هو حقّ الحدّ ولا وجه لتعميمه بالإضافة إلى القصاص ، مدفوعة بظهور التعليل في أنّ الانتقال إلى الولد مانع عن الثبوت بالنسبة إلى الوالد من دون فرق بين الحدّ وبين القصاص ، كما لا يخفى .
والظاهر تماميّة هذا الدليل ، واقتضاؤه عدم ملك الاقتصاص من الوالد ، كعدم ثبوت حدّ القذف في مشابه المسألة  ، فتدبّر .

1 ـ والدّليل على اعتبار العقل في حال تحقّق الجناية وصدور القتل ـ مضافاً إلى عموم حديث رفع القلم المجمع عليه كما عن السرائر(2) ، ومقتضاه رفع القلم مطلقاً ، ولا ينافي ذلك ثبوت الدية على العاقلة الثابتة في قتل الخطأ ، وذلك للتصريح به في ذيل الحديث ، ومضافاً إلى أنّه حكم على العاقلة ـ الروايات المستفيضة ، كصحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل جناية المعتوه

(1) وسائل الشيعة: 18 / 447 ، أبواب حدّ القذف ، ب 14 ح1  .
(2) السرائر: 3 / 324  .

(الصفحة162)



على عاقلته خطأً كان أو عمداً(1) .
ورواية إسماعيل بن أبي زياد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام)  : أنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) : يسأله عن رجل مجنون قتل رجلاً عمداً ، فجعل الدّية على قومه ، وجعل خطأه وعمده سواء(2) .
ورواية أبي البختري ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي (عليهم السلام) أنّه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق ، والصبي الذي لم يبلغ : عمدهما خطأ تحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم(3) .
ورواية بريد العجلي قال: سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجل قتل رجلاً عمداً فلم يقم عليه الحدّ ولم تصحّ الشهادة عليه حتّى خولط وذهب عقله ، ثمّ إنّ قوماً آخرين شهدوا عليه بعدما خولط أنّه قتله؟ فقال: إن شهدوا عليه أنّه قتله حين قتله وهو صحيح ليس به علّة من فساد عقل قتل به ، وإن لم يشهدوا عليه بذلك وكان له مال يعرف دفع إلى ورثة المقتول الدية من مال القاتل ، وإن لم يكن له مال اُعطي الدية من بيت المال ، ولا يبطل دم امرىء مسلم(4) ، فإنّها ظاهرة في ترتّب القصاص على إحراز كون القاتل عاقلاً حين القتل ، وليس به علّة من فساد العقل .
وأمّا قوله (عليه السلام) : «وإن لم يشهدوا عليه بذلك» ، فالظاهر أنّ المراد به عدم الشهادة على عقله ، مع ثبوتها على أصل تحقّق القتل منه ، غاية الأمر أنّه لا يعلم كونه عاقلاً أو مجنوناً حينه ، وحينئذ فالحكم بثبوت الدية في مال القاتل دون القصاص ودون

(1) وسائل الشيعة: 19 / 307 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب11 ح1 .
(2) وسائل الشيعة: 19 / 307 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 11 ح 5  .
(3) وسائل الشيعة: 19 / 66 ، أبواب القصاص في النفس ب 36 ح2  .
(4) وسائل الشيعة: 19 / 52 ، أبواب القصاص في النفس ب 29 ح1  .

(الصفحة163)



الثبوت على العاقلة إنّما هو لعدم الطريق إلى إحراز شيء من العقل أو الجنون ولو بالاستصحاب ، لعدم العلم بالحالة السابقة . ومع عدم إحراز العقل لا يثبت القصاص لعدم إحراز شرطه ، كما أنّه مع عدم إحراز الجنون لا يثبت على العاقلة ، للزوم إحرازه فيه ، فاللاّزم ثبوت الدية على القاتل ; لئلاّ يبطل دم امرىء مسلم .
وممّا ذكرنا يظهر بطلان ما عن كشف اللّثام(1) من دلالة الرواية على أنّه إذا لم يكن للمجنون عاقلة فالدية على بيت المال ، وذلك لأنّ مورد فرض الثبوت على بيت المال في الرواية صورة كون القاتل مشكوك الجنون ، وحكمه في صورة وجود المال ثبوت الدية في ماله ، ففرض عدم العاقلة لا يرتبط بالرواية أصلاً . هذا كلّه في اعتبار العقل .
وأمّا اعتبار البلوغ حال الجناية كما عليه المشهور(2) ، بل في الجواهر: عليه عامّة المتأخّرين(3) ، بل نسبه بعض إلى الأصحاب مشعراً بالإجماع عليه(4) ، بل عن الغنية دعواه عليه صريحاً(5) ، بل عن الخلاف: عليه إجماع الفرقة وأخبارهم(6)فيدلّ عليه ـ مضافاً إلى حديث رفع القلم(7) ـ روايات مستفيضة أيضاً مثل:
صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: عمد الصبيّ وخطأه واحد(8) .


(1) كشف اللثام: 2 / 456  .
(2) مفتاح الكرامة: 11 / 28  .
(3) جواهر الكلام: 42 / 178  .
(4) مجمع الفائدة والبرهان: 14 / 7 ، رياض المسائل: 10 / 292  .
(5) غنية النزوع: 403  .
(6) الخلاف : 5/176 مسألة 39  .
(7) وسائل الشيعة : 1 / 32 ، أبواب مقدّمة العبادات ب 4 ح11  .
(8) وسائل الشيعة: 19 / 307 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 11 ح2  .

(الصفحة164)



وموثقة إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول: عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة(1) . ورواية أبي البختري المتقدّمة في اعتبار العقل .
وفي مقابل ما ذكر روايات لابدّ من التعرّض لها وملاحظة حالها مع ما ذكر:
إحداها: رواية مرسلة في الكتب الفقهية مشتملة على قوله: «يقتصّ من الصبيّ إذا بلغ عشراً» . وحكي عن الشيخ الفتوى بمضمونها في النهاية(2) والمبسوط(3)والاستبصار(4) . وذكر صاحب الجواهر ـ بعد الاعتراف بعدم الظفر بها مسندة ـ قوله: نعم النصوص المسندة بجواز طلاقه ووصاياه وإقامة الحدود عليه موجودة ، ولعلّ من رواها أراد هذه النصوص بإدخال القصاص في الحدود ، أو أنّ مبنى ما تضمّنته على ثبوت البلوغ بذلك ، ولا فرق بينه وبين القصاص(5) .
وأشار بذيل قوله إلى إمكان كون المراد من الرواية تحقّق البلوغ بالعشر والخروج عن الرفع بسببه ، وعليه فتنافي هذه الرواية مع الروايات المذكورة في كتاب الحجر(6) ، الدالّة على عدم تحقّق البلوغ السنّي بأقل من خمسة عشر . ولكنّه يرد على صاحب الجواهر عدم إقامة الحدود على الصبيّ البالغ عشراً ، كما تحقّق في كتاب الحدود . وليس هنا رواية دالّة عليه ، والقائل به إنّما حكم بذلك للاستفادة من الطلاق والوصية ، لا لقيام الدليل عليه بالخصوص .


(1) وسائل الشيعة: 19 / 307 ، كتاب الديات ، أبواب العاقلة ب 11 ح3  .
(2) النهاية: 733 و 761  .
(3) المبسوط : 7 / 44  .
(4) الإستبصار: 4 / 287  .
(5) جواهر الكلام: 42 / 180 .
(6) وسائل الشيعة: 13 / 142 ، كتاب الحجر ب 2  .

(الصفحة165)



ويمكن أن يكون مستند الشيخ (قدس سره) في الفتوى المذكورة صحيحة أبي أيّوب الخزّاز قال: سألت إسماعيل بن جعفر متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين ، قلت: ويجوز أمره؟ قال: فقال : إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين ، وليس يدخل بالجارية حتى تكون امرأة ، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره وجازت شهادته(1) .
ومن الواضح عدم حجّية الرواية; لعدم اعتبار قول إسماعيل ، خصوصاً مع وضوح بطلان قياسه واستدلاله . وعلى ما ذكرنا فلا مجال لهذا القول ، سواء أُريد به حصول البلوغ به أو أُريد ثبوت القصاص في العشر ، وإن لم يتحقّق البلوغ .
ثانيتها: صحيحة سليمان بن حفص ، عن الرجل (عليه السلام) قال: إذا تمّ للغلام ثمان سنين فجائز أمره ، وقد وجبت عليه الفرائض والحدود ، وإذا تمّ للجارية تسع سنين فكذلك(2) . ومثلها ما رواه حسن بن راشد في الصحيح ، عن العسكري (عليه السلام)  ، إلاّ أنه قال: وإذا تمّ للجارية سبع سنين فكذلك(3) .
ولا مجال للأخذ بهما ، سواء كان المراد بهما تحقّق البلوغ بذلك ، أو كان المراد ثبوت الأحكام ولو لم يتحقّق البلوغ ، لمخالفتهما على التقدير الأوّل للروايات الواردة في البلوغ السنّي ، وعلى التقدير الثاني للروايات الواردة في المقام الحاكمة بأنّ عمد الصبيّ خطأ ، مضافاً إلى عدم القائل بهما .
ثالثتها: رواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل وغلام اشتركا في قتل رجل فقتلاه ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إذا بلغ الغلام

(1) وسائل الشيعة: 18 / 252 ، كتاب الشهادات ب 22 ح3  .
(2) وسائل الشيعة: 18 / 526 ، أبواب حدّ السرقة ب 28 ح13 .
(3) التهذيب: 9 / 183 ح736  .

(الصفحة166)



خمسة أشبار اقتصّ منه ، وإذا لم يكن يبلغ خمسة أشبار قضى بالدية . وفي رواية الصدوق بإسناده عن السكوني: اقتصّ منه واقتصّ له(1) . وحكي العمل بها عن الشيخين(2) والصّدوقين(3) وجماعة(4) ، وإن قال صاحب الجواهر: وإن كنّا لم نتحقّق الجماعة(5) .
والظاهر أنّه لا مجال للأخذ بها أيضاً على كلا الاحتمالين ، بعد كون تلك الروايات موافقة للشهرة الفتوائية المحقَّقة ، مضافاً إلى أنّه لا معنى لجعل الأشبار دليلاً على البلوغ ، مع أنّه أمر واقعي موجب لتحوّل حال الطفل وتغيّر خصوصياته ، ومقدار القامة لا مدخل له في ذلك أصلاً ، كما لايخفى .
رابعتها: صحيحة أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سئل عن غلام لم يدرك وامرأة قتلا رجلاً خطأ ، فقال: إنّ خطأ المرأة والغلام عمد ، فإن أحبّ أولياء المقتول أن يقتلوهما قتلوهما . الحديث(6) .
والظاهر لزوم الإعراض عن هذه الرواية وردّ علمها إلى أهلها ، لأنّه لا مجال لجعل خطأ الغلام عمداً ، وهكذا المرأة ، مع أنّ نقصهما وقصورهما مقتض للعكس .
ثمّ إنّ الإشكال في المسألة من المحقّق الأردبيلي (قدس سره)(7) ـ بما يرجع إلى استلزام تخصيص القرآن الكريم والأخبار المتواترة بالإجماع وأخبار الاحاد ، وإلى احتمال

(1) وسائل الشيعة: 19 / 66 ، أبواب القصاص في النفس ب 36 ح1  .
(2) المقنعة: 748 ، النهاية: 761 ، وفيه: «إلى أن يبلغ عشر سنين أو خمسة أشبار» .
(3) المقنع: 523  .
(4) قاله الفاضل الإصفهاني في كشف اللثام: 2 / 456  .
(5) جواهر الكلام: 42 / 181 .
(6) وسائل الشيعة: 19 / 64 ، أبواب القصاص في النفس ب 34 ح1  .
(7) مجمع الفائدة والبرهان: 14 / 5 ـ 6  .

(الصفحة167)

مسألة 1 ـ لو قتل عاقل ثم خولط وذهب عقله لم يسقط عنه القود ، سواء ثبت القتل بالبيّنة أو بإقراره حال صحّته1.


اختصاص حديث رفع القلم بغير القصاص الذي قد يقال: إنّه من القلم الوضعي الذي لم يرفع عن الصبيان ، ولذا يضمن لو أتلف مال الغير . وإلى احتمال الجمع بين النصوص بحمل ما دلّ على الاقتصاص منه على صورة القصد ، وما دلّ على عدمه على صورة عدمه ـ مندفع جدّاً; لأنّ مبنى الفقه على تخصيص عمومات الكتاب والسنّة المتواترة بالخبر الواحد ، وإلاّ تلزم لغوية اعتباره تقريباً ، وظهور بعض الروايات المتقدّمة في ارتباط رفع القلم وثبوت الدية على العاقلة الظاهر في شمول الرفع للقصاص أيضاً .
واحتمال الجمع بالنحو المذكور مدفوع بعدم مساعدة العرف والعقلاء عليه ، وكونه جمعاً تبرعيّاً كما لا يخفى . فالظاهر حينئذ بملاحظة ما ذكر عدم الإشكال في المسألة بوجه ، وأنّ البلوغ حال الجناية شرط في القصاص ، ينتفى بانتفائه .

1 ـ قد مرّ أنّ الشرط في القصاص هو العقل حال القتل وصدور الجناية ، وعليه فلو قتل في حال العقل ثم صار مجنوناً لا يسقط عنه القصاص . وإن حكي عن بعض العامّة الخلاف(1) وعن بعض آخرمنهم التفصيل بين ما إذا جنّ قبل أن يقدَّم للقصاص، وبين ما إذا جنّ بعده ، بالحكم بالاقتصاص في خصوص الثاني(2) . والدليل على عدم السقوط الاستصحاب ، ويؤيّده خبر بريد العجلي المتقدّم في أدلّة اشتراط البلوغ في القصاص المشتمل على قوله (عليه السلام) في الذي خولط وذهب عقله: «إن شهدوا عليه أنّه قتله حين قتله وهو صحيح ليس به علّة من فساد عقل قتل به» .

(1  ، 2) العزيز شرح الوجيز: 10 / 158  .

(الصفحة168)

مسألة 2 ـ لا يشترط الرشد بالمعنى المعهود في القصاص ، فلو قتل بالغ غير رشيد فعليه القود1.

مسألة 3 ـ لو اختلف الولي والجاني بعد بلوغه أو بعد إفاقته ، فقال الولي: قتلته حال بلوغك أو عقلك ، فأنكره الجاني ، فالقول قول الجاني بيمينه ، ولكن تثبت الدية في مالهما بإقرارهما لا العاقلة ، من غير فرق بين الجهل بتاريخهما أو بتاريخ أحدهما دون الآخر ، هذا في فرض الاختلاف في البلوغ ، وأمّا في الاختلاف في عروض الجنون فيمكن الفرق بين ما إذا كان القتل معلوم التاريخ


فإنّه صريح في القصاص حال الجنون . ولا فرق فيما ذكر بين ثبوت القتل بالبيّنة كما في الرواية ، وبين ثبوته بالإقرار في حال الصحّة وعدم فساد العقل ، لجريان الاستصحاب في كليهما ، وعدم ما يدلّ على الفرق ، وقيامه عليه في بعض الموارد كما في الرجم لا دلالة له على الفرق مطلقاً .

1 ـ حكي عن التحرير(1) اشتراط الرشد أيضاً في القصاص ، والظاهر أنّه غير تامّ ، فإنّه إن كان المراد به هو المعنى المصطلح في كتاب الحجر الذي هو أمر ثالث مغاير للبلوغ والعقل ، ويقابله السفه الذي هو مغاير للصغر والجنون ، فالظاهر أنّه لا دليل على اعتباره في مقابل إطلاقات أدلّة القصاص ، وإن كان المراد به هو كمال العقل فهو داخل في الشرطين المذكورين اللّذين جعلهما المحقّق في الشرائع(2) شرطاً واحداً معبِّراً عنه بعنوان كمال العقل ، كما لا يخفى .


(1) تحرير الأحكام: 2 / 249  .
(2) شرائع الإسلام: 4 / 990  .

(الصفحة169)

وشكّ في تاريخ عروض الجنون فالقول قول الوليّ ، وبين سائر الصور فالقول قول الجاني ، ولو لم يعهد للقاتل حال جنون فالظاهر أنّ القول قول الوليّ أيضاً1.


1 ـ في هذه المسألة فرعان:
أحدهما: ما إذا اختلف الولي والجاني بعد بلوغ الجاني وإقراره بصدور القتل منه ، والاختلاف إنّما هو في أنّ القتل الصادر هل كان في حال البلوغ حتّى يترتّب عليه القصاص ، كما يدّعيه وليّ المقتول ، أو كان في حال عدم تحقّق البلوغ ، فلا يترتّب عليه القصاص ، كما يدّعيه الجاني؟ وقد حكم فيه في المتن بتقديم قول الجاني في فروضه الثلاثة التي هي صورة الجهل بتاريخ كلّ من القتل والبلوغ معاً ، أو بتاريخ خصوص واحد منهما دون الآخر ، والوجه فيه إمّا في صورة الجهل بهما ، فلعدم جريان شيء من استصحاب عدم القتل إلى حال البلوغ ، واستصحاب عدم البلوغ إلى حال القتل ، أو تعارض الاستصحابين وتساقطهما على الخلاف في مجهولي التاريخ . وبعد ذلك يشكّ في تحقّق البلوغ الذي هو شرط في حال صدور الجناية ، ومعه يشكّ في ثبوت القصاص ، والأصل عدمه ، فالقول قول موافق الأصل مع يمينه .
وأمّا في صورة الجهل بتاريخ البلوغ فقط ، فاستصحاب عدم تحقّق البلوغ إلى حال القتل يترتّب عليه فقدان شرط القصاص ، فلا مجال له . وأمّا في صورة الجهل بتاريخ القتل فقط ، فاستصحاب عدم القتل إلى زمان البلوغ لا يثبت تحقّق القتل في حال البلوغ حتّى يترتّب عليه القصاص .
ثم إنّه بعد عدم ثبوت القصاص تثبت الدية في ماله ، لأنّ ثبوت القتل بالإقرار يمنع عن ثبوت الدية على العاقلة لكونه إقراراً عليهم ، فاللاّزم ثبوت الدية في ماله ،

(الصفحة170)



لئلاّ يبطل دم امرىء مسلم ، كما فيما إذا لم يكن هناك تخاصم ، فتدبّر .
ثانيهما: ما إذا اختلف الوليّ والجاني في الجنون حال القتل وصدور الجناية ، وفيه فروض ثلاثة لم يقع التعرّض في المتن لأوّلها:
الأوّل: ما إذا كان الجنون من أوّل الولادة والوجود محرزاً ومسلّماً بين الطرفين كعدمه حال الاختلاف ، غاية الأمر ثبوت الاختلاف في أنّ القتل هل كان في حال الجنون الباقي من حين الولادة ، كما يدّعيه الجاني ، أو بعد زواله وتحقّق الإفاقة ، كما يقول به الولي؟ ويجري في هذا الفرض حكم الفرع الأوّل ، وهو كون القول قول الجاني بيمينه من دون الفرق بين صورة الجهل بتاريخ كلّ من حدوث القتل وحدوث الإفاقة ، وبين صورة الجهل بتايخ أحدهما فقط ، لعدم الفرق بين هذا الفرض وصورة الاختلاف في البلوغ أصلاً ، كما هو ظاهر .
الثاني: ما إذا كان الجنون عارضاً ومسبوقاً بالعدم ، بحيث كان عروضه في برهة من الزمن وزواله في حال الاختلاف مسلّماً بينهما ، غاية الأمر ثبوت الاختلاف في أنّ القتل هل كان في تلك البرهة أو قبلها ، وقد حكم فيه في المتن بتقديم قول الوليّ في خصوص ما إذا كان تاريخ القتل معلوماً ، وتاريخ عروض الجنون مشكوكاً ، والوجه فيه جريان استصحاب عدم الجنون إلى زمان القتل ، وبه يتحقّق موجب القصاص الذي هو القتل في حال عدم الجنون ، وقد حقّق في الأصول صحّة جريان الاستصحاب في الشرط ، وخلوّه عمّا ربّما يستشكل فيه بعدم ترتّب الأثر الشرعي عليه ، ومع جريان هذا الاستصحاب الذي يوجب تقدّم قول الولي لا يبقى مجال لأصالة البراءة التي توجب تقدّم قول الجاني . وأمّا في صورة العكس وصورة كون كلا التاريخين مجهولين ، فلا أصل فيهما يوجب ترجيح قول الوليّ أصلاً ، كما لا يخفى .
الثالث: ما إذا كان أصل الجنون مشكوكاً ، وهو الذي عبّر عنه في المتن بأنّه لم

(الصفحة171)

مسألة 4 ـ لو ادّعى الجاني صغره فعلاً وكان ممكناً في حقّه فإن أمكن إثبات بلوغه فهو ، وإلاّ فالقول قوله بلا يمين ، ولا أثر لإقراره بالقتل إلاّ بعد زمان العلم ببلوغه وبقائه على الإقرار به1.

مسألة 5 ـ لو قتل البالغ الصبيّ قتل به على الأشبه ، وإن كان الاحتياط أن لا يختار ولي المقتول قتله بل يصالح عنه بالدية ، ولا يقتل العاقل بالمجنون وإن كان أدوارياً مع كون القتل حال جنونه ، وتثبت الدية على القاتل إن كان عمداً أو


يعهد للقاتل حال جنون . وقد استظهر فيه في المتن أنّ القول قول الولي ، والوجه فيه كون قوله موافقاً لأصالة السلامة التي هي أصل عقلائي . ولعلّ منشأها غلبة السلامة في أفراد الإنسان ، كالسلامة من سائر العيوب فيها وفي جميع الأشياء . وعليها يبتنى خيار العيب الذي هو من الخيارات السبعة المعروفة مع عدم اشتراط السلامة في متن العقد نوعاً .

1 ـ الوجه في قبول قوله كونه موافقاً لأصالة عدم البلوغ مع إمكانه في حقّه كما هو المفروض ، والوجه في عدم اليمين عدم إمكانها ، لأنّ التحليف لإثبات المحلوف عليه ، ولو ثبت صباه بطلت يمينه ، فلا وجه لما عن الشهيد الأوّل (قدس سره)(1) من احتمال تحليفه بل القول به ، كما أنّ إقراره في هذه الحالة لا يترتّب عليه أثر إلاّ إذا بقي عليه إلى زمان العلم بالبلوغ وثبوته ، فإذا بلغ ومضى على إقراره اُخذت منه الدية ، لأنّ المقرّ به هو القتل في حال الصغر ، ولا يوجب ذلك الثبوت على العاقلة ، كما مرّ .


(1) حكى عنه في مفتاح الكرامة: 11 / 30  .

(الصفحة172)

شبهه ، وعلى العاقلة إن كان خطأ محضاً ، ولو كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه فلا شيء عليه من قود ولا دية ، ويعطى ورثته الدية من بيت مال المسلمين1.



1 ـ في هذه المسألة فروع:
الأوّل: ما إذا قتل البالغ الصبيّ ، والمشهور فيه شهرة محقَّقة عظيمة(1) ، بل لم يحك الخلاف إلاّ عن الحلبي(2) من القدماء هو ثبوت القصاص فيه . والوجه فيه ـ مضافاً إلى عمومات أدلّة القصاص وإطلاقاتها ـ خصوص ما رواه الشيخ بإسناده عن ابن فضال ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كلّ من قتل شيئاً صغيراً أو كبيراً بعد أنّ يتعمّد فعليه القود . قال في الوسائل: ورواه الصدوق بإسناده عن ابن بكير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) إلاّ أنّه قال: «كلّ من قتل بشيء»(3) . وربّما نسب الوسائل إلى الاشتباه وسهو القلم باعتبار عدم وجود هذه الرواية في الفقيه ، ولكن في حاشية الوسائل بالطبعة الجديدة قد عيّن محلّه في الفقيه فراجع .
وكيف كان فالرواية على تقدير الإرسال منجبرة بالشهرة المذكورة ، ولا مجال للإشكال فيها من حيث السند ، كما أنّ دلالتها واضحة .
وأمّا ما يمكن أن يستدلّ به على عدم القصاص في هذا الفرع ـ فمضافاً إلى أنّه لا يقتصّ من الكامل للناقص ـ صحيحة أبي بصير يعني المرادي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل قتل رجلاً مجنوناً ، فقال: إن كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه

(1) راجع مسالك الافهام: 15 / 164 ورياض المسائل: 10 / 295  .
(2) الكافي في الفقه: 384  .
(3) وسائل الشيعة: 19 / 56  ، أبواب القصاص في النفس ب 31 ح4  .

(الصفحة173)



فقتله فلا شيء عليه من قود ولا دية ، ويعطى ورثته ديته من بيت مال المسلمين . قال: وإن كان قتله من غير أن يكون المجنون أراده فلا قود لمن لا يقاد منه ، وأرى أنّ على قاتله الدية في ماله يدفعها إلى ورثة المجنون ، ويستغفر الله ويتوب إليه(1) .
فإنّ الرواية وإن كانت واردة في المجنون إلاّ أنّ قوله في جزاء القضية الشرطية: «فلا قود لمن لا يقاد منه» ربّما يستفاد منه ضابطة كلّية ، وهي عدم ثبوت القصاص لمن لايقتصّ منه، فيشمل قتل الصبيّ أيضاً، لأنّه لايقتصّ منه إذاكان قاتلاً،كما عرفت.
هذا ، والظاهر أنّ هذه الاستفادة تكون تامّة لو كانت الضابطة واردة بعنوان التعليل ،وأمّا لو كانت واردة بمثل ما في الرواية من كونها جزاء للشرط المفروض فيه المجنون فلا مجال لها ، نعم لا وجه لإنكار إشعاره بذلك ، ولكن مجرّد الإشعار لا ينهض في مقابل الأدلّة العامّة والخاصّة . نعم يوجب تحقّق موضوع الاحتياط بأن لا يختار ولي المقتول القصاص ، بل يصالح عنه بالدية ، كما في المتن .
وأمّا أنّه لا يقتصّ من الكامل للناقص ، فهو أوّل الكلام ، وإن أُريد به مطلق الكمال والنقص فهو ممنوع ، بداهة أنّه يقتصّ من العالم للجاهل وشبهه .
الثاني: ما إذا قتل العاقل المجنون ، ولا خلاف في عدم ثبوت القصاص فيه ، بل في محكيّ كشف اللّثام نسبته(2) إلى قطع الأصحاب ، بل عن كشف الرموز الإجماع عليه(3) ، ويدلّ عليه صحيحة أبي بصير المتقدّمة آنفاً في الفرع الأوّل ، كما أنّها تدلّ على ثبوت الدية في مال القاتل ، وأنّه يدفعها إلى ورثة المجنون .
والظّاهر أنّه لا فرق في المجنون بين الاطباقي والادواريّ ، كما أنّ الظاهر أنّه لو

(1) وسائل الشيعة: 19 / 51 ، أبواب القصاص في النفس ب 28 ح1  .
(2) كشف اللثام: 2 / 456  .
(3) كشف الرموز: 2 / 611  .

(الصفحة174)



كان القاتل أدواريّاً أيضاً بأن كان القتل في دور عقله لا يثبت عليه القصاص ، لإطلاق الرّواية من الجهتين .
الثالث: ما لو كان المجنون أراده بسوء بأن يقتله وكان دفعه متوقّفاً على قتله ، فدفعه بقتله ، فلا إشكال ولا خلاف في أنّه لا قصاص فيه ، ولا دية على القاتل ولا على عاقلته ، إنّما الخلاف في أنّه هل يثبت الدية على غيرهما من بيت مال المسلمين أم لا؟ فالمحكيّ عن كثير من الكتب الفقهية(1) التي وقع فيها التعرّض لهذه الجهة هو الثاني ، بل عن غاية المرام نسبته إلى المشهور(2) ، وعن المفيد(3) والجامع(4) هو الأوّل كما في المتن . ويدلّ عليه صدر صحيحة أبي بصير المتقدّمة في الفرع الأوّل ، حيث وقع فيها التصريح بأنّه يعطى ورثته الدية من بيت مال المسلمين ، والظاهر أنّه لم تبلغ الشهرة في المسألة إلى حدّ الإعراض عن الرواية حتّى يكون ذلك قادحاً في حجيّتها ، لكن في مقابلها روايتان:
إحداهما: رواية أبي الورد قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) أو لأبي جعفر (عليه السلام) : أصلحك الله رجل حمل عليه رجل مجنون فضربه المجنون ضربة ، فتناول الرجل السيف من المجنون فضربه فقتله ، فقال: أرى أن لا يقتل به ولا يغرم ديته ، وتكون ديته على الإمام ، ولا يبطل دمه(5) .


(1) كالنهاية: 759 ـ 760 والسرائر: 3 / 368 والمهذّب: 2 / 514 ـ 515 والقواعد: 2/292 والإرشاد: 2/202 وكشف الرموز : 2 / 611  .
(2) غاية المرام: 4 / 387 .
(3) حكى عنه في التنقيح الرائع: 4 / 431 ، ولم نجده في المقنعة .
(4) الجامع للشرائع: 575  .
(5) وسائل الشيعة: 19 / 52 ، أبواب القصاص في النفس ، ب 28 ، ح2  .

(الصفحة175)



ولكنّها ـ على تقدير كون المراد من قوله: «فتناول» هو توقف الدفع على الضرب والقتل ، وإن كان يبعّد ذلك أنّه بعد صيرورة السيف في يد العاقل لا يتحقّق التوقف نوعاً ، كما لا يخفى ـ محمولة على كون المراد من الامام هو بيت المال ، خصوصاً مع عدم قائل بما هو ظاهره .
ثانيتهما: الأخبار المتعدّدة الواردة في مطلق الدفاع عن النفس ، الظاهرة في أنّه إذا توقّف الدفاع على قتل المهاجم لا يكون في هذا القتل شيء أصلاً ، ويكون دمه هدراً ، فتنافي مع رواية أبي بصير في المقام .
والجواب: أنّ تلك الأخبار لا تخلو من أحد أمرين: إمّا أن تكون مطلقة شاملة لما إذا كان الحامل والمهاجم مجنوناً ، وإمّا أن لا تكون شاملة للمقام ، فعلى التقدير الأوّل تكون صحيحة أبي بصير مقيِّدة لها وموجبة لإخراج المجنون ، وعلى التقدير الثاني لا ارتباط بين المقام وبين تلك الروايات ، لاختلافهما من حيث المورد .
ودعوى: أنّه على تقدير الاختصاص بغير المجنون ، يكون شمول الحكم له بطريق أولى ، لأنّه إذا كان دم العاقل المهاجم هدراً ، فدم المجنون كذلك بطريق أولى ، لعدم تحقّق القصاص فيه دونه .
مدفوعة: بأنّه يمكن أن يكون للعقل مدخلية في كون دم المهاجم هدراً ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الغرض عدم تكرّر التهاجم من غيره ، وهذه الجهة غير متحقِّقة في المجنون ، ولأجله تحقّق الفرق بين قتل العمد وقتل الخطأ مثلاً في الحكم مع اشتراكهما في تحقّق القتل وصدوره من القاتل . وعليه فيمكن أن لا يكون دم المجنون المهاجم هدراً مطلقاً ، بل يلزم أن يعطى ديته من بيت مال المسلمين ، فالأولوية ممنوعة جدّاً ، والتساوي فاقد للدليل ، فلا محيص عن الأخذ بالصحيحة في المقام .


(الصفحة176)

مسألة 6 ـ في ثبوت القود على السكران الآثم في شرب المسكر إن خرج به عن العمد والاختيار تردّد ، والأقرب الأحوط عدم القود ، نعم لو شكّ في زوال العمد والاختيار منه يلحق بالعامد ، وكذا الحال في كلّ ما يسلب العمد والاختيار ، فلو فرض أنّ في البنج وشرب المرقد حصول ذلك يلحق بالسكران ، ومع الشك يعمل معه معاملة العمد ، ولو كان السكر ونحوه من غير إثم فلا شبهة في عدم القود ، ولا قود على النائم والمغمى عليه ، وفي الأعمى تردّد1.


1 ـ في هذه المسألة فروع:
الفرع الأوّل: هل يثبت القود على السكران القاتل أم لا؟ والمفروض هنا ثبوت قيدين: كونه آثماً في شربه ، وخروجه بالسكر عن العمد والاختيار في حال صدور القتل . وقد تردّد فيه في المتن أوّلاً ، ثم جعل الأقرب العدم ، تبعاً للعلاّمة في الإرشاد(1) والقواعد(2) ، ولصاحب المسالك(3) ، ولكن جعل المحقّق في الشرائع(4)الثبوت أشبه ، وفاقاً للأكثر ، بل ربّما يشعر أو يصرّح بعض الكتب بالإجماع عليه(5) ، واللاّزم التكلّم فيه في مقامين:
الأوّل: في أنّ مقتضى القاعدة بملاحظة الضابطة الأصلية في باب القصاص هل هو ثبوت القصاص ، أو عدمه ، أو التفصيل بين الموارد مع قطع النظر عمّا ورد في

(1) إرشاد الأذهان: 2 / 202 ـ 203  .
(2) قواعد الأحكام: 2 / 292  .
(3) مسالك الأفهام: 15 / 165 ـ 166 ، وقال: وهو اختيار الأكثر .
(4) شرائع الإسلام: 4 / 990  .
(5) حكى في جواهر الكلام: 42 / 186 الإشعار بالاجماع عن غاية المراد : 366 والتصريح به عن إيضاح الفوائد: 4 / 601  .

(الصفحة177)



المقام من النصّ ؟ فنقول:
الظاهر هو التفصيل بين من يعلم بأنّ شربه للمسكر يترتّب عليه القتل نوعاً ، وبين من لا يعلم بذلك ، لأنّ صدور القتل وإن كان في حال زوال الاختيار والخروج عن العمد ، إلاّ أنّ ارتكابه للشرب عن عمد واختيار وتوجّه والتفات مع العلم بترتّب القتل عليه نوعاً بعد تحقّق السكر يجعل القتل قتلاً عمدياً عند العقلاء . وبعبارة أُخرى لا ينفكّ التعمّد للارتكاب مع العلم بالترتّب عن التعمّد للقتل ، فإنّ من علم بأنّه إذا ذهب إلى مجلس فلاني ودخل فيه يترتّب على دخوله تحقّق المعصية وصدور عمل محرَّم اضطراراً أو إكراهاً لا يكون مع التعمّد في الذهاب واختيار الدخول مع العلم بذلك مضطرّاً إلى المعصية أو مكرَهاً عليها ، بل هي معصية عمدية موجبة لاستحقاق العقوبة والمؤاخذة ، نعم مع عدم العلم بذلك أو عدم الالتفات إليه لا ينبغي المناقشة في عدم الاستحقاق ، لعدم تحقّق المعصية العمديّة .
وليس صدق قتل العمد في الفرض الأوّل لأجل كونه آثماً في شرب المسكر ، بل لأجل صدوره منه اختياراً ، وعليه فلو فرض إباحة الشرب مثلاً يتحقّق التعمّد في القتل أيضاً ، كما في مثال الذهاب إلى المجلس ، حيث لا يكون نفس الذهاب إليه محرَّماً ، نعم في صورة الوجوب في مثل المقام لابدّ من ملاحظة الأهمّ من الحرمة والوجوب ، كما لا يخفى .
الثاني: في ملاحظة مقتضى النصّ ، فنقول : قد ورد في المقام روايتان:
إحداهما: رواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان قوم يشربون فيسكرون فيتباعجون بسكاكين كانت معهم ، فرفعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسجنهم ، فمات منهم رجلان وبقي رجلان ، فقال أهل المقتولين: يا أمير المؤمنين اقدهما

(الصفحة178)



بصاحبينا ، فقال للقوم: ما ترون؟ فقالوا: نرى أن تقيدهما ، فقال علي (عليه السلام) للقوم: فلعلّ ذينك اللّذين ماتا قتل كل واحد منهما صاحبه ، قالوا: لا ندري ، فقال علي (عليه السلام) : بل أجعل دية المقتولين على قبائل الأربعة ، وآخذ دية جراحة الباقيين من دية المقتولين(1) . والظاهر أنّ قوله (عليه السلام) : «فلعلّ ذينك» يستفاد منه مفروغية ثبوت القود عليهما مع العلم بصدور القتل منهما ، وعليه فنفي الحكم بالقود إنّما هو لأجل الشكّ في أصل صدور القتل منهما ، مع لزوم إحرازه في مقام القصاص ، ومقتضاه أنّه لا فرق في ثبوت القود مع العلم بالصدور بين الصورتين اللّتين كان مقتضى القاعدة هو التفصيل بينهما .
والعجب من بعض الأعلام حيث استدلّ بالرواية على التفصيل الذي هو مقتضى القاعدة ، وقال في تقريبه: إنّه لابدّ من حملها على أنّ شربهم المسكر كان في معرض التباعج بالسكاكين المؤدّي إلى القتل عادة ، بقرينة أنّه فرّع فيها ثبوت القود على فرض العلم بأنّ الباقيين قتلاهما ، وعدم ثبوته على فرض عدم العلم بذلك واحتمال أنّ كلاًّ منهما قتل صاحبه(2) .
ومن الواضح أنّه مصادرة على المطلوب  . وأمّا ما جعله مؤيِّداً لما أفاده من استفادة الاستمرار والتكرر من التعبير بقوله (عليه السلام) : «كان قوم يشربون فيسكرون فيتباعجون» نظراً إلى ظهوره في ترتّب التباعج نوعاً . فيدفعه أنّه لا مجال لهذه الاستفادة في خصوص المقام ، لظهور الرواية في أنّ الرفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مرّة واحدة ، وهي المرّة الواقعة فيها هذه القصّة ، ولو كان العمل متكرّراً والرفع مرّة

(1) وسائل الشيعة: 19 / 173  ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 1 ح 2  .
(2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 81 مسألة 87  .

(الصفحة179)



لكان اللاّزم التقييد بمثل المرّة الأخيرة . مضافاً إلى أنّه مع وحدة القوم المركّب من أربعة نفرات لا معنى لتكرّر التباعج المؤدي إلى القتل ، فبقاؤهم في المرّة التي تحقّق بعدها الرفع دليل على عدم تحقّق القتل في المرّات السابقة ، كما لايخفى .
فالإنصاف ظهور الرواية في ثبوت القصاص في صورة العلم بصدور القتل من الباقيين ، من دون فرق بين الصورتين أصلاً .
ثانيتهما: صحيحة محمد بن قيس ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في أربعة شربوا مسكراً ، فأخذ بعضهم على بعض السلاح فاقتتلوا ، فقتل اثنان وجرح اثنان ، فأمر المجروحين فضرب كلّ واحد منهما ثمانين جلدة ، وقضى بدية المقتولين على المجروحين ، وأمر أن تقاس جراحة المجروحين فترفع من الدية ، فإن مات المجروحان فليس على أحد من أولياء المقتولين شيء(1) .
والظاهر أنّ مورد هذه الرواية والرواية المتقدّمة واحد ، بمعنى أنّه كان في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) قصّة واحدة مرفوعة إليه ، وهي اشتراك أربعة رجال في شرب المسكر ، والأخذ بعده بالسلاح والسكين ، وتحقّق الاقتتال المؤدّي إلى قتل اثنين وجرح اثنين ، وهذه القصّة محكيّة في الرواية السابقة عن أبي عبدالله (عليه السلام)  ، وفي هذه الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام)  ، وعليه فهو أيضاً شاهد على بطلان التأييد المتقدّم الذي ذكره بعض الأعلام ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ هذه الرواية لا تعارض الرواية المتقدّمة فيما يرجع إلى القصاص الّذي هو مورد البحث في المقام ، لظهور الاُولى كما عرفت في ثبوت القصاص مع تعيّن القاتل وتشخّصه وإن كان سكراناً . ولا ظهور في هذه الرواية في خلافه ، لعدم التعرّض

(1) وسائل الشيعة: 19 / 172 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 1 ح1 .

(الصفحة180)



لهذه الجهة . وظهورها في عدم القصاص في المورد إنّما هو لأجل عدم تعيّن القاتل في مثل المورد ، كما يقتضيه طبع القصة ، فإنّه مع تحقّق القتل في مثله لا طريق إلى تشخيص القاتل مع عدم حضور الشاهد، بل ومع الحضور نوعاً لأنّه لا يمكن التشخيص كذلك . ومن المعلوم أنّ رفع الخصومة كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) مبنيّاً على الموازين والضوابط المعمولة ، لا على الاعتماد على مثل علم الغيب . وعليه فعدم الحكم بالقصاص في المورد لأجل عدم وضوح القاتل وعدم الطريق إلى تعيينه، فلا ينافي ما دلّ على القصاص مع العلم به وتعيّنه ، كما هو الظاهر من الرواية الأولى .
إلاّ أن يُقال: إنّ الحكم بثبوت دية المقتولين على خصوص المجروحين كما في الرواية لا يستقيم إلاّ مع العلم بصدور القتل منهما ، لأنّه لا مجال له بدون العلم به ، وعليه فتدلّ الرواية على نفي القصاص مع تعيّن القاتل ، فتعارض مع الرواية الاُولى .
ولكنّه مدفوع بأنّه لا إشعار في الرواية بهذه الجهة ، وقد عرفت أنّ مقتضى طبع القصّة هو الإبهام وعدم التعيّن ، خصوصاً مع صراحة النقل الأوّل فيه ، غاية الأمر أنّ الحكم بثبوت الدية على المجروحين حكم تعبّدي مغاير للرواية الأولى الدالّة على ثبوت الدية على قبائل الأربعة ، ولا مجال لاستفادة ما ذكر منه ، فالإنصاف أنّه لا تعارض بين الروايتين فيما يرجع إلى المقام ، وهو ثبوت القصاص على السكران القاتل .
وبعد ذلك يقع الكلام في ترجيح القول بعدم القصاص كما في المتن ، فهل يكون منشأه استفادة العدم من الصحيحة وترجيحها على رواية السكوني ، لعدم بلوغها في الاعتبار إلى مرتبة الصحيحة ، بل رواية السكوني حجّة فيما لم يكن على خلافها
<<التالي الفهرس السابق>>