في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة41)

وا لشروط ، كا لطهارة والستر والاستقبال ونحوها بالإضافـة إلى الصلاة .
ثمّ قال: وبلحاظ هذا الفرق بين النحوين من القيود صحّ أن يقال للنحو الأوّل : شروط الأمر والوجوب ، وللنحو الثاني : شروط المأمور بـه والواجب .
ثمّ قال: ويمكن تقريب كلا النحوين من القيود الشرعيـة ببعض الاُمور الطبيعيّـة العرفيـة .
مثلاً : شرب المسهل قبل أن يعتري الإنسان مرض يستدعيـه لا مصلحـة فيـه تدعو الإنسان إليـه أو الطبيب إلى الأمر بـه مطلقاً . نعم يمكن أن يأمر بـه معلّقاً على الابتلاء با لمرض ، فيقول للإنسان : إذا مرضت با لحمى مثلاً فاشرب المسهل ، فا لمرض يكون شرطاً لتحقّق المصلحـة في شرب المسهل ، وأمّا المنضج فهو شرط فعليـة أثر المسهل ومصلحتـه ، ولهذا يترشّح عليـه أمر غيري من الأمر النفسي المتعلّق با لمسهل ، فيقول الطبيب للمريض : اشرب المنضج أوّلاً ثمّ اشرب المسهل(1) . انتهى كلامـه على ما في التقريرات المنسوبـة إليـه(قدس سره) .
وأنت خبير بأنّ ما ذكره: من المناط في شرائط الوجوب وشرائط الواجب لايتمّ ، بل مورد للنقض طرداً وعكساً ، فإنّ ما يتوقّف عليـه اتّصاف الفعل بكونـه ذا مصلحـة يمكن أن لايكون قيداً للأمر ، بل للمأمور بـه ، فإنّـه يمكن أن يأمر المولى با لحج عقيب الاستطاعـة ، لا أن يكون أمره مشروطاً بتحقّقها ، غايـة الأمر أ نّـه يلزم أن يكون تحصيلها واجباً ; لأنّ المصلحـة متوقّفـة عليـه ، ولا منافاة بين توقّف المصلحـة على شيء وعدم كون الأمر معلّقاً عليـه ، كما أ نّـه يمكن أن لايكون للقيد دخل في حصول المصلحـة ، ولكن كان الأمر معلّقاً على وجوده ، كما فيما ذكرناه من المثال المتقدّم في القسم الأخير من الأقسام الأربعـة المتقدّمـة ، فإنّ


1 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 335 ـ 336.

(الصفحة42)

ترتّب المصلحـة على ضيافـة زيد مثلاً قد لايتوقّف على نزولـه في منزل المضيف ولكن يمكن أن يكون أمره معلّقاً عليـه .
وبا لجملـة فجعل هذا هو الملاك في شرائط الوجوب منقوض طرداً وعكساً ، كما عرفت ، ومنـه يظهر بطلان ما ذكره ملاكاً لشرائط الواجب ، كما لايخفى .
فالمناط فيهما هو ما ذكرناه: من أنّ شرائط الوجوب عبارة عن القيود التي لايكون لها دخل في تحقّق المراد بمعنى عدم مدخليّتـه في تعلّق الإرادة بـه ، كما أنّ شرائط الواجب هي التي لها مدخليـة في حصول الغرض الباعث على تعلّق الإرادة .

في توقّف فعليّـة الوجوب على شرطـه

ثمّ إنّـه يقع الكلام بعد هذا في أ نّـه هل يكون الواجب المشروط متعلّقاً للإرادة عند حصول شرطـه بمعنى أ نّـه لا إرادة قبل تحقّقـه ، أو أنّ الإرادة تتعلّق بـه فعلاً ولكن على تقدير حصول أمر خاص ؟ ويكون الفرق حينئذ بينـه وبين الواجب المعلّق هو أنّ الوجوب المطلق يتعلّق بأمر خاص في الواجب المعلّق ، والوجوب الخاصّ يتعلّق بأمر مطلق في الواجب المشروط .
ربّما ينسب إلى المشهور الأوّل(1) ، واختار بعض الأعاظم ـ على ما في ا لتقريرات المنسوبـة إليـه ـ الثاني(2) .


1 ـ كفايـة الاُصول: 121، بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 338 / السطر الأخير.
2 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 338 / السطر 19.

(الصفحة43)

ولابدّ قبل الخوض في ذلك من بيان حقيقـة الحكم .
فنقول: هل الحكم عبارة عن نفس الإرادة التشريعيـة الكامنـة في نفس الحاكم مطلقاً أو بشرط أن يظهرها المريد بأحد المظهرات من القول أو الفعل أو أ نّـه منتزع من البعث أو الزجر اللَّذين هما مفاد هيئـة الأمر والنهي ؟ وجوه ، والظاهر هو الثا لث ; لأنّ مجرّد تعلّق الإرادة التشريعيـة بشيء لايعدّ من باب تعلّق الحكم بـه وإن كانت ربّما يجب متابعتها ، فإنّ وجوب المتابعـة ليس متفرّعاً على خصوص حكم المولى ، بل لو اطّلع العبد على تعلّق إرادة المولى بإتيانـه شيئاً ، فا للازم ـ كما يحكم بـه العقل والعقلاء ـ متابعـة إرادتـه ، بل ربّما يجب تحصيل غرضـه وإن لم تنقدح إرادة متعلّقـة بـه في نفس المولى لغفلتـه أو نومـه أو غيرهما .
ألا ترى أ نّـه لو أشرف ولد المولى مثلاً على الغرق في البحر ولم يكن المولى مطّلعاً عليـه حتى يبعث العبد نحو خلاص ولده ، يكون على العبد ذلك وأن ينجي ولده من الهلاك .
وبا لجملـة ، فوجوب الإتيان عقلاً أعمّ من الحكم ، والذي يطابقـه الوجدان هو أنّ منشأ انتزاع الحكم هو نفس البعث والزجر المتوجّهين إلى العبد ، وحينئذ فلا إشكال في عدم تحقّق الحكم قبل حصول الشرط ; لعدم ثبوت البعث قبلـه ، كما هو واضح .
إذا عرفت ما ذكرنا: فاعلم أنّ بعض الأعاظم بعد اختياره أنّ الحكم عبارة عن نفس الإرادة التشريعيّـة التي يظهرها المريد با لقول أو الفعل(1) ذهب إلى خلاف ما عليـه المشهور ، وأنّ الإرادة في الواجب المشروط موجودة قبل تحقّق


1 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 339 / السطر 2.

(الصفحة44)

ا لشرط مدّعياً أنّ الوجدان دليل عليـه .
قال : فإنّا نجد من أنفسنا إرادة العمل الذي يكون فيـه مصلحـة لنا على تقدير خاص وإن لم يكن ذلك التقدير متحقّقاً با لفعل(1) .
وأنت خبير بأ نّـه لو سلّم انتزاع الحكم عن نفس الإرادة المظهرة ، فلا نسلّم انتزاعـه عن هذا النحو من الإرادة المتحقّقـة في الواجب المشروط ، كما لايخفى .

في إشكالات الواجب المشروط على مسلك المشهور

ثمّ إنّـه ربّما يورد على مذهب المشهور بإيرادات شتّى :
منها: ما أورده عليـه ذلك البعض المتقدّم ـ على ما في التقريرات المنسوبـة إليـه ـ من أ نّـه لا إشكال في إنشاء الشارع للتكليف المشروط قبل تحقّق شرطـه ، ولاريب في أنّ إنشاء التكليف من المقدّمات التي يتوصّل بها المولى إلى تحصيل المكلّف بـه في الخارج ، والواجب المشروط على المشهور ليس بمراد للمولى قبل تحقّق شرطـه في الخارج ، فكيف يتصوّر أن يتوصّل العاقل إلى تحصيل ما لايريده فعلاً ؟ ! فلابدّ أن يلتزم المشهور في دفع هذا الإشكال بوجود غرض نفسي في نفس إنشاء التكليف المشروط قبل تحقّق شرطـه ، وهو كما ترى .
ولكن من التزم بما ذهبنا إليـه لايرد عليـه هذا الإشكال ; لفعليـة الإرادة قبل تحقّق الشرط ، فا لمولى يتوصّل بإنشائـه إلى ما يريده فعلاً وإن كان على تقدير(2) . انتهى .
وأنت خبير بأنّـه لم يكن للمشهور الالتزام بما ذكره أصلاً، فإنّ الإنشاءات


1 ـ نفس المصدر 1: 342 / السطر 3.
2 ـ نفس المصدر 1: 346 ـ 347.

(الصفحة45)

وإن كانت للتوصّل إلى تحصيل المراد إلاّ أ نّـه حيث يكون المكلّفون مختلفين من حيث تحقّق الشرط با لنسبـة إليهم وعدمـه لابأس بإنشاء الوجوب على النحو المذكور وإن لم يكن الشرط حاصلاً با لنسبـة إلى بعض المكلّفين ، كما أنّ الإنشاءات الواقعـة في الشريعـة إنّما هي على نحو القوانين الكلّيـة ، فلايمكن أن تكون متوقّفةً على تحقّق شرائطها ، كما هو واضح لايخفى .
هذا ، مضافاً إلى أنّ هذا الإيراد لايدفع بما التزمـه في الواجب المشروط ، فتدبّر .
منها: ـ وهي عمدتها ـ أ نّـه لو كانت الإرادة المتعلّقـة با لواجب المشروط حاصلةً عند تحقّق الشرط لا قبلـه ، يلزم أن لا تكون المقدّمات الوجودية لتحقّق الواجب المشروط واجبةً با لوجوب الغيري قبل تحقّق الشرط ; لعدم كون ذي المقدّمـة واجباً قبلـه حتّى يسري الوجوب منها إلى مقدّمتـه ، وهذا بخلاف ما لو قيل بتحقّق الإرادة قبل حصول الشرط ، كما التزم بـه بعض الأعاظم(قدس سره) على ما عرفت ، فإنّ تعلّق الإرادة الغيريـة با لمقدّمات لوجود الإرادة النفسيـة المتعلّقـة بذي المقدّمـة با لفعل .
والتحقيق في دفع الإيراد عن المشهور أن يقال: إنّ ما اشتهر في الألسن وتكرّر في أكثر الكلمات من أنّ الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمـة ناشئـة ومترشّحـة من الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة ، وكذا الوجوب المتعلّق بالاُولى سار من الوجوب المتعلّق با لثانيـة ليس على ما ينبغي ، بل محلّ نظر ومنع ، كما عرفت في صدر مبحث المقدّمـة ; فإنّـه لا معنى لكون الإرادة علّةً موجدة لإرادة اُخرى ، فإنّ كلّ إرادة فلها مباد ومقدّمات مخصوصـة ، فكما أنّ الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة ناشئـة من المبادئ الخاصـة بها فكذلك الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمـة لها مقدّمات ومباد مخصوصـة بها ، غايـة الأمر أنّ تعلّق الإرادة بها لحصول مطلوبـه الأوّلي

(الصفحة46)

ا لذي تعلّقت بـه الإرادة الأوّليـة .
وبا لجملـة فلا إشكال في أنّ كلّ إرادة معلولـة للنفس وموجدة بفعّا ليتها ، ولايعقل أن تكون علّتـه الإرادة المتعلّقـة بشيء آخر ، كما حقّق في محلّـه ، وهكذا الوجوب المتعلّق بشيء لايعقل أن يسري إلى شيء آخر أصلاً .
وحينئذ فنقول: إنّ الملازمـة بين الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة وبين الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمـة على تقدير ثبوتها إنّما هي لتوقّف حصول غرض المولى على تحقّقها في الخارج ، لا لتحقّق الإرادة بذي المقدّمـة ، فإن تعلّقها بها أيضاً للتوصّل إلى تحصيل غرضـه ، فإذا فرض في مقام عدم تعلّق الإرادة الفعليـة بذي المقدّمـة ـ كما في المقام ـ فلايمنع عن تعلّق الإرادة الفعليـة با لمقدّمـة ; لبقاء ملاك تعلّق الإرادة بها ، وهي توقّف حصول غرض المولى عليها على حا لها .
وبا لجملـة ، فلو فرض في مقام اطّلاع العبد على أنّ المولى يريد شيئاً على تقدير خاص ، وفرض العلم بتحقّق ذلك التقدير المستلزم للعلم بإرادتـه قطعاً ، وفرض أيضاً توقّف حصول ذلك الشيء على أمر لايمكن تحصيلـه بعد تحقّق شرط الوجوب ، فمن الواضح أنّ العقل يحكم بوجوب الإتيان بمقدّمـة ذلك الشيء وإن لم تكن الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة موجودةً با لفعل .
وا لحاصل أ نّـه حيث يكون الدائر على ألسنتهم أنّ الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمـة ناشئـة من الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة ، ورأوا أنّ المشهور لايلتزمون بوجود الإرادة قبل تحقّق الشرط في الواجب المشروط ، فلذا أوردوا على المشهور بأ نّـه لايبقى وجـه لوجوب المقدّمـة قبل تحقّق الشرط(1) .


1 ـ هدايـة المسترشدين: 217 / السطر 1، بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 346 / السطر 22.

(الصفحة47)

وبما حقّقناه قد ظهر لك أ نّـه لا وجـه لهذا الإيراد أصلاً ، كما عرفت .
ثمّ إنّـه لو قلنا بخلاف ما عليـه المشهور والتزمنا بما التزم بـه ذلك البعض من تحقّق الإرادة قبل تحقّق الشرط ، فتعلّقها با لمقدّمـة أيضاً مورد منع ; فإنّـه لايعقل ترشّح الإرادة المطلقـة با لمقدّمـة من الإرادة التقديريـة المتعلّقـة بذي المقدّمـة بعد لزوم السنخيـة بين المعلول وعلّتـه ، فإنّـه كيف يمكن أن تكون الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمـة مطلقةً بمعنى وجوب تحصيلها فعلاً ، مع أنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة تقديريـة كما هو واضح .
والمتحصّل من جميع ما ذكرنا في الواجب المشروط اُمور:
الأوّل: أنّ القيود بحسب الواقع على قسمين .
الثاني: أنّ القيود راجعـة إلى الهيئـة ، كما هو ظاهر اللّفظ ، ولا امتناع في رجوعها إليها ، كما ينسب إلى الشيخ الأنصاري(قدس سره)(1) .
الثالث: أنّ الحكم إنّما ينتزع من نفس البعث والزجر ، والدليل عليـه أ نّـه يجعل مقسماً للحكم التكليفي والوضعي ، ولا معنى للقول بأنّ الحكم في الأحكام الوضعيـة عبارة عن الإرادة مطلقـة أو مقيّدة بالإظهار ، كما هو واضح .
الرابع: أنّ الوجوب في الواجب المشروط إنّما هو بعد تحقّق الشرط لا قبلـه .
الخامس: أ نّـه تكون المقدّمات واجبةً قبل تحقّق الشرط ولو لم تكن ذو المقدّمـة واجباً قبلـه ، كما عرفت تحقيقـه .



1 ـ مطارح الأنظار: 46 / السطر 2.

(الصفحة48)


الأمر الخامس

في الواجب المعلّق والمنجز

ربّما يقسّم الواجب أيضاً ببعض الاعتبارات إلى معلّق ومنَجّز ، ويقال ـ كما في الفصول ـ : إنّ المراد با لمنجّز هو الذي يتعلّق وجوبـه با لمكلّف ، ولايتوقّف حصولـه على أمر غير مقدور لـه ، كا لمعرفـة وبا لمعلّق هو الذي يتعلّق وجوبـه با لمكلّف ويتوقّف حصولـه على أمر غير مقدور لـه كا لحجّ ، فإنّ وجوبـه يتعلّق با لمكلّف من أوّل زمن الاستطاعـة أو خروج الرفقـة ، ويتوقّف فعلـه على مجيء وقتـه ، وهو غيرمقدورلـه .
وا لفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو : أنّ التوقّف هناك للوجوب وهنا للفعل(1) .
ولايخفى: أنّ الالتزام با لواجب المعلّق إنّما هو للتخلّص عمّا أورد على المشهور في الواجب المشروط من أ نّـه بناء على عدم تحقّق الإرادة قبل حصول الشرط كما هو مذهبـه لم يبق وجـه لسرايـة الإرادة إلى المقدّمات قبل حصولـه فإنّـه حيث تعسّر عليهم رفع هذا الإيراد مع ما رأوا في بعض الموارد من دلالـة بعض الأخبار على وجوب المقدّمات في بعض الواجبات المشروطـة قبل تحقّق شرطها فلذا تمسّكوا بذيل الواجب المعلّق والتزموا بثبوت الوجوب فيـه قبل حصول شرط الواجب بخلاف المشروط .



1 ـ الفصول الغرويّـة: 79 / السطر 35.

(الصفحة49)

ما أفاده بعض الأعلام في إنكار الواجب المعلّق

ثمّ إنّـه يظهر من بعضهم إنكار الواجب المعلّق مدّعياً استحا لـة كون الإرادة موجودة قبل المراد(1) .
وأطال الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام بعض المحقّقين في تعليقتـه على الكفايـة .
وخلاصـة ما ذكره هناك: أنّ النفس مع وحدتها ذات منازل ودرجات ، ففي مرتبـة القوّة العاقلـة مثلاً تدرك في الفعل فائدة عائدة إليها ، وفي مرتبـة القوّة الشوقيـة ينبعث لها شوق إلى ذلك الفعل ، فإذا لم يجد مزاحماً ومانعاً ، يخرج ذلك الشوق من حدّ النقصان إلى حدّ الكمال الذي يعبّر عنـه با لقصد والإرادة ، فينبعث من هذا الشوق البا لغ حدّ نصاب الباعثيـة هيجان في مرتبـة القوّة العاملـة المنبثّـة في العضلات ، ومن الواضح أنّ الشوق وإن أمكن تعلّقـه بأمر استقبا لي إلاّ أنّ الإرادة ليس نفس الشوق بأيّـة مرتبـة كان ، بل الشوق البا لغ حدّ النصاب بحيث صارت القوّة الباعثـة باعثةً للفعل ، وحينئذ فلايتخلّف عن انبعاث القوّة العاملة وهيجانها لتحريك العضلات غير ا لمنفكّ عن حركتها ، ولذا قا لوا : إنّ الإرادة هو الجزء الأخير من العلّـة التامّـة لحركـة العضلات(2) .
فمن يقول بإمكان تعلّقها بأمر استقبا لي إن أراد حصول الإرادة التي هي علّـة تامّـة لحركـة العضلات إلاّ أنّ معلولها حصول الحركـة في ظرف كذا ، فهو عين انفكاك العلّـة عن المعلول .


1 ـ تشريح الاُصول: 191 / السطر 21.
2 ـ شرح المنظومـة، قسم الحكمـة: 294، الحكمـة المتعاليـة 6: 323، الهامش 1.

(الصفحة50)

وإن أراد أنّ ذات العلّـة ـ وهي الإرادة ـ موجودة من قبل إلاّ أنّ شرط تأثيرها ـ وهو حضور وقت المراد ـ حيث لم يكن موجوداً ما أثّرت العلّـة في حركـة العضلات .
ففيـه : أنّ حضور الوقت إن كان شرطاً في بلوغ الشوق إلى حدّ الكمال المعبّر عنـه بالإرادة ، فهو عين ما قلنا من أنّ حقيقـة الإرادة لا تنفكّ عن الانبعاث ، وإن كان شرطاً في تأثير الشوق البا لغ حدّ الإرادة الموجود من أوّل الأمر ، فهو غير معقول ; لأنّ عدم التأثير مع كون الشوق با لغاً إلى حدّ الباعثيـة لايعقل ; لعدم انفكاك البعث الفعلي عن الانبعاث ، فاجتماع البعث وعدم تحقّق الانبعاث ليس إلاّ كاجتماع المتناقضين .
وأمّا ما ذكر في المتن: من لزوم تعلّق الإرادة بأمر استقبا لي إذا كان المراد ذا مقدّمات كثيرة ، فإنّ إرادة مقدّماتـه منبعثـة عن إرادة ذيها قطعاً(1) ، فتوضيح الحال فيـه أنّ الشوق إلى المقدّمـة لابدّ من انبعاثـه من الشوق إلى ذيها ، لكن الشوق إلى ذيها لمّا لم يمكن وصولـه إلى حدّ الباعثيـة لتوقّف المراد على مقدّمات ، فلا محا لـة يقف في مرتبتـه إلى أن يمكن الوصول ، وهو بعد طيّ المقدّمات ، فا لشوق با لمقدّمـة لا مانع من بلوغـه إلى حدّ الباعثيـة الفعليـة ، بخلاف الشوق إلى ذيها ، وما هو المسلّم في باب التبعيـة تبعيّـة الشوق للشوق لا تبعيـة الجزء الأخير من العلّـة ، فإنّـه محال ، وإلاّ لزم إمّا انفكاك العلّـة عن المعلول أو تقدّمـه عليها .
هذا كلّـه في الإرادة التكوينيـة .
وأمّا الإرادة التشريعيـة: فهي عبارة عن إرادة فعل الغير منـه اختياراً وحيث إنّ المشتاق إليـه فعل الغير الصادر باختياره ، فلا محا لـة ليس بنفسـه تحت

1 ـ كفايـة الاُصول: 128 ـ 129.

(الصفحة51)

اختياره ، بل با لتسبيب إليـه بجعل الداعي إليـه ، وهو البعث نحوه ، فلا محا لـة ينبعث من الشوق إلى فعل الغير اختياراً الشوق إلى البعث نحوه ، فا لشوق المتعلّق بفعل الغير إذا بلغ مبلغاً ينبعث منـه الشوق نحو البعث الفعلي ، كان إرادةً تشريعيـة ، وإلاّ فلا ، ومعـه لايعقل البعث نحو أمر استقبا لي ; إذ لو فرض حصول جميع مقدّماتـه وانقياد المكلّف لأمر المولى ، لما أمكن انبعاثـه نحوه بهذا البعث ، فليس ما سمّيناه بعثاً في الحقيقـة بعثاً ولو إمكاناً .
ثمّ أورد على نفسـه ببعض الإيرادات مع الجواب عنها(1) لا مجال لنقلها .
ولايخفى أ نّـه يرد على ما ذكره في الإرادة التكوينيـة وجوه من الإيراد :
منها: أنّ ما ذكره من أنّ الإرادة هي المرتبـة الكاملـة من الشوق ، محلّ نظر ، بل منع ; فإنّ الشوق نظير المحبّـة والعشق من الاُمور الانفعا ليـة للنفس والإرادة بمنزلـة القوّة الفاعليـة لها ، ولايعقل أن يبلغ ما يكون من الاُمور الانفعا ليـة إلى مرتبـة الاُمور الفاعليـة ولو بلغ من الكمال ما بلغ ، فإنّ الكمال البا لغ إليـه إنّما هو الكمال في مرتبتـه ، لا انقلاب حقيقتـه إلى حقيقـة اُخرى ، وهذا من الاُمور الواضحـة المحقّقـة في محلّها(2) .
منها ـ وهي العمدة ـ : أنّ ما ذكره ـ بل اشتهر في الألسن وتكرّر في الكلمات ـ من أنّ الإرادة هي الجزء الأخير من العلّـة التامّـة ليس مبرهناً عليـه ، بل إنّما هو صرف ادّعاء لا دليل عليـه لو لم نقل بكون الوجدان شاهداً وقاضياً بخلافـه ، فإنّـه من الواضح أنّ الإرادة المتعلّقـة با لمراد فيما لو كان غير نفس تحريك العضلات ليست بعينها هي الإرادة المتعلّقـة بتحريك العضلات لأجل

1 ـ نهايـة الدرايـة 2: 72 ـ 80.
2 ـ الحكمـة المتعاليـة 1: 436 ـ 437، الطلب والإرادة، الإمام الخميني(قدس سره): 109، أنوار الهدايـة 1: 63.

(الصفحة52)

تحقّق ذلك المراد ، فالإرادة المتعلّقـة بشرب الماء ليست هي نفس الإرادة المتعلّقـة بتحريك العضلات نحو الإناء الواقع فيـه الماء ; لما قد حقّق في محلّـه من عدم إمكان تعلّق إرادة واحدة بمرادين ، وكذا لايجوز تعلّق إرادتين بمراد واحد ; ضرورة أنّ تشخّص الإرادة إنّما هو با لمراد ، كما قرّر في محلّـه(1) .
فإذا ثبتت تعدّد الإرادة، فنقول: إنّ الإرادة المتعلّقـة بتحريك العضلات هي التي تكون علّةً تامّة لحركتها ، لا لكون الإرادة علّةً لحصول كلّ مراد ، بل لأنّـه حيث تكون القوى مقهورةً للنفس محكومةً با لنسبة إليها ، فلا محا لة لا تتعصّى عن إطاعتها ، كما أ نّـه ربّما يعرض بعض تلك القوى ما يمنعـه عن الانقياد لها ، فربّما تريد تحريكها ومعـه لا تتحرّك لثبوت المزاحم .
وبا لجملـة فالإرادة لا تكون علّةً تامّة با لنسبة إلى كلّ مراد ، بل إنّما تكون كذلك فيما لو كان المراد تحريك قوى النفس مع كونها سليمةً عن الآفة وقابلةً للانقياد عنها ; لما عرفت من عدم التعصّي عنها ، وحينئذ فلو فرض أنّ النفس أراد تحريكها في الاستقبال فهل الانقياد لها يقتضي التحرّك في الحال أو في الاستقبال ؟
والحاصل: أنّ منشأ الحكم بامتناع تعلّق الإرادة بأمر استقبا لي هو كون الإرادة علّةً تامّة ، وبعدما عرفت من عدم كونها كذلك في جميع الموارد وفي موارد ثبوتها لاينافي كون المراد أمراً استقبا لياً كما عرفت ، لم يبق وجـه لامتناع انفكاك الإرادة عن المراد بعد وضوح إمكان تعلّق الإرادة بما هو كذلك .
منها: أنّ ما ذكره في مقام الجواب عن المتن من أ نّـه إذا كان المراد ذا مقدّمات كثيرة تكون المقدّمات تابعةً لذيها با لنسبة إلى الشوق لا الإرادة ، فيرد

1 ـ الحكمـة المتعاليـة 6: 423 ـ 424.

(الصفحة53)

عليـه ـ مضافاً إلى ما ذكرنا في محلّـه من أنّ الشوق ليس من مقدّمات الإرادة(1) ; لأنّ الإنسان كثيراً ما يريد بعض الأشياء مع عدم الاشتياق إليـه أصلاً ، بل ربّما ينزجر عنـه كمال الانزجار ، كشرب الدواء مثلاً ـ أ نّـه لو سلّمنا ذلك ، فلا نسلّم با لنسبـة إلى المقدّمات ; فإنّها لا تكون مشتاقاً إليها للمريد من حيث المقدّميـة أصلاً ، فكيف تتبع ذيها في الشوق ؟ !
هذا ، مضافاً إلى أ نّـه لو لم يكن الشوق في ذي المقدّمـة با لغاً إلى حدّ إرادتها ـ كما اعترف بـه ـ فكيف يمكن بلوغـه في المقدّمـة إلى حدّ الإرادة مع كونها مرادةً بوصف المقدّميـة ؟ ! كما لايخفى .
هذا با لنسبـة إلى ما ذكره في الإرادة التكوينيـة .
وأمّا ما ذكره في الإرادة التشريعيـة التي هي محلّ النزاع في المقام .
فيرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ البعث ليس لإيجاد الداعي للمكلّف إلى الفعل ، بل لإيجاد موضوع الإطاعـة والعصيان ـ أنّ امتناع انفكاك الانبعاث عن البعث الفعلي وإن كان غير قابل للمنع أصلاً إلاّ أ نّـه لو فرض أنّ العبد مبعوث إلى أمر استقبا لي ـ كما في المقام ـ فامتناع تخلّف الانبعاث إنّما هو في وقت حضوره .
وبا لجملـة ، فا لبعث إلى الأمر الفعلي يمتنع انفكاك الانبعاث الفعلي إليـه ، وأمّا البعث إلى الأمر الاستقبا لي فالانبعاث با لنسبـة إليـه يلحظ في زمان حضور وقت ذلك الأمر ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه ذكر بعض الأعاظم ـ على ما في التقريرات المنسوبـة إليها ـ في مقام امتناع الواجب المعلّق ما ملخّصـه : أنّ امتناعـه ليس لأجل استحا لـة تعلّق التكليف بأمر مستقبل ، كيف والواجبات الشرعيـة كلّها من هذا القبيل ، ولا لعدم

1 ـ الطلب والإرادة، الإمام الخميني(قدس سره): 39، أنوار الهدايـة 1: 63.

(الصفحة54)

إمكان تعلّق الإرادة بأمر مستقبل ، فإنّ إمكانـه بمكان من الوضوح بحيث لا مجال لإنكاره ، بل يستحيل أن لا تتعلّق الإرادة من الملتفت بـه إذا كان متعلّقاً لغرضـه ، كما هو واضح ، بل امتناعـه إنّما هو لكون الأحكام الشرعيـة إنّما هو على نهج القضايا الحقيقيـة ، ومعنى كون القضيّـة حقيقيّةً هو أخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقـه المفروضة الوجود موضوعاً للحكم ، فيكون كلّ حكم مشروطاً بوجود الموضوع بمالَـه من القيود من غير فرق بين أن يكون الحكم من الموقّتات أو غيرها ، غايتـه أنّ في الموقّتات يكون للموضوع قيد آخر سوى القيود المعتبرة في موضوعات سائر الأحكام من العقل والبلوغ والقدرة وغير ذلك .
وحينئذ ينبغي أن يسئل ممّن قال با لواجب المعلّق أ نّـه أيّ خصوصيـة با لنسبـة إلى الوقت حيث قلت بتقدّم الوجوب عليـه دون سائر القيود ؟
وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعـة في الحج والوقت في الصوم حيث كان وجوب الحج مشروطاً بها ولم يكن وجوب الصوم مشروطاً با لوقت ، فإن كان الملاك في الأوّل هو كونها مأخوذاً قيداً للموضوع ومفروض الوجود ، فا لوقت أيضاً كذلك ، بل الأمر فيـه أوضح ; لأنّـه لايمكن إلاّ أخذه مفروض الوجود ; لأنّـه أمر غير اختياري ، وكلّ ما هو كذلك لابدّ أن يؤخذ مفروض الوجود ، ويقع فوق دائرة الطلب ، ويكون التكليف با لنسبـة إليـه مشروطاً لا مطلقاً ، وإلاّ يلزم تكليف العاجز .
والحاصل: أنّ القول بتقدّم التكليف عليـه ـ كما هو الشأن في سائر القيود التي يتقدّم التكليف عليها ، كا لطهارة والساتر وغير ذلك ـ يستلزم محالاً في محال ; لأنّـه يلزم أوّلاً لزوم تحصيلـه ، كما في تلك القيود ، والمفروض عدم إمكان تحصيلـه ، وثانياً تحصيل الحاصل ; لاستلزامـه تحصيل ما هو مفروض الوجود .
وبا لجملـة دعوى إمكان الواجب المعلّق في القضايا الشرعيـة التي تكون

(الصفحة55)

على نهج القضايا الحقيقيـة في غايـة السقوط . هذه خلاصـة ما ذكره المحقّق النائيني على ما في التقريرات(1) .
ويتوجّـه عليـه ما عرفت سابقاً: من أنّ القيود على قسمين :
فإنّـه قد تتعلّق إرادة المريد با لصلاة في المسجد مثلاً بمعنى كون مراده هو هذا الأمر المقيّد لأجل دخا لـة القيد في حصول غرضـه ، فلا محا لـة يصير بصدد تحصيل مطلوبـه حتّى لو لم يكن المسجد موجوداً يريد بناءه حتّى يصلّي فيـه أو يأمر ببنائـه لذلك .
وقد تتعلّق إرادتـه با لصلاة على تقدير تحقّق المسجد بمعنى أ نّـه لايكون طا لباً لأصل الصلاة ومريداً لها لكن على تقدير وجود المسجد يرى نفسـه مجبوراً بالإتيان بها لبعض الجهات ، فربّما يتوصّل بأسباب مختلفـة ووسائط متعدّدة لأجل عدم تحقّق المسجد لعدم كونـه مشتاقاً إلى الصلاة مريداً لها أصلاً ولكن على تقدير تحقّقـه يجبر نفسـه على الإتيان بها فيـه ، ولهذا نظائر كثيرة ، فإنّـه قد تتعلّق إرادة الإنسان بضيافـة صديقـه مطلقاً ، فإنّـه لا محا لـة يصير بصدد تحصيل مقدّماتـه حتّى لو لم يكن في بلده يدعوه إليـه ، وقد تتعلّق إرادتـه بضيافتـه على تقدير مسافرتـه إلى بلد المضيف ونزولـه في منزلـه وغير ذلك من الأمثلـة الكثيرة .
ففي الصورة الاُولى من المثا لين لايكون القيد مفروض الوجود حتّى يكون التكليف متأخّراً عنـه وثابتاً على تقدير وجوده ، بل هو من القيود الواقعـة تحت دائرة الطلب لا فوقها لو كان أمراً مقدوراً للمكلّف ، كما أ نّـه لو لم يكن مقدوراً يكون التكليف ثابتاً قبلـه وإن لم يكن متوجّهاً إليـه أصلاً ، وهذا هو الفرق بين الاستطاعـة في الحجّ والوقت في الصوم .


1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 186 ـ 189.

(الصفحة56)

وما ذكره من لزوم تحصيل الحاصل ، ففيـه : أ نّـه لم يؤخذ مفروض الوجود حتّى يلزم ذلك ، كما عرفت .
وبا لجملـة فإمكان الواجب المعلّق في الشرعيات وإن كانت الأحكام على نهج القضايا الحقيقيـة بمكان من الوضوح ; لما عرفت من عدم الاستحا لـة بشيء من الوجوه التي ذكروها .
هذا كلّـه فيما لو علم رجوع القيد الواقع في الكلام إلى الهيئـة أو المادّة .

حول ما تردّد القيد بين رجوعـه إلى المادّة أو الهيئـة

ولو شكّ في رجوع القيد ودار الأمر بين رجوعـه إلى الهيئـة أو المادّة ولم يكن في اللّفظ ما يقتضي الرجوع إلى أحدهما معيّناً ، فقد قيل بترجيح تقييد المادّة وإبقاء إطلاق الهيئـة على حا لـه ; لأنّ الإطلاق في جانب الهيئـة يكون شمولياً ، بخلاف جانب المادّة ; فإنّ إطلاقها يكون بدلياً ، فإنّ قولك : أكرم زيداً إن جاءك ، لو كان القيد فيـه راجعاً إلى المادّة يكون وجوب الإكرام ثابتاً على جميع التقادير التي يمكن أن يكون تقديراً لـه ، كما أ نّـه لو رجع إلى الهيئـة يكون صرف وجود الإكرام واجباً ، وهذا معنى الشمول والبدليـة .
وا لظاهر أ نّـه لو دار الأمر بين تقييد الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي ، يكون الترجيح مع الثاني ; لأنّ الإطلاق البدلي لايشمل الفردين في حا لـة واحدة كما لايخفى(1) .
أقول: ينبغي أن نتكلّم في مقامين:


1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 215.

(الصفحة57)

الأوّل: فيما ذكروه في باب المطلق والمقيّد من معنى الإطلاق الشمولي والبدلي .
الثاني: في جريان ذلك في المقام على تقدير صحّتـه وعدم جريانـه .
أمّا الكلام في المقام الأوّل: فملخّصـه أنّ معنى الإطلاق ـ كما حقّق في محلّـه ـ عدم كون الكلام مقيّداً بقيد ، كما أنّ معنى المقيّد خلافـه(1) ، وحينئذ فإذا تكلّم بكلام مع عدم التقييد بقيد ، فيحمل على أنّ مراده هو المطلق ; لأنّ التكلّم من الأفعال الاختياريـة الصادرة عن المتكلّم كسائر أفعا لـه الاختياريـة ، فمع عدم التقييد يحمل على الإطلاق ; لأنّـه لو كان مراده المقيّد ، يلزم عليـه التقييد بعد كونـه فاعلاً مختاراً غير مكره ، ومعنى الإطلاق كما عرفت هو عدم التقييد ، فإذا قال : أعتق رقبـة ، ولم يقيّدها با لمؤمنـة ، فيحمل على أنّ مراده هو طبيعـة الرقبـة بمعنى أنّ مالَـه دخلٌ في تحقّق غرضـه هي هذه الطبيعـة المطلقـة المرسلـة غير المتقيّدة بقيد أصلاً ، وحينئذ فما ذكروه من الإطلاق الشمولي(2) لم يعلم لـه وجـه ; لأنّـه ليس في الإطلاق بما ذكرناه من المعنى شمول أصلاً ، فإنّ بين الشمول وبين كون الموضوع هي الطبيعـة مع عدم القيد بون بعيد فإنّـه فرق بين قولـه : أعتق كلّ رقبـة ، وقولـه : أعتق رقبـة ، فإنّ المطلوب في الأوّل هو ما يشمل جميع الأفراد ، بخلاف الثاني ; فإنّ المطلوب فيـه ليس إلاّ نفس الطبيعـة المرسلـة المحمولـة على الإطلاق من حيث صدورها من الفاعل المختار غير متقيّدة بقيد لا من حيث دلالـة اللّفظ عليـه .


1 ـ مناهج الوصول 2: 313.
2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 562.

(الصفحة58)

وبا لجملـة ، فليس في الطبيعـة المحمولـة على الإطلاق شمول أصلاً ; فإنّ لفظ الإنسان لايحكي إلاّ عن نفس طبيعتـه ، واتّحادها مع الأفراد في الخارج لايوجب كون اللّفظ موضوعاً بإزائها ، فإنّ مسأ لـة الوضع غير مسأ لـة الاتحاد في التحقّق ، فحمل لفظ الإنسان على إطلاقـه لايوجب إلاّ أن يكون المراد هي نفس طبيعتـه ، لا الشمول لأفراده بعد عدم كون اللّفظ موضوعاً بإزائها .
هذا في الإطلاق الشمولي ، وأمّا الإطلاق البدلي : فكذلك ، غايـة الأمر أنّ البدليـة تستفاد من دالّ آخر ، كا لتنوين في قولـه : أكرم عا لماً ، فإنّ لفظ «ا لعا لم» لايدلّ إلاّ على طبيعتـه ، والتنوين يدلّ على وحدتـه ، وتفصيل الكلام في محلّـه .
وأمّا الكلام في المقام الثاني: فملخّصـه أ نّـه ولو سلّمنا الإطلاق الشمولي با لمعنى الذي ذكروه ، فلا نسلّم جريانـه في المقام أصلاً ; فإنّ مرجع الإطلاق الشمولي إلى الاستغراق ، ولايعقل تعلّق البعث التأسيسي بطبيعـة واحدة متكرّراً ، كما أ نّـه لايعقل تعلّق إرادات متعدّدة بمراد واحد ; لأنّ تشخّص الإرادة إنّما هو با لمراد .
وبا لجملـة ، فمرجع الإطلاق الشمولي في جانب البعث إلى الأبعاث المتعدّدة ، ولايمكن أن يكون متعلّقها أمراً واحداً ، كما هو المفروض في المقام .
ثمّ إنّـه لو سلّم جريان الإطلاق الشمولي فيما نحن فيـه ، فما المرجّح لإبقائـه على حا لـه وتقييد الإطلاق البدلي ؟ بعدما عرفت من أنّ البدليّـة تستفاد من دالّ آخر ، كا لتنوين في المثال المتقدّم فإنّ قولك : أكرم عا لماً ، يحمل على الإطلاق ; لعدم كون القيد مذكوراً معـه بعد كون المتكلّم فاعلاً مختاراً ، وهذا بعينـه موجود في الإطلاق الشمولي ، غايـة الأمر أنّ التنوين يدلّ على البدليّـة في القسم الأوّل ، فلا ترجيح لتقييد أحد الإطلاقين على تقييد الآخر أصلاً ، كما لايخفى .


(الصفحة59)


الأمر السادس

في الواجب النفسي والغيري

وا لكلام فيـه يقع في مقامين :
الأوّل: في الإرادة المتعلّقـة بالأفعال أعمّ من إرادة الفاعل ، والأمر .
الثاني: في البعث الصادر منـه .
أمّا الكلام في المقام الأوّل: فملخّصـه أنّ إرادة الفاعل لا تتعلّق أوّلاً إلاّ بما هو محبوب لـه با لذات ومعشوق لـه بنفسـه ، والإرادات المتعلّقـة بمقدّمات حصول ذلك المحبوب الأوّلي إنّما هي في طول تلك الإرادة المتعلّقـة بـه ، ومتأخرة عنها ومترشّحـة منها ، لابمعنى كونها علّةً موجدة لها ، فإنّ ذلك لايعقل كما مرّ مراراً ، بل بمعنى أنّ تعلّق الاشتياق بمراداتها إنّما هو لتحصيل الغرض الأقصى والمطلوب الأوّلي .
وبا لجملـة ، فأكثر الإرادات المتعلّقـة بالأفعال الصادرة من البشر بل كلّها إنّما هو لتحصيل ما يكون مراداً با لذات ومشتاقاً إليـه بنفسـه ، وهي اللّذة والاستراحـة ، كما لايخفى ، وكذا يقال في إرادة الآمر بلا فرق بينهما أصلاً .
وأمّا الكلام في المقام الثاني: الذي هو المقصود بالأصا لـة في هذا المقام ، إذ التقسيم إنّما هو للواجب باعتبار الوجوب ، وقد عرفت أ نّـه لايكون عبارةً عن مجرّد الإرادة المظهرة ، بل إنّما هو عبارة عن البعث الصادر من الآمر ، فملخّصـه : أنّ البعث إلى شيء إن كان للتوصّل إلى حصول ما يكون متعلّقاً للبعث الآخر ، وبعبارة اُخرى : كان فوق هذا البعث بعث آخر يكون الغرض منـه التوصّل إلى حصول المبعوث إليـه با لبعث الأوّلي ، فهو واجب غيري ، وإن لم يكن الغرض

(الصفحة60)

ا لباعث الداعي على البعث الوصول إلى مبعوث إليـه ببعث آخر ، فا لواجب واجب نفسي .

مقتضى الأصل اللفظي في المقام

ثمّ إنّـه لو دار الأمر بينهما وتردّد بين أن يكون هو الواجب النفسي أو الغيري ولم يكن في البين ما يدلّ على أحدهما ، فقد يقال بأنّ مقتضى الإطلاق هو الحمل على الواجب النفسي ; لأنّ غيره يحتاج إلى خصوصيـة زائدة ، وهي كون المقصود منـه التوصّل إلى شيء آخر ، وأمّا النفسيـة فلايزيد على أصل الوجوب ، فالإطلاق يقتضي تعيينـه(1) .
وفيـه ما لايخفى من الضعف ; فإنّـه لا إشكال في أنّ الواجب النفسي والغيري قسمان لطبيعـة الواجب ، ولايعقل أن يكون أحد الأقسام عين المقسم ، بل لابدّ أن يكون لها خصوصيـة زائدة على أصل المقسم وجوديةً كانت أو عدميةً .
والذي ينبغي أن يقال: إنّـه حيث كانت الحجّـة من قِبَل المولى تامّةً غير محتاجـة إلى شيء آخر ، فهي قاطعـة للعذر با لنسبـة إلى العبد ، ويصحّ للمولى الاحتجاج بها عليـه ، فلا محا لـة تحتاج إلى الجواب ، كما مرّ نظيره في مبحث دلالـة صيغـة الأمر على الوجوب ، فلو قال : ائتني با لماء ، وشك في أنّ المقصود هو مجرّد تمكّنـه من الماء أو استعما لـه في الوضوء فتوضّأ ، فمجرّد احتمال أن يكون المقصود استعما لـه في الوضوء ، فلم يبق لـه موضوع لفرض التوضّي بماء آخر لايصحّح الاحتجاج بـه على المولى بعد تماميـة الحجّـة من قِبَلـه ، بل اللازم تحصيل الماء للمولى . نعم لايثبت بما ذكرنا كون الواجب واجباً نفسياً حتّى يترتّب


1 ـ مطارح الأنظار: 67 / السطر 10، كفايـة الاُصول: 136.
<<التالي الفهرس السابق>>