في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة181)

أمّا الكلام في الجهـة الاُولى فنقول: لا إشكال في ثبوت المضادّة والمنافرة بين مناطي الوجوب والتحريم كثبوت المضادّة بين أنفسهما ، بل الأوّل أولى ; لإمكان المناقشـة في التضادّ بين الأحكام ، كما سيجيء إن شاء اللّـه تعا لى .
ومن الواضح أنّ مناط الحكم وملاكـه إنّما يقوم با لموجود الخارجي ، ضرورة أنّ شرب الخمر المتحقّق في الواقع يكون ذا مفسدة لا عنوان شرب الخمر ، وحينئذ فيُسأل عن القائل بالامتناع ـ المستند في ذلك إلى ثبوت التضادّ بين الأحكام وأنّ متعلّق التكا ليف هو فعل المكلّف وما هو في الخارج يصدر عنـه وأنّ تعدّد العنوان لايوجب تعدّد المعنون وأنّ الموجود بوجود واحد لـه ماهيّـة واحدة ـ عن أ نّـه هل حامل المصلحـة والمفسدة في الوجود الخارجي هي الحيثيّـة الواقعيـة الواحدة أو الحيثيتين ؟ فإن قال بالأوّل ، فيردّه وضوح التضادّ بين المناطين ، وإن قال با لثاني ـ كما أ نّـه لابدّ من ذلك ـ فيرد عليـه سؤال الفرق بين المناط وبين نفس الحكم ، فإذا جاز قيام المصلحـة بحيثيّـة وقيام المفسدة بحيثيـة اُخرى ، فلِمَ لايجوز كون الأمر متعلّقاً با لحيثيـة الاُولى والنهي با لحيثيـة الثانيـة .
وبا لجملـة ، فلايجتمع القول بالامتناع نظراً إلى أ نّـه تكليف محال مع القول بكون المجمع مشتملاً على كلا المناطين ، فبعدما كان المفروض هو القول بالامتناع وتقديم جانب النهي لايبقى مجال للقول با لصحّـة أصلاً ولو قلنا بكفايـة الملاك في صحّـة العبادة وعدم احتياجها إلى تعلّق الأمر بها ، ضرورة أ نّـه بناءً على ما ذكرنا لايكون المجمع إلاّ مشتملاً على مناط التحريم فقط .
وأمّا الكلام في الجهـة الثانيـة، فنقول: لو سلّم كون المجمع واجداً للمناطين بناءً على القول بالامتناع ، فهل يكفي مناط الوجوب في صحّـة العبادة بعد فرض سقوط مناط التحريم عن التأثير ؟ وبعد فرض كفايـة المناط في صحّـة العبادة وعدم الافتقار إلى تعلّق الأمر بها أم لا ؟ قد يقال ـ كما في تقريرات المحقّق

(الصفحة182)

النائيني ـ با لعدم ; نظراً إلى أنّ تصحيح العبادة با لملاك إنّما يكون بعد الفراغ عن ثبوت حكمها وتشريعـه مطلقاً ، غايـة الأمر أ نّـه وقع التزاحم بين ذلك الحكم وبين حكم آخر في مقام الامتثال .
وخلاصـة كلامـه في هذا الباب: أنّ التزاحم قد يكون بين الحكمين ، وقد يكون بين المقتضيين ، مثل مورد الاجتماع ، بناء على القول بالامتناع ، وبينهما بون بعيد ; فإنّ تزاحم الحكمين إنّما يكون في مقام الفعليّـة وتحقّق الموضوع بعد الفراغ عن تشريعهما على طبق موضوعاتهما المقدّر وجودها ، وفي هذا القسم من التزاحم يكون لعلم المكلّف وجهلـه دخلٌ حيث إنّ الحكم المجهول لايصلح أن يكون مزاحماً لغيره ، فإنّـه لايكون شاغلاً لنفسـه ، فبأن لايكون شاغلاً عن غيره أولى .
وأمّا تزاحم المقتضيين فإنّما يكون في مقام الجعل والتشريع حيث يتزاحم المقتضيان في نفس الآمر وإرادتـه ، ويقع الكسر والانكسار بينهما في ذلك المقام ، ويكون لعلم الآمر وجهلـه دخل في تزاحم المقتضيين حيث لو يعلم الآمر بثبوتهما لايعقل أن يقع التزاحم بينهما ، وعلم المكلّف وجهلـه أجنبي عن ذلك ; فإنّ عا لم الجعل والتشريع إنّما يكون بيد الآمر ، والمأمور أجنبي عنـه ، كما أنّ عا لم الامتثال إنّما يكون بيد المكلّف ، والآمر أجنبي عنـه .
وا لحاصل أ نّـه بناءً على الامتناع تندرج المسأ لـة في صغرى التعارض ; للزوم تعلّق الأمر حينئذ بعين ما تعلّق بـه النهي ، واستلزامـه اجتماع الضدّين في واحد شخصي عدداً وهويّةً ، وعليـه لابدّ من إعمال قواعد التعارض ، ومع ترجيح جانب النهي لم يبق مجال للقول با لصحّـة أصلاً ; لما عرفت من أنّ في هذا الباب لا دخل لعلم المكلّف وجهلـه أصلاً .
وتوهّم أنّ الصحّـة عند الجهل إنّما هي لوجود الملاك والمقتضي ، مدفوع :

(الصفحة183)

بأنّ الملاك المغلوب بما هو أقوى منـه والمكسور بغيره في عا لم الجعل والتشريع لايصلح أن يكون موجباً للصحّـة ، فإنّ الموجب لها هو الملاك التامّ الذي لايكون مكسوراً بما هو أقوى منـه في عا لم التشريع(1) انتهى ملخّص كلامـه .
ولكن لايخفى: أنّ المراد بوقوع الكسر والانكسار بين الملاكين ليس صيرورة الملاك المسكور والمغلوب معدوماً في مقابل الملاك الغا لب بحيث يكون الفعل مع تلك الغلبـة مشتملاً على ملاك الغا لب فقط ، بل المراد كونـه جامعاً لكلا الملاكين ، غايـة الأمر أنّ أقوائيـة ملاك الغا لب صار مانعاً من تشريع الحكم على طبق الملاك المغلوب ، وحينئذ فيرد عليـه سؤال الفرق بين صورتي التزاحم ، أي : التزاحم بين الحكمين والتزاحم بين المقتضيين ، فإن قال في الجواب : بأنّ في الثاني يرجع التقييد إلى مقام الثبوت والواقع بمعنى أ نّـه يكون المأمور بـه مثلاً حينئذ في المقام بناءً على الامتناع وترجيح جانب النهي هي الصلاة المقيّدة بما عدا الفرد المجامع للغصب ، بخلاف الأوّل ; فإنّ سقوط الأمر با لمهم مثلاً إنّما هو لعدم إمكان امتثا لهما بعد الفراغ عن تشريعهما مطلقاً ، فيرد عليـه : أنّ السقوط لابدّ أن يرجع إلى التقييد ، فإن قال : إنّ التقييد في تزاحم المقتضيين إنّما هو في مقام جعل الحكم الإنشائي ، بخلاف تزاحم الحكمين ، فإنّ التقييد إنّما هو في مقام فعليـة الحكم ، فيقال عليـه : إنّـه لا نسلّم رجوع التقييد في تزاحم المقتضيين إلى مقام جعل الحكم الإنشائي .
ودعوى : أنّ إطلاق الحكم فيـه يستلزم اللغويـة ، مدفوعـة : بمنع لزومها بعد ظهور ثمرتـه في صورة الجهل .
وكيف كان فبعد كون ملاك الأمر تامّاً بمعنى كونـه صا لحاً لتعلّق الأمر بـه لو

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 431 ـ 433.

(الصفحة184)

لم يمنع عنـه مانع لايبقى مجال للإشكال في صحّـة الصلاة بناءً على هذا القول الفاسد لو قيل باشتما لها على الملاك وبكفايـة الملاك في صحّـة العبادة .
ولكنّك عرفت أنّ المقدّمـة الاُولى ممنوعـة .
ومن هنا انقدح: أ نّـه لايمكن أن يستكشف من مجرّد حكم المشهور با لصحّـة في موارد العذر أ نّهم قائلون با لجواز ; نظراً إلى أ نّـه بناء على الامتناع تكون الصلاة فاسدةً مطلقاً ، فإنّك عرفت أنّ الحكم با لصحّـة لاينافي القول بالامتناع ، فتأمّل جيّداً .

الأمرالسابع: شمول النزاع للعنوانين بينهما عموم وخصوص مطلقاً

لا إشكال في دخول العامّين من وجـه في الجملـة في مورد النزاع ومحلّ البحث ، كما أ نّـه لا إشكال في خروج المتبائنين عنـه ; لعدم شمول ظاهر عنوان النزاع لـه ، مضافاً إلى وضوح إمكان تعلّق الأمر بشيء والنهي بمبائنـه ، وكذلك لا إشكال أيضاً في خروج المتساويين عن محلّ النزاع وإن كان ظاهر العنوان التعميم ; ضرورة استحا لـة تعلّق الأمر والنهي بهما ، إنّما الإشكال والكلام في دخول العامّين مطلقاً ، فقد يقال با لخروج ، كما عن المحقّقين : القمّي والنائيني(1)وجماعـة اُخرى ، وقد يقال با لدخول ، كما عن صاحب الفصول(قدس سره)(2) .
والتحقيق أن يقال: إنّ العامّين مطلقاً على قسمين : قسم لايكون عنوان العامّ مأخوذاً في عنوان الخاصّ ومفهومـه ، بل مفهومهما متغايران ، غايـة الأمر أنّ

1 ـ قوانين الاُصول 1 : 153 ـ 154 ، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 410 .
2 ـ الفصول الغرويّـة: 125 / السطر 8 ـ 10.

(الصفحة185)

المفهومين متصادقان في الخارج تصادقاً كلّيّاً من جانب الخصوص وجزئيّاً من جانب العموم ، وقسم يكون مفهوم العامّ مأخوذاً في عنوان الخاصّ ، وهو الذي يعبّر عنـه با لمطلق والمقيّد ، كا لصلاة المأخوذة في عنوان الصلاة في الدار الغصبيـة ، وظاهر العبارة المحكيـة عن صاحب الفصول بل صريحها دخول القسم الأوّل فقط في مورد النزاع ، والحقّ دخول القسمين معاً .
أمّا القسم الأوّل: فلأنّـه بعد فرض كون العنوانين متغايرين لايبقى فرق بينـه وبين العامّين من وجـه ; ضرورة أ نّـه لو كان مجرّد التصادق الموجود الخارجي مانعاً عن تعلّق الأمر والنهي با لمفهومين المتصادقين ، فهذه العلّـة مشتركـة بينـه وبين العامّين من وجـه ولو لم يكن ذلك مانعاً باعتبار أنّ متعلّق الحكم إنّما هو نفس العناوين والمفاهيم ، فبعد فرض ثبوت التغاير بين العنوانين في المقام لايبقى مجال لتوهّم الفرق أصلاً ، كما هو واضح .
وأمّا القسم الثاني: فقد يقال بخروجـه عن محلّ البحث ; نظراً إلى سرايـة حكم المطلق إلى المقيّد ; فإنّ المطلق المأخوذ متعلّقاً للحكم ليس ما يكون قيد الإطلاق جزءاً لـه ومأخوذاً فيـه ، بل المراد هي الطبيعـة المجرّدة اللاّبشرط ، وحينئذ فيسري حكمها إلى المقيّد .
والحاصل: أنّ الحكم المتعلّق با لمقيّد وإن لم يكن سارياً من متعلّقـه إلى المطلق إلاّ أنّ حكم المطلق يسري إلى المقيّد ; إذ ليس المطلق منافياً لـه ، والسرايـة من طرف واحد تكفي في ثبوت استحا لـة الاجتماع ، كما لايخفى .
ولكن لايذهب عليك أنّ اتّحاد المطلق والمقيّد إنّما يكون بحسب الخارج ، وأمّا بحسب المفهوم فهما متغايران ، ضرورة تغاير مفهوم طبيعـة الصلاة مع مفهوم الصلاة في الدار الغصبيـة ، وحينئذ فلايبقى مجال للإشكال في دخولـه في محلّ النزاع ; لأنّ الضابط فيـه هو كلّ عنوانين متغايرين المتصادقين على وجود

(الصفحة186)

خارجي ، وهذا المعنى متحقّق في ا لمطلق والمقيّد ، فا لحق دخول كلاا لقسمين في مورد البحث .
وأمّا العامّان من وجـه فقد يقال: بأنّ دخولـه في محلّ النزاع ليس على الإطلاق ، بل الظاهر اشتراطـه ببعض القيود ، وهو أن تكون هذه النسبـة متحقّقةً بين نفس الفعلين الصادرين عن المكلّف بإرادة واختيار من دون واسطـة مع كون التركيب بينهما انضماميّاً لا اتّحاديّاً ، وأمّا إذا كانت النسبـة ثابتةً بين الموضوعين ، كما في العا لم والفاسق في مثل قولـه : أكرم العا لم ، ولا تكرم الفاسق ، فهو خارج عن محلّ البحث ; لأنّ التركيب في مثل ذلك يكون على جهـة الاتّحاد ، ويكون متعلّق الأمر بعينـه هو متعلّق النهي ، بل هو مندرج في باب التعارض ، كما أ نّـه ليس من مسأ لـة الاجتماع ما إذا كانت النسبـة بين العناوين المتولّدة من الفعل الصادر عن المكلّف كما لو قام في المثال المتقدّم بقصد تعظيم العا لم والفاسق معاً ، فإنّ القيام فعل واحد تولّد من إكرام العا لم المأمور بـه وإكرام الفاسق المنهي عنـه .
ووجـه خروجـه عن محلّ النزاع: أ نّـه لمّا كانت تلك العناوين من المسبّبات التوليديّـة التي لم تتعلّق إرادة المكلّف بها أوّلاً وبا لذات ; لكونها غير مقدورة لـه بلاواسطـة ، فلا جرم يكون متعلّق التكليف هو السبب الذي يتولّد منـه ذلك ، ومن المعلوم أ نّـه فعل واحد با لحقيقـة والهويّـة ، فلايمكن أن يتعلّق بها الحكمان ، بل نفس كون النسبـة بين الفعلين الصادرين من المكلّف العموم من وجـه لايكفي ما لم يكن التركيب انضماميّاً ، فمثل قولـه : اشرب الماء ولا تغصب ، فيما إذا شرب الماء المغصوب خارج عن مورد النزاع ; فإنّ شرب الماء بنفسـه يكون مصداقاً لكلٍّ من متعلّقي الأمر والنهي ، ولابدّ في مثل ذلك من إعمال قواعد التعارض ، وهذا بخلاف شرب الماء المباح في المكان المغصوب ; فإنّـه من مسأ لـة الاجتماع ، كما لايخفى .


(الصفحة187)

وا لسرّ في ذلك هو : أنّ كلاّ من الأمر والنهي تعلّق بموضوع خارجي ففيما إذا كان التركيب اتّحادياً يلزم أن يتعلّق كلٌّ منهما بعين ما تعلّق بـه الآخر ، وهذا ممّا لاشكّ في استحا لتـه(1) . انتهى ملخّص ما في تقريرات المحقّق النائيني .
وأنت خبير بعدم تماميّـة كلامـه.
أمّا اعتبار كون التركيب اتّحادياً : فلأنّ الوجـه فيـه ـ كما اعترف بـه(قدس سره)ـ هو : أنّ الأمر والنهي إنّما يتعلّق كلّ واحد منهما بموضوع خارجي ، ونحن سنبيّن فساد ذلك مفصّلاً ، فانتظر .
وأمّا كون متعلّق التكا ليف في العناوين التوليديـة هي السبب الذي يتولّد منـه : فقد عرفت سابقاً أ نّـه لا وجـه لصرف الأمر عن المسبّب بعد كونـه مقدوراً ولو مع الواسطـة ; إذ هذا المقدار من المقدوريـة كاف في تصحيح تعلّق التكليف بـه .
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أنّ العامّين من وجـه مطلقاً وكذا العامّين مطلقاً بقسميـه داخل في محلّ النزاع .

التحقيق في جواز الاجتماع

إذا عرفت هذه الاُمور ، فاعلم أنّ الأقوى في المسأ لـة هو القول با لجواز ، وتحقيق ذلك يتمّ برسم مقدّمات :
المقدّمـة الاُولى: أنّ الحكم الوجوبي أو التحريمي المتعلّق إلى طبيعـة لايسري منها إلى مقارناتـه الوجوديـة وملازماتـه العينيـة ، ضرورة أنّ تعلّق

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 410 ـ 412.

(الصفحة188)

الحكم بها إنّما هو لأجل الملاك المتحقّق فيها ; إذ لايعقل أن يصدر من الحاكم حكم متعلّق بشيء من دون أن يكون ملاك ذلك الحكم متحقّقاً فيـه .
وهذا نظير الإرادة التكوينيـة المتعلّقـة بالأفعال الخارجيـة ، فإنّـه كما لايعقل تعلّق الإرادة بشيء من دون حصول مبادئها من تصوّر ذلك الشيء والتصديق بفائدتـه وغيرهما فكذلك لايعقل البعث إليـه مثلاً من دون أن يكون فيـه خصوصيـة مقتضيـة لـه وحيثيـة موجبـة لتحقّقـه ، وحينئذ فبعدما كان المفروض أنّ المقارنات الوجوديـة والملازمات العينيـة ممّا لا مدخليـة لها أصلاً في ثبوت الملاك المقتضي للبعث أو الزجر ، ضرورة أ نّـه لو كان كذلك لكانت الطبيعـة متقيّدةً بها متعلّقـة للأمر أو النهي ، والمفروض خلافـه ، فلايبقى مجال لتوهّم سرايـة الحكم من الطبيعـة إليها أصلاً ، كما هو أوضح من أن يخفى .
المقدّمـة الثانيـة: أنّ معنى الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ سريان الحكم إلى جميع الخصوصيات والأفراد بحيث كان معنى قولـه : أعتق رقبـة ، مثلاً راجعاً إلى قولـه : أعتق رقبـة سواء كانت مؤمنـة أو فاسقـة ; لأنّـه ـ مضافاً إلى أ نّـه لو كان معنى الإطلاق ذلك يلزم عدم الفرق بينـه وبين العموم كما لايخفى ـ يرد عليـه : أ نّـه لايعقل أن تكون الطبيعـة مرآةً للخصوصيّات وحاكيةً لها ، ضرورة ثبوت المبائنة بينها وبين تلك الخصوصيات في عا لم المفهوم ، فكيف يمكن أن يكون لفظ الإنسان مثلاً حاكياً عن الطول والقصر مثلاً مع أ نّهما مفهومان متغايران .
فا لتحقيق أنّ لفظ الإنسان لايحكي إلاّ عمّا جعل ذلك اللّفظ موضوعاً بإزائـه ، وهو طبيعـة الإنسانيـة ، بل الإطلاق عبارة عن عدم مدخليـة شيء من القيود في متعلّق الحكم ، فإنّ المتكلّم المختار بعدما فرض كونـه بصدد بيان تمام متعلّق حكمـه ومع ذلك لم يأخذ شيئاً من الخصوصيات ليستكشف العقل أنّ هذا تمام موضوع حكمـه ، ولا مدخليـة لشيء آخر فيـه أصلاً ، ففي الحقيقـة لايكون

(الصفحة189)

الإطلاق من الدلالات اللفظيـة ، بل من الدلالات العقليـة ، نظير حكم العقل بكون معنى اللّفظ الصادر من المتكلّم المختار مراداً لـه .
وبا لجملـة ، فالإطلاق عبارة عن تماميـة ما جعل متعلّقاً للحكم من حيث كونـه متعلّقاً لـه بمعنى عدم مدخليـة شيء آخر فيـه ، وأين هذا ممّا ذكر من أ نّـه عبارة عن ملاحظـة الشمول والسريان ، وقد عرفت ما فيـه .
وما اشتهر بينهم من أنّ الطبيعـة اللا بشرط يجتمع مع ألف شرط ليس معناه اتّحادها مع الشروط في عا لم المفهوميـة بحيث تكون حاكيةً لها وكاشفةً عنها ، بل معناه عدم إبائها عن اتّحاد بعض المفاهيم الاُخر معها في عا لم الوجود الذي هو جامع العناوين المختلفـة والمفاهيم المتشتّتـة ، وإلاّ فكيف يمكن أن يكشف بعض المفاهيم عن البعض الآخر في عا لم المفهوميـة مع ثبوت الاختلاف بينهما ، كما هو واضح .
المقدّمـة الثالثـة ـ التي هي العمدة في هذا الباب ـ: أنّ متعلّق التكا ليف والأحكام إنّما هي نفس الطبائع والعناوين ، لا الطبيعـة الموجودة في العين ولا الماهيّـة المتحقّقـة في الذهن ، فاتّصافها بكونها موجودةً في الذهن أو الخارج خارج عن مرحلـة تعلّق الأحكام بها ، نظير سائر الأحكام الطارئـة على الطبائع من الكلّيـة والاشتراك ونحوهما ، ضرورة أنّ الطبيعـة الموجودة في الخارج لايعقل أن تتّصف با لكلّيـة ; لإبائها عن الصدق على الكثيرين ، وكذا الطبيعـة بوصف وجودها في الذهن ، بداهـة أ نّها أيضاً تكون جزئيّاً غير قابل للصدق واتّصافها بوصف الكلّيـة والاشتراك ونحوهما وإن كان في الذهن إلاّ أ نّـه لاينافي ذلك كون المعروض لهما إنّما هي نفس الطبيعـة بلا ملاحظـة وجودها الذهني ، ضرورة أ نّـه بمجرّد تصوّرها يحمل عليـه تلك الأحكام ، ولو كان اتّصافها با لوجود الذهني دخيلاً في هذا الحمل ، لاحتاج إلى تصوّر آخر متعلّقاً با لطبيعـة متقيّدة

(الصفحة190)

بكونها متصوّرة با لتصوّر الأوّلي ; إذ التصوّر الأوّل إنّما تعلّق بنفس الطبيعـة فقط ، ولايعقل أن يتعلّق بها مع وصف كونها متصوّرةً بهذا التصوّر ، كما هو واضح .
وكيف كان فلا إشكال في كون المعروض لوصف الكلّيـة والاشتراك ونحوهما إنّما هي الطبيعـة المجرّدة عن الوجود العيني والذهني ، وإنّما الإشكال في متعلّق الأحكام وأ نّـه هل متعلّقاتها هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين وإن كان ظرف التعلّق الذهن ، نظير الكلّيـة المعروضـة لها في الذهن ولكن لم يكن ذلك مأخوذاً على نحو القضيـة الشرطيـة ، بل على نحو القضيـة الحينيّـة ، وإلاّ لما كان يعرض لها بمجرّد تصوّرها ووجودها في الذهن ; إذ لايمكن في هذا اللحاظ تصوّر تعلّق اللحاظ بها أيضاً ، كما هو واضح ، أو أنّ متعلّقات الأحكام هي الطبائع المتّصفـة با لوجود الذهني ، أو أنّ متعلّقاتها هي الطبائع المنصبغـة بصبغـة الوجود الخارجي ؟ وجوه .
وا لتحقيق يقضي بأنّ معروض الأحكام هو بعينـه معروض الكلّيـة والاشتراك ونحوهما من لوازم نفس الماهيّات مع قطع النظر عن الوجودين ، وذلك لأنّـه لو كانت الأحكام متعلّقةً با لطبائع مع اتّصافها بوجودها في الذهن ، لكان امتثا لها ممتنعاً ; إذ لايعقل انطباق الموجود في الذهن بوصف كونـه موجوداً فيـه على الخارج ; لأنّـه أيضاً نظير الموجودات الخارجيـة يكون جزئيّاً ومتشخّصاً ، ولازمـه الإباء عن الصدق ، كما هو واضح .
ولو كانت الأحكام موضوعاتها هي الطبائع الموجودة في الخارج يلزم أن يكون تحقّقها متوقّفاً على وجودها في الخارج ; إذ لايعقل تقدّم الحكم على متعلّقـه ، ومن الواضح أنّ الغرض من البعث مثلاً إنّما هو انبعاث المكلّف بعد العلم بـه وبما يترتّب على مخا لفتـه من استحقاق العقوبـة وعلى موافقتـه من استحقاق المثوبـة ويتحرّك عضلاتـه نحو المبعوث إليـه ، فا لبعث متقدّم على الانبعاث

(الصفحة191)

المتقدّم على تحقّق المبعوث إليـه ، فكيف يمكن أن يكون متأخّراً عنـه مع استلزام ذلك للّغويـة ; لأنّـه بعد تحقّق المبعوث إليـه المشتمل على المصلحـة التي هي الباعثـة على تعلّق البعث بـه يكون طلبـه تحصيلاً للحاصل في الأوامر ، وبعد تحقّق المزجور عنـه في النواهي يكون الزجر عنـه مستلزماً لطلب أعدام ما هو حاصل بنحو لم يحصل ، وكلاهما مستحيل بداهـة ، ولعمري أنّ سخافـة هذا الاحتمال الذي هو ظاهر بعض الأعلام(1) ممّا لا تكاد تخفى على عاقل فضلاً عن فاضل ، فلم يبق في البين إلاّ الالتزام بكون موضوعات الأحكام هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين ، والأغراض وإن كانت مترتّبةً على الوجودات الخارجية إلاّ أ نّـه يتوصّل المولى إلى تحصيلها بسبب البعث إلى نفس الطبيعـة ; إذ لايتحقّق الانبعاث منـه ولايحصل موافقتـه إلاّ بإيجاد المبعوث إليـه في الخارج ، والتأمّل في الأوامر العرفيـة الصادرة من الموا لي با لنسبـة إلى عبيدهم يقضي بأنّ المولى في مقام إصدار الأمر لاينظر إلاّ إلى نفس الطبيعـة من دون توجّـه إلى الخصوصيّات المقارنـة لها في الوجود الغير المنفكّـة عنها ، ويبعث العبد نحوها ، غايـة الأمر أنّ تحصيل الموافقـة يتوقّف على إيجاد مطلوب المولى في الخارج وإخراجـه من كتم العدم إلى صفحـة الوجود .
وما اشتهر بينهم من التمسّك بقول أهل المعقول: الماهيّـة من حيث هي ليست إلاّ هي لا موجودة ولا معدومـة ولا مطلوبـة ولا غير مطلوبـة لإثبات أنّ نفس الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين لايمكن أن يتعلّق بها الحكم ; لأنّها ليست إلاّ هي ، كما أ نّها لا تكون كلّيـة ; لأنّها من حيث هي لا تكون كلّيةً ولا جزئيةً ، ولذا التجأ بعض المجوّزين في المقام إلى أنّ متعلّق الأحكام إنّما هي

1 ـ الفصول الغرويّـة: 126 / السطر 7 ـ 10.

(الصفحة192)

ا لماهيّـة المتّصفـة بوصف الوجود الكلّي(1) ، غفلـة وذهول عن فهم مرادهم من هذا القول ، فإنّ مرادهم منـه ـ كما هو صريح كلامهم ـ أنّ الماهيّـة في مرتبـة ذاتها لايكون الوجود محمولاً عليها با لحمل الأوّلي ، وكذا العدم بمعنى أ نّهما لايكونان عين ذات الماهيّـة ولا جزءها ، وهكذا المطلوبيّـة واللاّ مطلوبيـة ، والكلّيـة والجزئيـة ، والوحدة والكثرة ، وجميع الصفات المتضادّة أو المتناقضـة ، فإنّها بأجمعها منتفيـة عن مرتبـة ذات الماهيّـة ، ولايكون شيء منها عين الماهيّـة ولا جزءها ، وإلاّ فكيف يمكن أن يرتفع عنها المتناقضان وكذا الضدّان لا ثا لث لهما في مقام الحمل الشائع الصناعي ، وحينئذ فلا منافاة بين أن لايكون وصف الكلّيـة مأخوذاً في ذاتيات الماهيّـة بحيث يكون عينها أو جزءها وبين أن يكون المعروض لـه هي نفس الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين ، كما هو مقتضى التحقيق ; ضرورة أ نّـه بمجرّد تصوّرها مجرّدةً عن كافّـة الوجودات ينتقل الذهن إلى أ نّها كلّيـة غير آبيـة عن الصدق .
وهكذا مسأ لـة تعلّق الأحكام بنفس الطبائع لا تنافي كونها خارجةً عن مرتبـة ذاتها ، فالاستدلال لنفي تعلّقها بنفس الطبائع بهذه القاعدة الغير المرتبطـة بهذه المسأ لـة أصلاً في غير محلّـه .
وكيف كان فلا مناص إلاّ عن الالتزام بما ذكرنا من أنّ متعلّقات الأحكام هي نفس الطبائع ، ضرورة أنّ البعث إنّما هو لغرض إيجاد ما لم يكن موجوداً بعدُ ، ومن المعلوم أ نّـه ليس هنا شيء كان متّصفاً با لعدم قبل إيجاد المكلّف ، فصار متّصفاً با لوجود بعد إيجاده ، إلاّ الماهيّـة المحفوظـة في كلتا الحا لتين ; لأنّ الوجودين : العيني والذهني لاينقلبان عمّا هما عليـه ، كما هو واضح .


1 ـ الفصول الغرويّـة: 125 / السطر 16.

(الصفحة193)

فانقدح من جميع ما ذكرنا: بطلان المقدّمـة الثانيـة من المقدّمات التي مهّدها في الكفايـة لإثبات الامتناع ، الراجعـة إلى أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف ، وما هو في الخارج يصدر عنـه وهو فاعلـه وجاعلـه(1) ، إذ قد عرفت بما لا مزيد عليـه أ نّـه لايعقل أن تتعلّق الأحكام با لوجودات الخارجيـة ، وأنّ متعلّقها إنّما هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين .
وممّا ذكرنا يظهر أيضاً: أنّ الاستدلال ـ كما في تقريرات المحقّق النائيني(قدس سره)ـ على إثبات الجواز بثبوت التعدّد بين المتعلّقين في الخارج ، وكون التركيب بينهما انضماميّاً لا اتّحادياً ; نظراً إلى أ نّـه لو سلّم اتّحاد المتعلّقين في الخارج ، وكون التركيب بينهما اتّحادياً لايبقى مجال لدعوى تغاير متعلّق الأمر والنهي أصلاً(2) ، ليس بصحيح ; لما عرفت من أنّ متعلّق الأمر والنهي إنّما هي نفس ا لطبائع ، وهي مختلفـة في عا لم المفهوميـة ، ولا اتّحاد بينهما ، سواء كان التركيب بينهما في الخارج اتّحادياً أو انضماميّاً ، بل نقول : إنّ مورد النزاع بينهم هو ما إذا كان الموجود الخارجي بتمام هويّتـه مصداقاً للطبيعـة المأمور بها وللطبيعـة المنهيّ عنها ; لأنّـه مع فرض كون التركيب انضماميّاً لايبقى مجال للنزاع في الجواز والامتناع أصلاً ; إذ يصير حينئذ القول با لجواز من البديهيّات التي لايعتريها ريب ، نظير تعلّق الأمر با لصلاة ، والنهي با لزنا مثلاً ، كما لايخفى .
وإذا تمهّد لك هذه المقدّمات: تعرف أنّ مقتضى التحقيق هو القول با لجواز ; لعدم اجتماع الأمر والنهي في شيء أصلاً ; لأنّ في مرحلـة تعلّق الأحكام لا إشكال في اختلاف متعلّق الأمر والنهي ; لوضوح المغايرة بين المفاهيم في عا لم

1 ـ كفايـة الاُصول: 193.
2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 424 ـ 425.

(الصفحة194)

ا لمفهوميـة ، وفي مرحلـة التحقّق في الخارج التي يجتمع فيها المتعلّقان لا إشكال في عدم كونهما مأموراً بـه ومنهيّاً عنـه ; لأنّ الخارج ظرف الامتثال لا ظرف ثبوت التكليف ، كما عرفت بما لا مزيد عليـه ، فأين يلزم الاجتماع ؟

حول استدلال القائلين بالامتناع

استدلّ القائلون بالامتناع على اُمور :

الأمر الأوّل: لزوم اجتماع الأمر والنهي

ومنـه ظهر بطلان استدلال القائلين بالامتناع بأنّ لازم القول با لجواز اجتماع الأمر والنهي ـ مع كونهما متضادّين ـ على شيء واحد ; إذ لو سلّمنا ثبوت التضادّ بين الأحكام ولكن ذلك فرع اجتماعها في شيء واحد ، وقد عرفت أ نّـه لايلزم الاجتماع أصلاً .

الأمر الثاني: لزوم اجتماع الحبّ والبغض وغيرهما

وأمّا استدلالهم على الامتناع بلزوم تعلّق الحبّ والبغض وكذا الإرادة والكراهـة بشيء واحد ولزوم كونـه ذا مصلحـة ملزمـة ومفسدة كذلك معاً مع وضوح التضادّ بين هذه الأوصاف ، فيرد عليـه : أنّ المحبوبيـة والمبغوضيـة ليستا من الأوصاف الحقيقيـة للأشياء الخارجيـة ، نظير السواد والبياض وغيرهما من الأعراض الخارجيـة ، كيف ولازم ذلك استحا لـة كون شيء واحد في آن واحد مبغوضاً لشخص ومحبوباً لشخص آخر ، كما أ نّـه يستحيل أن يتّصف الجسم الخارجي با لسواد والبياض معاً في آن واحد ولو من ناحيـة شخصين بداهـة ، بل

(الصفحة195)

ولازمـه عدم اتّصاف الفعل قبل وجوده الخارجي بشيء منهما ، نظير أ نّـه لايعقل أن يتّصف الجسم با لسواد مثلاً قبل تحقّقـه في الخارج ، بداهـة أ نّـه يستحيل أن يوجد الوصف الحقيقي قبل تحقّق موصوفـه ، ومن المعلوم في المقام أنّ الاتّصاف با لمحبوبيـة قبل وجود المحبوب وتحقّقـه في الخارج ، بل كثيراً ما يكون الداعي والمحرِّك إلى إيجاده في الخارج إنّما هو تعلّق الحبّ بـه ، وكونـه متّصفاً با لمحبوبيّـة .
وكيف كان فهذا المعنى ممّا لايتّكل إليـه أصلاً ، بل المحبوبيّـة والمبغوضيّـة وصفان اعتباريان ينتزعان من تعلّق الحبّ والبغض با لصورة الحاكيـة عن المحبوب والمبغوض .
توضيح ذلك : أ نّـه لا إشكال في أنّ الحبّ وكذا البغض إنّما يكون من الأوصاف النفسانيـة القائمـة با لنفس ، وحيث إنّ تحقّقـه في النفس بنحو الإطلاق غير مضاف إلى شيء ممّا لايعقل ، فلا محا لـة يحتاج في تحقّقـه إلى متعلّق مضاف إليـه ومشخّص يتشخّص بـه ، ولايعقل أن يكون ذلك المشخّص هو الموجود الخارجي ; لأنّـه يستحيل أن يكون الأمر الخارج عن النفس مشخّصاً للصفـة القائمـة بها ، كما هو واضح .
مضافاً إلى ما عرفت من أنّ المحبوب ـ أي الفعل الخارجي ـ إنّما يكون محبوباً قبل تحقّقـه ووجوده في الخارج ، فكيف يمكن أن يكون الأمر الذي لايتحقّق في الخارج أصلاً أو لم يتحقّق بعدُ ولكن يوجد في الاستقبال مشخّصاً فعلاً ؟ ! كما هو واضح ، فلا محا لـة يكون المشخّص هو الأمر الذهني الموجود في النفس ، والمحبوب إنّما هو ذلك الأمر ، غايـة الأمر أ نّـه حيث يكون ذلك الأمر صورةً ذهنيـة للفعل الخارجي ووجهاً وعنواناً لـه ينسب إليـه المحبوبيـة با لعرض ; لفناء تلك الصورة في ذيها ، وذلك الوجـه في ذي الوجـه ، ولايخفى أنّ

(الصفحة196)

معنى الفناء والوجـه والمرآتيـة ليس راجعاً إلاّ سببيّـة ذلك لتعلّق الحبّ بـه وطريقتـه إليـه ، بل معنى تعلّق الحبّ بـه تعلّقـه بوجهـه وعنوانـه فقط ، نظير العلم وأشباهـه ، فإنّـه أيضاً من الصفات النفسانيـة القائمـة با لنفس المتحقّقـة فيها المتشخّصـة بصورة المعلوم الحاكيـة لـه الموجودة في النفس ، وتوصيف الخارج با لمعلوميـة إنّما هو با لعرض ، وإلاّ فكيف يمكن أن يتّصف بذلك قبل تحقّقـه ؟ ! مع أ نّا نعلم با لبداهـة كثيراً من الاُمور المستقبلـة ، مضافاً إلى أ نّـه كيف يمكن حينئذ أن يكون شيء واحد معلوماً لأحد ومجهولاً لآخر ؟ ! كما لا يخفى .
وكيف كان ، فظهر أنّ المحبوبيّـة والمبغوضيـة إنّما تنتزعان من تعلّق الحبّ والبغض با لصور الذهنيـة للأشياء الخارجيـة ، ولاريب في أنّ تعدّد الأمر الانتزاعي وكذا وحدتـه إنّما هو بلحاظ تعدّد منشأ انتزاعـه ووحدتـه ، ومن المعلوم تعدّده في المقام ; إذ لاشكّ في أنّ الصورة الحاكيـة عن وجود الصلاة تغاير الصورة الحاكيـة عن وجود الغصب ; إذ لايعقل أن يكون عنوان الصلاة ووجهها عنواناً للغصب ووجهاً لـه ، كما هو واضح ، فكيف يلزم أن يكون شيء واحد مبغوضاً ومحبوباً معاً ؟ !
ومنـه يظهر أ نّـه لايلزم اجتماع الإرادة والكراهـة أيضاً .

الأمر الثالث: لزوم اجتماع الصلاح والفساد

وأمّا لزوم اجتماع الصلاح والفساد في شيء واحد ، فيدفعـه أنّ الصلاح والفساد ليسا من الاُمور الحقيقيّـة القائمـة با لفعل بحيث يتحقّقان بتحقّقـه ، بل إنّما هما نظير الحسن والقبح المتّصف بهما الأشياء ، ومن المعلوم أ نّـه لاريب في إمكان اتّصاف شيء با لحسن لأجل انطباق عنوان حسن عليـه ، وبا لقبح أيضاً لأجل انطباق عنوان قبيح عليـه ، فكذا في المقام نقول بأ نّـه لابأس أن يتّصف شيء

(الصفحة197)

واحد بكونـه ذا صلاح وفساد معاً لأجل انطباق عنوانين عليـه : أحدهما ذا مصلحـة ، والآخر ذا مفسدة .
وبا لجملـة ، فاتّصاف الشيء بكونـه ذا مصلحـة إنّما هو لكونـه مصداقاً للعنوان الذي يكون كذلك ، وكذا اتّصافـه بكونـه ذا مفسدة ، فإذا جاز أن يكون شيء واحد مصداقاً لعنوانين متغايرين ـ كما هو المفروض ـ فلِمَ لايجوز أن يتّصف با لصلاح والفساد معاً لأجل كونـه مصداقاً لهما ؟ فهل يشكّ العقل في صلاح حفظ ولد المولى مثلاً من الهلكـة في دار الغير ؟ من حيث إنّـه حفظ لـه وفي فساده من حيث التصرّف في مال الغير ، ولايجوز المدح من الحيثيّـة الاُولى ، والذمّ من الحيثيّـة الثانيـة .
ومن هنا تظهر المناقشـة فيما ذكرناه سابقاً: من عدم ترتّب صحّـة الصلاة في الدار المغصوبـة على القول بجواز الاجتماع ; لاستحا لـة أن يكون المبعّد مقرّباً .
بيانها : أنّ معنى البعد والقرب ليس هو البُعْد والقرب المكاني حتّى يستحيل أن يكون المقرّب مبعّداً أو با لعكس ، بل معناهما هو القرب والبُعْد بحسب المكانـة والمنزلـة ، ومن المعلوم أنّ تحصيل المنزلـة والقرب بساحـة المولى بسبب الإطاعـة إنّما هو لكون الفعل الخارجي مصداقاً للعنوان الذي يكون متعلّقاً لأمر المولى ، كما أنّ حصول البُعْد عن ساحتـه إنّما هو للإتيان با لفعل الذي يكون مصداقاً للعنوان المزجور عنـه ، وحينئذ فأيّ مانع يلزم من أن يكون فعل واحد مقرّباً للعبد من حيث مصداقيّتـه للمأمور بـه ، ومبعّداً لـه أيضاً من حيث تحقّق العنوان المزجور عنـه بـه ، وحينئذ فلايتمّ ما اشتهر في ألسن المتأخّرين من أنّ المبعّد لايمكن أن يكون مقرّباً .



(الصفحة198)

حول التضادّ بين الأحكام الخمسـة

وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى التحقيق هو القول با لجواز ولو سلّم ثبوت التضادّ بين الأحكام ، كما هو الشائع ، مضافاً إلى أ نّـه لا نسلّم ذلك أصلاً .
توضيحـه : أنّ الضدّين عبارة عن الماهيّتين النوعيتين المشتركتين في جنس قريب مع ثبوت الاختلاف والبُعْد بينهما ، كما في تعريف المتقدّمين من الحكماء ، أو غايـة البعد والاختلاف ، كما في تعريف المتأخّرين منهم ، وحينئذ فنقول : إن كان الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة ، فلاينطبق عليـه تعريف الضدّين أصلاً ; لأنّـه حينئذ ماهيـة واحدة ، وهي حقيقـة الإرادة المتحقّقـة في جميع الأحكام ، ضرورة أ نّها بأجمعها أفعال للمولى مسبوقـة بالإرادة بلا فرق بين الحكم التحريمي والوجوبي من هذه الجهـة وإن كان متعلّق الإرادة في الأوّل هو الزجر ، وفي الثاني هو البعث ، إلاّ أنّ ذلك لايوجب الاختلاف بينهما ; لأنّ قضيّـة تشخّص الإرادة با لمراد هو كون اختلاف المرادات موجباً لتحقّق أشخاص من الإرادة ، ولايوجب ذلك تعدّد حقيقـة الإرادة وماهيّتها ، كما هو واضح .
فاعتبار كون الضدّين مهيّتين يخرج الإرادة وأمثا لها من الحقائق با لنسبـة إلى أفرادها عن التعريف كما لايخفى .
وإن كان الحكم عبارة عن نفس البعث والزجر المتحقّقين بقول : إفعل ولا تفعل ، مثلاً ، فهو أيضاً خارج عن التعريف ; لأنّـه ـ مضافاً إلى أنّ البعث في الوجوب والاستحباب على نهج واحد ، غايـة الأمر ثبوت الاختلاف بينهما في إرادتـه حيث إنّ الوجوب عبارة عن البعث الناشئ من الإرادة القويـة ، والاستحباب عبارة عن البعث الناشئ عن الإرادة الضعيفـة ، وكذا الزجر في الحرمـة والكراهـة ، فإنّـه فيهما على نحو واحد والاختلاف إنّما هو في إرادتـه ،

(الصفحة199)

وحينئذ فكيف يمكن القول با لتضادّ بين الوجوب والاستحباب ، وكذا بين الحرمـة والكراهـة ؟ ! مع أنّ القائل يدّعي تضادّ الأحكام بأسرها ـ نقول : إنّـه لو سلّم الاختلاف في جميع الأحكام وقطعنا النظر عن عدم اختلاف حقيقـة الوجوب والاستحباب وكذا الحرمـة والكراهـة ، فلا نسلّم التضاد بينها ; لأنّ ثبوتـه مبنيّ على أن يكون متعلّق البعث والزجر هو الوجود الخارجي ; إذ لو كان متعلّقهما هي الطبائع والماهيّات الكلّيـة ، كما عرفت بما لا مزيد عليـه أ نّـه هو مقتضى التحقيق ، فهما لايكونان بمتضادّين أيضاً ; لأنّ الماهيّـة قابلـة لاجتماع العناوين المتضادّة فيها ، ولاتّصافها بكل واحد منها في زمان واحد .
ألا ترى أنّ ماهيـة الإنسان موجودة ومعدومـة في زمان واحد ، كما عرفت ، وكذا ماهيّـة الجسم متّصفـة با لسواد والبياض معاً في زمان واحد .
فظهر أ نّـه لو كان متعلّق البعث والزجر هي طبيعـة واحدة ، فاستحا لتـه ليس من جهـة لزوم اجتماع المتضادّين على شيء واحد ، بل من جهـة أمر آخر ، وهو لزوم التكليف با لمحال من جهـة عدم القدرة على الامتثال ، وإلاّ يلزم عدم إمكان تعلّق البعث والزجر بطبيعـة واحدة ولو من ناحيـة شخصين ، كما أ نّـه لايعقل تحقّق البياض والسواد واجتماعهما على موجود خارجي مطلقاً ولو كان لـه علّتان ، ومن الواضح في المقام خلافـه .
وبا لجملـة ، فعلّـة ثبوت التضادّ بين شيئين إنّما هو عدم اجتماعهما على الموجود الخارجي الواحد ، وإلاّ يلزم عدم تحقّق التضادّ أصلاً ; لما عرفت من أنّ الماهيّـة قابلـة للاتّصاف بجميع العناوين المتضادّة في زمان واحد ، وقد عرفت أنّ متعلّق البعث والزجر ليس هو الوجود الخارجي بمعنى أ نّـه لايعقل أن يصير الموجود في الخارج مبعوثاً إليـه ومزجوراً عنـه أصلاً .
وإن كان الحكم عبارةً عن الأمر الاعتباري المنتزع عن البعث والزجر ،

(الصفحة200)

فعدم ثبوت التضادّ بينها أظهر من أن يخفى .
ومن جميع ما ذكرنا ظهر بطلان المقدّمـة الاُولى التي مهّدها في الكفايـة(1)لإثبات التضادّ بين الأحكام الخمسـة بأسرها ، وظهر أيضاً أنّ إثبات القول الامتناع من طريق التضادّ بين الأحكام لايتمّ أصلاً ، مضافاً إلى ما عرفت من أ نّـه لو سلّم التضادّ بين الأحكام ، فاختلاف المتعلّقين وتعدّدهما يخرج المقام عن مسأ لـة التضادّ فتأمّل جيّداً .

تنبيهات

التنبيـه الأوّل: بعض أدلّـة المجوّزين

قد استدلّ المجوّزون بأ نّـه لو لم يجز ، لما وقع نظيره ، وقد وقع ، كما في الصلاة في الحمّام ، التي اجتمع فيها الوجوب والكراهـة ، وصوم يوم عاشوراء الذي اجتمع فيـه الاستحباب والكراهـة ، والصلاة في المسجد ، التي اجتمع فيها الوجوب والاستحباب ، ونظائرها ممّا لايحصى .
بيان الملازمـة: أنّ المانع ليس إلاّ التضادّ بين الوجوب والحرمـة ، وعدم كفايـة تعدّد الجهـة في رفع غائلتـه ، ومن المعلوم أنّ هذا المانع موجود في اجتماع الوجوب مع الكراهـة أو الاستحباب ، واجتماع الاستحباب مع الكراهـة أو الاستحباب ; لأنّ الأحكام الخمسـة متضادّة بأجمعها ، ومن الواضح بطلان التا لي ; للوقوع في تلك الموارد وأشباهها ، فيكشف عن بطلان المقدّم ، وهو امتناع اجتماع الوجوب والحرمـة .


1 ـ كفاية الاُصول : 193 .
<<التالي الفهرس السابق>>