في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة201)

وا لتحقيق في ا لجواب أن يقال : إنّ ا لعبادات ا لمكروهـة على ثلاثـة أقسام :
أحدهما: ما تعلّق ا لنهي بعنوان ا لعبادة ، ولايكون لها بدل ، كصوم يوم ا لعاشور ، وا لنوافل ا لمبتدأة في بعض ا لأوقات .
ثانيها: ما تعلّق ا لنهي بعنوانها أيضاً ، ولكن يكون لها بدل ، كا لصلاة في ا لحمّام .
ثالثها: ما تعلّق ا لنهي بعنوان آخر يكون بينـه وبينها نسبـة ا لعموم من وجـه ، كا لصلاة في مواضع ا لتهمـة ، بناء على أن تكون كراهتها من جهـة كراهـة ا لكون فيها ا لمتّحد مع ا لصلاة .
إذا عرفت هذا ، فنقول :
أمّا القسم الثالث: فلا إشكال فيـه بناءً على ا لقول با لجواز ، كما عرفت أ نّـه مقتضى ا لتحقيق .
وأمّا القسم الثاني: فكذلك أيضاً لو قلنا بدخول ا لعامّين مطلقاً في محل ا لنزاع أيضاً ، كما نفينا ا لبُعْد عنـه سابقاً في مقدّمات ا لمبحث ، وأمّا لو قلنا بخروجـه عنـه ، فسيأتي ا لجواب عنـه .
إنّما المهم هو القسم الأوّل: ا لذي لابدّ أن يجيب عنـه كلٌّ من ا لمجوّز وا لممتنع ; لعدم تعدّد ا لجهـة ا لمجدي بناءً على ا لقول با لجواز ; لأنّ ا لنهي إنّما تعلّق بعنوان ا لعبادة ا لتي تكون متعلّقةً للأمر ا لاستحبابي .
وقد أجاب عنـه في ا لكفايـة بما حاصلـه : أنّ ا لكراهـة إنّما هو لانطباق عنوان راجح على ا لترك ا لذي يكون أرجح من ا لفعل ، فيكون ا لفعل وا لترك من قبيل ا لمستحبّين ا لمتزاحمين ، أو لملازمـة ا لترك على عنوان كذلك(1) ، ولكن

1 ـ كفايـة الاُصول: 198 ـ 199.

(الصفحة202)

لايخفى أنّ هذا ا لمعنى ممّا لايمكن ا لالتزام بـه ; لأنّ ا لترك أمر عدمي ، وا لعدم ليس بشيء حتّى ينطبق عليـه عنوان ويتّحد معـه أو يلازمـه شيء ، فإنّ ذلك من ا لاُمور ا لمعروضـة للموجودات ، وا لعدم ليس منها .
والذي يمكن أن يقال في حلّ الإشكال: إنّ ا لمستفاد من ا لأخبار أنّ كراهـة صوم يوم ا لعاشور إنّما هي لكونـه تشبّهاً ببني اُميّـة وبني مروان لعنهم ا للّـه جميعاً ، حيث إنّهم يتبرّكون بهذا ا ليوم ويعاملون معـه معاملـة ا لأعياد ويصومون فيـه تبرّكاً بـه ، بل لعلّـه كان من أعظم ا لأعياد ، كما يشعر بذلك بعض ا لأخبار ، فا لنهي إنّما يكون متعلّقاً با لتشبّـه بهم في ا لأعمال ا لتي كانوا يعملونها في ذلك ا ليوم لأجل ا لتبرّك بـه ومنها : ا لصوم ، فتعلّق ا لنهي ا لتنزيهي بـه إنّما هو لكونـه مصداقاً للتشبّـه بهم ، ومن ا لمعلوم أنّ نسبـة عنوان ا لتشبّـه إ لى طبيعـة ا لصوم ـ ا لتي تكون مطلوبةً في كلّ زمان ومتعلّقةً للأمر ا لوجوبي أو ا لاستحبابي في جميع ا لأيام عدا ا لعيدين ـ نسبة ا لعموم وا لخصوص من وجـه ، وقد عرفت أنّ مقتضى ا لتحقيق جواز ا لاجتماع فيـه ، فكون طبيعـة ا لصوم مأموراً بها لاينافي تعلّق ا لنهي بعنوان ا لتشبّـه بهم ، ا لذي ربّما يجتمع معها في ا لوجود ا لخارجي ، ونظير هذا ا لمعنى يمكن أن يقال في ا لنوافل ا لمبتدأة في بعض ا لأوقات ، فتدبّر .
وأمّا ا لقسم ا لثاني فجوابـه ما أفاد في ا لكفايـة ممّا ملخّصـه : كون ا لنهي إرشاداً إ لى ترك إيجاد ا لصلاة مع خصوصيّـة كونها في ا لحمّام لحصول منقصـة فيها معها ، كما أنّ ا لأمر با لصلاة في ا لمسجد إرشاد إ لى إيجادها فيـه ; لحصول مزيّـة فيها معـه ، ومَنْ أراد ا لتفصيل فليرجع إ لى ا لكفايـة(1) .

1 ـ نفس المصدر: 199 ـ 200.

(الصفحة203)

التنبيـه الثاني: حكم توسّط الأرض المغصوبـة

لو توسّط في أرض ا لغير ا لتي يحرم ا لتصرّف فيها لكونـه تصرّفاً في مال ا لغير بغير إذنـه بالاختيار ، فهل ا لخروج عنها ا لذي ينحصر بـه ا لتخلّص عن محذور ا لحرام يكون مأموراً بـه مع جريان حكم ا لمعصيـة عليـه أو بدونـه أو منهيّاً عنـه أو مأموراً بـه ومنهيّاً عنـه معاً أو منهيّاً عنـه با لنهي ا لسابق ا لساقط بحدوث ا لاضطرار ؟ وجوه وأقوال .
وا لحقّ أ نّـه يكون منهيّاً عنـه فعلاً ومتوجّهاً إ ليـه خطاب ا لنهي ، ولايكون مأموراً بـه فها هنا دعويان :
الاُولى: أ نّـه لايكون مأموراً بـه ; لأنّ ا لأمر ا لذي يتوهّم تعلّقـه بـه إمّا أن يكون ا لمراد بـه ا لأمر ا لنفسي ا لاستقلالي ، وإمّا أن يكون ا لمراد بـه ا لأمر ا لغيري ا لتبعي .
أمّا الأوّل: فيدفعـه وضوح أ نّـه ليس في ا لبين إلاّ مجرّد حرمـة ا لتصرّف في مال ا لغير ; إذ لم يكن هنا دليل يستفاد منـه حكم وجوبي متعلّق با لخروج أو با لتخلّص أو بأشباههما من ا لعناوين ، كما لايخفى .
وأمّا الثاني: فيبتني على ا لقول باقتضاء ا لنهي عن ا لشيء ا لأمر بضدّه ا لعامّ حتّى يثبت بذلك وجوب ترك ا لتصرّف ، وعلى ا لقول با لملازمـة بين وجوب ا لمقدّمـة ووجوب ذيها حتّى يثبت بذلك وجوب ا لخروج لكونـه مقدّمةً لترك ا لتصرّف ، وقد عرفت سابقاً منع ا لاقتضاء ، وعدم ثبوت ا لملازمـة ، بل استحا لـة كلّ منهما ، فراجع ، فلايكون ا لخروج متعلّقاً للأمر ا لمقدّمي أيضاً .
الثانيـة: كونـه منهيّاً عنـه با لخطاب ا لفعلي ، وسنده يظهر ممّا عرفت منّا مراراً من أنّ ما اشتهر بينهم من انحلال ا لخطابات ا لواردة في ا لشريعـة وتكثّرها

(الصفحة204)

حسب تكثّر ا لمخاطبين بمعنى أنّ لكلّ مكلّف خطاباً يخصّـه وحكماً مستقلاّ ، ممّا لا دليل عليـه لو لم نقل بثبوت ا لدليل على خلافـه ، كما مرّ ، بل ا لتحقيق أنّ ا لخطابات ا لشرعيـة إنّما هي خطابات عامّـة بمعنى أنّ ا لخطاب في كلّ واحد منها واحد ، وا لمخاطب متعدّد ، ولايلحظ في هذا ا لنحو من ا لخطاب إلاّ حال ا لنوع من حيث ا لقدرة وا لعجز وا لعلم وا لجهل ، كما هو واضح .

عدم انحلال الخطابات الشرعيّـة

وا لدليل على عدم انحلال ا لخطابات ا لشرعيـة إ لى ا لخطابات ا لمتعدّدة حسب تعدّد ا لمكلّفين اُمور كثيرة :
منها: أنّ لازمـه عدم كون ا لعصاة مكلّفاً ومخاطباً أصلاً ، ضرورة أنّ ا لبعث وا لزجر إنّما هو لغرض انبعاث ا لمكلّف وانزجاره ، وحينئذ فمع ا لعلم بعدم تحقّق ا لانبعاث وا لانزجار من ا لمكلّف أصلاً كيف يجوز أن يبعثـه ا لمولى ويزجره ؟ ! وليس مجرّد إمكان تحقّق ا لانبعاث وا لانزجار شرطاً لصحّـة ا لبعث ، بل ا لشرط إنّما هو احتما لهما ، ومن ا لمعلوم انتفاؤه با لنسبـة إ لى ا لعصاة في ا لتكا ليف ا لشرعيـة ، لكونـه تعا لى عا لماً بعدم تحقّق ا لانبعاث وا لانزجار من ا لعصاة أصلاً ، فلايجوز حينئذ تكليفهم ، وضرورة ا لشرع على خلافـه ، فا لواجب ا لقول بعدم كونهم مكلّفين بخصوصهم ، بل يشملهم ا لخطاب ا لعامّ ا لواحد ا لمتوجّـه إ لى جميع ا لناس .
ومنها: أنّ لازمـه عدم وجوب ا لقضاء على ا لنائم في جميع ا لوقت ; لاستحا لـة بعثـه لغرض ا لانبعاث ، فلايكون مكلّفاً بالأداء حتّى يجب عليـه ا لقضاء مع أنّ ضرورة ا لشرع أيضاً تقضي بخلافـه .
ومنها: أنّ لازمـه اختلاف ا لنجاسـة وا لطهارة با لنسبـة إ لى ا لمكلّفين ; لأنّـه

(الصفحة205)

لايعقل جعل نجاسـة ا لخمر ا لموجودة في ا لمما لك ا لتي لايسافر ا لإنسان إ ليها عادة ; لأنّ ا لواضح أنّ جعل ا لأحكام ا لوضعيـة أيضاً إنّما هو لغرض ترتيب ا لأثر ، فمع عدم ا لابتلاء بـه عادة لايعقل جعل ا لنجاسـة لـه ، مع أنّ ا لخمر حرام في أيّ محلّ كان ، كما يشهد بـه ضرورة ا لفقـه .
ومنها: غير ذلك من ا لاُمور ا لتي تقدّمت ا لإشارة إ لى بعضها سابقاً .
وحينئذ فا لتكليف ثابت با لنسبـة إ لى جميع ا لناس من ا لقادر وا لعاجز وا لعا لم وا لجاهل وا لمضطرّ وا لمختار ، غايـة ا لأمر كون ا لعاجز ونظائره معذوراً بحكم ا لعقل في مخا لفـة ا لتكليف ، لا أ نّـه خارج عن ا لمخاطبين بحيث لم يكن ا لخطاب متوجّهاً إ ليـه ، وحينئذ نقول : إنّ ا لاضطرار ا لحادث في ا لمقام بسوء ا لاختيار لايصير عذراً بنظر ا لعقل أصلاً .
أترى ثبوت ا لعذر لمن ألجأ نفسـه في ارتكاب ا لمحرّمات ا لشرعيـة بسوء ا لاختيار ، كمن اضطرّ إ لى شرب ا لخمر وأكل لحم ا لميتـة بسوء اختيار نفسـه ؟
ثمّ إنّـه لو قلنا بعدم توجّـه ا لخطاب ا لفعلي إ ليـه لكونـه مضطرّاً ولو بسوء ا لاختيار ، فلا مجال للقول بعدم استحقاقـه للعقوبـة ، بل لايرتاب فيـه عاقل أصلاً ، كيف ولازمـه عدم استحقاق من اضطرّ بسوء اختياره إ لى سائر ا لمحرّمات ا لشرعيـة للعقوبـة أصلاً ، فيجوز أن يدخل ا لإنسان داراً يعلم بأ نّـه لو دخل فيها يصير مضطرّاً إ لى شرب ا لخمر أو مكرهاً عليـه ، ولايترتّب عليـه عقوبـة أيضاً ومن ا لمعلوم أنّ ضرورة ا لشرع وا لعقل على خلافـه .
ثمّ إنّـه لو سلّمنا اقتضاء ا لنهي عن ا لشيء ا لأمر بضدّه ا لعامّ وقلنا بثبوت ا لملازمـة ا لعقليـة بين وجوب ا لمقدّمـة ووجوب ذيها وقطعنا ا لنظر عمّا ذكرنا من عدم انحلال ا لخطابات ا لشرعيـة إ لى ا لخطابات ا لمتكثّرة حسب تكثّر ا لمكلّفين ، فلايكون في ا لبين مانع من ا لالتزام بقول أبي هاشم وأتباعـه ا لقائلين بكونـه

(الصفحة206)

مأموراً به ومنهيّاً عنه إلاّ لزوم ا لتكليف با لمحال ; لعدم قدرة ا لمكلّف على ا لامتثال .
وأمّا ا لإشكال عليـه بلزوم كون ا لتكليف بنفسـه محالاً كما في ا لكفايـة ; نظراً إ لى اجتماع ا لتكليفين هنا بعنوان واحد ; لأنّ ا لخروج بعنوانـه سبب للتخلّص وواقع بغير إذن ا لما لك(1) ، فمندفع بأنّ متعلّق ا لنهي إنّما هو ا لتصرّف في مال ا لغير بدون إذنـه ، لا عنوان ا لخروج ، ومتعلّق ا لأمر ا لمقدّمي ليس ما يحمل عليـه عنوان ا لمقدّمـة با لحمل ا لشائع ، وإلاّ يلزم أن يكون تعلّقـه بـه متوقّفاً على تحقّقـه في ا لخارج ، فيلزم أن تكون ا لمقدّمـة ا لموجودة متعلّقةً للأمر ، وهو مستحيل بداهة ، بل ا لمتعلّق لـه إنّما هو عنوان ما يتوقّف عليـه ذو ا لمقدّمـة بناء على ا لقول بثبوت ا لملازمـة مطلقاً ، وعنوان ا لموصل إ لى ذي ا لمقدّمـة بناءً على ا لقول با لمقدّمـة ا لموصلـة ، كما عرفت أ نّـه مقتضى ا لتحقيق بناءً على تسليم ا لملازمـة ، ضرورة أنّ ا لحيثيّات ا لتعليليـة كلّها ترجع إ لى ا لحيثيات ا لتقييديـة ، فمتعلّق ا لأمر ا لمقدّمي في ا لمقام هو عنوان ما يتوقّف عليـه ترك ا لتصرّف في مال ا لغير أو عنوان ا لموصل إ ليـه ، ومتعلّق ا لنهي هو عنوان ا لتصرّف في مال ا لغير ، فأين يلزم اجتماع ا لتكليفين على عنوان واحد ؟ ولولا استلزام هذا ا لقول للتكليف با لمحال كما عرفت ، لم يكن بدّ من ا لالتزام بـه .
ومن هنا تعرف صحّـة ما ذهب إ ليـه صاحب الفصول (قدس سره) من كونـه مأموراً بـه مع إجراء حكم ا لمعصيـة عليـه ; نظراً إ لى ا لنهي ا لسابق ، وذلك لخلوّه عن استلزام ا لتكليف با لمحال أيضاً(2) ، فتدبّر .
ثمّ إنّ ا لمحقّق ا لنائيني ـ على ما في ا لتقريرات ـ قد بنى ا لمسأ لـة على

1 ـ كفايـة الاُصول: 209.
2 ـ الفصول الغرويّـة: 138 / السطر 25.

(الصفحة207)

كونها مندرجةً تحت قاعدة «ا لامتناع بالاختيار لاينافي ا لاختيار» فا لحقّ ما عليـه صاحب ا لكفايـة من عدم كونـه مأموراً بـه ولامنهيّاً عنـه ، وعلى عدم كونها صغرى لها(1) ، فا لحقّ ما عليـه ا لشيخ من كونـه مأموراً بـه فقط(2) ثمّ اختار عدم ا لاندراج ، وتمسّك في ذلك بأربعـة أوجـه(3) .
ولكن لايخفى أنّ هذه ا لقاعدة بعيدة عن ا لمقام بمراحل ، بل لايكون بينهما ربط أصلاً ; لما ذكره في ا لكفايـة في بيان موردها ، فراجعها(4) .

التنبيـه الثالث: حكم الصلاة في الدار المغصوبـة

قد عرفت أنّ ا لصلاة في ا لدار ا لمغصوبـة لا مانع فيها من حيث اجتماع ا لتكليفين ، وأمّا حكمها ا لوصفي فنحن وإن اخترنا ا لبطلان بناءً على ا لاجتماع في ا لمقدّمـة ا لسادسـة ا لمعدّة لبيان ثمرة ا لقولين ، نظراً إ لى أنّ ا لمبعّد لايمكن أن يكون مقرّباً ، إلاّ أ نّك عرفت في مسأ لـة إمكان اجتماع ا لمحبوبيّـة وا لمبغوضيّـة وا لصلاح وا لفساد أ نّـه لا مانع من ذلك أصلاً ; لأنّ ا لمقرّب إنّما هو حيثيـة ا لصلاتيـة ، وا لمبعّد إنّما هو حيثيّـة ا لغصبيـة ، فا لحقّ صحّـة ا لصلاة بناءً على ا لقول بالاجتماع ، وأمّا بناءً على ا لامتناع : فقد عرفت تفصيل ا لقول فيـه في تلك ا لمقدّمـة ، فراجع .


1 ـ كفايـة الاُصول: 204.
2 ـ مطارح الأنظار: 153 / السطر 33.
3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 447 ـ 451.
4 ـ كفايـة الاُصول: 209 ـ 210.

(الصفحة208)

الفصل الثالث

في اقتضاء النهي عن الشيء فساده وعدمه

ولابدّ من تقديم اُمور :

الأمر الأوّل: حول عنوان المسألـة

ربّما يعبّر عن محلّ النزاع تارة بأنّ النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا ؟ واُخرى بأنّ النهي عن الشيء هل يدلّ على فساده أم لا ؟ ولايخفى إمكان المناقشـة في كلٍّ منهما ; لأنّ التعبير بالاقتضاء الذي معناه بحسب العرف واللغـة هو التأثير والسببيّـة لايناسب المقام ، كما لايخفى .
وأمّا التعبير با لدلالـة : فلايناسب القول با لفساد من جهـة ملازمـة الحرمـة معـه لا من جهـة كون النهي إرشاداً إليـه فالأولى التعبير بأنّ النهي هل يكشف عن فساد المنهي عنـه عبادة كان أو معاملـة أم لا .

الأمر الثاني: في اُصوليّـة هـذه المسألـة

قد عرفت الفرق بين هذه المسأ لـة وبين مسأ لـة اجتماع الأمر والنهي في

(الصفحة209)

بعض مقدّمات تلك المسأ لـة ، والظاهر كون المسأ لـة اُصوليّةً ; لأنّ نتيجتها تقع في طريق الاستنباط كما هو واضح .

هل المسألـة عقليّـة أو لفظيّـة؟

قد يقال : بأنّ المسأ لـة عقليـة صرفـة ، وقد يقال : لفظيـة محضـة ، والظاهر عدم كونها ممحّضاً في أحدهما ; لأنّ المدّعى في المسأ لـة صحّـة العبادة وبطلانها ، سواء كان طريق الإثبات في ذلك اللّفظ بأن يكون النهي إرشاداً إلى الفساد وعدمـه ، أو العقل ; للملازمـة بين المبغوضيّـة والفساد وعدمها .
مضافاً إلى اختلاف الاستدلالات من هذه الجهـة ، فبعضها ظاهر في الدلالـة بحسب العرف ، وبعضها في الدلالـة بحسب العقل .
ودعوى أنّ المسأ لـة عقليـة محضـة ـ كما في الدّرر ـ لأنّ القائل با لبطلان يتمسّك بعدم إمكان صيرورة المبغوض عبادة(1) ، مدفوعـة : بعدم اختصاص استدلالهم بذلك ، بل ربّما يتمسّكون با لدلالـة العرفيـة ، كما في الفصول(2) ، فراجع .

الأمر الثالث: تفسير وصفي الصحّـة والفساد

ذكر في الكفايـة في معنى الصحّـة والفساد ما حاصلـه : أ نّهما وصفان إضافيّان ، ومعنى الأوّل هي التماميـة ، والثاني هو النقص ، والصحّـة في العبادة والمعاملـة بمعنى واحد ، وهو التماميـة ، والاختلاف في الآثار المرغوبـة منهما

1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 185.
2 ـ الفصول الغرويّـة: 140 / السطر 30.

(الصفحة210)

ا لتي با لقياس عليها تتّصف با لتماميـة ، وهكذا الاختلاف بين الفقيـه والمتكلّم في تفسير صحّـة العبادة إنّما يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهمّ لكلٍّ منهما من الأثر بعد الاتّفاق على أ نّها بمعنى التماميـة ، كما هي معناها لغةً وعرفاً(1) .
أقول: من الواضح أنّ الصحّـة والفساد لايساوقان التماميـة والنقص بحسب اللغـة والعرف ; لما نرى با لوجدان من اختلاف موارد استعما لهما ، فلايقال على الإنسان الفاقد للبصر مثلاً : إنّـه فاسد ، ولا على الفاكهـة التي طرأ عليها بعض العوارض فأخرجها عمّا يقتضيـه بحسب نوعها : إنّها ناقصـة ، ولا على البيت الخا ليـة من السقف أو الجدار مثلاً : إنّـه فاسد ، بل يقال : ناقص ، ولا على المعجون المشتمل على جميع أجزائـه الغير المترتّب عليـه الأثر المقصود منـه ; لطروّ بعض العوارض عليـه : إنّـه ناقص ، بل يقال لـه : إنّـه فاسد .
وبا لجملـة ، فاختلاف موارد استعما لهما ممّا لاينبغي الارتياب فيـه .
والحقّ الذي يطابقـه الوجدان: أنّ معنى التماميـة يرجع إلى اشتمال الشيء المركّب على جميع ما اعتبر فيـه من الأجزاء والشرائط ، والنقص عبارة عن فقدانـه لبعض تلك الأجزاء أو الشرائط ، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكـة .
وأمّا الصحّـة فهي عبارة عن كون الشيء في وجوده الخارجي مطابقاً لما يقتضيـه طبعـه الأوّلي بحسب نوعـه والفساد عبارة عن خروجـه عن مقتضى طبعـه الأوّلي لطروّ بعض الأسباب الموجبـة لذلك ، وهو كا لصحّـة أمر وجودي ، والتقابل بينهما تقابل الضدّين .
نعم ، لا ننكر أنّ الصحّـة قد استعملت في العبادات والمعاملات بمعنى التماميـة ; إذ العبادة الصحيحـة مثلاً هو ما كان جامعاً لجميع الأجزاء والشرائط

1 ـ كفاية الاُصول: 220.

(الصفحة211)

ا لمعتبرة فيـه ، وكذا المعاملـة ، والفساد قد استعملت فيهما بمعنى النقص ، كما هو واضح ، ولكن هذا الاستعمال إمّا أن يكون اصطلاحاً خاصّاً من الفقهاء ، وإمّا أن يكون مجازيّاً ، وقرينتـه المشابهـة ; لأنّ الصلاة الفاقدة لبعض أجزائها مثلاً كأ نّها قد خرجت عن مقتضى طبعها الأوّلي .
نعم على التقدير الثاني قد بلغ الآن إلى حدّ الحقيقـة ; لعدم احتياجـه إلى القرينـة أصلاً ، كما هو واضح .
ثمّ لايخفى أنّ التماميـة والنقص وصفان إضافيان ، فيمكن أن يكون المركّب تامّاً من حيث أجزائـه مثلاً ، وناقصاً من حيث شرائطـه ، والصحّـة والفساد في العبادات والمعاملات وإن عرفت أ نّهما يساوقان التماميـة والنقص إلاّ أنّ أثرهما ـ وهو الإضافـة ـ لايسري إلى الصحّـة والفساد ; لأنّـه لايقال على الصلاة الجامعـة لجميع أجزائها الفاقدة لبعض شرائطها مثلاً : إنّها صحيحـة من حيث الأجزاء ، وفاسدة من حيث الشرائط ، بل أمرها يدور بين الصحّـة بقول مطلق ، والفساد كذلك ، كما لايخفى .
وهكذا المعاملات ، فإنّ أمرها أيضاً دائر بين الصحّـة فقط ، والفساد كذلك .
ثمّ إنّ الصحّـة والفساد وصفان واقعيّان لايختلفان بحسب الأنظار واقعاً ، بل مرجع الاختلاف إلى تخطئـة كلٍّ من الناظرين نظر صاحبـه بمعنى أنّ المصيب إنّما هو نظر واحد فقط ، غايـة الأمر أنّ كلاّ يدّعي إصابـة نظره ، وذلك لايقتضي اختلافهما بحسب الأنظار واقعاً .
فما في الكفايـة: من اختلافهما بحسب الأنظار ; لكون الأمر في الشريعـة على أقسام ، وقد وقع الخلاف في إجزاء غير الأمر الواقعي عنـه(1) .


1 ـ كفايـة الاُصول: 220 ـ 221.

(الصفحة212)

ممنوع جدّاً; لأنّ هذا الخلاف مرجعـه إلى ما ذكرنا من عدم اقتضاء ذلك الاختلاف بحسب الواقع ، بل نقول : إنّ مسأ لـة الإجزاء لا ربط لها بمسأ لـة الصحّـة أصلاً ; فإنّ معنى الصحّـة عبارة عن موافقـة المأتي بـه للأمر المتعلّق بنفسـه ، وأمّا الاكتفاء بـه عن الإتيان با لمأمور بـه بأمر آخر فهو أمر خارج عن معنى الصحّـة ، فا لصلاة مع الطهارة المستصحبـة صحيحـة بمعنى كونها موافقـة للأمر الظاهري المتعلّق بها ولو لم نقل بكونها مجزئةً بمعنى الاكتفاء بـه عن الصلاة مع الطهارة الواقعيـة المأمور بها بالأمر الواقعي ، فا لصحّـة أمر ، والإجزاء أمر آخر .
نعم الإجزاء مترتّب على الصحّـة بمعنى أنّ الإجزاء لو قيل بـه إنّما يتّصف بـه الصلاة الصحيحـة المطابقـة للأمر المتعلّق بها ; إذ الصلاة الفاسدة بحسب أمرها لايعقل أن تكون مجزئةً با لنسبة إلى أمر آخر كما هو واضح .

تنبيـه: في جعل الصحّـة والفساد

لاينبغي الإشكال في أنّ الصحّـة والفساد أمران واقعيّان يستقلّ بهما العقل بلا فرق بين العبادات والمعاملات ، ولابين الإتيان با لمأمور بـه بالأمر الواقعي الأوّلي أو بالأمر الاضطراري والظاهري أصلاً ; لأنّهما وصفان للموجود الخارجي باعتبار موافقتـه مع المجعول الشرعي ، عبادةً كان أو معاملةً وعدمها ; إذ لايعقل الصحّـة والفساد في وادي الجعل والإنشاء ، بل إنّما يتصوّران في وادي الامتثال والإيجاد ، وهذا واضح ، ومن المعلوم أ نّـه لا فرق من هذه الجهـة بين المعاملـة والعبادة أصلاً .
فما في الكفايـة ، من التفصيل بينهما لا وجـه لـه ، وكذا التفصيل بين

(الصفحة213)

ا لصحّـة والفساد في الإتيان با لمأمور بـه بالأمر الواقعي ، وبينهما في الإتيان با لمأمور بـه بالأمر الظاهري أو الاضطراري با لقياس إلى الأمر الواقعي بعدم معقوليـة الجعل في الأوّل دون الثاني(1) ممّا لا سبيل إليـه ; فإنّـه يرد عليـه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أنّ مسأ لـة الصحّـة والفساد لا ربط لها بمسأ لـة الإجزاء وعدمـه ، فإنّهما إنّما يعتبران با لقياس إلى نفس الأمر الظاهري والاضطراري ، وتلك المسأ لـة إنّما تكون متعرّضةً لحا لـه من حيث الإجزاء وعدمـه با لنسبـة إلى أمر آخر ـ أنّ معنى الأمر الظاهري مثلاً لو كان راجعاً إلى التصرّف في المأمور بـه بالأمر الواقعي سعةً وضيقاً بحيث كان مرجع تجويز الصلاة مع الطهارة المستصحبـة مثلاً إلى التصرّف في دليل اعتبار الطهارة في الصلاة بعدم كون المعتبر فيها هو خصوص الطهارة الواقعيـة بل الأعمّ منها ومن الطهارة الظاهريـة ، فلايعقل جعل الصحّـة للمأتي بـه في الخارج مع الطهارة المستصحبـة مثلاً ; لأنّ موافقتـه مع المجعول الشرعي أمر واقعي نفس الأمري ، ولايعقل فيـه الجعل ولو لم يكن معنى الأمر الظاهري راجعاً إلى ما ذكرنا ، بل المراد منـه مجرّد تجويز الصلاة معها مثلاً تسهيلاً للعباد بعدم لزوم التفحّص ، أو تحصيل الطهارة اليقينيـة ما دام لم ينكشف الخلاف ، فلايعقل جعل الصحّـة إذا انكشف بعد عدم عموميـة الطهارة المعتبرة في الصلاة وكون الشرط هو خصوص الطهارة الواقعيـة لفساد العبادة واقعاً ; لعدم كونها موافقةً للمجعول الشرعي ، كما هو واضح .
فا لحق أنّ الصحّـة والفساد مطلقاً من الاُمور الواقعيّـة الغير القابلـة للجعل ، ولا فرق بين الموارد أصلاً ، فتأمّل جيّداً .


1 ـ كفايـة الاُصول: 220 ـ 221.

(الصفحة214)

الأمر الرابع: شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي والغيري والتبعي

لاريب في عدم اختصاص النزاع با لنهي التحريمي وشمولـه للنهي التنزيهي أيضاً ، ومجرّد كون النواهي التنزيهيّـة في الشريعـة متعلّقةً لابنفس العبادة بل ببعض الخصوصيّات الخارجـة عن حقيقتها ـ كما ادّعاه بعض(1)ـ لايوجب خروجـه عن محلّ النزاع ; لعدم تعلّق غرض الاُصولي با لصغريات ، بل غرضـه بيان قاعدة كلّيـة تنطبق على مواردها ، كما لايخفى .
هذا ما ينافي ما تقدّم في ثمرة اقتضاء الأمر با لشيء للنهي عن الضدّ ، وكذا لاشبهـة في دخول النهي الغيري في مورد النزاع ، وكذا النهي التبعي .

الأمر الخامس: في تحقيق الأصل في المسألـة

لا أصل في نفس المسأ لـة الاُصوليـة حتّى يحرز بـه الاقتضاء أو عدمـه ; لأنّـه لو كان النزاع في دلالـة النهي وعدمها ، فلاشبهـة في أ نّـه لايكون لأحد الطرفين حا لـة سابقـة متيقّنـة حتّى تستصحب ، ضرورة أ نّها مشكوكـة من حين الوضع .
ودعوى: أنّ كلمـة «لا» مثلاً قبل التركيب وانضمام اللاّم مع الألف ـ يعني حين وضع المفردات ـ لم يكن يدلّ على الفساد ; لعدم عروض الوضع التركيبي عليـه ، فتستصحب تلك الحا لـة .
مدفوعـة: بأنّ النزاع في لفظـة «لا» لا «ا للاّ» مع الألف ، وهي من أوّل وضعها كانت مشكوكـة الدلالـة على الفساد ، ولو كان النزاع في الملازمـة بين

1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 185 ـ 186.

(الصفحة215)

ا لحرمـة والفساد وعدمها ، فلاشبهـة أيضاً في أ نّـه لايكون لها حا لـة سابقـة متيقّنـة ، لا لأنّ الملازمـة وعدمها من الاُمور الأزليـة ، فإنّ هذا فاسد ; لأنّ الملازمـة من الأوصاف الوجوديـة ، ولايعقل تحقّقها من دون تحقّق طرفيها ، وعروضها للمعدوم غير معقول ، بل لكونها مشكوكةً من حين تحقّق النهي .
ودعوى: كونها معدومةً ومنتفيةً قبلـه ولو بانتفاء الموضوع .
مدفوعـة: بأنّ هذا لايصحّح جريان الاستصحاب ; لأنّـه من قبيل استصحاب عدم القرشيـة ، وقد حقّق في محلّـه عدم جريانـه .
ثمّ إنّـه لو سلّمنا وجود الحا لـة السابقـة ، فا لظاهر أيضاً عدم جريان الاستصحاب ; لأنّـه يعتبر في جريانـه في الموضوعات أن تكون موضوعةً للآثار والأحكام الشرعيـة . وبعبارة اُخرى : مندرجةً تحت بعض الكبريات الشرعية ، ومن المعلوم أ نّـه ليس في المقام كذلك ; لأنّ استصحاب عدم الدلالـة أو عدم الملازمـة لايثبت الصحّـة أصلاً ; لأنّ ترتّب الصحّـة إنّما هو بحكم العقل بعد ملاحظـة ثبوت المقتضي وعدم المانع ، كما هو الحال في جميع الموارد ، فإنّ الحاكم بترتّب المقتضى على المقتضي بعد عدم ثبوت المانع إنّما هو العقل لا غير .
هذا كلّـه فيما يتعلّق بجريان الأصل في نفس المسأ لـة الاُصوليـة .
وأمّا المسألـة الفرعيـة: فالأصل في المعاملات الفساد لو لم يكن عموم أو إطلاق يقتضي الصحّـة ، وأمّا العبادة فلو اُحرز من طريق ثبوت الملاك فيها ، فا لظاهر الصحّـة بناءً على كفايـة الملاك في صحّـة العبادة ، كما هو الحقّ ، وقد سبق ، ولو لم يحرز ذلك ، فا لعبادة فاسدة ، والوجـه فيـه واضح .
ثمّ لايخفى: أ نّـه لا فرق فيما ذكرنا بين تعلّق النهي بنفس العبادة مثلاً أو جزئها أو شرطها ; لأنّ محلّ الكلام إنّما هو كون تعلّق النهي بشيء عبادةً كان أو معاملـة يوجب فساد متعلّقـه من حيث هو أم لا ، وأمّا سرايـة الفساد منـه إلى

(الصفحة216)

مجموع العبادة فيما كان متعلّق النهي جزءَ العبادة وعدم السرايـة ، فهو أمر خارج عن موضوع البحث ، كما لايخفى .
ومنـه يظهر أنّ الأمر الثامن الذي عقده في الكفايـة لإثبات موارد السرايـة وعدمها(1) خارج عن محلّ الكلام ، ولا ربط لـه أصلاً .
إذا عرفت هذه الاُمور ، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل

في دلالـة النهي على الفساد في العبادات

وا لكلام فيـه يقع من جهتين :
الجهـة الاُولى: في دلالـة النهي على الفساد فيها با لدلالـة اللفظيـة العرفيـة بمعنى أ نّـه لو ورد نهي متعلّق بعبادة ولم يحرزكونـه مولويّاً تحريميّاً أوتنزيهيّاً أوإرشادياً ، فهل يدلّ بنظر العرف على فسادها أم لا ؟ بمعنى أ نّـه هل يكون للإرشاد إلى الفساد أم لا ؟
قد يقال ـ كما عن بعض الأعاظم من المعاصرين ـ بكونـه في العبادات إرشاداً إلى فسادها ; لأنّـه حيث تكون العبادة من المجعولات الشرعيـة ، والغرض من إتيانها إنّما هو سقوط الأمر ، وحصول التقرّب بسببها إلى المولى ، فكما أنّ الأمر بإتيانها على كيفيّـة مخصوصـة وبوجوب الإتيان بشيء فيها يكون للإرشاد إلى أنّ الأثر المترقّب من العبادة لايترتّب عليها من دون تلك الكيفيّـة أو ذلك الشيء ، وكذلك النهي عن إيجاد شيء في المأمور بـه أو إتيانها بكيفيـة خاصّـة يكون للإرشاد إلى مانعيـة ذلك الشيء أو تلك الكيفيـة ، وأنّ الأثر المقصود

1 ـ كفايـة الاُصول: 222 ـ 223.

(الصفحة217)

لايترتّب عليـه مع وجوده أو وجودها ، فكذلك النهي المتعلّق ببعض أنواع العبادة أو أصنافها لايكون إلاّ للإرشاد إلى فساده ، وعدم ترتّب الأثر المقصود عليـه(1) .
الجهـة الثانيـة: في ثبوت الملازمـة بين الحرمـة والفساد بمعنى أ نّـه لو اُحرز كون مدلول النهي هي الحرمـة ، فهل يثبت بذلك فساد المنهي عنـه للملازمـة ، أو لايثبت لعدمها ؟
وا لتحقيق هو الأوّل ; لأنّ النهي يكشف عن مبغوضيـة متعلّقـه واشتما لـه على المفسدة على ما يقول بـه العدليـة ، ومع ذلك لايبقى مجال لصحّتـه بعد أ نّـه يعتبر في صحّـة العبادة أحد أمرين ، وهما تعلّق الأمر بها واشتما لها على الملاك وهو رجحانها الذاتي ، والمفروض انتفاؤهما في المقام .
وتوهّم: أ نّـه لايعقل تعلّق النهي التحريمي الذاتي با لعبادة ; لعدم حرمتها مع عدم قصد التقرّب وعدم القدرة عليها معـه إلاّ تشريعاً .
مدفوع: بأنّ المراد با لعبادة هو الذي يكون من سنخ الوظائف التي يتعبّد بها ، لا ما يكون فعلاً عبادةً ، فصلاة الحائض عبادة بمعنى أ نّها لو تعلّق الأمر بها ، كان أمرها أمراً عباديّاً .
هذا في غير العبادات الذاتيـة ، وأمّا فيها : فتكون محرّمةً مع كونها فعلاً عبادةً ، كما هو واضح .
هذا في النهي التحريمي ، وأمّا النهي التنزيهي المتعلّق بذات العبادة فهو أيضاً يوجب فسادها ; لأنّـه لايعقل اجتماع الصحّـة مع المرجوحيّـة الذاتيـة أصلاً ، إلاّ أ نّـه لايخفى ثبوت المنافاة بين الفساد وبين الترخيص فيها الذي هو لازم النهي التنزيهي ; لأنّ الترخيص بلازم الصحّـة ; إذ لايعقل تجويز التشريع ، فثبوتـه يلازم

1 ـ نهايـة الاُصول: 283 ـ 284.

(الصفحة218)

صحّتها ، كما لايخفى .
فلابدّ من التأويل بجعل الترخيص ترخيصاً في أصل العبادة ، أو يقال بكون النهي إرشاداً إلى أقلّيـة الثواب ، إلاّ أنّ ذلك خروج عن محلّ البحث ; لأنّ المفروض كون النهي تنزيهيّاً متعلّقاً بذات العبادة .
هذا في النواهي النفسيـة ، وأمّا النواهي الغيريـة كا لنهي عن الصلاة الناشئ من قِبَل الأمر بالإزا لـة بناءً على اقتضاء الأمر با لشيء للنهي عن ضدّه ، فلايخفى أ نّها لا تستلزم الفساد ; لعدم كون متعلّقها مبغوضاً أصلاً ، فلا مانع من صحّتها مع وجود الملاك فيها ، والاكتفاء بـه في صحّـة العبادة ، كما عرفت .
وتوهّم أنّ الآتي با لصلاة دون الإزا لة يكون متجرّياً والتجرّي يوجب بطلان عبادتـه ; لأنّـه لايقبل عبادة المتجرّي ، مدفوع : بأنّ التجرّي إنّما هو بسبب عدم فعل الإزا لـة ، لا فعل الصلاة ، ولايعقل سرايـة التجرّي منـه إليـه ، كما هو واضح .

المقام الثاني

في اقتضاء النهي للفساد في المعاملات وعدمـه

وفيـه أيضاً جهتان من الكلام :
الجهـة الاُولى: في دلالـة النهي على الفساد ، بمعنى أ نّـه لو ورد نهي متعلّق بمعاملـة ، ولم يحرز كونـه مولويّاً تحريميّاً أو تنزيهيّاً أو إرشادياً فهل ، ظاهرها الأخير بمعنى كونـه للإرشاد إلى الفساد أم لا ؟
وا لتحقيق هو الأوّل ; لأنّ المعاملـة كا لبيع مثلاً يتضمّن جهات ثلاثـة :
الاُولى: هي نفس الألفاظ الصادرة من المتعاقدين ، كبعتُ واشتريتُ مثلاً .
الثانيـة: ماهومدلول تلك الألفاظ ، وهوفعل تسبيبي للإنسان ، كا لنقل والانتقال .


(الصفحة219)

الثالثـة: الآثار المترتّبـة عليها المرغوبـة منها ، كجواز التصرّف بالأكل والشرب واللّبس مثلاً ، ومن المعلوم أنّ غرض العقلاء هو الأمر الأخير ، أي ترتيب الآثار المطلوبـة ، فا لشارع من حيث إنّـه مقنّن للقوانين التي بها ينتظم اُمور الناس من حيث المعاش والمعاد ، فإذا نهى عن معاملـة ، فا لظاهر أ نّـه لايترتّب عليها الآثار المترقّبـة منها ، بمعنى أنّ النهي إرشاد إلى فساد تلك المعاملـة ، كما هو الظاهر بنظر العرف .
الجهـة الثانيـة: في الملازمـة بين الحرمـة والفساد في المعاملات ، بمعنى أ نّـه لو اُحرز كون النهي للتحريم ، فهل يلازم ذلك فساد المعاملـة أو لا ؟
فنقول : إنّ النواهي الواردة في المعاملات على أنحاء :
أحدها: أن يكون النهي متعلّقاً بنفس ألفاظها من حيث إنّها فعل اختياري مباشري ، فيصير التلفّظ بها من المحرّمات ، كشرب الخمر ، ولاريب في عدم الملازمـة بين حرمـة التلفّظ وفساد المعاملـة أصلاً ; فإنّ المعصيـة لا تنافي ترتيب الأثر .
ألا ترى أنّ إتلاف مال الغير حرام بلا إشكال ، ومع ذلك يؤثّر في الضمان .
ثانيها: أن يكون مدلول النهي هو إيجاد السبب من حيث إنّـه يوجب وجود المسبّب . وبعبارة اُخرى : يكون المبغوض هو ما يتحصّل من المعاملـة ، وتؤثّر تلك الألفاظ في وجودها ، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر ; فإنّ المبغوض فيـه هو سلطنـة الكافر على المسلم ، وفي هذا النحو يمكن أن يقال بعدم ثبوت الملازمـة بين الحرمـة والفساد ، إذ لا مانع من صحّـة البيع ، إلاّ أ نّـه ذكر في تقريرات الشيخ(قدس سره) أنّ ذلك إنّما يستقيم فيما إذا قلنا بأنّ الأسباب الناقلـة إنّما هي مؤثّرات عقليـة قد اطّلع عليها الشارع ، وبيّنها لنا من دون تصرّف زائد ، وأمّا على القول بأنّ هذه أسباب شرعيـة إنّما وضعها الشارع وجعلها مؤثّرةً في الآثار المطلوبـة عنها ،

(الصفحة220)

فلابدّ من القول بدلالـة النهي على الفساد ، فإنّ من البعيد في الغايـة جعل السبب فيما إذا كان وجود المسبّب مبغوضاً(1) . انتهى .
ولكن لايخفى أنّ هنا احتمالاً آخر ، وهو : أن تكون الأسباب الناقلـة مؤثّرات عقلائيـة ، والشارع قد أمضاها ، وهو أقوى من الاحتما لين اللّذين ذكرهما في كلامـه ، ومعـه يمكن صحّـة المعاملـة مع كونها محرّمـة .
وتوهّم أ نّـه كما يكون من البعيد جعل السبب ابتداء مع مبغوضيّـة المسبّب كذلك من البعيد إمضاء السبب العقلائي مع مبغوضيّـة مسبّبـه ، مدفوع : بأنّ ذلك إنّما يستقيم لو تعلّق الإمضاء بها بخصوصها ، وأمّا لو كان الدليل العامّ كقولـه : (أوفوا بالعقود): متضمّناً لإمضاء جميع العقود العقلائيـة ، فيرتفع البُعْد ، كما لايخفى .
ثالثها: أن يكون مدلول النهي هو التسبّب بأ لفاظ معاملـة خاصّـة إلى المسبّب ، بمعنى أ نّـه لايكون السبب ولا المسبّب من حيث أنفسهما حراماً ، ولكن المحرّم هو التوصّل إلى وجود المسبّب من ناحيـة خصوص هذا السبب ، ولايخفى عدم الملازمـة في هذا القسم أيضاً لو لم نقل بدلالـة النهي على الصحّـة من حيث إنّ متعلّق النهي لابدّ وأن يكون مقدوراً للمكلّف بعد تعلّق النهي ، فلو كانت المعاملـة فاسدةً ، لم يكن التوصّل با لمسبّب من طريق هذا السبب مقدوراً للمكلّف بعد النهي حتّى يتعلّق بـه ، وقد يعدّ باب الظهار من هذا القسم ; نظراً إلى أنّ السبب ـ وهو التلفّظ بأ لفاظـه ـ من حيث هو لايكون محرّماً ، وكذا المسبّب ـ وهي المفارقـة بين الزوجين والبينونـة بينهما ـ لايكون مبغوضاً أيضاً ; لتحقّقها في الطلاق ، بل المحرّم هو التوصّل إلى ذلك من طريق ألفاظ الظهار .


1 ـ مطارح الأنظار: 163 / السطر 33.
<<التالي الفهرس السابق>>