في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة381)

ومجرّد تحقّق الإطاعـة بترك فعل واحد والعصيان بإتيانـه لايوجب اللغويـة بعد وجود مادّة الافتراق بينهما ، كما لايخفى .
هذا ، ولكن الظاهر عدم كون النزاع في حرمـة التجرّي ; لأنّ تعلّق الحرمـة بعنوانـه قد عرفت بطلانـه ، وتعلّقـه بمعلوم الخمريـة مقيّداً بعدم مصادفـة العلم للواقع ـ مضافاً إلى استحا لتـه ـ ممنوع ; لعدم اختصاص ملاك التحريم بـه ، فلابدّ من أن يكون متعلّقاً بمعلوم الخمريـة مطلقاً ، ومن غير تقييد . وتعلّقـه بـه مستلزم للتسلسل ; لأنّ تعلّق الحرمـة بمعلوم الخمريـة معلوم أيضاً ، فيتحقّق نهي آخر متعلّق بمعلوم الحرمـة ، وتعلّق النهي الثاني بـه أيضاً معلوم ، فيتحقّق نهي آخر ، إلى ما لا نهايـة لـه ، وهذا ممّا يقطع بخلافـه .
فانقدح: أنّ المسألـة عقليـة كلاميـة ، يكون محلّ النزاع فيها هو حكم العقل باستحقاق المتجرّي للعقاب وعدمـه ، فلا تغفل .

المناط في استحقاق العقوبـة

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المتجرّي والعاصي كليهما يشتركان في جميع المراحل ، من تصوّر الحرام ، والتصديق بفائدتـه ، والعزم على ارتكابـه ، والجرأة على المولى ، وإنّما يفترقان في أمرين :
أحدهما: ارتكاب مبغوض المولى ، والإتيان بما فيـه المفسدة .
ثانيهما: مخا لفـة المولى ، وعدم إطاعـة تكليفـه عمداً .
فإنّ هذين الأمرين متحقّقان في العاصي دون المتجرّي ، ولاشبهـة في أنّ استحقاق العقوبـة ليس لمجرّد ارتكاب المبغوض وما فيـه المفسدة ، وإلاّ يلزم أن يكون الجاهل المرتكب للحرام مستحقّاً للعقوبـة ، كما أنّـه لاشبهـة في أنّ مخا لفـة المولى عمداً قبيح عند العقل ، ويستحقّ العبد بسببها العقوبـة ، بمعنى أنّ

(الصفحة382)

ا لعقل يحكم بحسن عقاب المولى للعبد الذي خا لف أحكامـه من أوامره ونواهيـه .
إنّما الإشكال في أنّ الجرأة على المولى وهتك حرمتـه ـ الذي يكون قبيحاً عقلاً بلاريب ـ هل يوجب استحقاق العقوبـة أم لا . ولايتوهّم الملازمـة بين القبح العقلي واستحقاق العقوبـة ; ضرورة أنّ أكثر ما يحكم العقل بقبحـه لايترتّب عليـه إلاّ مجرّد اللوم والذّم . ألا ترى أنّ ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، مع أنّـه لايستحقّ المرجّح بسببـه العقوبـة أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
فمجرّد حكم العقل بقبح شيء لايوجب استحقاق الفاعل للعقوبـة ، وحينئذ فإن قلنا بترتّب العقوبـة على مجرّد الجرأة على المولى فا للازم هو الالتزام بثبوت العقوبتين في صورة العصيان ، ولا وجـه للتداخل ، بعد كون كلّ من المخا لفـة العمديـة والجرأة على المولى سبباً مستقلاّ لثبوت العقاب ، ولم نعثر على من يقول بذلك ، فيستكشف منـه أنّ الجرأة على المولى التي يشترك فيها العاصي والمتجرّي لايوجب العقاب أصلاً . نعم ، يختصّ العاصي با لمخا لفـة العمديـة التي هي السبب في الاستحقاق .
فانقدح من ذلك: أنّـه لايترتّب على مجرّد التجرّي استحقاق للعقوبـة أصلاً . نعم ، لو قلنا بأنّ الجرأة على المولى لها صورة برزخيّـة ، وأثر في النفس يظهر في عا لم الغيب ، ويكون ملازماً للإنسان ، كما أنّـه يتجسّم الأعمال الصا لحـة والقبيحـة بصورها الملكوتيـة ، وترى كلّ نفس عين عملـه ، كما قال اللّـه تعا لى :(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوء)(1) ، وقال

1 ـ آل عمران (3): 30.

(الصفحة383)

تعا لى :(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ)(1) ، فيشترك العاصي والمتجرّي في هذا المعنى ، بلا تداخل في العاصي أصلاً ، كما لايخفى .
ثمّ لايذهب عليك : أنّ الفعل المتجرّى بـه الذي يكون مصداقاً لبعض العناوين الغير المحرّمـة حقيقةً لايتصف با لقبح أصلاً ; لعدم كونـه مصداقاً للتجرّي على المولى ـ الذي قد عرفت أنّـه قبيح عند العقل ـ ضرورة أنّ الجرأة على المولى إنّما تكون من الصفات النفسانيـة والأحوال العارضـة للنفس ، ولايكون لها مصداق في الخارج أصلاً ، بل هو نظير العلم والإرادة وغيرهما من الصفات التي محلّها النفس . نعم ، يكون الإتيان با لفعل المتجرّى بـه كاشفاً عن تحقّقـه فيها ، ومظهراً لثبوتـه ، ولايكون مصداقاً لـه ، كما هو واضح . وحينئذ فلا وجـه لسرايـة القبح إليـه ، بعد كونـه مصداقاً حقيقياً لبعض العناوين الغير المحرّمـة .

نقد كلام صاحب الكفايـة

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) بعد أن اختار قبح التجرّي ; مستدلاّ بشهادة الوجدان ، وذهب إلى أنّـه لايوجب تفاوتاً في الفعل المتجرّى بـه ، بل هو باق على ما هو عليـه من الحسن والقبح والوجوب أو الحرمـة ـ لعدم كونـه بما هو مقطوع الحرمـة اختيارياً ـ أورد على نفسـه بقولـه : إن قلت : إذا لم يكن الفعل كذلك فلا وجـه لاستحقاق العقوبـة على مخا لفـة القطع ، وهل كان العقاب عليها إلاّ عقاباً على ما ليس بالاختيار .
ثمّ أجاب بأنّ العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، لا

1 ـ الزلزال (99): 7 ـ 8.

(الصفحة384)

على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار .
وأورد على ذلك أيضاً بأنّ العزم والقصد إنّما يكون من مبادئ الاختيار ، وهي ليست باختياريـة .
وأجاب بما حاصلـه : إنّـه ـ مضافاً إلى أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار إلاّ أنّ بعض مبادئـه غا لباً يكون وجوده بالاختيار ـ يمكن أن يقال : إنّ صحّـة المؤاخذة والعقوبـة إنّما هي من آثار بعده عن سيّده بتجرّيـه عليـه ، فكما أنّ التجرّي يوجب البعد عنـه فكذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبـة ، فإنّـه وإن لم يكن باختياره إلاّ أنّـه بسوء سريرتـه بحسب نقصانـه ذاتاً ، ومع انتهاء الأمر إليـه يرتفع الإشكال ، وينقطع السؤال بلِمَ ، فإنّ الذاتيات ضروري الثبوت للذات .
ومن هنا أيضاً ينقطع السؤال عن أنّـه لِمَ اختار الكافر الكفر والعاصي العصيان والمؤمن الإيمان ؟ فإنّـه يساوق السؤال عن أنّ الحمار لِمَ يكون ناهقاً ؟ والإنسان لِمَ يكون ناطقاً ؟ وبا لجملـة فتفاوت أفراد الإنسان بالأخرة يكون ذاتياً ، والذاتي لايعلّل .
ثمّ قال : إن قلت : على هذا فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار .
وأجاب بما حاصلـه : أنّ ذلك لينتفع بـه من حسنت سريرتـه ، ويكون حجّـة على من ساءت سريرتـه ; ليهلك من هلك عن بيّنـة ، ويحيي من حيّ عن بيّنـة(1) ، انتهى .
وفيـه وجوه من الخلل:
الأوّل: أنّـه من الواضح أنّ الجواب عن الإيراد الثاني بأنّ بعض مبادئ

1 ـ كفايـة الاُصول: 298 ـ 301.

(الصفحة385)

ا لاختيار غا لباً يكون وجوده بالاختيار ممّا لايتمّ ; لأنّـه ينقل الكلام إلى المبادئ الاختياريـة ، ويقال : إنّ اختياريتها هل هي بالاختيار ، فيلزم التسلسل ، وإلاّ فيعود المحذور .
وا لتحقيق في باب اختياريـة الإرادة أن يقال : إنّـه لا إشكال في أنّ الأفعال الصادرة من الواجب تعا لى إنّما تكون صادرة بالإرادة والاختيار ، ولا معنى لاختياريتها إلاّ ذلك ، لا كون إرادتها أيضاً بإرادة اُخرى ، وإلاّ يلزم أن لاتكون إرادتـه تعا لى عين ذاتـه ، وأن تكون إرادتـه حادثـة ، مع أنّـه مستحيل بداهـة ; ضرورة أنّ الإرادة من الصفات الكما ليـة ، والواجب مستجمع لجميعها ، وإلاّ يلزم النقص فيـه .
مضافاً إلى أنّـه لو كانت الإرادة حادثـة فيـه تعا لى لكان حدوثها كاشفاً عن قابليتـه واستعداده لأن يحدث فيـه هذه الصفـة ، وقد قرّر في محلّـه أنّ القابليـة والاستعداد إنّما يكون محلّها المادّة والهيولى(1) فيلزم أن يكون مركّباً من الجهـة ا لفعليـة والمادّة ، والتركيب مساوق للاحتياج الذي هو عين ذات الممكن ، فا لواجب تعا لى يكون مريداً للأفعال الصادرة منـه ، قادراً عليها ، بمعنى أنّـه يصدر منـه بالإرادة ، لا أنّـه يصدر إرادتها أيضاً بالإرادة ، وإلاّ يلزم ما ذكر .
ونظير ذلك يمكن أن يقال في الإنسان ، بمعنى أنّ الأفعال الاختياريـة الصادرة منـه إنّما تصدر منـه مع سبق الإرادة ، وهي قائمـة با لنفس ، مخلوقـة لها ، موجودة بإيجادها ، فهي أمر اختياري صادرة عن إرادة واختيار ، لابإرادة اُخرى .
مضافاً إلى أنّـه لايعتبر في صحّـة العقوبـة والمؤاخذة على الفعل أزيد من كون الفعل صادراً عن علم وإرادة ، كما يظهر بملاحظـة سيرة العقلاء ، فإنّهم

1 ـ الحكمـة المتعاليـة 3: 49 ـ 56، شرح المنظومـة، قسم الحكمـة: 77 ـ 79.

(الصفحة386)

يحكمون باستحقاق عبيدهم للعقوبـة بمجرّد ما إذا صدر منـه فعل مخا لف للمولى اختياراً ، ولايستندون في ذلك إلاّ إلى مجرّد صدوره منـه كذلك ـ أي عن علم وإرادة ـ ولايلتفتون إلى كون مبادئ الإرادة هل هي تكون اختياريـة أم لا ؟
كيف ولو كان الفعل الاختياري عبارة عمّا يكون مبادئـه اختياريـة فلا وجـه لاختصاص الاختياريـة بالإرادة ، بل لابدّ من القول بلزوم أن يكون جميع ما لـه دخل في وجود الفعل اختيارياً ـ كوجود الفاعل وعلمـه وشوقـه ـ فيلزم أن لايتحقّق فعل اختياري ، حتّى من الواجب تعا لى ، وهو ضروري البطلان .
الثاني: أنّ القرب والبعد با لنسبـة إلى اللّـه تعا لى قد يكون المراد منـه هو كمال الوجود ونقصـه ، بمعنى أنّ كلّ ما كان وجوده تامّاً كاملاً يكون قريباً من مبدء الكمال ، كا لعقول المجرّدة ، وكلّ ما كان ناقصاً يكون بعيداً عنـه ، كا لموجودات المادّيـة ; حيث إنّ كما لها عين النقص وفعليتها عين القوّة ، ومن الواضح أنّ القرب والبعد بهذا المعنى لايكونان مناط الثواب والعقاب .
وقد يكون المراد منهما هما الأمرين اللذين ينتزعان من استكمال العبد بسبب الطاعـة وفعل القربات ، وانحطاطـه وبعده بسبب العصيان ، فهما وإن كانا مناطين للثواب والعقاب ـ بمعنى أنّ فعل القربات يوجب استحقاق الجنان ، وارتكاب المبعّدات يوجب استحقاق النيران ـ إلاّ أنّـه ليس استحقاق المثوبـة والعقوبـة من تبعات نفس القرب والبعد ، بل هما ينتزعان من الطاعـة والمعصيـة ، والعقل إنّما يحكم باستحقاق العاصي للعقاب والمطيع للثواب ، من دون توجّـه إلى القرب والبعد .
وبا لجملـة : القرب والبعد ، وكذا استحقاق المثوبـة والعقوبـة كلّها منتزعات من الطاعـة والمعصيـة في رتبـة واحدة ، بلا تقدّم لأحدهما على الآخر ، كما لايخفى .


(الصفحة387)

الثالث: أنّ ما ذكره من انتهاء الأمر بالأخرة إلى الذاتي ، وهو لايعلّل ممّا لايتمّ أصلاً ، وذلك يتوقّف على بيان المراد من قولهم : «ا لذاتي لايعلّل» ليظهر الحال ويرتفع الإشكال .
فنقول: المراد با لذاتي المذكور في هذه الجملـة ـ قبالاً للعرضي ـ هو الذاتي المتداول في باب البرهان ، وهو ما لايمكن انفكاكـه عن الذات ، سواء كان من أجزاء الماهيـة أو خارجاً عنها ملازماً لها .
وا لوجـه في عدم كونها معلّلـة وكونها مستغنيـة عن العلّـة هو أنّ مناط الافتقار والاحتياج إليها هو الإمكان المساوق لتساوي الطرفين ، من دون ترجيح لأحدهما على الآخر ; ضرورة أنّ الواجب والممتنع مستغنيان عن العلّـة ; لكون الوجود للأوّل والعدم للثاني ضرورياً لايمكن الانفكاك عنهما .
وبالجملـة: فا لمفهوم إذا قيس ولوحظ مع شيء آخر فإمّا أن يكون ذلك الشيء ضروري الثبوت لـه ، أو ضروري العدم لـه ، أو لا ضروري الثبوت ولا ضروري اللاثبوت لـه ، فإذا فرض كونـه ضروري الثبوت لـه ـ كا لوجود با لنسبـة إلى الواجب تعا لى ، وكأجزاء الماهيـة ولوازمها با لنسبـة إليها ـ فلايعقل أن يكون في اتصافـه بذلك الشيء مفتقراً إلى العلّـة ، وكذلك لو فرض كونـه ضروري اللاثبوت لـه ـ كا لوجود با لنسبـة إلى شريك الباري ـ وأمّا لو فرض كون ثبوتـه لـه وعدمـه متساويـين بلاترجيح لأحدهما على الآخر فهو الذي يحتاج إلى علّـة مرجّحـة ; لأنّ ترجّح أحد الطرفين على الآخر بذاتـه مستحيل بداهـة ، ولايقول بـه أحد ، حتّى القائلين بجواز الترجيح من دون مرجّح .
فانقدح: أنّ مناط الافتقار هو الإمكان ، ومن الواضح أنّ جميع الموجودات عدا واجب الوجود ـ عزّ شأنـه ـ لا مناص لهم من الاتصاف بالإمكان ، فا لوجود فيهم وجود إمكاني معلول ، فلايكون ذاتياً لهم ; للاحتياج إلى العلّـة .


(الصفحة388)

نعم ، قد عرفت : أنّ ثبوت أجزاء الماهيـة ولوازمها لذاتها ممّا لايحتاج إلى الجعل والعلّـة ، إلاّ أنّـه قد قرّر في محلّـه(1) أنّ الماهيات اُمور اعتباريـة ينتزعها ا لعقل بعد ملاحظـة الوجودات ، وهي محرومـة عن الجعل ممنوعـة عنـه ، ولا تكون منشأ للآثار ، ولا علّيـة ولا معلوليـة بينها أصلاً .
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ السعادة والشقاوة هل هما من سنخ الوجودات أو من قبيل لوازم الماهيات ، فعلى الأوّل لايعقل كونهما من الذاتيات ; لما عرفت من أنّ الوجود في غير الواجب تعا لى وجود إمكاني محتاج إلى الجعل . ودعوى كونهما ذاتيين تنافي ما قامت عليـه البراهين القاطعـة والأدلّـة الساطعـة من وحدة الواجب تعا لى . وعلى الثاني لايكونان منشأ للآثار . فاختيار الكفر والعصيان ، وكذا الإرادة التي هي أمر وجودي لايعقل أن يكون مستنداً إلى الذات والذاتيات التي هي اُمور اعتباري ومخترعات عقلي .
فا لحقّ أنّهما من الاُمور الاعتباريـة المنتزعـة عن فعل القربات ، وارتكاب المبعّدات ، ولايكونان من الذاتيات أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .


1 ـ الحكمـة المتعاليـة 1: 38 ـ 75 و396 ـ 423، شرح المنظومـة، قسم الحكمـة: 10 ـ 15.

(الصفحة389)






الأمر الثالث

أقسام القطع وأحكامـه

ا لقطع قد يكون طريقاً محضاً ، بأن لايكون مأخوذاً في موضوع حكم أصلاً ، سواء تعلّق بموضوع خارجي أو موضوع ذي حكم ، أو حكم شرعي متعلّق بما لايكون القطع مأخوذاً فيـه . وقد يكون مأخوذاً في الموضوع تارة بنحو يكون تمام الموضوع ، واُخرى بنحو يكون جزئـه ، فهاهنا أقسام :
فإنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّـة القائمـة با لنفس ـ قياماً صدورياً أو حلولياً على القولين ـ فيمكن أن يؤخذ في موضوع الحكم من هذه الحيثيـة ، مع قطع النظر عن كونـه كاشفاً عن الواقع ، كما أنّـه يمكن أن يؤخذ فيـه مع ملاحظـة جهـة كشفـه ، لكن لمّا كان الكشف فيـه تامّاً ـ بخلاف الكشف في سائر الأمارات ـ فيمكن أن يؤخذ تارة بما أنّـه كاشف تامّ ممتاز عن سائر الأمارات ، واُخرى بما أنّـه كاشف ، مع قطع النظر عن الاتصاف با لتماميـة .
وليعلم: أنّـه لاينافي كون العلم بسيطاً غير مركّب ; ضرورة أنّ تغاير الجهتين إنّما يتحقّق بتحليل عقلي ، وإلاّ فمن الواضح أنّ العلم لايكون مركّباً من الكشف والتماميـة ، وكذلك الظنّ ، فإنّـه لايكون مركّباً منـه ومن النقصان . فا لنسبـة بينهما

(الصفحة390)

هي النسبـة بين الوجود القوي والوجود الضعيف ، فإنّ العقل وإن كان يعتبر أنّ امتياز الأوّل عن الثاني إنّما هو لجهـة التماميـة والكمال والشدّة ، إلاّ أنّـه لايوجب كونـه مركّباً ; ضرورة أنّ الوجود بسيط ، كما قد قرّر في محلّـه(1) .
فالأقسام الحاصلـة للقطع الموضوعي ستّـة ; لأنّـه إمّا أن يعتبر بنحو الصفتيـة مع قطع النظر عن الكاشفيـة ، وإمّا أن يعتبر بنحو الكاشفيـة التامّـة ، وإمّا أن يؤخذ بنحو أصل الكشف المشترك بينـه وبين سائر الأمارات .
وعلى التقديرات الثلاثـة : فتارة يكون تمام الموضوع ، واُخرى يكون بعض الموضوع .

تقرير إشكال أخذ القطع تمام الموضوع على وجـه الطريقيـة

ثمّ إنّـه استشكل بعض المحقّقين من المعاصرين ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجـه الطريقيـة ، فقال في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجـه الطريقيـة إشكال ، بل الظاهر أنّـه لايمكن من جهـة أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجـه من الوجوه ، وأخذه على وجـه الطريقيـة يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي الصورة ، ويكون النظر في الحقيقـة إلى الواقع المنكشف با لعلم ، كما هو الشأن في كلّ طريق ; حيث إنّ لحاظـه طريقاً يكون في الحقيقـة لحاظاً لذي الطريق ، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع(2) ، انتهى .
ولايخفى: أنّ عدم إمكان الجمع بين الطريقيـة والموضوعيـة إنّما هو فيما

1 ـ الحكمـة المتعاليـة 1: 50، شرح المنظومـة، قسم الحكمـة: 22.
2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 11.

(الصفحة391)

إذا أراد القاطع الجمع بينهما ; لأنّ نظره الاستقلالي إلى الواقع المقطوع بـه ، ونظره إلى نفس القطع آليّ ، ولايمكن لـه أن ينظر إليـه في هذا اللحاظ با للحاظ الاستقلالي ، بل يحتاج إلى لحاظ آخر .
وأمّا غير القاطع فيمكنـه أن يلاحظ استقلالاً القطع الذي يكون نظر القاطع إليـه آلياً محضاً ، فهو ينظر استقلالاً إلى القطع الذي يكون طريقاً لقاطعـه ، ولايلزم محال أصلاً . وعلى تقدير لزومـه فلا اختصاص لـه بما إذا اُخذ بنحو تمام الموضوع ; لعدم الفرق بينـه وبين ما إذا اُخذ جزءً لـه .

أخذ القطع بحكم موضوعاً لمثل ذلك الحكم

ثمّ إنّـه لابأس في أن يؤخذ القطع بحكم موضوعاً تامّاً لمثل ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «إذا قطعت بحرمـة شيء فهو ـ أي مقطوع الحرمـة ـ يكون لك حراماً» ، وكذا في أن يؤخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعاً تامّاً لمثل ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «مقطوع الخمريـة حرام» ، مع كون الخمر أيضاً بنفسـه حراماً .
وذلك لثبوت التغاير بين متعلّقي الحكمين بنحو العموم من وجـه ; ضرورة أنّ مقطوع الخمريـة قد لايكون خمراً بحسب الواقع ، وكذلك الخمر قد لايتعلّق بـه القطع ، حتّى يصير مقطوعاً . وقد عرفت في مبحث اجتماع الأمر والنهي أنّ الجواز هو مقتضى التحقيق ، ومجرّد الاجتماع في الخارج دائماً بنظر القاطع لايوجب اتحاد المفهومين اللذين هما متعلّقا الأحكام ، لا مصاديقهما ; لأنّ الخارج ظرف سقوط التكليف لا ثبوتـه . ومن هنا يظهر جواز أخذه موضوعاً لنقيض الحكم المقطوع أو حكم المقطوع بـه .
نعم ، لايجوز ذلك إذا اُخذ القطع بنحو الجزئيـة للموضوع ، كما إذا قيل مثلاً :

(الصفحة392)

«ا لخمر المقطوع حرام» فإنّـه لايجتمع مع ثبوت الحرمـة لنفس الخمر ; لكون التغاير بين المتعلّقين بنحو العموم والخصوص مطلقاً . وقد حقّقنا سابقاً أنّـه لايجوز تعلّق حكمين : أحدهما با لمطلق ، والآخر با لمقيّد ، فراجع .

أخذ القطع بحكم موضوعاً لنفس ذلك الحكم

ثمّ إنّـه لايمكن أن يؤخذ القطع با لحكم موضوعاً با لنسبـة إلى نفس الحكم الذي تعلّق العلم بـه ; للزوم الدور ، كما هو واضح .
وفي تقريرات بحث بعض محقّقي العصر إمكانـه بنحو نتيجـة التقييد ، قال في توضيحـه ما ملخّصـه : إنّ العلم با لحكم لمّا كان من الانقسامات اللاحقـة للحكم فلايمكن فيـه الإطلاق والتقييد اللحاظي ; لاستلزامـه الدور ، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقـة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم بـه ، كقصد التعبّد ، أمّا استحا لـة تقييد اللحاظي فواضح ، وأمّا استحا لـة الإطلاق فلأنّـه إذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضاً ; لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكـة .
ولكن الإهمال الثبوتي أيضاً لايعقل ، بل لابدّ إمّا من نتيجـة الإطلاق أو نتيجـة التقييد ، فإنّ الملاك الذي اقتضى تشريع الحكم إمّا أن يكون محفوظاً في كلتي حا لتي الوجود والعدم فلابدّ من نتيجـة الإطلاق ، وإمّا أن يكون محفوظاً في حا لـة العلم فقط فلابدّ من نتيجـة التقييد ، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفّلاً لبيان ذلك فلابدّ من جعل آخر يستفاد منـه أحدهما ، وهو المصطلح عليـه بمتمّم الجعل . فاستكشاف كلّ منهما يكون من دليل آخر .


(الصفحة393)

وقد ادّعى تواتر الأدلّـة على اشتراك الأحكام في حقّ الجاهل والعا لم(1) ، ونحن وإن لم نعثر على تلك الأدلّـة ، سوى بعض أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب «ا لحدائق» في مقدّمات كتابــه(2) ، إلاّ أنّ الظاهر قيام الإجماع ، بل الضرورة على ذلك ، ومن هنا كان الجاهل المقصّر معاقباً إجماعاً .
ولكن تلك الأدلّـة قابلـة للتخصيص ، كما قد خصّصت في غير مورد ، كما في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام ; حيث قام الدليل على اختصاص الحكم با لعا لم . وكما يصحّ أخذ العلم با لحكم شرطاً في ثبوتـه كذلك يصحّ أخذ العلم با لحكم من وجـه خاصّ وسبب خاصّ ، مانعاً عن ثبوت الحكم ، كما في باب القياس ; حيث إنّـه قام الدليل على أنّـه لا عبرة با لعلم با لحكم الحاصل من طريق القياس ، كما في روايـة أبان في مسألـة ديـة أصابع المرأة(3) ، وليس هذا نهي عن العمل با لعلم ، حتّى يقال : إنّ ذلك لايعقل ، بل مرجعـه إلى التصرّف في المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع .
وبذلك يمكن أن توجّـه مقا لـة الأخباريـين من أنّـه لا عبرة با لعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّـة(4) ، بل شيخنا الاُستاذ نفى البعد عن كون الأحكام مقيّدة بما إذا لم يكن المؤدّى إليها مثـل الجفـر والرمل والمنام وغير ذلك من الطرق الغير المتعارفـة(5) ، انتهى .


1 ـ فرائد الاُصول 1: 44.
2 ـ الحدائق الناضرة 1: 77.
3 ـ الكافي 7: 299 / 6، وسائل الشيعـة 29: 352، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، الباب 44، الحديث 1.
4 ـ الفوائد المدنيّـة: 128.
5 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 11 ـ 14.

(الصفحة394)

وفيـه أوّلاً: أنّ بعض الانقسامات اللاحقـة ممّا لايمكن تقييد الأدلّـة بـه ، ولايمكن فيـه نتيجـة التقييد مثل المقام ، فإنّ أخذ القطع موضوعاً با لنسبـة إلى نفس الحكم الذي تعلّق بـه مستحيل بأيّ وجـه كان .
وكيف يمكن أن يكون الحكم مختصّاً با لعا لم بـه ، مع كونـه من الدور الواضح ؟ فإنّ العلم با لحكم يتوقّف على ثبوتـه با لضرورة ، فلو فرض اختصاصـه با لعا لم ـ ولو بنتيجـة التقييد ـ يصير الحكم متوقّفاً على العلم بـه . وبا لجملـة فلايرتفع إشكال الدور بذلك .
نعم ، يمكن تقييد الأدلّـة ببعض الانقسامات اللاحقـة بدليل آخر ، كقصد التقرّب في العبادات ، بناءً على عدم إمكان التقييد اللحاظي ، ولكنّك عرفت في مبحث التعبّدي والتوصّلي إمكانـه ، فضلاً عن التقييد بدليل آخر .
وأمّا باب الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام فلايكون من باب الاختصاص ، فإنّـه يمكن أن يكون عدم وجوب القضاء والإعادة من باب التخفيف والتقبّل ، لا من باب صحّـة العمل ومطابقـة المأتيّ بـه مع المأمور بـه ، كما نفينا البعد عنـه في مثل حديث لا تعاد ، بناءً على عدم اختصاصـه با لسهو(1) .
وثانياً: أنّ التقييد اللحاظي ـ الذي حكم بأنّـه إذا امتنع امتنع الإطلاق ; لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكـة ـ هل هو مقابل للإطلاق اللحاظي ، أو أنّـه يقابل نفس الإطلاق ، من دون اتصافـه بذلك .
فعلى الأوّل يرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ معنى الإطلاق ، كما حقّقناه في موضعـه هو عبارة عن مجرّد عدم لحاظ التقييد ، ولايحتاج إلى اللحاظ أصلاً(2)ـ

1 ـ الفقيـه 1: 225 / 991، وسائل الشيعـة 6: 91، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب29، الحديث 5.
2 ـ مناهج الوصول 2: 315.

(الصفحة395)

أنّ اللحاظين أمران وجوديان ، والتقابل بينهما حينئذ يكون من قبيل تقابل الضدّين ، لا العدم والملكـة .
وعلى الثاني يرد عليـه منع الملازمـة بين امتناع التقييد وامتناع الإطلاق ; لأنّ التقابل بينهما حينئذ وإن كان من قبيل تقابل العدم والملكـة إلاّ أنّ ذلك لايقتضي ثبوت الملازمـة .
وتوضيحـه : أنّ المتعلّق قد لايمكن تقييده ; لقصور فيـه ; بحيث لايكون لـه شأنيـة التقييد أصلاً ، وقد لايمكن ذلك ، لا لقصوره وعدم الشأنيـة ، بل لمنع خارجي ، كلزوم الدور ونحوه . ففي الأوّل لايمكن الإطلاق ; لأنّ ذلك مقتضى تقابل العدم والملكـة في جميع الموارد ، فإنّـه لايقال للجدار أعمى ، ولايقال زيد مطلق بالإطلاق الأفرادي ، وهذا بخلاف الثاني ، كما في المقام ، فإنّ امتناع التقييد ليس لعدم القابليـة لـه ، بل لمنع خارجي ; وهو استلزامـه للدور ، وفي مثلـه يمكن الإطلاق . وحينئذ فلابأس بأن يقال : إنّ دليل اشتراك الأحكام بين العا لم والجاهل هو إطلاقات الكتاب والسنّـة ، ولا احتياج إلى التماس دليل آخر ; ولذا تراهم يتمسّكون بها في كثير من الموارد ، كما لايخفى .
وثالثاً: أنّ ما ذكره في القياس ممّا لايتمّ ، فإنّ من راجع الأدلّـة الناهيـة عن العمل با لقياس يعرف أنّ المنع عنـه إنّما هو لأجل قصور العقول البشريـة ، وبعدها عن الوصول إلى أحكام اللّـه تعا لى من قبل نفسـه ، وعدم حصول العلم منـه غا لباً ، لا لأجل الفرق بين العلم الحاصل منـه والقطع الحاصل من غيره ، فراجع الأخبار الواردة في هذا الباب ، المذكورة في كتاب القضاء من «ا لوسائل»(1) .
ثمّ إنّـه حكى عن صاحب «ا لمقالات» أنّـه ذهب إلى إمكان أخذ القطع

1 ـ وسائل الشيعـة 27: 35، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6.

(الصفحة396)

با لحكم في موضوع نفس ذلك الحكم بنحو نتيجـة التقييد بوجـه آخر(1) ، غير ا لذي عرفت ، فراجع كلامـه ، وتأمّل في جوابـه .
والتحقيق في المقام أن يقال: إنّـه تارة يؤخذ القطع با لحكم تمام الموضوع لذلك الحكم ، بمعنى أنّ الموضوع لـه إنّما هو القطع ، سواء أخطأ أو أصاب ، فلا مدخليـة لوجود الحكم واقعاً في تحقّق موضوعـه ، واُخرى يؤخذ بعض الموضوع ; بحيث كان الموضوع هو القطع الذي أصاب .
وإن شئت قلت : إنّ الموضوع هو الواقع المقطوع بـه ، ففي الأوّل يمكن ذلك بلا استلزام للدور أصلاً ; ضرورة أنّ الحكم ، وإن كان يتوقّف حينئذ على موضوعـه الذي هو القطع با لحكم ، إلاّ أنّ الموضوع لايتوقّف على ثبوتـه أصلاً ; ضرورة أنّ الموضوع إنّما هو نفس القطع ، وهو قد يحصل مع عدم تحقّق المقطوع في الواقع ; إذ ليس كلّ قطع مصيباً ، كما هو واضح .
وهذا بخلاف ما إذا اُخذ بعض الموضوع ، فإنّ تحقّق القطع حينئذ وإن كان لايتوقّف على ثبوت الحكم في الواقع ، إلاّ أنّ المفروض هو عدم كونـه تمام الموضوع ، بل قيد الإصابـة معتبر فيـه ، وهو لايتحقّق بدون ثبوت الحكم في الواقع ، فصارتحقّق الموضوع متوقّفاً على ثبوت الحكم في ا لواقع ، وهودور صريح .

حول قيام الأمارات والاُصول مقام القطع

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّـه يقع البحث في قيام الطرق والأمارات والاُصول بنفس أدلّتها مقام القطع بأقسامـه ، وفيـه مقامان :


1 ـ نهايـة الأفكار 3: 15.

(الصفحة397)

ا لأوّل : في إمكان قيامها مقامـه ثبوتاً .
ا لثاني : في وقوعـه إثباتاً .

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع ثبوتاً

أمّا المقام الأوّل : فا لظاهر الإمكان وعدم لزوم محذور ، عدا ما أفاده المحقّق الخراساني ، وهو يرجع إلى إشكا لين :
أحدهما: أنّ الدليل الواحد لايكاد يكفي إلاّ بأحد التنزيلين ; حيث لابدّ في كلّ تنزيل من لحاظ المنزّل والمنزّل عليـه ، ولحاظهما في أحدهما آليّ وفي الآخر استقلالي ; ضرورة أنّ النظر في حجّيتـه وتنزيلـه منزلـة القطع في الطريقيـة في الحقيقـة إلى الواقع ومؤدّى الطريق ، وفي كونـه بمنزلتـه في دخلـه في الموضوع إلى أنفسهما ، ولايكاد يمكن الجمع بينهما(1) ، هذا .
وا لجواب عنـه هو ما ذكرناه جواباً عن الإشكال في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجـه الطريقيـة ، كما عرفت سابقاً ، فراجع(2) .
ثانيهما: ما ذكره ; ردّاً على مقا لتـه في «ا لحاشيـة» ; حيث التزم فيها

1 ـ كفايـة الاُصول: 304.
2 ـ ويؤيّده، بل يدلّ عليـه حكم العقل بحجّيـة القطع الطريقي، فإنّ القطع المأخوذ موضوعاً للحكم بالحجّيـة وإن كان هو القطع الطريقي بنحو يكون تمام الموضوع لهذا الحكم; ضرورة أنّـه لا فرق في الحجّيـة بين ما إذا أصاب القطع أو أخطأ، إلاّ أنّـه لاينافي ذلك مع كون المراد هو القطع الطريقي الذي لايكون ملحوظاً عند القاطع إلاّ بنحو الآليـة. ففي هذا الحكم اجتمع بين كونـه تمام الموضوع، وكونـه هو القطع الطريقي، ومن المعلوم أنّـه لا فرق بين هذا الحكم الذي يكون الحاكم بـه العقل وبين سائر الأحكام التي يكون الحاكم بها الشرع من هذه الحيثيـة أصلاً، كما لايخفى. [المقرّر حفظـه اللّـه].

(الصفحة398)

لتصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلـة الواقع والقطع بأنّ دليل الاعتبار إنّما يوجب تنزيل المؤدّى منزلـة الواقع ، وإنّما كان تنزيل القطع فيما لـه دخل في الموضوع با لملازمـة بين تنزيلهما وتنزيل القطع با لواقع تعبّداً منزلـة القطع با لواقع حقيقةً(1) .
وملخّص ما أفاده في وجـه الردّ: أنّـه لايكاد يصحّ تنزيل جزء من الموضوع أو قيده بلحاظ أثره إلاّ فيما كان جزؤه الآخر أو ذاتـه محرزاً با لوجدان ، أو تنزيلـه في عرضـه . فلايكاد يكون دليل الأمارة دليلاً على تنزيل جزء الموضوع ، ما لم يكن دليل على تنزيل جزئـه الآخر ، ففي مثل المقام لايكون دليل الأمارة دليلاً عليـه ; للزوم الدور ، فإنّ دلالتـه على تنزيل المؤدّى تتوقّف على دلالتـه على تنزيل القطع با لملازمـة ، ولا دلالـة لـه كذلك إلاّ بعد دلالتـه على تنزيل المؤدّى ، كما لايخفى(2) .
وفيـه : أنّـه يكفي في صحّـة التنزيل الأثر التعليقي ، وهو هنا متحقّق ، فإنّ المؤدّى لو انضمّت إليـه جزؤه الآخر يكون ذا أثر فعلي . فانقدح : أنّ الإمكان وعدم لزوم أمر مستحيل من ذلك ممّا لا مجال للمناقشـة فيـه أصلاً .

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع إثباتاً

ا لمقام الثاني : فيما يدلّ عليـه أدلّـة الأمارات والاُصول ، فنقول :
أمّا الأمارات: فقد ذكر في التقريرات كلاماً طويلاً ، واُسّس بنياناً رفيعاً

1 ـ درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 31.
2 ـ كفايـة الاُصول: 306 ـ 307.

(الصفحة399)

لقيامها بأدلّـة اعتبارها مقام القطع(1) ، ولكنّـه خال عن الدليل ; لعدم دلالـة أدلّـة حجّيـة الأمارات على ما ذكره أصلاً .
والتحقيق أن يقال: إنّ العمدة في أدلّـة حجّيـة الأمارات هي بناء العقلاء بما هم عقلاء على العمل على طبقها ، وليس للشارع في اعتبارها تأسيس أصلاً ، كما يظهر بمراجعـة الأخبار الواردة في حجّيـة خبر الواحد الذي هو من عمدة الأمارات ، فإنّـه لايظهر من شيء منها ما يدلّ على حجّيـة خبر الواحد ، أو وجوب تصديق العادل ، أو نحوهما ممّا يشعر بكون الشارع جعل خبر الواحد طريقاً إلى الأحكام ، بل التأمّل فيها يقضي بكون ذلك أمراً مسلّماً عند الناس ; بحيث لايحتاج إلى السؤال ; لأنّ بنائهم في الاُمور الدنيويـة كلّها أيضاً على العمل بذلك .
وبالجملـة: كون الدليل على ذلك هو مجرّد بناء العقلاء ، وعمل الشارع بـه إنّما هو لكونـه منهم ممّا لا مجال للإشكال فيـه . وحينئذ فنقول : لا إشكال في أنّ الوجـه في ذلك ليس لكون الظنّ عندهم بمنزلـة القطع ، ويقوم مقامـه ، فإنّ لهم طرقاً معتبرة يعملون بها في اُمورهم ، من غير تنزيل شيء منها مقام الآخر .
ومنـه يظهر: أنّ الأثر المترتّب على القطع الطريقي ـ وهو الحجّيـة والمنجّزيـة للواقع على تقدير الثبوت ـ يترتّب على تلك الطرق العقلائيـة ، لكن لا من باب كونها قائمـة مقام القطع ، ومنزّلـة بمنزلتـه . وتقدّم القطع على سائر الطرق العقلائيـة لايؤيّد دعوى التنزيل ، فإنّ الوجـه فيـه إنّما هو أنّ العمل على طبقها إنّما هو مع فقد العلم ، وذلك لايوجب انحصار الطريق في القطع ; بحيث تكون سائر الطرق قائمـة مقامـه ، ويكون العمل بها بعنايـة التنزيل .
وأمّا القطع الموضوعي: فما كان منـه مأخوذاً في الموضوع على نعت

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 15.

(الصفحة400)

ا لصفتيـة فلا إشكال في عدم قيام الظنّ مقامـه ، ولا في عدم ترتّب آثاره عليـه ، كما أنّـه لا إشكال في ذلك فيما لو كان القطع مأخوذاً على وجـه الطريقيـة التامّـة .
وأمّا لو كان مأخوذاً في الموضوع بما أنّـه أحد الكواشف فلاريب في ترتّب حكمـه على الظنّ أيضاً ، لكن لا من باب كونـه قائماً مقامـه ، بل من باب كونـه أيضاً مأخوذاً في الموضوع ، فإنّ المفروض أنّ القطع قد اُخذ فيـه بما أنّـه من الكواشف ، فمرجعـه إلى كون الدخيل في الموضوع هو الكاشف بما هو كاشف ، والظنّ أيضاً كا لقطع يكون من مصاديقـه ، كما هو واضح ، هذا حال الأمارات .
وأمّا الاُصول، فمنها : الاستصحاب، ولايخفى أنّ مفاد الأخبار الواردة في بابـه ليس إلاّ مجرّد البناء العملي على بقاء المتيقّن سابقاً في زمان الشكّ ، وترتيب آثار البقاء في حا لـه ، فهو أصل تعبّدي مرجعـه إلى مجرّد بقاء المتيقّن تعبّداً ، والحكم بثبوتـه شرعاً ، وهذا المعنى لا ارتباط لـه بباب التنزيل وإقامتـه مقام القطع أصلاً ، كما هو واضح .
نعم ، لو كان مفاد أخبار الاستصحاب هي إطا لـة عمر اليقين ووجوب عدم نقضـه ; بحيث يكون مرجعها إلى كون الشاكّ فعلاً متيقّناً شرعاً وتعبّداً لكان الظاهر هو قيام الاستصحاب مقام القطع بجميع أقسامـه . لكن الأمر ليس كذلك ، كما سنحقّقـه إن شاء اللّـه تعا لى في موضعـه(1) .


1 ـ ومنها: أصالـة البراءة الشرعيـة التي هي مقتضى مثل حديث الرفع، ومن الواضح أنّ مفادها رفع التكليف من جهـة عدم تعلّق العلم بـه، وكونـه مجهولاً، ولا دلالـة لها على التنزيل منزلـة اليقين بوجـه.
ومنها: الاُصول العمليـة العقليـة، كأصالـة البراءة، وأصالـة التخيير، ومن المعلوم أنّ مقتضاها مجرّد الحكم بقبح العقاب مع فرض الجهل بالحكم، وعدم ثبوت البيان بالإضافـة إليـه، ولا معنى لاقتضائها التنزيل، كما إنّ مقتضى أصالـة التخيير ثبوتـه لأجل الجهل، وعدم ثبوت الترجيح بوجـه، وهو لايرتبط بالتنزيل أصلاً، كما لايخفى. [المقرّر حفظـه اللّـه].
<<التالي الفهرس السابق>>