في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة401)

ومنها: قاعدتا التجاوز والفراغ، ولايخفى أنّ التأمّل في الأخبار الواردة فيهما يعطي أنّ مفادها ليس إلاّ مجرّد البناء عملاً على تحقّق المشكوك ، والحكم بثبوتـه في محلّـه .
فانظر إلى ما ورد في روايـة حمّاد ، بعد سؤا لـه عنـه(عليه السلام) أشكّ ، وأنا ساجد ، فلا أدري ركعت أم لا من قولـه(عليه السلام) : «قد ركعت»(1) . فهذا المضمون ونظائره ظاهر في مجرّد فرض تحقّق الشيء المشكوك ، والبناء عليـه عملاً ، ولا نظر في أدلّتهما إلى جعل المكلّف مقام القاطع ، والحكم بكونـه مثلـه ; بحيث لو ورد دليل كان القطع مأخوذاً في موضوعـه ، كقولـه مثلاً : إذا قطعت با لركوع فعليك كذا وكذا يكون مفاده شاملاً للمكلّف الشاكّ في الركوع المتجاوز عن محلّـه ، أو الفارغ عن العمل ; نظراً إلى تلك الأدلّـة .
وبالجملـة: فا لظاهر عدم الإشكال في أنّـه ليس شيء من أدلّـة الاُصول ناظراً إلى التنزيل ، وبصدد جعل المكلّف قاطعاً تعبّداً . نعم ، لو فرض كون مفادها ذلك فا لظاهر أنّـه لا فرق بين القطع الطريقي والموضوعي ، ولا فرق في الثاني أيضاً بين ما كان مأخوذاً على وجـه الصفتيـة وما كان مأخوذاً على نعت الطريقيـة ، كما هو واضح .


1 ـ تهذيب الأحكام 2: 151 / 594، وسائل الشيعـة 6: 317، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 2.

(الصفحة402)






الأمر الرابع

حكم الظنّ في المقام

قد عرفت حكم القطع المأخوذ في موضوع نفس الحكم المقطوع بـه أو مثلـه أو ضدّه ، فاعلم : أنّ حكم الظنّ أيضاً مثلـه ، فيجوز أن يكون مأخوذاً موضوعاً تامّاً لنفس الحكم المظنون أو لضدّه أو مثلـه ; لعدم لزوم الدور أصلاً ، وعدم لزوم اجتماع المثلين أو الضدّين .
نعم ، لو كان مأخوذاً في الموضوع ناقصاً ; بحيث كان الموضوع مركّباً منـه ومن ا لشيء المظنون . وبعبارة اُخرى : كان قيد الإصابـة معتبراً فيـه فلايجوز أصلاً ; للزوم الدور فيما إذا كان مأخوذاً في موضوع نفس ذلك الحكم المظنون ، ولزوم اجتماع المثلين أوا لضدّين فيما إذا كان مأخوذاًفي موضوع مثل ذلك الحكم أو ضدّه .
ثمّ لايخفى أنّ التعبير بكلمـة التضادّ إنّما هو لأجل متابعتهم ، وإلاّ فقد عرفت في بعض المباحث المتقدّمـة أنّ ما اشتهر بينهم من كون النسبـة بين الأحكام هي التضادّ ممّا لا وجـه لـه ، ولعلّـه يجيء فيما بعد ، ولكن ذلك لايضرّ بعدم الجواز في مورد اجتماع الحكمين ; لأنّ اجتماعهما مستحيل ، ولو لم نقل بثبوت التضادّ ، كما لايخفى .


(الصفحة403)






الأمر الخامس

الموافقـة الالتزاميـة

هل القطع با لحكم يقتضي وجوب الموافقـة الالتزاميـة ، كما يقتضي وجوب الموافقـة العمليـة أم لا ؟
والتحقيق أن يقال: إنّ الموافقـة الالتزاميـة الراجعـة إلى عقد القلب والالتزام بشيء ، والانقياد والتسليم لـه إنّما هي من الأحوال القلبيـة والصفات النفسانيـة ـ كا لخضوع والخشوع والرجاء والخوف ونظائرها ـ وتحقّق تلك الأوصاف وتحصّلها في النفس إنّما يكون قهرياً ; تبعاً لتحقّق مبادئها ، ويستحيل أن توجد بدون حصول المبادئ ; لأنّها ليست من الأفعال الاختياريـة الحاصلـة بالإرادة والاختيار ; لأنّها تابعـة لمبادئها ، فإذا حصلت تتبعها تلك الحالات قهراً ، وإذا لم يحصل لا تتحقّق أصلاً .
مثلاً العلم بوجود المبدء وعظمتـه وجلالتـه يوجب الخضوع والخشوع لـه تعا لى ، ولايمكن أن يتخلّف عنـه ، كما أنّ مع عدم تحقّقـه يمتنع أن يتحقّقا ; لوضوح استحا لـة عقد القلب على ضدّ أمر محسوس ، كالالتزام القلبي بعدم كون النار حارّة ، والشمس مشرقـة ، وكما لايمكن ذلك لايمكن الالتزام بضدّ أمر

(الصفحة404)

تشريعي .
وا لمراد من الكفر الجحودي في قولـه تعا لى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُم)(1) ليس الالتزام على خلاف اليقين الحاصل للنفس ، بل هو مجرّد ا لإنكار اللساني . ومن هنا يظهر أنّ ما اشتهر بينهم من حرمـة التشريع ممّا لا محصّل لـه إن كان المراد من التشريع هو البناء القلبي على كون حكم من الشرع مع العلم بأنّـه ليس منـه . وبا لجملـة : أنّ الموافقـة الالتزاميـة ليست من الاُمور الاختياريـة ، حتّى يبحث في وجوبها وعدمـه .
وحكي عن بعض الأعاظم: أنّـه قال بثبوت التجزّم في القضايا الكاذبـة ، وأنّـه هو المناط في صيرورة القضايا ممّا يصحّ السكوت عليها ، وأنّ العقد القلبي على طبقها يكون اختيارياً(2) .
ووجّهـه بعض المحقّقين من المعاصرين بأنّ مراده : أنّـه كما أنّ العلم قد يتحقّق في النفس بوجود أسبابـه ، كذلك قد يخلق النفس حا لـة وصفـة على نحو العلم ، حاكيـة عن الخارج ، فإذا تحقّق هذا المعنى في الكلام يصير جملـة يصحّ السكوت عليها ; لأنّ تلك الصفـة الموجودة يحكي جزماً عن تحقّق النسبـة في الخارج(3) .
ويرد عليـه: أنّ العلم والجزم ليسا من الاُمور الاختياريـة ، فإنّهما من الاُمور التكوينيـة التي لا تتحصّل إلاّ بعد تحقّق أسبابها ; لوضوح استحا لـة الجزم مثلاً بأنّ الواحد ليس نصف الاثنين ، كما لايخفى . وأمّا القضايا الكاذبـة فإنّما هي بصورة الجزم . والمناط في صحّـة السكوت هو الإخبار الجزمي ، لا الجزم

1 ـ النمل (27): 14.
2 ـ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 70.
3 ـ نفس المصدر.

(الصفحة405)

ا لقلبي ; ولذا لو أظهر المتكلّم ماهو المقطوع بـه بصورة الترديد لا تصير القضيّـة ممّا يصحّ السكوت عليها . وبا لجملـة : فلاريب في عدم كون الموافقـة الالتزاميـة ونظائرها من الاُمور القلبيـة تابعاً في تحقّقـه للإرادة والاختيار أصلاً .
ثمّ إنّـه بناءً على ما ذكرنا من كون الموافقـة الالتزاميـة ليست من الاُمور الاختياريـة ، بل إنّما تتحقّق قهراً عند حصول مبادئها تكون الموافقـة الالتزاميـة على طبق العلم بالأحكام ، فإن كان العلم متعلّقاً بحكم تفصيلاً يكون الالتزام بـه أيضاً كذلك ، وإن كان العلم إجما لياً يكون الالتزام أيضاً كذلك ، كما أنّ الالتزام قد يكون با لحكم الظاهري ، إذا كان العلم أيضاً متعلّقاً بـه ، وقد يكون با لحكم الواقعي ، إذا كان متعلّقاً للعلم . وكما أنّ جعل الحكم الواقعي والظاهري في مورد واحد ، وتعلّق العلم بهما ممّا لا مانع منـه ، كذلك الالتزام بهما في ذلك المورد ممّا لا مانع منـه أصلاً .
ومن هنا يظهر: أنّـه لا مانع من قبل لزوم الالتزام في جريان الاُصول في أطراف العلم الإجما لي ، كما أنّ جريانها لايدفع الالتزام با لحكم الواقعي ; لأنّـه تابع للعلم بـه ، وجريانها لاينافيـه أصلاً . وبا لجملـة : فمسألـة جريان الاُصول في أطراف الشبهـة المحصورة لا ارتباط لها بمسألـة الموافقـة الالتزاميـة ، كما لايخفى .


(الصفحة406)






الأمر السادس

أحكام العلم الإجمالي

قد عرفت : أنّ العلم التفصيلي يكون علّـة تامّـة لتنجّز التكليف ، فهل القطع الإجما لي أيضاً كذلك ، أم لا ؟ ولايخفى أنّ الكلام فيما يتعلّق با لعلم الإجما لي يقع في مقامين : أحدهما فيما يرجع إلى ثبوت التكليف بـه ، وثانيهما فيما يتعلّق بمرحلـة سقوط التكليف بـه .

المقام الأوّل: في تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي

فقد يقال بأنّ العلم الإجما لي لايؤثّر في تنجّز التكليف أصلاً ، ويكون حا لـه حال الشبهـة البدويـة ; لأنّ موضوع حكم العقل في باب المعصيـة هو ما إذا علم المكلّف حين إتيانـه أنّـه معصيـة فارتكبـه ، ومن المعلوم أنّ المرتكب لأطراف العلم الإجما لي لايكون كذلك ; لأنّـه لايعلم با لمعصيـة إلاّ بعد إتيان جميع الأطراف في الشبهـة المحصورة التحريميـة(1) .


1 ـ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 75.

(الصفحة407)

هذا ، ولكن يردّ هذا الكلام العقل السليم ، فإنّـه لا فرق في نظره بين قتل ابن المولى مثلاً مع كونـه معلوماً تفصيلاً ، وبين قتلـه في ضمن عدّة في قبحـه عند العقل . وبا لجملـة : لا إشكال في حرمـة المخا لفـة القطعيـة وقبحها عند العقل مطلقاً ، ومن المعلوم أنّ ارتكاب جميع الأطراف مخا لفـة قطعيـة لتكليف المولى .
هذا، وذكر في «الكفايـة» ما حاصلـه: أنّ التكليف ; حيث لم ينكشف بـه تمام الانكشاف ، وكانت مرتبـة الحكم الظاهري محفوظـة معـه فجاز الإذن من الشارع بمخا لفتـه احتمالاً ، بل قطعاً . ومحذور المناقضـة بينـه وبين المقطوع إجمالاً إنّما هو محذور مناقضـة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي في الشبهـة الغير المحصورة ، بل الشبهـة البدويـة ; ضرورة عدم تفاوت بينهما أصلاً . فما بـه التفصّي عن المحذور فيهما كان بـه التفصّي عنـه في المقام ، نعم ، العلم الإجما لي كا لتفصيلي في مجرّد الاقتضاء ، لا في العلّيـة التامّـة ، فيوجب تنجّز التكليف ما لم يمنع عنـه مانع عقلاً أو شرعاً(1) ، انتهى ملخّصاً .
وأنت خبير بأنّ مورد البحث في المقام إنّما هو فيما إذا كان المعلوم الإجما لي تكليفاً فعلياً ; ضرورة أنّ التكليف الإنشائي لايصير متنجّزاً ، ولو تعلّق بـه العلم التفصيلي ، فضلاً عن العلم الإجما لي . فا لكلام إنّما هو في التكليف الذي لو كان متعلّقاً للعلم التفصيلي لما كان إشكال في تنجّزه ، ووجوب موافقتـه ، وحرمـة مخا لفتـه . غايـة الأمر : أنّـه صار معلوماً بالإجمال .
وحينئذ فمن الواضح: أنّـه لايعقل مع ثبوت التكليف الفعلي الإذن في ارتكاب بعض الأطراف ، فضلاً عن جميعها ، بل لايعقل ذلك مع احتما لـه ; لاستحا لـة اجتماع القطع بالإذن في الارتكاب ، واحتمال التحريم الفعلي ; لأنّ

1 ـ كفايـة الاُصول: 313 ـ 314.

(الصفحة408)

مرجعـه إلى إمكان احتمال الجمع بين المتناقضين .
وتوهّم : أنّـه لا مانع من اجتماع التكليف الفعلي مع الإذن في الارتكاب ـ بعد كون متعلّقهما مختلفين ـ لأنّ متعلّق التحريم الفعلي المعلوم إنّما هو الخمر الواقعي ، ومتعلّق الإذن هو الخمر المشكوك ; أي مشكوك الخمريـة ، ومن المعلوم أنّ بين العنوانين عموماً من وجـه . وقد حقّق في مبحث اجتماع الأمر والنهي القول با لجواز في تلك الصورة .
مدفوع : بأنّ محلّ النزاع في تلك المسألـة هو ما إذا كان تكليف متوجّهاً إلى طبيعـة ، وتكليف آخر متوجّهاً إلى طبيعـة اُخرى بينهما إمكان التصادق في الخارج ، من دون أن يكون في أحدهما نظر إلى ثبوت الآخر ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الترخيص في ارتكاب مشكوك الخمريـة إنّما هو بملاحظـة ثبوت الحرمـة للخمر الواقعي ; ضرورة أنّـه لو لم يكن الخمر الواقعي متعلّقاً للتحريم لما كان وجه في ترخيص مشكوك الخمريـة ، وقد عرفت أنّ مع ثبوت فعليـة الحرمـة لايبقى مجال للترخيص أصلاً ، ولايجدي في ذلك اختلاف العنوانين على هذا النحو .

المقام الثاني: في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي

ولايخفى أنّ محلّ الكلام في هذا المقام إنّما هو في أنّ مجرّد الترديد في ناحيـة الامتثال ، وعدم العلم تفصيلاً بكون المأمور بـه الواقعي هل هي صلاة الظهر أو الجمعـة ـ مثلا ـ هل يوجب تحقّق الامتثال عند العقل أم لا ، وأمّا لو فرض أنّ الامتثال الإجما لي يستلزم عدم تحقّق المأمور بـه بجميع أجزائـه وشرائطـه ; لكونـه مقيّداً بما لاينطبق إلاّ مع الامتثال التفصيلي فهو خارج عن مفروض البحث ; لأنّ مورده ـ كما عرفت ـ هو صورة تحقّق المأمور بـه تامّاً ; من حيث القيود ، غايـة الأمر أنّـه لايعلم بـه تفصيلاً .


(الصفحة409)

ومن هنا يظهر: أنّ الإشكال في الاكتفاء بـه من جهـة الإخلال با لوجـه أو با لتمييز ممّا لايرتبط با لمقام ; لأنّ مرجعـه إلى الامتثال الإجما لي يستلزم عدم تحقّق المأمور بـه بتمام قيوده ; لإخلالـه با لوجـه أو التمييز المعتبر فيـه ، فيتوقّف تحقّقـه بأجمعـه على الامتثال التفصيلي ، وقد عرفت أنّ ذلك خارج عن موضوع البحث .
نعم ، في الاكتفاء بـه في مقام الامتثال إشكالان واردان على مورد البحث :
أحدهما: كون الامتثال الإجما لي لعباً وعبثاً بأمر المولى(1) . ولكنّـه مردود ، مضافاً إلى أنّـه ربّما يكون ذلك لداع عقلائي ، كما إذا كان تحصيل العلم التفصيلي أشقّ عليـه من الاحتياط . إنّما يضرّ ذلك إذا كان لعباً بأمر المولى ، لا في كيفيـة إطاعتـه ، بعد حصول الداعي إليها ; ضرورة أنّ خصوصيات الإطاعـة وكيفياتها إنّما هي بيد المكلّف ، ولايعتبر فيها الداعي الإلهي ، كما هو واضح .
ثانيهما: أنّ رتبـة الامتثال العلمي الإجما لي متأخّرة عن رتبـة الامتثال العلمي التفصيلي ; لأنّ حقيقـة الإطاعـة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى ; بحيث يكون الداعي والمحرّك لـه نحو العمل هو تعلّق الأمر بـه ، وانطباق المأمور بـه عليـه ، وهذا المعنى غير متحقّق في الامتثال الإجما لي ; لأنّ الداعي لـه نحو العمل بكلّ واحد من فردي الترديد ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر بـه . نعم ، الانبعاث  عن احتمال البعث وإن كان أيضاً نحواً من الطاعـة عند العقل إلاّ أنّ رتبتـه متأخّرة عن الامتثال التفصيلي . هذا ملخّص ما أفاده بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثـه(2) .


1 ـ فرائد الاُصول 2: 508.
2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 72 ـ 73.

(الصفحة410)

ويرد عليـه أوّلاً: أنّ الانبعاث في موارد العلم التفصيلي أيضاً لايكون عن البعث ، لا عن وجوده الواقعي ، وهو واضح ، ولا عن العلم بـه ، بل الانبعاث إنّما يتحقّق بعد العلم با لبعث ، وبما يترتّب على مخا لفتـه من العقوبـة ، وعلى موافقتـه من المثوبـة ، مضافاً إلى أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعـة هو العقل ، ومن الواضح أنّ المكلّف المنبعث عن مجرّد احتمال البعث أقوى عنده في صدق عنوان المطيع ممّن لاينبعث إلاّ بعد العلم بثبوت البعث .
وثانياً نقول: إنّ الانبعاث في أطراف العلم الإجما لي إنّما هو عن العلم با لبعث ; ضرورة أنّـه لو لم يكن العلم بـه ـ ولو إجمالاً ـ متحقّقاً لم يتحقّق الانبعاث من كثير من الناس ، الذين لاينبعثون في موارد احتمال البعث أصلاً ، كما لايخفى .
فظهر من ذلك أنّ الامتثال الإجما لي والتفصيلي كليهما في رتبـة واحدة .
ثمّ إنّهم تعرّضوا هنا لبعض المباحث الاُخر ممّا يرتبط بباب الاشتغال ، ونحن نحيلها إلى ذلك الباب ، ونتكلّم فيـه فيما بعد إن شاء اللّـه تعا لى .
هذا تمام الكلام في مباحث القطع .


(الصفحة411)






المقصد السابع




في أحكام الظنّ



والكلام فيـه يقع في ضمن مقامات:






(الصفحة412)




(الصفحة413)






المقام الأوّل

في إمكان التعبّد بالظنّ

ولايخفى أنّ عقد هذا المقام في كلام القوم إنّما هو للرّد على ابن قبـة القائل بالاستحا لـة ، مع أنّ دليلـه الأوّل الذي استدلّ بـه يدلّ على أنّ مراده هو نفي الوقوع ; لتمسّكـه بالإجماع(1) ، فراجع .

المراد من «الإمكان» المزبور

وهل المراد بالإمكان هو الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي ، أو الإمكان الوقوعي الذي يقابل الامتناع الوقوعي ، وهو الذي لايلزم من وجوده محال ؟ الظاهر هو إمكان تقرير الكلام في كليهما ، كما أنّـه يمكن أن يدعي القائل بالاستحا لـة كلاّ منهما ; لأنّـه يجوز أن يدعي أنّ معنى التعبّد على طبق الأمارة هو جعل حكم مماثل لها ، سواء كانت مطابقـة أو مخا لفـة ، وحينئذ يلزم اجتماع الضدّين أو المثلين ، وهما من الممتنعات الذاتيـة بلا إشكال ، ويمكن أن يدعي

1 ـ اُنظر فرائد الاُصول 1: 40.

(الصفحة414)

بنحو يوجب وقوعـه تحقّق المحال ، كما سيجيء .
وكيف كان : فا للازم هو البحث في كل منهما ، ولايخفى أنّ إثبات الإمكان بأحد معنييـه ممّا يحتاج إلى إقامـة برهان ، ومن المعلوم أنّـه لابرهان لـه . ولكن الذي يسهّل الخطب : أنّـه لا احتياج إلى إثبات الإمكان ; ضرورة أنّ ما هو المحتاج إليـه إنّما هو ردّ أدلّـة الامتناع ; لأنّـه إذا لم يدلّ دليل على الامتناع فمع فرض قيام دليل شرعي على التعبّد بالأمارات نعمل على طبقـه ، ولايجوز لنا رفع اليد عن ظاهره ، وهذا بخلاف ما لو دلّ دليل عقلي على الامتناع ، فإنّـه يجب صرف دليل الحجّيـة والتعبّد عن ظاهره ، كما هو الشأن في جميع الموارد التي قام الدليل العقلي على خلاف ظواهر الأدلّـة الشرعيـة . فا لمهمّ في المقام هو ردّ أدلّـة الامتناع ; ليستكشف من دليل التعبّد الإمكان الوقوعي ، لا إثبات الإمكان .
ومن هنا يظهر: أنّ الإمكان الذي يحتاج إليـه في المقام هو الإمكان الواقع في كلام شيخ الرئيس ، وهو قولـه : «كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعـة الإمكان ما لم يذدك عنـه قائم البرهـان»(1) ; لما عرفت من أنّ ردّ أدلّـة الامتناع ا لموجب لثبوت احتمال الجواز يكفي في هذا الأمر ; لأنّـه لا موجب معـه من صرف دليل التعبّد عن ظاهره ، كما لايخفى . فالأولى في عنوان البحث أن يقال : «في عدم وجدان دليل على امتناع التعبّد بالأمارة الغير العلميّـة» .
وأمّا جعل البحث في الإمكان فمضافاً إلى عدم الاحتياج إليـه يرد عليـه ما عرفت من عدم إقامتهم الدليل على إثباتـه ، مع أنّـه أيضاً كالامتناع في الاحتياج إلى الدليل ، فتدبّر .
ثمّ إنّـه ذكر بعض الأعاظم ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ : أنّ المراد

1 ـ الإشارات والتنبيهات 3: 418.

(الصفحة415)

بالإمكان المبحوث عنـه في المقام هو الإمكان التشريعي ; يعني أنّ من التعبّد بالأمارات هل يلزم محذور في عا لم التشريع من تفويت المصلحـة والإلقاء في المفسدة واستلزامـه الحكم بلا ملاك واجتماع الحكمين المتنافيين وغير ذلك من التوا لي الفاسدة المتوهّمـة في المقام ، أو أنّـه لايلزم شيء من ذلك ؟ وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني ; بحيث يلزم من التعبّد با لظنّ أو الأصل محذور في عا لم التكوين ، فإنّ الإمكان التكويني لايتوهّم البحث عنـه في المقام(1) .
وفيـه أوّلاً: أنّ الإمكان التشريعي ليس قسماً مقابلاً للأقسام المتقدّمـة ، بل هو من أقسام الإمكان الوقوعي الذي معناه عدم لزوم محال من وقوعـه . غايـة الأمر : أنّ المحذور الذي يلزم قد يكون تكوينياً وقد يكون تشريعياً ، وهذا لايوجب تكثير الأقسام ، وإلاّ فيمكن التقسيم بملاحظـة أنّ الممكن قد يكون مادّياً وقد يكون غيره ، وبملاحظـة الجهات الاُخر .
وثانياً: أنّ أكثر المحذورات المتوهّمـة في المقام محذور تكويني ، لايعقل تحقّقـه في عا لم التكوين ، كاجتماع الحبّ والبغض ، والإرادة والكراهـة ، والمصلحـة والمفسدة في شيء واحد .

حول استدلال «ابن قبـة» على عدم إمكان التعبّد

ثمّ إنّـه استدلّ ابن قبـة القائل باستحا لـة التعبّد بخبر الواحد ، بل بمطلق الأمارات ، كما يظهر من بعض أدلّتـه بوجهين :
أحدهما: أنّـه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لجاز التعبّد بـه في الإخبار عن اللّـه تعا لى ، والتا لي باطل إجماعاً .


1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 88.

(الصفحة416)

ثانيهما: أنّ العمل بـه موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ; إذ لايؤمن أن يكون ما اُخبر بحلّيتـه حراماً ، وبا لعكس(1) .
والجواب عن الوجـه الأوّل: أنّ دعوى الملازمـة تبتني على كون الإخبار عن الرسول والإخبار عن اللّـه مثلين ; لعدم اختلاف الإخبار بواسطـة اختلاف المخبر بـه ، وكونـه هو اللّـه سبحانـه أو النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فمرجعـه إلى أنّ الإجماع قام على نفي حجّيـة الإخبار مطلقاً ، سواء كان عن اللّـه أو عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن الأئمّـة (عليهم السلام) . وسيأتي الجواب عن الإجماعات المنقولـة على عدم حجّيـة الخبر الواحد ، ولو كان اختلاف المخبر بـه دخيلاً في ذلك ، بمعنى أنّ معقد الإجماع إنّما هو خصوص الإخبار عن اللّـه تعا لى ، لا عن غيره .
فيرد عليـه منع الملازمـة ; لأنّـه قياس صرف ; خصوصاً مع وجود الفارق بينهما ، وهو أنّ التعبّد بالإخبار عن اللّـه تعا لى موجب للإلقاء في المفسدة الكثيرة ; ضرورة أنّ ذلك يوجب تحقّق الدواعي الكثيرة من المعتصمين بالأهويـة العا ليات والمتحرّكين بتحريك الشهوات ; لعدم ثبوت الموازين التي عليها يعتمد ، وبها يتميّز الصحيح عن غيره . وهذا بخلاف الإخبار عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمّـة (عليهم السلام) .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الإجماع إنّما قام على عدم الوقوع ، لا على الامتناع ، كما لايخفى .
والجواب عن الوجـه الثاني أن يقال: إنّ هذا الوجـه ينحلّ إلى محذورات ، بعضها راجع إلى ملاكات الأحكام ، كاجتماع المفسدة والمصلحـة الملزمتين ، وبعضها راجع إلى مبادئ الخطابات ، كاجتماع الإرادة والكراهـة ، والحبّ

1 ـ اُنظر فرائد الاُصول 1: 40.

(الصفحة417)

وا لبغض  ، وبعضها راجع إلى نفس الخطابات ، كاجتماع الضدّين أو النقيضين أو المثلين ، وبعضها راجع إلى لازم الخطابات ، كالإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحـة ، والواجب دفع المحذورات بأجمعها فنقول :

الجواب عن محذور تفويت المصلحـة

أمّا محذور تفويت المصلحـة والإلقاء في المفسدة ، فيتوقّف على الالتزام بتبعيـة الأحكام للمصا لح والمفاسد في المتعلّقات ، وبأنّ المجعول في باب الأمارات نفس الطريقيـة المحضـة ، وإلاّ لم يلزم تفويت الملاك أصلاً .
وقد يقال ـ كما في التقريرات ـ بتوقّفـه أيضاً على كون باب العلم منفتحاً ، وأمّا في صورة الانسداد فلايلزم محذور التفويت ، بل لابدّ من التعبّد بـه ، فإنّ المكلّف لايتمكّن من استيفاء المصا لح في حال الانسداد ، إلاّ بالاحتياط التامّ . وليس مبنى الشريعـة على الاحتياط في جميع الأحكام(1) .
ولكن يرد عليـه: عدم اختصاص المحذور بصورة الانفتاح ، بل يجري في صورة الانسداد أيضاً ، فإنّ التفويت والإلقاء يلزم من رفع وجوب الاحتياط الذي يحكم بـه العقل ، وترخيص العمل على طبق الأمارات ; ضرورة أنّـه لو لم يكن التعبّد على طبق الأمارات ، ولم يرد من الشارع الترخيص في رفع الاحتياط لكان حكم العقل وجوب الاحتياط في جميع الأطراف ، فلم يلزم فوت المصلحـة أو أخذ المفسدة ، كما لايخفى .
وكيف كان، فالتحقيق في الجواب أن يقال: إنّـه لابأس با لتفويت والإلقاء إذا

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 90.

(الصفحة418)

كانت مصلحـة التعبّد با لعمل على طبق الأمارات أقوى ، كما أنّ الأمر كان كذلك في زمان الانفتاح ; ضرورة أنّـه لو كان كلّ من الناس مكلّفاً با لمراجعـة إلى الإمام ، والسؤال من شخصـه يلزم بطلان أساس الشريعـة ; لأنّ مع عدم مراجعـة الشيعـة إليهم إلاّ قليلاً منهم كانوا (عليهم السلام) في أعلى مراتب المحدوديـة من طرف الخلفاء الاُمويـة والعبّاسيـة ; بحيث لايمكن لهم بيان الأحكام إلاّ في الخفاء با لنسبـة إلى أشخاص معدودة ، فكيف إذا كان تكليف الشيعـة تحصيل العلم بالأحكام من طريق السؤال عن الإمام(عليه السلام) ؟
وحينئذ فيجوز للشارع أن يجعل الأمارات الغير العلميـة حجّـة ; نظراً إلى بقاء الشريعـة ، ومن المعلوم أنّ المصلحـة الفائتـة من عدم إيجابـه تحصيل العلم با لسؤال عنهم (عليهم السلام) با لنسبـة إلى جماعـة من المتشرّعين بها فانيـة في مقابل مصلحـة بقاء الشريعـة ، كما هو واضح .
وأمّا في زمان الانسداد فلا إشكال في أنّ طريق تحصيل العلم ينحصر بالاحتياط التامّ ، كما ذكرنا . والتفويت المتوهّم إنّما يلزم من عدم إيجاب الشارع ذلك الاحتياط ; ضرورة أنّـه لوأوجبـه ـ كما هومقتضى حكم العقل ـ لم يلزم تفويت أصلاً .
فلنا أن نقول : إنّ عدم إيجاب الشارع يمكن أن يكون لأجل علمـه بأنّـه لو أوجب ذلك ، مع تعسّره ـ كما لايخفى ـ لكان الناس يرغبون عن أصل الشريعـه ، ويخرج الدين عن كونـه سمحـة سهلـة ، كيف فنحن نرى با لوجدان أنّ في هذا الزمان ـ مع سهولـة العمل بالأحكام ـ لايعملون بأكثرها ، كما لايخفى .
وقد عرفت : أنّ مجرّد الإمكان بمعنى الاحتمال يكفينا في هذا المقام ; إذ لسنا بصدد إثبات الإمكان الوقوعي ; لعدم الاحتياج إليـه ، كما تقدّم .

(الصفحة419)

دفع المحذور بناءً على المصلحـة السلوكيّـة

ثمّ إنّـه أجاب الشيخ العلاّمـة الأنصاري(قدس سره) عن الإشكال با لتزام المصلحـة السلوكيـة(1) ، وفصّل ذلك المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ فقال ما ملخّصـه : إنّ سببيـة الأمارة لحدوث المصلحـة تتصوّر على وجوه :
الأوّل: أن تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحـة في المؤدّى ، تستتبع الحكم على طبقها ، بحيث لايكون وراء الأمارة حكم في حقّ من قامت عنده الإرادة فتكون الأحكام الواقعيـة مختصّـة با لعا لم بها . وهذا هو التصويب الأشعري الذي قامت الضرورة على خلافـه .
الثاني: أن تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحـة في المؤدّى أيضاً أقوى من مصلحـة الواقع ; بحيث يكون الحكم الفعلي في حقّ من قامت عنده الأمارة هو المؤدّى ، وإن كان في الواقع أحكام يشترك فيها العا لم والجاهل على طبق المصا لح والمفاسد النفس الأمريـة ، إلاّ أنّ قيام الأمارة على الخلاف يكون من قبيل الطوارئ والعوارض والعناوين الثانويـة المغيّرة لجهـة الحسن والقبح ، نظير الضرر والحرج ، وهذا هو التصويب المعتزلي الذي يتلو الوجـه السابق في الفساد والبطلان ; لقيام الإجماع على خلافـه .
الثالث: أن يكون قيام الأمارة سبباً لحدوث مصلحـة في السلوك ، مع بقاء الواقع والمؤدّى على ما هما عليـه من المصلحـة والمفسدة ، من دون أن يحدث في المؤدّى مصلحـة بسبب قيام الأمارة ، بل المصلحـة إنّما تكون في تطرّق الطريق ، وسلوك الأمارة ، وتطبيق العمل على مؤدّاها ، والبناء على أنّـه الواقع .

1 ـ فرائد الاُصول 1: 44.

(الصفحة420)

وبهذه المصلحـة السلوكيـة يتدارك ما فات على المكلّف من مصلحـة الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافـه(1) ، انتهى ملخّصاً .
وفيـه أوّلاً: أنّـه لا معنى لسلوك الأمارة وتطرّق الطريق إلاّ العمل على طبق مؤدّاها ، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعـة مثلاً فسلوك هذه الأمارة وتطرّق الطريق ليس إلاّ الإتيان بصلاة الجمعـة ; إذ التصديق الغير العملي لايصدق عليـه السلوك على طبقها ، بل يتوقّف ذلك على جعل العمل مطابقاً لها ، الذي هو عبارة اُخرى عن الإتيان بمؤدّاها . ومن الواضح أنّ التغاير بين المؤدّى والإتيان بـه ليس إلاّ بالاعتبار ; لتغاير بين الإيجاد والوجود . وحينئذ فلم يبق فرق بين الوجـه الثا لث والوجـه الثاني الذي قامت الضرورة والإجماع على خلافـه .
وثانياً: أنّ الأمارات الشرعيـة غا لبها ، بل جميعها أمارات عقلائيـة يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم ، ومن الواضح أنّ الأمارات العقلائيـة طرق محضـة ، لا مصلحـة في سلوكها أصلاً ; إذ ليس المقصود بها إلاّ مجرّد الوصول إلى الواقع ، من دون أن يكون في سلوكها مصلحـة ، كما هو واضح لايخفى .
هذا ما يتعلّق با لجواب عن محذور التفويت والإلقاء .

الجواب عن محذور اجتماع المثلين أو الضدّين

وأمّا اجتماع المثلين أو الضدّين أو النقيضين ، فلايخفى أنّـه يمكن توجيهـه بنحو لايرد عليـه ما حقّقناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، من عدم ثبوت التضادّ بين الأحكام أصلاً ، بأنّـه كيف يجتمع الإرادة الحتميـة من المولى بفعل شيء أو تركـه ، مع جعلـه قول العادل حجّـة ، الراجع إلى الترخيص في الترك أو

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 95 ـ 96.
<<التالي الفهرس السابق>>