في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة481)

يقولون في المثال بأنّ العادل أخبر بأنّ الإمام(عليه السلام) قال كذا أو فعل كذا ، وإن كان العادل الذي وقع في منتهى السلسلـة لم يخبر بقول الإمام(عليه السلام) ، بل المخبر بـه بخبره هو إخبار العادل الذي حدّثـه .
ومن هنا يعلم : أنّ المخبر بـه بخبر هذا العادل وإن كان من الموضوعات ، ولايكفي في ثبوتها إلاّ البيّنـة إلاّ أنّـه حيث لايكون في نظر العرف منظوراً مستقلاّ ، بل منظوراً آليّاً فيكفي في ثبوتـه إخبار عادل واحد .

منها: آيـة النفر

ومن الآيات التي استدلّ بها على حجّيـة خبر الواحد آيـة النفر : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(1) .
ولكن الاستدلال بها لذلك في غايـة الضعف ; لأنّ المستفاد من لولا التحضيضيـة ليس وجوب أصل النفر ، بل المقصود بها بملاحظـة قولـه : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كافَّةً) ، وبملاحظة الآيات التي قبل هذه الآية هو نفي وجوب نفر المؤمنين كافّـة ، والنهي عن ذلك ، بمعنى أنّ مفاد لولا التحضيضيـة هو وجوب التفرقـة والتفكيك ; أي لايجوز للمؤمنين كافّـة النفر ، وإبقاء رسول اللّـه(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده ، فلِمَ لايكون النافرون طائفـة خاصّـة من المؤمنين .
فا لمراد من الآيـة بحسب الظاهر هو النهي عن النفر العمومي ، وليس المقصود منها هو بيان أصل وجوب نفر طائفـة لغايـة التفقّـة . هذا ، مضافاً إلى أنّ كلمـة النفر كما يدلّ عليـه التأمّل في سياق الآيـة وفي موارد استعمالاتها في

1 ـ التوبـة (9): 122.

(الصفحة482)

ا لقرآن الكريم يكون المراد بها النفر للجهاد ، لا النفر للتفقّـة .
وعليـه فيتعيّن أن يكون المراد من الآيـة هو تفقّـة النافرين بسبب ما يرونـه في الجهاد من السفرة الإلهيـة والإمدادات الغيبيـة وقوّة الإيمان وإنذار القوم الذين هم الكفّار الموجودون في المدينـة ، لعلّهم يحذرون ويدخلون في دين اللّـه ، أو يصون الإسلام والمسلمون من شرورهم . ويؤيّد ذلك رجوع الضمير في «ليتفقّهوا» أو ما بعده إلى النافرين المذكورين في الآيـة ، ولا وجـه للرجوع إلى المتخلّفين ، بعد عدم كونهم مذكورين ، وأيضاً لايناسب الإنذار والحذر بالإضافـة إلى المجاهدين ، أصلاً .
وإ لى أنّ التفقّـه يحتمل أن يكون المراد بـه التفقّـه في الاُصول الاعتقاديـة ، لا الأحكام الفرعيـة ، كما يشهد بذلك الروايات الكثيرة التي استدلّ فيها بالآيـة الشريفـة لأصل الإمامـة(1) .
وعلى تقدير أن يكون المراد بـه الأعمّ من التفقّـه في الأحكام الفرعيـة فا لظاهر أنّ المراد بقولـه «لينذروا» هو إنذار كلّ واحد من المتفقّهين النافرين أو المتخلّفين ـ على اختلاف التفسيرين ـ جميع قومهم ، وحينئذ فلايدلّ على وجوب تصديق كلّ واحد من المنذرين ، وعلى تقدير وجوب تصديقـه ينحصر ذلك با لمتفقّـه المنذر ، لا كلّ من تحمّل الحديث ، وإن لم يكن فقيهاً .
هذا كلّـه ، مضافاً إلى المنع من كون الحذر واجباً ، وعلى تقدير وجوبـه لا دليل على كون المراد با لحذر هو الحذر العملي الراجع إلى العمل بقول المنذر ، بل الظاهر هو التحذّر القلبي والخوف والخشيـة ، فيكون المقصود لينذروا قومهم با لموعظـة والإيعاد ، حتّى يخافوا من عذاب اللّـه ، ويعملوا بوظائفهم .


1 ـ الكافي 1: 378 ـ 380 / 1 ـ 3.

(الصفحة483)

وكيف كان فالآيـة الشريفـة بعيدة عن الدلالـة على حجّيـة خبر الواحد بمراحل . وممّا ذكرنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقّق النائيني على ما في تقريراتـه في تقريب دلالـة الآيـة على حجّيـة خبر الواحد(1) ، فراجع .

الدليل الثاني: الأخبار

هذا ، وقد استدلّ على حجّيـة خبر الواحد بالأخبار الكثيرة ، وتقريب الاستدلال بها ـ كما أفاده في «ا لكفايـة» وتبعـه في «ا لدرر» ـ أنّ هذه الأخبار وإن لم يكن متواترة لفظاً ومعنىً إلاّ أنّها متواترة إجمالاً ; ضرورة أنّـه يعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم (عليهم السلام) ، ومقتضى ذلك وإن كان حجّيـة خبر دلّ على حجّيتـه أخصّها مضموناً إلاّ أنّـه يتعدّى عنـه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصيـة ، وقد دلّ على حجّيـة ما كان أعمّ(2) .
هذا، ولكن لايخفى: أنّ ذلك مجرّد فرض ، وإلاّ فا لظاهر أنّـه لايكون بين الأخبار ما كان جامعاً لشرائط الحجّيـة ، وكان مدلولـه حجّيـة خبر الواحد بنحو الإطلاق ، مضافاً إلى أنّ إثبات التواتر ـ ولو إجمالاً ـ مشكل ; لأنّ من شرط التواتر أن يكون متواتراً في جميع الطبقات ، مع أنّـه ليس الأمر في المقام كذلك ; لأنّ هذه الأخبار كلّها مذكورة في الجوامع الأربعـة للأعاظم الثلاثـة ، فينحصر الناقلون فيهم ، مع أنّ الواضح عدم ثبوت التواتر بقولهم . وأمّا غيرها من الجوامع فلم يثبت صحّـة إسنادها إلى مؤلّفيها على نحو التواتر ، كا لجوامع الأربعـة ، كما لايخفى .
هذا ، مضافاً إلى أنّ أخصّ تلك الأخبار مضموناً هو ما يدلّ على إرجاع

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 185.
2 ـ كفايـة الاُصول: 346 ـ 347، درر الفوائد، المحقّق الحائري: 392.

(الصفحة484)

ا لسائل إلى زرارة في تعلّم الأحكام ، وأخذ معا لم الدين ، وهو يشتمل على خصوصيتين : أحدهما كون من يؤخذ عنـه ذلك فقيهاً في الدين كزرارة ، وثانيهما : أنّ الأخذ منـه إنّما هو من دون واسطـة .
ومن المعلوم: أنّـه لايمكن إلغاء شيء من الخصوصيتين ، وإن كانت خصوصيـة كونـه زرارة ملغاة قطعاً .
هذا ، ويمكن تقريب الاستدلال بالإخبار لحجّيـة خبر الواحد بوجـه آخر ، وهو أن يقال : إنّـه لا إشكال في ثبوت بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد في الجملـة ـ لو لم نقل بثبوتـه على العمل بـه مطلقاً ، كما سنحقّقـه ـ وحينئذ فنقول : يوجد في تلك الأخبار الكثيرة ما يدلّ على حجّيـة خبر الواحد مطلقاً ، فإنّـه يثبت ببناء العقلاء حجّيـة ذلك الخبر الذي مدلولـه هو حجّيـة الخبر مطلقاً ، ولايلزم الدور ، ولايحتاج إلى إثبات التواتر ، كما هو واضح .
وهذا الخبر هو ما رواه الكليني عن محمّد بن عبدا للّـه الحميري ومحمّد بن يحيى جميعاً عن عبدا للّـه بن جعفر الحميري عن أحمد بن إسحاق قال : سألت أبا محمّد(عليه السلام) ، وقلت : من اُعامل ، وعمّن آخذ ، وقول من أقبل ؟
فقال : «العمري وابنـه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان...» الحديث(1) .
فإنّـه لا إشكال في كون مثل هذا السند العا لي الذي يكون كلّ رواتـه مذكّى بتذكيـة عدلين ، بل عدول مورداً لبناء العقلاء قطعاً ، وحينئذ فيجب الأخذ بـه ، وبـه يثبت حجّيـة قول الثقـة المأمون مطلقاً ، كما لايخفى .


1 ـ الكافي 1: 329 / 1، وسائل الشيعـة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.

(الصفحة485)

الدليل الثالث والرابع: الإجماع وسيرة العقلاء

هذا ، وأمّا الاستدلال بالإجماع على حجّيـة خبر الواحد فمخدوش من وجوه لايخفى على المتأمّل .
نعم ، استمرار سيرة العقلاء على العمل بأخبار الآحاد في اُمور معاشهم وسياساتهم دليل قطعي على حجّيـة أخبار الآحاد لو لم يردع عنـه الشارع ، وهو العمدة في هذا الباب ; إذ قد عرفت عدم تماميـة الأدلّـة الثلاثـة المتقدّمـة .
ولايخفى : أنّ ذلك إنّما هو في مقام المحاجّـة ، وأمّا الأغراض الشخصيـة الجزئيـة فيمكن أن لايعملوا فيها بأخبار الآحاد ، كما نراه با لوجدان ، ولكن ذلك لايضرّ بما نحن بصدده ، فإنّ الغرض إثبات حجّيـة خبر الثقـة في مقام الاحتجاج ، فإنّـه لاشبهـة في أنّـه لو أمر المولى عبده بشيء ، وأعلمـه على ذلك بتوسّط ثقـة لايكون للعبد الاعتذار لدى المخا لفـة بأنّ المولى لم يبيّنـه لي ، وأنّ الواسطـة كان جارياً فيـه احتمال الكذب ، كما هو واضح .
نعم ، يبقى في المقام إثبات عدم الردع عن هذه السيرة المستمرّة ، فنقول : قد يستدلّ لثبوت الردع بالآيات الناهيـة عن العمل بغير العلم . هذا .
وأجاب عن ذلك في «ا لكفايـة» بأنّها لو كانت رادعـة يلزم الدور(1) .
ولكن قد عرفت عدم لزومـه بوجـه ، وأنّ التحقيق عدم جواز الاستدلال بها ; لأنّ ظاهرها أيضاً ظنّي ، فيلزم من جواز الاستدلال بها عدمـه ، وهو محال . مضافاً إلى أنّك عرفت : أنّ المقصود با لعلم في الآيـة هي الحجّـة المعتبرة ، وخبر الواحد منها قطعاً ; ضرورة أنّـه لم تصر الآيـة بعد نزولها سبباً لتعطيل الأسواق

1 ـ كفايـة الاُصول: 348.

(الصفحة486)

واُمور الناس أصلاً ، وليس ذلك إلاّ لكون المقصود من الآيـة ـ على ما هو المتفاهم منها بنظر العرف ـ هو ما عدا الدليل المعتبر العلمي أو الظنّي ، كما هو واضح .
ثمّ إنّـه أفاد المحقّق الخراساني في هامش «ا لكفايـة» كلاماً حاصلـه : أنّ خبر الثقـة حجّـة ، ولو قيل بسقوط كلّ من السيرة والإطلاق عن الاعتبار بسبب دوران الأمر بين ردعها بـه ، وتقييده بها ، وذلك لأجل استصحاب حجّيتـه الثابتـة قبل نزول الآيتين .
ودعوى أنّـه لا مجال لاحتمال التقييد بها ، فإنّ دليل اعتبارها مغيّى بعدم الردع عنها ، ومعـه لاتكون صا لحـة لتقييد الإطلاق مع صلاحيتـه للردع عنها ، مدفوعـة بأنّ الدليل ليس إلاّ إمضاء الشارع لها ، ورضاه بها المستكشف بعدم ردعـه عنها في زمان مع إمكانـه .
وبا لجملـة : ليس حال السيرة مع الآيات الناهيـة إلاّ كحال الخاصّ المقدّم والعامّ المؤخّر في دوران الأمر بين التخصيص با لخاصّ أو النسخ با لعامّ(1) ، انتهى .
هذا، ولكن يرد عليـه : ـ مضافاً إلى أنّـه لم يعلم أنّ المتشرّعـة كانوا قبل نزول الآيتين يعملون بخبر الواحد في الاُمور الشرعيـة ، حتّى كان عدم الردع عنها دليلاً على الإمضاء وذلك لكون المسلمين كانوا قليلين غير محتاجين إلى العمل بخبر الواحد ; لانفتاح باب ا لعلم لهم ، وهوا لسؤال عن شخص ا لنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أنّ الاستصحاب يكون مدرك حجّيتـه خبر الواحد ، فكيف يستدلّ لها بالاستصحاب ، كما لايخفى .


1 ـ كفايـة الاُصول: 349، الهامش 1.

(الصفحة487)






المقصد الثامن




مبحث البراءة




(الصفحة488)




(الصفحة489)






تمهيد

تقسيم أحوال المكلّف وذكر مجاري الاُصول

اعلم : أنّـه قد جرت عادتهم في أوّل مبحث القطع بتقسيم حالات المكلّف ; من حيث إنّـه قد يحصل لـه القطع با لحكم ، وقد يحصل لـه الظنّ بـه ، وقد يحصل لـه الشكّ فيـه ، ثمّ ذكر مجاري الاُصول ، ولكن لايخلو شيء من التقسيمات وكذا بيان مجاري الاُصول من المناقشـة والإشكال ، ويظهر ذلك بملاحظـة ما سنحقّقـه .
فنقول: المكلّف إمّا أن يحصل لـه القطع با لحكم الواقعي الفعلي تفصيلاً أو إجمالاً ، وإمّا أن لايحصل لـه ذلك ، وعلى الثاني : إمّا أن يكون قاطعاً بقيام الأمارة المعتبرة على الحكم الواقعي تفصيلاً أو إجمالاً أو لايكون كذلك ، وعلى الثاني : إمّا أن يقوم الحجّـة المعتبرة با لنسبـة إلى الواقع وإمّا أن لايقوم ، بل يكون شاكّاً في الواقع أو ظانّاً بـه من غير قيام أمارة معتبرة ولا حجّـة شرعيـة .
فالأوّل: هو مبحث القطع، وقد عرفت أنّـه لا فرق فيـه بين القطع التفصيلي والإجما لي أصلاً ، فإنّـه كما يكون القطع التفصيلي با لحكم الواقعي الفعلي حجّـة وموجباً لتنجّزه ، من غير افتقار إلى جعل الحجّيـة لـه ، وكذا لايجوز جعل حكم

(الصفحة490)

على خلافـه ، كذلك القطع الإجما لي با لحكم الفعلي يكون حجّـة موجباً لتنجّزه ، ولايعقل الترخيص بخلافـه ، فإنّـه لو علم إجمالاً بأنّ قتل النبي المردّد بين جمع كثير مهدور الدم يكون محرّماً با لحرمـة الفعليـة التي لايرضى المولى بـه أصلاً لايجوز لـه ارتكاب قتل واحد من تلك الجماعـة ، وكذا لايجوز الترخيص من المولى ، فإنّـه لايجتمع مع الحرمـة الفعليـة ، كما هو واضح .
وبا لجملـة : فلا فرق في أحكام القطع بين القطع التفصيلي والإجما لي قطعاً ، فلابدّ من إدخا لـه فيـه .
والثاني: هو مبحث الظنّ، وقد عرفت أنّـه لافرق فيـه أيضاً بين أن يعلم تفصيلاً بقيام الأمارة المعتبرة ، وبين أن يعلم إجمالاً بقيامها . والقسم الثاني هو مبحث الاشتغال المعروف بينهم ، الذي يذكرونـه عقيب مبحث البراءة ، فإنّ الظاهر أنّ المراد منـه هو العلم الإجما لي بقيام الأمارة على التكليف من إطلاق دليل أو غيره ; لما عرفت من أنّـه لا مجال لتوهّم الإشكال في حجّيـة العلم الإجما لي المتعلّق با لتكليف الفعلي ، وكونـه منجّزاً ; بحيث لايجوز الترخيص بخلافـه . وحينئذ فيكون مبحث الاشتغال من مباحث الظنّ .
والثالث: هو مبحث الاستصحاب; لأنّـه حجّـة على الواقع ، وإن لم يكن أمارة عليـه .
والرابع: هو مبحث البراءة، ومن هنا ظهر : أنّ الوضع الطبيعي يقتضي تأخير مبحث البراءة عن جميع المباحث ، وكذا إدراج البحث عن الاشتغال في مباحث الظنّ . نعم ، للاشتغال حظّ من مبحث الاستصحاب ، وهو ما لو كان المستصحب المعلوم مردّداً بين شيئين أو أشياء ، كما لايخفى .
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّـه لا إشكال في تقدّم القطع بقسميـه على غيره من

(الصفحة491)

ا لأمارات والاُصول ، ولا مجال لها معـه ; أمّا القطع التفصيلي فتقدّمـه عليها واضح ; لأنّها اُمور تعبّديـة مجعولـة للشاكّ الذي لايعلم با لواقع ، وأمّا القطع الإجما لي فلما عرفت من أنّـه حجّـة عقليـة موجباً لتنجّز التكليف ; بحيث لايعقل الترخيص في تركـه ، فلا مجال معـه من التعبّد الذي مورده صورة الشكّ وعدم العلم .
وأمّا تقدّم الأمارات على الاُصول فنقول: أمّا تقدّمها على الاستصحاب فربّما يشكل وجهـه لو كان المراد با ليقين الذي ورد في أخبار لا تنقض هو اليقين القطعي الوجداني الذي لايحتمل معـه الخلاف ; لأنّ مفاد هذه الأخبار حينئذ أنّ نقض اليقين با لشكّ حرام إلى أن يحصل اليقين الوجداني ، بخلاف اليقين الأوّل .
ومن المعلوم: أنّ الأمارات التي جلّها ، بل كلّها حجج عقليـة ثابتـة ببناء العقلاء ـ كما عرفت ـ لاتكون مفيدة لليقين ، ولم يكن عملهم على طبقها من باب أنّـه يقين ; ضرورة أنّ الطريق عندهم لايكون منحصراً با لقطع ، وليس ذلك من جهـة تنزيل سائر الطرق منزلـة الطريقـة العلميـة أصلاً ، كما يظهر ذلك بمراجعتهم .
وحينئذ فيقع التعارض بحسب الظاهر بين دليل اعتبار الأمارة وبين أخبار لاتنقض ; لأنّ مفاده التعبّد بثبوت الطهارة مثلاً لو شهدت البيّنـة بها ، ومفادها حرمـة نقض اليقين با لنجاسـة ما دام لم يحصل يقين وجداني با لطهارة . وحينئذ فيشكل وجـه تقدّم الأمارات على الاستصحاب .
هذا ، ويحتمل قويّاً أن يكون المراد با ليقين في أخبار الاستصحاب هي الحجّـة والدليل ، فمعناها حينئذ حرمـة نقض الحجّـة بمجرّد الشكّ ، بل الواجب نقضها بحجّـة اُخرى ، ولايجوز رفع اليد عن الحجّـة بلا حجّـة ، وحينئذ فا لوجـه

(الصفحة492)

في تقدّم الأمارات عليـه واضح ; لأنّ الأمارات حجّـة شرعيـة ـ تأسيساً أو إمضاءً ـ فيجوز رفع اليد بها عن اليقين السابق ; لأنّ مقتضى أخبار الاستصحاب هو حرمـة نقض الحجّـة ما لم تحصل حجّـة على خلافها ، وأدلّـة اعتبار الأمارات تثبت الحجّـة المعتبرة ، فتكون واردة عليها .
هذا، ويشهد لما ذكرنا: من أنّ اليقين ليس المراد بـه اليقين الوجداني ، بل الحجّـة والدليل ملاحظـة نفس أخبار الاستصحاب ، والتأمّل فيها ، فإنّـه قد حكم الإمام(عليه السلام) في صحيحـة زرارة الاُولى ، الواردة في الوضوء(1) بحرمـة نقض اليقين با لطهارة با لشكّ فيها ، مع أنّ اليقين الوجداني با لطهارة لايتفق إلاّ نادراً ; لأنّ العلم الجزمي بكون الوضوء الصادر من الإنسان قد صدر جامعاً لجميع ما اعتبر فيـه في غايـة القلّـة ، بل لولا قاعدة الفراغ لأشكل الأمر بسبب ذلك ، ومع ذلك قد حكم الإمام(عليه السلام) بجريان استصحاب الطهارة ، وليس ذلك إلاّ لكون المراد من اليقين ليس ما اصطلح عليـه العلماء ، وهو ما يقابل الظنّ والشكّ والوهم ، كما هو واضح .
ونظير ذلك ما وقع في صحيحتـه الثانيـة(2) من حكم الإمام(عليه السلام) بجريان ا لاستصحاب فيما لو ظنّ إصابـة الدم أو المني الثوب ، مع عدم اليقين بذلك ; معلّلاً بـ «أنّك كنت على يقين من طهارتك» ، مع أنّ اليقين الوجداني والعلم الجزمي بطهارة الثوب ممّا لايتفق إلاّ نادراً .
وكذلك صحيحتـه الثا لثـة الواردة في عدّة أحكام الشكوك : منها

1 ـ تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعـة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
2 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 477، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 41، الحديث 1.

(الصفحة493)

قولـه(عليه السلام) : «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام، فأضاف إليها اُخرى، ولاشيء عليـه، ولاينقض اليقين بالشكّ»(1) ، فإنّ التعبير بقولـه : «وقد أحرز الثلاث» دليل على أنّ المراد با ليقين ليس إلاّ الإحراز ، فتأمّل . وكيف كان فا لظاهر ـ خصوصاً بملاحظـة ما ذكرنا ، وكذا سائر الموارد التي يستفاد منها هذا المعنى ـ أنّ المراد با ليقين في أخبار لا تنقض ليس إلاّ الحجّـة ، وحينئذ فتكون أدلّـة الأمارات واردة عليها ، كما لايخفى .
هذا ، ومن هنا يظهر وجـه تقدّم الأمارات على أصا لـة البراءة التي مدركها إمّا مثل حديث الرفع ، وإمّا حكم العقل . فعلى الأوّل فا لظاهر أنّ المراد بـ «ما لايعلمون» الوارد فيـه ليس إلاّ ما يعمّ الحجّـة عليـه ، ومن الواضح أنّ أدلّـة الأمارات يثبت حجّيتها ، كما أنّ مدركـه لو كان قاعدة قبح العقاب بلابيان تكون الأمارات متقدّمـة عليـه أيضاً ; لأنّها بيان قام الدليل على اعتبارها .
وأمّا تقدّم الاستصحاب على أصل البراءة; فإن كان مدركها حكم العقل بقبح العقاب ، من دون بيان فواضح ; لأنّ أدلّـة الاستصحاب الدالّـة على حرمـة نقض اليقين بغير اليقين بيان وحجّـة للمولى على العبد ، كما هو واضح .
وأمّا لو كان مدركها هو مثل حديث الرفع فلأنّ مفاد أدلّـة الاستصحاب تنزيل الشكّ المسبوق با ليقين بمنزلـة اليقين ; لكونـه أمراً مستحكماً مبرماً لاينبغي أن ينقض با لشكّ الذي لايكون كذلك على ما هو التحقيق من أنّ المراد با ليقين ليس المتيقّن ، فإنّـه لايناسب النقض با لشكّ ، كما لايخفى . وحينئذ فتكون أدلّـة

1 ـ الكافي 3: 351 / 3، وسائل الشيعـة 8: 220، كتاب الصلاة، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 11، الحديث 3.

(الصفحة494)

ا لاستصحاب حاكمـة على مثل حديث الرفع(1) ; لأنّ مدلولـه رفع ما لايعلم ، وهي تدلّ على تنزيل الشكّ منزلـة العلم ، وتحكم بكونـه علماً في عا لم التشريع .
وإن شئت قلت: إنّ المراد بـ «ما لايعلمون» ـ كما عرفت ـ هو ما لم يقم الحجّـة عليـه ، ولاشبهـة في أنّ أدلّـة الاستصحاب حجّـة ودليل ، فتكون متقدّمـة عليـه ، كما هو واضح ، ولعلّـه سيجيء التكلّم في هذا المقام في مبحث الاستصحاب .


1 ـ التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

(الصفحة495)






حول

أدلّـة الاُصوليّين على البراءة

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنّا بصدده ، وهو التكلّم في البراءة ، فنقول : قد استدلّ على البراءة بالأدلّـة الأربعـة :

الدليل الأوّل: الآيات

منها: قولـه تعا لى : (وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(1) .
وقد اُورد على التمسّك بـه تارة: بأنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ، فيختصّ با لعذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقـة(2) .
واُخرى: بأنّ نفي فعليـة التعذيب أعمّ من نفي الاستحقاق(3) .
وثالثـة: بأنّ مفادها أجنبي عن البراءة ، فإنّ مفادها الإخبار بنفي التعذيب

1 ـ الإسراء (17): 15.
2 ـ فرائد الاُصول 1: 317.
3 ـ الفصول الغرويّـة: 353 / السطر 7.

(الصفحة496)

قبل إتمام الحجّـة ، كما هو حال الاُمم السابقـة ، فلا دلالـة لها على حكم مشتبـه الحكم ; من حيث إنّـه مشتبـه ، فهي أجنبيـة عمّا نحن فيـه(1) .
وأنت خبير بعدم تماميـة شيء من هذه الإيرادات .
أمّا الأوّل: فلأنّ الآيـة إنّما وقعت في ذيل الآيات الواردة في القيامـة ، ولا اختصاص لها ، بل لا ارتباط لها بنفي العذاب الدنيوي با لنسبـة إلى الاُمم السا لفـة . وحينئذ فيكون المراد با لتعذيب المنفي هو العذاب الاُخروي ، كما أنّ المراد ببعث الرسول ليس مجرّد بعثـه ، ولو لم يكن مأموراً با لتبليغ ، كما يدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى أنّـه هو المتفاهم منـه ـ ذكر الرسول ، لا النبيّ ، بل المراد بـه أنّ البعث لأجل التبليغ وإتمام الحجّـة إنّما يكون غايـة لعدم التعذيب .
ومن هنا يظهر : أنّـه لو بلغ بعض الأحكام دون بعض ، أو بلّغها إلى أهل بلد خاصّ دون سائر البلدان ، أو بلّغها إلى جميع البلدان في عصره ، ثمّ لم يبلغ إلى الأعصار المتأخّرة ; لأجل الموانع والحوادث يفهم من الآيـة عدم التعذيب با لنسبـة إلى التكليف الذي لم يبلّغـه أصلاً ، أو الشخص الذي لم يصل إليـه ، وحينئذ فالآيـة ظاهرة ، بل صريحـة في نفي العذاب با لنسبـة إلى ما لم يصل إلى المكلّف .
هذا ، ولو سلّم ظهورها في الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ، واختصاصها با لعذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقـة فنقول : يستفاد منـه البراءة في المقام حينئذ بطريق أولى ; إذ لو كان التعذيب الدنيوي مع كونـه يسيراً محدوداً بمكان لايصدر منـه تعا لى إلاّ بعد بعث الرسول وإتمام الحجّـة فا لعذاب الاُخروي الذي لايمكن قياسـه مع العذاب الدنيوي ، لا من حيث الكمّ ، ولا من حيث الكيف

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 333.

(الصفحة497)

لايصدر منـه تعا لى إلاّ بعد ذلك بطريق أولى ، كما لايخفى .
وأمّا الثاني: فلأنّـه ليس المقصود في المقام إثبات نفي الاستحقاق ، بل يكفينا مجرّد ثبوت المؤمّن عن العذاب ، وإن كان أصل الاستحقاق ثابتاً .
وأمّا الثالث: فيظهر الجواب عنـه ممّا ذكرناه في الجواب عن الإيراد الأوّل .
هذا ، ويبقى في الآيـة أنّـه لو ثبت بدليل وجوب الاحتياط لايكون التعذيب حينئذ تعذيباً قبل بعث الرسول ، حتّى لايناسب مقامـه ـ جلّ شأنـه ـ كما لايخفى .
ومنها: قولـه تعا لى : (لا يُكَلِّفُ اللّـهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها)(1) .
ويقع الكلام فيـه في مقامين : أحدهما في إمكان دلالتـه على المقام ، ثانيهما فيما هو ظاهره .
أمّا المقام الأوّل: فلا إشكال في أنّـه لو كان المراد من التكليف هو التكليف الفعلي ، ومن الموصول هو التكليف الفعلي أيضاً أو أعمّ منـه ومن المال وغيره يلزم المحال ; لأنّـه يصير معناه حينئذ : أنّ التكليف الفعلي لايتحقّق إلاّ بعد إيصال التكليف الفعلي ، فيكون اتصافـه با لفعليـة مشروطاً بإيصا لـه متصفاً بها ، وهذا دور صريح .
وكذا يلزم ذلك لو كان المراد من كليهما هو التكليف الشأني ، وأمّا لو كان المراد بالأوّل هو التكليف الفعلي وبا لموصول هو التكليف الشأني فلايلزم المحال بوجـه ، كما أنّـه لو كان المراد من قولـه : (لا يُكَلِّفُ اللّـهُ) هو عدم إيقاعـه تعا لى نفساً في الكلفة والمشقّة ، لا التكليف المصطلح فلا مانع من أن يكون المراد با لموصول هو التكليف الفعلي . وحينئذ يصير معنى الآيـة : أنّـه تعا لى لايوقع نفساً

1 ـ الطلاق (65): 7.

(الصفحة498)

في المشقّـة إلاّ من قبل التكا ليف الواقعيـة الفعليـة التي بلّغها إلى المكلّف .
وحينئذ فيدلّ على نفي وجوب الاحتياط أيضاً ; لأنّـه لو فرض وجوب الاحتياط يلزم إيقاع المكلّف في الكلفـة من قبل التكا ليف المجهولـة التي لم تصل إلى المكلّف ; ضرورة أنّ إيجاب الاحتياط ليس إلاّ لرعايـة حفظ الواقع ، ولايكون وجوبـه إلاّ طريقياً ، فلايقال بأنّ الآيـة لاتنافي وجوب الاحتياط ; لأنّـه تكليف واصل إلى المكلّفين ، فلا مانع من وقوع المكلّف في المشقّـة من ناحيتـه ، فتدبّر .
ثمّ إنّـه لو اُريد با لموصول في الآيـة أعمّ من التكليف فا لظاهر أنّـه ممّا لايمكن ; لأنّـه لايعقل أن يتعلّق التكليف با لتكليف إلاّ على وجـه تعلّق الفعل با لمفعول المطلق ، كما أنّ تعلّقـه با لمال أو بمطلق الشيء إنّما يكون على وجـه تعلّقـه با لمفعول بـه ، وهذان الوجهان ممّا لايمكن فرض الجامع القريب بينهما ; لأنّ المفعول بـه لابدّ وأن يكون مفروض التحقّق قبل ورود الفعل عليـه ، والمفعول المطلق إنّما هو من شؤون الفعل وأنواعـه ، ولا جامع بين ما يقع عليـه الفعل وبين ما هو مأخوذ من نفس الفعل . وإن شئت قلت في المقام بعدم الجامع بين التكليف والمكلّف بـه .
هذا، واُجيب عن ذلك بوجوه:
منها: ما أفاده المحقّق النائيني على ما في التقريرات من أنّ إرادة العموم من الموصول لايستلزم أن يكون المراد من الموصول الأعمّ من المفعول بـه والمفعول المطلق ، بل يراد منـه خصوص المفعول بـه .
وتوهّم أنّ المفعول بـه لابدّ وأن يكون لـه نحو وجود وتحقّق في وعائـه قبل ورود الفعل عليـه ممنوع بأنّ المفعول المطلق النوعي والعددي يصحّ جعلـه مفعولاً بـه بنحو من العنايـة ، مثلاً الوجوب وإن كان وجوده بنفس الإيجاب

(الصفحة499)

وا لإنشاء إلاّ أنّـه باعتبار ما لـه من المعنى الاسم المصدري يصحّ تعلّق التكليف بـه . نعم ، الوجوب با لمعنى المصدري لايصحّ تعلّق التكليف بـه(1) .
هذا ، ولايخفى ما فيـه ، فإنّ المعنى الاسم المصدري هو ما يحصل من المصدر ، ويتحقّق منـه ، فيكون في الرتبـة المتأخّرة عن نفس المصدر ، وحينئذ فكيف يعقل فرض وجود لـه قبيل المصدر ، ثمّ إيقاعـه عليـه ، كما هو واضح .
ومنها: ما أفاده المحقّق العراقي من أنّ هذا الإيراد إنّما يرد في فرض إرادة الخصوصيات المزبورة من شخص الموصول ، وإلاّ فبناءً على استعمال الموصول في معناه الكلّي العامّ ، وإرادة الخصوصيات من دوالّ اُخر خارجيـة فلايتوجّـه محذور ، لا من طرف الموصول ، ولا في لفظ الإيتاء ، ولا في تعلّق الفعل با لموصول ; لأنّـه لم تستعمل الموصول والإيتاء إلاّ في المعنى الكلّي ، وإفادة الخصوصيات إنّما هي بدوالّ اُخر . وكذلك تعلّق الفعل با لموصول ليس إلاّ نحو تعلّق واحد . ومجرّد تعدّده با لتحليل لايقتضي تعدّده با لنسبـة إلى الجامع(2) ، انتهى ملخّصاً .
وأنت خبير بأنّـه بعد فرض عدم وجود الجامع القريب بين خصوصيات الموصول كيف يمكن أن يقال بأنّها مستعملـة في المعنى العام .
نعم ، الإيتاء مستعمل في معناه ، وهو الإعطاء ، وهو أمر كلّي جامع بين الإعطاء والإقدار والإعلام ، وبعد عدم وجود الجامع لايكون النسبـة أيضاً متعلّقـة بـه ، حتّى يقال بأنّ تعدّدها إنّما هو با لتحليل .
أمّا المقام الثاني: ـ بحسب مقام الإثبات والاستظهار ـ فدعوى ظهور

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 331 ـ 333.
2 ـ نهايـة الأفكار 3: 202.

(الصفحة500)

ا لآيـة فيـه ممنوعـة ، والذي يدفع الإشكال : أنّ ظاهر الآيـة ـ بقرينـة ما قبلها وما بعدها ـ ينافي الحمل على التكليف ، وكونها بمنزلـة كبرى كلّيـة لايوجب شمولها للتكليف ، بل الظاهر أنّ مفادها هو مفاد قولـه تعا لى : (لا يُكَلِّفُ اللّـهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها)(1) ، فلامجال للاستدلال بها على المقام ، كما لايخفى .

الدليل الثاني: الأخبار

منها: حديث الرفع(2) ; حيث عدّ فيـه «ما لايعلمون» من جملـة التسعـة ا لمرفوعـة . وتحقيق الكلام في مفاد الحديث الشريف يتمّ برسم اُمور :

الأمر الأوّل: في معنى الرفع

فنقول : ذكر المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ أنّ الرفع في الحديث بمعنى الدفع ، ولايلزم من ذلك مجاز ، ولايحتاج إلى عنايـة أصلاً ، قال في توضيحـه ما ملخّصـه : إنّ استعمال الرفع وكذا الدفع لايصحّ إلاّ بعد تحقّق مقتضى الوجود ; بحيث لو لم يرد الرفع وكذا الدفع على الشيء لكان موجوداً في وعائـه المناسب لـه ; لوضوح أنّ كلاّ منهما لايرد على ما يكون معدوماً في حدّ ذاتـه لا وجود لـه ولا اقتضاء الوجود ، ويفترق الرفع عن الدفع بأنّ استعمال الرفع إنّما يكون غا لباً في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في المرتبـة السابقـة ، والدفع يستعمل غا لباً في المورد الذي فرض ثبوت المقتضي بوجود

1 ـ البقرة (2): 286.
2 ـ التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
<<التالي الفهرس السابق>>