في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة501)

شيء قبل إشغا لـه لصفحـة الوجود ، فيكون الرفع مانعاً عن استمرار الوجود ، والدفع مانعاً عن تأثير المقتضي .
ولكن هذا المقدار من الفرق لايمنع عن صحّـة استعمال الرفع بدل الدفع على وجـه الحقيقـة ، فإنّ الرفع في الحقيقـة يدفع المقتضي عن التأثير في الزمان اللاحق أو في المرتبـة اللاحقـة ; لأنّ بقاء الشيء كحدوثـه يحتاج إلى علّـة البقاء . فا لرفع في مرتبـة وروده على الشيء إنّما يكون دفعاً حقيقـة باعتبار علّـة البقاء ، وإن كان رفعاً باعتبار الوجود السابق . فاستعمال الرفع في مقام الدفع لايحتاج إلى رعايـة علاقـة المجاز أصلاً(1) ، انتهى .
وأنت خبير بما فيـه; لأنّ صدق عنوان الدفع على مورد الرفع باعتبار كونـه دافعاً عن تأثير المقتضى في الزمان اللاحق أو المرتبـة اللاحقـة لايوجب اتحاد الاعتبارين ووحدة العنوانين في عا لم المفهوميـة ، فإنّ اعتبار الرفع إنّما هو إزا لـة الشيء الموجود في زمان أو مرتبـة عن صفحـة الوجود ، واعتبار الدفع إنّما هو المنع عن تأثير العلّـة المبقيـة في الآن اللاحق ، وصدق عنوان الدفع على محلّ الرفع باعتباره لايوجب اتحاد الاعتبارين .
ألا ترى أنّ صدق عنوان الضاحك دائماً على مورد يصدق عليـه الإنسان لايقتضي اتحاد معنى الضاحك والإنسان ، وإن كان التصادق دائمياً ، فضلاً عن المقام الذي لايكون النسبـة إلاّ العموم والخصوص ، لا التساوي ، كما هو واضح .
وبالجملـة: تصادق العنوانين في الوجود الخارجي ـ مطلقاً أو في الجملـة ـ أمر ، واتحادهما في عا لم المفهوميـة أمر آخر . وحينئذ فمع اعترافـه بتغاير الاعتبارين لا مجال لدعوى صحّـة استعمال أحدهما مكان الآخر بلا

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 336 ـ 337.

(الصفحة502)

احتياج إلى رعايـة العلاقـة والعنايـة ، كما اعترف بذلك في مبحث الاشتغال ; حيث قال : إنّ استعمال الرفع مكان الدفع أو با لعكس إنّما هو بضرب من العنايـة والتجوّز(1) .
والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ الرفع في الحديث الشريف قد اُسند إلى نفس الأفعال التي يتعلّق بها التكليف ، ولم يكن مسنداً إلى نفس الحكم ، حتّى يحتاج إلى دعوى كون المراد من الرفع هو الدفع ، فإنّ الرفع قد اُسند إلى نفس الخطأ والنسيان ونظائرهما . نعم ، لا ننكر أنّ هذا الإسناد يحتاج إلى ادعاء أنّـه إذا كانت تلك الاُمور ممّا لايترتّب على فعلها المؤاخذة ، أو أظهر آثارها أو جميعها فكأنّها لاتكون متحقّقـة في صفحـة الوجود .
وبالجملـة: فا لرفع قد استعمل في الحديث بمعناه الحقيقي ، وهي إزا لـة الشيء بعد وجوده ; لأنّـه قد نسب إلى العناوين المتحقّقـة في الخارج ، وهي موجودة ثابتـة ، وإسناد الرفع إليها إنّما هو بأحد الوجوه المحتملـة . هذا ، ولو قلنا بأنّ التقدير هو رفع الأحكام والآثار المترتّبـة على تلك العناوين فيمكن أن يقال بأنّ الرفع حينئذ أيضاً قد استعمل في معناه الحقيقي ، وهو إزا لـة الحكم بعد ثبوتـه ; لأنّ أدلّـة الأحكام شاملـة با لعموم أو الإطلاق صورة الخطأ والنسيان والاضطرار والإكراه والجهل ، فا لرفع إنّما يتعلّق بتلك الأحكام في خصوص تلك الصور ، فهو بمعنى إزا لـة الحكم الثابت بالإرادة الاستعما ليـة في تلك الموارد ، وإن كان بحسب الإرادة الجدّيـة دفعاً حقيقـة .
كما أنّ التخصيص إنّما يكون تخصيصاً با لنسبـة إلى الإرادة الاستعما ليـة الشاملـة لمورد التخصيص . وأمّا با لنظر إلى الإرادة الجدّيـة المقصورة على غيره

1 ـ نفس المصدر 4: 222.

(الصفحة503)

فيكون في الحقيقـة تخصّصاً ، كما أنّ النسخ إنّما يكون نسخاً باعتبار ظهور الحكم في الاستمرار ، وإلاّ ففي الحقيقـة لايكون نسخاً ; لأنّ مورده إنّما هو ما إذا انتهى أمد الحكم ، وإلاّ فلايجوز ، بل يستحيل .
وبالجملـة: فاستعمال الرفع والتخصيص والنسخ إنّما هو باعتبار شمول الحكم المجعول قاعدة وقانوناً لموارد هذه الاُمور ، وإلاّ ففي الحقيقـة لايكون هنا رفع وتخصيص ونسخ ، بل دفع وتخصّص وانتهاء أمد . فظهر صحّـة استعمال الرفع في المقام على كلا التقديرين ; وهما تقدير إسناده إلى نفس العناوين ، كما هو الظاهر ، وتقدير إسناده إلى الأحكام المترتّبـة عليها ، كما لايخفى .

الأمر الثاني: في متعلّق الرفع

قد عرفت أنّ ظاهر الحديث إنّما هو إسناد الرفع إلى نفس تلك العناوين المذكورة فيـه ، ومن الواضح أنّ ذلك يحتاج إلى تقدير ; صوناً لكلام الحكيم من اللغويـة ; إذ لايمكن الحمل على ظاهره . وحينئذ فنقول : إنّـه قد وقع البحث في تعيين ما هو المقدّر ، فقيل : هي المؤاخذة ، وقيل : هو أظهر الآثار ، وقيل : هو جميع الآثار .
هذا، وذكر المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ أنّـه لا حاجـة إلى التقدير أصلاً ، فإنّ التقدير إنّما يحتاج إليـه إذا توقّف تصحيح الكلام عليـه ، كما إذا كان الكلام إخباراً عن أمر خارجي ، أو كان الرفع رفعاً تكوينياً ، وأمّا إذا كان الرفع رفعاً تشريعياً فا لكلام يصحّ بلا تقدير ، فإنّ الرفع التشريعي كا لنفي التشريعي ليس إخباراً عن أمر واقع ، بل إنشاء الحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع

(الصفحة504)

وا لنفي(1) ، انتهى ملخّصاً .
وأنت خبير بما فيـه، أمّا أوّلاً : فلأنّ ما ذكره من أنّ الرفع في الحديث إنّما هو رفع تشريعي ممنوع ، فإنّ الحديث يتضمّن إخبار النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عن مرفوعيـة تلك الاُمور في الواقع ; ضرورة أنّ التشريع لايكون إلاّ شأناً لـه ـ تبارك وتعا لى ـ ، والنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكذا الأئمّـة (عليهم السلام) إنّما يخبرون با لحكم الذي شرع في الواقع ، كا لمفتي الذي يفتي بالأحكام . غايـة الأمر أنّهم عا لمون بالأحكام الواقعيـة ، بخلاف المفتي . وبا لجملـة : فا لحديث لايدلّ على الرفع التشريعي أصلاً .
وأمّا ثانياً : فلأنّ الفرق بين الرفع التشريعي وغيره ; من حيث عدم احتياج الأوّل إلى التقدير ، دون الثاني ممّا لايصحّ ، فإنّ كليهما يحتاج إلى تصحيح وادعاء ; لعدم صحّـة إسناده إلى نفس العناوين ، لا تشريعاً ولا تكويناً بلا ادعاء ، كما لايخفى .
والتحقيق أن يقال: إنّ المصحّح لإسناد الرفع إلى نفس العناوين المذكورة في الحديث إنّما هو كونها بلا أثر أصلاً ; لأنّ تقدير أظهر الآثار ، أو خصوص المؤاخذة يحتاج إلى ادعائين : أحدهما ادعاء كون ذلك الأثر بمنزلـة جميع الآثار المترتّبـة على ذلك الشيء ، ثانيهما ادعاء كون الشيء الذي لم يكن لـه أثر أصلاً ، فهو معدوم ومرفوع . وهذا بخلاف كون المراد رفع جميع الآثار ، فإنّـه لايحتاج إلاّ إلى ادعاء واحد . ومنـه يظهر ترجيحـه على الاحتما لين الأوّلين .
هذا ، ويدلّ على أنّ المراد رفع جميع الآثار روايـة صفوان بن يحيى والبزنطي جميعاً عن أبي الحسن(عليه السلام) في الرجل يستحلف على اليمين ، فحلف با لطلاق والعتاق وصدقـة ما يملك ، أيلزمـه ذلك ؟


1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 342 ـ 343.

(الصفحة505)

فقال(عليه السلام) : «لا، قال رسول اللّـه(صلى الله عليه وآله وسلم): رفع عن اُمّتي ما اُكرهوا عليـه وما لايطيقون وما أخطأوا»(1) .
وا لحلف با لطلاق والعتاق والصدقـة وإن كان باطلاً عند الإماميـة في حال الاختيار أيضاً إلاّ أنّ استشهاد الإمام(عليه السلام) على عدم لزومها في صورة الإكراه دليل على عدم اختصاص حديث الرفع برفع خصوص المؤاخذة . هذا ، ويمكن أن يقال بأنّ المقصود من الروايـة : أنّـه إذا اُكره الرجل على الحلف بأن يطلّق أو يعتق أو يصدّق فهل يجب عليـه العمل على مقتضى حلفـه أم لا ؟ وحينئذ فلايكون هذا الحلف باطلاً مع الاختيار ، بل يجب عليـه مع وجود شرائطـه أن يطلّق أو يعتق أو يصدّق .
ويؤيّد كون المقصود من الروايـة هو هذا المعنى التعبير بقولـه «يلزمـه» ، فإنّـه لايناسب كون المراد با لحلف با لطلاق ونظائره هو الحلف بكون امرأتـه مطلّقـة مثلاً ، كما لايخفى .
ثمّ لايذهب عليك: أنّ نسبـة الرفع إلى الاُمور التسعـة المذكورة في الحديث ليس على نسق واحد ; ضرورة أنّ المراد برفع الخطأ والنسيان ليس هو رفع الآثار المترتّبـة على نفس الخطأ والنسيان ; لأنّـه لايعقل ذلك ، كما صرّح بـه الشيخ في «ا لرسا لـة»(2) ، بل المراد با لخطأ والنسيان هو ما أخطأ وما نسي . فالآثار المترتّبـة على الفعل لايترتّب عليـه إذا وقع خطأً أو نسياناً .
وا لسرّ في التعبير عنـه بذلك إنّما هو وضوح أنّ المتفاهم من هذين العنوانين بحسب نظر العرف ليس نفسهما مستقلاّ ، بل من حيث كونهما طريقاً ، وهذا بخلاف

1 ـ المحاسن: 339 / 124، وسائل الشيعـة 23: 226، كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث12.
2 ـ فرائد الاُصول 1: 320 ـ 322.

(الصفحة506)

عنوان الحسد والطيرة ، فإنّـه لايكون طريقاً إلى شيء آخر ، بل المتبادر منـه إنّما هو نفس عنوانـه . ويدلّ على ذلك : التعبير عن الخطأ في الروايـة المتقدّمـة بكلمـة «ما أخطأوا» . هذا ، ويمكن أن يكون الوجـه في التعبير با لخطأ والنسيان في الحديث هو متابعـة الآيـة الشريفـة ; من حيث إنّـه قد عبّر فيها با لنسيان والخطأ .
وبالجملـة: لاينبغي الإشكال في أنّ المراد با لخطأ والنسيان في الحديث ليس ظاهرهما ، بل المراد هو ما أخطأوا وما نسوا ، وحينئذ فيصير مطابقاً لمثل «ما لايعلمون» ونظائره .
ثمّ إنّ ظاهر الحديث هو اختصاص رفع هذه الاُمور بهذه الاُمّـة ، مع أنّ المؤاخذة على الخطأ والنسيان وما لايعلمون وأشباهها مرفوعـة عقلاً ، ولا اختصاص لـه بهذه الاُمّـة ، ولكن هذا الإيراد إنّما يرد بناءً على أن يكون المرفوع هو المؤاخذة ، وقد عرفت أنّ المصحّح لإسناد الرفع إلى الاُمور المذكورة في الحديث إنّما هو كونها مرفوعـة بجميع آثارها . وعلى تقدير أن يكون المرفوع هو خصوص المؤاخذة يمكن أن يقال بمنع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الاُمور بقول مطلق ، فإنّـه لايقبح المؤاخذة على الخطأ والنسيان الصادرين من ترك التحفّظ ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ مقتضى كون الحديث امتناناً على العباد ليس إلاّ مجرّد رفع الأحكام والآثار عن تلك الاُمور المذكورة فيما إذا وقعت تلك الاُمور اتفاقاً ، فهو بصدد رفع الكلفـة والمشقّـة على ا لعباد ، وحينئذ فلادلالـة لـه على رفع الحكم فيما إذ أوقع المكلّف نفسـه اختياراً في الاضطرار إلى ترك واجب أو فعل محرّم أو شرب دواء ـ مثلاً ـ اختياراً ، فذهبت منـه القدرة على فعل المأمور بـه وأشباه ذلك ، كما هو واضح جدّاً .


(الصفحة507)

كما أنّ مقتضى الحديث رفع الحكم فيما إذا لم يلزم من رفعـه ضرر على شخص آخر ; لأنّ ذلك ينافي الامتنان على الاُمّـة الظاهر في الامتنان على جميع الاُمّـة ، كما لايخفى . وحينئذ فالاضطرار مثلاً إلى أكل مال الغير لايوجب إلاّ سقوط التحريم المتعلّق بإتلاف مال الغير من دون إذن ، لا سقوط الضمان أيضاً ، بل يشكل سقوط الحكم التكليفي أيضاً في بعض الموارد ، كما إذا اضطرّ بالاضطرار العرفي الغير البا لغ حدّ الاضطرار الشرعي إلى أكل عين متعلّقـة با لغير ; بحيث كانت خصوصيتها أيضاً متعلّقـة لغرضـه ، ولايرضى بإتلافـه مع دفع القيمـة أصلاً ; لكون خصوصيتها مطلوبـة لـه أيضاً ، فإنّـه يشكل الحكم بجواز الإتلاف بمجرّد عروض اضطرار يمكن لـه التحمّل عقلاً ، وإن لم يكن ممّا يتحمّل عادة ، كما لايخفى .

الأمر الثالث: في شمول الحديث للاُمور العدميـة

ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ أنّ حديث الرفع إنّما يختصّ برفع الاُمور الوجوديـة ، فلو اُكره المكلّف على الترك أو اضطرّ إليـه أو نسي الفعل ففي شمول الحديث لـه إشكال ; لأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلـة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلـة الوجود ، فإنّ ذلك إنّما يكون وضعاً لا رفعاً ، فلو نذر أن يشرب من ماء دجلـة ، فاُكره على العدم أو اضطرّ إليـه أو نسي أن يشرب فمقتضى القاعدة وجوب الكفّارة عليـه ، لو لم تكن أدلّـة وجوب الكفّارة مختصّـة بصورة التعمّد ومخا لفـة النذر عن إرادة والتفات(1) .
هذا، وأجاب عن ذلك المحقّق العراقي ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ بعدم

1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 352 ـ 353.

(الصفحة508)

ا لفرق بين رفع الفعل أو الترك ; إذ كما أنّ معنى رفع الوجود في عا لم التشريع عبارة عن رفع الأثر المترتّب عليـه ، وخلوّه عن الحكم في عا لم التشريع ، كذلك في رفع العدم ، فإنّ مرجع رفعـه إلى رفع الأثر المترتّب على هذا العدم الراجع إلى عدم أخذه موضوعاً للحكم با لفساد ، ووجوب الإعادة مثلاً بملاحظـة دخل نقيضـه ، وهو الوجود في الصحّـة .
وبا لجملـة : فرق واضح بين قلب الوجود بعدم ذاتـه وتنزيلـه منزلتـه ، وبا لعكس ، وبين قلب أخذه موضوعاً للحكم بعدم أخذه في مرحلـة تشريع الحكم ، وخلوّ خطاباتـه عنـه . والإشكال المزبور إنّما يرد على الأوّل دون الثاني(1) ، انتهى .
هذا، وأنت خبير بعدم تماميـة هذا الجواب; إذ ليس معنى رفع هذه الاُمور هو رفعها عن موضوعيـة الحكم المترتّب عليها مطلقاً ، حتّى في ناحيـة رفع الفعل ، فإنّـه لو كان معنى رفع ما اضطرّوا إليـه مثلاً هو رفع شرب الخمر الذي حصل الاضطرار إليـه عن موضوعيـة الحكم با لحرمـة ، الظاهر في حرمتـه مطلقاً لما كان الكلام محتاجاً إلى ادعاء ومصحّح ، كما أتعبوا بـه أنفسهم ; إذ الرفع حينئذ يصير رفعاً حقيقياً ، لا ادعائياً .
فالإشكال إنّما هو بناءً على ظاهر الحديث من كون المرفوع هي ذوات هذه الأشياء ، وجعلها بمنزلـة العدم ، والجواب لاينطبق عليـه ، كما هو واضح .
والتحقيق في الجواب أن يقال: أمّا أوّلاً ; فلأنّ العدم المرفوع في الحديث هو العدم المضاف ، وهو يمكن اعتباره بنحو ثبت لـه الثبوت الإضافي ، وثانياً : أنّ تعلّق الرفع بـه يوجب تحقّقاً اعتبارياً لـه ، وبهذا الاعتبار يمكن أن يتعلّق بـه ،

1 ـ نهايـة الأفكار 3: 219.

(الصفحة509)

وثا لثاً : إذا فرض ترتّب حكم على الترك في الشريعـة فلابدّ من أن يكون لـه ثبوت اعتباري في عا لم التشريع ، وإلاّ فلايعقل أن يتعلّق بـه الحكم ، ويترتّب عليـه الأثر ، وحينئذ فا لحديث إنّما يرفع هذا الثابت با لثبوت الاعتباري ، والمصحّح لإسناد الرفع إليـه هو خلوّه في عا لم التشريع عن الحكم والأثر رأساً . وبا لجملـة : فلاينبغي الإشكال في شمول الحديث لرفع التروك أيضاً .

الأمر الرابع: في شمول الموصول للشبهات الموضوعيـة والحكميـة

إنّما الكلام في شمول الموصول في قولـه «ما لايعلمون» للشبهات الحكميـة وعدمــه ، فاعلم أنّـه قد يقال ـ كما قيل ـ باختصاصـه با لشبهات الموضوعيـة(1) : إمّا لأنّ المرفوع في الحديث هو خصوص المؤاخذة ، والمؤاخذة على نفس الحكم ممّا لايعقل .
وإمّا لأنّ وحدة السياق تقتضي ذلك ; لأنّ المراد من الموصول في «ما استكرهوا عليـه» وأخواتـه هو الموضوع ; إذ لايعقل الاستكراه ـ مثلاً ـ على الحكم . ومقتضى وحدة السياق أن يكون المراد با لموصول في «ما لايعلمون» أيضاً هو الموضوع الذي اشتبـه عنوانـه ، فلايعمّ الشبهات الحكميـة .
وإمّا لأنّ إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هو لـه ، وإسناده إلى الفعل إسناد إلى غير ما هو لـه ، ولا جامع بينهما حتّى يمكن أن يراد من الموصول ، وحينئذ فمع قطع النظر عن وحدة السياق ينبغي تخصيص الحديث با لشبهات الحكميـة ; لأنّ إسناد الرفع فيها إسناد حقيقي ، إلاّ أنّ وحدة السياق اقتضت الحمل

1 ـ فرائد الاُصول 1: 320 ـ 321، كفايـة الاُصول: 387، دررالفوائد، المحقّق الخراساني: 190.

(الصفحة510)

على خصوص الشبهات الموضوعيـة .
هذا، وأنت خبير بفساد جميع هذه الوجوه: أمّا الوجـه الأوّل فلأنّـه مبني على أن يكون المرفوع هو خصوص المؤاخذة ، وقد عرفت أنّ مقتضى التحقيق هو كون المرفوع هي نفس تلك العناوين ادعاءً ، بلحاظ خلوّها عن الحكم رأساً .
وأمّا الوجـه الثاني فلمنع اقتضاء وحدة السياق ذلك ، بل نقول : إنّ وحدة السياق تقتضي خلافـه ، كما أفاده في «ا لدرر»(1) ; لأنّ عدم تحقّق الاضطرار في ا لأحكام ، وكذا الإكراه لايوجب تخصيص «ما لايعلمون» ، بل مقتضى السياق إرادة العموم من هذا الموصول ، كإرادتـه من أخواتـه . غايـة الأمر : أنّ عموم الموصول إنّما يكون بملاحظـة سعـة متعلّقـه وضيقـه . فقولـه(صلى الله عليه وآله وسلم) : «ما اضطرّ إليـه» اُريد منـه كلّ ما اضطرّ إليـه في الخارج . غايـة الأمر : أنّـه لم يتحقّق الاضطرار با لنسبـة إلى الحكم .
فمقتضى اتحاد السياق أن يراد من قولـه(صلى الله عليه وآله وسلم) : «ما لايعلمون» أيضاً كلّ فرد من أفراد هذا العنوان . ألا ترى أنّـه إذا قيل : «ما يؤكل» و «ما يرى» في قضيـة واحدة لايوجب انحصار أفراد الأوّل في الخارج ببعض الأشياء تخصيص الثاني أيضاً بذلك البعض ، كما هو واضح جدّاً .
هذا ، وذكر المحقّق العراقي ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ في بيان منع وحدة السياق المقتضيـة للحمل على خصوص الشبهات الموضوعيـة ما ملخّصـه : أنّ من الفقرات في الحديث الطيرة والحسد والوسوسـة ، ولايكون المراد منها الفعل ، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبـه ، مع أنّ ذلك يقتضي ارتكاب خلاف ظاهر السياق من جهـة

1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 441.

(الصفحة511)

اُخرى ، فإنّ الظاهر من الموصول في «ما لايعلمون» هو ما كان بنفسـه معروض الوصف وعدم العلم ، كما في غيره من ا لعناوين .
فتخصيص الموصول با لشبهات الموضوعيـة ينافي هذا الظهور ; إذ لايكون الفعل فيها بنفسـه معروضاً للجهل ، وإنّما المعروض لـه هو عنوانـه . وحينئذ يدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهـة بحمل الموصول في «ما لايعلم» على الحكم المشتبـه ، وبين حفظـه من جهـة اُخرى ، بحملـه على إرادة الفعل ، ولاريب أنّ الترجيح مع الأوّل بنظر العرف(1) ، انتهى .
أقول: لايخفى أنّ ذكر الحسد والطيرة والوسوسـة في الخلق لايوجب الاختلاف في الحديث بعد كونها أيضاً من الأفعال . غايـة الأمر : أنّها من الأفعال القلبيـة ، كما هو واضح .
وأمّا ما أفاده(2) من أنّ الحمل على الشبهات الموضوعيـة يقتضي ارتكاب خلاف الظاهر من جهـة اُخرى ففيـه أوّلاً : منع ذلك ; فإنّ الخمر إذا كان مجهولاً يكون اتصاف شربـه بشرب الخمر مجهولاً حقيقـة ، وليس نسبـة الجهل إليـه با لعرض والتبع ; ضرورة أنّـه مجهول حقيقـة ، وإن كان تعلّق الجهل با لخمر صار

1 ـ نهايـة الأفكار 3: 216.
2 ـ لايخفى عدم انطباق الجواب على كلامـه; لأنّ مراده ظهور فقرة «ما لايعلمون» في كون متعلّق الجهل هو نفس الفعل بما هو، لا عنوانـه الذي هو الخمر، فمراده ظهورها في تعلّق الجهل، لابعنوان الخمريـة، بل بنفس الفعل.
ولكن يرد عليـه الغفلـة عن ظهور الموصول في كونـه متعلّقاً للحكم، ولابدّ من تعلّق الجهل بهذه الجهـة، ومن المعلوم أنّ متعلّق الحكم هو العنوان، فلابدّ من كون العنوان مجهولاً، ولا وجـه لدعوى الظهور في متعلّق الجهل بنفس الفعل، مع قطع النظر عن العنوان، كما لايخفى.

(الصفحة512)

سبباً لمجهوليـة شرب الخمر ، إلاّ أنّها من قبيل الواسطـة في الثبوت ، لا الواسطـة في العروض ، وحينئذ فيصحّ رفع شرب الخمر لكونـه مجهولاً .
وثانياً : أنّـه لو سلّمنا أنّ المجهول حقيقـة هو نفس عنوان الخمريـة فنقول : إنّـه لابأس في أن يكون الخمر مرفوعاً بعنوانـه ، وحينئذ يترتّب عليـه رفع الأحكام الشرعيـة المترتّبـة على الأفعال المرتبطـة بـه ، كا لشرب ونحوه .
فا لتحقيق في الجواب عن دعوى وحدة السياق ما ذكرنا ، ونزيد عليـه : أنّ الموصول لايدلّ إلاّ على معناه الإجما لي الإبهامي ، وهو شيء ثبت لـه الصلـة ، ولا تعرّض لـه إلى خصوصيات هذا الشيء ، ومقتضى وحدة السياق هو الحمل الموصول في جميع الفقرات المشتملـة عليـه على معناه الحقيقي ، كما لايخفى .
وأمّا الوجـه الثا لث : فيرد عليـه ما حقّقناه في المجاز من أنّ المجاز لايكون عبارة عن استعمال اللفظ في غير الموضوع لـه ، بل هو أيضاً ـ كا لحقيقـة ـ عبارة عن استعمال اللفظ في معناه الموضوع لـه ، غايـة الأمر : أنّـه قد ادعى كون المعنى المجازي من أفراد المعنى الحقيقي ، وحينئذ فنقول : إنّ إسناد الرفع إلى الموضوع المجهول لايكون مجازاً وإسناداً إلى غير ما هو لـه ، بل إنّما هو إسناد إلى ما هو لـه ، غايـة الأمر أنّـه قد ادعى كونـه صا لحاً لتعلّق الرفع بـه ، كما أنّك عرفت : أنّ نسبـة الرفع إلى الأحكام أيضاً لايكون إلاّ ادعاء ; لما عرفت من ثبوتـه با لنسبـة إلى الجاهل أيضاً ، ولايستفاد من الحديث اختصاص الأحكام الواقعيـة با لعا لم بها .
<<التالي الفهرس السابق>>