في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


(الصفحة 141)

فيما لو اشتبـه ا لماء ا لطاهر بين ا لماءين : «يُهريقهما ويتيمّم»(1) ـ لايخلو من نظر ; لأنّ ا لمراد بالإهراق هو عدم إمكان ا لانتفاع بهما للوضوء ، لا ا لإهراق بمعناه ا لحقيقي ، مع أ نّـه يمكن أن يكون ا لوجـه في ا لإهراق هو تحقّق موضوع ا لتيمّم يقيناً للوسوسـة ا لثابتـة مع بقائهما ; لأ نّـه يحتمل إمكان ا لوضوء بهما ، كما يقولـه بعض ا لفقهاء(2) ، وسيأتي تحقيقـه(3) .

هذا كلّـه ، مضافاً إ لى أنّ ا لسيرة ا لمستمرّة إ لى ا لآن ، من أعظم ا لشواهد على جواز استعما ل ا لمياه ا لمتنجّسـة في غير ا لأكل وا لشرب ، وكذا سائر ا لمتنجّسات ، بل ا لنجاسات ، كما هو واضح .

اشتباه الماء الطاهر بالنجس

ا لكلام في ا لعلم ا لإجما لي : تارة يقع فيما لو كانت أطرافـه محصورة ، واُخرى فيما كان ا لأمر دائراً بين أطراف كثيرة ، ويعبّر عنـه با لشبهـة غير ا لمحصورة .

وعلى ا لتقديرين : إمّا أن يكون ا لمقصود إحراز تنجيز ا لعلم ا لإجما لي ، وأ نّـه هل يكون ا لعلم ا لإجما لي كا لتفصيلي منجِّزاً ، وموجباً لصحّـة ا لعقوبـة واستحقاقها عند ا لعقلاء ; لو ارتكب أحد ا لأطراف ، واتّفق مصادفتـه للحرام ا لواقعي ؟ وإمّا أن يكون ا لنزاع في جواز ا لترخيص في أحد ا لأطراف أو جميعها وعدم جوازه ، كما أنّ


1 ـ ا لكافي 3 : 10 / 6 ، تهذيب ا لأحكام 1 : 229 / 662 ، و : 249 / 713 ، الاستبصار 1 : 21 / 48 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 151 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب 8 ، ا لحديث2 .
2 ـ ا لعروة ا لوثقى 1 : 53 ، ا لمسألـة 10 .
3 ـ يأتي في ا لصفحـة 166 .

(الصفحة 142)

ذلك كلّـه فيما لو كان ا لتكليف ا لفعلي معلوماً با لقطع وا ليقين .

وقد يقع ا لكلام أيضاً فيما لو قامت ا لأمارة على نجاسـة شيء ـ مثلاً ـ ويتردّد ذلك ا لشيء بين أمرين أو أزيد ، أو على حرمتـه كذلك ، وكذا فيما لو كان مقتضى ا لأصل ذلك ، فنقول :

أ مّا لو علم إجمالاً بحرمـة شيء مردّد بين أطراف محصورة ، فلا إشكا ل فـي كـون هـذا ا لعلم مـنجِّـزاً ; لأنّ ا لتنجـيز ليـس إلاّ مجـرّد صـحّـة احـتجـاج ا لمـولى علـى ا لعبـد ، وعقـوبتِـهِ علـى ارتكاب ا لمحـرّم ا لـواقعـي ومخـا لفـة ا لتكليف ، كمـا يظهـر با لـرجـوع إ لـى ا لعقـلاء ا لـذين هم ا لمـرجع فـي مثـل ا لمـقام ; مـمّا يـرجـع إ لى ا لإطاعـة وا لعصيان ، وما يترتّب عليهما مـن استحقاق ا لمثـوبـة وا لعقـوبـة وغيـره مـن ا لآثار .

ومن ا لواضح أ نّـه لا فرق عندهم في تنجّز ا لتكليف ا لمعلوم ; بين ما إذا كان تعلّق ا لعلم بـه على سبيل ا لتفصيل ، أو كان تعلّقـه بـه على نحو ا لإجما ل ; بأن كان ا لمعلوم مردّداً بين أمرين أو أزيد ، فكما أ نّـه يكون ا لعبد عاصياً مستحقّاً للعقوبـة فيما لو ارتكب ا لخمر ا لمعلوم ، كذلك فيما لو ارتكب ا لخمر ا لمشتبـه ا لمردّد بين أطراف محصورة .

وبا لجملـة : فهذا ا لحكم من ا لأحكام ا لبديهيّـة عند ا لعقلاء ، وكما لايجوز للمكلّف ارتكاب أحد ا لأطراف لتنجّز ا لتكليف ، كذلك لايجوز للمولى ا لترخيص في ارتكاب بعض ا لأطراف للزوم ا لمناقضـة ، فإنّ ا لحكم بحرمـة ا لخمر ا لمردّد بين أشياء ـ ا لراجع إ لى أ نّـه لم يرفع ا لمولى يده عن تكليفـه بمجرّد ا لتردّد ـ لايجتمع مع ا لترخيص في بعض ا لأطراف ، ا لذي مرجعـه إ لى أ نّـه يكون ا لتكليف مرفوعاً على تقدير مصادفـة ما رُخّص فيـه مع ا لحرام ا لواقعي .

وبا لجملـة : فثبـوت ا لتكـلـيف علـى أيّ تقـديـر ورفـعـه علـى بعـض

(الصفحة 143)

ا لتقادير ، مـمّا لايجـتمعان ; لأنّ مـرجـعـه إ لى اجـتماع ا لمـتناقضين ا لـذي يكـون هـو ا لأصـل فـي ا لامـتناع .

وأ مّا ا لشبهـة غير ا لمحصورة : فا لتكليف ا لفعلي وإن كان معلوماً فيها ، إلاّ أ نّـه لايكون منجّزاً ; لما عرفت من أنّ تنجّز ا لتكليف عند ا لعقلاء ، عبارة عن كونـه بحيث يصحّ للمولى ا لاحتجاج بـه على ا لعبد وا لموآخذة على مخا لفتـه ، وهذا غير متحقّق في ا لشبهـة غير ا لمحصورة ; لأنّ احتما ل ا لمحرّم ا لواقعي ، قد بلغ في ا لضعف إ لى حدّ لايكون مورداً لاعتناء ا لعقلاء واعتمادهم عليـه ، بل ربما يعدّون من رتّب ا لأثر على هذا ا لنحو من الاحتما ل سفيهاً غير عاقل .

ألا ترى أنّ من كان لـه ولد ـ مثلاً ـ في بلد عظيم كثير ا لأهل ، وسمع بوقوع حادثـة في ذلك ا لبلد أدّت إ لى قتل واحد من أهلـه ، فلو رتّب ا لأثر على مجرّد احتما ل كون ا لمقتول ولده ، وأقام عليـه مجلس ا لفاتحـة وا لعزاء ; لاحتما ل انطباق ا لمقتول على ولده ا لمحبوب ، لكان مذموماً عند ا لعقلاء ، ومورداً لطعنهم ، وا لحكم عليـه با لخروج عن ا لطريقـة ا لعقلائيّـة ، بل لو صار مثل هذا ا لاحتما ل مسبّباً لترتيب ا لأثر عليـه ، لانسدّ باب ا لمعيشـة وسائر ا لأعما ل ، كما لايخفى .

وبا لجملـة : فا لتكليف ا لفعلي وإن كان معلوماً ، إلاّ أنّ في كلّ واحد من ا لأطراف أمارة عقلائيّـة على عدم كونـه هو ا لمحرّم ا لواقعي ; لأنّ احتما لـه واقع بين ا لاحتمالات ا لكثيرة ; على حسب كثرة ا لأطراف ا لمخا لفـة لذلك الاحتما ل ، ومع بلوغـه إ لى هذا ا لحدّ من ا لضعف ، يفرض وجوده كا لعدم عند ا لعقلاء ; بحيث لايعتنون بـه أصلاً ، فيجوز ارتكاب جميع ا لأطراف مع وجود هذه ا لأمارة ا لعقلائيّـة بالإضافـة إ لى كلّ واحد منها .

نعم لوكان قصده من أوّل الأمر ارتكاب الحرام الواقعي بارتكاب جميع الأطراف وارتكب واحداًمنها واتّفق مصادفته للمحرّم الواقعي ، تصحّ العقوبة عليه بلاارتياب .

(الصفحة 144)


كلام المحقّق الحائري في المقام

ثمّ إنّ بعض ا لمحقّقين من ا لمعاصرين ـ بعد توجيهـه جواز ا لارتكاب في ا لشبهـة غير ا لمحصورة بما يرجع إ لى ما ذكرنا ـ قا ل : «ولكن فيما ذكرنا أيضاً تأ مّل ، فإنّ ا لاطمئنان بعدم ا لحرام في كلّ واحد واحد با لخصوص ، كيف يجتمع مع ا لعلم بوجود ا لحرام بينها وعدم خروجـه عنها ؟ ! وهل يمكن اجتماع ا لعلم با لموجبـة ا لجزئيّـة مع ا لظنّ با لسلب ا لكلّي ؟ !»(1) .

وأنت خبير : بأ نّـه لو كان متعلّق ا لاطمئنان هو بعينـه متعلّق ا لعلم ـ ولو اختلفا من حيث ا لإيجاب وا لسلب ـ يلزم ما ذكر ، ولكنّـه ليس كذلك ، فإنّ متعلّق ا لعلم هو وجود ا لحرام بين هذه ا لأطراف غير ا لمحصورة ، ومتعلّق الاطمئنان هو خروج كلّ واحد منها با لقياس إ لى غيره ، وإلاّ فتلزم ا لمنافاة في ا لشبهـة ا لمحصورة أيضاً ، فإنّـه كيف يجتمع ا لعلم بوجود ا لحرام بين ا لإناءين مع ا لشكّ في كلّ واحد منهما أ نّـه ا لمحرّم ; لعدم إمكان اجتماع ا لعلم مع ا لشكّ ؟ ! وا لسرّ ما ذكرنا : من أنّ ا لشكّ إنّما يلاحظ با لقياس إ لى ا لطرف ا لآخر ; بمعنى أ نّـه لايعلم أنّ هذا ا لإناء بخصوصـه ظرف للمحرّم ا لواقعي ، أو ا لإناء ا لآخر ، ولاينافي ذلك تحقّق ا لعلم بوجود ا لحرام بينهما ، بل منشأ ا لشكّ هو وجود ذلك ا لعلم ، وفيما نحن فيـه ; حيث إنّ احتما ل وجود ا لحرام في كلّ واحد من ا لأطراف بخصوصـه ضعيف في ا لغايـة ; لوقوعـه في مقابل احتمالات كثيرة على خلافـه ، فالاطمئنان بعدم كونـه هو ا لمحرّم ا لواقعي إنّما هو لضعف ذلك ا لاحتما ل با لنسبـة إ لى غيره ، ولاينافي هذا وجود ا لعلم بكون ا لحرام في هذه ا لأطراف غير ا لمحصورة غير خارج عنها .


1 ـ درر ا لفوائد ، ا لمحقّق ا لحائري 2 : 471 .

(الصفحة 145)

ثمّ إنّـه وإن لم يكن ا لعلم منجِّزاً للتكليف ا لفعلي في ا لشبهـة غير ا لمحصورة ـ لماعرفت ـ إلاّ أ نّـه مع ذلك لايجوز للمولى ا لترخيص ولو في ارتكاب بعض ا لأطراف ; للزوم ا لمناقضـة ، كما عرفت في ا لشبهـة ا لمحصورة(1) .

حول ضابط الشبهة غير المحصورة

ثمّ إنّـه ممّا ذكرنا ظهر : أنّ ا لملاك في بلوغ ا لشبهـة إ لى حدّ عدم ا لحصر وكونها غيرمحصورة ، هو أن يكون احتما ل وجود ا لحرام في كلّ واحد من ا لأطراف ضعيفاً ; لكثرتها بحيث لايُعتنى بـه عند ا لعقلاء أصلاً .

كما أنّ ا لمناط في ا لشبهـة ا لمحصورة هو اعتماد ا لعقلاء على احتما ل ا لمحرّم ا لواقعي وترتيب ا لأثر عليـه .

ثمّ إنّـه ممّا ذكرنا : من وجود ا لأمارة ا لعقلائيّـة في كلّ واحد من أطراف ا لشبهـة غير ا لمحصورة ظهر : أنّ حا ل أطرافها أوسع من حا ل ا لشبهـة ا لبدويّـة أيضاً ، فإنّـه إذا تردّد مائع ـ مثلاً ـ بين كونـه ماءً أو لبناً ، لايجوز ا لتوضّي بذلك ا لمائع ; لعدم إحراز ا لماء ا لمطلق ـ ا لذي هو شرط في صحّـة ا لوضوء ـ بخلاف ما لو تردّد لبن بين ا لمياه ا لكثيرة ، فإنّـه يجوز ا لوضوء بكلّ واحد من ا لأطراف وإن احتمل كونـه لبناً ; لوجود ا لأمارة ا لعقلائيّـة على ا لخلاف ، كما عرفت .

ثمّ إنّ بعض ا لأعاظم من ا لمعاصرين ذكر في ضابط ا لشبهـة غير ا لمحصورة ـ على ما في ا لتقريرات ا لمنسوبـة إ ليـه ـ أنّ ضابطها : هو أن تبلغ أطراف ا لشبهـة حدّاً لايمكن عادة جمعها في ا لاستعما ل ; من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك ، وهذا يختلف حسب اختلاف ا لمعلوم بالإجما ل :


1 ـ تقدّم في ا لصفحـة 142 .

(الصفحة 146)

فتارة يعلم بنجاسـة حبّـة من ا لحنطـة في ضمن حقّـة منها ، فهذا لايكون من ا لشبهـة غير ا لمحصورة ; لإمكان استعما ل ا لحقّـة من ا لحنطـة بطحن وخبز وأكل ، مع أنّ نسبـة ا لحبّـة إ لى ا لحقّـة تزيد عن نسبـة ا لواحد إ لى ا لألف .

واُخرى يعلم بنجاسـة إناء من لبن ا لبلد ، فهذا يكون من ا لشبهـة غير ا لمحصورة ولو كانت أواني ا لبلد لاتبلغ ا لألف ; لعدم ا لتمكّن ا لعادي من جمع ا لأواني في الاستعما ل ; وإن كان ا لمكلّف متمكّناً من آحادها ، فليس ا لعبرة بقلّـة ا لعدد وكثرتـه فقط ; إذ رُبّ عدد كثير تكون ا لشبهـة فيـه محصورة ، كا لحقّـة من ا لحنطـة ، كما أ نّـه لاعبرة بعدم ا لتمكّن ا لعادي من جمع ا لأطراف في الاستعما ل فقط ; إذ ربما لايتمكّن عادة من ذلك مع كون ا لشبهـة فيـه أيضاً محصورة ، كما لو كان بعض ا لأطراف في أقصى بلاد ا لمغرب ، بل لابدّ في ا لشبهـة غير ا لمحصورة من اجتماع كلا ا لأمرين ، وهما : كثرة ا لعدد ، وعدم ا لتمكّن من جمعـه في الاستعما ل(1) . انتهى .

ولايخفى أ نّـه إن كان ا لمراد با لتمكّن ا لعادي من جمع ا لأطراف في ا لاستعما ل ، هو إمكان جمعها دفعـة ; أي في أكل واحد ، أو شرب واحد ، أو لبس واحد . . . وهكذا ، فهذا يوجب خروج أكثر ا لشبهات ا لمحصورة ، ومنها ا لمثا ل ا لذي ذكره لها .

وإن كان ا لمراد بـه هو عدم ا لتمكّن من جمعها ولو تدريجاً ; بحسب مرور ا لأيّام وا لشهور وا لسنين ، فلازمـه خروج أكثر ا لشبهات غير ا لمحصورة عن كونها كذلك ، ودخولها في ا لشبهـة ا لمحصورة ، فلا محيص عن ا لالتزام بكون ا لمناط في ا لحصر وعدمـه ما ذكرنا ، فتدبّر .


1 ـ فوائد ا لاُصول (تقريرات ا لمحقّق ا لنائيني) ا لكاظمي 4 : 117 ـ 118 .

(الصفحة 147)


شروط وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة

ثمّ إنّهم ذكروا لوجوب ا لاجتناب عن أطراف ا لشبهـة ا لمحصورة شروطاً ، واعتبروا فيـه اُموراً :

منها :تنجّز ا لتكليف بالاجتناب عن ا لحرام ا لواقعي على كلّ تقدير ; بأن يكون كلٌّ منهما بحيث لو علم تفصيلاً بكونـه هو ا لحرام ا لواقعي ، لوجب ا لاجتناب عنـه ، وأ مّا لو لم يكن كذلك ; بأن لم يكلّف بـه أصلاً ، كما لو علم بوقوع قطرة من ا لبول في أحد إناءين أحدهما بول أو متنجّس با لبول ، أو كثير لاينفعل با لنجاسـة ، لم يجب ا لاجتناب عن ا لآخر ; لعدم ا لعلم بحدوث ا لتكليف بالاجتناب عنـه ، وكذا لو كان ا لتكليف في أحدهما معلوماً ، لكن لا على وجـه ا لتنجّز ، بل معلّقاً على تمكّن ا لمكلّف منـه ، فإنّ ما لايتمكّن ا لمكلّف من ارتكابـه ، لايكلّف ـ منجَّزاً ـ بالاجتناب عنـه ، كما إذا تردّد ا لنجس بين إنائـه وإناء آخر لا دخْل للمكلّف فيـه أصلاً ، فإنّ ا لتكليف بالاجتناب عن ا لإناء ا لآخر ا لمتمكّن منـه عقلاً غير منجّز عرفاً ، ولهذا لايحسن ا لتكليف ا لمنجّز بما ليس من شأن ا لمكلّف ا لابتلاء بـه ، نعم يحسن ا لأمر بالاجتناب عنـه مقيّداً بتحقّق ا لابتلاء .

وا لحاصل : أنّ ا لنواهي ا لمطلوب فيها حمل ا لمكلّف على ا لترك ، مختصّـة ـ بحكم ا لعقل وا لعرف ـ بمن يعدّ مبتلىً با لواقعـة ا لمنهيّ عنها ، ولذا يُعدّ خطاب غيره با لترك مستهجناً ، وا لسرّ في ذلك : أنّ غير ا لمبتلى تارك للمنهيّ عنـه بنفس عدم ا لابتلاء ، فلا حاجـة إ لى نهيـه أصلاً ، فإذا علم بوقوع ا لنجاسـة في هذا ا لإناء أو الإناء ا لواقع في أقصى بلاد ا لمغرب ـ مثلاً ـ لم يعلم تنجّز ا لتكليف على كلّ تقدير . هذه خلاصـة ما أفاده ا لشيخ ا لأعظم (قدس سره) في ا لرسا لـة(1) .


1 ـ فرائد ا لاُصول 2 : 419 ـ 420 .

(الصفحة 148)

وذكر ا لمحقّق ا لنائيني (قدس سره) ـ على ما في ا لتقريرات ـ ما حاصلـه :

إ نّـه لا إشكا ل في اعتبار ا لقدرة ا لعقليّـة في كلٍّ من ا لأمر وا لنهي ، ويختصّ ا لثاني بقيد زائد ، وهو ا لقدرة ا لعاديّـة على فعل ا لمنهي عنـه وتركـه ، ولايكفي في صحّـة ا لنهي مجرّد ا لقدرة ا لعقليّـة ، فإنّ ا لتكليف ا لمطلق بترك ما يكون منتركاً عادة ، يكون كا لتكليف ا لمطلق بترك ما يكون منتركاً عقلاً ; من حيث ا للَغْويّـة وا لاستهجان .

وإنّما زِيدَ هذا ا لقيد في ا لنواهي ، دون ا لأوامر ; لأنّ ا لأمر با لفعل ليس إلاّ لأجل اشتما لـه على ا لمصلحـة ا لملزِمـة ، ولايقبح من ا لمولى ا لتكليف بإيجاد ما اشتمل على ا لمصلحـة بأيّ وجـه أمكن ; ولو بتحصيل ا لأسباب ا لخارجـة عن ا لقدرة ا لعاديّـة مع ا لتمكّن ا لعقلي من تحصيلها .

وأ مّا ا لنهي فلأ نّـه حيث كان ا لغرض منـه مجرّد عدم حصول ما اشتمل على ا لمفسدة ، ومع عدم ا لتمكّن ا لعادي من فعلـه لاتكاد تحصل ا لمفسدة ، فلاموجب للنهي عنـه ، بل لايمكن ; لاستهجانـه عرفاً .

فإن قلت : يلزم على هذا عدم صحّـة ا لنهي عن كلّ ما لايحصل ا لداعي إ لى إيجاده ، كما لو فرض أنّ ا لمكلّف ـ بحسب طبعـه ـ لايميل إ لى شرب ا لخمر أصلاً ولو لم يتعلّق بـه نهي ، كما يشاهد نظيره با لنسبـة إ لى ستر ا لعورة وأمثا لها ممّن يأبى عن كشفها ولو لم يكن نهي ، وذلك ممّا لايمكن ا لالتزام بـه ، فإنّ لازمـه قصر ا لنواهي على من تنقدح في نفسـه إرادة ا لفعل ، بل وقصر ا لأوامر على من لم يكن مريداً للفعل مع قطع ا لنظر عن ا لأمر أصلاً ، وهو كما ترى .

قلت : فرق بين عدم ا لقدرة عادة على ا لفعل ، وبين عدم ا لإرادة عادة ، فإنّ ا لقدرة من شرائط حسن ا لخطاب ، ولابدّ من أخذها قيداً في ا لتكليف ، وأ مّا إرادة ا لفعل فليس لها دخْل في حسن ا لخطاب ، ولايعقل أخذها قيداً في ا لتكليف

(الصفحة 149)

ـ وجوداً أو عدماً ـ لأنّ ا لتكليف إنّما هو لبعث ا لإرادة ، فلايمكن أن يكون مقيّداً بحا ل وجودها ، ولا بحا ل عدمها .

فقياس باب ا لإرادة بباب ا لقدرة ليس في محلّـه ; لعدم استهجان ا لنهي عن فعل ما لايحصل ا لداعي إ لى إيجاده عادة ، واستهجانـه عن فعل ما لايتمكّن من فعلـه كذلك .

وا لذي يدلّك على هذا ملاحظـة ا لنواهي في ا لموا لي ا لعرفيّـة ، فإنّـه يحسن من ا لمولى ا لنهي عن شرب ا لتتن ـ مثلاً ـ ولو فرض أنّ ا لعبد بحسب طبعـه لايميل إ لى شرب ا لتتن ، بخلاف ما لو لم يكن قادراً على شربـه ; لكونـه في أقصى بلاد ا لهند مثلاً ، ولاتصل يده إ ليـه(1) . انتهى ملخّص ما في ا لتقريرات .

تحقيق في الخطابات الشخصيّة والقانونيّة

إذا عرفت ما ذكروه في قضيّـة ا لابتلاء وشرطيّتـه لتنجّز ا لتكليف ا لمعلوم بالإجما ل ، فاعلم أنّ ا لتحقيق في هذا ا لباب : أنّ ا لخطابات على قسمين :

ا لقسم ا لأوّل : هـي ا لخـطابات ا لجـزئيّـة ا لمتـوجّهـة إ لـى آحـاد ا لمـكلّفين ; كلّ واحـد مـنهم مـستقلاّ عـن ا لآخـر ، كا لخـطاب إ لـى زيـد با لنهـي عـن شـرب ا لخـمر مـثلاً .

وفـي هـذا ا لقـسم لا إشكا ل فـي أنّ نهيـه مـشروط بعـدم كـونـه تاركاً لـه لـداع نفسانـي ; لأنّ ا لنهـي إنّما هـو لإيجـاد ا لـداعي با لنسبـة إ لـى ا لمـكلّف ، ومـع تحـقّقـه لـه بالإضافـة إ لـى ا لتـرك يسـتهجـن تـكليفـه با لنهـي عنـه ، فإنّـه مـن ا لقبيـح تـكليف صـاحب ا لمـروّة ـ ا لذي لايكشف ا لعـورة بمـنظر مـن


1 ـ فوائد ا لاُصول (تقريرات ا لمحقّق ا لنائيني) ا لكاظمي 4 : 50 ـ 54 .

(الصفحة 150)

ا لناس ـ بحـرمـة ا لكشف ووجـوب ا لستر .

وكذلك باب ا لأوامر ، فإنّ ا لغرض من ا لبعث ليس إلاّ مجرّد إيجاد ا لداعي للعبد نحو ا لفعل ، ومع كونـه فاعلاً لـه ـ ولو مع قطع ا لنظر عن ا لأمر لداع شهواني ـ يستهجن ذلك ا لتكليف ، كما لو أمر ا لمولى عبده با لتنفّس مع تحقّقـه منـه عادة .

وإن شئت قلت : إنّ ا لمقصود من ا لأمر ليس إلاّ مجرّد وجود ا لمأمور بـه من ا لعبد ، وصدوره منـه في ا لخارج ، ومع كونـه موجوداً بداعي غير ا لأمر يقبح تكليفـه بـه .

نعم فيما إذا كان قصد ا لتقرّب معتبراً في حصول ا لغرض وسقوط ا لأمر ، ما كان وجوده بداعي غير ا لأمر مؤثّراً في ذلك ، إلاّ أنّ مرجعـه أيضاً إ لى عدم تحقّق ا لمأمور بـه بتمام خصوصيّاتـه ا لمعتبرة فيـه ; بناءً على أخذ قصد ا لتقرّب في ا لمتعلّق وإمكان ذلك ، كما قد حقّقناه في ا لاُصول(1) .

ا لقسم ا لثاني : هي ا لخطابات ا لكلّيّـة ا لمتوجّهـة إ لى عموم ا لمخاطبين ; بحيث كان ا لخطاب واحداً وا لمخاطب كثيراً .

كجـميع ا لخـطابات ا لشـرعيّـة ا لمتـوجّهـة إ لـى عمـوم ا لناس ، فإنّ ا لخـطاب فيها واحـد متـوجّـه إ لـى ا لعناويـن ا لمـنطبقـة علـى جـميع ا لناس ، كقـولـه : «يا أيّها ا لناس افعلـوا كذا وكذا» مثـلاً ، أو علـى بعـضهم كا لمستطـيع فـي ا لحكم بوجوب ا لحجّ .

وبا لجملـة : لا إشكا ل في وحدة ا لخطابات ا لواقعـة في ا لشريعـة ; بمعنى عدم انحلالها إ لى خطابات متعدّدة حسب تعدّد ا لمخاطبين .

وحينئذ فالاستهجان ا لمستلزم لامتناع ا لتكليف ، بل ا لخطاب من ا لشارع


1 ـ مناهج ا لوصول 1 : 260 ـ 272 ، تهذيب ا لاُصول 1 : 146 .

(الصفحة 151)

ا لحكيم وعدمـه لابدّ وأن يلاحظ بالإضافـة إ لى ذلك ا لخطاب ا لعامّ ا لمتوجّـه إ لى ا لمخاطبين ، فإذا فرض أ نّهم لايقدرون ـ با لقدرة ا لعاديّـة ـ على ا لإتيان با لمنهي عنـه بوجـه ، يكون ا لخطاب قبيحاً منـه ، بعد ما عرفت : من أنّ ا لنهي إنّما هو لغرض عدم حصول ا لمنهي عنـه في ا لخارج(1) ، ومع عدم تحقّقـه ولو مع قطع ا لنظر عن ا لنهي ـ كما هو ا لمفروض ـ يستهجن ا لتكليف ، كما أ نّـه إذا فرض ثبوت ا لداعي لجميع ا لمخاطبين للإتيان با لمأمور بـه ; بحيث لايتحقّق منهم ا لترك أصلاً ، يقبح توجّـه ا لأمر إ ليهم ولو با لخطاب ا لعامّ .

وأ مّا إذا لم يكـن ا لأمـر كذلك ; بأن كان بعض ا لمخاطبين لايتحقّق لـه ا لداعـي إ لى ا لإتيان با لمنهي عنـه ، وبعضهم على خلافـه ، ولاتتميّز ا لطائفـة ا لاُولى عن ا لثانيـة ببعض ا لجهات ا لمميّزة ا لمشخّصـة ، أو كان كلّهم لـه داع نفساني إ لى ا لإتيان بـه ، مـا كان ا لتكليف قبيحاً وتـوجيـه ا لخـطاب ا لعامّ بالإضافـة إ ليهم مستهجناً . وجميع ا لخطابات ا لشرعيّـة ا لواردة في مقام ا لأمر وا لنهي من هذا ا لقبيل .

فا لتكليف با لنهي عن شرب ا لخمر مثلاً ، إنّما هو تكليف لجميع ا لناس من ا لموجودين حا ل ا لخطاب وا لمعدومين ، وخطاب متوجّـه إ ليهم ، ولاينحلّ إ لى تكا ليف متعدّدة وخطابات متكثّرة ; حسب تعدّد ا لمخاطبين وتكثّرهم ; حتّى يلاحظ حا ل كلّ واحد منهم ; من حيث ثبوت ا لداعي لـه إ لى ا لفعل ا لمنهي عنـه أو ترك ا لمأمور بـه ، فيحسن توجّـه ا لخطاب إ ليـه ، وعدمـه فيقبح .

بل ا لملاك في استهجان توجّـه ا لخطاب بنحو ا لعموم وعدمـه ، ما عرفت من ثبوت ا لداعي للجميع أو للبعض وعدمـه .


1 ـ تقدّم في ا لصفحـة148 .

(الصفحة 152)

وبا لجملـة:حيث إنّ ا لخطابات ا لشرعيّـة بنحو ا لعموم ، وا لملاك في حسنها ، يغاير ما هو ا لملاك في حسن ا لخطاب إ لى آحاد ا لمكلّفين ، فلامحا لـة تكون متوجّهـة إ لى جميع ا لناس ، وعدم استحقاق ا لعقوبـة في بعض ا لموارد ، كا لجهل وا لعجز وأمثا لهما ، إنّما هو لتحقّق ا لعذر بالإضافـة إ لى ا لمعذور ، لا لعدم حسن توجّـه ا لخطاب ا لمستلزم لامتناعـه ; وذلك لما عرفت : من أ نّـه لا وجـه لدعوى انحلال ا لخطابات ا لشرعيـة إ لى ا لخطابات ا لكثيرة حسب تكثّر ا لمخاطبين ; حتّى يلاحظ حا ل كلّ واحد منهم ; من حيث استحسان توجّـه ا لخطاب إ ليـه وعدمـه . ولعمري إنّ هذا واضح جدّاً .

وحينئذ فإذا فرض عدم ابتلاء ا لمكلّف ببعض ا لأطراف في ا لشبهـة ا لمحصورة ، فتوجيـه ا لخطاب ا لخاصّ با لنهي عن ا لخمر ، ا لمردّد بين هذا ا لإناء وا لإناء ا لذي يكون في أقصى بلاد ا لهند ; وإن كان مستهجناً لو لم يعلّق بالابتلاء بـه ، إلاّ أ نّـه مجرّد فرض لم يوجد في ا لشريعـة ; لأنّ ا لخطابات فيها إنّما هي على نحو ا لعموم ، وا لمفروض كونـه من جملـة ا لمخاطبين ، فا لتكليف متوجّـه إ ليـه ، ويجب عليـه ا لاجتناب عن ا لإناء ا لموجود عنده ; وإن كان ا لحرام مردّداً بينـه وبين ما لايبتلى بـه ا لمكلّف عادة .

فمـا اشتهـر بيـن ا لمـتأخّـرين : مـن اشتراطـهم فـي وجـوب ا لاجـتناب عـن أطـراف ا لشـبهـة ا لمحـصورة ، كـون جـميعها مـورداً لابتلاء ا لمكلّف(1) ، ممّا لايعـلم لـه وجـه .

ويؤيّده : أ نّـه لايكون بين ا لمتقدّمين ذكر لهذا ا لشرط ولا أثر ، بل إنّما حدث في ا لأزمنـة ا لمتأخّرة ، كما عرفت .


1 ـ فرائد ا لاُصول 2 : 419 ـ 420 ، فوائد ا لاُصول (تقريرات ا لمحقّق ا لنائيني) ا لكاظمي 4 : 50 ـ 51 ، درر ا لفوائد ، ا لمحقّق ا لحائري 2 : 464 ، نهايـة ا لأفكار 3 : 338 .

(الصفحة 153)


عدم شرطية الابتلاء للتنجّز في الأحكام الوضعية

ثمّ إنّـه من ا لواضح أ نّـه لا فرق بين ا لأحكام ا لتكليفيّـة وا لوضعيّـة من هذه ا لجهـة أصلاً ، فكما أ نّـه يشترط في توجيـه ا لخطاب إ لى زيد وحسنـه با لنهي عن شرب ا لخمر ابتلاؤه بـه عادة ، وإلاّ تلزم ا للَغْويّـة كما عرفت ، كذلك يشترط في جعل ا لنجاسـة لـه ابتلاؤه بذلك ا لشيء ا لمجعول لـه ا لنجاسـة عادة ; إذ من ا لمعلوم أنّ جعل ا لنجاسـة وسائر ا لأحكام ا لوضعيّـة ، إنّما هو لغرض ترتُّب ا لأثر ; من عدم جواز ا لصلاة في ا لشيء ا لنجس ، وعدم جواز استعما لـه وا لانتفاع بـه مطلقاً ، أو في ا لجملـة ، وغيرهما من ا لأحكام وا لآثار ، وحينئذ فجعل ا لنجاسـة على ا لشيء ا لذي لايبتلى بـه ا لمكلّف عادة ، يكون مستهجناً عرفاً ، وحينئذ فيلزم ـ بناء على قولهم بانحلال ا لخطابات ا لشرعيّـة إ لى خطابات كثيرة بمقدار كثرة ا لمخاطبين وتعدّدهم ـ أن تكون ا لأحكام ا لوضعيّـة أيضاً كذلك ، فيلزم كون شيء نجساً با لنسبـة إ لى من يبتلى بـه ، وعدم كونـه كذلك بالإضافـة إ لى من لايكون كذلك ; لما عرفت من استهجان جعل ا لنجاسـة لـه بعد ما فرض من أنّ ا لأحكام ا لوضعيّـة مجعولـة لغرض ترتُّب ا لأثر ، مع أنّ ضرورة ا لفقـه تقضي بخلافـه ، فإنّ ا لشيء ا لنجس نجس بالإضافـة إ لى جميع ا لناس ; لأنّ ا لنجاسـة من ا لاُمور ا لواقعيّـة ، ا لتي لاتختلف باختلاف ا لأشخاص من حيث الابتلاء وعدمـه أصلاً ، كما هو واضح لايخفى ، وهكذا سائر ا لأحكام ا لوضعيّـة .

ثمّإنّ ا لنقض بالأحكام ا لوضعيّـة ـ كما عرفت ـ يرد على جميع ا لأقوال فيها ، ولكن وروده على مثل ا لشيخ ا لأعظم (قدس سره) في رسا لـة ا لإستصحاب ـ ممّن يقول بانتزاعها من ا لأحكام ا لتكليفيـة(1) ـ أوضح .


1 ـ فرائد ا لاُصول 2 : 601 ـ 603 .

(الصفحة 154)

ثمّإنّ لازم ما ذكروه في ا لمقام ـ من اشتراط تنجّز ا لتكليف ا لمعلوم بالإجما ل بصحّـة توجّـه ا لتكليف على أيّ تقدير ـ أ نّـه لو تردّد ا لأمر بين أن يكون هذا ا لإناء خمراً ، أو ذلك ا لإناء بولاً ، لايجب الاجتناب عن ا لإناءين من جهـة ا لشرب أصلاً ; لأنّ توجيـه ا لخطاب بقولـه : «لاتشرب ا لبول» ، يعدّ مستهجناً بعد عدم ا لداعي إ لى شربـه أصلاً ، وا لخطاب بقولـه : «لاتشرب ا لخمر» لايعلم ثبوتـه في ا لفرض .

وحينئذ فلا موجب للاجتناب عن ا لشرب أصلاً ـ بناءً على قولهم ـ مع أنّ ذلك مستبعد جدّاً .

ثمّإنّ مقتضى ما ذكرنا ـ من أنّ ا لخطابات ا لواردة في ا لشريعـة ، لاتنحلّ إ لى خطابات متعدّدة حسب تعدّد ا لمخاطبين ، بل كلّ واحد منها خطاب واحد ، وا لمخاطب فيـه متعدّد ـ أ نّـه لو شكّ مكلّف في تحقّق ا لقدرة وعدمـه ، يجب عليـه ا لاحتياط ; لما عرفت : من أنّ عدم استحقاق ا لعقوبـة مع عدم ا لقدرة ، إنّما هو للعذر ، لا لعدم توجّـه ا لتكليف(1) ، وحينئذ فمرجع ا لشكّ فيها إ لى ا لشكّ في ثبوت ا لعذر وعدمـه ، فا للازم ا لاحتياط .

وأ مّا بناءً على ا لانحلال ، وكون ا لقدرة شرطاً لثبوت ا لتكليف ، فا لقاعدة مع ا لشكّ فيها تقتضي ا لرجوع إ لى ا لبراءة ; لكون ا لشكّ في ا لشرط موجباً للشكّ في أصل ا لتكليف ا لمشروط بـه ، وا لمرجع فيـه أصا لـة ا لبراءة ، مع أ نّهم لايلتزمون بها ، بل يوجبون ا لاحتياط(2) . فهذا أيضاً يؤيّد ، بل يدلّ على بطلان قولهم بالانحلال ، فتأ مّل .


1 ـ تقدّم في ا لصفحـة 152 .
2 ـ فوائد ا لاُصول (تقريرات ا لمحقّق ا لنائيني) ا لكاظمي 4 : 55 ، اُنظر درر ا لفوائد ، ا لمحقّق ا لحائري 2 : 465 ، نهايـة ا لأفكار 3 : 341 ـ 342 .

(الصفحة 155)


تنبيه: حكم ملاقي الشبهة المحصورة

لايخفى أنّ ا لعلم ا لإجما لي با لحرام ا لمردّد بين أمرين أو اُمور ، أو ا لنجاسـة ا لمردّدة كذلك ، لايؤثّر في صيرورة كلّ واحد من ا لطرفين أو ا لأطراف ، هو ا لحرام ا لواقعي أو ا لنجس ا لواقعي ; بحيث تصير ا لأطراف متغيّرة عن ا لحا لـة ا لسابقـة ومتلوّنـة بلون ا لواقع ، فيترتّب على كلّ واحد منها جميع ا لأحكام ا لمترتّبـة على ا لواقع ، فلايحكم بنجاسـة ا لملاقي لأحد ا لمشتبهين ; لأجل ا لملاقاة مع ما هو من أطراف ا لعلم ا لإجما لي با لنجاسـة ; لأنّ ا لتنجيس إنّما هو من ا لأحكام وا لآثار ا لمترتّبـة على ا لنجس ا لواقعي ، لا من آثار ما يجب ا لاجتناب عنـه وا لمعاملـة معـه معاملـة ا لنجس تحفّظاً على ا لواقع ، كما هو واضح .

نعم قد يقا ل ـ كما قيل(1) ـ بتنجّس ملاقي أحـد ا لمشتبهين ; إمّا لأنّ معنى ا لاجتناب عـن ا لأعيان ا لنجسـة ، إنّما هو الاجتناب عنها وعمّا يلاقيها ولو بوسائط ، ولذا استدلّ صاحب «ا لغُنيـة»(2)  على تنجّس ا لماء ا لقليل بملاقاة ا لنجاسـة بقولـه تعا لى : (وَا لرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(3) ; بناءً على أنّ هَجْر ا لنجاسات لايتحقّق إلاّ بهجر ملاقيها .

وإمّا للملازمـة بين نجاسـة ا لأعيان ا لنجسـة وما يلاقيها كما يدلّ عليـه روايـة جابـر ا لجعفـي عـن أبي جعفر(عليه السلام)  : أ نّـه أتاه رجـل ، فقا ل لـه : وقعت فأرة في خابيـة فيها سَمْن أو زيت ، فما ترى في أكلـه ؟ فقا ل أبو جعفر (عليه السلام)  : «لاتأكلـه» . فقا ل ا لرجل : ا لفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها .


1 ـ منتهى ا لمطلب 1 : 30 / ا لسطر 5 ، ا لطهارة ، ضمن تراث ا لشيخ ا لأعظم 1 : 283 .
2 ـ غنيـة ا لنزوع 1 : 46 .
3 ـ ا لمدّثّر (74) : 5 .

(الصفحة 156)

فقا ل أبو جعفر (عليه السلام)  : «إنّك لم تستخفّ با لفأرة ، وإنّما استخففتَ بدينك ; إنّ الله حرّم ا لميتـة من كلّ شيء»(1) .

وجـه ا لدلالـة : أ نّـه (عليه السلام) جعل ترك ا لاجتناب عن ا لطعام استخفافاً بتحريم ا لميتـة ، ولولا استلزامـه لتحريم ملاقيـه ، لم يكن أكل ا لطعام استخفافاً بتحريم ا لميتـة ، فوجوب ا لاجتناب عن شيء يستلزم وجوب ا لاجتناب عن ملاقيـه .

أقول : أ مّا ما ذكر : من أنّ معنى ا لاجتناب عن شيء ، إنّما هو ا لاجتناب عنـه وعن ملاقيـه ، فهو محلّ نظر بل منع ; إذ من ا لواضح أ نّـه لو لم يكن ا لدليل دالاًّ على نجاسـة ملاقي ا لنجس ، لم يفهم أحد من نفس ا لأدلّـة ا لدالّـة على نجاسـة الأعيان ا لنجسـة نجاسـة ما يلاقيها من سائر ا لأشياء .

وأ مّا قولـه تعا لى : (وَا لرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فقد عرفت أ نّـه أجنبي عن ا لمقام(2) .

وأ مّا ا لروايـة فمضافاً إ لى ضعف سندها(3) ، يحتمل قويّاً فيها : أن يكون مورد ا لسؤال هو وقوع ا لفأرة في ا لطعام ; بحيث تفسّخت فيـه ، وانبثّت أجزاؤها ، فحرمـة أكل ا لطعام إنّما هي من حيث استلزامـه لأكل ا لميتـة ، لا أنّ أكلـه بمنزلـة أكلها في ا لحرمـة .

وا لدليل على ذلك : أ نّـه جعل ترك ا لاجتناب عن ا لطعام استخفافاً بتحريم


1 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 420 / 1327 ، الاستبصار 1 : 24 / 60 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 206 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمضاف ، ا لباب 5 ، ا لحديث 2 .
2 ـ تقدّم في ا لصفحـة 140 .
3 ـ رواها ا لشيخ ا لطوسي بإسناده ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن محمّد بن عيسى ا ليقطيني ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر (عليه السلام)  . وا لروايـة ضعيفـة بعمرو بن شمر فإنّـه قد ضعّفـه ا لنجاشي .
   رجا ل ا لنجاشي : 287 / 765 .

(الصفحة 157)

ا لميتـة ومن ا لمعلوم أ نّـه لم يقل أحد : بأنّ حرمـة شيء تستلزم حرمـة ما يلاقيـه ، وحمل ا لحرمـة في ا لروايـة على ا لنجاسـة ـ مضافاً إ لى أ نّـه خلاف ا لظاهر من دون قرينـة وبيّنـة على ا لخلاف ـ لا دليل عليـه أصلاً .

وا لقول بأنّ ا لطباع تتنفّر من أكل ا لطعام ا لكذائي ، ا لذي صارت أجزاء ا لميتـة مخلوطـة بأجزائـه ، فلاينبغي حمل مورد ا لسؤال عليـه .

يدفعـه قول ا لسائل : «ا لفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها» ، خصوصاً بعد ملاحظـة حا ل ا لأعراب في صدر ا لإسلام .

وبا لجملـة : فا لروايـة أجنبيّـة عن ا لمقام .

مضافاً إ لى أ نّـه يمكن لنا أن نستدلّ ـ على أنّ ا لاجتناب عن ا لشيء لايكون مساوقاً للاجتناب عن ملاقيـه ـ بمفهوم ا لأدلّـة ا لدالّـة على أنّ الماء إذا بلغ قدر كُرّ لم ينجّسـه شيء(1) ، فإنّ مفهـومها أ نّـه إذا لم يبلغ ذلك ا لمقـدار ، يصيـر نجساً بمـلاقاة أعيان ا لنجاسـة ـ جميعها أو بعـضها على ا لخلاف ـ وظاهـره أنّ ا لمـلاقاة تؤثّر فـي صيرورته نجساً مستقلاّ ; بحيث لو لم يجتنب عنه لم يجتنب عـن ا لنـجس ، لا أنّ ترك ا لاجتناب عنـه مساوق لترك ا لاجتناب عن ا لنجس ا لملاقى ـ با لفتح ـ فتدبّر جيّداً .

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : ا لكلام في حكم ا لملاقي لأحد ا لأطراف :

تارة يقع فيما يقتضيـه ا لعقل .

واُخرى فيما تقتضيـه ا لاُصول ا لشرعيّـة .


1 ـ ا لكافي 3 : 2 / 2 ، ا لفقيـه 1 : 8 / 12 ، تهذيب ا لأحكام 1 : 39 / 107 ، و : 226 / 651 ، ا لاستبصار 1 : 6 / 1 ، و : 20 / 45 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 158 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لماء ا لمطلق ، ا لباب 9 ، ا لحديث 1 .

(الصفحة 158)

أ مّا مقتضى حكم ا لعقل : فلا إشكا ل في أ نّـه هو جواز ارتكاب ا لملاقي ; إذ ا لعقل ـ بعد ما حكم بتنجّز ا لتكليف ا لواقعي ، ا لمعلوم بالإجما ل ، ا لمستلزم لوجوب ا لاجتناب عن أطراف ا لشبهـة مقدّمـة للواقع وتحفّظاً لـه ـ لايحكم بوجوب ا لاجتناب عنها ثانياً على نحو ا لاستقلال .

توضيحـه : إنّك قد عرفت : أنّ عدم جواز ارتكاب ا لملاقي ـ با لكسر ـ ليس من شؤون عدم جواز ارتكاب ا لملاقى ـ با لفتح ـ بحيث كان ارتكابـه بمنزلـة ارتكابـه ، ومرجعـه إ لى أ نّـه ليس هنا تكليف واحد متعلّق بالأعيان ا لنجسـة ، غايـة ا لأمر أنّ حرمـة ارتكاب ما يلاقيها لأجل أ نّـه بمنزلـة ارتكابها ; إذ بناءً عليـه لا إشكا ل في تنجّس ا لملاقي ووجوب ا لاجتناب عنـه أيضاً ; إذ ليس هنا إلاّ تكليف واحد مردّد بين ذاك ا لطرف وبين ا لملاقي وا لملاقى ; إذ ليس للملاقي حكم آخر عدا ا لحكم ا لمتعلّق با لملاقى با لفتح .

بل نقول : إنّ هنا حكمين :

أحدهما مترتّب على الملاقى على تقدير كونه هو النجس الواقعي ، وهو الذي اقتضى العلم الإجما لي تنجّزه ، المستلزم لوجوب الاجتناب عنه وعن الطرف الآخر .

ثانيهما متـرتّب علـى ا لملاقـي علـى تقـدير كونـه قـد لاقى ا لنجس ا لواقعي ، وا لعلم ا لإجما لي بثبوتـه علـى هذا ا لتقديـر لايـؤثّر أصـلاً ; إذ ا لمفروض أنّ ا لملاقى ـ با لفتح ـ وا لطرف ا لآخر لايجوز ارتكابهما بحكم ا لعقل للعلم ا لإجما لى ا لأوّل ، وحينئذ فلايحكم ا لعقل ثانياً بوجوب ا لاجتناب عنهما ; لكونـه طرفاً للعلم ا لإجما لي ا لثانوي ; لأ نّـه يشترط في تنجيزه إمكان تحقّق ا لتكليف على كلّ تقدير ، وهنا ليس ا لأمر كذلك .

وبا لجملـة:فمقتضى حكم ا لعقل عدم وجوب ا لاجتناب عن ا لملاقي ـ با لكسر ـ لما ذكر .

(الصفحة 159)

وأ مّا الاُصول ا لشرعيـة : فقد يقا ل ـ كما قيل ـ : بأنّ طهارة ا لملاقي ـ با لكسر ـ ونجاستـه مسبّبـة عن طهارة ا لملاقى ـ با لفتح ـ ونجاستـه ، وا لأصل ا لجاري في ا لسبب يكون حاكماً على ا لأصل ا لجاري في ا لمسبّب ، وحيث إنّـه لايجري ا لأصل هنا في ا لسبب ; للمعارضـة مع ا لأصل ا لجاري في ا لطرف ا لآخر ، فلا مانع من جريان ا لأصل في ا لمسبّب ، فيكون ا لملاقي محكوماً با لطهارة وا لحلّيّـة ا لشرعيّـتين(1) .

وهنا شبهـة لبعض ا لمحقّقين من ا لمعاصرين

وهي : أ نّـه لا إشكا ل في أنّ ا لحلّيّـة مترتّبـة على ا لطهارة ; بمعنى أنّ ا لشكّ في ا لاُولى مسبّب عن ا لشكّ في ا لثانيـة ، كما أنّ ا لشكّ في طهارة ا لملاقي مسبّب عن ا لشكّ في طهارة ا لملاقى ، فا لشكّ في طهارة ا لملاقي ـ با لكسر ـ يكون في مرتبـة ا لشكّ في حلّيّـة ا لملاقى ـ با لفتح ـ بمعنى أنّ كليهما مسبّبان عن ا لشكّ في طهارتـه .

وحينئذ نقول : كما أ نّـه لايجري ا لأصل ا لموضوعي في ا لملاقى ; لمعارضتـه مع ا لأصل ا لموضوعي ا لجاري في ا لطرف ا لآخر ، كذلك لايجري ا لأصل ا لحكمي فيـه لهذه ا لجهـة .

ومن هنا يظهر عدم جريان أصا لـة ا لطهارة في ا لملاقي ; لكون ا لشكّ فيها في مرتبـة ا لشكّ في حلّيّـة ا لملاقى ، ا لمفروض عدم جريان ا لأصل بالإضافـة إ ليها للمعارضـة ، فيبقى من ا لاُصول ا لستّـة أصا لـة ا لحلّيّـة ا لجاريـة في ا لملاقي ; لسلامتها عن ا لمعارضـة ، وا لمفروض أ نّـه لايكون هنا أصل حاكم عليها ; لأنّ


1 ـ فرائد ا لاُصول 2 : 424 ، ا لطهارة ، ضمن تراث ا لشيخ ا لأعظم 1 : 282 ، مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 1 : 266 .

(الصفحة 160)

ا لأصل ا لحاكم لايجري للمعارضـة .

وبا لجملـة : يجري ا لأصل ا لحكمي في ا لملاقي دون ا لموضوعي ، فلايجب ا لاجتناب عنـه ، مع أ نّـه لايكون محكوماً با لطهارة(1) .

ويمكن ا لجواب عن ا لشبهـة : بأنّ ا لأدلّـة ا لدالّـة على اعتبار ا لاُصول الشرعيّـة ، لاتكون شاملـة لأطراف ا لعلم ا لإجما لي بنظر ا لعرف ; وإن لم يكن مانع عن ا لشمول بنظر ا لعقل ; من جهـة لزوم ا لتناقض بين ا لصدر وا لذيل ; لما سيجيء من عدم ا للزوم ، إلاّ أنّ ا لعرف لايقضي بكون ا لأطراف مشكوكـة ا لحكم ; حتّى ينطبق عليها موضوع أدلّـة ا لاُصول ، كما لايخفى .

وقد أجاب صاحب ا لشبهـة عنها بوجهين :

أحدهما : ربما يمكن إرجاعه إ لى ما ذكرنا في ا لجواب عنها ، فلانطيل بذكره .

ثانيهما : أنّ ا لأصل في أطراف ا لعلم ا لإجما لي لايكون جارياً ; للزوم ا لمناقضـة بين ا لصدر وا لذيل في أدلّـة اعتبارها ، وحينئذ فالأصلان ا لجاريان في ا لملاقي ـ با لكسر ـ يكونان سليمين عن ا لمعارض وا لحاكم ، فيكون محكوماً با لطهارة وا لحلّيّـة معاً(2) .

ويدفعـه : عدم لزوم ا لمناقضـة أصلاً ، فإنّـه لاتكون تلك ا لأدلّـة مشتملـة على ا لحكمين ; حتّى يقا ل بتناقضهما ، فإنّـه لايعقل جعل ا لحكم على ا ليقين ، ا لذي تكون حجّيّتـه من لوازم ذاتـه ، بل مدلول تلك ا لأدلّـة حكم واحد مترتّب على ا لشكّ ، غايـة ا لأمر يكون مغيّى بحصول ا لعلم ، وقد عرفت أنّ ا لعقل لايأبى عن جريانها في أطراف ا لعلم ، إلاّ أنّ ا لعرف لايكون مساعداً عليـه .

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا : أنّ ا لملاقي محكوم با لطهارة وا لحلّيّـة شرعاً .


1 ـ اُنظر نهايـة ا لأفكار 3 : 362 ، أنوار ا لهدايـة 2 : 245 .
2 ـ اُنظر أنوار ا لهدايـة 2 : 247 .

<<التالي الفهرس السابق>>