( الصفحة 291 )
حمل الروايات المتقدّمة النافية للقضاء على عدم وجوبه وإن كان أمراً مستحبّاً .
فانقدح أنّ المتّبع في المسألة هو النظر المشهور ، وأنّه لا مجال لشيء من القولين في مقابله .
الفرع الثاني : ما إذا كان العذر المستمرّ غير المرض ، كالسفر في رمضان المستمرّ إلى الرمضان الثاني مع عدم تخلّل المرور إلى الوطن ، أو الإقامة الموجبة للإتمام ولصحّة الصيام في محلّ من بلد أو قرية ، وقد قوّى في المتن وجوب القضاء عليه فقط وإن احتاط في العروة بالجمع بينه وبين المدّ (1). والظاهر أنّ الاحتياط وجوبيّ وإن كان يمكن أن يقال بأنّه استحبابي ; لظهور كلامه في تعيّن القضاء عليه ، فتدبّر .
وكيف كان ، فمقتضى القاعدة ثبوت القضاء في هذا الفرع ، كما أنّ مقتضاها في الفرع الأوّل أيضاً ذلك ، إلاّ أنّه قد وردت روايات معتبرة على سقوط القضاء في المرض المستمرّ، كما عرفت .
وأمّا في المقام: فلم ترد رواية على اتّحاد حكم السفر والمرض عدا رواية الفضل ابن شاذان ، عن الرضا (عليه السلام) ، المرويّة في علل الصدوق وعيونه ـ قال في حديث طويل : ـ إن قال : فلِمَ إذا مرض الرجل أو سافر في شهر رمضان فلم يخرج من سفره ، أو لم يقو من مرضه حتّى يدخل عليه شهر رمضان آخر وجب عليه الفداء للأوّل وسقط القضاء ، وإذا أفاق بينهما أو أقام ولم يقضه وجب عليه الفداء والقضاء ؟ . . . إلخ(2) ; فإنّ ظاهرها مفروغيّة اشتراك السفر مع المرض في صورة
- (1) العروة الوثقى 2 : 57 مسألة 2534 .
(2) علل الشرائع : 271 ح 9 ، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2 : 117 ح 1 ، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 337 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب 25 ح 8 .
( الصفحة 292 )
الاستمرار في سقوط القضاء ، وقد وصفها في الجواهر بالحجّية والصحّة (1)، غير أنّها ساقطة عن الاعتبار من أجل هجر الأصحاب وإعراضهم عنها ; لأنّه لم يقل بمضمونها أحد منّا ، فهي مهجورة متروكة ، وإلاّ فهي نفسها صحيحة واجدة لشرائط الحجّية .
أقول : ذكر بعض الأعلام المتخصّص في علم الرجال أيضاً : لا أدري كيف وصفها ـ يعني صاحب الجواهر ـ بالصحّة ، مع أنّ الرواية ضعيفة السند جدّاً حتّى مع الغض عن الهجر(2) .
وعليه : فالقاعدة المقتضية للزوم القضاء باقية على حالها في السفر وإن خرج عنها بالإضافة إلى المرض، كما عرفت .
الفرع الثالث : ما إذا كان سبب الفوت المجوّز له هو المرض ، وسبب التأخير عذراً آخر كالسفر أو العكس ، وظاهر المتن وجوب القضاء فقط في كلتا الصورتين وإن قال : «لكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالجمع بين القضاء والمدّ ، خصوصاً إذا كان العذر هو السفر ، وكذا في الفرع الأخير ».
أقول : الدليل على وجوب القضاء ما عرفت من أنّه مقتضى القاعدة في جميع الموارد ، غاية الأمر الخروج عنها فيما إذا كان العذر هو المرض وقد استمرّ إلى رمضان آخر; للروايات المتقدّمة . وأمّا في غيره فالقاعدة باقية بحالها .
ولكن ذكر بعض الأعلام (قدس سره) في شرح العروة أنّه لو كان سبب الإفطار هو السفر ، وسبب التأخير هو استمرار المرض بين رمضانين ، فالظاهر سقوط القضاء حينئذ
- (1) جواهر الكلام 17 : 32 ـ 33 .
(2) المستند في شرح العروة 22 : 191 .
( الصفحة 293 )
والانتقال إلى الفداء ; فإنّ النصوص المتقدّمة من صحاح محمّد بن مسلم وزرارة وعليّ بن جعفر وإن لم تشمل هذه الصورة ; إذ موردها ما إذا كان العذر هو المرض حدوثاً وبقاءً ، فلا تشمل ما لو كان الاستمرار مستنداً إليه دون الإفطار ، ولعلّ في سببيّته للإفطار مدخلا في الحكم .
ولكن إطلاق صحيحة عبدالله بن سنان غير قاصر الشمول للمقام ، فقد روى عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : من أفطر شيئاً من رمضان في عذر ثمّ أدرك رمضان آخر وهو مريض ، فليتصدّق بمدّ لكلّ يوم ، فأمّا أنا فإنّي صمت وتصدّقت(1) ; فإنّ العذر يعمّ المرض وغيره بمقتضى الإطلاق ، كما أنّ ظاهرها ـ ولو بمعونة عدم التعرّض لحصول البرء في البين ـ استمرار المرض بين الرمضانين ، ومع الغضّ والتنزّل عن هذا الاستظهار فغايته الإطلاق لصورتي استمرار المرض وعدمه ، فيقيّد بما دلّ على وجوب القضاء لدى عدم الاستمرار ، فلا جرم تكون الصحيحة محمولة بعد التقييد على صورة الاستمرار . ثمّ قال :
فإن قلت : إطلاق الصحيحة من حيث شمول العذر للسفر وغيره معارض بإطلاق الآية المباركة الدالّة على وجوب القضاء على المسافر ; سواء استمرّ به المرض إلى رمضان قابل أم لا ؟ فكيف يمكن الاستناد إليها ؟
قلت : كلاّ ، لا معارضة بينهما وإن كانت النسبة بين الإطلاقين عموماً من وجه ; إذ الصحيحة ناظرة إلى الآية المباركة، فهي حاكمة عليها شارحة للمراد منها ، لا من قبيل الحكومة المصطلحة ، بل بمعنى صلاحيّتها للقرينيّة بحيث لو اجتمعا في كلام واحد لم يبق العرف متحيّراً في المراد ، فلو فرضنا أنّ الصحيحة كانت جزءاً من
( الصفحة 294 )
الآية المباركة ـ بأن كانت هكذا : « فإن كنتم مرضى أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر ، ومن كان معذوراً فأفطر ثمّ استمرّ به المرض إلى رمضان آخر فليتصدّق» ـ لم يتوهّم العرف أيّة معارضة بين الصدر والذيل ، بل جعل الثاني قرينة للمراد من الأوّل ، وأ نّ وجوب القضاء خاصّ بغير المعذور الذي استمرّ به المرض ، أمّا هو فعليه الفداء ليس إلاّ .
وهذا هو المناط الكلّي في تشخيص الحكومة وافتراقها عن باب المعارضة، كما نبّهنا عليه في بعض مباحثنا الأُصوليّة(1) ، فإذا لم يكن تعارض لدى الاتّصال وفي صورة الانضمام ، لم يكن مع الانفصال أيضاً (2). انتهى موضع الحاجة .
أقول : إنّه وإن كان قد أجاد فيما أفاد من ضابطة الحكومة والفرق بينها وبين المعارضة ، إلاّ أنّك عرفت أنّ المتبادر من قوله ـ تعالى ـ : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ}(3)هي الأيّام الواقعة بين الرمضانين ، التي انقطع فيها العذر وهو متمكّن من القضاء ، فلا تشمل الآية صورة استمرار المرض أو السفر إلى الرمضان الثاني ، خصوصاً مع ندرته في نفسه ; فإنّهما لا يبقيان نوعاً خصوصاً الثاني .
وأمّا صحيحة عبدالله بن سنان المتقدّمة فموردها ـ كما هو المتبادر منها ـ صورة كون العذر هو المرض ، ولا إطلاق لها ليشمل السفر أيضاً . ويؤيّد ما ذكرنا من عدم دلالة الآية على حكم صورة استمرار العذر ولو بالإضافة إلى المرض ، التعرّض فيها لثبوت الفدية في الذين يطيقونه ; سواء قلنا بأنّ المراد منه لا يطيقونه ، أو أنّ المراد إعمال شدّة الطاقة كما تقدّم .
- (1) مصباح الاُصول 3: 248 ـ 250.
(2) المستند في شرح العروة 22 : 192 ـ 194 .
(3) سورة البقرة 2 : 185 .
( الصفحة 295 )
مسألة 9 : لو فاته شهر رمضان أو بعضه لا لعذر، بل متعمّداً ولم يأت بالقضاء إلى رمضان آخر ، وجب عليه ـ مضافاً إلى كفّارة الإفطار العمدي ـ التكفير بمدّ بدل كلّ يوم والقضاء فيما بعد . وكذا يجب التكفير بمدّ لو فاته لعذر ولم يستمرّ ذلك العذر ولم يطرأ عذر آخر ، فتهاون حتّى جاء رمضان آخر . ولو كان عازماً على القضاء بعد ارتفاع العذر ، فاتّفق عذر آخر عند الضيق ، فالأحوط الجمع بين الكفّارة والقضاء 1 .
كما أنّك عرفت(1) أنّ الحكم في صحيحة عبدالله بن سنان هو اختصاص الإمام بالجمع بين القضاء والإطعام ، وأ نّ الشيخ (قدس سره) قد حملها على الاستحباب ، وهي قرينة على أنّ المراد بالأخبار الظاهرة في عدم القضاء هو عدم وجوبها وإن كانت مستحبّة ، فالظاهر ما عليه المتن في المقام وإن قال بأنّه «لا ينبغي ترك الاحتياط بالجمع بين القضاء والمدّ»، وهو في محلّه .
1ـ في هذه المسألة أيضاً فروع متعدّدة :
الأوّل : ما لو فاته شهر رمضان أو بعضه لا لعذر بل متعمّداً ولم يأت بالقضاء إلى رمضان آخر ; أي مع التمكّن من القضاء وتركه عمداً ، ففي المتن وجب عليه ـ مضافاً إلى كفّارة الإفطار العمدي ـ التكفير بمدّ بدل كلّ يوم والقضاء فيما بعد .
أقول : أمّا ثبوت كفّارة الإفطار العمدي; فلأنّ المفروض في هذا الفرع أنّ الفوت كان متعمّداً لا لعذر وفيه الكفّارة المخصوصة . وأمّا ثبوت القضاء فلهذه الجهة أيضاً ; لأنّك عرفت سقوطه وثبوت الكفّارة بمدّ فيما لو كان الفوت مستنداً إلى المرض ، وقد استمرّ المرض إلى رمضان آخر ، وفي المقام لا يكون كذلك .