جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>




مجمع البيان ج : 4 ص : 466

المعنى

ثم أعلم الله سبحانه نبيه حال الأمم الماضية في مخالفة رسله و بين أن حال هؤلاء إذا سلكوا طريق المخالفة كحالهم في نزول العذاب بهم فقال « و لقد أرسلنا » و هاهنا محذوف و تقديره رسلا « إلى أمم من قبلك » فخالفوهم « فأخذناهم » و حسن الحذف للإيجاز به و الاختصار من غير إخلال لدلالة مفهوم الكلام عليه « بالبأساء و الضراء » يريد به الفقر و البؤس و الأسقام و الأوجاع عن ابن عباس و الحسن « لعلهم يتضرعون » و معناه لكي يتضرعوا و قال الزجاج لعل ترج و هذا الترجي للعباد ، المعنى فأخذناهم بذلك ليكون ما يرجوه العباد منهم من التضرع كما قال في قصة فرعون لعله يتذكر أو يخشى قال سيبويه المعنى اذهبا أنتما على رجائكما فالله عالم بما يكون من وراء ذلك أخبر الله تعالى أنه أرسل الرسل إلى أقوام بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم و أموالهم ليخضعوا و يذلوا لأمر الله فلم يخضعوا و لم يتضرعوا و هذا كالتسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا » معناه فهلا تضرعوا إذ جاءهم بأسنا « و لكن قست قلوبهم » فأقاموا على كفرهم فلم تنجع فيهم العظة « و زين لهم الشيطان » بالوسوسة و الإغراء بالمعصية لما فيها من عاجل اللذة « ما كانوا يعملون » يعني أعمالهم و في هذا حجة على من قال إن الله لم يرد من الكافرين الإيمان لأنه سبحانه بين أنه إنما فعل ذلك بهم ليتضرعوا و بين أن الشيطان هو الذي زين الكفر للكافر بخلاف ما قالته المجبرة من أنه تعالى هو المزين لهم ذلك « فلما نسوا ما ذكروا به » أي تركوا ما وعظوا به عن ابن عباس و تأويله تركوا العمل بذلك و قيل تركوا ما دعاهم إليه الرسل عن مقاتل « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » أي كل نعمة و بركة من السماء و الأرض عن ابن عباس و قيل أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير عن مقاتل و المعنى أنه تعالى امتحنهم بالشدائد لكي يتضرعوا و يتوبوا فلما تركوا ذلك فتح عليهم أبواب النعم و التوسعة في الرزق ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة و إنما فعل ذلك بهم و إن كان الموضع موضع العقوبة و الانتقام دون الإكرام و الإنعام ليدعوهم ذلك إلى الطاعة فإن الدعاء إلى الطاعة يكون تارة بالعنف و تارة باللطف أو لتشديد العقوبة عليهم بالنقل من النعيم إلى العذاب الأليم « حتى إذا فرحوا بما أوتوا » من النعم و اشتغلوا بالتلذذ و أظهروا السرور بما أعطوه و لم يروه نعمة من الله تعالى حتى يشكروه « أخذناهم » أي أحللنا بهم العقوبة « بغتة » أي مفاجاة من حيث لا يشعرون « فإذا هم مبلسون » أي آيسون من النجاة و الرحمة عن ابن عباس و قيل أذلة خاضعون عن البلخي و قيل متحيرون منقطعوا الحجة ، و المعاني متقاربة و المراد بقوله « أبواب كل شيء » التكثير و التفخيم دون
مجمع البيان ج : 4 ص : 467
التعميم و هو مثل قوله و أوتيت من كل شيء و المراد فتحنا عليهم أبواب أشياء كثيرة و آتيناهم خيرا كثيرا و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إذا رأيت الله تعالى يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ثم تلا هذه الآية ، و نحوه ما روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال يا ابن آدم إذا رأيت ربك يتابع عليك نعمة فاحذره « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » معناه فاستؤصل الذين ظلموا بالعذاب فلم يبق لهم عقب و لا نسل « و الحمد لله رب العالمين » على إهلاك أعدائه و إعلاء كلمة رسله ، حمد الله تعالى نفسه بأن استأصل شافتهم و قطع دابرهم لأنه سبحانه أرسل إليهم و أنظرهم بعد كفرهم و أخذهم بالبأساء و الضراء و اختبرهم بالمحنة و البلاء ثم بالنعمة و الرخاء و بالغ في الإنذار و الإمهال و الإنظار فهو المحمود على كل حال و في هذا تعليم للمؤمنين ليحمدوا الله تعالى على كفايته إياهم شر الظالمين و دلالة على أن هلاكهم نعمة من الله تعالى يجب حمده عليها و روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المقري عن فضيل بن عياض عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن الورع فقال الورع هو الذي يتورع عن محارم الله و يجتنب هؤلاء و إذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام و هو لا يعرفه و إذا رأى المنكر و لم ينكره و هو يقدر عليه فقد أحب أن يعصى الله و من أحب أن يعصى الله فقد بارز الله بالعداوة و من أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله و أن الله حمد نفسه على إهلاك الظالمين فقال « فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين » .

مجمع البيان ج : 4 ص : 468
قُلْ أَ رَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سمْعَكُمْ وَ أَبْصرَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظرْ كيْف نُصرِّف الاَيَتِ ثُمَّ هُمْ يَصدِفُونَ(46) قُلْ أَ رَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَاب اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَك إِلا الْقَوْمُ الظلِمُونَ(47) وَ مَا نُرْسِلُ الْمُرْسلِينَ إِلا مُبَشرِينَ وَ مُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَ أَصلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ(48) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا يَمَسهُمُ الْعَذَاب بِمَا كانُوا يَفْسقُونَ(49)

اللغة

صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه و الصدف و الصدفة الجانب و الناحية و الصدف كل بناء مرتفع و في الحديث كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا مر بصدف مائل أسرع المشي .

الإعراب

« من إله » مبتدأ و خبر و غير صفة إله و هذه الجملة في موضع مفعولي أ رأيتم و من استفهام علق الفعل الذي هو أ رأيتم فلم يعمل في مفعوليه لفظا و قوله « إن أخذ الله سمعكم » جوابه محذوف و تقديره فمن يأتيكم به إلا أنه أغنى عنه قوله « من إله غير الله يأتيكم به » الذي هو مفعول أ رأيتم في المعنى و موضع الشرط و جوابه نصب على الحال كما تقول لأضربنه إن ذهب أو مكث فإن قولك إن ذهب أو مكث وقع موقع ذاهبا أو ماكثا و تقديره مقدرا ذهابه أو مكثه و يدل على أنه في موضع الحال مشابهته المفرد في أنه لا يستقل بنفسه كما تستقل الجمل و إن كان جملة في المعنى فإنه بدخول حرف الشرط قد صار بمنزلة المفرد في الحاجة إلى ما يستند إليه كما احتاج المفرد و يدل على قوة اتصاله بما قبله حاجته إلى ما قبله كما احتاج ما وقع موقعه إلى ما قبله و ليس شيء من الفضلات يقع الجملة موقعه غير الحال فثبت أنه في موضع منصوب هو حال فإن قيل إن الجزاء مقدر و الشرط المذكور في اللفظ مع الجزاء كلام مستقل و إنما كان هذا الاستدلال يسوغ لو كان الجزاء غير مقدر قيل الجزاء و إن كان مقدرا لا حكم له لأنه لا يجوز إظهاره و إنما هو شيء يثبت من جهة التقدير فضعف أمره و لو جاز إظهاره لكان في موضع الحال و هذا مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي ذكره في القصريات مع كلام كثير في معناه قد دقق فيه و لم يسبق إليه و قوله « يأتيكم به » في موضع رفع بأنه صفة إله .

المعنى

ثم زاد سبحانه في الاحتجاج عليهم فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « أ رأيتم أن أخذ الله سمعكم و أبصاركم » أي ذهب بهما فصرتم صما عميا « و ختم على قلوبكم » أي طبع عليها و قيل ذهب بعقولكم و سلب عنكم التمييز حتى لا تفهمون شيئا و إنما خص هذه الأشياء بالذكر لأن بها تتم النعمة دينا و دنيا « من إله غير الله يأتيكم به » قال الزجاج هذه الهاء تعود إلى معنى الفعل ، المعنى من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم قال
مجمع البيان ج : 4 ص : 469
و يجوز أن يكون عائدا إلى السمع و يكون ما عطف على السمع داخلا في القصة معه إذا كان معطوفا عليه قال ابن عباس يريد لا يقدر هؤلاء الذين يعبدون أن يجعلوا لكم أسماعا و أبصارا و قلوبا تعقلون بها و تفهمون أي إن أخذها الله منكم فمن يردها عليكم بين سبحانه بهذا أنه كما لا يقدر على ذلك غير الله فكذلك يجب أن لا تعبدوا سواه « أنظر كيف نصرف الآيات » أي نبين لهم في القرآن الآيات عن الكلبي و قيل تصريف الآيات توجيهها في الجهات التي يظهرها أتم الإظهار و مرة في جهة النعمة و مرة في جهة الشدة و قيل تصريف الآيات إحداثها دالة على وجوه كما أن الآية المعجزة تدل على فاعلها و على قدرته و علمه و على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و صدقه « ثم هم » أي الكفار « يصدفون » أي يعرضون عن تأمل الآيات و الفكر فيها و قيل إعراضهم عنها كفرهم بها و إنما قال أنظر لأنه تعالى عجب أولا من تتابع نعمه عليهم و ضروب دلائله من تصريف الآيات و أسباب الاعتبار ثم عجب ثانيا من إعراضهم عنها ثم زاد تعالى في الحجاج فقال « قل أ رأيتكم » أي أعلمتم « إن أتاكم عذاب الله » أي عذبكم الله بعد أعذاره عليكم و إرساله الرسل « بغتة » أي مفاجاة « أو جهرة » أي علانية و إنما قابل البغتة بالجهرة لأن البغتة تتضمن معنى الخفية لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون و قيل البغتة أن يأتيهم ليلا و الجهرة أن يأتيهم نهارا عن الحسن « هل يهلك » أي لا يهلك بهذا العذاب « إلا القوم الظالمون » أي الكافرون الذين يكفرون بالله و يفسدون في الأرض و قيل أنهم كانوا يستدعون العذاب فبين أنه إذا نزل لا يهلك به إلا الكافرون فإن هلك فيه مؤمن أو طفل فإنما يهلك محنة و يعوضه الله على ذلك أعواضا كثيرة يصغر ذلك في جنبها و المراد بذلك عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة ثم بين سبحانه أنه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كل شيء يسألون عنه من الآيات و إنما يرسلهم لما يعلمه من المصالح فقال « و ما نرسل المرسلين إلا مبشرين و منذرين » ثم ذكر ثواب من صدقهم في باقي الآية و عقاب من كذبهم في الآية الثانية فقال « فمن آمن » أي صدق الرسل « و أصلح » أي عمل صالحا في الدنيا « فلا خوف عليهم » في الآخرة « و لا هم يحزنون » كما يحزن أهل النار و قيل لا يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا « و الذين كذبوا ب آياتنا » أي أدلتنا و حججنا و قيل بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و معجزاته « يمسهم العذاب » يصيبهم العذاب يوم القيامة « بما كانوا يفسقون » أي بفسقهم و خروجهم عن الإيمان .

مجمع البيان ج : 4 ص : 470
قُل لا أَقُولُ لَكمْ عِندِى خَزَائنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْب وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلىَّ قُلْ هَلْ يَستَوِى الأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ(50)

اللغة

الخزائن جمع الخزانة و هي اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء و خزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي و منه خزن اللحم خزنا إذا تغير لأنه يخبأ حتى ينتن .

المعنى

ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يقول لهم بعد اقتراحهم الآيات منه أني لا أدعي الربوبية و إنما أدعي النبوة فقال « قل » يا محمد « لا أقول لكم » أيها الناس « عندي خزائن الله » يريد خزائن رحمة الله عن ابن عباس و قيل خزائن الله مقدوراته عن الجبائي و قيل أرزاق الخلق حتى يؤمنوا طمعا في المال « و لا أعلم الغيب » الذي يختص الله بعلمه و إنما أعلم قدر ما يعلمني الله تعالى من أمر البعث و النشور و الجنة و النار و غير ذلك و قيل عاقبة ما تصيرون إليه عن ابن عباس « و لا أقول لكم إني ملك » لأني إنسان تعرفون نسبي يريد لا أقدر على ما يقدر عليه الملك و قد استدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء و هذا بعيد لأن الفضل الذي هو كثرة الثواب لا معنى له هاهنا و إنما المراد لا أقول لكم إني ملك فأشاهد من أمر الله و غيبه عن العباد ما تشاهده الملائكة « إن أتبع إلا ما يوحى إلي » يريد ما أخبركم إلا بما أنزله الله إلي عن ابن عباس و قال الزجاج أي ما أنبأتكم به من غيب فيما مضى و فيما سيكون فهو بوحي من الله عز و جل ثم أمره سبحانه فقال « قل » يا محمد لهم « هل يستوي الأعمى و البصير » أي هل يستوي العارف بالله سبحانه العالم بدينه و الجاهل به و بدينه فجعل الأعمى مثلا للجاهل و البصير مثلا للعارف بالله و بنبيه و هذا قول الحسن و اختاره الجبائي و في تفسير أهل البيت هل يستوي من يعلم و من لا يعلم و قيل معناه هل يستوي من صدق على نفسه و اعترف بحاله التي هو عليها من الحاجة و العبودية لخالقه و من ذهب عن البيان و عمي عن الحق عن البلخي « أ فلا تتفكرون » فتنصفوا من أنفسكم و تعملوا بالواجب عليكم من الإقرار بالتوحيد و نفي التشبيه و هذا استفهام يراد به الإخبار يعني إنهما لا يستويان .

مجمع البيان ج : 4 ص : 471
وَ أَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يخَافُونَ أَن يحْشرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْس لَهُم مِّن دُونِهِ وَلىُّ وَ لا شفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(51)

الإعراب

الهاء في به يعود إلى ما من قوله ما يوحى إلي و ليس مع اسمه و خبره في موضع نصب على الحال من يخافون كأنه قيل متخلين من ولي و شفيع .

المعنى

ثم أمر سبحانه بعد تقديم البينات بالإنذار فقال « و أنذر » أي عظ و خوف « به » أي بالقرآن عن ابن عباس و قيل بالله عن الضحاك « الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم » يريد المؤمنين يخافون يوم القيامة و ما فيها من شدة الأهوال عن ابن عباس و الحسن و قيل معناه يعلمون عن الضحاك و قيل يخافون أن يحشروا علما بأنه سيكون عن الفراء قال و لذلك فسره المفسرون بيعلمون قال الزجاج المراد بهم كل معترف بالبعث من مسلم و كتابي و إنما خص الذين يخافون الحشر دون غيرهم و هو ينذر جميع الخلق لأن الذين يخافون الحشر الحجة عليهم أوجب لاعترافهم بالمعاد و قال الصادق (عليه السلام) أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربهم ترغبهم فما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم « ليس لهم من دونه » أي غير الله « ولي و لا شفيع » عن الضحاك و قال الزجاج إن اليهود و النصارى ذكرت أنها أبناء الله و أحباؤه فأعلم الله عز اسمه أن أهل الكفر ليس لهم من دون الله ولي و لا شفيع و هذا الذي قاله ظاهر في أهل الكفر و المفسرون على أن الآية في المؤمنين و يكون معنى قوله « ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع » على أن شفاعة الأنبياء و غيرهم للمؤمنين إنما تكون بإذن الله لقوله سبحانه من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه فذلك راجع إلى الله تعالى « لعلهم يتقون » كي يخافوا في الدنيا و ينتهوا عما نهيتم عنه عن ابن عباس .
وَ لا تَطرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوةِ وَ الْعَشىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْك مِنْ حِسابِهِم مِّن شىْء وَ مَا مِنْ حِسابِك عَلَيْهِم مِّن شىْء فَتَطرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظلِمِينَ(52) وَ كذَلِك فَتَنَّا بَعْضهُم بِبَعْض لِّيَقُولُوا أَ هَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَ لَيْس اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشكرِينَ(53)

مجمع البيان ج : 4 ص : 472

القراءة

قرأ ابن عامر بالغدوة و العشي في كل القرآن بواو و الباقون « بالغداة » بالألف .

الحجة

قال أبو علي الوجه « الغداة » لأنها تستعمل نكرة و تتعرف باللام فأما غدوة فمعرفة لم تتنكر و هو علم صيغ له قال سيبويه غدوة و بكرة جعل كل واحد منهما اسما للجنس كما جعلوا أم حبين اسما لدابة معروفة قال و زعم يونس عن أبي عمرو و هو القياس إنك إذا قلت لقيته يوما من الأيام غدوة أو بكرة و أنت تريد المعرفة لم تنون و هذا يقوي قراءة من قرأ « بالغداة و العشي » و وجه قراءة ابن عامر أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز أن تقول أتيتك اليوم غدوة و بكرة فجعلهما بمنزلة ضحوة و من حجته أن بعض أسماء الزمان جاء معرفة بغير ألف و لام نحو ما حكاه أبو زيد من قولهم لقيته فينة غير مصروف و الفينة بعد الفينة فألحق لام المعرفة ما استعمل معرفة و وجه ذلك أنه يقدر فيه التنكير و الشياع كما يقدر فيه ذلك إذا ثني و ذلك مستمر في جميع هذا الضرب من المعارف و مثل ذلك ما حكاه سيبويه من قول العرب هذا يوم اثنين مباركا و أتيتك يوم اثنين مباركا فجاء معرفة بلا ألف و لام كما جاء بالألف و اللام و من ثم انتصب الحال و مثل ذلك قولهم هذا ابن عرس مقبل أما أن يكون جعل عرسا نكرة و إن كان علما و أما أن يكون أخبر عنه بخبرين .

الإعراب

« فتطردهم » جواب للنفي في قوله « ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء » و قوله « فتكون » نصب لأنه جواب للنهي و هو قوله « و لا تطرد » أي لا تطردهم فتكون من الظالمين و قد بينا تقديره في مواضع .

النزول

روى الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال مر الملأ من قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و عنده صهيب و خباب و بلال و عمار و غيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد أ رضيت بهؤلاء من قومك أ فنحن نكون تبعا لهم أ هؤلاء الذين من الله عليهم أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم تبعناك فأنزل الله تعالى « و لا تطرد » إلى آخره و قال سلمان و خباب فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصين الفزاري و ذووهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قاعدا مع بلال و صهيب و عمار و خباب في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقروهم و قالوا يا رسول الله لو نحيت هؤلاء عنك حتى نخلو بك فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ثم إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك
مجمع البيان ج : 4 ص : 473
فأجابهم النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) إلى ذلك فقالا له اكتب لنا بهذا على نفسك كتابا فدعا بصحيفة و أحضر عليا ليكتب قال و نحن قعود في ناحية إذ نزل جبرائيل (عليه السلام) بقوله « و لا تطرد الذين يدعون » إلى قوله « أ ليس الله بأعلم بالشاكرين » فنحى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الصحيفة و أقبل علينا و دنونا منه و هو يقول كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا فأنزل الله عز و جل « و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم » الآية قال فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقعد معنا و يدنو حتى كادت ركبتنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا و تركناه حتى يقوم و قال لنا الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا و معكم الممات .

المعنى

ثم نهى سبحانه رسوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن إجابة المشركين فيما اقترحوه عليه من طرد المؤمنين فقال « و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي » يريد يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة يعني صلاة الصبح و العصر عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و قيل إن المراد بالدعاء هاهنا الذكر أي يذكرون ربهم طرفي النهار عن إبراهيم و روي عنه أيضا أن هذا في الصلوات الخمس « يريدون وجهه » يعني يطلبون ثواب الله و يعملون ابتغاء مرضاة الله لا يعدلون بالله شيئا عن عطا قال الزجاج شهد الله لهم بصدق النيات و أنهم مخلصون في ذلك له أي يقصدون الطريق الذي أمرهم بقصده فكأنه ذهب في معنى الوجه إلى الجهة و الطريق « ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء » يريد ما عليك من حساب المشركين شيء و لا عليهم من حسابك شيء إنما الله الذي يثيب أولياءه و يعذب أعداءه عن ابن عباس في رواية عطا و أكثر المفسرين يردون الضمير إلى الذين يدعون ربهم و هو الأشبه و ذكروا فيه وجهين ( أحدهما ) ما عليك من عملهم و من حساب عملهم من شيء عن الحسن و ابن عباس و هذا كقوله تعالى في قصة نوح إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون و هذا لأن المشركين أزدروهم لفقرهم و حاجتهم إلى الأعمال الدينية و هم برفع المشركين عليهم في المجلس فقيل له ما عليك من حسابهم من شيء أي لا يلزمك عار بعملهم « فتطردهم » ثم قال « و ما من حسابك عليهم من شيء » تأكيدا لمطابقة الكلام و إن كان مستغنى عنه بالأول ( الوجه الثاني ) ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم و تطردهم أي ليس رزقهم عليك و لا رزقك عليهم و إنما يرزقك و إياهم الله الرازق فدعهم يدنوا منك و لا تطردهم « فتكون من الظالمين » لهم بطردهم عن ابن زيد و قيل فتكون من
مجمع البيان ج : 4 ص : 474
الضارين لنفسك بالمعصية عن ابن عباس قال ابن الأنباري عظم الأمر في هذا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و خوف الدخول في جملة الظالمين لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء و أولي الأموال على الضعفاء مقدرا أنه يستجر بإسلامهم إسلام قومهم و من لف لفهم و كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يقصد في ذلك إلا قصد الخير و لم ينو به ازدراء بالفقراء فأعلمه الله إن ذلك غير جائز ثم أخبر الله سبحانه أنه يمتحن الفقراء بالأغنياء و الأغنياء بالفقراء فقال « و كذلك فتنا بعضهم ببعض » أي كما ابتلينا قبلك الغني بالفقير و الشريف بالوضيع ابتلينا هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله حمي آنفا أن يسلم و يقول سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم و إنما قال سبحانه « فتنا » و هو لا يحتاج إلى الاختبار لأنه عاملهم معاملة المختبر « ليقولوا » هذه لام العاقبة المعنى فعلنا هذا ليصبروا و يشكروا ف آل أمرهم إلى هذه العاقبة « أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا » و الاستفهام معناه الإنكار كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة أو خصوا بمنة و قال أبو علي الجبائي المعنى في « فتنا » شددنا التكليف على أشراف العرب بأن أمرناهم بالإيمان و بتقديمهم هؤلاء الضعفاء على نفوسهم لتقدمهم إياهم في الإيمان و هذا أمر كان شاقا عليهم فلذلك سماه الله فتنة و قوله « ليقولوا » أي فعلنا هذا بهم ليقول بعضهم لبعض على وجه الاستفهام لا على وجه الإنكار أ هؤلاء من الله عليهم بالإيمان إذا رأوا النبي يقدم هؤلاء عليهم و ليرضوا بذلك من فعل رسول الله و لم يجعل هذه الفتنة و الشدة في التكليف ليقولوا ذلك على وجه الإنكار لأن إنكارهم لذلك كفر بالله و معصية و الله سبحانه لا يريد ذلك و لا يرضاه و لأنه لو أراد ذلك و فعلوه كانوا مطيعين له لا عاصين و قد ثبت خلافه و قوله « أ ليس الله بأعلم بالشاكرين » هذا استفهام تقرير أي أنه كذلك كقول جرير :
أ لستم خير من ركب المطايا
و أندى العالمين بطون راح و هذا دليل واضح على أن فقراء المؤمنين و ضعفاءهم أولى بالتقريب و التقديم و التعظيم من أغنيائهم و لقد قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من أتى غنيا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا دينه .
وَ إِذَا جَاءَك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَتِنَا فَقُلْ سلَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَب رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سوءَا بجَهَلَة ثُمَّ تَاب مِن بَعْدِهِ وَ أَصلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(54)

مجمع البيان ج : 4 ص : 475

القراءة

قرأ أهل المدينة « أنه من عمل » بالفتح فإنه بالكسر و قرأ عاصم و ابن عامر و يعقوب « أنه » « فإنه » بفتح الألف فيهما و قرأ الباقون إنه فإنه بالكسر فيهما .

الحجة

قال أبو علي من كسر فقال إنه من عمل جعله تفسيرا للرحمة كما أن قوله « لهم مغفرة و أجر عظيم » تفسير للوعد و أما كسر فإنه غفور رحيم فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء و من ثم حمل قوله فينتقم الله منه على إرادة المبتدأ بعد الفاء و حذفه و أما من فتح أن في قوله « أنه » فإنه جعل أن الأولى بدلا من الرحمة كأنه قال « كتب ربكم على نفسه أنه من عمل » و أما فتحها بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبرا و تقديره فله أنه غفور رحيم أي فله غفرانه أو أضمر مبتدأ يكون أنه خبرا له أي فأمره أنه غفور رحيم و على هذا التقدير يكون الفتح في قول من فتح أ لم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله فإن له نار جهنم تقديره فله أن له نار جهنم إلا أن إضماره هنا أحسن لأن ذكره قد جرى في قوله أن له و إن شئت قدرت فأمره أن له نار جهنم فيكون خبر هذا المبتدأ المضمر و أما قراءة « كتب ربكم » « أنه » فإنه فالقول فيها أنه أبدل من الرحمة ثم استأنف ما بعد الفاء .

اللغة

قال المبرد السلام في اللغة أربعة أشياء مصدر سلمت سلاما و جمع سلامة و اسم من أسماء الله عز و جل و شجر في قوله :
إلا سلام و حرمل و معنى السلام الذي هو مصدر أنه دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات و السلام اسم الله تأويله ذو السلام أي الذي يملك السلام الذي هو التخلص من المكروه و أما السلام الشجر فهو شجر قوي سمي بذلك لسلامته من الآفات و السلام الحجارة سمي بذلك لسلامتها من الرخاوة و الصلح يسمى السلام و السلم لأن معناه السلامة من الشر و السلم الدلو التي لها عروة واحدة لأنها أسلم الدلاء من الآفات .

النزول

اختلف في من نزلت فيه هذه الآية فقيل نزلت في الذين نهى الله عز و جل
مجمع البيان ج : 4 ص : 476
نبيه عن طردهم و كان النبي إذا رآهم بدأهم بالسلام و قال الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام عن عكرمة و قيل نزلت في جماعة من الصحابة منهم حمزة و جعفر و مصعب بن عمير و عمار و غيرهم عن عطاء و قيل إن جماعة أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا إنا أصبنا ذنوبا كثيرة فسكت عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فنزلت الآية عن أنس بن مالك و قيل نزلت في التائبين و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) .

المعنى

ثم أمر سبحانه نبيه بتعظيم المؤمنين فقال « و إذا جائك » يا محمد « الذين يؤمنون » أي يصدقون « ب آياتنا » أي بحججنا و براهيننا « فقل سلام عليكم » ذكر فيه وجوه ( أحدها ) أنه أمر نبيه (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أن يسلم عليهم من الله تعالى فهو تحية من الله على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الحسن ( و ثانيها ) أن الله تعالى أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يسلم عليهم تكرمة لهم عن الجبائي ( و ثالثها ) أن معناه أقبل عذرهم و اعترافهم و بشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه عن ابن عباس « كتب ربكم » أي أوجب ربكم « على نفسه الرحمة » إيجابا مؤكدا عن الزجاج قال إنما خوطب الخلق بما يعقلون و هم يعقلون أن الشيء المؤخر إنما يحفظ بالكتاب و قيل معناه كتبه في اللوح المحفوظ و قد سبق بيان هذا في أول السورة « أنه من عمل منكم سوءا بجهالة » قال الزجاج يحتمل الجهالة هاهنا وجهين ( أحدهما ) أنه عمله و هو جاهل بمقدار المكروه فيه أي لم يعرف أن فيه مكروها ( و الآخر ) أنه علم أن عاقبته مكروهة و لكنه آثر العاجل فجعل جاهلا بأنه آثر النفع القليل على الراحة الكثيرة و العافية الدائمة و هذا أقوى و مثله قوله سبحانه « إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة » الآية و قد ذكرنا ما فيه هناك « ثم تاب من بعده و أصلح » أي رجع عن ذنبه و لم يصر على ما فعل و أصلح عمله « فإنه غفور رحيم » .
وَ كَذَلِك نُفَصلُ الاَيَتِ وَ لِتَستَبِينَ سبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(55)

القراءة

قرأ أهل المدينة « و لتستبين » بالتاء سبيل بالنصب و قرأ أهل الكوفة غير حفص و ليستبين بالياء « سبيل » بالرفع و قرأ زيد عن يعقوب و ليستبين بالياء سبيل بالنصب و قرأ الباقون « و لتستبين » بالتاء « سبيل » بالرفع .

الحجة

من قرأ « لتستبين » بالتاء « سبيل » رفعا جعل السبيل فاعلا و أنثه كما في قوله قل هذه سبيلي قال سيبويه استبان الشيء و استبنته و من قرأ « و لتستبين » بالتاء سبيل نصبا ففي الفعل
مجمع البيان ج : 4 ص : 477
ضمير المخاطب و سبيل مفعوله و هو على قولك استبنت الشيء و من قرأ بالياء « سبيل » رفعا فالفعل مسند إلى السبيل إلا أنه ذكر كما في قوله سبحانه يتخذوه سبيلا و المعنى و ليستبين سبيل المؤمنين و سبيل المجرمين فحذف لأن ذكر إحدى السبيلين يدل على الآخر و مثله سرابيل تقيكم الحر و لم يذكر البرد لدلالة الحر عليه و من قرأ بالياء و نصب اللام فتقديره و ليستبين السائل سبيل المجرمين .

الإعراب

« كذلك » الكاف في موضع نصب بأنه مفعول نفصل و ذلك مجرور الموضع بإضافة الكاف إليه و يسأل ما المشبه و ما المشبه به في قوله « و كذلك » و فيه جوابان ( أحدهما ) التفصيل الذي تقدم في صفة المهتدين و صفة الضالين شبه بتفصيل الدلائل على الحق من الباطل في صفة غيرهم من كل مخالف للحق ( و الثاني ) أن المعنى كما فصلنا ما تقدم من الآيات لكم نفصله لغيركم .

المعنى

ثم عطف سبحانه على الآيات التي احتج بها على مشركي مكة و غيرهم فقال « و كذلك » أي كما قدمناه من الدلالات على التوحيد و النبوة و القضاء « نفصل الآيات » و هي الحجج و الدلالات أي نميزها و نبينها و نشرحها على صحة قولكم و بطلان ما يقوله هؤلاء الكفار « و لتستبين سبيل المجرمين » بالرفع أي ليظهر طريق من عاند بعد البيان إذا ذهب عن فهم ذلك بالإعراض عنه لمن أراد التفهم لذلك من المؤمنين ليجانبوها و يسلكوا غيرها و بالنصب ليعرف السامع أو السائل أو التعرف أنت يا محمد سبيلهم و سبيلهم يريد به ما هم عليه من الكفر و العناد و الإقدام على المعاصي و الجرائم المؤدية إلى النار و قيل إن المراد بسبيلهم ما عاجلهم الله به من الإذلال و اللعن و البراءة منهم و الأمر بالقتل و السبي و نحو ذلك و الواو في « و لتستبين » للعطف على مضمر محذوف و التقدير لتفهموا و لتستبين سبيل المجرمين و المؤمنين و جاز الحذف لأن فيما أبقي دليلا على ما ألقى .
قُلْ إِنى نهِيت أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكمْ قَدْ ضلَلْت إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(56)

القراءة

روي في الشواذ عن يحيى بن وثاب ضللت بكسر اللام و القراء كلهم على فتحها .

مجمع البيان ج : 4 ص : 478

الحجة

و هما لغتان ضللت تضل و ضللت تضل قال أبو عبيدة و اللغة الغالبة الفتح .

الإعراب

معنى من في قوله « من دون الله » إضافة الدعاء إلى دون بمعنى ابتداء الغاية و معنى إذا الجزاء و المعنى قد ضللت إن عبدتها .

المعنى

ثم أمر الله سبحانه نبيه بأن يظهر البراءة مما يعبدونه فقال « قل » يا محمد « إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله » يعني الأصنام التي تعبدونها و تدعونها آلهة « قل » يا محمد « لا أتبع أهواءكم » في عبادتها أي إنما عبدتموها على طريق الهوى لا على طريق البينة و البرهان عن الزجاج و قيل معناه لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين « قد ضللت إذا » أي إن أنا فعلت ذلك عن ابن عباس « و ما أنا من المهتدين » الذين سلكوا سبيل الدين و قيل معناه و ما أنا من المهتدين النبيين الذين سلكوا طريق الهدى .
قُلْ إِنى عَلى بَيِّنَة مِّن رَّبى وَ كذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَستَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا للَّهِ يَقُص الْحَقَّ وَ هُوَ خَيرُ الْفَصِلِينَ(57) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَستَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضىَ الأَمْرُ بَيْنى وَ بَيْنَكمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظلِمِينَ(58)

القراءة

قرأ أهل الحجاز و عاصم « يقص الحق » بالصاد و الباقون يقضي الحق .

الحجة

حجة من قرأ يقضي قوله و الله يقضي بالحق و حكي عن أبي عمرو أنه استدل بقوله « و هو خير الفاصلين » في أن الفصل في الحكم ليس في القصص و حجة من قرأ « يقص » قوله و الله يقول الحق و قالوا قد جاء الفصل في القول أيضا في نحو قوله أنه لقول فصل و أما قوله « الحق » فيحتمل أمرين يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره يقضي القضاء الحق أو يقص القصص الحق و يجوز أن يكون مفعولا به مثل يفعل الحق كقوله :
مجمع البيان ج : 4 ص : 479

و عليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع .

اللغة

البينة الدلالة التي تفصل بين الحق و الباطل و البيان هو الدلالة و قيل هو العلم الحادث و الاستعجال طلب الشيء في غير وقته و الحكم فصل الأمر على التمام .

الإعراب

يقال لم قال كذبتم به و البينة مؤنثة قيل لأن البينة بمعنى البيان فالهاء كناية عن البيان عن الزجاج و قيل كناية عن الرب في قوله « ربي » و قوله « كذبتم » قد مضمر معه لأنه في موضع الحال و الحال لا يكون بالفعل الماضي إلا و معه قد إما مظهرة أو مضمرة .

المعنى

لما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأن يتبرأ مما يعبدونه عقب ذلك سبحانه بالبيان أنه على حجة من ذلك و بينة و أنه لا بينة لهم فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « إني على بينة من ربي » أي على أمر بين لا متبع لهوى عن الزجاج و قال الحسن البينة النبوة أي على نبوة من جهة ربي و قيل على حجة من معجزة دالة على نبوتي و هي القرآن عن الجبائي و قيل على يقين من ربي عن ابن عباس « و كذبتم به » أي بما أتيتكم به من البيان يعني القرآن « ما عندي » أي ليس عندي « ما تستعجلون به » قيل معناه الذي تطلبونه من العذاب كانوا يقولونه يا محمد آتنا بالذي تعدنا و هذا كقوله و يستعجلونك بالعذاب عن ابن عباس و الحسن و قيل هي الآية التي اقترحوها عليه استعجلوه بها فأعلم الله تعالى أن ذلك عنده فقال « إن الحكم إلا لله » يريد أن ذلك عند ربي و عن ابن عباس يعني ليس الحكم في الفصل بين الحق و الباطل و في إنزال الآيات إلا لله « يقص الحق » أي يفصل الحق من الباطل و يقص الحق أي يقوله و يخبر به « و هو خير الفاصلين » لأنه لا يظلم في قضاياه و لا يجوز عن الحق و هذا يدل على بطلان قول من يزعم أن الظلم و القبائح بقضائه لأن من المعلوم أن ذلك كله ليس بحق « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « لو أن عندي » أي برأيي و إرادتي « ما تستعجلون به » من إنزال العذاب بكم « لقضي الأمر بيني و بينكم » أي لفرغ من الأمر بأن أهلككم فاستريح منكم غير أن الأمر فيه إلى الله تعالى « و الله أعلم بالظالمين » و بوقت عذابهم و ما يصلحهم و في هذا دلالة على أنه سبحانه إنما يؤخر العقوبة لضرب من المصلحة إما لأن يؤمنوا أو لغير ذلك من المصالح فهو يدبر ذلك على حسب ما تقتضيه الحكمة .

مجمع البيان ج : 4 ص : 480
* وَ عِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَ يَعْلَمُ مَا فى الْبرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَا تَسقُط مِن وَرَقَة إِلا يَعْلَمُهَا وَ لا حَبَّة فى ظلُمَتِ الأَرْضِ وَ لا رَطب وَ لا يَابِس إِلا فى كِتَب مُّبِين(59) وَ هُوَ الَّذِى يَتَوَفَّام بِالَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُّسمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(60)

اللغة

المفاتح جمع مفتح فالمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به و المفتح بفتح الميم الخزانة و كل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح قال الفراء في قوله إن مفاتحه لتنوء بالعصبة يعني خزائنه و التوفي قبض الشيء على التمام يقال توفيت الشيء و استوفيته بمعنى و الجرح العمل بالجارحة و الاجتراح الاكتساب .

الإعراب

« و لا حبة » تقديره و لا تسقط من حبة ثابتة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس و قوله « إلا في كتاب مبين » الجار و المجرور في موضع الرفع لأنه خبر الابتداء تقديره إلا هو في كتاب مبين و لا بد من هذا التقدير لأنه لو لم يكن محمولا على هذا لوجب أن لا يعلمها في كتاب مبين و هو سبحانه يعلم ذلك في كتاب مبين و الاستثناء منقطع .

المعنى

لما ذكر سبحانه أنه أعلم بالظالمين بين عقيبه أنه لا يخفى عليه شيء من الغيب و يعلم أسرار العالمين فقال « و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو » معناه و عنده خزائن الغيب الذي فيه علم العذاب المستعجل به و غير ذلك لا يعلمها أحد إلا هو أو من أعلمه به و علمه إياه و قيل معناه و عنده مقدورات الغيب يفتح بها على من يشاء من عباده بإعلامه به و تعليمه إياه و تيسيره السبيل إليه و نصبه الأدلة له و يغلق عمن يشاء بأن لا ينصب الأدلة له و قال الزجاج يريد عنده الوصلة إلى علم الغيب و كل ما لا يعلم إذا استعلم يقال فيه افتح علي و قال ابن عمر مفاتح الغيب خمس ثم قرأ إن الله عنده علم الساعة الآية و قال ابن عباس معناه
مجمع البيان ج : 4 ص : 481
و عنده خزائن الغيب من الأرزاق و الأعمار و تأويل الآية إن الله تعالى عالم بكل شيء من مبتدآت الأمور و عواقبها فهو يعجل ما تعجيله أصوب و أصلح و يؤخر ما تأخيره أصوب و أصلح و أنه الذي يفتح باب العلم لمن يريد من الأنبياء و الأولياء لأنه لا يعلم الغيب سواه و لا يقدر أحد أن يفتح باب العلم به للعباد إلا الله « و يعلم ما في البر و البحر » من حيوان و غيره و قال مجاهد البر القفار و البحر كل قرية فيها ماء « و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها » قال الزجاج المعنى أنه يعلمها ساقطة و ثابتة و أنت تقول ما يجيئك أحد إلا و أنا أعرفه فليس تأويله إلا و أنا أعرفه في حال مجيئه فقط و قيل يعلم ما سقط من ورق الأشجار و ما بقي و يعلم كم انقلبت ظهرا لبطن عند سقوطها « و لا حبة في ظلمات الأرض » معناه و ما تسقط من حبة من باطن الأرض إلا يعلمها و كنى بالظلمة عن باطن الأرض لأنه لا تدرك كما لا يدرك ما حصل في الظلمة و قال ابن عباس يعني تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شيء « و لا رطب و لا يابس » قد جمع الأشياء كلها في قوله « و لا رطب و لا يابس » لأن الأجسام كلها لا تخلو من أحد هذين و هو بمنزلة قولك و لا مجتمع و لا مفترق لأن الأجسام لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو متفرقة و قيل يريد ما ينبت ما لا ينبت عن ابن عباس و عنه أيضا أن الرطب الماء و اليابس البادية و قيل الرطب الحي و اليابس الميت و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال الورقة السقط الحبة الولد و ظلمات الأرض الأرحام و الرطب ما يحيا و اليابس ما يغيض « إلا في كتاب » معناه و هو مكتوب في كتاب « مبين » أي في اللوح المحفوظ و لم يكتبها في اللوح المحفوظ ليحفظها و يدرسها فإنه كان عالما بها قبل أن كتبها و لكن ليعارض الملائكة الحوادث على ممر الأيام بالمكتوب فيه فيجدونها موافقة للمكتوب فيه فيزدادون علما و يقينا بصفات الله تعالى و أيضا فإن المكلف إذا علم أن أعماله مكتوبة في اللوح المحفوظ تطالعها الملائكة قويت دواعيه إلى الأفعال الحسنة و ترك القبائح و قال الحسن هذا توكيد في الزجر عن المعاصي و الحث على البر لأن هذه الأشياء التي لا ثواب فيها و لا عقاب إذا كانت محصاة عنده محفوظة فالأعمال التي فيها الثواب و العقاب أولى بالحفظ و قيل إن قوله « في كتاب مبين » معناه أنه محفوظ غير منسي و لا مغفول عنه كما يقول القائل لغيره ما تصنعه عندي مسطور مكتوب و إنما يريد بذلك أنه حافظ له يريد مكافاته عليه و أنشد :
إن لسلمى عندنا ديوانا ) عن البلخي قال الجرجاني صاحب النظم تم الكلام عند قوله « و لا يابس » ثم استأنف خبرا آخر بقوله « إلا في كتاب مبين » يعني و هو في كتاب مبين أيضا لأنك لو جعلت قوله « إلا في كتاب مبين » متصلا بالكلام الأول لفسد المعنى و لما نبه سبحانه بهذه الآية على أنه عالم لذاته من حيث
مجمع البيان ج : 4 ص : 482
أنه لو كان عالما بعلم لوجب أحد ثلاثة أشياء كلها فاسدة إما أن يكون له علوم غير متناهية و إما أن يكون معلوماته متناهية أو يتعلق علم واحد بمعلومات غير متناهية و كلها باطل بالدليل نبه في الآية التي تليها على أنه قادر لذاته من حيث أنه قادر على الإحياء و الإماتة فقال « و هو الذي يتوفاكم بالليل » أي يقبض أرواحكم عن التصرف عن ابن عباس و غيره و اختاره علي بن عيسى و قيل معناه يقبضكم بالنوم كما يقبضكم بالموت فيكون كقوله « الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها » الآية عن الزجاج و الجبائي « و يعلم ما جرحتم بالنهار » أي ما كسبتم من الأعمال على التفصيل بالنهار على كثرته و كثرتكم و فيه إشارة إلى رحمته حيث يعلم مخالفتهم إياه ثم لا يعاجلهم بعقوبة و لا يمنعهم فضله و رحمته « ثم يبعثكم فيه » أي ينبهكم من نومكم في النهار عن الزجاج و الجبائي جعل انتباههم من النوم بعثا « ليقضي أجل مسمى » معناه لتستوفوا آجالكم و ترتيب الآية و هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم في النهار على علم بما تجترحون بالنهار ليقضي أجل مسمى فاللام تتصل بقوله « ثم يبعثكم فيه » إلا أنه قدم ما من أجله بعثنا بالنهار لأنه أهم و العناية به أشد عن علي بن عيسى و معنى القضاء فصل الأمر على تمام و معنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت و في هذا حجة على النشأة الثانية لأن منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر « ثم إليه مرجعكم » يريد إذا تمت المدة المضروبة لكل نفس نقله إلى الدار الآخرة و معنى إليه إلى حكمه و جزائه و إلى موضع ليس لأحد سواه فيه أمر « ثم ينبئكم » يخبركم « بما كنتم تعملون » أي بما غفلتم عنه من أعمالكم و في هذه الآية دلالة على البعث و الإعادة نبه الله سبحانه على ذلك بالنوم و اليقظة فإن كلا منهما لا يقدر عليه غيره تعالى فأما ما يصح إعادته من الأشياء فالصحيح من مذهب أهل العدل فيه أن يكون الشيء من فعل القديم سبحانه القادر لذاته و أن يكون مما يبقى و أن لا يكون مما يتولد عن سبب .

مجمع البيان ج : 4 ص : 483
وَ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظةً حَتى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت تَوَفَّتْهُ رُسلُنَا وَ هُمْ لا يُفَرِّطونَ(61) ثُمَّ رُدُّوا إِلى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الحُْكْمُ وَ هُوَ أَسرَعُ الحَْسِبِينَ(62)

القراءة

قرأ حمزة وحده توفاه و الباقون بالتاء و قرأ الأعرج يفرطون في الشواذ .

الحجة

حجة من قرأ بالتاء قوله فقد كذبت رسل و قالت رسلهم و حجة حمزة أنه فعل متقدم مسند إلى مؤنث غير حقيقي و إنما التأنيث للجمع فهو مثل و قال نسوة و إن كانت الكتابة في المصحف بالياء فليس ذلك بخلاف لأن الألف الممالة قد كتبت بياء و قراءة الأعرج من أفرط في الأمر إذا زاد فيه و قراءة العامة من فرط في الأمر إذا قصر فيه فهو بمعنى لا يقصرون فيما يؤمرون به من توفي من تحضره منيته و ذاك بمعنى لا يزيدون على ذلك و لا يتوفون إلا من أمروا بتوفية و نظيره قوله و كل شيء عنده بمقدار .

المعنى

ثم زاد سبحانه في بيان كمال قدرته فقال « و هو القاهر فوق عباده » معناه و الله المقتدر المستعلي على عباده الذي هو فوقهم لا بمعنى أنه في مكان مرتفع فوقهم و فوق مكانهم لأن ذلك من صفة الأجسام و الله تعالى منزه عن ذلك و مثله في اللغة أمر فلان فوق أمر فلان أي هو أعلى أمرا و أنفذ حكما و مثله قوله يد الله فوق أيديهم فالمراد به أنه أقوى و أقدر منهم و أنه القاهر لهم و يقال هو فوقه في العلم أي أعلم منه و فوقه في الجود أي أجود فعبر عن تلك الزيادة بهذه العبارة للبيان عنها « و يرسل عليكم حفظة » عطف على صلة الألف و اللام في القاهر و تقديره و هو الذي يقهر عباده و يرسل عليكم حفظة أي ملائكة يحفظون أعمالكم و يحصونها عليكم و يكتبونها و في هذا لطف للعباد لينزجروا عن المعاصي إذا علموا أن عليهم حفظة من عند الله يشهدون بها عليهم يوم القيامة « حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته » أي تقبض روحه « رسلنا » يعني أعوان ملك الموت عن ابن عباس و الحسن و قتادة قالوا و إنما يقبضون الأرواح بأمره و لذلك أضاف التوفي إليه في قوله قل يتوفاكم ملك الموت و قال الزجاج يريد بالرسل هؤلاء الحفظة فيكون المعنى يرسلهم للحفظ في الحياة و التوفية عند مجيء الممات و حتى هذه هي التي تقع بعدها الجملة « و هم لا يفرطون » أي لا يضيعون عن ابن عباس و السدي و قيل لا يغفلون و لا يتوانون عن الزجاج و قال معنى التفريط تقدمة العجز فالمعنى أنهم لا يعجزون ثم بين سبحانه أن هؤلاء الذين تتوفاهم رسله يرجعون إليه فقال « ثم ردوا إلى الله » أي إلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه إلا هو « مولاهم الحق » قد مر معناه عند قوله أنت مولانا و الحق اسم من أسماء الله تعالى و اختلف في معناه فقيل
مجمع البيان ج : 4 ص : 484
المعنى أن أمره كله حق لا يشوبه باطل ، و جد لا يجاوره هزل فيكون مصدرا وصف به نحو قولهم رجل عدل و في قول زهير :
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم
هم بيننا فهم رضا و هم عدل و قيل إن الحق بمعنى المحق كما قيل غياث بمعنى مغيث و قيل إن معناه الثابت الباقي الذي لا فناء له و قيل معناه ذو الحق يريد أن أفعاله و أقواله حق « ألا له الحكم » أي القضاء فيهم يوم القيامة لا يملك الحكم في ذلك اليوم سواه كما قد يملك الحكم في الدنيا غيره بتمليكه إياه « و هو أسرع الحاسبين » أي إذا حاسب فحسابه سريع و قد مضى معناه في سورة البقرة عند قوله سريع الحساب و روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه سأل كيف يحاسب الله الخلق و لا يرونه قال كما يرزقهم و لا يرونه و روي أنه سبحانه يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة و هذا يدل على أنه لا يشغله محاسبة أحد عن محاسبة غيره و يدل على أنه سبحانه يتكلم بلا لسان و لهوات ليصح أن يحاسب الجميع في وقت واحد .
قُلْ مَن يُنَجِّيكم مِّن ظلُمَتِ الْبرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضرُّعاً وَ خُفْيَةً لَّئنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشكِرِينَ(63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنهَا وَ مِن كلِّ كَرْب ثُمَّ أَنتُمْ تُشرِكُونَ(64)

القراءة

قرأ أبو بكر عن عاصم خفية بكسر الخاء هنا و في الأعراف و الباقون « خفية » بالضم و قرأ قل من ينجيكم خفيفة يعقوب و سهل و قرأ الباقون « ينجيكم » و قرأ أهل الكوفة « لئن أنجانا من هذه » بالألف إلا أن عاصما قرأ بالتفخيم و الباقون بالإمالة و قرأ غيرهم من القراء لئن أنجيتنا و قرأ أهل الكوفة و أبو جعفر و هشام عن ابن عامر « قل الله ينجيكم » بالتشديد و الباقون ينجيكم بالتخفيف .

الحجة

أما خفية فإن أبا عبيدة قال خفية أي تخفون في أنفسكم و حكى غيره خفية
مجمع البيان ج : 4 ص : 485
و خفية لغتان و أما خيفة ففعلة من الخوف انقلبت الياء عن الواو للكسرة قال :
فلا تقعدن على زخة
و تضمر في القلب وجدا و خيفا و هو جمع خيفة و أما قوله ينجيكم فإنهم قالوا نجا زيد فإذا نقل الفعل حسن نقله بالهمزة كما حسن نقله بالتضعيف و في التنزيل فأنجاه الله من النار فأنجيناه و الذين معه و فيه و نجينا الذين آمنوا فاستوى القراءتان في الحسن فأما من قرأ « أنجانا » فإنه حمله على الغيبة لأن ما قبله « تدعونه » و ما بعده « قل الله ينجيكم » و كلاهما للغيبة و من قرأ لئن أنجيتنا فإنه واجه بالخطاب و لم يراع من المشاكلة ما راعاه الكوفيون .

الإعراب

تدعونه في موضع نصب على الحال تقديره قل من ينجيكم داعين و قائلين لئن أنجيتنا ، تضرعا نصب بأنه حال أيضا من تدعونه و كذلك خفية و المعنى تدعونه مظهرين الضراعة و مضمرين الحاجة إليه أو معلنين و مسرين .

المعنى

ثم عاد سبحانه إلى حجاج الكفار فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « من ينجيكم » أي يخلصكم و يسلمكم « من ظلمات البر و البحر » أي من شدائدهما و أهوالهما عن ابن عباس قال الزجاج العرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدة يوم مظلم حتى أنهم يقولون يوم ذو كواكب أي قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل و أنشد :
بني أسد هل تعلمون بلاءنا
إذا كان يوم ذو كواكب أشهب و قال آخر :
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي
إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا و قال غيره أراد ظلمة الليل و ظلمة الغيم و ظلمة التيه و الحيرة في البر و البحر فجمع لفظه ليدل على معنى الجمع « تدعونه » أي تدعون الله عند معاينة هذه الأهوال « تضرعا و خفية » أي علانية و سرا عن ابن عباس و الحسن و قيل معناه تدعونه مخلصين متضرعين تضرعا بألسنتكم و خفية في أنفسكم و هذا أظهر « لئن أنجينا » أي في أي شدة وقعتم قلتم
مجمع البيان ج : 4 ص : 486
لئن أنجيتنا « من هذه لنكونن من الشاكرين » لإنعامك علينا و هذا يدل على أن السنة في الدعاء التضرع و الإخفاء و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال خير الدعاء الخفي و خير الرزق ما يكفي و مر بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال إنكم لا تدعون أصم و لا غائبا و إنما تدعون سميعا قريبا « قل » يا محمد « الله ينجيكم » أي ينعم عليكم بالنجاة و الفرج و يخلصكم « منها » أي من هذه الظلمات « و من كل كرب » أي و يخلصكم الله من كل غم « ثم أنتم تشركون » بالله تعالى بعد قيام الحجة عليكم ما لا يقدر على الإنجاء من كل كرب و إن خف .
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلى أَن يَبْعَث عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضكم بَأْس بَعْض انظرْ كَيْف نُصرِّف الاَيَتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65)

اللغة

لبست عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه و خلطت بعضه ببعض و لبست الثوب ألبسه و اللبس اختلاط الأمر و اختلاط الكلام و لابست الأمر خالطته و الشيع الفرق و كل فرقة شيعة على حدة و شيعت فلانا اتبعته و التشيع هو الاتباع على وجه التدين و الولاء للمتبوع و الشيعة صارت في العرف اسما لمتبعي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على سبيل الاعتقاد لإمامته بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بلا فصل من الإمامية و الزيدية و غيرهم و لا يقع إطلاق هذه اللفظة على غيرهم من المتبعين سواء كان متبوعهم محقا أو مبطلا إلا أن يسقط عنه لام التعريف و يضاف بلفظ من للتبعيض فيقال هؤلاء شيعة بني العباس أو شيعة بني فلان .

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الحجج التي حاج به الكافرين و نبه على الأعذار و الإنذار فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار « هو القادر على أن يبعث » أي يرسل « عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » قيل فيه وجوه ( أحدها ) أن عذابا من فوقكم عنى به الصيحة و الحجارة و الطوفان و الريح كما فعل بعاد و ثمود و قوم شعيب و قوم لوط أو من
مجمع البيان ج : 4 ص : 487
تحت أرجلكم عنى به الخسف كما فعل بقارون عن سعيد بن جبير و مجاهد ( و ثانيها ) أن المراد بقوله « من فوقكم » أي من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم من سفلتكم عن الضحاك ( و ثالثها ) أن من فوقكم السلاطين الظلمة و من تحت أرجلكم العبيد السوء و من لا خير فيه عن ابن عباس و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) « أو يلبسكم شيعا » أي يخلطكم فرقا مختلفي الأهواء لا تكونون شيعة واحدة و قيل هو أن يكلهم إلى أنفسهم فلا يلطف لهم اللطف الذي يؤمنون عنده و يخليهم من ألطافه بذنوبهم السالفة و قيل عنى به يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة و العصبية و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) « و يذيق بعضكم بأس بعض » أي قتال بعض و حرب بعض و معناه يقتل بعضكم بعضا حتى يفني بعضكم بعضا كما قال و كذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون و قيل هو سواء الجوار عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قال الحسن التهديد بإنزال العذاب و الخسف يتناول الكفار و قوله « أو يلبسكم شيعا » يتناول أهل الصلاة و قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سألت ربي أن لا يظهر على أمتي أهل دين غيرهم فأعطاني و سألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني و سألته أن لا يجمعهم على ضلالة فأعطاني و سألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني و في تفسير الكلبي أنه لما نزلت هذه الآية قام النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فتوضأ و أسبغ وضوءه ثم قام و صلى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث على أمته عذابا من فوقهم و لا من تحت أرجلهم و لا يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض فنزل جبرائيل (عليه السلام) فقال يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك و إنه قد أجارهم من خصلتين و لم يجرهم من خصلتين أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم و لم يجرهم من الخصلتين الأخريين فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا جبرائيل ما بقاء أمتي مع قتل بعضهم بعضا فقام و عاد إلى الدعاء فنزل الم أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون الآيتين فقال لا بد من فتنة تبتلى بها الأمة بعد نبيها ليتبين الصادق من الكاذب لأن الوحي انقطع و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة و في الخبر أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة و قال أبي بن كعب سيكون في هذه الأمة بين يدي الساعة خسف و قذف و مسخ ثم أكد سبحانه الاحتجاج عليهم بقوله « أنظر كيف نصرف الآيات » أي أنظر يا محمد كيف نردد الآيات و نظهرها مرة بعد أخرى بوجوه أدلتها حتى تزول الشبه « لعلهم يفقهون » أي لكي يعلموا الحق فيتبعوه و الباطل فيجتنبوه و إذا كان البعث في الآية محمولا على التسليط فالمراد به التمكين و رفع الحيلولة
مجمع البيان ج : 4 ص : 488
دون أن يفعل سبحانه ذلك أو يأمر به تعالى الله عن ذلك و في هذه الآية دلالة على أنه سبحانه قادر على ما المعلوم أنه لا يفعله .
وَ كَذَّب بِهِ قَوْمُك وَ هُوَ الْحَقُّ قُل لَّست عَلَيْكُم بِوَكِيل(66) لِّكلِّ نَبَإ مُّستَقَرُّ وَ سوْف تَعْلَمُونَ(67)

المعنى

لما ذكر سبحانه تصريف الآيات قال عقيب ذلك « و كذب به » أي بما نصرف من الآيات عن الجبائي و البلخي و قال الأزهري الهاء يعود إلى القرآن و هو قول الحسن و جماعة « قومك » يعني قريشا و العرب « و هو الحق » أي القرآن أو تصريف الآيات حق بمعنى أنه يدل على الحق و أن ما فيه حق ثم بين سبحانه أن عاقبة تكذيبهم يعود عليهم فقال « قل » يا محمد « لست عليكم بوكيل » أي لم أومر بمنعكم من التكذيب ب آيات الله و أن أحفظكم من ذلك و أحول بينكم و بينه لأن الوكيل على الشيء هو القائم بحفظه و الذي يدفع الضرر عنه عن الجبائي و قيل معناه لست بحافظ لأعمالكم لأجازيكم بها إنما أنا منذر و الله سبحانه هو المجازي عن الحسن و قيل معناه لم أومر بحربكم و لا أخذكم بالإيمان كما يأخذ الموكل بالشيء الذي يلزم بلوغ آخره عن الزجاج « لكل نبأ مستقر » أي لكل خبر من أخبار الله و رسوله حقيقة كائنة إما في الدنيا و إما في الآخرة عن ابن عباس و مجاهد و قيل معناه لكل خبر قرار على غاية ينتهي إليها و يظهر عندها قال السدي استقر يوم بدر ما كان يعدهم من العقاب و سمي الوقت مستقرا لأنه ظرف للفعل الواقع فيه و قيل معناه لكل عمل مستقر عند الله حتى يجازي به يوم القيامة عن الحسن « و سوف تعلمون » فيه وعيد و تهديد لهم إما بعذاب الآخرة و إما بالحرب و أخذهم بالإيمان شاءوا أو أبوا و تقديره و سوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب و حذف لدلالة الكلام عليه .

مجمع البيان ج : 4 ص : 489
وَ إِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يخُوضونَ فى ءَايَتِنَا فَأَعْرِض عَنهُمْ حَتى يخُوضوا فى حَدِيث غَيرِهِ وَ إِمَّا يُنسِيَنَّك الشيْطنُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكرَى مَعَ الْقَوْمِ الظلِمِينَ(68) وَ مَا عَلى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِم مِّن شىْء وَ لَكن ذِكرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(69)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده ينسينك بالتشديد و الباقون « ينسينك » بالتخفيف .

الحجة

حجة من خفف قوله و ما أنسانيه إلا الشيطان و حجة ابن عامر أنه يجوز نقل الفعل بتضعيف العين كما يجوز نقله بالهمزة كما يقال عزمته و أعزمته .

الإعراب

ذكرى يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى و لكن ذكروهم ذكرى و يجوز أن يكون في موضع رفع على أحد وجهين إما أن يكون على معنى و لكن الذي تأمرونهم به ذكري فيكون خبر المبتدأ و إما أن يكون عليكم ذكرى أي عليكم أن تذكروهم كما قال إن عليك إلا البلاغ و على هذا فيكون ذكرى مبتدأ .

النزول

قال أبو جعفر (عليه السلام) لما نزلت « فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » قال المسلمون كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا و تركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام و لا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله سبحانه « و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » أمرهم بتذكيرهم و تبصيرهم ما استطاعوا .

المعنى

ثم أمر سبحانه بترك مجالستهم عند استهزائهم بالقرآن فقال « و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي إذا رأيت هؤلاء الكفار و قيل الخطاب له و المراد غيره و معنى يخوضون يكذبون ب آياتنا و ديننا عن الحسن و سعيد بن جبير و الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث و اللعب و ترك التفهم و التبيين « فأعرض عنهم » أي فاتركهم و لا تجالسهم « حتى يخوضوا في حديث غيره » أي يدخلوا في حديث غير الاستهزاء بالقرآن و إنما أمره (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالإعراض عنهم لأن من حاج من هذه حاله فقد وضع الشيء غير موضعه و حط من قدر البيان و الحجاج « و إما ينسينك الشيطان » المعنى و إن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم و يسأل على هذا فيقال كيف أضاف النسيان إلى الشيطان و هو فعل الله تعالى و الجواب إنما أضافه إلى الشيطان لأنه تعالى أجرى العادة بفعل النسيان عند الإعراض عن الفكر و تراكم الخواطر الردية و الوساوس الفاسدة من الشيطان فجاز إضافة النسيان إليه لما حصل عند فعله كما أن من ألقى غيره في البرد حتى مات فإنه يضاف الموت إليه لأنه عرضه لذلك و كان كالسبب فيه « فلا تقعد بعد الذكرى » أي بعد
مجمع البيان ج : 4 ص : 490
ذكرك نهينا و ما يجب عليك من الإعراض عن الجبائي و قيل معناه بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين عن أبي مسلم فكأنه قال أعرض في حال اليأس و ذكر في حال الطمع « مع القوم الظالمين » يعني في مجالس الكفار و الفساق الذي يظهرون التكذيب بالقرآن و الآيات و الاستهزاء بذلك و به قال سعيد بن جبير و السدي و اختاره البلخي و قال كان ذلك في أول الإسلام و كان يختص النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و رخص للمؤمنين في ذلك لما عز الإسلام و كثر المسلمون نهوا عن مجالستهم و نسخت هذه الآية بقوله فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم قال الجبائي و في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في جواز التقية على الأنبياء و الأئمة و أن النسيان لا يجوز على الأنبياء و هذا القول غير صحيح و لا مستقيم لأن الإمامية إنما تجوز التقية على الإمام فيما تكون عليه دلالة قاطعة توصل إلى العلم و يكون المكلف مزاح العلة في تكليفه ذلك فأما ما لا يعرف إلا بقول الإمام من الأحكام و لا يكون على ذلك دليل إلا من جهته فلا يجوز عليه التقية فيه و هذا كما إذا تقدم من النبي بيان في شيء من الأشياء الشرعية فإنه يجوز منه أن لا يبين في حال أخرى لأمته ذلك الشيء إذا اقتضته المصلحة أ لا ترى إلى ما روي أن عمر بن الخطاب سأله عن الكلالة فقال يكفيك آية السيف و أما النسيان و السهو فلم يجوزوهما عليهم فيما يؤدونه عن الله تعالى فأما ما سواه فقد جوزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى إخلال بالعقل و كيف لا يكون كذلك و قد جوزوا عليهم النوم و الإغماء و هما من قبيل السهو فهذا ظن منه فاسد و إن بعض الظن إثم « و ما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » أي ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي الله سبحانه من حساب الكفرة شيء بحضورهم مجلس الخوض « و لكن ذكرى لعلهم يتقون » أي نهوا عن مجالستهم ليزدادوا تقى و أمروا أن يذكروهم و ينبهوهم على خطاياهم لكي يتقي المشركون إذا رأوا إعراض هؤلاء المؤمنين عنهم و تركهم مجالستهم فلا يعودون لذلك عن أكثر المفسرين و قيل معناه ليس على المتقين من الحساب يوم القيامة مكروه و لا تبعة و لكنه أعلمهم أنهم محاسبون و حكم بذلك عليهم لكي يعلموا أن الله يحاسبهم فيتقوا عن البلخي فالهاء و الميم على الوجه الأول يعود إلى الكفار و في الثاني إلى المؤمنين .

مجمع البيان ج : 4 ص : 491
وَ ذَرِ الَّذِينَ اتخَذُوا دِينهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَ ذَكرْ بِهِ أَن تُبْسلَ نَفْس بِمَا كَسبَت لَيْس لهََا مِن دُونِ اللَّهِ وَلىُّ وَ لا شفِيعٌ وَ إِن تَعْدِلْ كلَّ عَدْل لا يُؤْخَذْ مِنهَا أُولَئك الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسبُوا لَهُمْ شرَابٌ مِّنْ حَمِيم وَ عَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كانُوا يَكْفُرُونَ(70)

اللغة

يقال أبسلته بجريرته أي أسلمته بها و المستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص قال الشاعر :
و إبسالي بني بغير جرم
بعوناه و لا بدم مراق أي إسلامي إياهم و البعو الجناية قال الأخفش تبسل أي تجازى و قيل تبسل أي ترهن و المعاني متقاربة و هذا بسل عليك أي حرام عليك و جائز أن يكون أسد باسل من هذا أي إنه لا يقدر عليه و جائز أن يكون من الأول بمعنى أن معه من الإقدام ما يستبسل له قرنه و يقال أعط الراقي بسلته أي أجرته و تأويله أنه عمل في الشيء الذي قد استبسل صاحبه معه و العدل الفداء و أصله المثل و الحميم الماء الحار أحم حتى انتهى غليانه و منه الحمام .

الأعراب

« أن تبسل » في موضع نصب بأنه مفعول و هو من باب حذف المضاف تقديره كراهية أن تبسل و قوله « ليس لها من دون الله » صفة لنفس و التقدير نفس عادمة وليا و شفيعا يكسبها أولئك الذين أبسلوا مبتدأ و خبر و قوله « لهم شراب من حميم » يجوز أن يكون خبرا ثانيا لأولئك و يجوز أن يكون كلاما مستأنفا .

المعنى

ثم عاد تعالى إلى وصف من تقدم ذكرهم من الكفار فقال « و ذر الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا » أي دعهم و أعرض عنهم و إنما أراد به إعراض إنكار لأنه قال بعد ذلك « و ذكر » يريد دع ملاطفتهم و مجالستهم و لا تدع مذاكرتهم و دعوتهم و نظيره في سورة النساء فأعرض عنهم و عظهم « و غرتهم الحياة الدنيا » يعني به اغتروا بحياتهم « و ذكر به » أي عظ بالقرآن و قيل بيوم الدين و قيل بالحساب « أن تبسل نفس بما كسبت » أي لكي لا تسلم نفس للهلكة بما كسبت أي بما عملت عن الحسن و مجاهد و السدي و اختاره الجبائي و الفراء و قيل
مجمع البيان ج : 4 ص : 492
إن معنى تبسل تهلك عن ابن عباس و قيل تحبس عن قتادة و قيل تؤخذ عن ابن زيد و قيل تسلم إلى خزنة جهنم عن عطية العوفي و قيل تجازى عن الأخفش « ليس لها من دون الله ولي » أي ناصر ينجيها من العذاب « و لا شفيع » يشفع لها « و إن تعدل كل عدل » و إن تفد كل فداء « لا يؤخذ منها » و قيل معناه و أن تقسط كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة و إنما تقبل في الدنيا « أولئك الذين أبسلوا » أي أهلكوا و قيل أسلموا للهلكة فلا مخلص لهم و قيل ارتهنوا و قيل جوزوا « بما كسبوا » أي بكسبهم و عملهم « لهم شراب من حميم » أي ماء مغلي حار « و عذاب أليم » مؤلم « بما كانوا يكفرون » أي بكفرهم يريد جزاء على كفرهم و اختلف في الآية فقيل هي منسوخة ب آية السيف عن قتادة و قيل ليست بمنسوخة و إنما هي تهديد و وعيد عن مجاهد و غيره و فيها دلالة على الوعيد العظيم لمن كانت هذه سبيله من الاستهزاء بالقرآن و ب آيات الله و تحذير عن سلوك طريقتهم و قال الفراء ما من أمة إلا و لهم عيد يلعبون فيه و يلهون إلا أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإن أعيادهم صلاة و دعاء و عبادة .
قُلْ أَ نَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَ لا يَضرُّنَا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كالَّذِى استَهْوَتْهُ الشيَطِينُ فى الأَرْضِ حَيرَانَ لَهُ أَصحَبٌ يَدْعُونَهُ إِلى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَ أُمِرْنَا لِنُسلِمَ لِرَب الْعَلَمِينَ(71)

القراءة

قرأ حمزة وحده استهويه بألف ممالة و الباقون « استهوته » بالتاء المعجمة من فوق .

الحجة

قال أبو علي كلا المذهبين حسن قال الشاعر :
و كنا ورثناه على عهد تبع
طويلا سواريه شديدا دعائمه .

اللغة

استهواه من قولهم هوى من حالق إذا تردى منه و يشبه به الذي زل عن
مجمع البيان ج : 4 ص : 493
الطريق المستقيم كما أن قوله زل إنما هو في المكان قال :
قام على منزعة زلخ فزل ) ثم يشبه به المخطىء في طريقته في مثل قوله فأزلهما الشيطان فكذلك هوى و أهواه غيره فيقال أهويته و استهويته بمعنى كما يقال أزله الشيطان و استزله بمعنى و كذلك استجابة بمعنى أجابه قال :
فلم يستجبه عند ذاك مجيب ) و الحيران المتردد في أمر لا يهتدي إلى المخرج منه و الفعل منه حار يحار حيرة و رجل حائر و حيران و قوم حيارى .

الإعراب

« كالذي استهوته » في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره أ ندعو من دون الله دعاء مثل دعاء الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ، و حيران نصب على الحال من مفعول استهوته ، « له أصحاب » وصف لحيران و يدعونه صفة لأصحاب أي أصحاب داعون له إلى الهدي قائلون له ائتنا و هاهنا منتهى الكلام و قوله « أمرنا لنسلم » تقول العرب أمرتك لتفعل و أمرتك أن تفعل و أمرتك بأن تفعل فمن قال أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق و المعنى وقع الأمر بهذا الفعل و من قال أمرتك أن تفعل حذف الجار و من قال أمرتك لتفعل المعنى أمرتك للفعل و قال الزجاج التقدير أمرنا كي نسلم قال الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل أي كي أنسى .

المعنى

ثم أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المؤمنين بخطاب الكفار فقال « قل » يا محمد لهؤلاء الكفار الذين يدعون إلى عبادة الأصنام أو قل أيها الإنسان أو أيها السامع « أ ندعوا من دون الله ما لا ينفعنا » إن عبدناه « و لا يضرنا » إن تركنا عبادته « و نرد على أعقابنا » هذا مثل يقولون لكل خائب لم يظفر بحاجته رد على عقبيه و نكص على عقبيه و تقديره أ نرجع القهقرى في مشيتنا و المعنى أ نرجع عن ديننا الذي هو خير الأديان « بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران » لا يهتدي إلى طريق و قيل معناه استغوته الغيلان في المهامة عن ابن عباس و قيل معناه دعته الشياطين إلى اتباع الهوى و قيل أهلكته و قيل ذهبت به عن نفطويه و قيل أضلته عن أبي مسلم « له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا » أي إلى الطريق الواضح يقولون له ائتنا و لا يقبل منهم و لا يصير إليهم لأنه قد تحير لاستيلاء الشيطان عليه
مجمع البيان ج : 4 ص : 494
يهوى و لا يهتدي ثم أمره الله سبحانه فقال « قل » لهؤلاء الكفار « إن هدى الله هو الهدى » أي دلالة الله لنا على توحيده و أمر دينه هو الهدى الذي يؤدي المستدل به إلى الصلاح و الرشاد في دينه و هو الذي يجب أن نعمل عليه و نستدل به فلا نترك ذلك إلى ما تدعون إليه « و أمرنا لنسلم لرب العالمين » معناه و أمرنا أن نسلم و قيل معناه أن نسلم أمورنا و نفوضها إلى الله و نتوكل عليه فيها .
وَ أَنْ أَقِيمُوا الصلَوةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تحْشرُونَ(72) وَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كن فَيَكونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْك يَوْمَ يُنفَخُ فى الصورِ عَلِمُ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ وَ هُوَ الحَْكيمُ الْخَبِيرُ(73)

الإعراب

يحتمل أول الآية وجهين ( أحدهما ) أن يكون التقدير أمرنا لأن نسلم و لأن نقيم الصلاة ( و الثاني ) أن يكون محمولا على المعنى لأن معناه أمرنا بالإسلام و بإقامة الصلاة و موضع أن نصب لأن الباء لما سقطت أفضى الفعل فنصب عالم الغيب رفع لأنه نعت الذي في قوله « و هو الذي خلق السماوات و الأرض » و يحتمل أن يكون فاعل فعل يدل عليه الفعل المبني للمفعول به و هو قوله « ينفخ في الصور » و هذا كما يقولون أكل طعامك عبد الله و التقدير أكله عبد الله قال الشاعر :
ليبك يزيد ضارع لخصومة
و مختبط مما تطيح الطوانح كأن قيل من يبكيه قال يبكيه ضارع و الأول أجود .

المعنى

« و أن أقيموا الصلاة » هذا موصول بما قبله أي و قيل لنا أقيموا الصلاة « و اتقوه » أي و اتقوا رب العالمين أي تجنبوا معاصيه فتتقوا عقابه « و هو الذي إليه
مجمع البيان ج : 4 ص : 495
تحشرون » أي تجمعون إليه يوم القيامة فيجازي كل عامل منكم بعمله « و هو الذي خلق السماوات و الأرض بالحق » فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه خلقهما للحق لا للباطل عن الحسن و الزجاج و غيرهما و معناه خلقهما حقا و صوابا لا باطلا و خطأ كما قال و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا و أدخلت الباء و الألف و اللام كما أدخلت في نظائرها يقولون فلان يقول بالحق بمعنى أنه يقول حقا لا أن الحق معنى غير القول بل تقديره إن خلقهما حكمة و صواب من حكم الله و هو موصوف بالحكمة في خلقهما و خلق ما سواهما من جميع خلقه لا أن هناك حقا سوى خلقهما خلقهما به و القول الآخر ما قاله قوم أن معناه خلق السماوات و الأرض بكلامه الحق و هو قوله ائتيا طوعا أو كرها فالحق صفة قوله و كلامه و الأول هو الصحيح « و يوم يقول كن فيكون » ذكر في نصب يوم وجوه ( أحدها ) أن يكون عطفا على الهاء في قوله « و اتقوه » أي و اتقوا يوم يقول كن فيكون كما قال سبحانه و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ( و الثاني ) أن يكون على معنى و اذكر يوم يقول كن فيكون لأن بعده و إذ قال إبراهيم لأبيه آزر عطفا على ذلك قال الزجاج و هو الأجود ( الثالث ) أن يكون معطوفا على السماوات و المعنى و هو الذي خلق السماوات و الأرض بالحق و خلق يوم يقول كن فيكون فإن يوم القيامة لم يأت بعد فجوابه أن ما أنبأ الله بكونه فحقيقة واقع لا محالة و أما قوله « كن فيكون » فقد قيل فيه إنه خطاب للصور و المعنى يوم يقول للصور كن فيكون و ما ذكر من الصور يدل عليه و قيل إن قوله « كن فيكون » فيه إضمار جميع ما يخلق في ذلك الوقت ، المعنى و يوم يقول للشيء كن فيكون و هذا إنما ذكر ليدل على سرعة أمر البعث و الساعة فكأنه يقول و يوم يقول للخلق موتوا فيموتون و انتشروا فينتشرون أي لا يتعذر عليه ذلك و لا يتأخر عن وقت إرادته و قيل معناه و يوم يقول كن فيكون « قوله الحق » أي يأمر فيقع أمره أي ما وعدوا به من الثواب و حذروا به من العقاب و الحق من صفة قوله و قوله فاعل يكون كما تقول قد قلت فكان قولك و ليس المعنى إنك قلت فكان الكلام إنما المعنى إنه كان ما دل عليه القول و أما على القول المتقدم فيكون قوله مبتدأ و الحق خبره و قد ذكرنا تفسير قوله « كن فيكون » في سورة البقرة مستقصى « و له الملك يوم ينفخ في الصور » قيل في نصب يوم هنا وجوه ( أحدها ) أن يكون متعلقا بله الملك و تقديره أن الملك قد وجب له في ذلك اليوم الذي فيه ينفخ في الصور فقد خص ذلك اليوم بأن الملك له فيه كما خصه في قوله لمن الملك اليوم لله الواحد القهار و الوجه فيه أنه لا يبقى ملك من ملكه الله في الدنيا أو تغلب عليه بل يتفرد سبحانه بالملك
مجمع البيان ج : 4 ص : 496
( و الثاني ) أن يكون « يوم ينفخ في الصور » مبنيا عن قوله « يوم يقول كن فيكون » ( و الثالث ) أن يكون منصوبا بقوله « الحق » و المعنى قوله الحق يوم ينفخ في الصور و الوجه في اختصاصه بذلك اليوم و إن كان قوله حقا في كل وقت ما بيناه في الوجه الأول و هو مثل قوله و الأمر يومئذ لله و لا شك أن الأمر في كل وقت لله تعالى و المراد أن ذلك اليوم يوم لا يخالف الله في أوامره لأنها محتومة ليس فيها تخيير و لا يقدر أحد على معصيته و أما الصور فقيل فيه قرن ينفخ فيه إسرافيل (عليه السلام) نفختين فتفنى الخلائق كلهم بالنفخة الأولى و يحيون بالنفخة الثانية فتكون النفخة الأولى لانتهاء الدنيا و الثانية لابتداء الآخرة و قال الحسن هو جمع صورة كما أن السور جمع سورة و على هذا فيكون معناه يوم ينفخ الروح في الصور و يؤيد القول الأول ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أنه قال كيف أنعم و قد التقم صاحب القرن القرن و حنا جبينه و أصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ قالوا فكيف نقول يا رسول الله قال قولوا حسبنا الله و نعم الوكيل و العرب تقول نفخ الصور و نفخ في الصور قال الشاعر :
لو لا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم
و لا خراسان حتى ينفخ الصور « عالم الغيب و الشهادة » أي يعلم ما لا يشاهده الخلق و ما يشاهدونه و ما لا يعلمه الخلق و ما يعلمونه لا يخفى عليه شيء من ذلك « و هو الحكيم » في أفعاله « الخبير » العالم بعباده و أفعالهم .
* وَ إِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ لأَبِيهِ ءَازَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصنَاماً ءَالِهَةً إِنى أَرَاك وَ قَوْمَك فى ضلَل مُّبِين(74) وَ كَذَلِك نُرِى إِبْرَهِيمَ مَلَكُوت السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75)

القراءة

القراءة الظاهرة « آزر » بالفتح و قرأ يعقوب الحضرمي آزر بضم الراء و هو قراءة الحسن و ابن عباس و مجاهد و الضحاك .

مجمع البيان ج : 4 ص : 497

الحجة

من قرأ بالفتح جعل آزر في موضع جر بدلا من أبيه أو عطف بيان و من قرأ بالضم جعله منادى مفردا و تقديره يا آزر .

اللغة


الأصنام جمع صنم و الصنم ما كان صورة و الوثن ما كان غير مصور و الآلهة جمع إله مثل إزار و آزرة و المبين هو البين الظاهر و الملكوت بمنزلة الملك غير أن هذا اللفظ أبلغ لأن الواو و التاء تزادان للمبالغة و مثله الرغبوت و الرهبوت و وزنه فعلوت و في المثل رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم .

الإعراب

العامل في إذ محذوف و تقديره و اذكر إذ قال و قيل أنه يتصل بقوله بعد إذ هدانا الله أي و بعد إذ قال إبراهيم و الكاف في كذلك كاف التشبيه و المعنى كما أرينا إبراهيم قبح ما كان عليه أبوه و قومه من المذهب كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض للاعتبار و قيل شبه رؤية إبراهيم برؤية محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المعنى كما أريناك يا محمد أرينا إبراهيم و قوله « و ليكون » عطف على محذوف و تقديره نريه الملكوت ليستدل به و ليكون من الموقنين و قيل إنه جملة مستأنفة أي و ليكون من الموقنين أريناه فاللام يتعلق بأريناه المحذوف و قيل إن الواو زائدة و معناه ليكون و هذا بعيد .

المعنى

« و إذ قال إبراهيم » أي و اذكر إذ قال « لأبيه آزر » فيه أقوال ( أحدها ) أنه اسم أبي إبراهيم عن الحسن و السدي و الضحاك ( و ثانيها ) أن اسم أبي إبراهيم تارخ قال الزجاج ليس بين النسابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارخ و الذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر و قيل آزر عندهم ذم في لغتهم كأنه قال و إذ قال إبراهيم لأبيه يا مخطىء فإذا كان كذلك فالاختيار الرفع و جائز أن يكون وصفا له كأنه قال لأبيه المخطىء و قيل آزر اسم صنم عن سعيد بن المسيب و مجاهد قال الزجاج فإذا كان كذلك فموضعه نصب على إضمار الفعل كأنه قال و إذ قال إبراهيم لأبيه أ تتخذ آزر و جعل أصناما بدلا من آزر و أشباهه فقال بعد أن قال أ تتخذ آزر إلها أ تتخذ أصناما آلهة و هذا الذي قال الزجاج يقوي ما قاله أصحابنا أن آزر كان جد إبراهيم لأمه أو كان عمه من حيث صح عندهم أن آباء النبي إلى آدم كلهم كانوا موحدين و اجتمعت الطائفة على ذلك و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية
 

<<        الفهرس        >>