جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 4 ص : 498
و لو كان في آبائه كافر لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله تعالى إنما المشركون نجس و لهم في ذلك أدلة ليس هنا موضع ذكرها و قوله « أ تتخذ أصناما آلهة » استفهام المراد به الإنكار أي لا تفعل ذلك « إني أراك و قومك في ضلال » عن الصواب « مبين » ظاهر و في الآية حث للنبي على محاجة قومه الذين دعوه إلى عبادة الأصنام و الاقتداء بأبيه إبراهيم فيه و تسلية له بذلك « و كذلك نري إبراهيم » أي مثل ما وصفناه من قصة إبراهيم و قوله لأبيه ما قال نريه « ملكوت السماوات و الأرض » أي القدرة التي تقوى بها دلالته على توحيد الله تعالى و قيل معناه كما أريناك يا محمد أريناه آثار قدرتنا فيما خلقنا من الشمس و القمر و النجوم و ما في الأرض من البحار و المياه و الرياح ليستدل بها و هذا معنى قول ابن عباس و قتادة و قيل يعني بالملكوت آيات السماوات و الأرض عن مجاهد و قيل أن ملكوت السماوات و الأرض ملكهما بالنبطية عن مجاهد أيضا و قيل أن ملكوت السماوات و الأرض ما نشاهده من الحوادث الدالة على أن الله سبحانه مالك لهما و الله المالك لهما و لكل شيء بنفسه لا يملكه سواه فأجرى الملكوت على المملوك الذي هو في السماوات و الأرض مجازا عن أبي علي الجبائي و قال أبو جعفر (عليه السلام) كشط الله له عن الأرضين حتى رآهن و ما تحتهن و عن السماوات حتى رآهن و ما فيهن من الملائكة و حملة العرش و روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ثم رأى آخر فدعا عليه فمات ثم رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا فأوحى الله تعالى يا إبراهيم إن دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي فإني لو شئت أن أميتهم بدعائك ما خلقتهم إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه و صنف يعبد غيري فليس يفوتني و صنف يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني « و ليكون من الموقنين » أي من المتيقنين بأن الله سبحانه هو خالق ذلك و المالك له .

النظم

وجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما عاب دينهم و ذم آلهتهم و احتج عليهم بما سلف ذكره بين أنه دين إبراهيم و للناس ألف بدين الآباء لا سيما إذا كان الأب ذا قدر و قيل أنها تتصل بقوله « أ ندعوا من دون الله ما لا ينفعنا » إلى قوله « بعد إذ هدانا » ثم قال و بعد أن قال إبراهيم كذا و كذا عن أبي مسلم .

مجمع البيان ج : 4 ص : 499
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِب الاَفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئن لَّمْ يهْدِنى رَبى لأَكونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضالِّينَ(77) فَلَمَّا رَءَا الشمْس بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبى هَذَا أَكبرُ فَلَمَّا أَفَلَت قَالَ يَقَوْمِ إِنى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشرِكُونَ(78) إِنى وَجَّهْت وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطرَ السمَوَتِ وَ الأَرْض حَنِيفاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُشرِكِينَ(79)

القراءة

قرأ أبو عمرو و ورش من طريق البخاري رئي كوكبا بفتح الراء و كسر الهمزة حيث كان و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و خلف و يحيى عن أبي بكر رئي بكسر الراء و الهمزة و قرأ الباقون بفتح الراء و الهمزة .

الحجة

ذكر أبو علي الوجه في قراءة من لم يمل و قراءة من أمال و أورد في ذلك كلاما كثيرا تركنا ذكره خوف الإطالة .

اللغة

يقال جن عليه الليل و جنه الليل و أجنه الليل إذا أظلم حتى يستر بظلمته و يقال لكل ما ستر قد جن و أجن و منه اشتقاق الجن لأنهم استجنوا عن أعين الناس و قال الهذلي :
و ماء وردت قبيل الكرى
و قد جنه السدف الأدهم و يقال أجننت الميت و جننته إذا واريته في اللحد و أفل يأفل أفولا إذا غاب قال ذو الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها
نجوم و لا بالآفلات الدوالك
مجمع البيان ج : 4 ص : 500
و البزوغ الطلوع يقال بزغت الشمس إذا طلعت و يسمى ثلاث ليال من أول الشهر الهلال ثم يسمى قمرا إلى آخر الشهر و إنما يسمى قمرا لبياضه و حمار أقمر أبيض و الحنيف المائل إلى الحق .

الإعراب

السؤال يقال لم قال « هذا ربي » و لم يقل هذه كما قال « بازغة » و الجواب أن التقدير هذا النور الطالع ربي ليكون الخبر و المخبر عنه جميعا على التذكير كما كان جميعا على التأنيث في « رءا الشمس بازغة » و قال ابن فضال المجاشعي قوله « رءا الشمس بازغة » إخبار من الله تعالى و قوله « هذا ربي » من كلام إبراهيم و الشمس مؤنثة في كلام العرب و أما في كلام ما سواهم فيجوز أن لا تكون مؤنثة و إبراهيم (عليه السلام) لم يكن عربيا فحكى الله تعالى كلامه على ما كان في لغته و يقال لم أنث الشمس و ذكر القمر و الجواب أن تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها على حد قولهم نسابة و علامة و ليس القمر كذلك لأنه دونها في الضياء و يقال لم دخلت الألف و اللام فيها و هي واحدة و لم تدخل في زيد و عمرو قيل لأن شعاع الشمس يقع عليه اسم الشمس فاحتيج إلى التعريف إذا قصد إلى جرم الشمس أو إلى الشعاع على طريق الجنس أو الواحد من الجنس و ليس زيد و نحوه كذلك .

المعنى

لما تقدم ذكر الآيات التي أراها الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) بين سبحانه كيف استدل بها و كيف عرف الحق من جهتها فقال « فلما جن عليه الليل » أي أظلم عليه و ستر بظلامه كل ضياء « رءا كوكبا » و اختلف في الكوكب الذي رآه فقيل هو الزهرة و قيل هو المشتري « قال هذا ربي فلما أفل » أي غرب « قال لا أحب الآفلين » و اختلف في تفسير هذه الآيات على أقوال ( أحدها ) أن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال ذلك عند كمال عقله في زمان مهلة النظر و خطور الخاطر الموجب عليه النظر بقلبه لأنه (عليه السلام) لما أكمل الله عقله و حرك دواعيه على الفكر و التأمل رأى الكوكب فأعظمه و أعجبه نوره و حسنه و قد كان قومه يعبدون الكواكب فقال هذا ربي على سبيل الفكر فلما أفل علم أن الأفول لا يجوز على الإله فاستدل بذلك على أنه محدث مخلوق و كذلك كانت حاله في رؤية القمر و الشمس فإنه لما رأى أفولهما قطع على حدوثهما و استحالة إلهيتهما و قال في آخر كلامه « يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض » إلى آخره و كان هذا القول منه عقيب معرفته بالله تعالى و علمه بأن صفات المحدثين لا تجوز عليه و هذا اختيار أبي القاسم البلخي و غيره قال و زمان مهلة النظر هي أكثر من ساعة و أقل من شهر و لا يعلم ما بينهما إلا
مجمع البيان ج : 4 ص : 501
الله تعالى ( و ثانيها ) أنه إنما قال ذلك قبل بلوغه و لما قارب كمال العقل حركته الخواطر فيما شاهده من هذه الحوادث فلما رأى الكوكب و نوره و إشراقه و زهوره ظن أنه ربه فلما أفل و انتقل من حال إلى حال قال لا أحب الآفلين « فلما رءا القمر بازغا » عند طلوعه و رأى كبره و إشراقه و انبساط نوره و ضيائه في الدنيا « قال هذا ربي فلما أفل » و صار مثل الكوكب في الأفول و الغيبوبة و علم أنه لا يجوز أن يكون ذلك صفة الإله « قال لئن لم يهدني ربي » إلى رشدي و لم يوفقني و يلطف بي في إصابة الحق من توحيده « لأكونن من القوم الضالين » بعبادة هذه الحوادث « فلما رءا الشمس بازغة » أي طالعة و قد ملأت الدنيا نورا و رأى عظمها و كبرها « قال هذا ربي هذا أكبر » من الكوكب و القمر « فلما أفلت قال » حينئذ لقومه « يا قوم إني بريء مما تشركون » مع الله الذي خلقني و خلقكم في عبادته من آلهتكم فلما أكمل الله عقله و ضبط بفكره النظر في حدوث الأجسام بأن وجدها غير منفكة من المعاني المحدثة و أنه لا بد لها من محدث قال حينئذ لقومه « إني وجهت وجهي » أي نفسي « للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا » أي مخلصا مائلا عن الشرك إلى الإخلاص « و ما أنا من المشركين » و هذا اختيار أبي علي الجبائي و يسأل عن القول الأول كيف قال (عليه السلام) هذا ربي مخبرا و هو غير عالم بما يخبر به و الإخبار بما لا يأمن المخبر أن يكون فيه كاذبا قبيح و الجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) أنه لم يقل ذلك مخبرا و إنما قاله فارضا و مقدرا على سبيل التأمل كما يفرض أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه الفرض من الفساد و لا يكون بذلك مخبرا في الحقيقة ( و الآخر ) أنه أخبر عن ظنه و قد يجوز أن يظن المتفكر في حال فكره و نظره ما لا أصل له ثم يرجع عنه بالأدلة .
( سؤال آخر ) كيف تعجب إبراهيم (عليه السلام) من رؤية هذه الأشياء تعجب من لم يكن رآها و كيف يجوز أن يكون مع كمال عقله لم يشاهد السماء و الكواكب و الجواب أنه لا يمتنع أن يكون (عليه السلام) ما رأى السماء إلا في ذلك الوقت لأنه قد روي أن أمه كانت ولدته في مغارة خوفا من أن يقتله نمرود و من يكون في المغارة لا يرى السماء فلما قارب البلوغ و بلغ حد التكليف خرج من المغارة و رأى السماء و قد يجوز أيضا أن يكون قد رأى السماء قبل ذلك إلا أنه لم يفكر في إعلامها لأن الفكر لم يكن واجبا عليه و حين كمل عقله فكر في ذلك ( و ثالثها ) أن إبراهيم (عليه السلام) لم يقل « هذا ربي » على طريق الشك بل كان عالما موقنا أن ربه سبحانه لا يجوز أن يكون بصفة الكواكب و إنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه و التنبيه لهم على أن
مجمع البيان ج : 4 ص : 502
يكون إلها معبودا لا يكون بهذه الصفة الدالة على الحدوث و يكون قوله « هذا ربي » محمولا على أحد الوجهين إما على أنه كذلك عندكم و في مذاهبكم كما يقول أحدنا للمشبه هذا ربه جسم يتحرك و يسكن و إما على أن يكون قال ذلك مستفهما و أسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه و قد كثر مجيء ذلك في كلام العرب قال أوس بن حجر :
لعمرك لا أدري و إن كنت داريا
شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر و قال الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا و قال عمرو بن أبي ربيعة :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا
عدد القطر و الحصى و التراب أي أ تحبها ؟ و قال آخر :
رفوني و قالوا يا خويلد لا ترع
فقلت و أنكرت الوجوه هم هم أي أ هم هم و روي عن ابن عباس أنه قال في قوله « فلا اقتحم العقبة » معناه أ فلا اقتحم فحذف حرف الاستفهام ( و رابعها ) أنه (عليه السلام) إنما قال استخداعا للقوم يريهم قصور علمهم و بطلان عبادتهم لمخلوق جار عليه أعراض الحوادث فإنهم كانوا يعبدون الشمس و القمر و الكواكب و بعضهم يعبدون النيران و بعضهم يعبدون الأوثان فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه قال لهم هذا ربي في زعمكم كما قال « أين شركائي الذين كنتم تزعمون » فأضافه إلى نفسه حكاية لقولهم فكأنه قال لهم هذا ربي في قولكم و قيل أنه نوى في قلبه الشرط أي إن كان ربكم هذا الحجر كما تزعمون فهذا الكوكب و هذا القمر و الشمس ربي و لم يكن الحجر ربهم و لا الكوكب ربه و في هذه الآيات دلالة على حدوث الأجسام و إثبات الصانع و إنما استدل إبراهيم بالأفول على حدوثها لأن حركتها بالأفول أظهر و من الشبهة أبعد
مجمع البيان ج : 4 ص : 503
و إذا جازت عليها الحركة و السكون فلا بد أن تكون مخلوقة محدثة و إذا كانت محدثة فلا بد لها من محدث و المحدث لا بد أن يكون قادرا ليصح منه الإحداث و إذا أحدثها على غاية الانتظام و الإحكام فلا بد أن يكون عالما و إذا كان قادرا عالما وجب أن يكون حيا موجودا و فيها تنبيه لمشركي العرب و زجر لهم عن عبادة الأصنام و حث لهم على سلوك طريق أبيهم إبراهيم (عليه السلام) في النظر و التفكر لأنهم كانوا يعظمون آباءهم فأعلمهم سبحانه أن اتباع الحق من دين إبراهيم الذي يقرون بفضله أوجب عليهم .

[القصة]


ذكر أهل التفسير و التاريخ أن إبراهيم (عليه السلام) ولد في زمن نمرود بن كنعان و زعم بعضهم أن نمرود كان من ولاة كيكاوس و بعضهم قال كان ملكا برأسه و قيل لنمرود أنه يولد في بلده هذه السنة مولود يكون هلاكه و زوال ملكه على يده ثم اختلفوا فقال بعضهم إنما قالوا ذلك من طريق التنجيم و التكهن و قال آخرون بل وجد ذلك في كتب الأنبياء و قال آخرون رأى نمرود كان كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس و القمر فسأل عنه فعبر بأنه غلام يذهب ملكه على يده عن السدي فعند ذلك أمر بقتل كل ولد يولد تلك السنة و أمر بأن يعزل الرجال عن النساء و بأن يتفحص عن أحوال النساء فمن وجدت حبلى تحبس حتى تلد فإن كان غلاما قتل و إن كانت جارية خليت حتى حبلت أم إبراهيم فلما دنت ولادة إبراهيم خرجت أمه هاربة فذهبت به إلى غار و لفته في خرقة ثم جعلت على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فتشخب لبنا و جعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة و يشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر و يشب في الشهر كما يشب غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث و قيل كانت تختلف إليه أمه فكان يمص أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء و من أصبع لبنا و من أصبع عسلا و من أصبع تمرا و من أصبع سمنا عن أبي روق و محمد بن إسحاق و لما خرج من السرب نظر إلى النجم و كان آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر ثم رأى القمر ثم رأى الشمس فقال ما قال و لما رأى قومه يعبدون الأصنام خالفهم و كان يعيب آلهتهم حتى فشا أمره و جرت المناظرات .
وَ حَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَ تحَجُّونى فى اللَّهِ وَ قَدْ هَدَانِ وَ لا أَخَاف مَا تُشرِكُونَ بِهِ إِلا أَن يَشاءَ رَبى شيْئاً وَسِعَ رَبى كلَّ شىْء عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكرُونَ(80) وَ كيْف أَخَاف مَا أَشرَكتُمْ وَ لا تخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ عَلَيْكمْ سلْطناً فَأَى الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)

مجمع البيان ج : 4 ص : 504

القراءة

قرأ أهل المدينة و ابن عامر في رواية ابن ذكوان أ تحاجوني خفيفة النون و الباقون بالتشديد .

الحجة

قال أبو علي لا نظير في قول من شدد فأما وجه التخفيف فإنه حذفت النون الثانية لالتقاء النونين و التضعيف يكره فيتوصل إلى إزالته تارة بالحذف نحو علماء بنو فلان و تارة بالإبدال نحو لا أملاه حتى تفارقا نحو ديوان و قيراط فحذفوا النون الثانية كراهة التضعيف و لا يجوز أن تكون المحذوفة الأولى لأن الاستثقال يقع بالتكرير في الأمر الأعم و في الأولى أيضا أنها دلالة الإعراب و إنما حذفت الثانية كما حذفتها في ليتي في نحو قوله :
إذ قال ليتي أصادفه و يذهب بعض مالي و قوله :
تراه كالثغام يعل مسكا
يسوء الفاليات إذا فليني فالمحذوفة المصاحبة للياء ليسلم سكون لام الفعل و ما يجري مجراها أو حركتها و لا يجوز أن يكون المحذوفة الأولى لأن الفعل يبقى بلا فاعل كما لا تحذف الأولى في أ تحاجوني لأنها للإعراب و يدل على أن المحذوفة الثانية أنها حذفت مع الجار أيضا في نحو قوله :
قدني من نصر الخبيبين قدي و قد جاء حذف هذه النون في كلامهم قال الشاعر :
أ بالموت الذي لا بد أني
ملاق لا أباك تخوفيني و قال :
مجمع البيان ج : 4 ص : 505

تذكرونا إذ نقاتلكم
لا يضر معدما عدمه .

الإعراب

موضع أن يشاء نصب أي لا أخاف إلا مشيئة الله و هذا استثناء منقطع و قيل متصل و تقديره لا أخافهم إلا أن يشاء ربي إحياءهم و اقتدارهم و علما منصوب على التمييز .

المعنى

ثم ذكر سبحانه محاجة إبراهيم مع قومه فقال « و حاجه قومه » أي خاصموه و جادلوه في الدين و خوفوه من ترك عبادة آلهتهم « قال » أي إبراهيم لهم « أ تحاجوني في الله و قد هدان » أي وفقني لمعرفته و لطف بي في العلم بتوحيده و ترك الشرك و إخلاص العبادة له « و لا أخاف ما تشركون به » أي لا أخاف منه ضررا إن كفرت به و لا أرجو نفعا إن عبدته لأنه بين صنم قد كسر فلم يدفع عن نفسه و نجم دل أفوله على حدوثه فكيف تحاجونني و تدعونني إلى عبادة من لا يخاف ضره و لا يرجى نفعه « إلا أن يشاء ربي شيئا » فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه إلا أن يغلب الله هذه الأصنام التي تخوفونني بها فيحييها و يقدرها فتضر و تنفع فيكون ضررها و نفعها إذ ذاك دليلا على حدوثها أيضا و على توحيد الله و على أنه المستحق للعبادة دون غيره و أنه لا شريك له في ملكه ثم أثنى على الله سبحانه فقال « وسع ربي كل شيء علما » أي هو عالم بكل شيء ثم أمرهم بالتذكر و التدبر فقال « أ فلا تتذكرون » و الثاني قول الحسن معناه لا أخاف الأوثان إلا أن يشاء ربي أن يعذبني ببعض ذنوبي أو يشاء الإضرار بي ابتداء و الأول أجود ثم احتج (عليه السلام) عليهم و أكد الحجاج بقوله « و كيف أخاف ما أشركتم » أي كيف تلزمونني أن أخاف ما أشركتم به من الأوثان المخلوقة و قد تبين حالهم في أنهم لا يضرون و لا ينفعون « و لا تخافون أنكم أشركتم بالله » أي و لا تخافون من هو القادر على الضر و النفع بل تجرؤون عليه بأن أشركتم أي جعلتم له شركاء في ملكه و تعبدونهم من دونه و قيل معناه كيف أخاف شرككم و أنا منه بريء و الله تعالى لا يعاقبني بفعلكم و أنتم لا تخافون و قد أشركتم به فيكون على هذا ما في قوله « ما أشركتم » مصدرية « ما لم ينزل به عليكم سلطانا » أي حجة على صحته و هذا يدل على أن كل من قال قولا أو اعتقد مذهبا بغير حجة فهو مبطل « فأي الفريقين أحق بالأمن » أ نحن و قد عرفنا الله بأدلته و وجهنا العبادة نحوه أم أنتم و قد أشركتم بعبادة غيره من الأصنام و لو أطرحتم العصبية و الحمية لما وجدتم لهذا الحجاج مدفعا « إن كنتم تعلمون » أي تستعملون عقولكم و علومكم فتميزون الحق من الباطل و الدليل من الشبهة .

مجمع البيان ج : 4 ص : 506
الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسوا إِيمَنَهُم بِظلْم أُولَئك لهَُمُ الأَمْنُ وَ هُم مُّهْتَدُونَ(82)

اللغة

قال الأصمعي الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه قال الشاعر يمدح قوما :
هرت الشقاشق ظلامون للجزر يريد أنهم عرقبوها فوضعوا النحر غير موضعه و قال النابغة :
و النؤي كالحوض بالمظلومة الجلد يريد الأرض التي صرف عنها المطر و إنما سماها مظلومة لأنهم يتحوضون فيها حوضا لم يحكموا صنعه و لم يضعوه في موضعه لكونهم مسافرين .

المعنى

لما تقدم قوله سبحانه أي الفريقين أحق بالأمن أي بأن يأمن من العذاب الموحد أم المشرك عقبه ببيان من هو أحق به فقال « الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم » معناه الذين عرفوا الله تعالى و صدقوا به و بما أوجبه عليهم و لم يخلطوا ذلك بظلم و الظلم هو الشرك عن ابن عباس و سعيد بن المسيب و قتادة و مجاهد و أكثر المفسرين و روي عن أبي بن كعب أنه قال أ لم تسمع قوله سبحانه « إن الشرك لظلم عظيم » و هو المروي عن سلمان الفارسي و حذيفة بن اليمان و روي عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت هذه الآية شق على الناس و قالوا يا رسول الله و أينا لم يظلم نفسه فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه ليس الذي تعنون أ لم تستمعوا إلى ما قال العبد الصالح يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم و قال الجبائي و البلخي يدخل في الظلم كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة و قال البلخي و لو اختص الشرك على ما قالوه لوجب أن يكون مرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا كان آمنا و ذلك خلاف القول بالإرجاء و هذا لا يلزم لأنه قول بدليل الخطاب و مرتكب الكبيرة غير آمن و إن كان ذلك معلوما بدليل آخر « أولئك لهم الأمن » من الله بحصول الثواب و الأمان من العقاب « و هم مهتدون » أي محكوم لهم بالاهتداء إلى الحق و الدين و قيل إلى الجنة و اختلف في هذه الآية فقيل أنه من تمام قول
مجمع البيان ج : 4 ص : 507
إبراهيم (عليه السلام) و قيل إن هذا القول من الله تعالى على جهة فصل القضاء بذلك بين إبراهيم (عليه السلام) و قومه عن محمد بن إسحاق و ابن زيد و الجبائي .
وَ تِلْك حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَهَا إِبْرَهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَت مَّن نَّشاءُ إِنَّ رَبَّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83) وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسحَقَ وَ يَعْقُوب كلاًّ هَدَيْنَا وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَ مِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سلَيْمَنَ وَ أَيُّوب وَ يُوسف وَ مُوسى وَ هَرُونَ وَ كَذَلِك نجْزِى الْمُحْسِنِينَ(84) وَ زَكَرِيَّا وَ يحْيى وَ عِيسى وَ إِلْيَاس كلُّ مِّنَ الصلِحِينَ(85) وَ إِسمَعِيلَ وَ الْيَسعَ وَ يُونُس وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضلْنَا عَلى الْعَلَمِينَ(86) وَ مِنْ ءَابَائهِمْ وَ ذُرِّيَّتهِمْ وَ إِخْوَنهِمْ وَ اجْتَبَيْنَهُمْ وَ هَدَيْنَهُمْ إِلى صرَط مُّستَقِيم(87)

القراءة

قرأ أهل الكوفة و يعقوب « درجات » منونا و الباقون درجات من نشاء بالإضافة و قرأ أهل الكوفة غير عاصم و الليسع بتشديد اللام و فتحها و سكون الياء هاهنا و في ص و الباقون « و اليسع » بسكون اللام و فتح الياء .

الحجة

من أضاف درجات ذهب إلى أن المرفوعة هي الدرجات لمن يشاء و من نون ذهب إلى أن المرفوع صاحب الدرجات و يقوي قراءة من أضاف قوله تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض فمن فضل على غيره فقد رفعت درجته عليه و يدل على قراءة من نون قوله « و رفع بعضهم درجات » لأنه في ذكر الرسل فأما قوله « و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا » فإنه في الرتب و ارتفاع الأحوال في الدنيا و اتضاعها لأن قبله نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و أما من قرأ الليسع باللام فإن هذه اللام
مجمع البيان ج : 4 ص : 508
زائدة قال أبو علي اعلم أن لام المعرفة يدخل الأسماء على ضربين ( أحدهما ) للتعريف و الآخر زيادة زيدت كما تزاد الحروف و التعريف على ضروب منها أن يكون إشارة إلى معهود بينك و بين المخاطب نحو الرجل إذا أردت به رجلا عرفتماه بعهد كان بينكما ( و الآخر ) أن يكون إشارة إلى ما في نفوس الناس من علمهم للجنس فهذا الضرب و إن كان معرفة كالأول فهو مخالف له من حيث كان الأول قد علمه حسا و هذا لم يعلمه كذلك إنما يعلمه معقولا و أما نحو مررت بهذا الرجل فإنما أشير به إلى الشاهد الحاضر لا إلى غائب معلوم بعهد أ لا ترى أنك تقول ذلك فيما لا عهد بينك فيه و بين مخاطبك و يدلك على ذلك قولك في النداء يا أيها الرجل فتشير به إلى المخاطب الحاضر فأما نحو العباس و الحارث و الحسن فإنما دخلت الألف و اللام فيها على تنزيل أنها صفات جارية على موصوفين و هذا ، يعني الخليل بقوله جعلوه الشيء بعينه فإذا لم ينزل هذا التنزيل لم يلحقوها الألف و اللام فقالوا حارث و عباس و على كلا المذهبين جاء ذلك في كلامهم قال الفرزدق :
يقعدهم أعراق حذيم بعد ما
رجا الهتم إدراك العلى و المكارم و قال :
ثلاث مئين للملوك وفى بها
ردائي و جلت عن وجوه الأهاتم فجعله مرة اسما بمنزلة أضحاة و أضاح و مرة صفة بمنزلة أحمر و حمر و جمع الأعشى بين الأمرين في قوله :
أتاني وعيد الحوص من آل جعفر
فيا عبد عمرو لو نهيت الأحاوصا و أما قوله :
و التيم الأم من يمشي و ألأمهم
ذهل بن تيم بنو السود المدانيس فإنه يحتمل أمرين يجوز أن يكون بمنزلة العباس لأن التيم مصدر و المصادر قد أجريت مجرى
مجمع البيان ج : 4 ص : 509
أسماء الفاعلين فوصف بها كما وصف بأسماء الفاعلين و جمع جمعها في نحو نور و أنوار و سيل و سوائل و على هذا قالوا الفضل في اسم رجل كأنهم جعلوه الشيء الذي هو خلاف النقص و الآخر أن يكون تيمي و تيم كزنجي و زنج فأما الألف و اللام في الليسع فلا يخلو أن تكون زائدة أو غير زائدة فإن كانت غير زائدة فلا يخلو أن يكون على حد الرجل إذا أردت به المعهود أو الجنس نحو إن الإنسان لفي خسر أو على دخولهما في العباس فلا يجوز أن يكون على واحد من ذلك فثبت أنه زيادة و مما جاءت اللام فيه زائدة ما أنشده أحمد بن يحيى :
يا ليت أم العمرو كانت صاحبي
مكان من أنشأ على الركائب و مما جاءت الألف و اللام فيه زائدة الخمسة العشر درهما حكاه أبو الحسن الأخفش أ لا ترى أنهما اسم واحد و لا يجوز أن يعرف اسم واحد بتعريفين كما لا يجوز أن يتعرف بعض الاسم دون بعض و ذهب أبو الحسن إلى أن اللام في اللات زائدة لأن اللات معرفة فأما العزى فبمنزلة العباس و قياس قول أبي الحسن هذا أن يكون اللام في اليسع أيضا زائدة لأنه علم مثل اللات و ليس صفة و مما جاءت اللام فيه زائدة قول الشاعر :
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا
شديدا بأعباء الخلافة كاهله فأما من قال الليسع فإنه يكون اللام على حد ما في الحرث أ لا ترى أنه على وزن الصفات إلا أنه و إن كان كذلك فليس له مزية على القول الآخر أ لا ترى أنه لم يجيء في الأسماء الأعجمية المنقولة في حال التعريف نحو إسماعيل و إسحاق شيء على هذا النحو كما لم يجيء فيها شيء فيه لام التعريف فإذا كان كذلك كان الليسع بمنزلة اليسع في أنه خارج عما عليه الأسماء الأعجمية المختصة المعربة .

الإعراب

« و تلك حجتنا » تلك مبتدأ و حجتنا خبره و الظاهر أن قوله « على قومه » من صلة حجتنا أي و تلك حجتنا على قومه و إذا جعلت « آتيناها » من صفة حجتنا كان فصلا بين الصلة و الموصول و ذلك لا يجوز فينبغي أن يكون متعلقا بمحذوف هذا الظاهر تفسير له كذا نقل عن أبي علي الجبائي .

مجمع البيان ج : 4 ص : 510

المعنى

ثم بين سبحانه أن الحجج التي ذكرها إبراهيم (عليه السلام) لقومه آتاه إياها و أعطاها إياه بمعنى أنه هداه لها و أنه احتج بها بأمره فقال « و تلك حجتنا » أي أدلتنا « آتيناها » أي أعطيناها « إبراهيم » و أخطرناها بباله و جعلناها حججا « على قومه » من الكفار حتى تمكن من إيرادها عليهم عند المحاجة « نرفع درجات من نشاء » من المؤمنين الذين يصدقون الله و رسوله و يطيعونه و نفضل بعضهم على بعض بحسب أحوالهم في الإيمان و اليقين « إن ربك حكيم عليم » يجعل التفاوت بينهم على ما توجبه حكمته و يقتضيه علمه و قيل معناه نرفع درجات من نشاء على الخلق بالاصطفاء للرسالة « و وهبنا له » أي لإبراهيم « إسحاق » و هو ابنه من سارة « و يعقوب » ابن إسحاق « كلا هدينا » أي كل الثلاثة فضلنا بالنبوة كما قال سبحانه « و وجدك ضالا فهدى » أي ذاهبا عن النبوة فهداك إليها و قيل معناه كلا هدينا بنيل الثواب و الكرامات عن الجبائي من الله سبحانه على إبراهيم بأن رزقه الولد و ولد الولد فإن من أفضل النعم على العبد أن يرزقه الله ولدا يدعو له بعد موته فكيف إذا رزق الولد و ولد الولد و هما نبيان مرسلان « و نوحا هدينا من قبل » أي من قبل هؤلاء « و من ذريته » أي من ذرية نوح لأنه أقرب المذكورين إليه و لأن فيمن عددهم من ليس من ذرية إبراهيم و هو لوط و إلياس و قيل أرادوا من ذرية إبراهيم « داود » و هو داود بن أيشا « و سليمان » ابنه « و أيوب » و هو أيوب بن أموص بن رازج بن روم بن عيصا بن إسحاق ابن إبراهيم « و يوسف » بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم « و موسى » بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب « و هارون » أخاه و كان أكبر منه بسنة « و كذلك نجزي المحسنين » بنيل الثواب و الكرامات و قيل المراد به كما تفضلنا على هؤلاء الأنبياء بالنبوة فكذلك نتفضل على المحسنين بنيل الثواب و الكرامات « و زكريا » و هو زكريا بن أذن بن بركيا « و يحيى » و هو ابنه « و عيسى » و هو ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا « و إلياس » و اختلف فيه فقيل أنه إدريس كما قيل ليعقوب إسرائيل عن عبد الله بن مسعود و قيل هو إلياس بن بستر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي الله عن ابن إسحاق و قيل هو الخضر عن كعب « كل من الصالحين » أي من الأنبياء و المرسلين « و إسماعيل » و هو ابن إبراهيم « و اليسع » بن أخطوب بن العجوز « و يونس » بن متى « و لوطا » و هو لوط بن هارون بن أخي إبراهيم و قيل هو ابن أخته « و كلا » أي و كل واحد منهم « فضلنا على العالمين » أي عالمي زمانه و من قال أن الهاء في قوله « و من ذريته » كناية عن إبراهيم قال أنه سمى ذريته إلى قوله « و كذلك نجزي
مجمع البيان ج : 4 ص : 511
المحسنين » ثم عطف قوله « و زكريا و يحيى » على قوله « و نوحا هدينا » و لا يمتنع أيضا أن يكون غلب الأكثر الذين هم من نسل إبراهيم على أن الرواية التي جاءت عن ابن مسعود أن إلياس إدريس هو جد نوح إذا لم تضعف قول من قال إن الهاء كناية عن نوح فكذلك إذا لم يكن لوط من ذرية إبراهيم لم يضعف قول من قال إن الهاء كناية عن إبراهيم و قال الزجاج يجوز أن يكون من ذريته من ذرية نوح و يجوز أن يكون من ذرية إبراهيم لأن ذكرهما جميعا قد جرى و أسماء الأنبياء التي جاءت بعد قوله « و نوحا » نسق على نوح و إذا جعل الله سبحانه عيسى من ذرية إبراهيم (عليه السلام) أو نوح ففي ذلك دلالة واضحة و حجة قاطعة على أن أولاد الحسن و الحسين (عليهماالسلام) ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على الإطلاق و إنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قد صح في الحديث أنه قال لهما (عليهماالسلام) ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا و قال للحسن (عليه السلام) أن ابني هذا سيد و إن الصحابة كانت تقول لكل منهما و من أولادهما يا ابن رسول الله « و من آبائهم » يعني و من آباء هؤلاء الأنبياء « و ذرياتهم و إخوانهم » جماعة فضلناهم و قال الزجاج معناه هدينا هؤلاء و هدينا بعض آبائهم و إخوانهم « و اجتبيناهم » أي اصطفيناهم و اخترناهم للرسالة و هو مأخوذ من جبيت الماء في الحوض إذا جمعته « و هديناهم » أي سددناهم و أرشدناهم فاهتدوا « إلى صراط مستقيم » أي طريق بين لا اعوجاج فيه و هو الدين الحق .
ذَلِك هُدَى اللَّهِ يهْدِى بِهِ مَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ لَوْ أَشرَكُوا لَحَبِط عَنْهُم مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ(88) أُولَئك الَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَب وَ الحُْكمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكلْنَا بهَا قَوْماً لَّيْسوا بهَا بِكَفِرِينَ(89) أُولَئك الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لا أَسئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَلَمِينَ(90)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده اقتده بكسر الهاء مشبعة و الباقون « اقتده » ساكنة الهاء إلا
مجمع البيان ج : 4 ص : 512
أن حمزة و الكسائي و يعقوب و خلفا يحذفون الهاء في الوصل و يثبتونها في الوقف و الباقون يثبتونها في الوصل و الوقف .

الحجة

قال أبو علي الوجه الوقوف على الهاء لاجتماع الجمهور على إثباته و لا ينبغي أن يوصل و الهاء ثابتة لأن هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء في أن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن فكما لا تثبت الهمزة في الوصل كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء و وجه قراءة ابن عامر أن يجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق الوقف و حسن إضماره لذكر الفعل الدال عليه و مثل ذلك قول الشاعر :
فجال على وحشييه و تخاله
على ظهره سبا جديدا يمانيا كأنه قال و تخال خيلا على ظهره سبا فعلى متعلق بمحذوف و التقدير ثابتا على ظهره و مثله قول الشاعر :
هذا سراقة للقرآن يدرسه
و المرء عند الرشى إن يلقها ذيب فالهاء كناية عن المصدر و دل يدرسه على الدرس و لا يجوز أن يكون ضمير القرآن لأن الفعل قد تعدى إليه باللام فلا يجوز أن يتعدى إليه و إلى ضميره .

المعنى

ثم بين سبحانه إكرامه لأنبيائه (عليهم السلام) ثم أمر من بعد بالاقتداء بهم فقال « ذلك » و هو إشارة إلى ما تقدم ذكره من التفضيل و الاجتباء و الهداية و الاصطفاء « هدى الله يهدي به من يشاء من عباده » ممن لم يسمهم في هذه الآيات و الهداية هنا هي الإرشاد إلى الثواب دون الهداية التي هي نصب الأدلة أ لا ترى إلى قوله « و كذلك نجزي المحسنين » و ذلك لا يليق إلا بالثواب الذي يختص المحسنين دون الدلالة التي يشترك بها المؤمن و الكافر و قوله « و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون » يدل أيضا على ذلك
مجمع البيان ج : 4 ص : 513
و معناه أنهم لو أشركوا لبطلت أعمالهم التي كانوا يوقعونها على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب لتوجيهها إلى غير الله تعالى و ليس في ذلك دلالة على أن الثواب الذي استحقوه على طاعتهم المتقدمة يحبط إذ ليس في ظاهر الآية ما يقتضي ذلك على أنا قد علمنا بالدليل أن المشرك لا يكون له ثواب أصلا و اجتمعت الأمة على ذلك « أولئك » يعني به من تقدم ذكرهم من الأنبياء « الذين آتيناهم » أي أعطيناهم « الكتاب » أراد الكتب و وحد لأنه عنى به الجنس « و الحكم » معناه و الحكم بين الناس و قيل الحكمة « و النبوة » أي الرسالة « فإن يكفر بها » أي بالكتاب و الحكم و بالنبوة و « هؤلاء » يعني الكفار الذين جحدوا نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك الوقت « فقد وكلنا بها » أي بمراعاة أمر النبوة و تعظيمها و الأخذ بهدى الأنبياء « قوما ليسوا بها بكافرين » و اختلف في المعنيين بذلك فقيل عنى به الأنبياء الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل وقت مبعثه عن الحسن و اختاره الزجاج و الطبري و الجبائي و قيل عنى به الملائكة عن أبي رجاء العطاردي و قيل عنى به من آمن من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في وقت مبعثه و قيل عنى بقوله « فإن يكفر بها » كفار قريش و بقوله « قوما ليسوا بها بكافرين » أهل المدينة عن الضحاك و اختاره الفراء و إنما قال « وكلنا بها » و لم يقل فقد قام بها قوم تشريفا لهم بالإضافة إلى نفسه و قيل معناه فقد ألزمناها قوما فقاموا بها و في هذا ضمان من الله تعالى أن ينصر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) و يحفظ دينه « أولئك الذين هدى الله » أي هداهم الله إلى الصبر « فبهداهم اقتده » معناه اقتد بهم في الصبر على أذى قومك و اصبر كما صبروا حتى تستحق من الثواب ما استحقوه و قيل معناه أولئك الذين قبلوا هدى الله و اهتدوا بلطف الله الذي فعله بهم فاقتد بطريقتهم في التوحيد و الأدلة و تبليغ الرسالة و الإشارة بأولئك إلى الأنبياء الذين تقدم ذكرهم عن ابن عباس و السدي و ابن زيد و قيل إلى المؤمنين الموكلين بحفظ دين الله لأنه في ذكرهم عن الحسن و قتادة و على هذا فلم يتكرر لفظ الهداية و في القول الأول أعاد ذكر الهداية لطول الكلام و يكون معنى قوله « فبهداهم اقتده » اقتد بصبر أيوب و سخاء إبراهيم و صلابة موسى و زهد عيسى ثم فسر بعض ما يقتدى بهم فيه بقوله « قل » يا محمد « لا أسألكم عليه أجرا » أي لا أطلب منكم على تبليغ الوحي و أداء الرسالة جعلا كما لم يسأل ذلك الأنبياء قبلي فإن أخذ الأجر عليه ينفر الناس عن القبول « إن هو » أي ما هو « إلا ذكرى » أي تذكيرا « للعالمين » بما يلزمهم إتيانه و اجتنابه و في هذه الآية دلالة على أنه لا يخلو كل زمان من حافظ للدين إما نبي أو إمام لقوله « فقد وكلنا بها قوما » و أسند
مجمع البيان ج : 4 ص : 514
التوكيل إلى نفسه و قد استدل قوم بالآية على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم إلا ما قام الدليل على نسخه و هذا لا يصح لأن الآية قد وردت فيما اتفقوا عليه على ما تقدم ذكره و ذلك لا يليق إلا بالتوحيد و مكارم الأخلاق فأما الشرائع فإنها تختلف فلا يصح الاقتداء بجميع الأنبياء فيها و تدل الآية على أن نبينا مبعوث إلى كافة العالمين و إن النبوة مختومة به و لذلك قال « إن هو إلا ذكرى للعالمين » .
وَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلى بَشر مِّن شىْء قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَب الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدًى لِّلنَّاسِ تجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس تُبْدُونهَا وَ تخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَ لا ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو يجعلونه قراطيس يبدونها و يخفون بالياء فيها و الباقون بالتاء في الجميع .

الحجة

من قرأ بالياء فلأن ما قبله « ما قدروا الله » على الغيبة و من قرأ بالتاء فعلى الخطاب من قوله « قل من أنزل الكتاب » و قوله ( فيما بعد ) « و علمتم ما لم تعلموا » .

الإعراب

« حق قدره » منصوب على المصدر « تبدونها و تخفون كثيرا » يجوز أن يكون صفة لقراطيس لأن النكرات توصف بالجمل و يجوز أن يكون حالا من ضمير الكتاب في « تجعلونه » على أن تجعل القراطيس الكتاب في المعنى لأنه مكتوب فيها و إنما رفع قوله « يلعبون » لأنه لم يجعله جوابا لقوله « ذرهم » و لو جعله جوابا لجزمه كما قال سبحانه « ذرهم يأكلوا » و موضع « يلعبون » نصب على الحال و التقدير ذرهم لاعبين في خوضهم .

النزول

جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الضيف يخاصم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أ ما تجد في التوراة إن الله سبحانه يبغض
مجمع البيان ج : 4 ص : 515
الحبر السمين و كان سمينا فغضب و قال ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه ويحك و لا موسى فنزلت الآية عن سعيد بن جبير و قيل إن الرجل كان فنحاص بن عازورا و هو قائل هذه المقالة عن السدي و قيل أن اليهود قالت يا محمد أنزل الله عليك كتابا قال نعم قالوا و الله ما أنزل الله من السماء كتابا فنزلت الآية عن ابن عباس و في رواية أخرى عنه أنها نزلت في الكفار أنكروا قدرة الله عليهم فمن أقر أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره و قيل نزلت في مشركي قريش عن مجاهد .

المعنى

لما تقدم ذكر الأنبياء و النبوة عقبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوة فقال « و ما قدروا الله حق قدره » أي ما عرفوا الله حق معرفته و ما عظموه حق عظمته و ما وصفوه بما هو أهل أن يوصف به « إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء » أي ما أرسل الله رسولا و لم ينزل على بشر شيئا مع أن المصلحة و الحكمة تقتضيان ذلك و المعجزات الباهرة تدل على بعثة كثير منهم ثم أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « قل » يا محمد لهم « من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى » يعني التوراة و إنما احتج بذلك عليهم لأن القائل لذلك من اليهود و من قال أن المعني بالآية مشركو العرب قال احتج عليهم بالأمر الظاهر ثم بين أن منزلة محمد في ذلك كمنزلة موسى « نورا » أي يستضاء به في الدين كما يستضاء بالنور في الدنيا « و هدى للناس » أي دلالة يهتدون به « تجعلونه قراطيس » أي كتبا و صحفا متفرقة و قال أبو علي الفارسي معناه تجعلونه ذا قراطيس أي تودعونه إياها « تبدونها و تخفون كثيرا » أي تبدون بعضها و تكتمون بعضها و هو ما في الكتب من صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الإشارة إليه و البشارة به « و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم » قيل إنه خطاب للمسلمين يذكرهم ما أنعم به عليهم عن مجاهد و قيل هو خطاب لليهود أي علمتم التوراة فضيعتموه و لم تنتفعوا به و قيل معناه علمتم بالقرآن ما لم تعلموا عن الحسن « قل » يا محمد « الله » أي الله أنزل ذلك و هذا كما إن الإنسان إذا أراد البيان و الاحتجاج بما يعلم أن الخصم مقر به و لا يستطيع دفعه ذكر ذلك ثم تولى الجواب عنه بما قد علم أنه لا جواب له غيره « ثم ذرهم في خوضهم يلعبون » أي دعهم و ما يختارونه من العناد و ما خاضوا فيه من الباطل و اللعب و ليس هذا على إباحة ترك الدعاء و الإنذار بل على ضرب من التوعد و التهدد كأنه قال دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم .

مجمع البيان ج : 4 ص : 516
وَ هَذَا كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ مُّصدِّقُ الَّذِى بَينَ يَدَيْهِ وَ لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَ مَنْ حَوْلهََا وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صلاتهِمْ يحَافِظونَ(92)

القراءة

قرأ أبو بكر عن عاصم لينذر بالياء و الباقون بالتاء .

الحجة

من قرأ بالتاء يؤيد قراءة قوله « و أنذر به الذين يخافون » و « إنما أنت منذر من يخشاها » و من قرأ بالياء جعل المنذر هو الكتاب و يؤيده قوله و لينذروا به و إنما أنذركم بالوحي فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على وجه التوسع .

الإعراب


« أنزلناه » جملة مرفوعة الموضع صفة لكتاب و مبارك أيضا صفة له .

المعنى


لما احتج سبحانه بإنزال التوراة على موسى (عليه السلام) بين أن سبيل القرآن سبيلها فقال « و هذا كتاب » يعني القرآن « أنزلناه » من السماء إلى الأرض لأن جبرائيل (عليه السلام) أتى به من السماء « مبارك » و إنما سماه مباركا لأنه ممدوح مستسعد به فكل من تمسك به نال الفوز عن أبي مسلم و قيل إن البركة ثبوت الخير على النماء و الزيادة و منه تبارك الله أي ثبت له ما يستحق به التعظيم لم يزل و لا يزال فالقرآن مبارك لأن قراءته خير و العمل به خير و فيه علم الأولين و الآخرين و فيه مغفرة للذنوب و فيه الحلال و الحرام و قيل البركة الزيادة فالقرآن مبارك لما فيه من زيادة البيان على ما في الكتب المتقدمة لأنه ناسخ لا يرد عليه نسخ لبقائه إلى آخر التكليف « مصدق الذي بين يديه » من الكتب كالتوراة و الإنجيل و غيرهما عن الحسن و تصديقه للكتب على وجهين ( أحدهما ) أنه يشهد بأنها حق ( و الثاني ) أنه ورد بالصفة التي نطقت بها الكتب المتقدمة « و لتنذر أم القرى و من حولها » يعني بأم القرى مكة و من حولها أهل الأرض كلهم عن ابن عباس و هو من باب حذف المضاف يريد لتنذر أهل أم القرى و إنما سميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها فكان الأرض نشأت منها و قيل لأن أول بيت وضع في الدنيا وضع بمكة فكان القرى تنشأت
مجمع البيان ج : 4 ص : 517

منها عن السدي و قيل لأن على جميع الناس أن يستقبلوها و يعظموها لأنها قبلتهم كما يجب تعظيم الأم عن الزجاج و الجبائي « و الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به » أي بالقرآن و يحتمل أن يكون كناية عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لدلالة الكلام عليه « و هم على صلاتهم » أي على أوقات صلواتهم « يحافظون » أي يراعونها ليؤدوها فيها و يقوموا بإتمام ركوعها و سجودها و جميع أركانها و في هذا دلالة على أن المؤمن لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجبه الله دون بعض و فيها دلالة على عظم قدر الصلاة و منزلتها لأنه سبحانه خصها بالذكر من بين الفرائض و نبه على أن من كان مصدقا بالقيامة و بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يخل بها و لا يتركها .
وَ مَنْ أَظلَمُ مِمَّنِ افْترَى عَلى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلىَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شىْءٌ وَ مَن قَالَ سأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظلِمُونَ فى غَمَرَتِ المَْوْتِ وَ الْمَلَئكَةُ بَاسِطوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسكمُ الْيَوْمَ تجْزَوْنَ عَذَاب الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلى اللَّهِ غَيرَ الحَْقِّ وَ كُنتُمْ عَنْ ءَايَتِهِ تَستَكْبرُونَ(93)

اللغة


أصل الافتراء القطع من فريت الأديم أفريه فريا فكان الافتراء هو القطع على خبر لا حقيقة له و الفترة الغشية و غمرة كل شيء معظمه و غمرات الموت شدائده قال الشاعر :
الغمرات ثم ينجلينا
و ثم يذهبن فلا يجينا و أصله الشيء يغمر الأشياء فيغطيها و الهون بضم الهاء الهوان قال ذو الإصبع العدواني :
مجمع البيان ج : 4 ص : 518


اذهب إليك فما أمي براعية
ترعى المخاض و لا أغضي على الهون و الهون بفتح الهاء الدعة و الرفق و منه يمشون على الأرض هونا قال :
هونا كما لا يرد الدهر ما فاتا
لا تهلكا أسفا في إثر من ماتا .

الإعراب


« من قال سأنزل » في موضع الجر على العطف كأنه قال و من أظلم ممن قال ذلك و جواب لو من قوله « و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت » محذوف أي لرأيت عذابا عظيما .

النزول


اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فقيل نزلت في مسيلمة حيث ادعى النبوة إلى قوله « و لم يوح إليه شيء » و قوله « سأنزل مثل ما أنزل الله » في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فكان إذا قال له اكتب عليما حكيما كتب غفورا رحيما و إذا قال له اكتب غفورا رحيما كتب عليما حكيما و ارتد و لحق بمكة و قال إني أنزل مثل ما أنزل الله عن عكرمة و ابن عباس و مجاهد و السدي و إليه ذهب الفراء و الزجاج و الجبائي و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و قال قوم نزلت في ابن أبي سرح خاصة و قال قوم نزلت في مسيلمة خاصة .

المعنى


لما تقدم ذكر نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إنزال الكتاب عليه عقبه سبحانه بذكر تهجين الكفار الذين كذبوه أو ادعوا أنهم يأتون بمثل ما أتى به فقال « و من أظلم ممن افترى على الله كذبا » هذا استفهام في معنى الإنكار أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فادعى أنه نبي و ليس بنبي « أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء » أي يدعي الوحي و لا يأتيه و لا يجوز في حكمة الله سبحانه أن يبعث كذابا و هذا و إن كان داخلا في الافتراء فإنما أفرد بالذكر تعظيما « و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله » قال الزجاج هذا جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا فادعوا ثم لم يفعلوا و بذلوا النفوس و الأموال و استعملوا سائر الحيل في إطفاء نور الله و أبى الله ألا أن يتم نوره و قيل المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح أملى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ذات يوم و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى قوله « ثم أنشأناه خلقا آخر » فجرى على لسان ابن أبي سرح فتبارك الله أحسن الخالقين فأملأه عليه و قال هكذا أنزل فارتد عدو الله
مجمع البيان ج : 4 ص : 519

و قال لئن كان محمد صادقا فلقد أوحي إلي كما أوحي إليه و لئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال و ارتد عن الإسلام و هدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) دمه فلما كان يوم الفتح جاء به عثمان و قد أخذ بيده و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في المسجد فقال يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) ثم أعاد فسكت ثم أعاد فسكت فقال هو لك فلما مر قال رسول الله لأصحابه أ لم أقل من رآه فليقتله فقال عباد بن بشر كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) الأنبياء لا يقتلون بالإشارة ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء فقال « و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت » أي في شدائد الموت عند النزع و قيل في أشد العذاب في النار « و الملائكة » الذين يقبضون الأرواح و قيل يريد ملائكة العذاب « باسطوا أيديهم » لقبض أرواحهم و قيل يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب يضربون وجوههم و أدبارهم « أخرجوا أنفسكم » أي يقولون أخرجوا أنفسكم من سكرات الموت إن استطعتم و صدقتم فيما قلتم و ادعيتم و قيل أخرجوا أنفسكم من أجسادكم عند معاينة الموت إرهاقا لهم و تغليظا عليهم و إن كان إخراجها من فعل غيرهم و قيل على التأويل الأول يقولون لهم يوم القيامة أخرجوا أنفسكم من عذاب النار إن استطعتم أي خلصوها منه « اليوم تجزون عذاب الهون » أي عذابا تلقون فيه الهوان « بما كنتم تقولون على الله غير الحق » أي في الدنيا « و كنتم عن آياته تستكبرون » أي تأنفون من اتباع آياته .
وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَدَى كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَ تَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَكُمْ وَرَاءَ ظهُورِكمْ وَ مَا نَرَى مَعَكُمْ شفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنهُمْ فِيكُمْ شرَكَؤُا لَقَد تَّقَطعَ بَيْنَكُمْ وَ ضلَّ عَنكم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)

القراءة


قرأ أهل المدينة و الكسائي و حفص « بينكم » بالنصب و الباقون بالرفع .

الحجة


قال أبو علي استعمل هذا الاسم على ضربين ( أحدهما ) أن يكون اسما متصرفا كالافتراق ( و الآخر ) أن يكون ظرفا و المرفوع في قراءة من قرأ لقد تقطع بينكم هو الذي كان ظرفا ثم استعمل اسما و الدليل على جواز كونه اسما قوله و من بيننا و بينك حجاب
مجمع البيان ج : 4 ص : 520
و هذا فراق بيني و بينك فلما استعمل اسما في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو تقطع في قول من رفع و الذي يدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا أنه لا يخلو من أن يكون الذي كان ظرفا اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر فلا يجوز أن يكون المصدر لأن تقديره يكون لقد تقطع افتراقكم و هذا خلاف المعنى المراد لأن المراد لقد تقطع وصلكم و ما كنتم تتألفون عليه فإن قلت كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل و أصله الافتراق و التمايز قيل إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو بيني و بينه شركة و بيني و بينه رحم و صداقة صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمنزلة الوصلة و على خلاف الفرقة فلهذا قد جاء لقد تقطع بينكم بمعنى تقطع وصلكم فأما من نصب « بينكم » ففيه مذهبان ( أحدهما ) أنه أضمر الفاعل في الفعل و دل عليه ما تقدم من قوله « و ما نرى معكم شفعاءكم » لأن هذا يدل على التقاطع و ذلك المضمر هو الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم بينكم و قد حكى سيبويه أنهم قالوا إذا كان غدا فأتني و أضمر ما كانوا فيه من رخاء و بلاء لدلالة الحال عليه و المذهب الآخر أنه انتصب على شيء يراه أبو الحسن فإنه يذهب إلى أن معناه معنى المرفوع فلما جرى في كلامهم منصوبا ظرفا تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام و كذلك يقول في قوله يوم القيامة يفصل بينكم و قوله و أنا منا الصالحون و منا دون ذلك و دون في موضع رفع عنده و إن كان منصوب اللفظ كما يقال منا الصالح و منا الطالح .

اللغة


فرادى جمع فرد و فريد و فرد و العرب تقول فرادى و فراد فلا يصرفونها تشبيها بثلاث و رباع قال الشاعر :
ترى النعرات البيض تحت لبانه
فراد و مثنى أصعقتها صواهله و قال النابغة :
من وحش وجرة موشي أكارعه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد و مثل الفرادى الردافى و القرابى و التخويل الإعطاء و أصله تمليك الخول كما أن
مجمع البيان ج : 4 ص : 521
التمويل هو تمليك الأموال و خوله الله أعطاه مالا و فلان خولي مال و خال مال و خائل مال إذ كان يصلح المال و هم خول فلان أي أتباعه الواحد خائل و الزعم قد يكون حقا و قد يكون باطلا قال الشاعر :
يقول هلكنا إن هلكت و إنما
على الله أرزاق العباد كما زعم و البين مصدر بأن يبين إذا فارق قال الشاعر :
بأن الخليط برامتين فودعوا
أو كلما ظعنوا لبين تجزع قال أبو زيد بأن الحي بينونة و بينا إذا ظعنوا و تباينوا أي تفرقوا بعد أن كانوا جميعا .

الإعراب


« فرادى » نصب على الحال و « ما خولناكم » موصول و صلة في موضع نصب بأنه مفعول « تركتم » .

النزول


نزلت في النضر بن الحرث بن كلدة حين قال سوف يشفع لي اللات و العزى عن عكرمة .

المعنى


ثم بين سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ فقال « و لقد جئتمونا » قيل هذا من كلام الله تعالى يخاطب به عباده إما عند الموت أو عند البعث و قيل هو من كلام الملائكة يؤدونه عن الله إلى الذين يقبضون أرواحهم « فرادى » أي وحدانا لا مال لكم و لا خول و لا ولد و لا حشم عن الجبائي و قيل واحدا واحدا على حدة عن الحسن و قيل كل واحد منهم منفردا من شريكه في الغي و شقيقه عن الزجاج « كما خلقناكم أول مرة » أي كما خلقناكم في بطون أمهاتكم فلا ناصر لكم و لا معين عن الجبائي و قيل معناه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال تحشرون حفاة عراة غرلا و الغرل هم القلف و روي أن عائشة قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حين سمعت ذلك وا سوأتاه أ ينظر بعضهم إلى سوأة بعض من الرجال و النساء فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه و يشغل بعضهم عن بعض و قال الزجاج معناه كما بدأناكم أول مرة أي يكون بعثكم كخلقكم « و تركتم ما خولناكم » معناه ملكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به من الأموال « وراء ظهوركم » أي خلف ظهوركم في الدنيا و المراد
مجمع البيان ج : 4 ص : 522

تركتم الأموال و حملتم من الذنوب الأحمال و استمتع غيركم بما خلفتم و حوسبتم عليه فيا لها من حسرة « و ما نرى معكم شفعاءكم » أي ليس معكم من كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم عند الله يوم القيامة و هي الأصنام « الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء » معناه زعمتم أنهم شركاؤنا فيكم و شفعاؤكم يريد و ما نفعكم عبادة الأوثان التي كنتم تقولون إنها فيكم شركاء و إنها تشفع لكم عند الله تعالى و هذا عام في كل من عبد غير الله و اعتمد غيره يرجو خيره و يخاف ضيره في مخالفة الله تعالى « لقد تقطع بينكم » أي وصلكم و جمعكم و من قرأ بالنصب فمعناه لقد تقطع الأمر بينكم أو تقطع وصلكم بينكم « و ضل عنكم ما كنتم تزعمون » أي ضاع و تلاشي و لا تدرون أين ذهب من جعلتم شفعاءكم من آلهتكم و لم تنفعكم عبادتها و قيل معناه ما تزعمون من عدم البعث و الجزاء قد حث الله سبحانه في هذه الآية على اقتناء الطاعات التي بها ينال الفوز و تدرك النجاة دون اقتناء المال الذي لا شك في تركه و عدم الانتفاع به بعد الممات .
* إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَْب وَ النَّوَى يخْرِجُ الحَْىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنى تُؤْفَكُونَ(95) فَالِقُ الاصبَاح وَ جَعَلَ الَّيْلَ سكَناً وَ الشمْس وَ الْقَمَرَ حُسبَاناً ذَلِك تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)

القراءة


قرأ أهل الكوفة « و جعل الليل سكنا » و الباقون و جاعل بالألف و الرفع الليل بالجر .

الحجة


وجه قول من قرأ و جاعل الليل أن قبله اسم فاعل و هو « فالق الحب » و « فالق الإصباح » ليكون فاعل المعطوف مثل فاعل المعطوف عليه أ لا ترى أن حكم الاسم أن يعطف على اسم مثله لأن الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم و يقوي ذلك قولهم :
للبس عباءة و تقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
مجمع البيان ج : 4 ص : 523
فنصب و تقر ليكون في تقدير اسم بإضمار أن فيكون قد عطف اسما على اسم و قوله :
و لو لا رجال من رزام و مازن
و آل سبيع أو أسوك علقما و من قرأ أو جعل فلأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي فلما كان فاعل بمعنى فعل عطف عليه فعل لموافقته في المعنى و يدلك على أنه بمنزلة فعل أنه نزل منزلته فيما عطف عليه و هو قوله « و الشمس و القمر حسبانا » أ لا ترى أنه لما كان المعنى فعل حمل المعطوف على ذلك فنصب الشمس و القمر على فعل لما كان فاعل كفعل و يقوي ذلك قولهم هذا معطي زيد درهما أمس فالدرهم محمول على أعطى لأن اسم الفاعل إذا كان لما مضى لم يعمل عمل الفعل فإذا كان معط بمنزلة أعطى كذلك جعل فالق بمنزلة فلق لأن اسم الفاعل لما مضى فعطف عليه فعل لما كان بمنزلته .

اللغة


الفلق الشق يقال فلقة فانفلق و الفلق الصبح لأن الظلام ينفلق عنه و الفلق المطمئن من الأرض كأنه منشق عنها و الحب جمع حبة و هو كل ما لا يكون له نوى كالبر و الشعير و النوى جمع نواة و الإصباح و الصبح واحد و هو مصدر أصبحنا إصباحا و قد روي عن الحسن أنه قرأ فالق الأصباح بالفتح يريد صبح كل يوم و ما قرأ به غيره و السكن الذي يسكن إليه و الحسبان جمع حساب مثل شهاب و شهبان و قيل هو مصدر حسبت الحساب أحسبه حسابا و حسبانا و حكي عن بعض العرب على الله حسبان فلان و حسبته أي حسابه و الحسبان بكسر الحاء جمع حسبانة و هي وسادة صغيرة و الحسبان و المحسبة مصدر حسبت فلانا عاقلا أحسبه و أحسبه .

الإعراب


النصب في « الشمس و القمر » مفعول فعل يدل عليه و قوله و جاعل الليل سكنا و تقديره و جعل الشمس و القمر حسبانا و حسبانا المفعول الثاني منه و لا يجوز و جاعل الليل سكنا لأن اسم الفاعل إذا كان واقعا لم يعمل عمل الفعل و أضيف إلى ما بعده لا غير تقول هذا ضارب زيد أمس لا غير .

المعنى


ثم عاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين بعجائب الصنع و لطائف التدبير فقال سبحانه « إن الله فالق الحب و النوى » أي شاق الحبة اليابسة الميتة فيخرج منها
 

<<        الفهرس        >>