جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>




مجمع البيان ج : 5 ص : 34

الإعراب

« عن يد » في موضع نصب على الحال أي نقدا كما يقال باعه يدا بيد .

النزول

قيل هذه الآية نزلت حين أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك عن مجاهد و قيل هي على العموم .

المعنى

ثم بين الله سبحانه أن من الكفار من يجوز تبقيته بالجزية فقال « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر » يعني الذين لا يعترفون بتوحيد الله و لا يقرون بالبعث و النشور و هذا يدل على صحة ما يذهب أصحابنا إليه من أنه لا يجوز أن يكون في جملة الكفار من هو عارف بالله و إن أقر باللسان و إنما يكونون معتقدين لذلك اعتقادا ليس بعلم لأنه صريح في أن أهل الكتاب الذين يؤخذ منهم الجزية لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر و من قال إنه يجوز أن يكونوا عارفين بالله قال إن الآية خرجت مخرج الذم لهم لأنهم بمنزلة من لا يقر به في عظم الجرم قال الجبائي لأنهم يضيفون إليه ما لا يليق به فكأنهم لا يعرفونه و إنما جمعت هذه الأوصاف لهم و لم يذكروا بالكفار من أهل الكتاب للتحريض على قتالهم لما هم عليه من صفات الذم التي توجب البراءة منهم و العداوة لهم « و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله » موسى و عيسى (عليهماالسلام) من كتمان نعت محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل يعني ما حرمه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و لا يدينون دين الحق » و قيل الحق هاهنا هو الله تعالى أي دين الله و العمل بما في التوراة من اتباع نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل الحق هو الله و دينه الإسلام عن قتادة و قيل معناه و لا يطيعون الله طاعة أهل الإسلام عن أبي عبيدة و قيل معناه لا يعترفون بالإسلام الذي هو الدين الحق « من الذين أوتوا الكتاب » وصف الذين ذكرهم بأنهم من أهل الكتاب و هم اليهود و النصارى و قال أصحابنا إن المجوس حكمهم حكم اليهود و النصارى « حتى يعطوا الجزية عن يد » أي نقدا من يده إلى يد من يدفعه إليه من غير نائب كما يقال كلمته فما بفم و قيل معناه عن قدرة لكم عليهم و قهر لهم كما يقال كان اليد لفلان و قيل يد لكم عليهم و نعمة تسدونها إليهم بقبول الجزية منهم « و هم صاغرون » أي ذليلون مقهورون يجرون إلى الموضع الذي يقبض منهم فيه بالعنف حتى يؤدوها و قيل هو أن يعطوا الجزية قائمين و الآخذ جالس عن عكرمة .

مجمع البيان ج : 5 ص : 35
وَ قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قَالَتِ النَّصرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِك قَوْلُهُم بِأَفْوَهِهِمْ يُضهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كفَرُوا مِن قَبْلُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَنى يُؤْفَكونَ(30) اتخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ مَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سبْحَنَهُ عَمَّا يُشرِكونَ(31)

القراءة

قرأ عاصم و الكسائي و يعقوب و سهل « عزير » منونا و الباقون عزير ابن الله بغير تنوين و قرأ عاصم وحده « يضاهئون » بالهمزة و قرأ الباقون يضاهون بغير الهمزة .

الحجة

قال أبو علي من نون عزيرا جعله مبتدأ و جعل ابنا خبره و إذا كان كذلك فلا بد من إثبات التنوين في حال السعة و الاختيار لأن عزيرا و نحوه ينصرف عجميا كان أو عربيا و أما من حذف التنوين فإنه حذفه على وجهين ( أحدهما ) أنه جعل الصفة و الموصوف بمنزلة اسم واحد كما جعلهما كذلك في قوله لا رجل ظريف و حذف التنوين و لم يحرك لالتقاء الساكنين كما يحرك في زيد العاقل لأن الساكنين كأنهما التقيا في تضاعيف كلمة واحدة فحذف الأول منهما و لم يحرك لكثرة الاستعمال و لا يجوز إثبات التنوين في هذا الباب إذا كان صفة و إن كان الأصل لأنهم جعلوا من الأصول المرفوضة كما أن إظهار الأول من المثلين في نحو ظنوا لا يجوز في الكلام فإذا كانا بمنزلة اسم مفرد و المفرد لا يكون جملة مستقلة بنفسها مفيدة في هذا النحو فلا بد من إضمار جزء آخر يقدر انضمامه إليه ليتم جملة و يجعله الظاهر إما مبتدأ أو خبر مبتدإ فيكون التقدير صاحبنا أو نسيبنا أو نبينا عزير ابن الله إن قدرت المضمر المبتدأ و إن قدرت بعكس ذلك جاز فهذا أحد الوجهين و الوجه الآخر أن لا تجعلهما اسما واحدا و لكن يجعل الأول من الاسمين المبتدأ و الآخر الخبر فيكون المعنى فيه على هذا كالمعنى في إثبات التنوين و تكون القراءتان متفقتين إلا أنك حذفت التنوين لالتقاء الساكنين و على هذا ما يروى من قراءة بعضهم أحد الله الصمد فحذف التنوين لالتقاء الساكنين و قد جاء ذلك في الشعر كثيرا قال الشاعر :
حميد الذي أمج داره
أخو الخمر ذو الشييبة الأصلع و قال :
و حاتم الطائي وهاب المثي فأما « يضاهئون » فقد قال الزجاج أصل المضاهاة
مجمع البيان ج : 5 ص : 36
المشابهة و الأكثر ترك الهمزة و اشتقاقه من قولهم امرأة ضهياء و هي التي لا ينبت لها ثدي و قيل هي التي لا تحيض و معناها أنها قد أشبهت الرجال في أنه لا ثدي لها و كذلك إذا لم تحض و ضهياء فعلاء الهمزة زائدة كما زيدت في شمال و غرقىء البيض و لا نعلم الهمزة زيدت غير أول إلا في هذه الأشياء و يجوز أن يكون فعيلا و إن كانت بنية ليس لها في الكلام نظير قال أبو علي ليس قوله « يضاهئون » من امرأة ضهياء لأن هذه الهمزة زائدة غير أصلية و ليس بفعيل لأنه لو كان إياه لكان مكسور الصدر و إنما أدخله في هذا ما رامه من اشتقاق « يضاهئون » و قد يجوز أن تجيء الكلمة من غير مشتقة و ذلك أكثر من أن يحصى .

اللغة

الحبر العالم الذي صنعته تحبير المعاني بحسن البيان عنها و هو الحبر و الحبر بفتح الحاء و كسرها و الرهبان جمع الراهب و هو الخاشي الذي يظهر عليه لباس الخشية و قد كثر استعماله على متنسكي النصارى .

المعنى

ثم حكى الله سبحانه عن اليهود و النصارى أقوالهم الشنيعة فقال « و قالت اليهود عزير ابن الله » و قال ابن عباس القائل لذلك جماعة منهم جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) منهم سلام بن مشكم و نعمان بن أوفى و شاس بن قيس و مالك بن الضيف فقالوا ذلك قيل و إنما قال ذلك جماعة منهم من قبل و قد انقرضوا و إن عزيرا أملى التوراة من ظهر قلبه و قد علمه جبرائيل (عليه السلام) فقالوا أنه ابن الله إلا أن الله تعالى أضاف ذلك إلى جميعهم و إن كانوا لا يقولون ذلك اليوم كما يقال إن الخوارج يقولون بتعذيب أطفال المشركين و إنما يقوله الأزارقة منهم خاصة و يدل على أن هذا مذهب اليهود أنهم لم ينكروا ذلك لما سمعوا هذه الآية مع شدة حرصهم على تكذيب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم » معناه أنهم اخترعوا ذلك القول بأفواههم لم يأتهم به كتاب و لا رسول و ليس عليه حجة و لا برهان و لا له صحة و قيل إنه لم يذكر القول مقرونا بالأفواه إلا إذا كان ذلك القول زورا كقوله يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم « يضاهئون » يشابهون عن ابن عباس و قيل يوافقون عن الحسن « قول الذين كفروا » يعني عباد الأوثان في عبادتهم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى عن ابن عباس و مجاهد و الفراء و قيل في عبادتهم الملائكة و قولهم إنهم بنات الله « من قبل » أي ضاهت النصارى قول اليهود من قبل فقالت النصارى المسيح ابن الله كما قالت اليهود عزير ابن الله عن قتادة و السدي و قيل شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم
مجمع البيان ج : 5 ص : 37
الكافرة عن الحسن « قاتلهم الله » أي لعنهم الله عن ابن عباس قال ابن الأنباري المقاتلة أصلها من القتل فإذا أخبر عن الله بها كانت بمعنى اللعنة لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك « أنى يؤفكون » أي كيف يصرفون عن الحق إلى الإفك الذي هو الكذب فكأنه قال لأي داع مالوا إلى ذلك القول « اتخذوا أحبارهم » أي علماءهم « و رهبانهم » أي عبادهم « أربابا من دون الله » روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا أما و الله ما صاموا و لا صلوا و لكنهم أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فاتبعوهم و عبدوهم من حيث لا يشعرون و روى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و في عنقي صليب من ذهب فقال لي يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك قال فطرحته ثم انتهيت إليه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية « اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا » حتى فرغ منها فقلت له إنا لسنا نعبدهم فقال أ ليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه و يحلون ما حرم الله فتستحلونه قال فقلت بلى قال فتلك عبادتهم « و المسيح ابن مريم » أي اتخذوا المسيح إلها من دون الله « و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا » أي معبودا واحدا هو الله تعالى « لا إله إلا هو » أي لا تحق العبادة إلا له و لا يستحق العبادة سواه « سبحانه عما يشركون » أي عن شركهم و عما يقولونه و عما لا يليق به .
يُرِيدُونَ أَن يُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَ يَأْبى اللَّهُ إِلا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كرِهَ الْكَفِرُونَ(32) هُوَ الَّذِى أَرْسلَ رَسولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلى الدِّينِ كلِّهِ وَ لَوْ كرِهَ الْمُشرِكُونَ(33)

اللغة

الإطفاء إذهاب نور النار ثم استعمل في إذهاب كل نور و الأفواه جمع فم و أصله فوه فحذفت الهاء و أبدلت من الواو ميم لأنه حرف صحيح من مخرج الواو مشاكل لها و الإباء الامتناع مما طلب من المعنى قال الشاعر :
و إن أرادوا ظلمنا أبينا أي منعنا من الظلم .

الإعراب

قوله « إلا أن يتم نوره » إنما دخلت إلا لأن في أبيت ضربا من الجحد تقول أبيت أن أفعل كذا فيكون معناه لم أفعل كذا قال الشاعر :
و هل لي أم غيرها إن تركتها
أبى الله إلا أن أكون لها ابنا قال الزجاج في الآية حذف تقديره يأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره قال و لا يكون
مجمع البيان ج : 5 ص : 38
الإيجاب جحدا و لو جاز ذلك على أن يكون فيه طرف من الجحد لجاز كرهت إلا أخاك مثل أبيت إلا أن أبيت الحذف مستعمل معها .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار من اليهود و النصارى أنهم « يريدون أن يطفئوا نور الله » و هو القرآن و الإسلام عن أكثر المفسرين و قيل نور الله الدلالة و البرهان لأنهما يهتدى بهما كما يهتدى بالأنوار عن الجبائي قال و لما سمى سبحانه الحجج و البراهين أنوارا سمي معارضتهم لذلك إطفاء ثم قال « بأفواههم » لأن الإطفاء يكون بالأفواه و هو النفخ و هذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم و تضعيف كيدهم لأن الفم يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الأقباس العظيمة « و يأبى الله إلا أن يتم نوره » معناه و يمنع الله إلا أن يظهر أمر القرآن و أمر الإسلام و حجته على التمام و أصل الإباء المنع و الامتناع دون الكراهية على ما ادعته المجبرة و لهذا تقول العرب فلان يأبى الضيم و هو أبي الضيم و لا مدحة في كراهية الضيم لأنه يستوي فيه القوي و الضعيف و إنما المدحة في الامتناع أو المنع منه « و لو كره الكافرون » أي على كره من الكافرين « هو الذي أرسل رسوله » محمدا و حمله الرسالات التي يؤديها إلى أمته « بالهدى » أي بالحجج و البينات و الدلائل و البراهين « و دين الحق » و هو الإسلام و ما تضمنه من الشرائع التي يستحق عليها الجزاء بالثواب و كل دين سواه باطل يستحق به العقاب « ليظهره على الدين كله » معناه ليعلي دين الإسلام على جميع الأديان بالحجة و الغلبة و القهر لها حتى لا يبقى على وجه الأرض دين إلا مغلوبا و لا يغلب أحد أهل الإسلام بالحجة و هم يغلبون أهل سائر الأديان بالحجة و أما الظهور بالغلبة فهو أن كل طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك و لحقهم قهر من جهتهم و قيل أراد عند نزول عيسى بن مريم لا يبقى أهل دين إلا أسلم أو أدى الجزية عن الضحاك و قال أبو جعفر (عليه السلام) إن ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد فلا يبقى أحد إلا أقر بمحمد و هو قول السدي و قال الكلبي لا يبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام و سيكون ذلك و لم يكن بعد و لا تقوم الساعة حتى يكون ذلك و قال المقداد بن الأسود سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر و لا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام إما بعز عزيز و إما بذل ذليل إما يعزهم فيجعلهم الله من أهله فيعزوا به و إما يذلهم فيدينون له و قيل إن الهاء في « ليظهره » عائدة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي ليعلمه الله الأديان كلها حتى لا يخفى عليه شيء منها عن ابن عباس « و لو كره المشركون » أي و إن كرهوا هذا الدين فإن الله يظهره رغما لهم .

مجمع البيان ج : 5 ص : 39
* يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَ الرُّهْبَانِ لَيَأْكلُونَ أَمْوَلَ النَّاسِ بِالْبَطِلِ وَ يَصدُّونَ عَن سبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنزُونَ الذَّهَب وَ الْفِضةَ وَ لا يُنفِقُونهَا فى سبِيلِ اللَّهِ فَبَشرْهُم بِعَذَاب أَلِيم(34) يَوْمَ يحْمَى عَلَيْهَا فى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَ جُنُوبهُمْ وَ ظهُورُهُمْ هَذَا مَا كنزْتُمْ لأَنفُسِكمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنزُونَ(35)

اللغة

الكنز في الأصل هو الشيء الذي جمع بعضه إلى بعض و يقال للشيء المجتمع مكتنز و ناقة كناز اللحم مجتمعة قال نفطويه سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب و لا يبقى و سميت الفضة فضة لأنها تنفض أي تتفرق فلا تبقى و حسبك بالاسمين دلالة على فنائهما و الإحماء جعل الشيء حارا في الإحساس و هو فوق الإسخان و ضده التبريد يقال حمى يحمي حمى و أحماه غيره و الكي إلصاق الشيء الحار بالعضو من البدن

الأعراب

« الذين يكنزون » موضعه نصب لأنه معطوف على اسم إن و يكون المعنى و إن الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا يأكلونها و يجوز أن يكون رفعا على الاستئناف و ذكر في قوله « و لا ينفقونها » وجوه ( أحدها ) أنه أراد لا ينفقون الكنوز فرجع الضمير إلى ما دل عليه الكلام ( و الثاني ) أنه لما ذكر الذهب و الفضة دل على الأموال فكأنه قال و لا ينفقون الأموال ( و الثالث ) أن الذهب مؤنث و هو جمع واحدة ذهبة و هذا الجمع الذي ليس بينه و بين واحدة إلا الهاء يذكر و يؤنث ثم لما اجتمعا في التأنيث و كان كل واحد منهما يؤخذ عن صاحبه في الزكاة على قول جمهور العلماء جعلهما كالشيء الواحد و رد الضمير إليهما بلفظ التأنيث ( و الرابع ) أنه اكتفى بأحدهما عن الآخر للإيجاز و رد الضمير إلى الفضة لأنها أقرب إليه كما قال حسان :
إن شرخ الشباب و الشعر الأسود
ما لم يعاص كان جنونا و قد مر ذكر أمثاله فيما مضى :

المعنى

ثم بين سبحانه حال الأحبار و الرهبان فقال « يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من
مجمع البيان ج : 5 ص : 40
الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل » أي يأخذون الرشى على الحكم عن الحسن و الجبائي و أكل المال بالباطل تملكه من الجهات التي يحرم منها أخذه إلا أنه لما كان معظم التصرف و التملك للأكل وضع الأكل موضع ذلك و قيل إن معناه يأكلون متاع أموال الناس من الطعام فكأنهم يأكلون الأموال لأنها ثمن المأكول كما قال الشاعر :
ذر الآكلين الماء لوما فما أرى
ينالون خيرا بعد أكلهم الماء أي ثمن الماء « و يصدون عن سبيل الله » أي يمنعون غيرهم عن اتباع الإسلام الذي هو سبيل الله التي دعاهم إلى سلوكها و عن اتباع محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله » أي يجمعون المال و لا يؤدون زكاته فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال كل ما لم تؤد زكاته فهو كنز و إن كان ظاهرا و كل مال أديت زكاته فليس بكنز و إن كان مدفونا في الأرض و به قال ابن عباس و الحسن و الشعبي و السدي قال الجبائي و هو إجماع و روي عن علي (عليه السلام) ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدي زكاته أو لم يؤد و ما دونها فهو نفقة و تقدير الآية و الذين يكنزون الذهب و لا ينفقونه في سبيل الله و يكنزون الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فحذف المعطوف من الأول لدلالة الثاني عليه كما حذف المفعول في الثاني لدلالة الأول عليه في قوله « و الذاكرين الله كثيرا و الذاكرات » و تقديره و الذاكرات الله و أكثر المفسرين على أن قوله « و الذين يكنزون » على الاستئناف و أن المراد بذلك مانعوا الزكاة من هذه الأمة و قيل إنه معطوف على ما قبله و الأولى أن يكون محمولا على العموم في الفريقين « فبشرهم بعذاب أليم » أي أخبرهم بعذاب موجع و روى سالم بن أبي الجعد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما نزلت هذه الآية قال تبا للذهب تبا للفضة يكررها ثلاثا فشق ذلك على أصحابه فسأله عمر فقال يا رسول الله أي المال نتخذ فقال لسانا ذاكرا و قلبا شاكرا و زوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه « يوم يحمى عليها في نار جهنم » أي يوقد على الكنوز أو على الذهب و الفضة في نار جهنم حتى تصير نارا « فتكوى بها » أي بتلك الكنوز المحماة و الأموال التي منعوا حق الله فيها بأعيانها « جباههم و جنوبهم و ظهورهم » و إنما خص هذه الأعضاء لأنها معظم البدن و كان أبو ذر الغفاري يقول بشر الكانزين بكي في الجباه و كي في الجنوب و كي في الظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم و في هذا المعنى الذي أشار إليه أبو ذر خصت هذه المواضع بالكي لأن داخلها جوف بخلاف اليد و الرجل و قيل إنما خصت هذه المواضع بالعذاب لأن الجبهة محل الوسم لظهورها و الجنب محل الألم و الظهر محل الحدود و قيل لأن الجبهة محل السجود فلم تقم فيه بحقه و الجنب يقابل القلب الذي لم
مجمع البيان ج : 5 ص : 41
يخلص في معتقده و الظهر محمل الأوزار قال « يحملون أوزارهم على ظهورهم » عن الماوردي و قيل لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته و زوي عينيه و طوى عنه كشحه و ولاه ظهره عن أبي بكر الوراق « هذا ما كنزتم لأنفسكم » أي يقال لهم في حال الكي أو بعده هذا جزاء ما كنزتم و جمعتم المال و لم تؤدوا حق الله عنها و جعلتموها ذخيرة لأنفسكم « فذوقوا ما كنتم تكنزون » أي فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزون أي تجمعون و تمنعون حق الله منه فحذف لدلالة الكلام عليه و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما من عبد له مال و لا يؤدي زكاته إلا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنم فتكوى به جبهته و جنباه و ظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار أورده مسلم بن الحجاج في الصحيح و روي ثوبان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من ترك كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه و يقول ويلك ما أنت فيقول أنا كنزك الذي تركت بعدك فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقصمها ثم يتبعه سائر جسده و روى الثعلبي بإسناده عن الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هو في ظل الكعبة فلما رآني قد أقبلت قال هم الأخسرون و رب الكعبة هم الأخسرون و رب الكعبة قال فدخلني غم و جعلت أتنفس و قلت هذا شيء حدث في قال قلت من هم فداك أبي و أمي قال الأكثرون إلا من قال بالمال في عباد الله هكذا و هكذا عن يمينه و شماله و من خلفه و قليل ما هم و روي عن أبي ذر أنه قال من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة .
إِنَّ عِدَّةَ الشهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشرَ شهْراً فى كتَبِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسكمْ وَ قَتِلُوا الْمُشرِكينَ كافَّةً كمَا يُقَتِلُونَكُمْ كافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(36)

القراءة

قرأ أبو جعفر اثنا عشر و أحد عشر و تسعة عشر بسكون العين و الباقون بفتحها .

مجمع البيان ج : 5 ص : 42

الحجة

الوجه في ذلك أن الاسمين لما جعلا كالاسم الواحد و بني الأول منهما لأنه كصدر الاسم و الثاني منهما لتضمنه معنى واو العطف جعل تسكين أول الثاني دليلا على أنهما قد صارا كالاسم الواحد .

اللغة و الإعراب

كافة بمعنى الإحاطة مأخوذ من كافة الشيء و هي حرفة و إذا انتهى الشيء إلى ذلك كف عن الزيادة و أصل الكف المنع و منه المكفوف و هو الممنوع البصر و كافة نصب على المصدر و لا يدخل عليها الألف و اللام لأنه من المصادر التي لا تتصرف لوقوعه موقع معا و جميعا بمعنى المصدر الذي في موضع الحال المؤكدة فهو في لزوم النكرة نظير أجمعين في لزوم المعرفة هذا قول الفراء و قال الزجاج كافة تنصب على الحال و هو مصدر على فاعله كالعافية و العاقبة و هو في موضع قاتلوا المشركين محيطين بهم باعتقاد مقاتلهم و لا يثنى و لا يجمع فلا يقال قاتلوهم كافات و لا كافين كما أنك إذا قلت قاتلوهم عامة لم تثن و لم تجمع و كذلك خاصة هذا مذهب النحويين .

المعنى

لما ذكر الله سبحانه وعيد الظالم لنفسه بكنز المال من غير إخراج الزكاة و غيرها من حقوق الله منه اقتضى ذلك أن يذكر النهي عن مثل حاله و هو الظلم في الأشهر الحرم الذي يؤدي إلى مثل حاله أو شر منه في المنقلب فقال « إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا » أي عدد شهور السنة في حكم الله و تقديره اثنا عشر شهرا و إنما تعبد الله المسلمين أن يجعلوا سنيهم على اثني عشر شهرا ليوافق ذلك عدد الأهلة و منازل القمر دون ما دان به أهل الكتاب و الشهر مأخوذ من شهرة الأمر لحاجة الناس إليه في معاملاتهم و محل ديونهم و حجهم و صومهم و غير ذلك من مصالحهم المتعلقة بالشهور و قوله « في كتاب الله » معناه فيما كتب الله في اللوح المحفوظ و في الكتب المنزلة على أنبيائه و قيل في القرآن و قيل في حكمه و قضائه عن أبي مسلم و قوله « يوم خلق السماوات و الأرض » متصل بقوله عند الله و العامل فيهما الاستقرار و إنما قال ذلك لأنه يوم خلق السماوات و الأرض أجرى فيها الشمس و القمر و بمسيرهما تكون الشهور و الأيام و بهما تعرف الشهور « منها أربعة حرم » أي من هذه الاثني عشر شهرا أربعة أشهر حرم ثلاثة منها سرد ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و واحد فرد و هو رجب و معنى حرم أنه يعظم انتهاك المحارم فيها أكثر مما يعظم في غيرها و كانت العرب تعظمها حتى لو أن رجلا لقي قاتل أبيه فيها لم يهجه لحرمتها و إنما جعل الله تعالى بعض هذه الشهور أعظم حرمة من بعض لما علم من المصلحة في الكف عن الظلم فيها لعظم منزلتها و لأنه ربما أدى ذلك إلى ترك الظلم أصلا لانطفاء النائرة و انكسار
مجمع البيان ج : 5 ص : 43
الحمية في تلك المدة فإن الأشياء تجر إلى أشكالها و شهور السنة المحرم سمي بذلك لتحريم القتال فيه و صفر سمي بذلك لأن مكة تصفر من الناس فيه أي تخلو و قيل لأنه وقع وباء فيه فاصفرت وجوههم و قال أبو عبيدة سمي بذلك لأنه صفرت فيه أوطابهم عن اللبن و شهرا ربيع سميا بذلك لإنبات الأرض و إمراعها فيهما و قيل لارتباع القوم أي إقامتهم و جماديان سميتا بذلك لجمود الماء فيهما و رجب سمي بذلك لأنهم كانوا يرجبونه أي يعظمونه يقال رجبته و رجبته بالتخفيف و التشديد قال الكميت :
و لا غيرهم أبغي لنفسي جنة
و لا غيرهم ممن أجل و أرجب و قيل سمي بذلك لترك القتال فيه من قولهم رجل أرجب إذا كان أقطع لا يمكنه العمل و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إن في الجنة نهرا يقال له رجب ماؤه أشد بياضا من الثلج و أحلى من العسل من صام يوما من رجب شرب منه و شعبان سمي بذلك لتشعب القبائل فيه عن أبي عمرو و روى زياد بن ميمون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إنما سمي شعبان لأنه يشعب فيه خير كثير لرمضان و شهر رمضان سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب و قيل سمي بذلك لشدة الحر و قيل إن رمضان من أسماء الله و شوال سمي بذلك لأن القبائل كانت تشول فيه أي تبرح عن أمكنتها و قيل لشولان النوق أذنابها فيه و ذو القعدة سمي بذلك لقعودهم فيه عن القتال و ذو الحجة لقضاء الحج فيه « ذلك الدين القيم » أي ذلك الحساب المستقيم الصحيح لا ما كانت العرب تفعله من النسيء و منه قوله الكيس من دان نفسه أي حاسبها و سمي الحساب دينا لوجوب الدوام عليه و لزومه كلزوم الدين و العبادة و قيل معناه ذلك القضاء المستقيم الحق عن الكلبي و قيل معناه ذلك الدين تعبد به فهو اللازم « فلا تظلموا فيهن » أي في هذه الشهور كلها عن ابن عباس و قيل في هذه الأشهر الحرم الأربعة عن قتادة و اختاره الفراء قال لأنه لو أراد الاثني عشر شهرا لقال فيها « أنفسكم » بترك أوامر الله و ارتكاب نواهيه و إذا عاد الضمير إلى جميع الشهور فإنه يكون نهيا عن الظلم في جميع العمر و إذا عاد إلى الأشهر الحرم ففائدة التخصيص أن الطاعة فيها أعظم ثوابا و المعصية أعظم عقابا و ذلك حكم الله في جميع الأوقات الشريفة و البقاع المقدسة « و قاتلوا المشركين كافة » أي قاتلوهم جميعا مؤتلفين غير مختلفين « كما يقاتلونكم كافة » أي جميعا كذلك فتكون كافة حالا عن المسلمين و يجوز أن تكون حالا من المشركين أي قاتلوا المشركين جميعا و لا تمسكوا منهم
مجمع البيان ج : 5 ص : 44
بعهد و لا ذمة إلا من كان من أهل الجزية و أعطاها عن صغار و الظاهر هو الأول و قيل معناه قاتلوهم خلفا بعد سلف كما أنه يخلف بعضهم بعضا في قتالكم عن الأصم « و اعلموا أن الله مع المتقين » بالنصرة و الولاية و في هذه الآية دلالة على أن الاعتبار في السنين بالشهور القمرية لا بالشمسية و الأحكام الشرعية معلقة بها و ذلك لما علم الله سبحانه فيه من المصلحة و لسهولة معرفة ذلك على الخاص و العام .
إِنَّمَا النَّسىءُ زِيَادَةٌ فى الْكفْرِ يُضلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يحِلُّونَهُ عَاماً وَ يحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سوءُ أَعْمَلِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكفِرِينَ(37)

القراءة

قرأ أبو جعفر النسيء بالتشديد من غير همزة و قرأ جعفر بن محمد (عليهماالسلام) و الزهري النسي مخففا في وزن الهدي بغير همز و روي مثل ذلك أيضا عن شبل عن ابن كثير و الباقون « النسيء » بالمد و الهمز و قرأ « يضل » بضم الياء و فتح الضاد أهل الكوفة غير أبي بكر و قرأ يضل بضم الياء و كسر الضاد أوقية من طريق ابن مقسم عن أبي عمرو و رويس عن يعقوب و الباقون يضل بفتح الياء و كسر الضاد .

الحجة

قال أبو علي النسيء مصدر كالنذير و النكير و عذير الحي و لا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول كما قاله بعض الناس لأنه إن حمل على ذلك كان معناه إنما المؤخر زيادة في الكفر و المؤخر الشهر و ليس الشهر نفسه بزيادة في الكفر و إنما الزيادة في الكفر تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة فأما نفس الشهر فلا و أما ما روي من النسي بالياء فذلك يكون على إبدال الياء من الهمزة و لا أعلمها لغة في التأخير كما أن أرجيت لغة في أرجأت و ما روي من النسي بتشديد الياء فعلى تخفيف الهمزة و ليس هذا القلب مثل القلب في النسي بالياء لأن النسي بتشديد الياء على وزن فعيل تخفيف قياسي كما أن مقروة في مقرؤة تخفيف قياسي و ليس « النسيء » كذلك و ذكر ابن جني فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) أن يكون أراد النسيء ثم خفف بأن أبدلت الهمزة ياء كما قال الشاعر :
أهبي التراب فوقه إهبايا أراد إهباء
مجمع البيان ج : 5 ص : 45
( و الثاني ) أن يكون فعلا من نسيت لأن الشيء إذا أخر فكأنه نسي ( و الثالث ) و في الصيغة أن يكون أراد النسيء على فعيل ثم خفف و أدغم فصار النسي ثم قصر فعيلا بحذف يائه فصار نسي ثم أسكن عين فعل فصار نسي كما قيل في سميح سمح و في رطيب رطب و في جديب جدب فأما قوله « يضل » فليس في يضل إشكال و لا في يضل لأن المضل لغيره ضال بفعله إضلال غيره فأما يضل فالمعنى فيه أن كبراءهم و أشرافهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور و قرىء في الشواذ يضل بفتح الياء و الضاد و هذه لغة أعني ضللت أضل

اللغة

قال أبو زيد نسأت الإبل في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك و المصدر النسيء يقال نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نساء إذا أخرتها عنه و المواطاة الموافقة يقال واطأ في الشعر إذا قال بيتين على قافية واحدة و أوطأ مثله .

المعنى

لما قدم سبحانه ذكر السنة و الشهر عقبه بذكر ما كانوا يفعلونه من النسيء فقال « إنما النسيء زيادة في الكفر » يعني تأخير الأشهر الحرم عما رتبها الله سبحانه عليه و كانت العرب تحرم الشهور الأربعة و ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم و إسماعيل و هم كانوا أصحاب غارات و حروب فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه و يستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يزول التحريم إلى المحرم و لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة قال ابن عباس و معنى قوله « زيادة في الكفر » أنهم كانوا أحلوا ما حرم الله و حرموا ما أحل الله قال الفراء و الذي كان يقوم به رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة و كان رئيس الموسم فيقول أنا الذي لا أعاب و لا أخاب و لا يرد لي قضاء فيقولون نعم صدقت أنسئنا شهرا أو أخر عنا حرمة المحرم و اجعلها في صفر و أحل المحرم فيفعل ذلك و الذي كان ينساها حين جاء الإسلام جنادة بن عوف بن أمية الكناني قال ابن عباس و أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف و قال أبو مسلم بن أسلم بل رجل من بني كنانة يقال له القلمس كان يقول إني قد نسأت المحرم العام و هما العام صفران فإذا كان العام القابل قضينا فجعلناهما مجرمين قال شاعرهم :
و ما ناسىء الشهر القلمس و قال الكميت :
و نحن الناسئون على معد
شهور الحل نجعلها حراما و قال مجاهد كان المشركون يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين و كذلك في الشهور حتى وافقت الحجة
مجمع البيان ج : 5 ص : 46
التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة ثم حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في العام القابل حجة الوداع فوافقت في ذي الحجة فذلك حين قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ذكر في خطبته إلا و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب مضر الذي بين جمادى و شعبان أراد (عليه السلام) الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها و عاد الحج إلى ذي الحجة و بطل النسيء « يضل به الذين كفروا » أي يضل بهذا النسيء الذين كفروا و من قرأ بضم الباء فمعناه يضلون به غيرهم و إضلالهم أنهم فعلوا ذلك ليحللوا للناس الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها و أوجب الحج في بعضها فيستحلون ترك الحج في الوقت الذي هو واجب فيه و يوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه و جوزوا ذلك عليهم حتى ضلوا باتباعهم « يحلونه عاما و يحرمونه عاما » أي يجعلون الشهر الحرام حلالا إذا احتاجوا إلى القتال فيه و يجعلون الشهر الحلال حراما و يقولون شهر بشهر و إذا لم يحتاجوا إلى القتال لم يفعلوا ذلك « ليواطئوا عدة ما حرم الله » معناه أنهم لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال و لم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم ليكون موافقة في العدد و ذلك المواطاة « زين لهم سوء أعمالهم » أي زينت لهم أنفسهم أو زين لهم الشيطان سوء أعمالهم عن الحسن و قيل معناه استحسنوا ذلك بهواهم « و الله لا يهدي القوم الكافرين » مر تفسيره .
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكمْ إِذَا قِيلَ لَكمُ انفِرُوا فى سبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلى الأَرْضِ أَ رَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الاَخِرَةِ فَمَا مَتَعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فى الاَخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ(38) إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكمْ عَذَاباً أَلِيماً وَ يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيرَكمْ وَ لا تَضرُّوهُ شيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(39)

اللغة

النفر الخروج إلى الشيء لأمر هيج عليه و منه نفور الدابة يقال نفرت الدابة نفورا و نفر إلى الثغر نفرا و نفيرا و التثاقل تعاطي إظهار ثقل النفس و مثله التباطؤ و ضده التسرع و المتاع الانتفاع بما يظهر للحواس و منه قولهم تمتع بالرياض و المناظر الحسان و يقال للأشياء
مجمع البيان ج : 5 ص : 47
التي لها أثمان متاع تشبيها به و الاستبدال جعل أحد الشيئين بدل الآخر مع الطلب له .

الإعراب

« اثاقلتم » افاعلتم و أصله تفاعلتم أدغمت التاء في الثاء لمناسبتها لها ثم أدخلت ألف الوصل ليمكن الابتداء بها و مثله اداركوا و أتابع في قول الشاعر :
تولي الضجيع إذا ما أشتاقها خصرا
عذب المذاق إذا ما أتابع القبل

النزول

قالوا لما رجع رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم و ذلك في زمان إدراك الثمار فأحبوا المقام في المسكن و المال و شق عليهم الخروج إلى القتال و كان (عليه السلام) قلما خرج في غزوة إلا كنى عنها و وري بغيرها إلا غزوة تبوك لبعد شقتها و كثرة العدو ليتأهب الناس فأخبرهم بالذي يريد فلما علم الله سبحانه تثاقل الناس أنزل الآية .

المعنى

ثم عاتب سبحانه المؤمنين في التثاقل عن الجهاد فقال « يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم » أي إذا دعاكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قال لكم « انفروا في سبيل الله » أي أخرجوا إلى مجاهدة المشركين و هو هاهنا غزوة تبوك عن الحسن و مجاهد « اثاقلتم إلى الأرض » أي تثاقلتم و ملتم إلى الإقامة في الأرض التي أنتم عليها قال الجبائي هذا الاستبطاء مخصوص بنفر من المؤمنين لأن جميعهم لم يتثاقلوا عن الجهاد فهو عموم أريد به الخصوص بدليل « أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة » هذا استفهام يراد به الإنكار و معناه آثرتم الحياة الدنيا الفانية على الحياة في الآخرة الباقية في النعيم الدائم « فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل » أي فما فوائد الدنيا و مقاصدها في فوائد الآخرة و مقاصدها إلا قليل لانقطاع هذه و دوام تلك ثم عقبه سبحانه بالتهديد و الوعيد فقال « إلا تنفروا يعذبكم الله عذابا أليما » و معناه لا تخرجوا إلى القتال الذي دعاكم إليه الرسول و تقعدوا عنه يعذبكم الله عذابا أليما مؤلما في الآخرة و قيل في الدنيا « و يستبدل » بكم « قوما غيركم » لا يتخلفون عن الجهاد و قيل هم أبناء فارس عن سعيد بن جبير و قيل هم أهل اليمن عن أبي روق و قيل هم الذين أسلموا بعد نزول هذه الآية عن الجبائي « و لا تضروه شيئا » أي و لا تضروا الله بهذا القعود شيئا لأنه غني لنفسه لا يحتاج إلى شيء عن الحسن و أبي علي و قيل معناه و لا تضروا الرسول شيئا لأن الله عصمه من جميع الناس و ينصره بالملائكة أو بقوم آخرين من المؤمنين « و الله على كل شيء قدير » فهو القادر على الاستبدال بكم و على غير ذلك من الأشياء قال الزجاج و هذا وعيد شديد في التخلف عن الجهاد .

مجمع البيان ج : 5 ص : 48
إِلا تَنصرُوهُ فَقَدْ نَصرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كفَرُوا ثَانىَ اثْنَينِ إِذْ هُمَا فى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصحِبِهِ لا تحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سكينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا وَ جَعَلَ كلِمَةَ الَّذِينَ كفَرُوا السفْلى وَ كلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)

القراءة

قرأ يعقوب وحده كلمة الله بالنصب و الباقون بالرفع .

الحجة

من نصب عطفه على قوله « و جعل كلمة الذين كفروا السفلى » و جعل كلمة الله هي العليا » و من رفع استأنف و هو أبلغ لأنه يفيد أن كلمة الله هي العليا على كل حال .

الإعراب

« ثاني اثنين » نصب على الحال و للعرب في هذا مذهبان ( أحدهما ) قولهم هذا ثاني اثنين و ثالث ثلاثة و رابع أربعة و خامس خمسة أي أحد اثنين و أحد ثلاثة و أحد أربعة و أحد خمسة ( و الآخر ) قولهم ثالث اثنين و خامس أربعة بمعنى أنه ثلث اثنين و خمس أربعة فالأول إضافة حقيقية محضة و الثاني إضافة غير محضة إذ هو في تقدير الانفصال ، « إذ هما في الغار » بدل من قوله « إذ أخرجه الذين كفروا » وضع أحد الزمانين في موضع الآخر لتقاربهما .

المعنى

ثم أعلمهم الله سبحانه أنهم إن تركوا نصرة رسوله لم يضره ذلك شيئا كما لم يضره قلة ناصريه حين كان بمكة و هم به الكفار فتولي الله نصره فقال « إلا تنصروه فقد نصره الله » معناه إن لم تنصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على قتال العدو فقد فعل الله به النصر « إذ أخرجه الذين كفروا » من مكة فخرج يريد المدينة « ثاني اثنين » يعني أنه كان هو و أبو بكر « إذ هما في الغار » ليس معهما ثالث أي و هو أحد اثنين و معناه فقد نصره الله منفردا من كل شيء إلا من أبي بكر و الغار الثقب العظيم في الجبل و أراد به هنا غار ثور و هو جبل بمكة « إذ يقول لصاحبه » أي إذ يقول الرسول لأبي بكر « لا تحزن » أي لا تخف « إن الله معنا » يريد أنه مطلع علينا عالم بحالنا فهو يحفظنا و ينصرنا قال الزهري لما دخل رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و أبو بكر الغار أرسل الله زوجا من حمام حتى باضا
مجمع البيان ج : 5 ص : 49
في أسفل الثقب و العنكبوت حتى تنسج بيتا فلما جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام و بيت العنكبوت قال لو دخله أحد لانكسر البيض و تفسخ بيت العنكبوت فانصرف و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) اللهم أعم أبصارهم فعميت أبصارهم عن دخوله و جعلوا يضربون يمينا و شمالا حول الغار و قال أبو بكر لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا و روى علي بن إبراهيم بن هاشم قال كان رجل من خزاعة فيهم يقال له أبو كرز فما زال يقفو أثر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى وقف بهم باب الغار فقال لهم هذه قدم محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) هي و الله أخت القدم التي في المقام و قال هذه قدم أبي قحافة أو ابنه و قال ما جازوا هذا المكان إما أن يكونوا قد صعدوا في السماء أو دخلوا في الأرض و جاء فارس من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار و هو يقول لهم اطلبوه في هذه الشعاب فليس هاهنا و كانت العنكبوت نسجت على باب الغار و نزل رجل من قريش فبال على باب الغار فقال أبو بكر قد أبصرونا يا رسول الله فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم « فأنزل الله سكينته عليه » يعني على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي ألقى في قلبه ما سكن به و علم أنهم غير واصلين إليه عن الزجاج « و أيده » أي قواه و نصره « بجنود لم تروها » أي بملائكة يضربون وجوه الكفار و أبصارهم عن أن يروه عن الزجاج و قيل معناه قواه بملائكة يدعون الله تعالى له عن ابن عباس و قيل معناه و أعانه بالملائكة يوم بدر و أخبر الله سبحانه أنه صرف عنه كيد أعدائه و هو في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر عن مجاهد و الكلبي و قال بعضهم يجوز أن تكون الهاء التي في عليه راجعة إلى أبي بكر و هذا بعيد لأن الضمائر قبل هذا و بعده تعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بلا خلاف و ذلك في قوله « إلا تنصروه فقد نصره الله » و في قوله « إذ أخرجه » و قوله « لصاحبه » و قوله فيما بعد و « أيده » فكيف يتخللها ضمير عائد إلى غيره هذا و قد قال سبحانه في هذه السورة « ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين » و قال في سورة الفتح « فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين » و قد ذكرت الشيعة في تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الآية بالسكينة كلاما رأينا الإضراب عن ذكره أحرى لئلا ينسبنا ناسب إلى شيء « و جعل كلمة الذين كفروا السفلى » معناه أن الله سبحانه جعل كلمتهم نازلة دنية و أراد به أنه سفل وعيدهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و تخويفهم إياه و أبطله بأن نصره عليهم فعبر عن ذلك بأنه جعل كلمتهم السفلى لا أنه خلق كلمتهم « و كلمة الله هي العليا » أي هي المرتفعة المنصورة بغير جعل جاعل لأنها لا يجوز أن تدعو إلى خلاف الحكمة و قيل إن كلمة الكفار كلمة الشرك و كلمة الله هي كلمة التوحيد و هي قوله لا إله إلا الله فمعناه جعل
مجمع البيان ج : 5 ص : 50
كلمة الكفار السفلى بأن جعلهم أذلة أسفلين و أعلى كلمة الله بأن أعز الإسلام و المسلمين « و الله عزيز » في انتقامه من أهل الشرك « حكيم » في تدبيره .
انفِرُوا خِفَافاً وَ ثِقَالاً وَ جَهِدُوا بِأَمْوَلِكمْ وَ أَنفُسِكُمْ فى سبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوك وَ لَكِن بَعُدَت عَلَيهِمُ الشقَّةُ وَ سيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ استَطعْنَا لخََرَجْنَا مَعَكُمْ يهْلِكُونَ أَنفُسهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنهُمْ لَكَذِبُونَ(42) عَفَا اللَّهُ عَنك لِمَ أَذِنت لَهُمْ حَتى يَتَبَينَ لَك الَّذِينَ صدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكَذِبِينَ(43)

القراءة

في الشواذ قراءة الأعمش لو استطعنا بضم الواو و قد مضى الكلام فيه في أوائل سورة البقرة .

اللغة

القاصد السهل المقصد عن غير طول لأنه مما يقصد لسهولته و سمي العدل قصدا لأنه مما ينبغي أن يقصد و الشقة القطعة من الأرض التي يشق ركوبها على صاحبها لبعدها و يحتمل أن يكون من الشق الذي هو الناحية من الجبل و يحتمل أن يكون من المشقة و الشقة السفر و المسافة و قريش يضمون الشين و قيس يكسرونها و قريش يضمون العين من بعدت و قيس يكسرونها .

المعنى

ثم أمر سبحانه بالجهاد و بين تأكيد وجوبه على العباد فقال « انفروا » أي أخرجوا إلى الغزو « خفافا و ثقالا » أي شبانا و شيوخا عن الحسن و مجاهد و عكرمة و الضحاك و غيرهم و قيل نشاطا و غير نشاط عن ابن عباس و قتادة و قيل مشاغيل و غير مشاغيل عن الحكم و قيل أغنياء و فقراء عن أبي صالح و قيل أراد بالخفاف أهل العسرة من المال و قلة العيال و بالثقال أهل الميسرة في المال و كثرة العيال عن الفراء و قيل معناه ركبانا و مشاة عن أبي عمرو و عطية العوفي و قيل ذا صنعة و غير ذي صنعة عن ابن زيد و قيل عزابا و متأهلين عن يمان و الوجه أن يحمل على الجميع فيقال معناه أخرجوا إلى الجهاد خف عليكم أو شق على أي
مجمع البيان ج : 5 ص : 51
حالة كنتم لأن أحوال الإنسان لا تخلو من أحد هذه الأشياء « و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله » و هذا يدل على أن الجهاد بالنفس و المال واجب على من استطاع بهما و من لم يستطع على الوجهين فعليه أن يجاهد بما استطاع « ذلكم خير لكم » معناه أن الخروج و الجهاد بالنفس و المال خير لكم من التثاقل و ترك الجهاد إلى مباح « إن كنتم تعلمون » إن الله عز اسمه صادق في وعده و وعيده و قيل معناه إن كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير قال السدي لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى بقوله « ليس على الضعفاء و لا على المرضى » الآية « لو كان عرضا قريبا » معناه لو كان ما دعوتهم إليه غنيمة حاضرة « و سفرا قاصدا » أي قريبا هينا و قيل قاصدا أي ذا قصد نحو تأمر و لابن عن المبرد و قيل سهلا متوسطا غير شاق « لاتبعوك » طمعا في المال « و لكن بعدت عليهم الشقة » أي المسافة يعني غزوة تبوك أمروا فيها بالخروج إلى الشام « و سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم » معناه إن هؤلاء سيعتذرون إليك في قعودهم عن الجهاد و يحلفون لو استطعنا و قدرنا و تمكنا من الخروج لخرجنا معكم ثم أخبر سبحانه أنهم « يهلكون أنفسهم » بما أسروه من الشرك و قيل باليمين الكاذبة و العذر الباطل لما يستحقون عليها من العقاب « و الله يعلم إنهم لكاذبون » في هذا الاعتذار و الحلف و في هذه دلالة على صحة نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذ أخبر أنهم سيحلفون قبل وقوعه فحلفوا و كان مخبره على ما أخبر به و فيه أيضا دلالة واضحة على أن القدرة قبل الفعل لأن هؤلاء لا يخلو إما أن يكونوا مستطيعين من الخروج قادرين عليه و لم يخرجوا أو لم يكونوا قادرين عليه و إنما حلفوا لو أنهم قدروا في المستقبل لخرجوا فإن كان الأول فقد ثبت أن القدرة قبل الفعل و إن كان الثاني فقد كذبهم الله تعالى في ذلك و بين أنه لو فعل لهم الاستطاعة لما خرجوا و في ذلك أيضا وجوب تقدم القدرة على المقدور فإن حملوا الاستطاعة على وجود الآلة و عدة السفر فقد تركوا الظاهر من غير ضرورة فإن حقيقة الاستطاعة القدرة على أنه لو كان عدم الآلة و العدة عذرا في التأخر فعدم القدرة أصلا أحرى و أولى أن يكون عذرا فيه ثم خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بما فيه بعض العتاب في إذنه لمن استأذنه في التأخر عن الخروج معه إلى تبوك فقال « عفا الله عنك لم أذنت لهم » في التخلف عنك قال قتادة و عمرو بن ميمون اثنان فعلهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يؤمر بهما إذنه للمنافقين و أخذه الفداء من الأسارى فعاتبه الله كما تسمعون و هذا من لطيف المعاتبة بدأه بالعفو قبل
مجمع البيان ج : 5 ص : 52
العتاب و هل كان هذا الأذن قبيحا أم لا قال الجبائي كان قبيحا و وقع صغيرا لأنه لا يقال في المباح لم فعلته و هذا غير صحيح لأنه يجوز أن يقال فيما غيره أفضل منه لم فعلته كما يقول القائل لغيره إذا رآه يعاتب أخا له عاتبته و كلمته بما يشق عليه و إن كان يجوز له معاتبته بما يشق عليه و كيف يكون إذنه لهم قبيحا و قد قال سبحانه في موضع آخر « فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم » و قيل معناه أدام الله لك العفو لم أذنت لهؤلاء في الخروج لأنهم استأذنوا فيه تملقا و لو خرجوا لأرادوا الخبال و الفساد و لم يعلم النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) ذلك من سريرتهم عن أبي مسلم « حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين » أي حتى تعرف من له العذر منهم في التخلف و من لا عذر له فيكون إذنك لمن أذنت له على علم قال ابن عباس و ذلك لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يعرف المنافقين يومئذ و قيل أنه (عليه السلام) إنما خيرهم بين الظعن و الإقامة متوعدا لهم و لم يأذن فاغتنم القوم ذلك و في هذا إخبار من الله سبحانه أنه كان الأولى أن يلزمهم الخروج معه حتى إذا لم يخرجوا أظهر نفاقهم لأنه متى أذن لهم ثم تأخروا لم يعلم أ لنفاق كان تأخرهم أم لغيره و كان الذين استأذنوه منافقين و منهم جد بن قيس و معتب بن قشير و هما من الأنصار .
لا يَستَئْذِنُك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ أَن يُجَهِدُوا بِأَمْوَلِهِمْ وَ أَنفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ(44) إِنَّمَا يَستَئْذِنُك الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ ارْتَابَت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فى رَيْبِهِمْ يَترَدَّدُونَ(45)

المعنى

ثم بين سبحانه حال المؤمنين و المنافقين في الاستئذان فقال « لا يستأذنك » أي لا يطلب منك الإذن في القعود عن الجهاد معك بالمعاذير الفاسدة و قيل معناه لا يستأذنك في الخروج لأنه مستغن عنه بدعائك إلى ذلك بل يتأهب له عن أبي مسلم « الذين يؤمنون بالله و اليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم و أنفسهم » و المعنى في أن يجاهدوا فحذف في فأفضى الفعل « و الله عليم بالمتقين » قال ابن عباس هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوه في القعود عن الجهاد و عذر للمؤمنين في قوله « لم يذهبوا حتى يستأذنوه » و المعنى أنه لم يخرجهم من صفة المتقين إلا لأنه علم أنهم ليسوا منهم « إنما يستأذنك »
مجمع البيان ج : 5 ص : 53
في التأخر عن الجهاد و التخلف عن القتال معك و قيل في الخروج لأن المنافق إنما يستأذنك في الخروج تملقا و لا يتأهب المؤمنون عن أبي مسلم « الذين لا يؤمنون بالله » أي لا يصدقون به « و اليوم الآخر » يعني بالبعث و النشور « و ارتابت قلوبهم » أي اضطربت و شكت « فهم في ريبهم يترددون » فهم في شكهم يذهبون و يرجعون و التردد هو التصرف بالذهاب و الرجوع مرات متقاربة مثل التحير و أراد به المنافقين أي يتوقعون الإذن لشكهم في دين الله و فيما وعد المجاهدين و لو أنهم كانوا مخلصين لوثقوا بالنصر و بثواب الله فبادروا إلى الجهاد و لم يستأذنوك فيه .
* وَ لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لَكِن كرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَعِدِينَ(46) لَوْ خَرَجُوا فِيكم مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَ لأَوْضعُوا خِلَلَكُمْ يَبْغُونَكمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكمْ سمَّعُونَ لهَُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمُ بِالظلِمِينَ(47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَك الأُمُورَ حَتى جَاءَ الْحَقُّ وَ ظهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كرِهُونَ(48)

اللغة

العدة و الأهبة و الآلة نظائر و الانبعاث الانطلاق بسرعة في الأمر و فلان لا ينبعث في الحاجة أي ليس له نفاذ فيها و التثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه و مثله التربيث و الخبال الفساد و الخبال الموت و الخبال الاضطراب في الرأي و الخبل بسكون الباء و فتحها الجنون و الخبل فساد الأعضاء قال :
أ بني لبينى لستم بيد
 

Back Index Next