جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


من أثبت الواو في « الذين » عطفه على ما تقدم و التقدير و منهم الذين اتخذوا مسجدا و من حذف الواو ابتدأ الكلام و أضمر الخبر بعده كما أضمر في قوله « إن الذين كفروا و يصدون عن سبيل الله و المسجد الحرام » إلى قوله « و الباد » و المعنى فيه ينتقم منهم أو يعذبهم و نحو ذلك و حسن الحذف في الموضعين لطول الكلام بالمبتدإ و صلته و يجوز أن يكون على أن تضمر و منهم فيكون تقديره و منهم الذين اتخذوا كما أضمرت الحرف مع الفعل في قوله « فأما الذين اسودت وجوههم أ كفرتم بعد إيمانكم » أي فيقال لهم أ كفرتم و لا يجوز أن يكون الذين بدلا من قوله « و آخرون مرجون » لأن المرجئين لأمر الله غير الذين اتخذوا مسجدا ضرارا فلا يجوز أن يبدلوا منهم و من قرأ « أسس بنيانه » بنى الفعل للفاعل كما أضاف البنيان إليه في قوله « بنيانه » فالمصدر مضاف إلى الفاعل و الباني و المؤسس واحد و من بنى الفعل للمفعول به لم يبعد أن يكون في المعنى كالأول لأنه إذا أسس بنيانه فيولي ذلك غيره بأمره كان كبنائه هو له فأما من قرأ أسس بنيانه في الموضعين و أساس بنيانه بالإضافة فإنهما بمعنى واحد و جمع الأس أساس كقفل و أقفال و جمع الأساس

مجمع البيان ج : 5 ص : 107
آساس و أسس و أما « الجرف » فالأصل فيه ضم العين و الإسكان تخفيف و مثله الشغل و الشغل و الطنب و الطنب و من قرأ « إلا أن تقطع قلوبهم » فمعناه تبلى و تتقطع بالبلى أي لا تثلج قلوبهم بالإيمان أبدا و من قرأ تقطع بضم التاء فهو في المعنى مثل الأول إلا أن الفعل أضيف إلى القطع المبلي للقلوب بالموت و في الأول أسند إلى القلوب لما كانت هي البالية و هذا مثل مات زيد و سقط الحائط و نحو ذلك مما أسند فيه الفعل إلى من حدث فيه و إن لم يكن منه و تقطع يسند الفعل فيه إلى المقطع المبلي و إن لم يذكر في اللفظ فأسند الفعل الذي هو لغير القلوب في الحقيقة إلى القلوب و من قرأ إلى أن تقطع فإنه جعله على الغاية و زعموا أن في حرف إلى حتى الممات و هذا يدل على أنهم يموتون على نفاقهم فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان و أخذوا به من الكفر .

اللغة

الضرار هو طلب الضرر و محاولته كما أن الشقاق محاولة ما يشق يقال ضاره مضارة و ضرارا و الإرصاد الارتقاب تقول رصده يرصده رصدا و أرصد له إرصادا قال الكسائي رصدته رقبته و أرصدته أعددته و البنيان مصدر قال أبو علي و هو جمع على حد شعيرة و شعير لأنهم قالوا بنيانه في الواحد قال أوس :
كبنيانه القري موضع رحلها
و آثار نسعيها من الدف أبلق و جاء بناء المصدر على هذا المثال في غير هذا الحرف نحو الغفران و ليس بنيان جمع بناء لأن فعلانا إذا كان جمعا نحو كثبان و قضبان لم تلحقه تاء التأنيث و قال أبو زيد يقال بنيت أبني بنيا و بنيانا و بناء و بنية و جمعها البنى قال :
بنى السماء فسواها ببنيتها
و لم تمد بأطناب و لا عمد فالبناء و البنية مصدران و من ثم قوبل به الفراش في قوله « جعل لكم الأرض فراشا و السماء بناء » فالبناء لما كان رفعا للمبني قوبل به الفراش الذي هو خلاف البناء و التقوى خصلة من الطاعة يحترز بها من العقوبة و التقي صفة مدح لا تطلق إلا على مستحق الثواب و واو تقوى مبدلة من الياء لأنها من وقيت و إنما أبدلت للفرق بين الاسم و الصفة في الأبنية مثل خزيا و شفا جرف الشيء و شفيره و جرفه نهايته في المساحة و يثنى شفوان و جرف الوادي جانبه الذي ينحفر بالماء أصله و هو من الجرف و الاجتراف هو اقتلاع الشيء من أصله و هار
مجمع البيان ج : 5 ص : 108
الجرف يهور هورا فهو هائر و تهور و انهار و يقال أيضا هار يهار و هار أصله هائر و هو من المقلوب كما يقال لاث الشيء به إذا دار فهو لاث و الأصل لائث و كما قالوا شاكي السلاح أي شائك قال :
فتعرفوني إنني أنا ذاكم
شاك سلاحي في الحوادث معلم و كما قال العجاج :
لاث به الأشاء و العبري ) أي مطيف و قال أبو علي و الهمز من عائر منقلبة عن الواو لأنهم قالوا تهور البناء إذا تساقط و تداعى و في الحديث سار الليلة حتى انهار الليل ثم سار حتى تهور فهذا في الليل كالمثل و التشبيه بالبناء و الانهيال و الانهيار يتقاربان في المعنى كما يتقاربان في اللفظ .

الإعراب

قد ذكرنا إعراب قوله « و الذين اتخذوا » في الحجة و يجوز أن يكون مبتدأ و خبره « لا تقم فيه أبدا » كما تقول و الذي يدعوك إلى الغي فلا تسمع الدعاء و تقديره فلا تسمع دعاءه و كذلك التقدير في الآية لا تقم في مسجدهم أبدا فحذف للاختصار و يجوز أن يكون خبر الذين قوله « أ فمن أسس بنيانه » أي أ فمن أسس بنيانه من هؤلاء أم من أسس من الذين اتخذوا ضرارا منصوب على أنه مفعول له و كذلك ما بعده و المعنى اتخذوه للضرار و الكفر و التفريق و الإرصاد فلما حذف اللام أفضى الفعل فنصب و يجوز أن يكون مصدرا محمولا على المعنى لأن اتخاذهم المسجد على غير التقوى معناه ضاروا به ضرارا من أول يوم دخلت من في الزمان و الأصل منذ و مذ هذا الأكثر استعمالا في الزمان و من جائز دخولها أيضا لأنها الأصل في ابتداء الغاية و التبعيض و منه قول زهير :
لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج و من شهر و يروى من دهر و قد قيل إن المعنى من مر حجج و من مر شهر و « أن تقوم » في موضع نصب أي أحق بأن تقوم فيه و « فيه » منصوب الموضع بقوله « تقوم » و فيه من قوله « فيه رجال » في موضع رفع لأنه خبر مبتدإ مقدم عليه و المبتدأ رجال و لا يجوز أن يكون مرفوع الموضع بكونه وصفا لمسجد بل هو على الاستئناف و الوقف التام على قوله « أحق أن تقوم
مجمع البيان ج : 5 ص : 109
فيه » ثم استؤنف الكلام فقيل « فيه رجال » و إنما قلنا ذلك لأنك لو جعلت الظرف الذي هو فيه وصفا لمسجد لكنت فصلت بين النكرة و صفتها بالخبر الذي هو أحق و قوله « أ فمن أسس بنيانه على تقوى من الله » قال أبو علي القول فيه أنه يجوز أن تكون المعادلة وقعت بين البانيين و يجوز أن يكون بين البنائين فإذا عادلت بين البانيين كان المعنى المؤسس بنيانه متقيا خير أم المؤسس بنيانه غير متق لأن قوله « على شفا جرف » يدل على أن بانيه غير متق لله تعالى و لا خاش له و يجوز أن يقدر حذف المضاف كأنه أبناه من أسس بنيانه متقيا خير أم بناء من أسس بنيانه على شفا جرف و البنيان مصدر أوقع على المبني مثل الخلق إذا عنيت به المخلوق و ضرب الأمير إذا عنيت به المضروب و كذلك نسج اليمن يدلك على ذلك أنه لا يخلو من أن يراد به اسم الحدث أو اسم العين فلا يجوز أن يكون الحدث لأنه إنما يؤسس المبني الذي هو عين و يبين ذلك أيضا قوله « على شفا جرف » و الحدث لا يعلو شفا جرف و الجار في قوله « على تقوى من الله » و قوله « على شفا جرف هار » في موضع نصب على الحال تقديره أ فمن أسس بنيانه متقيا خيرا أم من أسس بنيانه غير متق أو معاقبا على بنائه و فاعل انهار البنيان أي انهار البنيان بالباني في نار جهنم لأنه معصية و فعل لما كرهه الله تعالى من الضرار و الكفر و التفريق بين المؤمنين و من أمال « هار » فقد أحسن لما في الراء من التكرير فكأنك لفظت براءين مكسورتين و بحسب كثرة الكسرات تحسن الإمالة و من لم يمل فلأن ترك الإمالة هو الأصل و قوله « إلا أن تقطع قلوبهم » موضع « أن تقطع » نصب تقديره إلا على تقطع قلوبهم غير أن حرف الإضافة يحذف مع أن و لا يحذف مع المصدر و معنى إلا هاهنا حتى لأنه استثناء من الزمان المستقبل و الاستثناء منه منته إليه فاجتمعت مع حتى في هذا الموضع على هذا المعنى .

النزول

قال المفسرون أن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا و بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يأتيهم فأتاهم و صلى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا نبني مسجدا فنصلي فيه و لا نحضر جماعة محمد و كانوا اثني عشر رجلا و قيل خمسة عشر رجلا منهم ثعلبة بن حاطب و معتب بن قشير و نبتل بن الحرث فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا فلما فرغوا منه أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله أنا قد بنينا مسجدا لذي العلة و الحاجة و الليلة المطيرة و الليلة الشاتية و أنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا و تدعو بالبركة فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) إني على جناح سفر و لو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه فلما انصرف رسول الله من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد
مجمع البيان ج : 5 ص : 110

المعنى

ثم ذكر سبحانه جماعة أخرى من المنافقين بنوا مسجدا للتفريق بين المسلمين و طلب الغوائل للمؤمنين فقال « و الذين اتخذوا مسجدا » و المسجد موضع السجود في الأصل و صار بالعرف اسما لبقعة مخصوصة بنيت للصلاة فالاسم عرفي فيه معنى اللغة « ضرارا » أي مضارة يعني الضرر بأهل مسجد قبا أو مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليقل الجمع فيه « و كفرا » أي و لإقامة الكفر فيه و قيل أراد أنه كان اتخاذهم ذلك كفرا بالله و قيل ليكفروا فيه بالطعن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و الإسلام « و تفريقا بين المؤمنين » أي لاختلاف الكلمة و إبطال الألفة و تفريق الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و إرصادا لمن حارب الله و رسوله من قبل » أي أرصدوا ذلك المسجد و اتخذوه و أعدوا لأبي عامر الراهب و هو الذي حارب الله و رسوله من قبل و كان من قصته أنه كان قد ترهب في الجاهلية و لبس المسوح فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المدينة حسده و حزب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام و خرج إلى الروم و تنصر و هو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد و كان جنبا فغسلته الملائكة و سمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أبا عامر الفاسق و كان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدوا و ابنوا مسجدا فإني أذهب إلى قيصر و آتي من عنده بجنود و أخرج محمدا من المدينة فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم « و ليحلفن إن أردنا إلا الحسنى » معناه أن هؤلاء يحلفون كاذبين ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى من التوسعة على أهل الضعف و العلة من المسلمين فأطلع الله نبيه على فساد طويتهم و خبث سريرتهم فقال « و الله يشهد إنهم لكاذبون » و كفى لمن يشهد الله سبحانه بكذبه خزيا فوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني و مالك بن الدخشم و كان مالك من بني عمرو بن عوف فقال لهما انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فأهدماه و حرقاه و روي أنه بعث عمار بن ياسر و وحشيا فحرقاه و أمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف ثم نهى الله سبحانه أن يقوم في هذا المسجد فقال « لا تقم فيه أبدا » أي لا تصل فيه أبدا يقال فلان يقوم بالليل أي يصلي ثم أقسم فقال « لمسجد » أي و الله لمسجد « أسس على التقوى » أي بني أصله على تقوى الله و طاعته « من أول يوم » أي منذ أول يوم وضع أساسه عن المبرد « أحق أن تقوم فيه » أي أولى بأن تصلي فيه و اختلف في هذا
مجمع البيان ج : 5 ص : 111
المسجد فقيل هو مسجد قبا عن ابن عباس و الحسن و عروة بن الزبير و قيل هو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن زيد بن ثابت و ابن عمر و أبي سعيد الخدري و روى هو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال هو مسجدي هذا و قيل هو كل مسجد بني للإسلام و أريد به وجه الله عن أبي مسلم ثم وصف المسجد و أهله فقال « فيه » أي في هذا المسجد الذي أسس على التقوى « رجال يحبون أن يتطهروا » أي يحبون أن يصلوا لله تعالى متطهرين بأبلغ الطهارة و قيل يحبون أن يتطهروا من الذنوب عن الحسن و قيل يحبون أن يتطهروا بالماء عن الغائط و البول و هو المروي عن السيدين الباقر و الصادق (عليهماالسلام) و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لأهل قبا ما ذا تفعلون في طهركم فإن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء قالوا نغسل أثر الغائط فقال أنزل الله فيكم « و الله يحب المطهرين » أي المتطهرين ثم قرر سبحانه الفرق بين المسجدين فقال « أ فمن أسس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار » قد مضى بيانه و المراد أن الله تعالى شبه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته فكما أن من بنى على جانب هذا النهر فإنه ينهار بناؤه في الماء و لا يثبت فكذلك بناء هؤلاء ينهار و يسقط في نار جهنم يعني أنه لا يستوي عمل المتقي و عمل المنافق فإن عمل المؤمن المتقي ثابت مستقيم مبني على أصل صحيح ثابت و عمل المنافق ليس بثابت و هو واه ساقط و الألف في قوله « أ فمن » ألف استفهام يراد به الإنكار هاهنا و ليس معنى خير في الآية أفضل بل هو كما يقال هذا خير و هذا شر و قال الشاعر :
و الخير و الشر مقرونان في قرن
فالخير متبع و الشر محذور و أما قوله « و افعلوا الخير » فإن معناه و افعلوا الأفضل و قوله « فانهار به في نار جهنم » أي يوقعه ذلك البناء في نار جهنم « و الله لا يهدي القوم الظالمين » مر بيانه و روي عن جابر بن عبد الله أنه قال رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان « لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم » أي لا يزال بناء المبني الذي بنوه شكا في قلوبهم فيما كان من إظهار إسلامهم و ثباتا على النفاق و قيل إن معناه حزازة في قلوبهم و قيل حسرة في قلوبهم يترددون فيها « إلا أن تقطع قلوبهم » معناه إلا أن يموتوا و المراد بالآية أنهم لا ينزعون عن الخطيئة و لا يتوبون حتى يموتوا على نفاقهم و كفرهم فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان و أخذوا به من الكفر و قيل معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما و أسفا على تفريطهم « و الله عليم » أي عالم بنيتهم في بناء مسجد الضرار « حكيم »
مجمع البيان ج : 5 ص : 112
في أمره بنقضه و المنع من الصلاة فيه .
* إِنَّ اللَّهَ اشترَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسهُمْ وَ أَمْوَلهَُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَتِلُونَ فى سبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فى التَّوْرَاةِ وَ الانجِيلِ وَ الْقُرْءَانِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ وَ ذَلِك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111) التَّئبُونَ الْعَبِدُونَ الحَْمِدُونَ السئحُونَ الرَّكعُونَ السجِدُونَ الاَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنكرِ وَ الحَْفِظونَ لحُِدُودِ اللَّهِ وَ بَشرِ الْمُؤْمِنِينَ(112)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم فيقتلون بضم الياء و يقتلون بفتح الياء و الباقون « فيقتلون » بفتح الياء « و يقتلون » بضمها و في قراءة أبي و عبد الله بن مسعود و الأعمش التائبين العابدين بالياء إلى آخرها و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) .

الحجة

قال أبو علي من قرأ « فيقتلون و يقتلون » فقدم الفعل المسند إلى الفاعل فلأنهم يقتلون أولا في سبيل الله و يقتلون و لا يقتلون إذا قتلوا و من قدم الفعل المسند إلى المفعول به جاز أن يكون في المعنى مثل الأول لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم فإن لم يقدر فيه التقديم كان المعنى في قوله « فيقتلون » بعد قوله « يقتلون » بقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل و أما الرفع في قوله « التائبون العابدون » فعلى القطع و الاستئناف أي هم التائبون و يكون على المدح و قيل أنه رفع على الابتداء و خبره محذوف بعد قوله « و الحافظون لحدود الله » أي لهم الجنة أيضا عن الزجاج و قيل أنه رفع على البدل من الضمير في يقاتلون أي يقاتل التائبون و أما التائبين العابدين فيحتمل أن يكون جرا و أن يكون نصبا أما الجر فعلى أن يكون وصفا للمؤمنين أي من المؤمنين التائبين و أما النصب فعلى إضمار فعل بمعنى المدح كأنه قال أعني و أمدح التائبين .

مجمع البيان ج : 5 ص : 113

اللغة

السائح من ساح في الأرض يسيح سيحا إذا استمر في الذهاب و منه السيح الماء الجاري و من ذلك يسمى الصائم سائحا لاستمراره على الطاعة في ترك المشتهى .

الإعراب

وعدا نصب على المصدر لأن قوله « اشترى » يدل على أنه وعد و مثله صنع الله الذي أتقن كل شيء و فطرة الله التي فطر الناس عليها .

المعنى

لما تقدم ذكر المؤمنين و المنافقين عقب سبحانه بالترغيب في الجهاد فقال « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة » حقيقة الاشتراء لا تجوز على الله تعالى لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملكه و هو عز اسمه مالك الأشياء كلها لكنه مثل قوله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا في أنه ذكر لفظ الشراء و القرض تلطفا لتأكيد الجزاء و لما كان سبحانه ضمن الثواب على نفسه عبر عن ذلك بالاشتراء و جعل الثواب ثمنا و الطاعات مثمنا على ضرب من المجاز و أخبر أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم يبذلونها في الجهاد في سبيل الله و أموالهم أيضا ينفقونها ابتغاء مرضاة الله على أن يكون في مقابلة ذلك الجنة و روي عن الأعمش أنه قرأ بالجنة و هي قراءة عمر بن الخطاب و الجهاد قد يكون بالسيف و قد يكون باللسان و ربما كان جهاد اللسان أبلغ لأن سبيل الله دينه و الدعاء إلى الدين يكون أولا باللسان و السيف تابع له و لأن إقامة الدليل على صحة المدلول أولى و إيضاح الحق و بيانه أحرى و ذلك لا يكون إلا باللسان و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا علي لأن يهدي الله على يديك نسمة خير مما طلعت عليه الشمس و إنما ذكر سبحانه شراء النفس و المال لأن العبادات على ضربين بدنية و مالية و لا ثالث لهما و يروى أن الله سبحانه تاجر المؤمنين فأغلى لهم الثمن فجعل ثمنهم الجنة و كان الصادق (عليه السلام) يقول أيا من ليست له همة أنه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها و أنشد الأصمعي للصادق (عليه السلام) :
أثامن بالنفس النفيسة ربها
فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها نشتري الجنات إن أنا بعتها
بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها
فقد ذهب الدنيا و قد ذهب الثمن « يقاتلون في سبيل الله » هذا بيان للغرض الذي لأجله اشتراهم « فيقتلون » المشركين « و يقتلون » أي و يقتلهم المشركون يعني أن الجنة عوض عن جهادهم سواء قتلوا أو قتلوا و من قرأ فيقتلون و يقتلون فهو المختار عن الحسن لأنه يكون تسليم النفس إلى المشتري أقرب و البائع إنما يستحق الثمن بتسليم المبيع « وعدا عليه حقا » معناه إن
مجمع البيان ج : 5 ص : 114
إيجاب الجنة لهم وعد على الله حق لا شك فيه و تقديره وعدهم الله الجنة على نفسه وعدا حقا أي صدقا واجبا لا خلف فيه « في التوراة و الإنجيل و القرآن » و هذا يدل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال وعدوا عليه الجنة عن الزجاج « و من أوفى بعهده من الله » معناه لا أحد أوفى بعهده من الله لأنه يفي و لا يخلف بحال « فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به » فافرحوا بهذه المبايعة حتى ترى آثار السرور في وجوهكم بسبب هذه المبايعة لأنكم بعتم الشيء من مالكه و أخذتم ثمنه و لأنكم بعتم فانيا بباق و زائلا بدائم « و ذلك هو الفوز العظيم » أي ذلك الشراء و البيع الظفر الكبير الذي لا يقاربه شيء ثم وصف الله سبحانه المؤمنين الذين اشترى منهم الأنفس و الأموال بأوصاف فقال « التائبون » أي الراجعون إلى طاعة الله و المنقطعون إليه النادمون على ما فعلوه من القبائح « العابدون » أي الذين يعبدون الله وحده و يتذللون له بطاعته في أوامره و نواهيه و قيل هم الذين أخذوا من أبدانهم في ليلهم و نهارهم فعبدوا الله في السراء و الضراء عن الحسن و قتادة « الحامدون » أي الذين يحمدون الله على كل حال عن الحسن و قيل هم الشاكرون لنعم الله على وجه الإخلاص له « السائحون » أي الصائمون عن ابن عباس و ابن مسعود و الحسن و سعيد بن جبير و مجاهد و روي مرفوعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال سياحة أمتي الصيام و قيل هم الذين يسيحون في الأرض فيعتبرون بعجائب الله تعالى و قيل هم طلبة العلم يسيحون في الأرض لطلبه عن عكرمة « الراكعون الساجدون » أي المؤدون للصلاة المفروضة التي فيها الركوع و السجود « الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر » أدخل الواو هنا لأن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر فكأنهما شيء واحد و لأنه قرن النهي عن المنكر بالأمر بالمعروف في أكثر المواضع فأدخل الواو ليدل على المقارنة « و الحافظون لحدود الله » أي و القائمون بطاعة الله عن ابن عباس يعني الذين يؤدون فرائض الله و أوامره و يجتنبون نواهيه لأن حدود الله أوامره و نواهيه و إنما أدخل الواو لأنه جاء و هو أقرب إلى المعطوف « و بشر المؤمنين » هذا أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يبشر المصدقين بالله المعترفين بنبوته بالثواب الجزيل و المنزلة الرفيعة خاصة إذا جمعوا هذه الأوصاف و قد روى أصحابنا أن هذه صفات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لأنه لا يكاد يجمع هذه الأوصاف على تمامها و كمالها غيرهم و لقي الزهري علي بن الحسين (عليهماالسلام) في طريق الحج فقال له تركت الجهاد و صعوبته و أقبلت إلى الحج و الله سبحانه يقول « إن الله اشترى من المؤمنين » الآية فقال (عليه السلام) له أتم الآية الأخرى « التائبون العابدون » إلى آخرها ثم قال إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج .

مجمع البيان ج : 5 ص : 115
مَا كانَ لِلنَّبىِّ وَ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَستَغْفِرُوا لِلْمُشرِكينَ وَ لَوْ كانُوا أُولى قُرْبى مِن بَعْدِ مَا تَبَينَ لهَُمْ أَنهُمْ أَصحَب الجَْحِيمِ(113) وَ مَا كانَ استِغْفَارُ إِبْرَهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَة وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَينَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ لِّلَّهِ تَبرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَهِيمَ لأَوَّهٌ حَلِيمٌ(114)

اللغة

أصل الأواه من التأوه و هو التوجع و التحزن يقال تأوه تأوها و أوه تأويها قال المثقب العبدي :
إذا ما قمت أرحلها بليل
تأوه آهة الرجل الحزين و لو جاء منه فعل مصرفا لكان آه يئوه أوها مثل قال يقول قولا و العرب تقول أوه من كذا بكسر الواو و تسكين الهاء قال :
فأوه بذكراها إذا ما ذكرتها
و من بعد أرض دونها و سماء و العامة تقول أوه و فيه خمس لغات أوه بسكون الواو و كسر الهاء و أو و آه بالتنوين و أوه و أوه .

المعنى

« ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » و معناه ليس للنبي و المؤمنين أن يطلبوا المغفرة للمشركين الذين يعبدون مع الله إلها آخر و الذين لا يوحدونه و لا يقرون بإلهيته « و لو كانوا أولي قربى » أي و لو كان الذين يطلبون لهم المغفرة أقرب الناس إليهم « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » أي من بعد أن يعلموا أنهم كفار مستحقون للخلود في النار و في تفسير الحسن أن المسلمين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أ لا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية فأنزل الله سبحانه هذه الآية و بين أنه لا ينبغي لنبي و لا مؤمن أن يدعو لكافر و يستغفر له و قوله « ما كان للنبي » أبلغ من أن يقول لا ينبغي للنبي لأنه يدل على قبحه و أن الحكمة تمنع منه و لو قال لا ينبغي لم يدل على أن
مجمع البيان ج : 5 ص : 116
الحكمة تمنع منه و إنما كان يدل على أنه لا ينبغي أن يختاره و معناه لم يجعل الله في دينه و لا في حكمه أن يستغفروا للمشركين و لو دعتهم رقة القرابة و شفقة الرحم إلى الاستغفار لهم بعد ما ظهر أن لهم عذابا عظيما ثم بين سبحانه الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا سواء كان أباه الذي ولده أو جده لأمه أو عمه على ما رواه أصحابنا فقال « و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » أي لم يكن استغفاره له إلا صادرا عن موعدة وعدها إياه و اختلف في صاحب هذه الموعدة هل هو إبراهيم و أبوه فقيل أن الموعدة كانت من الأب وعد بها إبراهيم أنه يؤمن أن استغفر له لذلك « فلما تبين له أنه عدو لله » و لا يفي بما وعد « تبرأ منه » و ترك الدعاء له و هو المروي عن ابن عباس و مجاهد و قتادة إلا أنهم قالوا إنما تبين عداوته لما مات على كفره و قيل أن الموعدة كانت من إبراهيم قال لأبيه إني أستغفر لك ما دمت حيا و كان يستغفر له مقيدا بشرط الإيمان فلما آيس من إيمانه تبرأ منه و هذا يوافق قراءة الحسن إلا عن موعدة وعدها أباه و يقويه قوله إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك و ما أملك لك من الله من شيء « إن إبراهيم لأواه » أي دعاء كثير الدعاء و البكاء عن ابن عباس و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل الأواه الرحيم بعباد الله عن الحسن و قتادة و قيل هو الذي إذا ذكر النار قال أوه عن كعب و قيل الأواه المؤمن بلغة الحبشة عن ابن عباس و قيل الأواه الموقن المستيقن عن مجاهد و عكرمة و قيل الأواه العفيف عن النخعي و قيل هو الراجع عن كل ما يكره الله عز و جل عن عطا و قيل هو الخاشع المتضرع رواه عبد الله بن شداد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل هو المسبح الكثير الذكر لله سبحانه عن عقبة بن عامر و قيل هو المتأوه شفقا و فرقا المتضرع يقينا بالإجابة و لزوما للطاعة عن أبي عبيدة و قال الزجاج و قد انتظم قول أبي عبيدة أكثر ما روي في الأواه « حليم » يقال بلغ من حلم إبراهيم (عليه السلام) إن رجلا قد أذاه و شتمه فقال له هداك الله و قيل الحليم السيد عن ابن عباس و أصله أنه الصبور على الأذى الصفوح عن الذنب .

النظم

لما تقدم ذكر الكفار و المنافقين و المنع من موالاتهم و الصلاة عليهم و القيام على قبرهم للدعاء لهم نهي عن دعائهم بعد موتهم و لما نهى الله النبي و المؤمنين عن الاستغفار للمشركين ذكر قصة إبراهيم و عذره في الاستغفار لأبيه و أما قوله « إن إبراهيم لأواه حليم » فإنما اتصل بما قبله بأنه إذا كان له صفة الرأفة و الرحمة يكون في دعائه أخلص و على خلاص أقربائه من العذاب أحرص و مع ذلك تبرأ منه لما يئس من فلاحه .

مجمع البيان ج : 5 ص : 117
وَ مَا كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتى يُبَينَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكلِّ شىْء عَلِيمٌ(115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ يُحْىِ وَ يُمِيت وَ مَا لَكم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلىّ وَ لا نَصِير(116)

النزول

قيل مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم فنزل « و ما كان الله ليضل قوما » الآية عن الحسن .

المعنى

« و ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم » أي و ما كان الله ليحكم بضلالة قوم بعد ما حكم بهدايتهم « حتى يبين لهم ما يتقون » من الأمر بالطاعة و النهي عن المعصية فلا يتقون فعند ذلك يحكم بضلالتهم و قيل و ما كان الله ليعذب قوما فيضلهم عن الثواب و الكرامة و طريق الجنة بعد إذ هداهم و دعاهم إلى الإيمان حتى يبين لهم ما يستحقون به الثواب و العقاب من الطاعة و المعصية و قيل لما نسخ بعض الشرائع و قد غاب أناس و هم يعملون بالأمر الأول إذ لم يعلموا بالأمر الثاني مثل تحويل القبلة و غير ذلك و قد مات الأولون على الحكم الأول سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك فأنزل الله الآية و بين أنه لا يعذب هؤلاء على التوجه إلى القبلة الأولى حتى يسمعوا بالنسخ و لا يعملوا بالناسخ فحينئذ يعذبهم عن الكلبي « إن الله بكل شيء عليم » يعلم جميع المعلومات حتى لا يشذ شيء منها عنه لكونه عالما لنفسه « إن الله له ملك السماوات و الأرض » الملك اتساع المقدور لمن له السياسة و التدبير « يحيي و يميت » أي يحيي الجماد و يميت الحيوان « و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير » أي ليس لكم سواه حافظ يحفظكم و ولي يتولى أمركم و لا ناصر ينصركم و يدفع العذاب عنكم .

النظم

وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها إن الله سبحانه لما حرم على المؤمنين أن يستغفروا للمشركين بين سبحانه أنه لا يأخذهم بذلك إلا بعد أن يدلهم على تحريمه عن مجاهد و وجه اتصال الآية الثانية بما قبلها الحض على ما تقدم ذكره من جهاد المشركين ملوكهم و غير ملوكهم لأنهم عبيد من له ملك السماوات و الأرض يأمرهم بما يشاء و يدبرهم على ما يشاء عن علي بن عيسى .

مجمع البيان ج : 5 ص : 118
لَّقَد تَّاب اللَّهُ عَلى النَّبىِّ وَ الْمُهَجِرِينَ وَ الأَنصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فى ساعَةِ الْعُسرَةِ مِن بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوب فَرِيق مِّنْهُمْ ثُمَّ تَاب عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(117) وَ عَلى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتى إِذَا ضاقَت عَلَيهِمُ الأَرْض بِمَا رَحُبَت وَ ضاقَت عَلَيْهِمْ أَنفُسهُمْ وَ ظنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَاب عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّاب الرَّحِيمُ(118)

القراءة

قرأ حمزة و حفص عن عاصم « يزيغ » بالياء و هي قراءة الأعمش و الباقون تزيغ بالتاء و القراءة المشهورة « الذين خلفوا » و قرأ علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) و أبو جعفر محمد بن علي الباقر و جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) و أبو عبد الرحمن السلمي خالفوا و قرأ عكرمة و زر بن حبيش و عمرو بن عبيد خلفوا بفتح الخاء و اللام خفيفة .

الحجة

قال أبو علي يجوز أن يكون فاعل كاد أحد ثلاثة أشياء ( الأول ) أن تضمر فيها القصة و الحديث و يكون تزيغ الخبر و جاز ذلك فيها و إن كان الأصل في إضمار القصة إنما هو في الابتداء لأن الخبر لازم لكاد فأشبه العوامل الداخلة على الابتداء للزوم الخبر له قال و لا يجوز ذلك في عسى لأن عسى قد يكون فاعله المفرد في كثير من الأمر فلا يلزمه الخبر كقوله عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم فإذا كان كذلك لم يحتمل الضمير الذي يحتمله كاد كما لم يحتمله سائر الأفعال التي تسند إلى فاعليها مما لا يدخل على المبتدأ ( و الثاني ) أن يضمر في كاد ذكر مما تقدم لما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المهاجرون و الأنصار قبيلا واحدا و فريقا واحدا جاز أن يضمر في كاد ما دل عليه ما تقدم ذكره من القبيل و الحزب و الفريق و نحو ذلك من الأسماء المفردة الدالة على الجمع و قال منهم فحمله على المعنى مثل قوله آمن بالله و اليوم الآخر ثم قال فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون فكذلك فاعل كاد على هذا الوجه ( الثالث ) أن يكون فاعل كاد القلوب و تقديره من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ و لكنه قدم تزيغ كما تقدم خبر كان و جاز تقديمه و أن كان فيه ذكر من القلوب و لم يمتنع من حيث يمتنع إضمار قبل الذكر
مجمع البيان ج : 5 ص : 119
لما كان النية به التأخير كما لم يمتنع ضرب غلامه زيد لما كان التقدير به التأخير فأما من قرأ « يزيغ » بالياء فيجوز أن يكون قد ذهب إلى أن في كاد ضمير الحديث فيرتفع قلوب بيزيغ فذكر و أن كان فاعله مؤنثا لتقدم الفعل و من قرأ تزيغ بالتاء جاز أن يكون ذهب إلى أن القلوب مرتفعة بكاد و جاز أن يكون الفعل المسند إلى القصة أو الحديث يؤنث إذا كان في الجملة التي يفسرها مؤنث كقوله « فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا » و جاز تأنيث هي التي هي ضمير القصة لذكر الأبصار المؤنثة في الجملة التي هي التفسير فكذلك يؤنث الذي في كاد للذكر المؤنث في الجملة المفسرة فتقول كادت و تدغم التاء التي هي علامة التأنيث في تاء تزيغ و تزيغ على هذا للقلوب و هي مرتفعة به و يجوز إلحاق التاء بكاد من وجه آخر و هي أن ترفع قلوب فريق بكاد فتلحقه علامة التأنيث من حيث كان مسندا إلى مؤنث و من قرأ « خلفوا » فتأويله أقاموا و لم يبرحوا و من قرأ خالفوا فمعناه عائد إلى ذلك لأنهم إذا خالفوهم فأقاموا فقد خلفوا هناك .

اللغة

الزيغ ميل القلب عن الحق و منه قوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم و زاغت الشمس إذا مالت و زاغ عن الطريق جاز و عدل و التخليف تأخير الشيء عمن مضى فأما تأخير الشيء عنك في المكان فليس بتخليف و هو من الخلف الذي هو مقابل لجهته الوجه يقال خلفه أي جعله خلفه فهو مخلف و رحبت البلاد إذا اتسعت و الرحب السعة و منه مرحبا أي رحبت بلادك و أهلت و الضيق ضد السعة و الظن هنا بمعنى اليقين كما في قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
سراتهم في الفارسي المسرد

النزول

نزلت الآية الأولى في غزاة تبوك و ما لحق المسلمين فيها من العسرة حتى هم قوم بالرجوع ثم تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك و كان زادهم الشعير المسوس و التمر المدود و الإهالة السنخة و كان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها
مجمع البيان ج : 5 ص : 120

صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة قالوا و كان أبو خيثمة عبد الله بن خيثمة تخلف إلى أن مضى من مسير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عشرة أيام ثم دخل يوما على امرأتين له في يوم حار في عريشين لهما قد رتبناهما و بردتا الماء و هيأتا له الطعام فقام على العريشين و قال سبحان الله رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر في الفتح و الريح و الحر و القر يحمل سلاحه على عاتقه و أبو خيثمة في ظلال باردة و طعام مهيىء و امرأتين حسناوين ما هذا بالنصف ثم قال و الله لا أكلم واحدة منكما كلمة و لا أدخل عريشا حتى ألحق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأناخ ناضحة و اشتد عليه و تزود و ارتحل و امرأتاه تكلمانه و لا يكلمهما ثم سار حتى إذا دنا من تبوك قال الناس هذا راكب على الطريق فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كن أبا خيثمة أولى لك فلما دنا قال الناس هذا أبو خيثمة يا رسول الله فأناخ راحلته و سلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال (عليه السلام) أولى لك فحدثه الحديث فقال له خيرا و دعا له و هو الذي زاغ قلبه للمقام ثم ثبته الله و أما الآية الثانية فإنها نزلت في شأن كعب بن مالك و مرارة بن الربيع و هلال بن أمية و ذلك أنهم تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لم يخرجوا معه لا عن نفاق و لكن عن توان ثم ندموا فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المدينة جاءوا إليه و اعتذروا فلم يكلمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و تقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتى الصبيان و جاءت نساؤهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقلن له يا رسول الله نعتزلهم فقال لا و لكن لا يقربوكن فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رءوس الجبال و كان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام و لا يكلمونهم فقال بعضهم لبعض قد هجرنا الناس و لا يكلمنا أحد منهم فهلا نتهاجر نحن أيضا فتفرقوا و لم يتجمع منهم اثنان و بقوا على ذلك خمسين يوما يتضرعون إلى الله تعالى و يتوبون إليه فقبل الله تعالى توبتهم و أنزل فيهم هذه الآية .

المعنى

« لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار » أقسم الله تعالى في هذه الآية لأن لام لقد لام القسم بأنه سبحانه قبل توبتهم و طاعاتهم و إنما ذكر اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مفتاحا للكلام و تحسينا له و لأنه سبب توبتهم و إلا فلم يكن منه ما يوجب التوبة و قد روي عن الرضا علي بن موسى (عليهماالسلام) أنه قرأ لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في الخروج معه إلى تبوك « في ساعة العسرة » و هي صعوبة الأمر قال جابر يعني عسرة الزاد و عسرة الظهر و عسرة الماء و المراد بساعة العسرة وقت العسرة لأن الساعة تقع على كل زمان و قال عمر بن الخطاب أصابنا حر شديد و عطش فأمطر الله سبحانه السماء بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فعشنا بذلك « من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم » عن الجهاد فهموا
 

Back Index Next