جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 5 ص : 121
بالانصراف من غزاتهم من غير أمر فعصمهم الله تعالى من ذلك حتى مضوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « ثم تاب عليهم » من بعد ذلك الزيغ و لم يرد بالزيغ هاهنا الزيغ عن الإيمان « إنه بهم رءوف رحيم » تداركهم برحمته و الرأفة أعظم من الرحمة « و على الثلاثة الذين خلفوا » قال مجاهد معناه خلفوا عن قبول التوبة بعد قبول توبة من قبل توبتهم من المنافقين كما قال سبحانه فيما مضى « و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم » و قال الحسن و قتادة معناه خلفوا عن غزوة تبوك لما تخلفوا هم و أما قراءة أهل البيت (عليهم السلام) خالفوا فإنهم قالوا لو كانوا « خلفوا » لما توجه عليهم العتب و لكنهم خالفوا « حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت » أي برحبها و ما هاهنا مصدرية و معناه ضاقت عليهم الأرض مع اتساعها و هذه صفة من بلغ غاية الندم حتى كأنه لا يجد لنفسه مذهبا و ذلك بأن النبي أمر الناس بأن لا يجالسوهم و لا يكلموهم كما مر ذكره لأنه كان نزلت توبة الناس و لم تنزل توبتهم و لم يكن ذلك على معنى رد توبتهم لأنهم كانوا مأمورين بالتوبة و لا يجوز في الحكمة رد توبة من يتوب في وقت التوبة و لكن الله سبحانه أراد بذلك تشديد المحنة عليهم في تأخير إنزال توبتهم و أراد بذلك استصلاحهم و استصلاح غيرهم لئلا يعودوا إلى مثله « و ضاقت عليهم أنفسهم » هذه عبارة عن المبالغة في الغم حتى كأنهم لم يجدوا لأنفسهم موضعا يخفونها فيه و قيل معنى ضيق أنفسهم ضيق صدورهم بالهم الذي حصل فيها « و ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه » أي و أيقنوا أنه لا يعصمهم من الله موضع يعتصمون به و يلجئون إليه غيره تعالى و معناه علموا أنه لا معتصم من الله إلا به و أن لا ينجيهم من عذاب الله إلا التوبة « ثم تاب عليهم ليتوبوا » أي ثم سهل الله عليهم التوبة حتى تابوا و قيل ليتوبوا أي ليعودوا إلى حالتهم الأولى قبل المعصية و قيل معناه ثم تاب على الثلاثة و أنزل توبتهم على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله سبحانه قابل التوبة قال الحسن أما و الله ما سفكوا من دم و لا أخذوا من مال و لا قطعوا من رحم و لكن المسلمين تسارعوا في الشخوص مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و تخلف هؤلاء و كان أحدهم تخلف بسبب ضيعة له و الآخر لأهله و الآخر طلبا للراحة ثم ندموا و تابوا فقبل الله توبتهم « إن الله هو التواب » أي الكثير القبول للتوبة « الرحيم » بعباده .

النظم

اتصلت الآية الأولى بقوله « التائبون » الآية أثنى الله سبحانه عليهم هناك و بين في هذه الآية قبول توبتهم و رضاه عنه باتباعهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ساعة العسرة عن أبي مسلم و قيل إنه سبحانه لما ذكر أن له ملك السماوات و الأرض و لا ناصر لأحد دونه بين عقيبه رحمته بالمؤمنين و رأفته بهم في قبول توبتهم .

مجمع البيان ج : 5 ص : 122
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصدِقِينَ(119)

القراءة

في مصحف عبد الله و قراءة ابن عباس من الصادقين و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) .

اللغة

الصادق هو القائل بالحق العامل به لأنه صفة مدح و لا يطلق إلا على من يستحق المدح على صدقه .

المعنى

ثم خاطب الله سبحانه المؤمنين المصدقين بالله المقرين بنبوة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله » أي اتقوا معاصي الله و اجتنبوها « و كونوا مع الصادقين » الذين يصدقون في أخبارهم و لا يكذبون و معناه كونوا على مذهب من يستعمل الصدق في أقواله و أفعاله و صاحبوهم و رافقوهم كقولك أنا مع فلان في هذه المسألة أي أقتدي به فيها و قد وصف الله الصادقين في سورة البقرة بقوله و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر إلى قوله أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون فأمر سبحانه بالاقتداء بهؤلاء الصادقين المتقين و قيل المراد بالصادقين هم الذين ذكرهم الله في كتابه و هو قوله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه يعني حمزة بن عبد المطلب و جعفر بن أبي طالب و منهم من ينتظر يعني علي بن أبي طالب (عليه السلام) و روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال « كونوا مع الصادقين » مع علي و أصحابه و روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله « و كونوا مع الصادقين » قال مع آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل مع النبيين و الصديقين في الجنة بالعمل الصالح في الدنيا عن الضحاك و قيل مع محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و أصحابه عن نافع و قيل مع الذين صدقت نياتهم و استقامت قلوبهم و أعمالهم و خرجوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لم يتخلفوا عنه عن ابن عباس و قيل إن معنى مع هنا معنى من فكأنه أمر بالكون من جملة الصادقين و يعضده قراءة من قرأ من الصادقين و المعنيان متقاربان هنا لأن مع للمصاحبة و من للتبعيض فإذا كان من جملتهم فهو معهم و بعضهم و قال ابن مسعود لا يصلح من الكذب جد و لا هزل و لا أن يعد أحدكم صبية ثم لا ينجز له اقرءوا إن شئتم هذه الآية هل ترون في الكذب رخصة .

مجمع البيان ج : 5 ص : 123
مَا كانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلهَُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسولِ اللَّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِك بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظمَأٌ وَ لا نَصبٌ وَ لا مخْمَصةٌ فى سبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظ الْكفَّارَ وَ لا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلا كُتِب لَهُم بِهِ عَمَلٌ صلِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(120) وَ لا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صغِيرَةً وَ لا كبِيرَةً وَ لا يَقْطعُونَ وَادِياً إِلا كتِب لهَُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ(121)

اللغة

الرغبة طلب المنفعة يقال رغب فيه إذا طلب المنفعة به و رغب عنه إذا طلب المنفعة بتركه و الظمأ شدة العطش و النصب التعب و مثله الوصب قال النابغة :
كليني لهم يا أميمة ناصب
و ليل أقاسيه بطيء الكواكب و المخمصة المجاعة و أصله ضمور البطن للمجاعة و رجل خميص البطن و امرأة خمصانة ضامرة البطن و الموطأ الأرض و الغيظ انتقاض المطبع بما يرى مما يسوؤه يقال غاظه يغيظه .

المعنى

لما قص الله سبحانه قصة الذين تأخروا عن الخروج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى غزوة تبوك ثم اعتذارهم عن ذلك و توبتهم منه و أنه قبل توبة من ندم على ما كان منه لرأفته بهم و رحمته عليهم ذكر عقيب ذلك على وجه التوبيخ لهم و الإزراء على ما كانوا فعلوه فقال « ما كان لأهل المدينة و من حولهم من الإعراب أن يتخلفوا عن رسول الله » ظاهره خبر و معناه نهي مثل قوله ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله أي ما كان يجوز و ما كان يحل لأهل مدينة الرسول و من حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عنه في غزاة تبوك و غيرها بغير عذر و قيل إنه مزينة و جهينة و أشجع و غفار و أسلم « و لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه » أي ما كان يجوز لهم و لجميع المؤمنين أن يطلبوا نفع نفوسهم بتوقيتها دون نفسه و هذه فريضة ألزمهم الله إياها لحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما دعاهم إليه من الهدى الذي اهتدوا به و خرجوا من ظلمة الكفر
مجمع البيان ج : 5 ص : 124

إلى نور الإيمان و قيل معناه و لا يرضوا لأنفسهم بالخفض و الدعة و رسول الله في الحر و المشقة يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي ترفعت عنه بل عليهم أن يجعلوا أنفسهم وقاية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « ذلك » أي ذلك النهي لهم و الزجر عن التخلف « بأنهم لا يصيبهم ظمأ » أي عطش « و لا نصب » أي و لا تعب في أبدانهم « و لا مخمصة في سبيل الله » أي و لا مجاعة و هي شدة الجوع في طاعة الله « و لا يطئون موطئا يغيظ الكفار » أي لا يضعون أقدامهم موضعا يغيظ الكفار وطؤهم إياه يعني دار الحرب فإن الإنسان يغيظه و يغضبه إن يطأ غيره موضعه « و لا ينالون من عدو نيلا » أي و لا يصيبون من المشركين أمرا من قتل أو جراحة أو مال أو أمر يغمهم و يغيظهم « إلا كتب لهم به عمل صالح » و طاعة رفيعة « إن الله لا يضيع أجر المحسنين » أي الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي يستحق بها المدح و الثواب و في هذا تحريض على الجهاد و أعمال الخير « و لا ينفقون نفقة صغيرة و لا كبيرة » أي و لا ينفقون في الجهاد و لا في غيره من سبل الخير و المعروف نفقة قليلة و لا كثيرة يريدون بذلك إعزاز دين الله و نفع المسلمين و التقرب بذلك إلى الله تعالى « و لا يقطعون واديا » أي و لا يجاوزون واديا « إلا كتب لهم » ثواب ذلك « ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون » أي يكتب طاعاتهم ليجزيهم عليها بقدر استحقاقهم و يزيدهم من فضله حتى يصير الثواب أحسن و أكثر من عملهم و قيل إن الأحسن من صفة فعلهم لأن الأعمال على وجوه واجب و مندوب و مباح و إنما يجازي على الواجب و المندوب دون المباح فيقع الجزاء على أحسن الأعمال و قيل معناه ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون قال ابن عباس يرضيهم بالثواب و يدخلهم الجنة بغير حساب و الآيتان تدلان على وجوب الجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و حظر التخلف عنه و قد اختلف في ذلك فقيل المراد بذلك جميع من دعاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى الجهاد و هو الصحيح و قيل المراد به أهل المدينة و من حولها من الأعراب ثم اختلف فيه من وجه آخر فقيل إنه خاص في النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليس لأحد أن يتخلف عنه في الجهاد إلا لعذر فأما غيره من الأئمة فيجوز التخلف عنه عن قتادة و قيل إن ذلك لأول هذه الأمة و آخرها من المجاهدين في سبيل الله عن الأوزاعي و ابن المبارك و قيل إن هذا كان في ابتداء الإسلام و في أهله قلة فأما الآن و قد كثر الإسلام و أهله فإنه منسوخ بقوله « و ما كان المؤمنون لينفروا كافة » الآية عن ابن زيد و هذا هو الأقوى لأنه لا خلاف أن الجهاد من فروض الكفايات فلو لزم كل أحد لصار من فروض الأعيان .

مجمع البيان ج : 5 ص : 125
* وَ مَا كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِن كلِّ فِرْقَة مِّنهُمْ طائفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيهِمْ لَعَلَّهُمْ يحْذَرُونَ(122) يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(123) وَ إِذَا مَا أُنزِلَت سورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتهُمْ إِيمَناً وَ هُمْ يَستَبْشِرُونَ(124) وَ أَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَ مَاتُوا وَ هُمْ كفِرُونَ(125)

اللغة

التفقه تعلم الفقه و الفقه العلم بالشيء و في حديث سلمان أنه قال لامرأة فقهت أي علمت و فهمت فأما فقهت بضم القاف فمعناه صارت فقيهة و قد اختص في العرف بعلم الأحكام الشرعية فيقال لكل عالم بها فقيه و قيل الفقه فهم المعاني المستنبطة و لذلك لا يقال الله سبحانه فقيه و الحذر تجنب الشيء بما فيه من المضرة قال الزجاج يقال غلظة و غلظة و غلظة ثلاث لغات قال أبو الحسن قراءة الناس بالكسر و هي العربية و المراد بالمرض في الآية الشك فإنه فساد في القلب يحتاج إلى العلاج كما أن الفساد في البدن يحتاج إلى مداواة و مرض القلب أعضل و علاجه أعسر و دواؤه أعز و أطباؤه أقل .

الإعراب

« لو لا نفر » بمعنى هلا نفر و هي للتحضيض إذا دخلت على الفعل فإذا دخلت على الاسم فمعناها امتناع الشيء لأجل وجود غيره ، « ليتفقهوا » أي ليتفقه باقوهم لأنه إذا نفر طائفة منهم تفقه من بقي منهم و إن شئت فمعناه ليتفقه كلهم لأنه من نفر منهم إذا رجع استعلم من بقي فصار كلهم فقهاء « و هم يستبشرون » جملة في موضع الحال و كذلك قوله « و هم كافرون » .

النزول

قيل كان رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) إذا خرج غازيا لم يتخلف عنه إلا المنافقون و المعذرون فلما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين و بين نفاقهم في غزاة تبوك قال المؤمنون و الله لا نتخلف عن غزاة يغزوها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لا سرية أبدا فلما أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالسرايا
مجمع البيان ج : 5 ص : 126
إلى الغزو نفر المسلمون جميعا و تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وحده فأنزل الله سبحانه « و ما كان المؤمنون لينفروا » الآية عن ابن عباس في رواية الكلبي و قيل إنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا و خصبا و دعوا من وجدوا من الناس على الهدى فقال الناس و ما نراكم إلا و قد تركتم صاحبكم و جئتمونا فوجدوا في أنفسهم في ذلك حرجا و أقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل الله عز و جل هذه الآية عن مجاهد .

المعنى

لما تقدم الترغيب في الجهاد بأبلغ أسباب الترغيب و تأنيب من تخلف عنه بأبلغ أسباب التأنيب بين في هذه الآية موضع الرخصة في تأخر من تأخر عنه فقال سبحانه « و ما كان المؤمنون لينفروا كافة » و هذا نفي معناه النهي أي ليس للمؤمنين أن ينفروا و يخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم و يتركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فريدا وحيدا و قيل معناه ليس عليهم أن ينفروا كلهم من بلادهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليتعلموا الدين و يضيعوا ما وراءهم و يخلوا ديارهم عن الجبائي « فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين » اختلف في معناه على وجوه ( أحدها ) أن معناه فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة و يبقى مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) جماعة ليتفقهوا في الدين يعني الفرقة القاعدين يتعلمون القرآن و السنن و الفرائض و الأحكام فإذا رجعت السرايا و قد نزل بعدهم قرآن و تعلمه القاعدون قالوا لهم إذا رجعوا إليهم أن الله قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآنا و قد تعلمناه فتتعلمه السرايا فذلك قوله « و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم » أي و ليعلموهم القرآن و يخوفوهم به إذا رجعوا إليهم « لعلهم يحذرون » فلا يعلمون بخلافه عن ابن عباس في رواية الوالبي و قتادة و الضحاك و قال الباقر (عليه السلام) كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله أن تنفر منهم طائفة و تقيم طائفة للتفقه و أن يكون الغزو نوبا ( و ثانيها ) أن التفقه و الإنذار يرجعان إلى الفرقة النافرة و حثها الله تعالى على التفقه لترجع إلى المتخلفة فتحذرها و معنى « ليتفقهوا في الدين » ليتبصروا و يتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين و نصرة الدين و لينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد فيخبروهم بنصر الله النبي و المؤمنين و يخبروهم أنهم لا يدان لهم بقتال النبي و المؤمنين لعلهم يحذرون أن يقاتلوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار عن الحسن و أبي مسلم قال أبو مسلم اجتمع للنافرة ثواب الجهاد و التفقه في الدين و إنذار قومهم ( و ثالثها ) أن التفقه راجع إلى النافرة و التقدير ما كان لجميع المؤمنين أن ينفروا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و يخلوا ديارهم و لكن لينفر إليه من كل ناحية طائفة لتسمع كلامه و تتعلم الدين منه ثم ترجع إلى قومها فتبين لهم ذلك و تنذرهم عن الجبائي قال و المراد بالنفر هنا الخروج لطلب العلم و إنما سمي
مجمع البيان ج : 5 ص : 127
ذلك نفرا لما فيه من مجاهدة أعداء الدين قال القاضي أبو عاصم و في هذا دليل على اختصاص الغربة بالتفقه و أن الإنسان يتفقه في الغربة ما لا يمكنه ذلك في الوطن ثم بين سبحانه ما يجب تقديمه فقال « يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار » أي قاتلوا من قرب منكم من الكفار الأقرب منهم فالأقرب في النسب و الدار و قال الحسن كان هذا قبل الأمر بقتال المشركين كافة و قال غيره هذا الحكم قائم الآن لأنه لا ينبغي لأهل كل بلد أن يخرجوا إلى قتال الأبعد و يدعوا الأقرب و الأدنى لأن ذلك يؤدي إلى الضرر و ربما يمنعهم ذلك عن المضي في وجهتهم إلا أن يكون بينهم و بين الأقرب موادعة فلا بأس حينئذ بمجاوزة الأقرب إلى الأبعد على ما يراه المتولي لأمور المسلمين و لو قال سبحانه قاتلوا الأبعد فالأبعد لكان لا يصح لأنه لا حد للأبعد يبتدىء منه كما للأقرب و في هذا دلالة على أنه يجب على أهل كل ثغر الدفاع عن أنفسهم إذا خافوا على بيضة الإسلام و إن لم يكن هناك إمام عادل و قال ابن عباس أمروا أن يقاتلوا الأدنى فالأدنى من عدوهم مثل قريظة و النضير و خيبر و فدك و قال ابن عمر أنهم الروم لأنهم سكان الشام و الشام أقرب إلى المدينة من العراق و كان الحسن إذا سئل عن قتال الروم و الترك و الديلم تلا هذه الآية « و ليجدوا فيكم غلظة » أي شجاعة عن ابن عباس و قيل شدة عن مجاهد و قيل صبرا على الجهاد عن الحسن و المعنى و ليحسوا منكم بضد اللين و خلاف الرقة و هو العنف و الشدة ليكون زجرا لهم « و اعلموا أن الله مع المتقين » عن الشرك أي معينهم و ناصرهم و من كان الله ناصره لم يغلبه أحد فأما إذا نصره سبحانه بالحجة فإنه يجوز أن يغلب بالحرب لضرب من المحنة و شدة التكليف ثم عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال سبحانه « و إذا ما أنزلت سورة » في القرآن « فمنهم » أي من المنافقين « من يقول » على وجه الإنكار أي يقول بعضهم لبعض « أيكم زادته هذه » السورة « إيمانا » و قيل معناه يقول المنافقون للمؤمنين الذين في إيمانهم ضعف أيكم زادته هذه السورة إيمانا أي يقينا و بصيرة « فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا » معناه فأما المؤمنون المخلصون فزادتهم تصديقا بالفرائض مع إيمانهم بالله عن ابن عباس و وجه زيادة الإيمان أنهم كانوا مؤمنين بما قد نزل من قبل و آمنوا بما أنزل الآن « و هم يستبشرون » أي يسرون و يبشر بعضهم بعضا قد تهللت وجوههم و فرحوا بنزولها « و أما الذين في قلوبهم مرض » أي شك و نفاق « فزادتهم رجسا إلى رجسهم » أي نفاقا و كفرا إلى نفاقهم و كفرهم لأنهم يشكون في هذه السورة كما شكوا فيما تقدمها من السورة فذلك هو الزيادة و سمي الكفر رجسا على وجه الذم له و أنه يجب تجنبه كما يجب تجنب الأرجاس و أضاف الزيادة إلى السورة لأنهم يزدادون عندها رجسا و مثله كفى بالسلامة داء و قول الشاعر :
و حسبك داء أن تصح و تسلما « و ماتوا
مجمع البيان ج : 5 ص : 128
و هم كافرون » أي و أداهم شكهم فيما أنزل الله تعالى من السور إلى أن ماتوا على كفرهم و آبوا شر م آب .
أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فى كلِّ عَام مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَينِ ثمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكرُونَ(126) وَ إِذَا مَا أُنزِلَت سورَةٌ نَّظرَ بَعْضهُمْ إِلى بَعْض هَلْ يَرَام مِّنْ أَحَد ثُمَّ انصرَفُوا صرَف اللَّهُ قُلُوبهُم بِأَنهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ(127) لَقَدْ جَاءَكمْ رَسولٌ مِّنْ أَنفُسِكمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(128) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسبىَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكلْت وَ هُوَ رَب الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(129)

القراءة

قرأ أ و لا ترون بالتاء حمزة و يعقوب و هي قراءة أبي و القراءة المشهورة « من أنفسكم » بضم الفاء و قرأ ابن عباس و ابن علية و ابن محيصن و الزهري من أنفسكم بفتح الفاء و قيل إنها قراءة فاطمة (عليهاالسلام) .

الحجة

من قرأ بالتاء فهو خطاب للمؤمنين و من قرأ بالياء فهو تقريع للمنافقين بالإعراض عما يجب أن لا يعرضوا عنه من التوبة و الإقلاع عما هم عليه من النفاق و من قرأ من أنفسكم بفتح الفاء فمعناه من أشرفكم و من خياركم يقال هذا أنفس المتاع أي أجوده و خياره و اشتقاقه من النفس و هي أشرف ما في الإنسان .

اللغة

العزيز الشديد و العزيز في صفات الله تعالى معناه المنيع القادر الذي لا يتعذر عليه فعل ما يريده و العزة امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه و هو على ثلاثة أوجه امتناع الشيء بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة و العنت لقاء الشدة و الأذى الذي يضيق به الصدر و عنت الدابة يعنت عنتا إذا حدث في قوائمه كسر بعد جبر لا يمكنه معه الجري فكأنه شق عليه الجري و أكمة عنوت شاقة المصعد و حسبي الله أي كافي الله و هو من الحساب لأنه
مجمع البيان ج : 5 ص : 129
تعالى يعطي بحسب الكفاية التي تغني عن غيره و يزيد من نعمة ما لا يبلغ إلى حد و نهاية إذ نعمه دائمة و مننه متواترة متظاهرة و التوكل تفويض الأمر إلى الله على الثقة بحسن تدبيره و كفايته .

الإعراب

« أ و لا يرون » الواو للعطف دخلت عليها همزة الاستفهام و يحتمل الرؤية أن تكون المتعدية إلى مفعولين و أن تكون من رؤية العين فإذا كانت المتعدية إلى المفعولين يسدان مسدهما و إن كانت من رؤية العين يكون أبلغ « ما عنتم » ما مصدرية و تقديره عزيز عليه عنتكم فهو في موضع رفع بعزيز و قوله « لا إله إلا هو » جملة في موضع الحال و تقديره حسبي الله مستحقا لإخلاص العبادة و الإقرار بالوحدانية و جر القراء كلهم العظيم على أنه صفة العرش و لو قرىء بالرفع على أن يكون صفة لرب العرش لجاز .

المعنى

ثم نبه سبحانه على إعراض المنافقين عن النظر و التدبر لما ينبغي أن ينظروا و يتدبروا فيه فقال « أ و لا يرون » أي أ و لا يعلم هؤلاء المنافقون و قيل معناه أ و لا يبصرون « أنهم يفتنون » أي يمتحنون « في كل عام مرة أو مرتين » أي دفعة أو دفعتين بالأمراض و الأوجاع و هو رائد الموت « ثم لا يتوبون » أي لا يرجعون عن كفرهم « و لا هم يذكرون » أي لا يتذكرون نعم الله عليهم و قيل يمتحنون بالجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و ما يرون من نصرة الله رسوله و ما ينال أعداؤه من القتل و السبي عن ابن عباس و الحسن و قيل بالقحط و الجوع عن مجاهد و قيل بهتك أستارهم و ما يظهر من خبث سرائرهم عن مقاتل و قيل بالبلاء و الجلاء و منع القطر و ذهاب الثمار عن الضحاك « و إذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض » معناه و إذا أنزلت سورة من القرآن و هم حضور عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كرهوا ما يسمعونه و نظر بعضهم إلى بعض نظرا يؤمنون به « هل يراكم من أحد » و إنما يفعلون ذلك لأنهم منافقون يحذرون أن يعلم بهم فكأنهم يقول بعضهم لبعض « هل يراكم من أحد » ثم يقومون فينصرفون و إنما يفعلون ذلك مخافة أن تنزل آية تفضحهم و كانوا لا يقولون ذلك بألسنتهم و لكن ينظرون نظر من يقول لغيره ذلك القول فكأنه يقول ذلك و قيل معناه أن المنافقين كان ينظر بعضهم إلى بعض نظر تعنت و طعن في القرآن ثم يقولون هل يرانا أحد من المسلمين فإذا تحقق لهم أنه لا يراهم أحد من المسلمين بالغوا فيه و إن علموا أنهم يراهم واحد منهم كفوا عنه « ثم انصرفوا » أي انصرفوا عن المجلس و قيل انصرفوا عن الإيمان به « صرف الله قلوبهم » عن الفوائد التي يستفيدها المؤمنون و السرور بها و حرموا الاستبشار بتلك الحال و قيل معناه صرف الله قلوبهم عن رحمته و ثوابه عقوبة لهم على انصرافهم عن الإيمان بالقرآن و عن مجلس
مجمع البيان ج : 5 ص : 130
النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل إنه على وجه الدعاء عليهم أي خذلهم الله باستحقاقهم ذلك و دعاء الله على عباده وعيد لهم و إخبار بلحاق العذاب بهم عن أبي مسلم « بأنهم قوم لا يفقهون » أي ذلك بسبب أنهم لا يفقهون مراد الله بخطابه لأنهم لا ينظرون فيه ثم خاطب الله سبحانه جميع الخلق و أكد خطابه بالقسم فقال « لقد جاءكم رسول من أنفسكم » عنى بالرسول محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي جاءكم رسول من جنسكم من البشر ثم من العرب ثم من بني إسماعيل عن السدي و قيل إن الخطاب للعرب و ليس في العرب قبيلة إلا و قد ولدت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و له فيهم نسب عن ابن عباس و قيل معناه أنه من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية عن الصادق (عليه السلام) و روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام و إنما من الله عليهم بكونه منهم لأنهم عرفوا مولده و منشأه و شاهدوه صغيرا و كبيرا و عرفوا حاله في صدقه و أمانته و لم يعثروا على شيء يوجب نقصا فيه فبالحري أن يكونوا أقرب إلى القبول منه و الانقياد له « عزيز عليه ما عنتم » معناه شديد عليه عنتكم أي ما يلحقكم من الضرر بترك الإيمان و قيل معناه شديد عليه ما أثمتم عن الكلبي و الضحاك و قيل ما أعنتكم و ضركم عن القتيبي و قيل ما هلكتم عليه عن ابن الأنباري « حريص عليكم » معناه حريص على من لم يؤمن أن يؤمن عن الحسن و قتادة « بالمؤمنين رءوف رحيم » قيل هما واحد و الرأفة شدة الرحمة و قيل رءوف بالمطيعين منهم رحيم بالمذنبين و قيل رءوف بأقربائه رحيم بأوليائه رءوف لمن رآه رحيم بمن لم يره و قال بعض السلف لم يجمع الله سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإنه قال « بالمؤمنين رءوف رحيم » و قال « إن الله بالناس لرءوف رحيم » « فإن تولوا » أي ذهبوا عن الحق و اتباع الرسول و ما يأمرهم به و أعرضوا عن قبوله و قيل معناه فإن تولوا عنك و عن الإقرار بنبوتك « فقل حسبي الله » أي كافي الله فإنه القادر على كل شيء « لا إله إلا هو عليه توكلت » و به وثقت و عليه اعتمدت و أموري إليه فوضت « و هو رب العرش العظيم » خص العرش بالذكر تفخيما لشأنه و لأنه إذا كان رب العرش مع عظمه كان رب ما دونه في العظم و قيل إن العرش عبارة عن الملك و السلطان فمعناه رب الملك العظيم في السماوات و الأرض عن أبي مسلم و قيل إن هذه الآية آخر آية نزلت من السماء و آخر سورة كاملة نزلت سورة براءة و قال قتادة آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان خاتمة براءة .

مجمع البيان ج : 5 ص : 131
( 10 ) سورة يونس مكية و آياتها تسع و مائة ( 109 )
هي مكية في قول الأكثرين و روي عن ابن عباس و قتادة إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة « فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك » إلى آخرهن و قال ابن المبارك ألا « و منهم من يؤمن به » الآية فإنها نزلت في اليهود بالمدينة .

عدد آيها

مائة و تسع آيات عند الجميع غير الشامي فإنه يقول و عشر آيات .

اختلافها

ثلاث آيات « مخلصين له الدين » و « شفاء لما في الصدور » شامي « من الشاكرين » غير الشامي .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) قال من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس و كذب به و بعدد من غرق مع فرعون و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال من قرأ سورة يونس في كل شهرين أو ثلاثة لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين كان يوم القيامة من المقربين .

تفسيرها

لما ختم الله سورة البراءة بذكر الرسول افتتح هذه السورة بذكره و ما أنزل عليه من القرآن فقال .

مجمع البيان ج : 5 ص : 132
سورة يونس
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْك ءَايَت الْكِتَبِ الحَْكِيمِ(1) أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلى رَجُل مِّنهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاس وَ بَشرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْق عِندَ رَبهِمْ قَالَ الْكفِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسحِرٌ مُّبِينٌ(2)

القراءة

قرأ الر بإمالة الراء أبو عمرو و أهل الكوفة غير عاصم إلا يحيى و قرأ الباقون بالتفخيم و قرأ لساحر بالألف ابن كثير و أهل الكوفة و قرأ الباقون « لسحر » بكسر السين و بغير ألف .

الحجة

قال أبو علي من أمال فقال رأيا فلأنها أسماء لما تلفظ بها من الأصوات المنقطعة في مخارج الحروف كما أن غاق اسم للصوت الذي يصوته الغراب فجازت الإمالة فيها من حيث كانت اسما و لم تكن كالحروف التي يمتنع فيها الإمالة نحو ما و لا و ما أشبههما من الحروف فإن قلت إن الأسماء لا تكون على حرفين أحدهما حرف لين و إنما يكون على هذه الصفة الحروف نحو ما و لا فالقول إن هذه الأسماء لا يمتنع أن تكون على حرفين أحدهما حرف لين لأن التنوين لا يلحقها فيؤمن لامتناع التنوين من اللحاق لها أن تبقى على حرف واحد فإذا أمن ذلك لم يمتنع أن يكون الاسم على حرفين أحدهما حرف لين أ لا ترى أنهم قد قالوا هذا شاة فجاء على حرفين أحدهما حرف لين لما أمن لحاق التنوين له لاتصال علامة التأنيث به و كذلك قولك رأيت رجلا ذا مال لاتصال المضاف إليه به و كذلك قولهم كسرت فأزيد قال و يدل على قول من قال « لسحر » قوله سبحانه قالوا هذا سحر و إنا به كافرون و يدل على ساحر قوله و قال الكافرون هذا ساحر كذاب و قد تقدم قوله « أوحينا إلى رجل منهم » فمن قرأ ساحر أراد الرجل و من قرأ سحر أراد الذي أوحي سحر .

اللغة

الآية العلامة التي تنبىء عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة و القرآن مفصل بالآيات مضمن بالحكم النافية للشبهات و الحكيم هاهنا بمعنى المحكم فعيل بمعنى مفعل قال الأعشى :
و غريبة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
مجمع البيان ج : 5 ص : 133
و أنشد أبو عبيدة لأبي ذويب :
يواعدني عكاظ لننزلنه
و لم يشعر إذا أني خليف أي مخلف من أخلفته الوعد و قيل هو بمعنى الحاكم و دليله قوله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه قال الأزهري القدم الشيء الذي تقدمه قدامك ليكون عدة لك حتى تقدم عليه و قيل القدم المقدم كالنقض و القبض قال ابن الأعرابي القدم المتقدم في الشرف و قال العجاج :
ذل بنو العوام عن آل الحكم
و تركوا الملك لملك ذي قدم و قال الأزهري فلان يمشي اليقدمية و التقدمية إذا تقدم في الشرف و قال أبو عبيدة و الكسائي كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم و يقال الفلان قدم في الإسلام و هو مؤنث يقال قدم حسنة قال حسان :
لنا القدم العليا إليك و خلفنا
لأولنا في طاعة الله تابع و قال ذو الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها
مع الحسب العادي طمت على البحر

الإعراب

أضيفت آيات إلى الكتاب لأنها أبعاض الكتاب كما أن سورة أبعاضه و « أن أوحينا » في موضع رفع بأنه اسم كان و عجبا خبره و اللام في قوله « للناس » يتعلق بمحذوف كان صفة لعجب فلما تقدم صار حالا كقوله :
لعزة موحشا طلل قديم و إن شئت كان ظرفا لكان و « أن أنذر » في موضع نصب تقديره أوحينا بأن أنذر فحذف الجار فوصل الفعل و « أن لهم قدم صدق » كذلك موضعه نصب بقوله « و بشر » و لو قرىء إن لهم بالكسر لكان جائزا لأن البشارة في معنى القول إلا أنه لم يقرأ به و أضيف قدم إلى صدق كما يقال مسجد الجامع .

المعنى

قد مضى الكلام في معاني الحروف المعجمة المذكورة في أوائل السور من قبل « تلك آيات الكتاب الحكيم » معناه أن الآيات التي جرى ذكرها أو الآيات التي أنزلت على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) هي آيات القرآن المحكم من الباطل الممنوع من الفساد لا كذب فيه
مجمع البيان ج : 5 ص : 134
و لا اختلاف و قيل تلك أي هذه السور آيات الكتاب الحكيم أي اللوح المحفوظ و سماه محكما لأنه ناطق بالحكمة و قيل لأنه جمع العلوم و الحكمة و قيل إنما وصف الكتاب بالحكيم لأنه دليل على الحق كالناطق بالحكمة و لأنه يؤدي إلى المعرفة التي تميز بها طريق الهلاك من طريق النجاة « أ كان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس » هذه ألف استفهام المراد به الإنكار و قيل إن المراد بالناس هنا أهل مكة قالوا نعجب أن الله سبحانه لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب و التقدير أ كان إيحاؤنا إلى رجل من الناس بأن ينذرهم عجبا و معناه لما ذا تعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم و ليس هذا موضع التعجب بل هو الذي كان يجب فعله عند كل العقلاء فإن الله تعالى لما أكمل لعباده عقولهم و كلفهم معرفته و أداء شكره و علم أنهم لا يصلحون و لا يقومون بذلك الإبداع يدعوهم إليه و منبه ينبههم عليه وجب في الحكمة أن يفعل ذلك ثم بين سبحانه الوجه الذي لأجله بعث و ما الذي أوحى إليه فقال « أن أنذر الناس » أي أخبرهم بالعذاب و خوفهم به « و بشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم » أي عرفهم ما فيه الشرف و الخلود في نعيم الجنة على وجه الإكرام و الإجلال لصالح الأعمال و قيل « أن لهم قدم صدق » أي أجرا حسنا و منزلة رفيعة بما قدموا من أعمالهم عن ابن عباس و روي عنه أيضا أن المعنى سبقت لهم السعادة في الذكر الأول و يؤيده قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية و قيل هو تقديم الله تعالى إياهم في البعث يوم القيامة بيانه قوله (عليه السلام) نحن الآخرون السابقون يوم القيامة و قيل أن القدم اسم للحسنى من العبد و اليد اسم للحسنى من السيد للفرق بين السيد و العبد و قيل إن معنى قدم صدق شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لهم يوم القيامة عن أبي سعيد الخدري و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) « قال الكافرون إن هذا لساحر مبين » يعنون النبي أي قالوا هذا ساحر مظهر للسحر و ما أتى به سحر بين على اختلاف القراءتين و السحر فعل يخفى وجه الحيلة فيه حتى يتوهم أنه معجز و هذا يدل على عجزهم عن معارضة القرآن و لذلك عدلوا إلى وصفه بالسحر .

مجمع البيان ج : 5 ص : 135
إِنَّ رَبَّكمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض فى سِتَّةِ أَيَّام ثمَّ استَوَى عَلى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شفِيع إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكمُ اللَّهُ رَبُّكمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ(3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقاًّ إِنَّهُ يَبْدَؤُا الخَْلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ بِالْقِسطِ وَ الَّذِينَ كفَرُوا لَهُمْ شرَابٌ مِّنْ حَمِيم وَ عَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كانُوا يَكْفُرُونَ(4)

القراءة

قرأ أبو جعفر المدني أنه يبدأ بفتح الهمزة و هو قراءة الأعمش و الباقون بكسرها .

الحجة

من قرأ أنه فتقديره وعد الله حقا لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده أي من قدر على هذا الأمر العظيم فإنه غني عن إخلاف الوعد و إن شئت كان تقديره وعد الله وعدا حقا إنه يبدؤا الخلق فيكون في محل النصب بالفعل الناصب لقوله وعدا قال ابن جني و لا يجوز أن يكون إن منصوبة الموضع بنفس وعدا لأنه قد وصف بقوله « حقا » و الصفة إذا جرت على موصوفها أذنت بتمامه و انقضاء أجزائه و لا يكون تاما إذا كان ما بعد الصفة من صلته فأما قول الحطيئة :
أزمعت يأسا مبينا من نوالكم
و لن ترى طاردا للحر كاليأس فإن قوله من نوالكم ليس من صلة يأس بل يتعلق بفعل يدل عليه قوله يأسا مبينا فكأنه قال فيما بعد يئست من نوالكم و قال الفراء من فتح جعله مفعول حقا كما في قول الشاعر :
أ حقا عباد الله أن لست زائرا
بثينة أو يلقى الثريا رقيبها

اللغة

القسط العدل و منه القسط النصيب و القسط بفتح القاف الجور و القسط بفتح القاف و السين اعوجاج في الرجلين و الحميم الماء الذي أسخن بالنار أشد إسخان قال المرقش الأصغر :
في كل يوم لها مقطرة
فيها كباء معد و حميم
مجمع البيان ج : 5 ص : 136

الإعراب

جميعا نصب على الحال « وعد الله » منصوب على المصدر لأن قوله « إليه مرجعكم » معناه الوعد بالرجوع و حقا منصوب على أحق ذلك حقا عن الزجاج و أضيف المصدر في قوله « وعد الله » إلي الفاعل لما لم يذكر الفعل كما في قول كعب بن زهير :
تسعى الوشاة جنابيها و قيلهم
إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول أي و يقولون قيلهم .

المعنى

« إن ربكم » أي خالقكم و منشئكم و مالك تدبيركم و تصريفكم من أمره و نهيه و الذي يجب عليكم عبادته « الله الذي خلق السماوات و الأرض » أي اخترعهما و أنشأهما على ما فيهما من عجائب الصنعة و بدائع الحكمة « في ستة أيام » بلا زيادة و نقصان مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدة و الوجه فيه أن في ذلك مصلحة للملائكة و عبرة لهم و لغيرهم إذا أخبروا عن ذلك و كذلك تصريف الإنسان حالا بعد حال و إخراج الثمار و الأزهار شيئا بعد شيء مع قدرته على ذلك في أقل من لمح البصر لأن ذلك أبعد من توهم الاتفاق فيه « ثم استوى على العرش » مر تفسيره في سورة الأعراف و قيل إن العرش المذكور هنا هو السماوات و الأرض لأنهن من بنائه و العرش البناء و أما العرش المعظم الذي تعبد الله سبحانه الملائكة بالحفوف به و الإعظام له و عناه بقوله الذين يحملون العرش و من حوله فهو غير هذا و قيل إن ثم هنا بمعنى الواو و قيل إن ثم دخل على التدبير و تقديره أي ثم استوى عليه بإنشاء التدبير من جهته كما يستوي الملك على سرير ملكه بالاستيلاء على تدبيره فإن تدبير الأمور كلها ينزل من عند العرش و لهذا ترفع الأيدي في دعاء الحوائج نحو العرش « يدبر الأمر » أي يقدر و ينفذه على وجهه و يرتبه على مراتبه على أحكام عواقبه و هو مأخوذ من الدبور « ما من شفيع إلا من بعد إذنه » إنما قال هذا و إن لم يجر ذكر للشفعاء لأن الكفار كانوا يقولون الأصنام شفعاؤنا عند الله فبين سبحانه أن الشفيع إنما يشفع عنده إذا أذن له في الشفاعة و إذا كانت الأصنام لا تعقل فكيف تكون شافعة مع أنه لا يشفع عنده أحد من الملائكة و النبيين إلا بإذنه و أمره « ذلكم الله ربكم » أي إن الموصوف بهذه الصفات هو إلهكم « فاعبدوه » وحده لأنه لا إله لكم سواه و لا يستحق هذه الصفات غيره و لا تعبدوا الأصنام « أ فلا تذكرون » حثهم سبحانه على التذكر و التفكر فيما أخبرهم به و على تعرف صحته « إليه مرجعكم جميعا » المرجع يحتمل معنيين ( أحدهما ) أن يكونا بمعنى المصدر الذي هو الرجوع
مجمع البيان ج : 5 ص : 137
( و الآخر ) أن يكون بمعنى موضع الرجوع أي إليه موضع رجوعكم يكون إذا شاء « وعد الله حقا » أي وعد الله تعالى ذلك عباده وعدا حقا صدقا « إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده » أي يبتدىء الخلق ابتداء ثم يعيدهم بعد موتهم « ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات » أي ليؤتيهم جزاء أعمالهم « بالقسط » أي بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئا « و الذين كفروا لهم شراب من حميم » أي ماء حار قد انتهى حره في النار « و عذاب أليم » و جميع « بما كانوا يكفرون » أي جزاء على كفرهم .

النظم

وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه قال أ كان للناس عجبا قالوا و كيف لا نعجب و لا علم لنا بالمرسل فقال « إن ربكم الله » و يجوز أن يكون على أنه لما قال أ كان للناس عجبا و كان هذا حكما على الله سبحانه فكأنه قال أ فتحكمون عليه و هو ربكم قال الأصم و يحتمل أن يكون هذا ابتداء خطاب للخلق جميعا احتج الله بها على عباده بما بين من بدائع صنعه في السماوات و الأرض و في أنفسهم .
هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشمْس ضِيَاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السنِينَ وَ الْحِساب مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِك إِلا بِالْحَقِّ يُفَصلُ الاَيَتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ(5) إِنَّ فى اخْتِلَفِ الَّيْلِ وَ النهَارِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ لاَيَت لِّقَوْم يَتَّقُونَ(6)

القراءة

قرأ أهل البصرة و ابن كثير و حفص و العجلي « يفصل » بالياء و الباقون نفصل بالنون .

الحجة

من قرأ بالياء فلأنه تقدم ذكر الله سبحانه فأضمره في الفعل و من قرأ بالنون فمثل قوله تلك آيات الله نتلوها

اللغة

الجعل إيجاد ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها و الضياء يجوز أن يكون جمع ضوء كسوط و سياط و حوض و حياض و يجوز أن يكون مصدر ضاء يضوء ضياء
مجمع البيان ج : 5 ص : 138
و ضوءا مثل عاذ يعوذ عياذا و عوذا و قام يقوم قياما و على أي الوجهين كان فالمضاف محذوف و تقديره جعل الشمس ذات ضياء و القمر ذا نور و يكون جعل النور و الضياء لكثرة ذلك فيهما و الاختلاف ذهاب كل واحد من الشيئين في غير جهة الآخر فاختلاف الليل و النهار ذهاب أحدهما في جهة الضياء و الآخر في جهة الظلام و الليل عبارة عن وقت غروب الشمس إلي طلوع الفجر الثاني و ليل و ليلة مثل تمر و تمرة و النهار عبارة عن اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلي غروب الشمس و النهار و اليوم بمعنى واحد إلا أن في النهار فائدة اتساع الضياء .

المعنى

ثم زاد سبحانه في الاحتجاج للتوحيد فقال « هو الذي جعل الشمس ضياء » بالنهار « و القمر نورا » بالليل و الضياء أبلغ في كشف الظلمات من النور و فيه صفة زائدة على النور « و قدره منازل » أي و قدر القمر منازل معلومة « لتعلموا » به و بمنازله « عدد السنين و الحساب » و أول الشهر و آخره و انقضاء كل سنة و كميتها و جعل الشمس و القمر آيتين من آيات الله تعالى و فيهما أعظم الدلالات على وحدانيته تعالى من وجوه كثيرة منها خلقها و خلق الضياء و النور فيهما و دورانهما و قربهما و بعدهما و مشارقهما و مغاربهما و كسوفهما و في بث الشمس الشعاع في العالم و تأثيرها في الحر و البرد و إخراج النبات و طبخ الثمار و في تمام القمر وسط الشهر و نقصانه في الطرفين ليتميز أول الشهر و آخره من الوسط كل واحد من ذلك نعمة عظيمة من الله سبحانه على خلقه و لذلك قال « ما خلق الله ذلك إلا بالحق » لأن في ذلك منافع للخلق في دينهم و دنياهم و دلائل على وحدانية الله و قدرته و كونه عالما لم يزل و لا يزال « يفصل الآيات » أي يشرحها و يبينها آية آية « لقوم يعلمون » فيعطون كل آية حظها من التأمل و التدبر و قيل إن المعنى في قوله « و قدره منازل » التثنية أي قدر الشمس و القمر منازل غير أنه وحده للإيجاز اكتفاء بالمعلوم كما مر ذكر أمثاله فيما تقدم و كما في قول الشاعر :
رماني بأمر كنت منه و والدي
بريئا و من جول الطوي رماني فإن الشمس تقطع المنازل في كل سنة و القمر يقطعها في كل شهر فإنما يتم الحساب و تعلم الشهور و السنون و الشتاء و الصيف بمقاديرهما و مجاريهما في تداويرهما « إن في اختلاف الليل و النهار و ما خلق الله في السماوات و الأرض » أي فعله فيهما على ما يقتضيه الحكمة في السماوات من الأفلاك و الكواكب السيارة و غير السيارة و في الأرض من الحيوان و النبات و الجماد و أنواع الأرزاق و النعم « لآيات » أي حججا و دلالات على وحدانية الله
 

Back Index Next