جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج5 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


مجمع البيان ج : 5 ص : 297
و هما لا يفنيان إذا أعيدا بعد الإفناء عن الضحاك و الجبائي ( و ثانيها ) أن المراد ما دامت سماوات الجنة و النار و أرضهما و كل ما علاك فأظلك فهو سماء و كل ما استقر عليه قدمك فهو أرض و هذا مثل الأول أو قريب منه ( و ثالثها ) أن المراد ما دامت الآخرة و هي دائمة أبدا كما أن دوام السماء و الأرض في الدنيا قدر مدة بنائها عن الحسن ( و رابعها ) أنه لا يراد به السماء و الأرض بعينها بل المراد التبعيد فإن للعرب ألفاظا للتبعيد في معنى التأبيد يقولون لا أفعل ذلك ما اختلف الليل و النهار و ما دامت السماء و الأرض و ما نبت النبت و ما أطت الإبل و ما اختلف الجرة و الدرة و ما ذر شارق و في أشباه ذلك كثرة ظنا منهم أن هذه الأشياء لا تتغير و يريدون بذلك التأبيد لا التوقيت فخاطبهم سبحانه بالمتعارف من كلامهم على قدر عقولهم و ما يعرفون قال عمرو بن معديكرب :
و كل أخ مفارقة أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان و قال زهير :
ألا لا أرى على الحوادث باقيا
و لا خالدا إلا الجبال الرواسيا
و إلا السماء و النجوم و ربنا
و أيامنا معدودة و اللياليا لأنه توهم أن هذه الأشياء لا تفنى و تخلد و أما الكلام في الاستثناء فقد اختلف فيه أقوال العلماء على وجوه ( أحدها ) أنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار و الزيادة من النعيم لأهل الجنة و التقدير إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره لي عليك ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك لأن الكثير لا يستثني من القليل عن الزجاج و الفراء و علي بن عيسى و جماعة و على هذا فيكون إلا بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربك كما يقال ما كان معنا رجل إلا زيد أي سوى زيد ( و ثانيها ) أن الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر و الحساب لأنهم حينئذ ليسوا في جنة و لا نار و مدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت و الحياة لأنه تعالى لو قال خالدين فيها أبدا و لم يستثن لظن الظان أنهم يكونون في النار و الجنة من لدن نزول الآية أو
مجمع البيان ج : 5 ص : 298
من بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة عن المازني و غيره و اختاره البلخي فإن قيل كيف يستثني من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها فالجواب أن ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل دخولهم فيها ( و ثالثها ) أن الاستثناء الأول يتصل بقوله « لهم فيها زفير و شهيق » و تقديره إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين و لا يتعلق الاستثناء بالخلود و في أهل الجنة يتصل بما دل عليه الكلام فكأنه قال لهم فيها نعيم إلا ما شاء ربك من أنواع النعيم و إنما دل عليه قوله « عطاء غير مجذوذ » عن الزجاج ( و رابعها ) أن يكون إلا بمعنى الواو أي و ما شاء ربك من الزيادة عن الفراء و استشهد على ذلك بقول الشاعر :
و أرى لها دارا بأغدرة السيدان
لم يدرس لها رسم
إلا رمادا هامدا دفعت
عنه الرياح خوالد سحم قال و المراد بإلا الواو هاهنا و إلا كان الكلام متناقضا و هذا القول قد ضعفه محققو النحويين ( و خامسها ) أن المراد ب « الذين شقوا » من أدخل النار من أهل التوحيد الذين ضموا إلى إيمانهم و طاعتهم ارتكاب المعاصي فقال سبحانه أنهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من إخراجهم إلى الجنة و إيصال ثواب طاعاتهم إليهم و يجوز أن يريد ب « الذين شقوا » جميع الداخلين إلى جهنم ثم استثنى بقوله « إلا ما شاء ربك » أهل الطاعات منهم ممن استحق الثواب و لا بد أن يوصل إليه و تقديره إلا ما شاء ربك أن يخرجه بتوحيده من النار و يدخله الجنة و قد يكون ما بمعنى من قال سبحانه سبح لله ما في السماوات و قالت العرب عند سماع الرعد سبحان ما سبحت له و أما في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضا لما ذكرناه لأن من ينقل إلى الجنة من النار و خلد فيها لا بد في الإخبار عنه بتأييد خلوده أيضا من استثناء ما تقدم فكأنه قال خالدين فيها إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار قبل أن ينقلهم إلى الجنة فما في قوله « ما شاء ربك » هاهنا على بابه و الاستثناء من الزمان و الاستثناء في الأول من الأعيان و « الذين شقوا » على هذا القول هم الذين سعدوا بأعيانهم و إنما أجري عليهم كل لفظ في الحال الذي تليق به فإذا أدخلوا النار و عوقبوا فيها فهم من أهل الشقاء و إذا نقلوا منها إلى الجنة فهم من أهل السعادة و هذا قول ابن عباس و جابر بن عبد الله و أبي سعيد الخدري و قتادة و السدي و الضحاك و جماعة من المفسرين و روي أبو روق عن الضحاك عن
مجمع البيان ج : 5 ص : 299
ابن عباس قال « الذين شقوا » ليس فيهم كافر و إنما هم قوم من أهل التوحيد يدخلون النار بذنوبهم ثم يتفضل الله عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنة فيكونون أشقياء في حال سعداء في حال أخرى و قال قتادة الله أعلم بمشيئته ذكر لنا أن ناسا يصيبهم سفع من النار بذنوبهم ثم يدخلهم الله الجنة برحمته يسمون الجهنميين و هم الذين أنفذ فيهم الوعيد ثم أخرجوا بالشفاعة قال و حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال يخرج قوم من النار قال و لا تقول ما يقوله أهل حروراء و هذا القول هو المختار المعول عليه ( و سادسها ) أن تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود و التبعيد للخروج لأن الله تعالى لا يشاء إلا تخليدهم على ما حكم به فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لأنه لا يشاء أن يخرجهم منها ( و سابعها ) ما قاله الحسن أن الله سبحانه استثنى ثم عزم بقوله « إن ربك فعال لما يريد » أنه أراد أن يخلدهم و قريب منه ما قاله الزجاج و غيره أنه استثناء تستثنيه العرب و تفعله كما تقول و الله لأضربن زيدا إلا أن أرى غير ذلك و أنت عازم على ضربه و المعنى في الاستثناء على هذا إني لو شئت أن لا أضربه لفعلت ( و ثامنها ) قال يحيى بن سلام البصري أنه يعني بقوله « إلا ما شاء ربك » ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم من الفريقين و احتج بقوله تعالى و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا قال إن الزمرة تدخل بعد الزمرة فلا بد أن يقع بينهما تفاوت في الدخول و الاستثناء أن على هذا من الزمان ( و تاسعها ) أن المعنى خالدون في النار دائمون فيها مدة كونهم في القبور ما دامت السماوات و الأرض في الدنيا و إذا فنيتا و عدمتا انقطع عقابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب و قوله « إلا ما شاء ربك » استثناء وقع على ما يكون في الآخرة أورده الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه و قال ذكره قوم من أصحابنا في التفسير ( و عاشرها ) أن المراد إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار و الاستثناء لأهل التوحيد عن أبي مجلز قال هي جزاؤهم و إن شاء سبحانه تجاوز عنهم و الاستثناء يكون على هذا من الأعيان « و أما الذين سعدوا » أي سعدوا بطاعة الله و انتهائهم عن المعاصي « ففي الجنة » يكونون في الجنة « خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض » أي مدة دوام السماوات و الأرض « إلا ما شاء ربك » يتأتى فيه جميع ما ذكرناه في الاستثناء من الخلود في النار إلا ما مضى ذكره من جواز إخراج بعض الأشقياء من تناول الوعيد لهم و إخراجهم من النار بعد دخولهم فيها فإن ذلك لا يتأتى هاهنا لإجماع الأمة على أن من استحق الثواب فلا بد أن يدخل الجنة و أنه لا يخرج منها بعد دخوله فيها « عطاء غير مجذوذ » أي غير مقطوع .

مجمع البيان ج : 5 ص : 300
فَلا تَك فى مِرْيَة مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبهُمْ غَيرَ مَنقُوص(109) وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسى الْكتَب فَاخْتُلِف فِيهِ وَ لَوْ لا كلِمَةٌ سبَقَت مِن رَّبِّك لَقُضىَ بَيْنهُمْ وَ إِنهُمْ لَفِى شك مِّنْهُ مُرِيب(110) وَ إِنَّ ُكلاً لَّمَّا لَيُوَفِّيَنهُمْ رَبُّك أَعْمَلَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(111) فَاستَقِمْ كَمَا أُمِرْت وَ مَن تَاب مَعَك وَ لا تَطغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)

القراءة

قرأ أبو جعفر و ابن عامر و حمزة و حفص « و إن كلا لما » بتشديد النون و الميم و قرأ أهل البصرة و الكسائي و خلف « و إن كلا » بتشديد النون لما بتخفيف الميم و قرأ نافع و ابن كثير و إن كلا خفيفة النون لما خفيفة الميم و قرأ أبو بكر عن عاصم و إن كلا خفيفة النون « لما » مشددة الميم و في الشواذ قراءة الزهري و سليمان بن أرقم لما بالتنوين و قراءة ابن مسعود و إن كل بالرفع إلا ليوفينهم .

الحجة

قال أبو علي من قرأ و إن كلا لما بتشديد إن و تخفيف لما فوجهه بين و هو أنه نصب كلا بأن و أن يقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام فدخلت هذه اللام و هي لام الابتداء على الخبر في قوله « لما » و قد دخلت في الخبر لام الأخرى و هي التي تلقي بها القسم و يختص بالدخول على الفعل و يلزمها في أكثر الأمر إحدى النونين فلما اجتمعت اللامان و اتفقتا في تلقي القسم وافقتا في اللفظ فصل بينهما بما كما فصلوا بين إن و اللام فدخلت ما لهذا المعنى و إن كانت زائدة لتفصل كما جلبت النون و إن كانت زائدة في نحو فإما ترين من البشر أحدا و كما صارت عوضا من الفعل في قولهم إما لا بالإمالة و في قوله :
أبا خراشة أما أنت ذا نفر
فإن قومي لم يأكلهم الضبع
مجمع البيان ج : 5 ص : 301
و يلي هذا الوجه في البيان قول من خفف إن و نصب كلا و خفف لما قال سيبويه حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول أن عمرا لمنطلق قال و أهل المدينة يقرءون و إن كلا لما جميع لدينا محضرون يخففون و ينصبون كما قالوا :
كأن ثدييه حقان و وجه النصب بها مع التخفيف من القياس أن إن مشبهة في نصبها بالفعل و الفعل يعمل محذوفا كما يعلم غير محذوف و ذلك في نحو لم يك زيد منطلقا « فلا تك في مرية » و كذلك لا أدر فأما من خفف أن و نصب كلا و ثقل لما فقراءته مشكلة و ذلك أن إن إذا نصب بها و إن كانت مخففة كانت بمنزلتها مثقلة و لما إذا شددت كانت بمنزلة إلا و كذلك قراءة من شدد لما و ثقل أن مشكلة و ذلك أن إن إذا ثقلت و إذا خففت و نصب بها فهي في معنى الثقيلة فكما لا يحسن تثقيل إن زيدا إلا منطلق كذلك لا يحسن تثقيل إن و تثقيل لما فأما مجيء لما في قولهم نشدتك الله لما فعلت و إلا فعلت فقال الخليل الوجه لتفعلن كما تقول أقسمت عليك لتفعلن و أما دخول إلا و لما فلأن المعنى الطلب فكأنه أراد ما أسألك إلا فعل كذا و لم يذكر حرف النفي في اللفظ و إن كان مرادا كما جاء في قولهم شر أهر ذا ناب أي ما أهره إلا شر و ليس في الآية معنى نفي و لا طلب فإن قال قائل لمن ما فأدغم النون في الميم بعد ما قبلها ميما فإن ذلك لا يسوغ أ لا ترى أن الحرف المدغم إذا كان قبله ساكن نحو قوم مالك لم يقو الإدغام فيه على أن يحرك الساكن الذي قبل الحرف المدغم فإذا لم يجز ذلك فيه و كان التغيير أسهل من الحذف فإن لا يجوز الحذف الذي هو أذهب في باب التغيير من تحرك الساكن أجدر على أن في هذه السورة ميمات اجتمعت في الإدغام أكثر مما كان يجتمع في لمن ما و لم يحذف منها شيء و ذلك قوله على أمم ممن معك فإذا لم يحذف شيء من هذا فإن لا يحذف ثم أجدر و قد روي أنه قد قرأ و إن كلا لما منونا كما قال و تأكلون التراث أكلا لما فوصف بالمصدر فإن قال أن لما فيمن ثقل إنما هو لما هذه وقف عليها بالألف ثم أجري في الوصل مجرى الوقف فذلك مما يجوز في الشعر و وجه الإشكال فيه أبين من هذا الوجه و قد حكى عن الكسائي أنه قال لا أعرف وجه التثقيل في لما و لم يبعد فيما قال و لو خفف مخفف أن و رفع كلا بعدها لجاز تثقيل لما مع ذلك على أن يكون المعنى ما كل إلا ليوفينهم فيكون ذلك كقوله و إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا و لكان ذلك أبين من النصب في كل و التثقيل للما و ينبغي أن يقدر المضاف إليه كل نكرة ليحسن وصفه بالنكرة و لا يقدر إضافته إلى معرفة فيمتنع أن يكون لما وصفا له و لا يجوز أن يكون حالا لأنه لا شيء في الكلام عاملا في الحال هذا كله كلام
مجمع البيان ج : 5 ص : 302
أبي علي و قال غيره في معنى لما بالتشديد أربعة أوجه ( أحدها ) قول الفراء أنها بمعنى لمن ما فحذفت إحدى الميمات الثلاث على ما تقدم ذكره و أنشد الفراء :
و إني لما أصدر الأمر وجهه
إذا هو أعيا بالسبيل مصادرة .
( و الثاني ) أنها بمعنى إلا كقولهم سألتك لما فعلت بمعنى إلا فعلت عن الزجاج و قال الفراء هذا لا يجوز إلا في اليمين كما قاله أبو علي ( و الثالث ) أنها مخففة شددت للتأكيد عن المازني قال الزجاج هذا لا يجوز لأنه إنما يجوز تخفيف المشدد عند الضرورة فأما تشديد المخفف فلا يجوز بحال ( و الرابع ) أنها من لممت الشيء إذا جمعته إلا أنها بنيت على فعلى فلم تصرف مثل تترى فكأنه قال و إن كلا جميعا ليوفينهم و يدل عليه قراءة الزهري لما بالتنوين و قال ابن جني تقديره هذا و إن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم لما أي توفية جامعة لأعمالهم جميعا و محصلا لأعمالهم تحصيلا فهو كقولك قياما لأقومن و ذكر الشيخ علي ابن أبي الطيب رحمة الله عليه فيه وجها آخر فقال هاهنا محذوف و تقديره و إن كلا لما عملوا ليوفينهم ربك أعمالهم و الحذف في الكلام كثير قال الشاعر :
إذا قلت سيروا إن ليلى لعلها
جرى دون ليلى مائل القرن أعضب و المراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو هذا فهذا وجه خامس فأما إذا خففت إن فانتصاب كلا مع حمل أن على النفي مشكل و قد ذكر فيه أن يكون التقدير و إن هم إلا ليوفينهم كلا أو و إن هم أعني كلا إلا ليوفينهم و هذان الوجهان مرغوب عنهما و على الجملة فإن تشديد الميم من لما مع تشديد إن و تخفيفه مشكل عند المحققين إذ لا يتأتى في لما هذه معنى لم و لا معنى الحين و لا معنى إلا و لا يعرف لها معنى سوى هذه و من قرأ و إن كل إلا ليوفينهم فمعناه ما كل إلا و الله ليوفينهم كقولك ما زيد إلا لأضربنه أي ما زيد إلا مستحق لأن يقال فيه هذا و يجوز أن يكون مخففة من الثقيلة و إلا زائدة كما في قول الشاعر :
أرى الدهر إلا منجنونا بأهله
و ما طالب الحاجات إلا معللا أي أرى الدهر منجنونا بأهله و على ذلك تأولوا بيت ذي الرمة :
حراجيج ما تنفك إلا مناخة
على الخسف أو يرمي بها بلدا قفرا
مجمع البيان ج : 5 ص : 303
أي ما تنفك مناخة و إلا زائدة .

اللغة

المرية بكسر الميم و ضمها الشك مع ظهور الدلالة للتهمة و هي مأخوذة من مري ضرع الناقة ليدر بعد دروره و النصيب الحظ و هو القسم المجعول له و منه أنصباء الورثة و الاختلاف ذهاب كل واحد إلى جهة غير جهة الآخر و هو على وجهين اختلاف النقيضين و هذا لا يجوز أن يصحا معا فإن أحدهما مبطل لصاحبه و الآخر اختلاف الجنسين كاختلاف المجتهدين في جهة القبلة فهذا يجوز أن يصحا معا و الاستقامة الاستمرار في جهة واحدة و أن لا يعدل يمينا و شمالا و الطغيان تجاوز المقدار في الفساد .

الإعراب

« و من تاب » موصول و صلة في موضع رفع بالعطف على الضمير المستكن في استقم و يجوز أن يكون معطوفا على التاء من أمرت و يكون التقدير في الأول استقم أنت و من تاب معك و في الثاني كما أمرت أنت و من تاب معك و يجوز أن يكون من تاب منصوب الموضع بكونه مفعولا معه .

المعنى

« فلا تك في مرية » أي في شك « مما يعبد هؤلاء » من دون الله تعالى أنه باطل و أنهم يصيرون بعبادتهم إلى عذاب النار « ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل » يعني ما يعبدون غير الله تعالى إلا على جهة التقليد كما كان آباؤهم كذلك « و إنا لموفوهم نصيبهم » أي إنا لمعطوهم جزاء أعمالهم و عقاب أعمالهم وافيا « غير منقوص » عن مقدار ما استحقوه آيسهم سبحانه بهذا القول عن العفو و قيل معناه أنا نعطيهم ما يستحقونه من العقاب بعد أن نوفيهم ما حكمنا لهم به من الخير في الدنيا عن ابن زيد « و لقد آتينا » أي أعطينا « موسى الكتاب » يعني التوراة « فاختلف فيه » يريد أن قومه اختلفوا فيه أي في صحة الكتاب الذي أنزل عليه و أراد بذلك تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن تكذيب قومه إياه و جحدهم للقرآن المنزل عليه فبين أن قوم موسى كذلك فعلوا بموسى فلا تحزن لذلك و لا تغتم له « و لو لا كلمة سبقت من ربك » أي لو لا خبر الله السابق بأنه يؤخر الجزاء إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من المصلحة « لقضي بينهم » أي لعجل الثواب و العقاب لأهله و قيل معناه لفصل الأمر على التمام بين المؤمنين و الكافرين بنجاة هؤلاء و هلاك أولئك « و إنهم لفي شك منه مريب » يعني إن الكافرين لفي شك من وعد الله و وعيده مريب و الريب أقوى الشك و قيل معناه إن قوم موسى لفي شك من نبوته « و إن كلا » من الجاحدين و المخالفين و قيل إن كلا من الفريقين المصدق و المكذب جميعا « لما ليوفينهم ربك أعمالهم » أي يعطيهم ربك جزاء أعمالهم وافيا تاما إن خيرا فخير و إن شرا فشر « إنه بما
مجمع البيان ج : 5 ص : 304
يعملون خبير » يعني إنه عليم بأعمالكم و بما استحققتم من الجزاء عليها لا يخفى عليه شيء من ذلك « فاستقم » يا محمد « كما أمرت » أي استقم على الوعظ و الإنذار و التمسك بالطاعة و الأمر بها و الدعاء عليها و الاستقامة هو أداء المأمور به و الانتهاء عن المنهي عنه كما أمرت في القرآن « و من تاب معك » أي و ليستقم من تاب معك من الشرك كما أمروا عن ابن عباس و قيل معناه و من رجع إلى الله و إلى نبيه فليستقم أيضا أي ، فليستقم المؤمنون و قيل استقم أنت على الأداء و ليستقيموا على القبول « و لا تطغوا » أي لا تجاوزوا أمر الله بالزيادة و النقصان فتخرجوا عن حد الاستقامة و قيل معناه و لا تطغينكم النعمة فتخرجوا عن حد الاستقامة عن الجبائي و قيل معناه لا تعصوا الله و لا تخالفوه « إنه بما تعملون بصير » أي عليم بأعمالكم لا تخفى عليه منها خافية و روي الواحدي بإسناده عن إبراهيم بن أدهم عن مالك بن دينار عن أبي مسلم الخولاني عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا و صمتم حتى تكونوا كالأوتاد ثم كان الاثنان أحب إليكم من الواحد لم تبلغوا حد الاستقامة و قال ابن عباس ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) آية كانت أشد عليه و لا أشق من هذه الآية و لذلك قال لأصحابه حين قالوا له أسرع إليك الشيب يا رسول الله شيبتني هود و الواقعة .

النظم

وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها أنه لما قص نبأ الأمم و إهلاكهم بكفرهم أخبر عقيب ذلك عن بطلان ما كانوا عليه و أنه يوفيهم جزاء أعمالهم و قيل أنه سبحانه بين فيما قبل اختلاف الأمم على أنبيائهم تكذيبا لهم ثم بين في هذه الآية أن خلاف هؤلاء كخلاف أولئك خلاف كفر لا خلاف اجتهاد عن أبي مسلم و كذلك اتصال الآية الثانية فإنه بين فيها أن تكذيب هؤلاء الكفار بالذي آتيناك كتكذيب أولئك بالكتاب الذي آتيناه موسى .

مجمع البيان ج : 5 ص : 305
وَ لا تَرْكَنُوا إِلى الَّذِينَ ظلَمُوا فَتَمَسكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصرُونَ(113) وَ أَقِمِ الصلَوةَ طرَفىِ النهَارِ وَ زُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الحَْسنَتِ يُذْهِبنَ السيِّئَاتِ ذَلِك ذِكْرَى لِلذَّكِرِينَ(114) وَ اصبرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(115) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّة يَنهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فى الأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مجْرِمِينَ(116) وَ مَا كانَ رَبُّك لِيُهْلِك الْقُرَى بِظلْم وَ أَهْلُهَا مُصلِحُونَ(117)

القراءة

قرأ أبو جعفر « و زلفا » بضم اللام و الباقون بفتح اللام .

الحجة

من قرأ زلفا بفتح اللام فإنه جمع زلفة و هي المنزلة قال العجاج :
ناج طواه الأين مما وجفا
طي الليالي زلفا فزلفا و من قرأ بضم اللام فإنه واحد مثل الحلم و جائز أن يكون جمعا على زليف من الليل فيكون مثل قريب و قرب قال الزجاج و الزلف بالفتح أجود في الجمع و ما علمت أن زليفا يستعمل في الليل و هو منصوب على الظرف .

اللغة

الركون إلى الشيء هو السكون إليه بالمحبة له و الإنصات إليه و نقيضه النفور عنه و الصبر حبس النفس عن الخروج إلى ما لا يجوز من ترك الحق و ضده الجزع قال :
فإن تصبرا خير مغبة
و إن تجزعا فالأمر ما تريان و هو مأخوذ من الصبر المر لأنه يجرع مرارة الحق بحبس النفس عن الخروج إلى المشتهى و مما يعين على الصبر شيئان ( أحدهما ) العلم بما يعقب من الخير في كل وجه و عادة النفس له ( و الثاني ) استشعار ما في لزوم الحق من العز و الأجر بطاعة الله و البقية ما بقي من الشيء بعد ذهابه و هو الاسم من الإبقاء و يقال في فلان بقية أي فضل مما يمدح به و خير كأنه قيل بقية خير من الخير الماضي و أترفوا أي عودوا الترفه بالنعيم و اللذة و ذلك إن الترفه عادة النعمة قال :
مجمع البيان ج : 5 ص : 306

تهدى رءوس المترفين الضداد
إلى أمير المؤمنين الممتاد أي المسئول و إنما قيل للمتنعم مترف لأنه مطلق له لا يمنع من تنعمه .

الإعراب

« فتمسكم » منصوب لأنه جواب النهي بالفاء و تقديره لا يكن منكم ركون إلى الظالمين فمس النار إياكم « ثم لا تنصرون » ارتفع تنصرون على الاستئناف .
« طرفي النهار » منصوب على الظرف و زلفا معطوف عليه .
« إلا قليلا » استثناء منقطع بمعنى لكن عن الزجاج تقديره لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد .

المعنى

ثم نهى الله سبحانه عن المداهنة في الدين و الميل إلى الظالمين فقال « و لا تركنوا إلى الذين ظلموا » أي و لا تميلوا إلى مشركين في شيء من دينكم عن ابن عباس و قيل لا تداهنوا الظلمة عن السدي و ابن زيد و قيل إن الركون إلى الظالمين المنهي عنه هو الدخول معهم في ظلمهم و إظهار الرضا بفعلهم أو إظهار موالاتهم فأما الدخول عليهم أو مخالطتهم و معاشرتهم دفعا لشرهم فجائز عن القاضي و قريب منه ما روي عنهم (عليهم السلام) إن الركون المودة و النصيحة و الطاعة « فتمسكم النار » أي فيصيبكم عذاب النار « و ما لكم من دون الله من أولياء » أي ما لكم سواه من أنصار يدفعون عنكم عذاب الله و في هذا بيان أنهم متى خالفوا هذا النهي و سكنوا إلى الظالمين نالتهم النار و لم يكن لهم ناصر يدفع عنهم عقوبة لهم على ذلك « ثم لا تنصرون » أي لا تنصرون في الدنيا على أعدائكم لأن نصر الله نوع من الثواب فيكون للمطيعين « و أقم الصلاة » أي أدها و ائت بأعمالها على وجه التمام في ركوعها و سجودها و سائر فروضها و قيل معناه أعملها على استواء و قيل أدم على فعلها « طرفي النهار و زلفا من الليل » قيل أراد بطرفي النهار صلاة الفجر و المغرب و بزلف من الليل صلاة العشاء الآخرة و الزلف أول ساعات الليل عن ابن عباس و ابن زيد قالوا و ترك ذكر الظهر و العصر لأحد أمرين إما لظهورهما في أنهما صلاتا النهار فكأنه قال و أقم الصلاة طرفي النهار مع المعروفة من صلاة النهار و إما لأنهما مذكورتان على التبع للطرف الأخير لأنهما بعد الزوال فهما أقرب إليه و قد قال سبحانه أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و دلوك الشمس زوالها و هذا القول هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و قيل صلاة طرفي النهار الغداة و الظهر و العصر و صلاة زلف الليل المغرب و العشاء الآخرة عن الزجاج و به قال مجاهد و الضحاك و محمد بن كعب القرظي و الحسن قالوا لأن طرف الشيء من الشيء و صلاة المغرب ليست من النهار قال الحسن قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) المغرب
مجمع البيان ج : 5 ص : 307
و العشاء زلفتا الليل و قيل أراد بطرفي النهار صلاة الفجر و صلاة العصر « إن الحسنات يذهبن السيئات » قيل في معناه إن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من الذنوب لأنه عرف الحسنات بالألف و اللام و قد تقدم ذكر الصلاة عن ابن عباس و أكثر المفسرين و ذكر الواحدي بإسناده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان قال كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها فهزه حتى تحات ورقه ثم قال يا أبا عثمان أ لا تسألني لم أفعل هذا قلت و لم تفعله قال هكذا فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أنا معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه ثم قال أ لا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا قلت و لم فعلته قال إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق ثم قرأ هذه الآية « و أقم الصلاة » إلى آخرها و بإسناده عن أبي أمامة قال بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في المسجد و نحن قعود معه إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فقال هل شهدت الصلاة معنا قال نعم يا رسول الله قال فإن الله قد غفر لك حدك أو قال ذنبك و بإسناده عن الحرث عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال يا رسول الله إني أصبت ذنبا فأعرض عنه فلما قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أ ليس قد صليت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور قال بلى قال فإنها كفارة ذنبك و روي أصحابنا عن ابن محبوب عن إبراهيم الكرخي قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من أهل المدينة فقال له من أين جئت ثم قال له تقول جئتك من هاهنا و هاهنا لغير معاش تطلبه و لا بعمل آخر تكسبه أنظر بما ذا تقطع يومك و ليلتك و اعلم أن معك ملكا كريما موكلا بك يحفظ عليك ما تصنع و يطلع على سرك الذي تخفيه من الناس فاستحيا لا تستحقرن سيئة فإنها ستسوؤك يوما و لا تحقرن حسنة و إن صغرت عندك و قلت في عينك فإنها ستسرك يوما و اعلم أنه ليس شيء أضر عاقبة و لا أسرع ندامة من الخطيئة و أنه ليس شيء أشد طلبا و لا أسرع دركا للخطيئة من الحسنة أما إنها لتدرك الذنب العظيم القديم المنسي عند عامله فتجتذبه و تسقطه و تذهب به بعد إثباته و ذلك قول الله سبحانه « إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين » و رووا عن أبي حمزة الثمالي قال سمعت أحدهما (عليهماالسلام) يقول إن عليا (عليه السلام) أقبل على الناس فقال أية آية في كتاب الله أرجى عندكم
مجمع البيان ج : 5 ص : 308
فقال بعضهم « إن الله لا يغفر أن يشرك به » الآية فقال حسنة و ليست إياها و قال بعضهم و من يعمل سوءا أو يظلم نفسه قال حسنة و ليست إياها و قال بعضهم « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » قال حسنة و ليست إياها و قال بعضهم « و الذين إذ فعلوا فاحشة » الآية قال حسنة و ليست إياها قال ثم أحجم الناس فقال ما لكم يا معشر المسلمين فقالوا لا و الله ما عندنا شيء قال سمعت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول أرجى آية في كتاب الله « و أقم الصلاة طرفي النهار » و قرأ الآية كلها قال يا علي و الذي بعثني بالحق بشيرا و نذيرا إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بوجهه و قلبه لم ينفتل و عليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس ثم قال يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أ كان يبقى في جسده درن فكذلك و الله الصلوات الخمس لأمتي و قيل « إن الحسنات يذهبن السيئات » معناه إن الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيئات فكأنها يذهبن بها و قيل إن المراد بالحسنات التوبة فإنها تذهب السيئات بأن تسقط عقابها لأنه لا خلاف في أن العقاب يسقط عند التوبة « ذلك ذكرى للذاكرين » يعني إن ما ذكره من إن الحسنات تذهب السيئات فيه تذكار و موعظة لمن تذكر به و فكر فيه « و اصبر » قيل معناه و اصبر على الصلاة كما قال و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها « فإن الله لا يضيع أجر المحسنين » أي المصلين عن ابن عباس و قيل معناه اصبر يا محمد على أذى قومك و تكذيبهم إياك و على القيام بما افترضته عليك و على أداء الواجبات و الامتناع عن المقبحات فإن الله لا يهمل جزاء المحسنين على إحسانهم و لا يبطله بل يكافيهم عليه أكمل الثواب « فلو لا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية » أي هلا كان و إلا كان و معناه النفي و تقديره لم يكن من القرون من قبلكم قوم باقون « ينهون عن الفساد في الأرض » أي كان يجب أن يكون منهم قوم بهذه الصفة مع إنعام الله تعالى عليهم بكمال العقل و بعثة الرسل إليهم و إقامة الحجج لهم و هذا تعجيب و توبيخ لهؤلاء الذين سلكوا سبيل من قبلهم في الفساد نحو عاد و ثمود و القرون التي عدها القرآن و أخبر بهلاكها أي إن العجب منهم كيف لم تكن من جملتهم بقية في الأرض يأمرون فيها بالمعروف و ينهون عن المنكر و كيف اجتمعوا على الكفر حتى استأصلهم الله بالعذاب و أنواع العقوبات لكفرهم بالله و معاصيهم له و قيل « أولوا بقية » معناه ذوو دين و خير و قيل معناه ذوو بركة و قيل ذوو تمييز و طاعة « إلا قليلا ممن أنجينا منهم » المعنى إن قليلا منهم كانوا ينهون عن الفساد و هم الأنبياء و الصالحون الذين آمنوا مع الرسل فأنجيناهم من العذاب
مجمع البيان ج : 5 ص : 309
الذي نزل بقومهم و إنما جعلوا هذا الاستثناء منقطعا لأنه إيجاب لم يتقدم فيه صيغة النفي و إنما تقدم تهجين خرج مخرج السؤال و لو رفع لجاز في الكلام « و اتبع الذي ظلموا ما أترفوا فيه » أي و اتبع المشركون ما عودوا من النعم و التنعم و إيثار اللذات على أمور الآخرة و اشتغلوا بذلك عن الطاعات « و كانوا » أي و كان هؤلاء المتنعمون البطرون « مجرمين » مصرين على الجرم و في الآية دلالة على وجوب النهي عن المنكر لأنه سبحانه ذمهم بترك النهي عن الفساد و أخبر بأنه أنجى القليل منهم لنهيهم عن ذلك و نبه على أنه لو نهى الكثير كما نهى القليل لما هلكوا ثم أخبر سبحانه أنه لم يهلك إلا بالكفر و الفساد فقال « و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون » و ذكر في تأويله وجوه ( أحدها ) إن المعنى و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم منه لهم و لكن إنما يهلكهم بظلمهم لأنفسهم كما قال إن الله لا يظلم الناس شيئا الآية ( و ثانيها ) إن معناه لا يؤاخذهم بظلم واحدهم مع أن أكثرهم مصلحون و لكن إذا عم الفساد و ظلم الأكثرون عذبهم ( و ثالثها ) أنه لا يهلكهم بشركهم و ظلمهم لأنفسهم و هم يتعاطون الحق بينهم أي ليس من سبيل الكفار إذا قصدوا الحق في المعاملة أن يهلكهم الله بالعذاب عن ابن عباس في رواية عطا و الواو في قوله « و أهلها » واو الحال و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال « و أهلها مصلحون » ينصف بعضها بعضهم .

النظم

وجه اتصال قوله تعالى « فلو لا كان من القرون من قبلكم » الآية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر إهلاك الأمم الماضية و القرون الخالية عقب ذلك بأنهم أتوا في إهلاكهم من قبل نفوسهم و لو كان فيهم مؤمنون يأمرون بالصلاح و ينهون عن الفساد لما استأصلناهم رحمة منا و لكنهم لما عمهم الكفر استحقوا عذاب الاستئصال .

مجمع البيان ج : 5 ص : 310
وَ لَوْ شاءَ رَبُّك لجََعَلَ النَّاس أُمَّةً وَحِدَةً وَ لا يَزَالُونَ مخْتَلِفِينَ(118) إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّك وَ لِذَلِك خَلَقَهُمْ وَ تَمَّت كلِمَةُ رَبِّك لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ(119) وَ ُكلاً نَّقُص عَلَيْك مِنْ أَنبَاءِ الرُّسلِ مَا نُثَبِّت بِهِ فُؤَادَك وَ جَاءَك فى هَذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظةٌ وَ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(120) وَ قُل لِّلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عَمِلُونَ(121) وَ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(122) وَ للَّهِ غَيْب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكلْ عَلَيْهِ وَ مَا رَبُّك بِغَفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)

القراءة

قرأ « يرجع الأمر » بضم الياء و فتح الجيم و كسرها نافع و حفص و الباقون يرجع بفتح الياء و قرأ عما تعملون بالتاء هنا و في آخر النمل أهل المدينة و الشام و يعقوب و حفص و الباقون بالياء .

الحجة

من ضم الياء من « يرجع » فلقوله « ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق » و المعنى رد أمرهم إلى الله و من فتح الياء فلقوله « و الأمر يومئذ لله » و المعنيان متقاربان و من قرأ بالتاء في « تعملون » جعل الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أمته و هو أعم فائدة و من قرأ بالياء وجهه إلى من تقدم ذكره من الكفار و فيه ضرب من التهديد .

اللغة

القصص الخبر عن الأمور بما يتلو بعضه بعضا لأنه من قصة يقصه إذا اتبع أثره لأنه يتبع أثر من يخبر عنه و النبأ الخبر بما فيه عظيم الشأن يقولون لهذا الأمر نبأ و التثبيت تمكين إقامة الشيء من الثبوت يقال ثبته بتسكينه و ثبته بتمكينه و ثبته بالدلالة على ثبوته و ثبته بالخبر عن وجوده و الفؤاد القلب مأخوذ من المفتاد و هو المشوي قال :
كأنه خارجا من جنب صفحته
سفود شرب نسوة عند مفتاد و المكانة الطريقة التي يتمكن من العمل عليها و له مكانة عند السلطان أي جاه و قدر و الانتظار طلب الإدراك لما يأتي من الأمر لأنه من النظر و الفرق بين الانتظار و الترجي أن الترجي للخير خاصة و الانتظار في الخير و الشر .

الإعراب

« إلا من رحم ربك » قال الزجاج هو استثناء على معنى لكن و تقديره لكن من رحم ربك فإنه غير مختلف و قوله « لأملأن جهنم » جواب القسم و تقديره يمينا لأملأن كما تقول حلفي لأضربنك و بدا لي لأضربك و كل فعل كان تأويله كتأويل بلغني أو قيل لي أو انتهى إلي فإن اللام و إن يصلحان فيه فتقول بدا لي لأضربنك و بدا لي أن أضربك و لو قيل
مجمع البيان ج : 5 ص : 311
و تمت كلمة ربك أن يملأ جهنم كان صوابا و « كلا نقص عليك » نصب على المصدر و تقديره و كل القصص نقص عليك و قيل أنه نصب على الحال فقدم الحال قبل العامل كما تقول كلا ضربت القوم و يجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول به و تقديره و كل الذي يحتاج إليه نقص عليك و يكون « ما نثبت به فؤادك » بدلا منه قاله الزجاج و قوله « إنا عاملون » « إنا منتظرون » لو دخلت الفاء فقال فإنا لأفاد أن الثاني لأجل الأول و حيث لم يدخل لم يفد ذلك .

المعنى

ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته فقال « و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة » أي على ملة واحدة و دين واحد فيكونون مسلمين صالحين عن قتادة و ذلك بأن يلجئهم إلى الإسلام بأن يخلق في قلوبهم العلم بأنهم لو راموا غير ذلك لمنعوا منه لكن ذلك ينافي التكليف و يبطل الغرض بالتكليف لأن الغرض به استحقاق الثواب و الإلجاء يمنع من استحقاق الثواب فلذلك لم يشأ الله ذلك و لكنه شاء أن يؤمنوا باختيارهم ليستحقوا الثواب و قيل معناه لو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة في الجنة على سبيل التفضل لكنه اختار لهم أعلى الدرجتين فكلفهم ليستحقوا الثواب عن أبي مسلم و قيل معناه لو شاء لرفع الخلاف فيما بينهم « و لا يزالون مختلفين » في الأديان بين يهودي و نصراني و مجوسي و غير ذلك عن مجاهد و قتادة و عطا و الأعمش و الحسن في إحدى الروايتين عنه و في الرواية الأخرى عنه أنهم مختلفون في الأرزاق و الأحوال و لتسخير بعضهم لبعض و قيل معناه يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا من غير نظر فإن قولك خلف بعضهم بعضا و قولك اختلفوا سواء كما أن قولك قتل بعضهم بعضا و قولك اقتتلوا سواء عن أبي مسلم « إلا من رحم ربك » من المؤمنين فإنهم لا يختلفون و يجتمعون على الحق عن ابن عباس و المعنى لا يزالون مختلفين بالباطل إلا من رحمهم الله بفعل اللطف لهم الذي يؤمنون عنده و يستحقون به الثواب فإن من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل « و لذلك خلقهم » اختلف في معناه فقيل يريد و للرحمة خلقهم عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضحاك و هذا هو الصحيح و اعترض على ذلك بأن قيل لو أراد الله ذلك لقال و لتلك خلقهم لأن الرحمة مؤنثة و هذا باطل لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي فإذا ذكر فعلى معنى التفضل و الإنعام و قد قال سبحانه هذا رحمة من ربي و إن رحمة الله قريب و مثله قول امرىء القيس :
برهرهة رودة رخصة
كخزعوبة البانة المنفطر
مجمع البيان ج : 5 ص : 312
و لم يقل المنفطرة لأنه ذهب إلى الغصن و قال :
قامت تبكيه على قبره
من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار غربة
قد ذل من ليس له ناصر و لم يقل ذات غربة لأنه أراد شخصا ذا غربة .
و قالت الخنساء :
فذلك يا هند الرزية فاعلمي
و نيران حرب حين شب وقودها أراد الرزء و في أمثال ذلك كثرة على أن قوله « إلا من رحم ربك » كما يدل على الرحمة يدل أيضا على أن يرحم فلا يمتنع أن يكون المراد لأن يرحموا خلقهم و قيل إن المعنى و لاختلاف خلقهم و اللام للعاقبة يريد أن الله خلقهم و علم أن عاقبتهم تؤل إلى الاختلاف المذموم كما قال و لقد ذرأنا لجهنم عن الحسن و عطا و مالك و لا يجوز على هذا أن يكون اللام للغرض لأنه تعالى لا يجوز أن يريد منهم الاختلاف المذموم إذ لو أراد ذلك منهم لكانوا مطيعين له في ذلك الاختلاف لأن الطاعة حقيقتها موافقة الإرادة و الأمر و لو كانوا كذلك لما استحقوا عقابا و أما إذا حمل معنى الاختلاف على ما قاله أبو مسلم فيجوز أن تكون اللام للغرض و قيل إن ذلك إشارة إلى اجتماعهم على الإيمان و كونهم فيه أمة واحدة و لا محالة أن الله سبحانه لهذا خلقهم و يؤيد هذا قوله تعالى و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون و قال المرتضى قدس الله روحه قد قال قوم أن معنى الآية و لو شاء ربك أن يدخل الناس بأجمعهم الجنة فيكونوا في وصول جميعهم إلى النعيم أمة واحدة لفعل و أجروا هذه الآية مجرى قوله و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها في أنه أراد هديها إلى طريق الجنة فعلى هذا التأويل يمكن أن يكون لفظة ذلك إشارة إلى إدخالهم أجمعين الجنة لأنه تعالى إنما خلقهم للمصير إليها و الوصول إلى نعيمها « و تمت كلمة ربك » أي وصل وحيه و وعيده الذي لا خلف فيه بتمامه إلى عباده و قيل تمت كلمة ربك صدقا بأن وقع مخبرها على ما أخبر به عن الجبائي و قيل معناه وجب قول ربك عن ابن عباس و قيل مضى حكم ربك عن الحسن « لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين » بكفرهم « و كلا » أي و كل القصص « نقص عليك من أنباء الرسل ( » أي من أخبارهم « ما نثبت به فؤادك » أي ما نقوي به قلبك و نطيب به نفسك و نزيدك به ثباتا على ما أنت عليه من الإنذار و الصبر على أذى قومك الكفار « و جاءك في هذه الحق » أي في هذه السورة عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قيل في هذه
مجمع البيان ج : 5 ص : 313
الدنيا عن قتادة و قيل في هذا الأنباء عن الجبائي و الحق الصدق من الأنباء و الوعد و الوعيد و قيل معناه و جاءك في ذكر هذه الآيات التي ذكرت قبل هذا الموضع الحق في أن الخلق يجازون بانصبائهم في قوله و إنا لموفوهم نصيبهم و إن كلا لما ليوفينهم و قد جاء في القرآن كله الحق و لكنه ذكرها هنا توكيدا و ليس إذا قيل قد جاءك في هذا الحق وجب أن يكون لم يأتك الحق إلا فيه و لكن بعض الحق أوكد من بعض عن الزجاج « و موعظة » أي و جاءك موعظة تعظ الجاهلين بالله و تزجر الناس عن المعاصي « و ذكرى للمؤمنين » تذكرهم الآخرة « و قل » يا محمد « للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم » هذا مثل قوله اعملوا ما شئتم « إنا عاملون » على ما أمرنا الله تعالى به و قد مر تفسير هذه الآية فيما مضى « و انتظروا » أي توقعوا ما يعدكم ربكم على الكفر من العقاب « إنا منتظرون » ما يعدنا على الإيمان من الثواب و قيل انتظروا ما يعدكم الشيطان من الغرور إنا منتظرون ما يعدنا ربنا من النصر و العلو عن ابن جريج « و لله غيب السماوات و الأرض » معناه و لله علم ما غاب في السماوات و الأرض لا يخفى عليه شيء منه عن الضحاك و قيل معناه و الله مالك ما غاب في السماوات و الأرض و قيل معناه و لله خزائن السماوات و الأرض عن ابن عباس و وجدت بعض المشايخ ممن يتسم بالعدوان و التشنيع قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره فقال هذا يدل على أن الله سبحانه يختص بعلم الغيب خلافا لما تقول الرافضة أن الأئمة يعلمون الغيب و لا شك أنه عنى بذلك من يقول بإمامة الاثني عشر و يدين بأنهم أفضل الأنام بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإن هذا دأبه و ديدنه فيهم يشنع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم و ينسب الفضائح و القبائح إليهم و لا نعلم أحدا منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق فإنما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد و هذه صفة القديم سبحانه العالم لذاته لا يشركه فيها أحد من المخلوقين و من اعتقد أن غير الله سبحانه يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملة الإسلام فأما ما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و رواه عنه الخاص و العام من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم و غيرها مثل قوله يومىء به إلى صاحب الزنج كأني به يا أحنف و قد سار بالجيش الذي ليس له غبار و لا لجب و لا قعقعة لجم و لا صهيل خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام و قوله يشير إلى مروان أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه و هو أبو الأكبش الأربعة و ستلقى الأمة منه و من ولده موتا أحمر و ما نقل من هذا الفن عن أئمة الهدى (عليهم السلام) من أولاده مثل ما قاله أبو عبد الله (عليه السلام) لعبد الله بن الحسن و قد اجتمع هو و جماعة من العلوية و العباسية ليبايعوا ابنه محمدا و الله ما هي إليك و لا إلى ابنيك و لكنها لهم و أشار إلى العباسية و إن ابنيك
مجمع البيان ج : 5 ص : 314
لمقتولان ثم نهض و توكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال له أ رأيت صاحب الرداء الأصفر يعني أبا جعفر المنصور قال نعم فقال إنا و الله نجده يقتله فكان كما قال و مثل قول الرضا (عليه السلام) بورك قبر بطوس و قبران ببغداد فقيل له قد عرفنا واحدا فما الآخر فقال ستعرفونه ثم قال قبري و قبر هارون هكذا و ضم إصبعيه و قوله في القصة المشهورة لأبي حبيب النباحي و قد ناوله قبضة من التمر لو زادك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لزدناك و قوله في حديث علي بن أحمد الوشاء حين قدم مرو من الكوفة معك حلة في السفط الفلاني دفعتها إليك ابنتك و قالت اشتر لي بثمنها فيروزجا و الحديث مشهور إلى غير ذلك مما روي عنهم (عليهم السلام) فإن جميع ذلك متلقى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مما أطلعه الله عليه فلا معنى لنسبة من روي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنه يعتقد كونهم عالمين للغيب و هل هذا إلا سبب قبيح و تضليل لهم بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير و الله يحكم بينه و بينهم و إليه المصير « و إليه يرجع الأمر كله » أي إلى حكمه يرجع في المعاد كل الأمور لأن في الدنيا قد يملك غيره بعض الأمر و النهي و النفع و الضر « فاعبده و توكل عليه » يريد أن من له ملك السماوات و الأرض و إليه يرجع جميع الأمور فحقيق أن يعبد و يتذلل له و يتوكل عليه و يوثق به « و ما ربك بغافل » أي بساه « عما تعملون » أي عن أعمال عباده بل هو عالم بها و مجاز كلا منهم عليها ما يستحقه من ثواب و عقاب فلا يحزنك يا محمد إعراضهم عنك و تركهم القبول منك و روي عن كعب الأحبار أنه قال خاتمة التوراة خاتمة هود .

مجمع البيان ج : 5 ص : 315
( 12 ) سورة يوسف مكية و آياتها إحدى عشرة و مائة ( 111 )
مكية و قال المعدل عن ابن عباس غير أربع آيات نزلن بالمدينة ثلاث من أولها و الرابعة « لقد كان في يوسف و إخوته آيات للسائلين » .

عدد آيها

مائة و إحدى عشرة آية بالإجماع .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها و علمها أهله و ما ملكت يمينه هون الله تعالى عليه سكرات الموت و أعطاه القوة أن لا يحسد مسلما و روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال من قرأ سورة يوسف في كل يوم أو في كل ليلة بعثه الله يوم القيامة و جماله مثل جمال يوسف و لا يصيبه فزع يوم القيامة و كان من خيار عباد الله الصالحين و قال فيها إنها كانت في التوراة مكتوبة و روى إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا تنزلوا نساءكم الغرف و لا تعلموهن الكتابة و لا تعلموهن سورة يوسف و علموهن الغزل و سورة النور .

تفسيرها

لما ختم الله سبحانه سورة هود بذكر قصص أنباء الرسل افتتح هذه السورة بأن من تلك القصص قصة يوسف (عليه السلام) و إخوته و أنها من أحسن القصص فقال
مجمع البيان ج : 5 ص : 316
سورة يوسف
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْك ءَايَت الْكِتَبِ الْمُبِينِ(1) إِنَّا أَنزَلْنَهُ قُرْءَناً عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2) نحْنُ نَقُص عَلَيْك أَحْسنَ الْقَصصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْءَانَ وَ إِن كنت مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَفِلِينَ(3)

الإعراب

« قرآنا عربيا » فيه وجهان ( أحدهما ) قرآنا انتصب بأنه بدل من الهاء في أنزلناه فكأنه قال إنا أنزلنا قرآنا ( و الثاني ) أنه توطئة للحال لأن عربيا حال و هذا كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا فتنصب صالحا على الحال و تجعل رجلا توطئة للحال و قوله « بما أوحينا إليك هذا القرآن » القرآن نصب و إنه وصف لمعمول أوحينا و هو هذا أو بدل أو عطف بيان قال الزجاج و يجوز الجر و الرفع جميعا في الكلام و إن لم يقرأ بهما أما الجر فعلى البدل مما أوحينا إليك أي بهذا القرآن و أما الرفع فعلى ترجمة أوحينا إليك كان قائلا قال ما هو فقيل هذا القرآن .

المعنى

« الر » قد سبق الكلام فيه في أول البقرة و إنما لم يعد آية لأنه على حرفين و لا يشاكل رءوس الآي و عد طه آية لأنه يشبه رءوس الآي « تلك آيات الكتاب » قيل في معنى الإشارة بتلك وجوه ( أحدها ) أنه إشارة إلى ما سيأتي من ذكرها على وجه التوقع لها ( و الثاني ) أنه إشارة إلى السورة أي سورة يوسف آيات الكتاب المبين ( و الثالث ) أن معناه هذه الآيات تلك الآيات التي وعدتم بها في التوراة كما قال « ألم ذلك الكتاب » عن الزجاج و « المبين » المظهر لحلال الله و حرامه و المعاني المرادة فيه عن مجاهد و قتادة و المبين و المبين واحد و البيان هو الدلالة « إنا أنزلناه » يعني القرآن أي أنزلنا هذا الكتاب و قيل أنزلنا خبر يوسف و قصته عن الزجاج قال لأن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر و عن قصة يوسف (عليه السلام) فقال « إنا أنزلناه قرآنا عربيا » على مجاري كلام العرب في محاوراتهم و روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أحب العرب لثلاث لأني عربي و القرآن عربي و كلام أهل الجنة عربي « لعلكم تعقلون » أي لتعلموا جميع معانيه و تفهموا ما فيه و قيل معناه لتعلموا أنه من عند الله إذ كان عربيا و عجزتم عن الإتيان بمثله و في هذه الآية دلالة على أن كلام الله سبحانه محدث و أنه غير الله لأنه وصفه بالإنزال و بأنه عربي و لا يوصف بذلك القديم سبحانه « نحن نقص عليك أحسن القصص » أي نبين لك أحسن البيان عن الزجاج و هذا كقولهم صمت أحسن الصيام و قمت أحسن القيام
مجمع البيان ج : 5 ص : 317
مما يكون انتصابه على أنه قائم مقام المصدر فالمعنى نبين لك أحسن تبيين و أحسن إيضاح « بما أوحينا إليك » أي بوحينا إليك « هذا القرآن » و دخلت الباء لتبيين القصص إذ القصص تكون قرآنا و غير القرآن و القصص هاهنا بوحي القرآن و قيل إنما سمي القرآن أحسن القصص لأنه بلغ النهاية في الفصاحة و حسن المعاني و عذوبة الألفاظ مع التلاؤم المنافي للتنافر و التشاكل بين المقاطع و الفواصل و قيل لأنه ذكر فيه أخبار الأمم الماضية و أخبار الكائنات الآتية و جميع ما يحتاج إليه العباد إلى يوم القيامة بأعذب لفظ و تهذيب في أحسن نظم و ترتيب و قيل أراد بأحسن القصص قصة يوسف وحدها لأنها تتضمن من الفوائد و النكت و الغرائب ما لا يتضمنه غيرها و لأنها تمتد امتداد لا يمتد غيرها مثله و قوله « أحسن القصص » يدل على أن الحسن يتفاضل و يتعاظم لأن لفظة أفعل حقيقتها ذلك و إنما يتعاظم بكثرة استحقاق المدح عليه و يسأل عن هذا فيقال هل يجوز أن يسمى الله سبحانه قاصا فيقال لا لأنه في العرف إنما يستعمل فيمن تمسك بطريقة مخصوصة و هذا كما أنه سبحانه لا يسمى معلما و لا مفتيا و إن وصف نفسه بأنه علم القرآن و بأنه يفتيكم في النساء و قوله « و إن كنت من قبله لمن الغافلين » معناه و ما كنت من قبل أن أوحينا إليك هذا القرآن أو من قبل نزول القرآن عليك إلا من الغافلين عن الحكم التي في القرآن لا تعلم شيئا منها و قيل من الغافلين عن قصة يوسف و عن الحكم التي فيها .
إِذْ قَالَ يُوسف لأَبِيهِ يَأَبَتِ إِنى رَأَيْت أَحَدَ عَشرَ كَوْكَباً وَ الشمْس وَ الْقَمَرَ رَأَيْتهُمْ لى سجِدِينَ(4) قَالَ يَبُنىَّ لا تَقْصص رُءْيَاك عَلى إِخْوَتِك فَيَكِيدُوا لَك كَيْداً إِنَّ الشيْطنَ لِلانسنِ عَدُوُّ مُّبِينٌ(5) وَ كَذَلِك يجْتَبِيك رَبُّك وَ يُعَلِّمُك مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك وَ عَلى ءَالِ يَعْقُوب كَمَا أَتَمَّهَا عَلى أَبَوَيْك مِن قَبْلُ إِبْرَهِيمَ وَ إِسحَقَ إِنَّ رَبَّك عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)
 

Back Index Next