جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج6 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


تعالى و هم في الغرفات آمنون و الغرف في الجنة أكثر من أن تحصى و قال هم درجات عند الله و قال حسان :

مجمع البيان ج : 6 ص : 769

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
و أسيافنا يقطرن من نجدة دما و كان أبو علي الفارسي ينكر الحكاية التي تروى عن النابغة و أنه قال لحسان : قللت جفناتكم و أسيافكم فقال لا يصح هذا عن النابغة .

الإعراب

إن جعلت « نزلا » بمعنى المنزل فهو خبر كان على ظاهرة و إن جعلته بمعنى ما يقام للنازل قدرت المضاف على معنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس و نعيمهما نزلا و يجوز أن يكون نزلا جمع نازل فيكون نصبا على الحال من الضمير في لهم و معنى كان أنه كان في علم الله تعالى قبل أن يخلقوا عن ابن الأنباري و قوله « فليعمل » يجوز كسر اللام و إسكانها و الأصل الكسر إلا أنه في يثقل اللفظ .

المعنى

لما تقدم ذكر حال الكافرين عقبه سبحانه بذكر حال المؤمنين فقال « إن الذين آمنوا » أي صدقوا الله و رسوله « و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس » أي كان في حكم الله و علمه لهم بساتين الفردوس و هو أطيب موضع في الجنة و أوسطها و أفضلها و أرفعها عن قتادة و قيل هو الجنة الملتفة الأشجار عن قتادة و قيل هو البستان الذي فيه الأعناب عن كعب و روى عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء و الأرض الفردوس أعلاها درجة منها تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس « نزلا » أي منزلا و مأوى و قيل ذات نزول « خالدين فيها » أي دائمين فيها « لا يبغون عنها حولا » أي لا يطلبون عن تلك الجنات تحولا إلى موضع آخر لطيبتها و حصول مرادهم فيها ثم أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « قل » يا محمد لجميع المكلفين « لو كان البحر » و هو اسم الجنس أي لو كان البحر بمائه « مدادا لكلمات ربي » أي مدادا ليكتب به ما يقدر الله عليه من الكلام و الحكم و قيل أراد بالكلمات ما يقدر سبحانه على أن يخلقه من الأشياء و يأمر به كما قال في عيسى (عليه السلام) و كلمته ألقاها إلى
مجمع البيان ج : 6 ص : 770
مريم و قيل أراد بالكلمات ما وعد لأهل الثواب و أوعد لأهل العقاب عن أبي مسلم « لنفد البحر » أي لفني ماء البحر « قبل أن تنفد كلمات ربي » و قيل أن كلماته المراد بها مقدوراته و حكمته و عجائبه و قوله « و لو جئنا بمثله مددا » أي و لو جئنا بمثل البحر مددا له أي عونا و زيادة لما نفد ذلك و قيل أراد بكلمات ربي معاني كلمات ربي و فوائدها و هي القرآن و سائر كتبه و لم يرد بذلك أعيان الكلمات لأنه قد فرغ من كتابتها فيكون تقدير قل لو كان البحر مدادا لكتابة معاني كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كتابة معاني كلمات ربي فحذف لأن المعنى مفهوم و المداد هو الجائي و الآتي شيئا بعد شيء قال ابن الأنباري : سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب و يقال للزيت الذي يوقد به السراج مدادا و روى عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزل قوله و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا قالت اليهود أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة و فيها علم كثير فأنزل الله هذه الآية و لذلك قال الحسن : أراد بالكلمات العلم فإنه لا يدرك و لا يحصى و نظيره و لو أنما في الأرض من شجرة أقلام الآية ثم قال « قل » يا محمد « إنما أنا بشر مثلكم » قال ابن عباس : علم الله نبيه التواضع لئلا يزهي على خلقه فأمره أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره إلا أنه أكرم بالوحي و هو قوله « يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد » لا شريك له أي لا فضل لي عليكم إلا بالدين و النبوة و لا علم لي إلا ما علمنيه الله تعالى « فمن كان يرجوا لقاء ربه » أي فمن كان يطمع في لقاء ثواب ربه و يأمله و يقر بالبعث إليه و الوقوف بين يديه و قيل معناه فمن كان يخشى لقاء عقاب ربه و قيل إن الرجاء يشتمل على كلا المعنيين الخوف و الأمل و أنشد في ذلك قول الشاعر :
فلا كل ما ترجو من الخير كائن
و لا كل ما ترجو من الشر واقع « فليعمل عملا صالحا » أي خالصا لله تعالى يتقرب به إليه « و لا يشرك بعبادة ربه أحدا » غيره من ملك أو بشر أو حجر أو شجر عن الحسن و قيل معناه لا يرائي في عبادته أحدا عن سعيد بن جبير و قال مجاهد : جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال إني أتصدق و أصل الرحم و لا أصنع ذلك إلا لله فيذكر ذلك مني و أحمد عليه فيسرني ذلك و أعجب به فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و لم يقل شيئا فنزلت الآية قال عطاء : عن ابن عباس إن الله تعالى قال « و لا يشرك بعبادة ربه أحدا » و لم يقل و لا يشرك به لأنه أراد العمل الذي يعمل لله و يحب أن يحمد عليه قال و لذلك يستحب للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره ليقسمها كيلا يعظمه من يصله بها و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال قال الله عز و جل ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه
مجمع البيان ج : 6 ص : 771
بريء فهو للذي أشرك ) أورده مسلم في الصحيح و روي عن عبادة بن الصامت و شداد بن أوس قالا سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك و من صام صوما يرائي به فقد أشرك ثم قرأ هذه الآية و روي أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) دخل يوما على المأمون فرآه يتوضأ للصلاة و الغلام يصب على يده الماء فقال لا تشرك بعبادة ربك أحدا فصرف المأمون الغلام و تولى إتمام وضوئه بنفسه و قيل إن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن و روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه بإسناده عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال ما من عبد يقرأ « قل إنما أنا بشر مثلكم » إلى آخره إلا كان له نورا في مضجعه إلى بيت الله الحرام فإن كان من أهل البيت الحرام كان له نورا إلى بيت المقدس و قال أبو عبد الله (عليه السلام) ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلا يتيقظ في الساعة التي يريدها .

النظم

وجه اتصال الآية الثانية و هي قوله « قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي » بما قبلها أنه لما تقدم الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و عقب ذلك سبحانه ببيان أن مقدوراته لا تتناهى و أنه قادر على ما يشاء في أفعاله و أوامره على حسب المصالح فمن الواجب على المكلف أن يمتثل أمره و نهيه و يثق بوعده و يتقي وعيده .

مجمع البيان ج : 6 ص : 772
( 19 ) سورة مريم مكية و آياتها ثمان و تسعون ( 98 )
و هي مكية بالإجماع .

عدد آيها

و هي ثمان و تسعون آية عراقي شامي و المدني الأول و تسع مكي و المدني الأخير .

اختلافها

ثلاث آيات « كهيعص » كوفي « الرحمن مدا » غير الكوفي « في الكتاب إبراهيم » مكي و المدني الأخير .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأها أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا و كذب به و يحيى و مريم و عيسى و موسى و هارون و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و إسماعيل عشر حسنات و بعدد من دعي لله ولدا و بعدد من لم يدع له ولدا و قال الصادق (عليه السلام) من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه و ماله و ولده و كان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم (عليهماالسلام) و أعطي من الأجر في الآخرة ملك سليمان بن داود في الدنيا .

تفسيرها

ختم الله سبحانه سورة الكهف بذكر التوحيد و الدعاء إليه و افتتح هذه السورة بذكر الأنبياء الذين كانوا على تلك الطريقة بعثا على الاقتداء بهم و الاهتداء بهديهم و حثا عليه فقال :
مجمع البيان ج : 6 ص : 773
سورة مريم
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كهيعص(1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّك عَبْدَهُ زَكرِيَّا(2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا(3) قَالَ رَب إِنى وَهَنَ الْعَظمُ مِنى وَ اشتَعَلَ الرَّأْس شيْباً وَ لَمْ أَكن بِدُعَائك رَب شقِيًّا(4) وَ إِنى خِفْت الْمَوَلىَ مِن وَرَاءِى وَ كانَتِ امْرَأَتى عَاقِراً فَهَب لى مِن لَّدُنك وَلِيًّا(5) يَرِثُنى وَ يَرِث مِنْ ءَالِ يَعْقُوب وَ اجْعَلْهُ رَب رَضِيًّا(6)

القراءة

قرأ أبو عمرو كهيعص بإمالة ها و فتح يا و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان و حمزة و خلف بفتح ها و إمالة يا و قرأ الكسائي بإمالة ها و يا و روي ذلك عن اليزيدي عن أبي عمرو و عن يحيى عن أبي بكر و الباقون بفتحها و قرأ أبو عمرو و الكسائي يرثني و يرث بالجزم فيهما و الباقون بالرفع فيهما و في الشواذ قراءة الحسن ذكر رحمة ربك و قراءة عثمان و ابن عباس و زيد بن ثابت و علي بن الحسين و محمد بن علي الباقر و ابن يعمر و سعيد بن جبير و إني خفت الموالي بفتح الخاء و تشديد الفاء و كسر التاء و قراءة علي بن أبي طالب (عليه السلام) و ابن عباس و جعفر بن محمد و ابن يعمر و الحسن و الجحدري و قتادة و أبي نهيك يرثني و أرث من آل يعقوب .

الحجة

قال أبو علي : القول في إمالة هذه الحروف أنها لا تمتنع لأنها ليست بحروف معنى و إنما هي أسماء لهذه الأصوات قال سيبويه : قالوا بإمالاتها لأنها أسماء لما يتهجى به فجازت فيها الإمالة كما جازت في الأسماء و يدلك على أنها أسماء أنك إذا أخبرت عنها أعربتها و إن كنت لا تعربها قبل ذلك كما أن أسماء العدد إذا أخبرت عنها أعربتها فكما أن أسماء العدد قبل أن تعربها أسماء فكذلك هذه الحروف و إذا كانت أسماء ساغت الإمالة فيها فأما من لم يمل فعلى مذهب أهل الحجاز و كلهم أخفى نون عين إلا حفصا فإنه بين النون و قال أبو عثمان : و بيان النون مع حروف الفم لحن إلا أن هذه الحروف تجري على الوقف عليها و القطع لها عما بعدها فحكمها البيان و أن لا تخفى فكذلك أسماء العدد حكمها على الوقف و على أنها منفصلة عما بعدها و مما يبين أنها على الوقف أنهم قالوا ثلاثة أربعة نقلوا حركة الهمزة إلى الهاء لسكونها و لم يقلبوها تاء و إن كانت موصولة لما كانت النية بها الوقف فكذلك النون ينبغي أن تبين لأنها في نية الوقف و الانفصال مما بعدها و لمن لم يبين أن يستدل بتركهم قطع الهمزة في ألم الله أ لا ترى أن الهمزة لم تقطع و إن كان ما هي منه في تقدير الانفصال مما قبله فكذلك لم يبين النون من عين لأنها جعلت في حكم الاتصال كما
مجمع البيان ج : 6 ص : 774
كانت الهمزة فيما ذكرنا كذلك قال أبو الحسن : التبيين يعني تبيين النون أجود في العربية لأن حروف الهجاء و العدد يفصل بعضها من بعض قال و عامة القراء على خلاف التبيين و وجهه الرفع في قوله « يرثني و يرث » إنه سأل ربه وليا وارثا و ليس المعنى على الجزاء أي إن وهبته يرث و وجه الجزم أنه على الجزاء و جواب الدعاء و من قرأ يرثني و أرث فمعناه التجريد و تقديره فهب لي وليا يرثني منه و أرث من آل يعقوب و هذا الوارث نفسه قال ابن جني : قال : و هذا ضرب من العربية غريب فكأنه جرد منه وارثا و مثل قوله تعالى « لهم فيها دار الخلد » و هي نفسها دار الخلد فكأنه جرد من الدار دارا و عليه قول الأخطل :
بنزوة لص بعد ما مر مصعب
بأشعث لا يفلى و لا هو يقمل و مصعب نفسه هو الأشعث فكأنه استخلص منه أشعث و أما قراءة الحسن ذكر رحمة ربك فإن فاعل ذكر ضمير ما تقدم أي هذا المتلو من القرآن الذي هذه الحروف أوله و فاتحته بذكر رحمة ربك و على هذا أيضا يرتفع قوله « ذكر رحمة ربك » أي هذا القرآن ذكر رحمة ربك و إن شئت كان التقدير و مما نقص عليك ذكر رحمة ربك فيكون على الوجه الأول ذكر خبر مبتدإ و على الوجه الثاني يكون مبتدأ و من قال خفت الموالي فمعناه قل بنو عمي و أهلي و معنى « من ورائي » أي من أخلفه بعدي فقوله « من ورائي » حال متوقعة محكية أي متصورا متوقعا كونهم بعدي و مثله مسألة الكتاب مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي متصورا به صيده به غدا .

اللغة

الوهن الضعف و نقصان القوة يقال وهن يهن وهنا و الاشتعال انتشار شعاع النار و قوله « و اشتعل الرأس شيبا » من أحسن الاستعارات و المعنى اشتعل الشيب في الرأس و انتشر كما ينتشر شعاع النار قال الزجاج : يقال للشيب إذا كثر جدا قد اشتعل رأس فلان و أنشد للبيد :
إن ترى رأسي أمسى واضحا
سلط الشيب عليه فاشتعل و الدعاء طلب الفعل من المدعو و في مقابلته الإجابة كما إن في مقابلة الأمر الطاعة و المولى أصله من الولي و هو القرب و سمي ابن العم مولى لأنه يليه في النسب و قال ابن الأنباري في كتاب مشكل القرآن : المولى في اللغة ينقسم على ثمانية أقسام المنعم المعتق و المنعم عليه المعتق و الولي و الأولى بالشيء و ابن العم و الجار و الصهر و الحليف و استشهد على كل قسم من هذه الأقسام بشيء من الشعر و مما استشهد به في أنه بمعنى الولي و الأولى قول الأخطل :
مجمع البيان ج : 6 ص : 775

فأصبحت مولاها من الناس بعده
و أخرى قريش أن تهاب و تحمدا و قوله أيضا يخاطب بني أمية :
أعطاكم الله جدا تنصرون به
لا جد إلا صغير بعد محتقر
لم يأشروا فيه إذ كانوا مواليه
و لو يكون لقوم غيرهم أشروا و العاقر المرأة التي لا تلد يقال امرأة عاقر و رجل عاقر لا يولد له ولد قال الشاعر :
لبئس الفتى إن كنت أسود عاقرا
جبانا فما عذري لدى كل محضر و العقر في البدن الجرح و منه أخذ العاقر لأنه نقص أصل الخلقة إما بالجراحة و إما بامتناع الولادة و عقرت الفرس بالسيف ضربت قوائمه و الجعل على أربعة أقسام بمعنى الأحداث كقولهم جعل البناء أي أحدثه و بمعنى أن يحدث ما يتغير به كقولهم جعل الطين خزفا و بمعنى أن يحدث فيه حكما كقولهم جعل فلانا فاسقا أي بما أحدث فيه من حكمه و تسميته و بمعنى أن يحدث ما يدعوه إلى أن يفعل كقولهم جعله أن يقتل زيدا أي بأن أمره به و دعاه إلى قتله .

الإعراب

« ذكر » مرتفع بالمضمر و تقديره هذا الذي يتلوه عليك ذكر رحمة ربك و هو مصدر مضاف إلى ما هو المفعول في المعنى و رحمة مصدر مضاف إلى الفاعل و عبده مفعول رحمة و زكريا بدل من عبده أو عطف بيان و يقرأ بالقصر و المد و قوله « قال رب إني وهن العظم مني » بيان و تفسير للنداء الخفي و شيبا منصوب على التمييز و التقدير و اشتعل الرأس من الشيب بدعائك تقديره بدعائي إياك فالمصدر مضاف إلى المفعول كقوله من دعاء الخير و بسؤال نعجتك .

المعنى

« كهيعص » قد بينا في أول البقرة اختلاف العلماء في الحروف المعجم التي في أوائل السور و شرحنا أقوالهم هناك و حدث عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : أن كاف من كريم و ها من هاد و ياء من حكيم و عين من عليم و صاد من صادق و في رواية عطا و الكلبي عنه أن معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده و على هذا فإن كل واحد من هذه الحروف يدل على صفة من صفات الله عز و جل و روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في دعائه أسألك يا كهيعص « ذكر رحمت ربك عبده زكريا » أي هذا خبر رحمة ربك زكريا عبده و يعني بالرحمة إجابته إياه حين دعاه
مجمع البيان ج : 6 ص : 776
و سأله الولد و زكريا اسم نبي من أنبياء بني إسرائيل كان من أولاد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران و قيل إن معناه ذكر ربك عبده بالرحمة « إذ نادى ربه نداء خفيا » أي حين دعا ربه دعاء خفيا خافيا سرا غير جهر يخفيه في نفسه لا يريد به رياء و في هذا دلالة على أن المستحب في الدعاء الإخفاء و إن ذلك أقرب إلى الإجابة و في الحديث خير الدعاء الخفي و خير الرزق ما يكفي و قيل إنما أخفاه لئلا يهزأ به الناس فيقول انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر « قال رب إني وهن العظم مني » أي ضعف و إنما أضاف الوهن إلى العظم لأن العظم مع صلابته إذا ضعف و تناقص فكيف باللحم و العصب و قيل إنما خص العظم لأنه شكا ضعف البطش و البطش إنما يكون بالعظم دون اللحم و غيره « و اشتعل الرأس شيبا » معناه أن الشيب قد عم الرأس و هو نذير الموت عن أبي مسلم و قيل معناه تلألأ الشيب في رأسي لكثرته عن ابن الأنباري وصف حاله خضوعا و تذللا لا تعريفا « و لم أكن بدعائك رب شقيا » أي و لم أكن بدعائي إياك فيما مضى مخيبا محروما و المعنى أنك قد عودتني حسن الإجابة و ما خيبتني فيما سألتك و لا حرمتني الاستجابة فيما دعوتك فلا تخيبني فيما أسألك و لا تحرمني إجابتك فيما أدعوك يقال شقي فلان بحاجته إذا تعب بسببها و لم يحصل مطلوبه منها « و إني خفت الموالي » و هم الكلالة عن ابن عباس و قيل العصبة عن مجاهد و قيل هم العمومة و بنو العم عن أبي جعفر (عليه السلام) و قيل بنو العم و كانوا أشرار بني إسرائيل عن الجبائي و قيل هم الورثة عن الكلبي « من ورائي » أي من خلفي « و كانت امرأتي عاقرا » أي عقيما لا تلد « فهب لي من لدنك وليا » أي ولدا يليني فيكون أولى بميراثي « يرثني » إن قرأته بالجزم فالمعنى أن تهبه لي يرثني و إن رفعته جعلته صفة لولي و المعنى وليا وارثا لي « و يرث من آل يعقوب » و هو يعقوب بن ماتان و أخوه عمران بن ماتان أبو مريم عن الكلبي و مقاتل و قيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لأن زكريا كان متزوجا بأخت أم مريم بنت عمران و نسبها يرجع إلى يعقوب لأنها من ولد سليمان بن داود (عليهماالسلام) و هو من ولد يهوذا بن يعقوب و زكريا من ولد هارون و هو من ولد لاوي بن يعقوب عن السدي ثم اختلف في معناه قيل معناه يرثني مالي و يرث من آل يعقوب النبوة عن أبي صالح و قيل معناه يرث نبوتي و نبوة آل يعقوب عن الحسن و مجاهد و استدل أصحابنا بالآية على أن الأنبياء يورثون المال و أن المراد بالإرث المذكور فيها المال دون العلم و النبوة بأن قالوا إن لفظ الميراث في اللغة و الشريعة لا يطلق إلا على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث كالأموال و لا يستعمل في غير المال إلا على طريق المجاز و التوسع و لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة أيضا فإن زكريا (عليه السلام) قال في دعائه « و اجعله رب رضيا » أي اجعل يا رب ذلك الولي
مجمع البيان ج : 6 ص : 777
الذي يرثني مرضيا عندك ممتثلا لأمرك و متى حملنا الإرث على النبوة لم يكن لذلك معنى و كان لغوا عبثا أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد اللهم ابعث لنا نبيا و اجعله عاقلا مرضيا في أخلاقه لأنه إذا كان نبيا فقد دخل الرضا و ما هو أعظم من الرضا في النبوة و يقوي ما قلناه أن زكريا صرح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله « و إني خفت الموالي من ورائي » و إنما يطلب وارثا لأجل خوفه و لا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون النبوة و العلم لأنه (عليه السلام) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا من ليس بأهل للنبوة و أن يورث علمه و حكمته من ليس لهما بأهل و لأنه إنما بعث لإذاعة العلم و نشره في الناس فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته فإن قيل إن هذا يرجع عليكم في وراثة المال لأن في ذلك إضافة الضن و البخل إليه قلنا معاذ الله أن يستوي الأمران فإن المال قد يرزق المؤمن و الكافر و الصالح و الطالح و لا يمتنع أن يأسى على بني عمه إذا كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي بل في ذلك غاية الحكمة فإن تقوية الفساق و إعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين فمن عد ذلك بخلا و ضنا فهو غير منصف و قوله « خفت الموالي من ورائي » يفهم منه أن خوفه إنما كان من أخلاقهم و أفعالهم و معاني فيهم لا من أعيانهم كما أن من خاف الله تعالى فإنما خاف عقابه فالمراد به خفت تضييع الموالي مالي و إنفاقهم إياه في معصية الله تعالى .
يَزَكرِيَّا إِنَّا نُبَشرُك بِغُلَم اسمُهُ يحْيى لَمْ نجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سمِيًّا(7) قَالَ رَب أَنى يَكُونُ لى غُلَمٌ وَ كانَتِ امْرَأَتى عَاقِراً وَ قَدْ بَلَغْت مِنَ الْكبرِ عِتِيًّا(8) قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبُّك هُوَ عَلىَّ هَينٌ وَ قَدْ خَلَقْتُك مِن قَبْلُ وَ لَمْ تَك شيْئاً(9) قَالَ رَب اجْعَل لى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُك أَلا تُكلِّمَ النَّاس ثَلَث لَيَال سوِيًّا(10) فخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَن سبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا(11)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي « عتيا » و صليا و جثيا و بكيا بكسر أوائلها و حفص كذلك إلا
مجمع البيان ج : 6 ص : 778
في بكيا فإنه يضم الباء منها و الباقون بالضم في الجميع و قرأ حمزة و الكسائي خلقناك و الباقون « خلقتك » .

الحجة

قال أبو علي : اعلم أن ما كان على فعول كان على ضربين ( أحدهما ) أن يكون جمعا و الآخر أن يكون مصدرا و قد جاءت أحرف في غير المصادر و هي قليلة و الجمع إذا كان على فعول من معتل اللام جاء على ضربين ( أحدهما ) أن يكون اللام واوا و الآخر أن يكون ياء فما كانت اللام منه واوا من هذه المجموع قلبت إلى الياء و ذلك نحو حقو و حقي و عصا و عصي و قد جاءت حروف قليلة من ذلك على الأصل فمن ذلك ما حكاه سيبويه من قولهم إنكم لتنظرون في نجو كثيرة و قولهم فتو في جمع فتى فما كان كذلك فإن كسر الفاء فيه مطرد و ذلك نحو ولي و حقي و عصي و إنما جاز ذلك لأنها غيرت تغييرين و هما أن الواو التي هي لام قلبت و الواو التي كانت قبلها قلبت أيضا فلما غيرت تغييرين قويا على هذا التغيير من كسر الفاء و أما ما كان لامه ياء نحو ثدي و حلي و نجي فقد كسروا الفاء أيضا منه فقالوا حلي و ثدي و إن لم يغير تغييرين فقد أجروا الياء هاهنا مجرى الواو كما أجروا الياء في اتسر و اتبس افتعل من اليسر و اليبس مجرى الواو و في اتصل و اتهب فأما ما كان من ذلك مصدرا فما كان من الواو فالقياس فيه أن يصح نحو العتو و العلو لأن واوه لم يلزمها الانقلاب كما لزمها الانقلاب في الجمع و لكن لما كانوا قد قلبوا الواو في هذا النحو و إن كان مفردا نحو معدي و مرضى قلبوا ذلك أيضا في نحو عتي ثم أجري المصدر مجرى الجمع في كسر الفاء منه فأما ما كان من هذه المصادر من الياء فليس يستمر الكسر في فائه كما استمر في الجمع و في المصادر التي من الواو أ لا ترى أن المضي في نحو فما استطاعوا مضيا ليس أحد يروي فيه الكسر فيما علمنا و حكى أبو عمرو عن أبي زيد آوى إليه إويا و مما يؤكد الكسر في هذا النحو إنهم قد قالوا قسي فألزموها كسر القاف و ذلك إنه قلبت الواو إلى موضع اللام فلما وقعت موقعها قلبت كما تقلب الواو إذا كانت لاما و كسرت الفاء و ألزمت الكسرة و حجة من قال « قد خلقتك » إن قبله « قال ربك » و حجة من قال خلقناك قوله فيما بعد و حنانا من لدنا و لأنه قد جاء بلفظ الجمع بعد لفظ الإفراد قال سبحانه سبحان الذي أسرى بعبده ثم قال و آتينا موسى الكتاب .

اللغة

الغلام اسم المذكر أول ما يبلغ و منه اشتق اغتلم الرجل إذا اشتدت شهوته للجماع ثم يستعمل في التلميذ فيقال غلام تغلب العتي و العسي بمعنى يقال عتا يعتو عتوا و عتيا و عسى يعسو عسوا و عسيا فهو عات و عاس إذا غيره طول الزمان إلى حال اليبس
مجمع البيان ج : 6 ص : 779
و الجفاف و في حرف أبي و قد بلغت من الكبر عسيا و الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة و أصله من قولهم الوحى الوحى أي الإسراع الإسراع .

الإعراب

« اسمه يحيى » جملة اسمية مجرورة الموضع صفة الغلام كذلك في موضع رفع لأنه خبر مبتدإ محذوف أي الأمر كما قيل لك « و لم تك » أصله لم تكن حذفت النون منه لكثرته في الكلام فكأنه جزم مرتين و سويا منصوب على الحال « أن سبحوا » يجوز أن يكون التقدير أي سبحوا و يجوز أن يكون أنه سبحوا فخفف و أضمر الاسم و لم يعرض من المضمر شيئا كقوله لو لا أن من الله علينا كما جاء العوض في قوله ليعلم أن قد أبلغوا و علم أن سيكون منكم مرضى و حسبوا ألا تكون فتنة فيمن رفع .
و « بكرة و عشيا » منصوبان على الظرف .

المعنى

« يا زكريا إنا نبشرك بغلام » هاهنا حذف معناه فاستجاب الله دعاء زكريا و أوحى إليه يا زكريا إنا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر يرى السرور به في وجهك و هو أن يولد لك ابن « اسمه يحيى » و قد تقدم تفسيره في سورة آل عمران « لم نجعل له من قبل سميا » أي لم يسم أحد قبله باسمه عن قتادة و ابن جريج و السدي و ابن زيد و في هذا تشريف له من وجهين ( أحدهما ) إن الله سبحانه تولى تسميته و لم يكلها إلى الأبوين و الآخر أنه سماه باسم لم يسبق إليه يدل ذلك الاسم على فضله و قال أبو عبد الله (عليه السلام) و كذلك الحسين (عليه السلام) لم يكن له من قبل سميا و لم تبك السماء إلا عليهما أربعين صباحا قيل له و ما كان بكاؤها قال كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء و كان قاتل يحيى ولد زنا و قاتل الحسين (عليه السلام) ولد زنا و روى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن علي بن الحسين (عليهماالسلام) قال خرجنا مع الحسين (عليه السلام) فما نزل منزلا و لا ارتحل منه إلا ذكر يحيى بن زكريا و قال يوما و من هوان الدنيا على الله عز و جل أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل و قيل إن معنى قوله « لم نجعل له من قبل سميا » لم تلد العواقر مثله ولدا و هو كقوله هل تعلم له سميا أي مثلا عن ابن عباس و مجاهد « قال رب أنى يكون لي غلام » فسرناه في سورة آل عمران « و كانت امرأتي عاقرا » قال الحسن : إنما قال ذلك على جهة الاستخبار أي
مجمع البيان ج : 6 ص : 780
أ تعيدنا شابين أم ترزقنا الولد شيخين « و قد بلغت من الكبر عتيا » معناه و قد بلغت من كبر السن إلى حال اليبس و الجفاف و نحول العظم عن قتادة و مجاهد قال قتادة : كان له بضع و تسعون سنة « قال كذلك » أي قال الله سبحانه الأمر على ما أخبرتك من هبة الولد على الكبر « قال ربك هو علي هين » أرد عليك قوتك حتى تقوى على الجماع و افتق رحم امرأتك بالولد عن ابن عباس « و قد خلقتك من قبل » أي من قبل يحيى « و لم تك شيئا » أي أنشأتك و أوجدتك و لم تك شيئا موجودا فإزالة عقر زوجتك و إزالة ما يمنع قبول الولد أيسر في الاعتبار من ابتداء الإنشاء و روى الحكم بن عيينة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال إنما ولد يحيى بعد البشارة له من الله بخمس سنين « قال » زكريا يا « ربي اجعل لي آية » أي دلالة و علامة استدل بها على وقت كونه « قال » الله تعالى « آيتك » أي علامتك على ذلك « ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا » أي و أنت سوي صحيح سليم من غير علة قال ابن عباس : اعتقل لسانه من غير مرض ثلاثة أيام و قال قتادة و السدي : اعتقل لسانه من غير بأس و لا خرس فإنه كان يقرأ الزبور و يدعو إلى الله و يسبحه و لا يمكنه أن يكلم الناس و هذا أمر خارج عن العادة « فخرج على قومه من المحراب » أي من مصلاه عن ابن زيد و سمي المحراب محرابا لأن المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته و الأصل فيه مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله قالوا و كان زكريا قد أخبر قومه بما بشر به فلما خرج عليهم و امتنع من كلامهم علموا إجابة دعائه فسروا به « فأوحى إليهم » أي أشار إليهم و أومأ بيده و قيل كتب لهم في الأرض عن مجاهد « أن سبحوا بكرة و عشيا » أي صلوا بكرة و عشيا عن الحسن و قتادة و تسمى الصلاة سبحة و تسبيحا لما فيها من التسبيح و قيل أراد التسبيح بعينه و قال ابن جريج أشرف عليهم زكريا من فوق غرفة كان يصلي فيها لا يصعد إليها إلا بسلم و كانوا يصلون معه الفجر و العشاء فكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه فلما اعتقل لسانه خرج على عادته و أذن لهم بغير كلام فعرفوا عند ذلك أنه قد جاء وقت حمل امرأته بيحيى فمكث ثلاثة أيام لا يقدر على الكلام معهم و يقدر على التسبيح و الدعاء .

مجمع البيان ج : 6 ص : 781
يَيَحْيى خُذِ الْكتَب بِقُوَّة وَ ءَاتَيْنَهُ الحُْكْمَ صبِيًّا(12) وَ حَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَ زَكَوةً وَ كانَ تَقِيًّا(13) وَ بَرَّا بِوَلِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيًّا(14) وَ سلَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوت وَ يَوْمَ يُبْعَث حَيًّا(15)

اللغة

أصل الحنان الرحمة يقال حنانك و حنانيك و قال امرؤ القيس :
و يمنحها بنو شمجى بن جرم
معيزهم حنانك ذا الحنان و قال آخر :
قالت حنان ما أتى بك هاهنا
أ ذو نسب أم أنت بالحي عارف أي أمرنا حنان قال أبو عبيدة : و أكثر ما يستعمل بلفظ التثنية قال طرفة :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض و تحنن عليه أي تعطف عليه قال الحطيئة لعمر بن الخطاب :
تحنن علي هداك المليك
فإن لكل مقام مقالا و حنت عليه أحن حنينا و حنانا و حنة الرجل امرأته و الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا و فيه جبرية و جبروت و الجبار من النخل ما فأت اليد .

الإعراب

« بقوة » الباء في موضع الحال أي خذ الكتاب مجدا مجتهدا .

المعنى

ثم قال سبحانه « يا يحيى خذ الكتاب بقوة » هاهنا اختصار عجيب تقديره فوهبنا له يحيى و أعطيناه الفهم و العقل و قلنا له يا يحيى خذ الكتاب يعني التوراة بما قواك الله عليه و أيدك به و معناه و أنت قادر على أخذه قوي على العمل به و قيل معناه بجد و صحة عزيمة على القيام بما فيه « و آتيناه الحكم صبيا » أي آتيناه النبوة في حال صباه و هو ابن ثلاث سنين عن ابن عباس و روى العياشي بإسناده عن علي بن أسباط قال قدمت المدينة و أنا أريد مصر فدخلت على أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) و هو إذ ذاك خماسي فجعلت أتأمله لأصفه لأصحابنا بمصر فنظر إلي فقال لي يا علي إن الله قد أخذ في الإمامة كما أخذ في النبوة قال و لما بلغ أشده و استوى آتيناه حكما و علما و قال « و آتيناه الحكم صبيا » فقد يجوز أن يعطي الحكم ابن أربعين سنة و يجوز أن يعطاه الصبي و قيل إن الحكم الفهم و هو أنه أعطي فهم الكتاب حتى حصل له عظيم الفائدة عن مجاهد و عن معمر قال إن الصبيان قالوا ليحيى اذهب بنا لنلعب فقال ما للعب خلقنا فأنزل الله فيه « و آتيناه الحكم صبيا » و روي ذلك عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) « و حنانا من لدنا » و الحنان العطف و الرحمة أي و آتيناه رحمة من عندنا عن ابن عباس و قتادة و الحسن و قيل معناه تحننا على العباد و رقة قلب عليهم ليدعوهم إلى طاعة الله تعالى عن الجبائي و قيل معناه محبة منا عن عكرمة و أصله الشفقة و الرقة و منه حنين الناقة و هو صوتها
مجمع البيان ج : 6 ص : 782
إذا اشتاقت إلى ولدها و قيل معناه تحنن الله عليه كان إذا قال يا رب قال الله لبيك يا يحيى و هو المروي عن الباقر (عليه السلام) و قيل معناه تعطفا منا عن مجاهد فهذه خمسة أقوال « و زكاة » أي و عملا صالحا زاكيا عن قتادة و الضحاك و ابن جريج و قيل زكاة لمن قبل دينه حتى يكونوا أزكياء عن الحسن و قيل يعني بالزكاة طاعة الله و الإخلاص عن ابن عباس و قيل معناه و صدقة تصدق الله به على أبويه عن الكلبي و قيل معناه و زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود الإنسان عن الجبائي فهذه خمسة أقوال « و كان تقيا » أي مخلصا مطيعا متقيا لما نهى الله عنه قالوا و كان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة و لم يهم بها سؤال يقال لم أضاف الله سبحانه كونه زكاة إلى نفسه و هو إنما كان مطيعا زكيا بفعله و جوابه إنه إنما صار كذلك بألطاف من الله لا سيما في تلك الحالة من الصغر و لأنه إنما اهتدى بهداية الله إياه « و برا بوالديه » أي بارا بوالديه محسنا إليهما مطيعا لهما لطيفا بهما طالبا مرضاتهما « و لم يكن جبارا » أي متكبرا متطاولا على الخلق و قيل الجبار الذي يقتل و يضرب على الغضب عن ابن عباس « عصيا » أي عاصيا لربه فعيل بمعنى فاعل « و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا » أي سلام عليه منا في هذه الأيام عن عطاء و قيل و سلامة و أمان له منا عن الكلبي و معناه سلامة و أمن له يوم ولد من عبث الشيطان به و إغوائه إياه و يوم يموت من بلاء الدنيا و من عذاب القبر و يوم يبعث حيا من هول المطلع و عذاب النار و إنما قال « حيا » تأكيدا لقوله « يبعث » و قيل يعني أنه يبعث مع الشهداء لأنهم وصفوا بأنهم أحياء قال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن يوم ولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه و يوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم و أحكاما ليس له بها عهد و يوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فخص الله سبحانه يحيى بالكرامة و السلام و السلامة في المواطن الثلاثة و قيل إن السلام الأول يوم الولادة تفضل و الثاني و الثالث على وجه الثواب و الجزاء .

مجمع البيان ج : 6 ص : 783
وَ اذْكُرْ فى الْكِتَبِ مَرْيمَ إِذِ انتَبَذَت مِنْ أَهْلِهَا مَكاناً شرْقِيًّا(16) فَاتخَذَت مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشراً سوِيًّا(17) قَالَت إِنى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنك إِن كُنت تَقِيًّا(18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسولُ رَبِّكِ لأَهَب لَكِ غُلَماً زَكيًّا(19) قَالَت أَنى يَكُونُ لى غُلَمٌ وَ لَمْ يَمْسسنى بَشرٌ وَ لَمْ أَك بَغِيًّا(20)

القراءة

قرأ أبو عمرو و ورش و قالون برواية الحلواني و يعقوب ليهب بالياء و الباقون « لأهب » بالهمزة .

الحجة

قال أبو علي : حجة من قال « لأهب » فأسند الفعل إلى المتكلم و الهبة لله تعالى و منه إن الرسول و الوكيل قد يسند هذا النحو إلى نفسه و إن كان الفعل للموكل أو المرسل للعلم بأنه مترجم عنه و من قال ليهب لك فهو على تصحيح اللفظ في المعنى ففي قوله تعالى ليهب ضمير من قوله « ربك » و هو سبحانه الواهب و زعموا أن في حرفي أبي و ابن مسعود ليهب و لو خففت الهمزة من « لأهب » لكان في قول أبي الحسن ليهب فتقلبها ياء محضة و في قول الخليل « لأهب » يجعلها بين الياء و الهمزة .

اللغة

النبذ أصله الطرح و الانتباذ افتعال منه و منه قوله « فنبذوه وراء ظهورهم » أي ألقوه و انتبذ فلان ناحية أي تنحى ناحية و جلس فلان نبذة من الناس و نبذة بفتح النون و ضمها أي ناحية و إنما يقال ذلك إذا جلس قريبا منهم حتى لو نبذوا إليه شيئا لوصل إليه فالانتباذ اتخاذ الشيء بإلقاء غيره عنه و المكان الشرقي الذي كان في جهة الشرق قال جرير :
هبت جنوب فذكرى ما ذكرتكم
عند الصفاة إلى شرقي حورانا .

الإعراب

مكانا نصب على الظرف « بشرا سويا » منصوب على الحال .

المعنى

ثم عطف سبحانه قصة مريم و عيسى (عليهماالسلام) على قصة زكريا و يحيى (عليهماالسلام) فقال « و اذكر في الكتاب » أي في كتابك هذا و هو القرآن « مريم » أي حديث مريم و ولادتها عيسى و صلاحها ليقتدي الناس بها و لتكون معجزة لك « إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا » أي انفردت من أهلها إلى مكان في جهة المشرق و قعدت ناحية منهم قال ابن عباس : إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأنها انتبذت مكانا شرقيا و قيل اتخذت مكانا تنفرد فيه للعبادة لئلا تشتغل بكلام الناس عن الجبائي و قيل تباعدت عن قومها حتى لا يرونها عن الأصم و أبي مسلم و قيل إنها تمنت أن تجد خلوة فتفلي رأسها فخرجت من يوم شديد البرد فجلست في مشرقة للشمس عن عطا « فاتخذت من دونهم حجابا » أي فضربت من دون أهلها لئلا يروها سترا و حاجزا بينها و بينهم « فأرسلنا إليها روحنا » يعني جبرائيل (عليه السلام) عن ابن عباس و الحسن و قتادة و غيرهم و سماه الله روحا لأنه روحاني و أضافه إلى نفسه تشريفا له « فتمثل لها بشرا سويا » معناه فأتاها جبرائيل فانتصب بين يديها في صورة آدمي صحيح لم ينقص منه
مجمع البيان ج : 6 ص : 784
شيء و قال أبو مسلم : إن الروح الذي خلق منه المسيح تصور لها إنسان و الأول هو الوجه لإجماع المفسرين عليه و قال عكرمة : كانت مريم إذا حاضت خرجت من المسجد و كانت عند خالتها امرأة زكريا أيام حيضها فإذا طهرت عادت إلى بيتها في المسجد فبينا هي في مشرقة لها في ناحية الدار و قد ضربت بينها و بين أهلها سترا لتغتسل و تمتشط إذ دخل عليها جبرائيل في صورة رجل شاب أمرد سوي الخلق فأنكرته فاستعاذت بالله منه « قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا » معناه إني أعتصم بالرحمن من شرك فاخرج من عندي إن كنت تقيا سؤال يقال كيف شرطت في التعوذ منه أن يكون تقيا و التقي لا يحتاج أن يتعوذ منه و إنما يتعوذ من غير التقي و الجواب إن التقي إذا تعوذ بالرحمن منه ارتدع عما يسخط الله ففي ذلك تخويف و ترهيب له و هذا كما تقول إن كنت مؤمنا فلا تظلمني فالمعنى إن كنت تقيا فاتعظ و اخرج و روي عن علي (عليه السلام) أنه قال علمت إن التقي ينهاه التقى عن المعصية و قيل إن معنى قوله « إن كنت تقيا » ما كنت تقيا حيث استحللت النظر إلي و خلوت بي فلما سمع جبرائيل (عليه السلام) منها هذا القول « قال » لها « إنما أنا رسول ربك لأهب لك » و قد بينا معنى القراءتين « غلاما زكيا » أي ولدا طاهرا من الأدناس و قيل ناميا في أفعال الخير و قيل يريد نبيا عن ابن عباس « قالت » مريم « أنى يكون لي غلام » أي كيف يكون لي ولد « و لم يمسسني بشر » على وجه الزوجية « و لم أك بغيا » أي و لم أكن زانية و إنما قالت ذلك لأن الولد في العادة يكون من إحدى هاتين الجهتين و المعنى أني لست بذات زوج و غير ذات الزوج لا تلد إلا عن فجور و لست فاجرة و إنما يقال للفاجرة بغي بمعنى أنها تبغي الزنا أي تطلبه و في هذه الآيات دلالة على جواز إظهار المعجزات لغير الأنبياء لأن من المعلوم أن مريم ليست بنبية و إن رؤية الملك على صورة البشر و بشارة الملك إياها و ولادتها من غير وطىء إلى غيرها من الآيات التي أتاها الله بها من أكبر المعجزات و من لم يجوز إظهار المعجزات على غير النبي اختلفت أقوالهم في ذلك قال الجبائي : و ابنه أنها معجزات لزكريا (عليه السلام) و قال البلخي : إنها معجزات لعيسى على سبيل الإرهاص و التأسيس لنبوته .

مجمع البيان ج : 6 ص : 785
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلىَّ هَينٌ وَ لِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِّنَّا وَ كانَ أَمْراً مَّقْضِيًّا(21) * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَت بِهِ مَكاناً قَصِيًّا(22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاض إِلى جِذْع النَّخْلَةِ قَالَت يَلَيْتَنى مِت قَبْلَ هَذَا وَ كنت نَسياً مَّنسِيًّا(23) فَنَادَاهَا مِن تحْتهَا أَلا تحْزَنى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تحْتَكِ سرِيًّا(24) وَ هُزِّى إِلَيْكِ بجِذْع النَّخْلَةِ تُسقِط عَلَيْكِ رُطباً جَنِيًّا(25) فَكلِى وَ اشرَبى وَ قَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشرِ أَحَداً فَقُولى إِنى نَذَرْت لِلرَّحْمَنِ صوْماً فَلَنْ أُكلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا(26) فَأَتَت بِهِ قَوْمَهَا تحْمِلُهُ قَالُوا يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شيْئاً فَرِيًّا(27) يَأُخْت هَرُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سوْء وَ مَا كانَت أُمُّكِ بَغِيًّا(28) فَأَشارَت إِلَيْهِ قَالُوا كَيْف نُكلِّمُ مَن كانَ فى الْمَهْدِ صبِيًّا(29) قَالَ إِنى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَاخَ الْكِتَب وَ جَعَلَنى نَبِيًّا(30)

القراءة

قرأ حمزة و حفص « نسيا » بفتح النون و الباقون نسيا بكسر النون و قرأ « من تحتها » بكسر الميم أهل المدينة و الكوفة غير أبي بكر و سهل فالباقون من تحتها و قرأ حفص عن عاصم « تساقط » بضم التاء و كسر القاف و قرأ حماد عن عاصم و بصير عن الكسائي و يعقوب و سهل يساقط بالياء و تشديد السين و قراءة حمزة تساقط بفتح التاء و تخفيف السين و الباقون تساقط بفتح التاء و تشديد السين و في الشواذ قراءة مسروق يساقط بضم الياء و تخفيف السين و قرأ طلحة بن سليمان رطبا جنيا بكسر الجيم فإما ترين بسكون الياء و التخفيف .

الحجة

قال أبو علي : قال أبو الحسن : النسي هو الشيء الحقير ينسى نحو النعل و السوط و قال غيره النسي أغفل ما من شيء حقير و قال بعضهم ما إذا ذكر لم يطلب و قالوا الكسر على اللغتين قال الشنفري :
كان لها في الأرض نسيا تقصه
على أمها و إن تخاطبك تبلت
مجمع البيان ج : 6 ص : 786
و قال في قوله « من تحتها » أنه جبرائيل أو عيسى و قال بعض أهل التأويل لا يكون إلا عيسى (عليه السلام) و لا يكون جبرائيل لأنه لو كان جبرائيل لناداها من فوقها و قد يجوز أن يكون جبرائيل و ليس قوله « من تحتها » يراد به الجهة السفلى و إنما المراد من دونها بدلالة قوله « قد جعل ربك تحتك سريا » و لم يكن النهر محاذيا لهذه الجهة و لكن المعنى جعله دونك و قد يقال فلان تحتنا أي دوننا في الموضع و الأشبه أن يكون المنادي لها عيسى فإنه أشد إزالة لما خامر قلبها من الاغتمام و إذا قال من تحتها كان عاما وضع موضع الخاص و المراد به عيسى قال و الوجوه كلها كما في تساقط متفقة في المعنى إلا قراءة حفص أ لا ترى أن من قرأ تساقط إنما هي تتساقط فحذف التاء التي يدغمها غيره و كلهم جعل فاعل الفعل الذي هو تساقط أو تساقط في رواية حفص النخلة و يجوز أن يكون فاعل تساقط أو تساقط هي جذع النخلة إلا أنه لما حذف المضاف أسند الفعل إلى النخلة في اللفظ فأما تعديتهم تسقط فهو تفاعل لأن تفاعل مطاوع فاعل فكما عدي نحو تفعل في نحو تجرعته و تمززته فكذلك عدي تفاعل فمما جاء من ذلك في الشعر قول أوفى بن مطر :
تخاطأت النبل أحشاءه
و أخر يومي فلم يعجل و قول الآخر :
تطالعنا خيالات لسلمى
كما يتطالع الدين الغرم و قول امرىء القيس :
و مثلك بيضاء العوارض طفلة
لعوب تناساني إذا قمت سربالي أراد تنسيني و من قرأ بالياء أمكن أن يكون فاعله الهز لأن قوله « هزي » قد دل عليه فإذا كان كذلك جاز أن يضمره كما أضمر الكذب في قوله ( من كذب كان شرا له ) و يمكن أن يكون الجذع و يجوز في الفعل إذا أسند إلى الجذع وجهان ( أحدهما ) إن الفعل أضيف إلى الجذع كما أضيف إلى النخلة برمتها لأن الجذع معظمها ( و الآخر ) أن يكون الجذع منفردا عن النخلة يسقط عليها و يكون سقوط الرطب من الجذع آية لعيسى (عليه السلام) و يصير سقوط الرطب من الجذع أسكن لنفسها و أشد إزالة لاهتمامها و سقوط الرطب من الجذع منفردا
مجمع البيان ج : 6 ص : 787
من النخل مثل رزقها الذي كان يأتيها المحراب في قوله تعالى « كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا » إلى قوله « هو من عند الله » و قوله « رطبا » في هذه الوجوه منصوب على أنه مفعول به و يجوز في قوله « تساقط عليك » أي تساقط عليك ثمرة النخلة رطبا فحذف المضاف الذي هو الثمرة و يكون انتصاب رطب على الحال و جاز أن يضمر الثمر و إن لم يجر لها ذكر لأن ذكر النخلة يدل عليها فأما الباء في قوله « و هزي إليك بجذع النخلة » فيحتمل أمرين ( أحدهما ) أن يكون زيادة كقوله ( ألقى بيده و ألقى يده ) و قوله :
بواد يمان ينبت الشت صدره
و أسفله بالمرخ و الشبهان و نحو ذلك و يجوز أن يكون المعنى و هزي إليك بهز جذع النخلة رطبا كما قال ذو الرمة :
و صوح البقل ناآج تجيء به
هيف يمانية في مرها نكب أي تجيء بمجيئه هيف يعني إذا جاء النئاج جاء الهيف و كذلك إذا هزت الجذع هزت بهزه رطبا أي فإذا هززت الرطب سقط و أما قراءة مسروق يساقط فإنه بمعنى يسقط شيئا بعد شيء و أنشد ابن جني قول ضابىء البرجمي :
يساقط عنه روقه ضارباتها
سقاط حديد القين أخول أخولا أي يسقط قرن هذا الثور ضاريات كلاب الصيد لطعنه إياها به شيئا بعد شيء و أما قراءة طلحة رطبا جنيا فإنه أتبع كسرة الجيم كسرة النون قال ابن جني : شبه النون و إن لم يكن من حروف الحلق بهن في نحو الشخير و النخير و الرغيف و أما ترين فهي شاذ لكنه جاء في لغة إثبات النون في الجزم و أنشد أبو الحسن :
لو لا فوارس من قيس و أسرتهم
يوم الصليفاء لم يوفون بالجار .

اللغة

القصي البعيد و القاصي خلاف الداني و قوله « فأجاءها » أي جاء بها المخاض و هو مما يعدى تارة بالباء و تارة بهمزة النقل قال زهير :
و جار سار معتمدا علينا
أجاءته المخاوف و الرجاء
مجمع البيان ج : 6 ص : 788
أي جاءت به و يروي جاء قال الكسائي : تميم تقول ما أجاءك إلى هذا و ما أمشاك إليه و من أمثالهم شر أجاءك إلى مخة عرقوب و تميم تقول أمشاك و لسري النهر لأنه يسري بجريانه قال لبيد :
فتوسطا عرض السري فصدعا
مسجورة متجاورا قلامها و يقال قررت به عينا أقر قرورا فهي لغة قريش و أهل نجد يقولون قررت به بفتح العين أقر قرارا كما يقولون قررت بالمكان بالفتح و الجني بمعنى المجني من جنيت الثمرة و أجنيتها إذا قطعتها و قال ابن أخت جذيمة :
هذا جناي و خياره فيه
إذ كل جان يده إلى فيه و في معناه قول الكميت يمدح أهل البيت (عليهم السلام) :
خيارها يجتنون فيه إذ الجانون
في ذي أكفهم أربوا قال أبو مسلم : الفري مأخوذ من فري الأديم إذا قطعه على وجه الإصلاح ثم يستعمل في الكذب و قال الزجاج : يقال فلان يفري الفري إذا كان يعمل عملا يبالغ فيه قال الراجز :
قد كنت تفرين به الفريا .

الإعراب

« عينا » منصوب على التمييز « فإما ترين » أصله ترأين إلا إن الاستعمال بغير همز و الياء فيه ضمير المؤنث و إنما حركت لالتقاء الساكنين و هما الياء و النون الأولى من المشددة كما تقول للمرأة أرضين زيدا و قوله « من كان في المهد صبيا » كان هنا بمعنى الحدوث و الوقوع و التقدير كيف نكلم من وجد في المهد صبيا نصب على الحال من كان و مثل كان
مجمع البيان ج : 6 ص : 789
هاهنا قوله و إن كان ذو عسرة و مثله قول الربيع :
إذا كان الشتاء فادفؤني
فإن الشيخ يهدمه الشتاء و يجوز أن يكون كان هنا مزيدة كما في قول الشاعر :
جياد بني أبي بكر تسامى
على كان المسومة العراب فعلى هذا يكون العامل في الحال نكلم قال الزجاج : الأجود أن يكون من في معنى الشرط و الجزاء فيكون المعنى من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه و يكون صبيا حالا كما تقول من كان لا يسمع و لا يعقل فكيف أخاطبه .

المعنى

« قال كذلك » أي قال لها جبرائيل حين سمع تعجبها من هذه البشارة الأمر كذلك أي كما وصفت لك « قال ربك هو علي هين » أي إحداث الولد من غير زوج للمرأة سهل متأت لا يشق علي « و لنجعله آية للناس » معناه و لنجعله علامة ظاهرة و آية باهرة للناس على نبوته و دلالة على براءة أمه « و رحمة منا » له و لنجعله نعمة منا على الخلق يهتدون بسببه « و كان أمرا مقضيا » أي و كان خلق عيسى من غير ذكر أمرا كائنا مفروغا عنه محتوما قضى الله سبحانه بأن يكون و حكم به « فحملته » أي فحملت مريم بعيسى فحبلت في الحال قيل إن جبرائيل أخذ ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت مريم من ساعتها و وجدت حس الحمل و قيل نفخ في كمها فحملت عن ابن جريج و روي عن الباقر (عليه السلام) إنه تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحم و هي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها و مضت مريم على وجهها مستحية من خالتها و من زكريا « فانتبذت به مكانا قصيا » أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد و قيل معناه انفردت به مكانا بعيدا من قومها حياء من أهلها و خوفا من أن يتهموها بسوء و اختلفوا في مدة حملها فقيل ساعة واحدة قال ابن عباس : لم يكن بين الانتباذ و الحمل إلا ساعة واحدة لأنه تعالى لم يذكر بينهما فصلا لأنه قال « فحملته فانتبذت به » « فأجاءها » و الفاء للتعقيب و قيل حملت به في ساعة و صور في ساعة و وضعته في ساعة حين زاغت الشمس من يومها و هي بنت عشر سنين عن مقاتل و قيل كانت مدة حملها تسع ساعات
مجمع البيان ج : 6 ص : 790
و هذا مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل ستة أشهر و قيل ثمانية أشهر و كان ذلك آية و ذلك أنه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غيره « فأجاءها المخاض » أي ألجأها الطلق أي وجع الولادة « إلى جذع النخلة » فالتجأت إليها لتستند إليها عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و السدي و قيل أجاءها أي جاء بها قال ابن عباس : نظرت مريم إلى أكمة فصعدت مسرعة إليها فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس لها سعف و الجذع ساق النخلة و الألف و اللام دخلت للعهد لا للجنس أي النخلة المعروفة فلما ولدت « قالت يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا » أي شيئا حقيرا متروكا عن ابن عباس و قيل شيئا لا يذكر و لا يعرف عن قتادة و قيل حيضة ملقاة عن عكرمة و الضحاك و مجاهد قال ابن عباس : فسمع جبرائيل كلامها و عرف جزعها « فناداها من تحتها » و كان أسفل منها تحت أكمة « ألا تحزني » و هو قول السدي و قتادة و الضحاك أن المنادي جبرائيل ناداها من سفح الجبل و قيل ناداها عيسى عن مجاهد و الحسن و وهب و سعيد بن جبير و ابن زيد و ابن جرير و الجبائي و إنما تمنت (عليهاالسلام) الموت كراهية لأن يعصي الله فيها و قيل استحياء من الناس أن يظنوا بها سوءا عن السدي و روي عن الصادق (عليه السلام) لأنها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزهها من السوء « قد جعل ربك تحتك سريا » أي ناداها جبرائيل أو عيسى ليزول ما عندها من الغم و الجزع لا تغتمي قد جعل ربك تحت قدميك نهرا تشربين منه و تتطهرين من النفاس عن ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير قالوا و كان نهرا قد انقطع الماء عنه فأرسل الله الماء فيه لمريم و أحيا ذلك الجذع حتى أثمر و أورق و قيل ضرب جبرائيل (عليه السلام) برجله فظهر ماء عذب و قيل بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و قيل السري عيسى (عليه السلام) عن الحسن و ابن زيد و الجبائي و السري و هو الشريف الرفيع قال الحسن كان و الله عبدا سريا « و هزي إليك بجذع النخلة » معناه اجذبي إليك بجذع النخلة و الباء مزيدة و قال الفراء : العرب تقول هزه و هز به « تساقط عليك رطبا جنيا » مر معناه و قال الباقر (عليه السلام) لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها و قالوا إن الجذع كان يابسا لا ثمر عليه إذ لو كان عليه ثمر لهزته من غير أن تؤمر به و كان في الشتاء فصار معجزة بخروج الرطب في غير أوانه و بخروجه دفعة واحدة فإن العادة أن يكون نورا أولا ثم يصير بلحا ثم بسرا و روي أنه لم يكن للجذع رأس فضربته برجلها فأورقت و أثمرت و انتثر عليها الرطب جنيا و الشجرة التي لا رأس لها لا تثمر في العادة و قيل إن تلك النخلة كانت برنية و قيل كانت عجوة و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) « فكلي و اشربي » أي كلي يا مريم من هذا الرطب و اشربي من هذا الماء « و قري عينا » جاء في التفسير و طيبي نفسا و قيل معناه لتقر عينك سرورا بهذا الولد الذي ترين لأن
 

Back Index Next