جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج10 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>


 

مجمع البيان ج : 10 ص : 547
قومهم اغترارا بما آتاهم الله من المال و الولد فقالوا لو كان هذا رسولا لله لكان له ثروة و غنى و قرىء « ولده » و ولده بالضم و الفتح فالولد الجماعة من الأولاد و الولد الواحد و قيل هما سواء و الخسار الهلاك بذهاب رأس المال و قيل إن معناه اتبع الفقراء و السفلة الرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال و الأولاد إلا هلاكا في الدنيا و عقوبة في الآخرة « و مكروا » في دين الله « مكرا كبارا » أي كبيرا عظيما عن الحسن و قيل معناه قالوا قولا عظيما عن ابن عباس و قيل اجترءوا على الله و كذبوا رسله عن الضحاك و قيل مكرهم تحريشهم سفلتهم على قتل نوح (عليه السلام) « و قالوا لا تذرن آلهتكم » أي لا تتركوا عبادة أصنامكم ثم خصوا أصناما لهم معروفة بعد دخولها في الجملة الأولى تعظيما لها فقالوا « لا تذرن ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا » و هذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها ثم عبدتها العرب فيما بعد عن ابن عباس و قتادة و قيل إن هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم و نوح (عليهماالسلام) فنشأ قوم بعدهم يأخذون أخذهم في العبادة فقال لهم إبليس لو صورتم صورهم كان أنشط لكم و أشوق إلى العبادة ففعلوا فنشأ بعدهم قوم فقال لهم إبليس إن الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم فمبدأ عبادة الأوثان كان ذلك الوقت عن محمد بن كعب و قيل كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند و يحول بينه و بين الكفار لئلا يطوفوا بقبره فقال لهم إبليس إن هؤلاء يفخرون عليكم و يزعمون أنهم بنو آدم دونكم و إنما هو جسد و أنا أصور لكم مثله تطيفون به فنحت خمسة أصنام و حملهم على عبادتها و هي ود و سواع و يعوق و يغوث و نسر فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأصنام و طمها التراب فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب فاتخذت قضاعة ودا فعبدوها بدومة الجندل ثم توارثها بنوه الأكابر فالأكابر حتى صارت إلى كلب فجاء الإسلام و هو عندهم و أخذ بطنان من طي يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا ثم أن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم ففروا به إلى بني الحرث بن كعب و أما يعوق فكان لكهلان ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان و أما نسر فكان لخثعم يعبدونه و أما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه عن ابن عباس و قيل إن أوثان قوم نوح صارت إلى العرب فكانت ود بدومة الجندل و سواع برهاط لهذيل و كان يغوث لبني غطيف من مراد و كان يعوق لهمدان و كان نسر لآل ذي الكلاع من حمير و كان اللات لثقيف و أما العزى فلسليم و غطفان و جشم و نضر و سعد بن بكر و أما مناة فكانت لفديد و أما إساف و نائلة و هبل فلأهل مكة و كان إساف حيال الحجر الأسود و كانت نائلة حيال الركن اليماني و كان هبل في جوف الكعبة
مجمع البيان ج : 10 ص : 548
ثمانية عشر ذراعا عن عطا و قتادة و الثمالي و قال الواقدي كان ود على صورة رجل و سواع على صورة امرأة و يغوث على صورة أسد و يعوق على صورة فرس و نسر على صورة نسر من الطير « و قد أضلوا كثيرا » أي ضل بعبادتها و بسببها كثير من الناس نظيره رب إنهن أضللن كثيرا من الناس و قيل معناه و قد أضل كبراؤهم كثيرا من الناس عن مقاتل و أبي مسلم و على هذا فإن الضمير في أضلوا يعود إلى أكابر قوم نوح « و لا تزد الظالمين إلا ضلالا » أي هلاكا كما في قوله « إن المجرمين في ضلال و سعر » و قيل إلا فتنة بالمال و الولد و قيل إلا ذهابا عن الجنة و الثواب قال البلخي لا تزدهم إلا منعا من الطاعات عقوبة لهم على كفرهم فإنهم إذا ضلوا استحقوا منع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين فيطيعون عندها و يمتثلون و لا يجوز أن يفعل بهم الضلال عن الحق و الإيمان لأن ذلك لا يجوز في صفة الحكيم تعالى الله عن ذلك « مما خطيئاتهم أغرقوا » أي من خطيئاتهم و ما مزيدة و التقدير من أجل ما ارتكبوه من الخطايا و الكبائر « أغرقوا » على وجه العقوبة « فادخلوا نارا » بعد ذلك ليعاقبوا فيها « فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا » أي لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله و إنما أتى سبحانه بألفاظ المضي على معنى الاستقبال لصدق الوعد به و قال الضحاك أغرقوا فادخلوا نارا في الدنيا في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب و يحترقون في النار من جانب و أنشد ابن الأنباري :
الخلق مجتمع طورا و مفترق
و الحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت
فالله يجمع بين الماء و النار « و قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » أي نازل دار يعني لا تدع منهم أحدا إلا أهلكته قال قتادة ما دعا بهذا عليهم إلا بعد أن أنزل عليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلذلك قال « إنك إن تذرهم يضلوا عبادك » أي إن تتركهم و لم تهلكهم يضلوا عبادك عن الدين بالإغواء و الدعاء إلى خلافه « و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا » و إلا فلم يعلم نوح الغيب و إنما قال ذلك بعد أن أعلمه الله إياه و المعنى و لا يلدوا إلا من يكون عند بلوغه كافرا لأنه لا يذم على الكفر من لم يقع منه فعل الكفر و قال مقاتل و الربيع و عطاء إنما قال ذلك نوح (عليه السلام) لأن الله تعالى أخرج من أصلابهم كل من يكون مؤمنا و أعقم أرحام نسائهم و أيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة و أخبر الله تعالى نوحا بأنهم لا يؤمنون و لا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعاءه فأهلكهم كلهم و لم يكن فيهم صبي وقت العذاب ثم دعا لنفسه و للمؤمنين و المؤمنات فقال « رب اغفر لي و لوالدي »
مجمع البيان ج : 10 ص : 549

و اسم أبيه لمك بن متوشلخ و اسم أمه سمحاء بنت أنوش و كانا مؤمنين و قيل يريد آدم و حواء « و لمن دخل بيتي مؤمنا » أي دخل داري و قيل مسجدي عن الضحاك و قيل سفينتي و قيل يريد بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « و للمؤمنين و المؤمنات » عامة و قيل من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الكلبي « و لا تزد الظالمين إلا تبارا » أي هلاكا و دمارا قال أهل التحقيق دعا نوح (عليه السلام) دعوتين دعوة على الكافرين و دعوة للمؤمنين فاستجاب الله دعوته على الكافرين فأهلك من كان منهم على وجه الأرض و نرجو أن يستجيب أيضا دعوته للمؤمنين فيغفر لهم .

مجمع البيان ج : 10 ص : 550
( 72 ) سورة الجن مكية و آياتها ثمان و عشرون ( 28 )
و هي ثمان و عشرون آية

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال و من قرأ سورة الجن أعطي بعدد كل جني و شيطان صدق بمحمد و كذب به عتق رقبة . حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال من أكثر قراءة قل أوحي لم يصبه في حياة الدنيا شيء من أعين الجن و لا من نفثهم و لا من سحرهم و لا من كيدهم و كان مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيقول يا رب لا أريد بهم بدلا و لا أريد بدرجتي حولا .

تفسيرها

لما تقدم في سورة نوح (عليه السلام) أتباع قومه أكابرهم افتتح سبحانه في هذه السورة اتباع الجن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليعلم الفرق بين من ربحت صفقته و بين من خسرت بيعته فقال :
مجمع البيان ج : 10 ص : 551
سورة الجن
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِىَ إِلىَّ أَنَّهُ استَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِْنِّ فَقَالُوا إِنَّا سمِعْنَا قُرْءَاناً عجَباً(1) يهْدِى إِلى الرُّشدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَ لَن نُّشرِك بِرَبِّنَا أَحَداً(2) وَ أَنَّهُ تَعَلى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتخَذَ صحِبَةً وَ لا وَلَداً(3) وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سفِيهُنَا عَلى اللَّهِ شططاً(4) وَ أَنَّا ظنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الانس وَ الجِْنُّ عَلى اللَّهِ كَذِباً(5) وَ أَنَّهُ كانَ رِجَالٌ مِّنَ الانسِ يَعُوذُونَ بِرِجَال مِّنَ الجِْنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6) وَ أَنهُمْ ظنُّوا كَمَا ظنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَث اللَّهُ أَحَداً(7) وَ أَنَّا لَمَسنَا السمَاءَ فَوَجَدْنَهَا مُلِئَت حَرَساً شدِيداً وَ شهُباً(8) وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنهَا مَقَعِدَ لِلسمْع فَمَن يَستَمِع الاَنَ يجِدْ لَهُ شهَاباً رَّصداً(9) وَ أَنَّا لا نَدْرِى أَ شرُّ أُرِيدَ بِمَن فى الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بهِمْ رَبهُمْ رَشداً(10)

القراءة

قرأ أبو جعفر « قل أوحي إلي أنه استمع » بفتح الألف و لم يختلفوا فيه ثم قرأ في الآية الثالثة و « أنه تعالى » بالفتح و في الرابعة « و أنه كان يقول » بالفتح و في السادسة « و أنه كان رجال » بالفتح و يقرأ ما سواها بالكسر إلا قوله « و أن لو استقاموا » « و أن المساجد لله » « و أنه لما قام » فإنه يقرأ هذه الثلاثة بالفتح و قال الرواة عنه ما كان مردودا على الوحي فهو أنه بالفتح و ما كان من قول الجن فهو بالكسر و هذا قول غير مستقيم على قراءته و يمكن أن يكون قد وقع خلل في روايته و قرأ ابن عامر و أهل الكوفة غير أبي بكر بالفتح من قوله أنه تعالى إلى قوله و أنا منا المسلمون و قرأ الباقون كله بالكسر إلا قوله « و أن لو استقاموا » « و أن المساجد » فإنهما بالفتح لم يختلفوا فيه و قرأ نافع و عاصم برواية أبي بكر و إنه لما قام بالكسر و الباقون بالفتح و قرأ يعقوب أن لن تقول بتشديد الواو و فتحها و فتح القاف و روي ذلك عن الجحدري و الحسن و الباقون « أن لن تقول » بالتخفيف و في الشواذ قراءة جوية بن عابد قل أحي إلي على وزن فعل .

الحجة

قال أبو علي أما قوله « أن لو استقاموا » فإنه يجوز فيه أمران ( أحدهما ) أن تكون أن المخففة من الثقيلة فيكون محمولا على الوحي كأنه أوحي إلي أن لو استقاموا و فصل لو بينها و بين الفعل كفصل السين و لا في قوله « أ فلا يرون أن لا يرجع » و علم أن سيكون ( و الآخر ) أن يكون أن قبل لو بمنزلة اللام في قوله « لئن لم ينته المنافقون » إلى قوله « لنغرينك بهم » و قوله « لئن لم يرحمنا ربنا و يغفر لنا لنكونن من الخاسرين » فتلحق مرة و تسقط أخرى لأن لو بمنزلة فعل الشرط فكما لحقت اللام زائدة قبل أن الداخلة على الشرط كذلك لحقت أن هذه قبل لو و معنى أن لو استقاموا على الطريقة قد قيل فيه قولان ( أحدهما ) لو استقاموا على طريقة الهدى ( و الآخر ) لو استقاموا على الطريقة الكفر
مجمع البيان ج : 10 ص : 552

و يستدل على القول الأول بقوله تعالى « و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم » و قوله « و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض » و يستدل على الآخر بقوله تعالى « و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة » و أما قوله « و إن المساجد لله » فزعم سيبويه أن المفسرين حملوه على أوحي كأنه و أوحي إلي أن المساجد لله و مذهب الخليل أنه على قوله و لأن المساجد لله فلا تدعوا كما أن قوله « و إن هذه أمتكم » على قوله و لأن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون أي لهذا فاعبدون و مثله في قول الخليل لإيلاف قريش كأنه قال لهذا فليعبدوا قال سيبويه و لو قرأ و إن المساجد بالكسر لكان جيدا فأما قوله « و أنه لما قام عبد الله » فإنه على « أوحي إلي » و يكون أن يقطع من قوله « أوحي » و يستأنف به كما جوز سيبويه القطع من أوحي في قوله و إن المساجد لله و على هذا يحمل قراءة من كسر إن من قوله « و أنه لما قام عبد الله » و من قرأ كل ذلك بالفتح فإنه للحمل على أوحي و يجوز أن يكون على غيره كما حمل المفسرون و أن المساجد لله على الوحي و حمله الخليل على ما ذكرناه عنه فأما ما جاء من ذلك بعد قول فحكاية كما حكى قوله « قال الله إني منزلها عليكم » و كذلك ما بعد فاء الجزاء لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء و لذلك حمل سيبويه و من عاد فينتقم الله منه و من كفر فأمتعه فمن يؤمن بربه فلا يخاف على أن الابتداء فيها مضمر و مثل ذلك في هذه السورة و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم و من قرأ لن تقول فيكون قوله « كذبا » منصوبا على المصدر من غير حذف موصوف و ذلك أن لن تقول في معنى تكذب فجرى مجرى تبسمت و ميض البرق فإنه منصوب بفعل مضمر دل عليه تبسمت أي أو مضت فكأنه قال إن لن تكذب الإنس و الجن على الله كذبا قال ابن جني و من رأى أن ينتصب وميض البرق بنفس تبسمت لأنه في معنى أومضت أيضا كذبا بنفس تقول لأنه بمعنى كذب و من قرأ « أن لن تقول » على وزن تقوم فإن كذبا وصف مصدر محذوف أي قولا كذبا فكذبا هاهنا وصف لا مصدر كما في قوله « و جاءوا على قميصه بدم كذب » أي كاذب فإن جعلته هاهنا مصدرا نصبته نصب المفعول به أي لن تقول كذبا كقولك قلت حقا و قلت شعرا و لا يحسن أن تجعله مع تقول وصفا أي تقول تقولا كذبا لأن التقول لا يكون إلا كذبا فلا فائدة فيه و من قرأ أحي فهو من وحيت إليه بمعنى أوحيت و أصله وحي فلما انضمت الواو ضما لازما همزت و نحوه و إذا الرسل أقتت أي وقتت قال العجاج
وحي لها القرار
مجمع البيان ج : 10 ص : 553

فاستقرت .

اللغة

الجد أصله القطع و منه الجد العظمة لانقطاع كل عظمة عنها لعلوها عليه و منه الجد أبو الأب لانقطاعه بعلو أبوته و كل من فوقه لهذا الولد أجداد و الجد الحظ لانقطاعه بعلو شأنه و الجد خلاف الهزل لانقطاعه عن السخف و منه الجديد لأنه حديث عهد بالقطع في غالب الأمر و الرهق لحاق الإثم و أصله اللحوق و منه راهق الغلام إذا لحق حال الرجال قال الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها
هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا أي لم يغش إثما .

الإعراب


حرسا منصوب على التمييز و هو جمع حارس و يجوز أن يكون جمع حرسي فيكون مثل عربي و عرب و شديدا مذكر محمول على اللفظ و يمكن أن يكون على النسبة أي ذات شدة و مقاعد نصب لأنه ظرف مكان .
« أ شر أريد » مبتدأ و خبر و إنما جاز أن تكون النكرة مبتدأ من غير تخصيص لأجل همزة الاستفهام كما يجوز ذلك بعد حرف النفي لأن كليهما يفيد معنى العموم .

المعنى

أمر سبحانه نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يخبر قومه بما لم يكن لهم به علم فقال « قل » يا محمد « أوحي إلي » إنما ذكره على لفظ ما لم يسم فاعله تفخيما و تعظيما و الله سبحانه أوحى إليه و أنزل الملك عليه « أنه استمع نفر من الجن » أي استمع القرآن طائفة من الجن و هم جيل رقاق الأجسام خفيفة على صورة مخصوصة بخلاف صورة الإنسان و الملائكة فإن الملك مخلوق من النور و الإنس من الطين و الجن من النار « فقالوا » أي قالت الجن بعضها لبعض « إنا سمعنا قرآنا عجبا » و العجب ما يدعو إلى التعجب منه لخفاء سببه و خروجه عن العادة في مثله فلما كان القرآن قد خرج بتأليفه المخصوص عن العادة في الكلام و خفي سببه عن الأنام كان عجبا لا محالة و أيضا فإنه مباين لكلام الخلق في
مجمع البيان ج : 10 ص : 554
المعنى و الفصاحة و النظام لا يقدر أحد على الإتيان بمثله و قد تضمن أخبار الأولين و الآخرين و ما كان و ما يكون أجراه الله على يد رجل أمي من قوم أميين فاستعظموه و سموه عجبا « يهدي إلى الرشد » أي يدل على الهدى و يدعو إليه و الرشد ضد الضلال « ف آمنا به » أي صدقنا بأنه من عند الله « و لن نشرك » فيما بعد « بربنا أحدا » فنوجه العبادة إليه بل نخلص العبادة لله تعالى و المعنى أنا قد بدأنا بأنفسنا فقبلنا الرشد و الحق و تركنا الشرك و اعتقدنا التوحيد و في هذا دلالة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان مبعوثا إلى الجن و الإنس و على أن الجن عقلاء مخاطبون و بلغات العرب عارفون و على أنهم يميزون بين المعجز و غير المعجز و أنهم دعوا قومهم إلى الإسلام و أخبروهم بإعجاز القرآن و أنه كلام الله تعالى لأن كلام العباد لا يتعجب منه و روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على الجن و ما رآهم انطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم قالوا حيل بيننا و بين خبر السماء و أرسلت علينا الشهب قالوا ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ و هو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا هذا الذي حال بيننا و بين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم و قالوا « إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ف آمنا به و لن نشرك بربنا أحدا » فأوحى الله تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) « قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن » و رواه البخاري و مسلم أيضا في الصحيح و عن علقمة بن قيس قال قلت لعبد الله بن مسعود من كان منكم مع النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) ليلة الجن فقال ما كان منا معه أحد فقدناه ذات ليلة و نحن بمكة فقلنا اغتيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء فقلنا يا رسول الله أين كنت لقد أشفقنا عليك و قلنا له بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك فقال لنا أنه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن فذهب بنا فأرانا آثارهم و آثار نيرانهم فأما أن يكون صحبه منا أحد فلم يصحبه و عن أبي روق قال هم تسعة نفر من الجن قال أبو حمزة الثمالي و بلغنا أنهم من بني الشيصبان هم أكثر الجن عددا و هم عامة جنود إبليس و قيل كانوا سبعة نفر من جن نصيبين رآهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ف آمنوا به و أرسلهم إلى سائر الجن « و أنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة و لا ولدا » الاختيار كسر إن لأنه من قول الجن لقومهم و هو معطوف على قوله « قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا » أي و قالوا تعالى جد ربنا و قال الفراء من فتح فتقديره ف آمنا به و آمنا بأنه تعالى جد ربنا و كذلك كل ما كان بعده ففتح أن بوقوع الإيمان عليه و المعنى تعالى جلال ربنا و عظمته عن اتخاذ الصحابة و الولد عن الحسن
مجمع البيان ج : 10 ص : 555

و مجاهد و قيل معناه تعالت صفات الله التي هي له خصوصا و هي الصفات العالية التي ليست للمخلوقين عن أبي مسلم و قيل معناه جل ربنا في صفاته فلا تجوز عليه صفات الأجسام و الأعراض عن الجبائي و قيل تعالى قدرة ربنا عن ابن عباس و قيل تعالى ذكره عن مجاهد و قيل فعله و أمره عن الضحاك و قيل علا ملك ربنا عن الأخفش و قيل تعالى آلاؤه و نعمه على الخلق عن القرظي و الجميع يرجع إلى معنى واحد و هو العظمة و الجلال على ما تقدم ذكرهما و منه قول أنس بن مالك كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد في أعيننا أي عظم و قال الربيع بن أنس أنه قال ليس لله تعالى جد و إنما قالته الجن بجهالة فحكاه سبحانه كما قالت و روي ذلك عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و أبي عبد الله (عليه السلام) « و أنه كان يقول سفيهنا » أي جاهلنا « على الله شططا » أرادوا بسفيههم إبليس عن مجاهد و قتادة و الشطط السرف في ظلم النفس و الخروج عن الحق فاعترفوا بأن إبليس كان يخرج عن الحد في إغواء الخلق و دعائهم إلى الضلال و قيل شططا أي قولا بعيدا من الحق و هو الكذب في التوحيد و العدل « و أنا ظننا أن لن تقول الإنس و الجن على الله كذبا » اعترفوا بأنهم ظنوا أن لن يقول أحد من الإنس و الجن كذبا على الله في اتخاذ الشريك معه و الصاحبة و الولد أي حسبنا أن ما يقولونه من ذلك صدق و أنا على حق حتى سمعنا القرآن و تبينا الحق به و في هذا دلالة على أنهم كانوا مقلدة حتى سمعوا الحجة و انكشف لهم الحق فرجعوا عما كانوا عليه و في إشارة إلى بطلان التقليد و وجوب اتباع الدليل « و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن » أي يعتصمون و يستجيرون و كان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه عن الحسن و مجاهد و قتادة و كان هذا منهم على حسب اعتقادهم أن الجن تحفظهم قال مقاتل و أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب و قيل معناه و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من أجل الجن و من معرة الجن عن البلخي قال لأن الرجال لا تكون إلا في الناس و قال الأولون في الجن رجال مثل ما في الناس « فزادوهم رهقا » أي فزاد الجن الإنس إثما على إثمهم الذي كانوا عليه من الكفر و المعاصي عن ابن عباس و قتادة و قيل رهقا أي طغيانا عن مجاهد و قيل فرقا و خوفا عن الربيع و ابن زيد و قيل شرا عن الحسن و قيل زادوهم ذلة و ضعفا قال الزجاج يجوز أن يكون الإنس الذين كانوا يستعيذون بالجن زادوا الجن رهقا و ذلك أن الجن كانوا يزدادون طغيانا في قومهم بهذا التعوذ فيقولون سدنا الإنس و الجن و يجوز أن يكون الجن زاد الإنس رهقا « و أنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا » قيل معناه قال مؤمنوا الجن لكفارهم
مجمع البيان ج : 10 ص : 556
إن كفار الإنس الذين يعوذون برجال من الجن في الجاهلية حسبوا كما حسبتم يا معشر الجن أن لن يبعث الله رسولا بعد موسى أو عيسى و وراء هذا أن الجن مع تمردهم و عتوهم لما سمعوا القرآن آمنوا و اهتدوا به فأنتم معاشر العرب أولى بالتفكر و التدبر لتؤمنوا و تهتدوا مع أن الرسول من جنسكم و لسانه لسانكم و قيل إن هذه الآية مع ما قبلها اعتراض من إخبار الله تعالى يقول إن الجن ظنوا كما ظننتم معاشر الإنس أن الله لا يحشر أحدا يوم القيامة و لا يحاسبه عن الحسن و قيل يعني لن يبعث الله أحدا رسولا عن قتادة ثم حكى عن الجن قولهم « و أنا لمسنا السماء » أي مسسناها و قيل معناه طلبنا الصعود إلى السماء فعبر عن ذلك باللمس مجازا عن الجبائي و قيل التمسنا قرب السماء لاستراق السمع عن أبي مسلم « فوجدناها ملئت حرسا شديدا » أي حفظة من الملائكة شدادا « و شهبا » و التقدير ملئت السماء من الحرس و الشهب و هو جمع شهاب و هو نور يمتد من السماء كالنار « و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع » أي لاستراق السمع أي كان يتهيأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الاستماع فنسمع منها صوت الملائكة و كلامهم « فمن يستمع » منا « الآن » ذلك « يجد له شهابا رصدا » يرمى به و يرصد له و شهبا مفعول به و رصدا صفته قال معمر قلت للزهري أ كان يرمى بالنجوم في الجاهلية قال نعم قلت أ فرأيت قوله « إنا كنا نقعد منها » الآية قال غلظ و شدد أمرها حين بعث النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) قال البلخي إن الشهب كانت لا محالة فيما مضى من الزمان غير أنه لم يكن يمنع بها الجن عن صعود السماء فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) منع بها الجن من الصعود « و أنا لا ندري أ شر أريد بمن في الأرض » أي بحدوث الرجم بالشهب و حراسة السماء جوزوا هجوم انقطاع التكليف أو تغيير الأمر بتصديق نبي من الأنبياء و ذلك قوله « أم أراد بهم ربهم رشدا » أي صلاحا و قيل معناه إن هذا المنع لا يدري العذاب سينزل بأهل الأرض أم لنبي يبعث و يهدي إلى الرشد فإن مثل هذا لا يكون إلا لأحد هذين الأمرين و سمي العذاب شرا لأنه مضرة و سمي بعثة الرسول رشدا لأنه منفعة .

مجمع البيان ج : 10 ص : 557

وَ أَنَّا مِنَّا الصلِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذَلِك كُنَّا طرَائقَ قِدَداً(11) وَ أَنَّا ظنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فى الأَرْضِ وَ لَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً(12) وَ أَنَّا لَمَّا سمِعْنَا الهُْدَى ءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يخَاف بخْساً وَ لا رَهَقاً(13) وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسلِمُونَ وَ مِنَّا الْقَسِطونَ فَمَنْ أَسلَمَ فَأُولَئك تحَرَّوْا رَشداً(14) وَ أَمَّا الْقَسِطونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطباً(15) وَ أَلَّوِ استَقَمُوا عَلى الطرِيقَةِ لأَسقَيْنَهُم مَّاءً غَدَقاً(16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَن يُعْرِض عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسلُكْهُ عَذَاباً صعَداً(17) وَ أَنَّ الْمَسجِدَ للَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً(18) وَ أَنَّهُ لمََّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً(19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبى وَ لا أُشرِك بِهِ أَحَداً(20)

القراءة

قرأ أهل العراق غير أبي عمرو يسلكه بالياء و الباقون بالنون و قرأ ابن عامر برواية هشام لبدا بضم اللام و الباقون بكسرها و قرأ أبو جعفر و عاصم و حمزة « قل إنما أدعوا » و الباقون قال و في الشواذ قراءة الأعمش و يحيى بن وثاب لو استقاموا بضم الواو و قراءة الحسن و الجحدري لبدا بالتشديد و في رواية أخرى عن الجحدري لبدا بضمتين .

الحجة


من قرأ « يسلكه » بالياء فلتقدم ذكر الغيبة في قوله « و من يعرض عن ذكر ربه » و من قرأ بالنون فهو مثل قوله و آتينا موسى الكتاب بعد قوله سبحانه الذي أسرى و من قرأ قال إنما أدعوا فلتقدم ذكر الغيبة أيضا في قوله « و أنه لما قام عبد الله » و من قرأ « قل » فلأن بعده قل إني لا أملك قل إني لن يجيرني من الله أحد و من قرأ لبدا فإن اللبد الكثير من قوله مالا لبدا و كأنه قيل له لبد لركوب بعضه على بعض و لصوق بعضه ببعض لكثرته و اللبد جمع لبدة و هي الجماعة و قد يقال ذلك للجراد الكثير قال بعض الهذليين :
صابوا بستة أبيات و واحدة
حتى كان عليهم جابيا لبدا قال الجبائي هو الجراد لأنه يجبي كل شيء بأكله و قال الزجاج اللبدة و اللبدة بمعنى
مجمع البيان ج : 10 ص : 558

و من قرأ لبدا بالتشديد فإنه وصف على فعل كالجبا و الزمل و يجوز أن يكون جمع لأبد فيكون مثل راكع و ركع و اللبد من الأوصاف التي جاءت على فعل كناقة سرح و رجل طلق و من قرأ لو استقاموا فإنه على التشبيه بواو الجماعة نحو قوله اشتروا الضلالة كما شبهت تلك بهذه فقيل اشتروا الضلالة و قد مضى هذا في سورة البقرة .

اللغة

الصالح عامل الصلاح الذي يصلح به حاله في دينه و أما المصلح فهو فاعل الصلاح الذي يقوم به أمر من الأمور و لهذا يوصف سبحانه بأنه مصلح و لا يوصف بأنه صالح و الطرائق جمع طريقة و هي الجهة المستمرة مرتبة بعد مرتبة و القدد القطع جمع قدة و هي المستمرة بالقد في جهة واحدة و الرهق لحاق السرف في الأمر و هو الظلم و القاسط الجائر و المقسط العادل و نظيره الترب الفقير و المترب الغني و أصله التراب فالأول ذهب ماله حتى لصق بالتراب و الآخر كثر ماله حتى صار بعدد التراب و كذلك القاسط هو العادل عن الحق و المقسط العادل إلى الحق قال :
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة
عمرا و هم قسطوا على النعمان و قال آخر :
قسطنا على الأملاك في عهد تبع
و من قبل ما أردى النفوس عقابها و التحري تعمد إصابة الحق و أصله طلب الشيء و القصد له قال امرؤ القيس :
ديمة هطلاء فيها وطف
طبق الأرض تحري و تدر و ماء غدق كثير و غدق المكان يغدق غدقا كثر فيه الماء و الندى و هو غدق عن الزجاج و قال أمية بن أبي الصلت :
مزاجها سلسبيل ماؤها غدق
عذب المذاقة لا ملح و لا كدر
مجمع البيان ج : 10 ص : 559

و الصعد الغليظ الصعب المتصعب في العظم و منه التنفس الصعداء و الصعود العقبة الكؤود الشاقة .

المعنى

ثم قال سبحانه في تمام الحكاية عن الجن الذين آمنوا عند سماع القرآن « و أنا منا الصالحون » و هم الذين عملوا الصالحات المخلصون « و منا دون ذلك » أي دون الصالحين في الرتبة عن ابن عباس و قتادة و مجاهد « كنا طرائق قددا » أي فرقا شتى على مذاهب مختلفة و أهواء متفرقة من مسلم و كافر و صالح و دون الصالح عن ابن عباس و مجاهد و قيل قددا ألوانا شتى مختلفين عن سعيد بن جبير و الحسن و قيل فرقا متباينة كل فرقة تباين صاحبتها كما يبين المقدود بعضه من بعض قال السدي الجن أمثالكم فيهم قدرية و مرجئة و رافضة و شيعة « و أنا ظننا » أي علمنا و تيقنا « أن لن نعجز الله في الأرض » أي لن نفوته إذا أراد بنا أمرا « و لن نعجزه هربا » أي أنه يدركنا حيث كنا « و أنا لما سمعنا الهدى آمنا به » اعترفوا بأنهم لما سمعوا القرآن الذي فيه الهدى صدقوا به ثم قالوا « فمن يؤمن بربه » أي يصدق بتوحيد ربه و عرفه على صفاته « فلا يخاف » تقديره فإنه لا يخاف « بخسا » أي نقصانا فيما يستحقه من الثواب « و لا رهقا » أي لحاق ظلم و غشيان مكروه و كأنه قال لا يخاف نقصا قليلا و لا كثيرا و ذلك أن أجره و ثوابه موفر على أتم ما يمكن فيه و قيل معناه فلا يخاف نقصا من حسناته و لا زيادة في سيئاته عن ابن عباس و الحسن و قتادة و ابن زيد قالوا لأن البخس النقصان و الرهق العدوان و هذه حكاية عن قوة إيمان الجن و صحة إسلامهم ثم قالوا « و أنا منا المسلمون » الذين استسلموا لما أمرهم الله سبحانه به و انقادوا لذلك « و منا القاسطون » أي الجائرون عن طريق الحق « فمن أسلم » لما أمره الله به « فأولئك تحروا رشدا » أي توجهوا الرشد و التمسوا الثواب و الهدى و تعمدوا إصابة الحق و ليسوا كالمشركين الذين ألفوا ما يدعوهم إليه الهوى و زاغوا عن طريق الهدى « و أما القاسطون » العادلون عن طريق الحق و الدين « فكانوا » في علم الله و حكمه « لجهنم حطبا » يلقون فيها فتحرقهم كما تحرق النار الحطب أو يكون معناه فسيكونون لجهنم حطبا توقد بهم كما توقد النار بالحطب « و أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا » هذا ابتداء حكم من الله سبحانه أي لو استقام الإنس و الجن على طريقة الإيمان عن ابن عباس و السدي و قيل أراده مشركي مكة أي لو آمنوا و استقاموا على الهدى لأسقيناهم ماء كثيرا من السماء و ذلك بعد ما رفع ماء المطر عنهم سبع سنين عن مقاتل و قيل لو آمنوا و استقاموا لوسعنا عليهم في الدنيا و ضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير كله و الرزق يكون في المطر و هذا كقوله « و لو أنهم أقاموا التوراة » إلى قوله « لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم » و قوله « لفتحنا عليهم
مجمع البيان ج : 10 ص : 560
بركات من السماء و الأرض » و قيل معناه لو استقاموا على طريقة الكفر فكانوا كفارا كلهم لأعطيناهم مالا كثيرا و لوسعنا عليهم تغليظا للمحنة في التكليف و لذلك قال « لنفتنهم فيه » أي لنختبرهم بذلك عن الفراء و هو قول الربيع و الكلبي و الثمالي و أبي مسلم و ابن مجلز و دليله فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم الآية و قيل لنفتنهم معناه لنعاملهم معاملة المختبر في شدة التعبد بتكليف الانصراف عما تدعو شهواتهم إليه و في ذلك المحنة الشديدة و هي الفتنة و المثوبة على قدر المشقة في الصبر عما تدعو إليه الشهوات و روي عن عمر بن الخطاب أنه قال في هذه الآية أينما كان الماء كان المال و أينما كان المال كانت الفتنة و قيل معناه لتختبرهم كيف يكون شكرهم للنعم عن سعيد بن المسيب و قتادة و مقاتل و الحسن و الأولى أن تكون الاستقامة على الطريقة محمولة على الاستقامة في الدين و الإيمان لأنها لا تطلق إلا على ذلك و لأنها في موضع التلطف و الاستدعاء إلى الإيمان و الحث على الطاعة و في تفسير أهل البيت (عليهم السلام) عن أبي بصير قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قول الله « إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا » قال هو و الله ما أنتم عليه و لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا و عن بريد العجلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال معناه لأفدناهم علما كثيرا يتعلمونه من الأئمة ثم قال سبحانه على وجه التهديد و الوعيد « و من يعرض عن ذكر ربه » أي و من يعدل عن الفكر فيما يؤديه إلى معرفة الله و توحيده و الإخلاص في عبادته و قيل عن شكر الله و طاعته « يسلكه عذابا صعدا » أي يدخله عذابا شاقا شديدا متصعدا في العظم و إنما قال يسلكه لأنه تقدم ذكر الطريقة و قيل معناه عذابا ذا صعد أي ذا مشقة « و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا » تقديره و لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سوى الله عن الخليل و المعنى لا تذكروا مع الله في المواضع التي بنيت للعبادة و الصلاة أحدا على وجه الإشراك في عبادته كما تفعل النصارى في بيعهم و المشركون في الكعبة قال الحسن من السنة عند دخول المساجد أن يقال لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحدا و قيل المساجد مواضع السجود من الإنسان و هي الجبهة و الكفان و أصابع الرجلين و عينا الركبتين و هي لله تعالى إذ خلقها و أنعم بها فلا ينبغي أن يسجد بها لأحد سوى الله تعالى عن سعيد بن جبير و الزجاج و الفراء و روي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهماالسلام) عن قوله تعالى « و أن المساجد لله » فقال هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها و قيل إن المراد بالمساجد البقاع كلها و ذلك لأن الأرض كلها جعلت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مسجدا عن الحسن و قال سعيد بن جبير قالت الجن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كيف لنا أن نأتي المسجد و نشهد معك الصلاة و نحن ناءون عنك فنزلت الآية و روي عن الحسن أيضا أن المساجد الصلوات و هي لله و المراد أخلصوا لله العبادة
مجمع البيان ج : 10 ص : 561

و أقروا له بالتوحيد و لا تجعلوا فيها لغير الله نصيبا « و أنه لما قام عبد الله » يريد به محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) « يدعوه » بقول لا إله إلا الله و يدعو إليه و يقرأ القرآن « كادوا يكونون عليه لبدا » أي كاد الجن يركب بعضهم بعضا يزدحمون عليه حرصا منهم على استماع القرآن عن ابن عباس و الضحاك و قيل هو من قول الجن لأصحابهم حين رجعوا إليهم و المراد أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يتزاحمون عليه لاستماع القرآن منه يود كل واحد منهم أن يكون أقرب من صاحبه فيتلبد بعضهم على بعض عن سعيد بن جبير و قيل هو من جملة ما أوحى الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بما كان من حرص الجن على استماع القرآن و قيل معناه أنه لما دعا قريشا إلى التوحيد كادوا يتراكبون عليه بالزحمة جماعات متكاثرات ليزيلوه بذلك عن الدعوة و أبى الله إلا أن ينصره و يظهره على ما ناواه عن قتادة و الحسن و على هذا فيكون ابتداء كلام « قل إنما أدعوا ربي و لا أشرك به أحدا » و ذلك أنهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع مثله فارجع عنه فأجابهم بهذا عن مقاتل و أمره سبحانه بأن يجيبهم بهذا فقال « قل إنما أدعو ربي » و هذا يعضد قول الحسن و قتادة لأنه كالذم لهم على ذلك .

مجمع البيان ج : 10 ص : 562
قُلْ إِنى لا أَمْلِك لَكمْ ضرًّا وَ لا رَشداً(21) قُلْ إِنى لَن يجِيرَنى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً(22) إِلا بَلَغاً مِّنَ اللَّهِ وَ رِسلَتِهِ وَ مَن يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً(23) حَتى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسيَعْلَمُونَ مَنْ أَضعَف نَاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً(24) قُلْ إِنْ أَدْرِى أَ قَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يجْعَلُ لَهُ رَبى أَمَداً(25) عَلِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً(26) إِلا مَنِ ارْتَضى مِن رَّسول فَإِنَّهُ يَسلُك مِن بَينِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصداً(27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسلَتِ رَبهِمْ وَ أَحَاط بِمَا لَدَيهِمْ وَ أَحْصى كلَّ شىْء عَدَدَا(28)

القراءة

قرأ يعقوب ليعلم بضم الياء و الباقون « ليعلم » بفتح الياء و المعنيان متقاربان .

اللغة

الملتحد الملتجأ بالميل إلى جهة و الرصد جمع راصد و هو الحافظ .

الإعراب

بلاغا منصوب لأنه بدل من ملتحد أي لن أجد ملجأ إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلني به فهو ملجإي و رسالاته منصوبة بالعطف على محذوف و التقدير إلا بلاغا من الله و آياته و رسالاته قوله « من أضعف ناصرا » جملة من مبتدإ و خبر هي تعليق و ناصرا نصب على التمييز و كذلك قوله « عددا » و قوله « أ قريب ما توعدون » الاستفهام مع ما في حيزه تعليق « إلا من ارتضى » يجوز أن يكون من مبتدأ و قوله « فإنه يسلك » خبره و يجوز أن يكون استثناء منقطعا و عددا انتصابه على ضربين ( أحدهما ) على معنى و أحصى كل شيء في حال العدد فلم يخف عليه سقوط ورقة و لا حبة و لا رطب و لا يابس ( و الآخر ) أن يكون في موضع المصدر لأن معناه و عد كل شيء عددا عن الزجاج .

المعنى

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « قل » يا محمد للمكلفين « إني لا أملك لكم ضرا و لا رشدا » أي لا أقدر على دفع الضرر عنكم و لا إيصال الخير إليكم و إنما القادر على ذلك هو الله تعالى و لكني رسول ليس علي إلا البلاغ و الدعاء إلى الدين و الهداية إلى الرشاد و هذا اعتراف بالعبودية و إضافة الحول و القوة إليه تعالى ثم قال « قل » لهم يا محمد « إني لن يجيرني من الله أحد » أي لا يمنعني أحد مما قدره الله علي « و لن أجد من دونه » أي من دون الله « ملتحدا » أي ملتجأ إليه أطلب به السلامة « إلا بلاغا من الله » أي تبليغا من الله آياته « و رسالاته » فإنه ملجإي و منجاي و ملتحدي و لي فيه الأمن و النجاة عن الحسن و الجبائي و قيل معناه لا أملك لكم ضرا و لا رشدا فما علي إلا البلاغ عن الله فكأنه قال لا أملك شيئا سوى تبليغ وحي الله بتوفيقه و عونه عن قتادة و قيل أن قوله « إلا بلاغا » يحتمل معنيين ( أحدهما ) إلا ما بلغني من الله أي لا يجيرني شيء إلا ما أتاني من الله فلا فرق بين أن يقول بلغني كتابه و أن يقول أتاني كتابه ( و الثاني ) إلا تبليغ ما أنزل إلي فأما القبول و الإيمان فليس إلي و إنما ذلك إليكم عن أبي مسلم و قيل أنه عطف رسالاته على البلاغ فوجب أن يكون غيره فالأولى أن يكون أراد بالبلاغ ما بلغه من توحيد الله و عدله و ما يجوز عليه و ما لا يجوز و أراد بالرسالة ما أرسل لأجله من بيان الشرائع و لما بين سبحانه أنه لا
مجمع البيان ج : 10 ص : 563
ملجأ من عذابه إلا طاعته عقبه بوعيد من قارف معصيته فقال « و من يعص الله و رسوله » أي خالف أمره في التوحيد و ارتكب الكفر و المعاصي « فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا » جزاء على ذلك « حتى إذا رأوا » في الآخرة « ما يوعدون » به من العقاب في الدنيا و قيل هو عذاب الاستئصال « فسيعلمون » عند ذلك « من أضعف ناصرا و أقل عددا » المشركون أم المؤمنون و قيل أ جند الله أم الذي عبده المشركون و إنما قال « من أضعف ناصرا » و لا ناصر لهم في الآخرة لأنه جاء على جواب من توهم أنه إن كانت الآخرة فناصرهم أقوى و عددهم أكثر و في هذا دلالة على أن المراد بقوله « و من يعص الله و رسوله » الكفار و كانوا يفتخرون على النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) بكثرة جموعهم و يصفونه بقلة العدد فبين سبحانه أن الأمر سينعكس عليهم « قل » يا محمد « إن أدري » أي لست أعلم « أ قريب ما توعدون » به من العذاب « أم يجعل له ربي أمدا » أي مهلة و غاية ينتهي إليها قال عطاء أراد أنه لا يعرف يوم القيامة إلا الله وحده « عالم الغيب » أي هو عالم الغيب يعلم متى تكون القيامة « فلا يظهر على غيبه أحدا » أي لا يطلع على الغيب أحدا من عباده ثم استثنى فقال « إلا من ارتضى من رسول » يعني الرسل فإنه يستدل على نبوتهم بأن يخيروا بالغيب لتكون آية معجزة لهم و معناه أن من ارتضاه و اختاره للنبوة و الرسالة فإنه يطلعه على ما شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة و هو قوله « فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا » و الرصد الطريق أي يجعل له إلى علم ما كان قبله من الأنبياء و السلف و علم ما يكون بعده طريقا و قيل معناه أنه يحفظ الذي يطلع عليه الرسول فيجعل من بين يديه و من خلفه رصدا من الملائكة يحفظون الوحي من أن تسترقه الشياطين فتلقيه إلى الكهنة و قيل رصدا من بين يدي الرسول و من خلفه و هم الحفظة من الملائكة يحرسونه عن شر الأعداء و كيدهم فلا يصل إليه شرهم و قيل المراد به جبرائيل (عليه السلام) أي يجعل من بين يديه و من خلفه رصدا كالحجاب تعظيما لما يتحمله من الرسالة كما جرت عادة الملوك بأن يضموا إلى الرسول جماعة من خواصهم تشريفا له و هذا كما روي أن سورة الأنعام نزلت و معها سبعون ألف ملك « ليعلم » الرسول « أن قد أبلغوا » يعني الملائكة قال سعيد بن جبير ما نزل جبرائيل بشيء من الوحي إلا و معه أربعة من الملائكة حفظة فيعلم الرسول أنه قد أبلغ الرسالة على الوجه الذي قد أمر به و قيل ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات الله عن مجاهد و قيل ليعلم محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أن الرسل قبله قد أبلغ جميعهم « رسالات ربهم » كما أبلغ هو إذ كانوا محروسين محفوظين بحفظ الله عن قتادة و قيل ليعلم الله أن قد أبلغوا عن الزجاج و قيل معناه ليظهر المعلوم على ما كان سبحانه عالما و يعلمه واقعا كما كان يعلم أنه سيقع و قيل أراد
مجمع البيان ج : 10 ص : 564
ليبلغوا فجعل بدل ذلك قوله « ليعلم » إبلاغهم توسعا عن الجبائي و هذا كما يقول الإنسان ما علم الله ذلك مني أي ما كان ذلك أصلا لأنه لو كان لعلم الله ذلك فوضع العلم موضع الكون « و أحاط بما لديهم » أي أحاط الله علما بما لدى الأنبياء و الخلائق و هم لا يحيطون إلا بما يطلعهم الله عليه مما هو عند الله « و أحصى كل شيء عددا » أي أحصى ما خلق و عرف عدد ما خلق لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر و الخردل عن ابن عباس و قيل معناه عد جميع المعلومات المعدومة و الموجودة عدا فعلم صغيرها و كبيرها و قليلها و كثيرها و ما يكون و ما لا يكون و ما كان و ما لم يكن و لو كان كيف كان و قيل معناه لا شيء يعلمه عالم أو يذكره ذاكر إلا و هو تعالى عالم به و محص إياه عن الجبائي قال الإحصاء فعل و ليس هو بمنزلة العلم فلا يجوز أن يقال أحصى ما لا يتناهى كما يجوز أن يقال علم ما لا يتناهى فإن حمل على العلم تناول جميع المعلومات و إن حمل على العد تناول الموجودات .

مجمع البيان ج : 10 ص : 565
( 73 ) سورة المزمل مكية و آياتها عشرون ( 20 )
و هي مدنية و قيل بعضها مكي و بعضها مدني .

عدد آيها

ثماني عشرة آية المدني الأخير و تسع عشرة بصري عشرون في الباقين .

اختلافها

ثلاث آيات « المزمل » كوفي شامي و المدني الأول « شيبا » غير المدني الأخير « إليكم رسولا » مكي .

فضلها

أبي بن كعب قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و من قرأ سورة المزمل رفع عنه العسر في الدنيا و الآخرة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال و من قرأ سورة المزمل في العشاء الآخرة أو في آخر الليل كان له الليل و النهار شاهدين مع السورة و أحياه الله حياة طيبة و أماته ميتة طيبة .

تفسيرها

لما ختم الله سورة الجن بذكر الرسل افتتح هذه السورة بذكر نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) خاتم الرسل فقال :
مجمع البيان ج : 10 ص : 566

سورة المزمل
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَأَيهَا الْمُزَّمِّلُ(1) قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلاً(2) نِّصفَهُ أَوِ انقُص مِنْهُ قَلِيلاً(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً(4) إِنَّا سنُلْقِى عَلَيْك قَوْلاً ثَقِيلاً(5) إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشدُّ وَطئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً(6) إِنَّ لَك فى النهَارِ سبْحاً طوِيلاً(7) وَ اذْكُرِ اسمَ رَبِّك وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً(8) رَب المَْشرِقِ وَ المَْغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتخِذْهُ وَكِيلاً(9) وَ اصبرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً(10)

القراءة

قرأ أبو عمرو و ابن عامر وطاء بكسر الواو و المد و الباقون « وطأ » بفتح الواو و سكون الطاء مقصورا و قرأ أهل الكوفة غير حفص و ابن عامر و يعقوب رب المشرق بالجر و الباقون بالرفع و في الشواذ قراءة عكرمة المزمل و المدثر خفيفة الزاي و الدال مشددة الميم و الثاء و قراءة أبي السماك قم الليل بضم الميم .

الحجة

من قرأ أشد وطاء فمعناه مواطاة أي موافقة و ملاءمة و منه ليواطئوا عدة ما حرم الله أي ليوافقوا و المعنى أن صلاة ناشئة الليل و عمل ناشئة الليل يواطىء السمع القلب فيها أكثر مما يواطىء في ساعات النهار و لأن البال أفرغ لانقطاع كثير مما يشغل بالنهار و من قال « وطأ » فالمعنى أنه أشق على الإنسان من القيام بالنهار لأن الليل للدعة و السكون و جاء في الحديث اللهم اشدد وطأتك على مضر « و أقوم قيلا » أي أشد استقامة و صوابا لفراغ البال و انقطاع ما يشغله قال :
له و لها وقع بكل قرارة
و وقع بمستن الفضاء قويم أي مستقيم .
و الناشئة ما يحدث و ينشأ من ساعات الليل و الرفع في « رب المشرق » يحتمل أمرين ( أحدهما ) أنه لما قال « و اذكر اسم ربك » قطعه من الأول فقال هو « رب المشرق » فيكون خبر مبتدإ محذوف ( و الآخر ) أن يكون مبتدأ و خبره الجملة التي هي « لا إله إلا هو » و من جر فعلى إتباعه قوله « اسم ربك » و أما قوله المزمل بتخفيف الزاي فعلى حذف المفعول به يا أيها المزمل نفسه و المدثر نفسه و حذف المفعول كثير قال الحطيئة :
منعمة تصون إليك منها
كصونك من رداء شرعبي
مجمع البيان ج : 10 ص : 567
أي تصون حديثا و تخزنه كقول الشنفري :
كان لها في الأرض نسيا نقصه
على أمها و إن تكلمك تبلت و من قرأ قم الليل و ضم فيمكن أن يكون ضمه للاتباع .

اللغة

المزمل المتزمل في ثيابه أدغم التاء في الزاي لأن الزاي قريبة المخرج من التاء و هي أندى في المسموع من التاء و كل شيء لفف فقد زمل قال امرؤ القيس :
كان ثبيرا في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل و النصف أحد قسمي الشيء المساوي للآخر في المقدار كما أن الثلث جزء من ثلاثة و الربع جزء من أربعة و هذه من صفات الأجسام فإذا رفعت التأليفات عنها بقيت أجزاء لا توصف بأن لها نصفا أو ثلثا أو ربعا و العرض لا يوصف بالنصف و الجزء .
و القديم لا يوصف أيضا بذلك لأن هذه عبارات عن مؤلفات على وجوه فإن قيل فإذا يجب أن لا يكون وصف القديم تعالى بأنه واحد مدحا فالجواب أن معنى قولنا أنه واحد اختصاصه بصفات لا يستحقها غيره و هي كونه قادرا عالما لذاته قديما و نحو ذلك و إذا قيل أنه لا يتجزأ فليس بمدح إلا أن يقال أنه حي لا يتجزأ بخلاف غيره من الأحياء و الترتيل ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها بتثبت فيها و الحدر هو الإسراع فيها و كلاهما حسن إلا أن الترتيل هنا هو المرغب فيه و الإلقاء مثل التلقية تقول ألقت على فلان مسألة و الأقوم الأخلص استقامة و السبح التقلب و منه السابح في الماء لتقلبة فيه و قرأ يحيى بن يعمر و الضحاك سبخا طويلا بالخاء و معناه التوسعة يقال سبخت القطن إذا وسعته للندف و منه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعائشة و قد سمعها تدعو على سارق لا تسبخي عنه بدعائك عليه أي لا تخففي و يقال لقطع القطن إذا ندف سبائخ قال الأخطل يصف القناص و الكلاب :
فأرسلوهن يذرين التراب كما
يذري سبائخ قطن ندف أوتار
مجمع البيان ج : 10 ص : 568

و قال ثعلب السبح التردد و الاضطراب و السبخ السكون و منه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الحمى من فيح جهنم فسبخوها بالماء أي أسكنوها و التبتل الانقطاع إلى الله عز و جل و إخلاص العبادة له قال امرؤ القيس :
تضيء الظلام بالعشي كأنها
منارة ممسي راهب متبتل و أصله من تبلت الشيء قطعته و صدقة بتة بتلة أي بائنة مقطوعة من صاحبها لا سبيل له عليها و منه البتول (عليه السلام) لانقطاعها إلى عبادة الله عز و جل .

الإعراب

الليل نصب على الظرف إلا قليلا نصب على الاستثناء تقديره إلا شيئا قليلا منه لا تقوم فيه ثم بين القدر فقال « نصفه » قال الزجاج أن نصفه بدل من الليل كما تقول ضربت زيدا رأسه فإنما ذكرت زيدا لتوكيد الكلام و هو أوكد من قولك ضربت رأس زيد فالمعنى قم نصف الليل إلا قليلا أو أنقص من النصف أو زد على النصف و أنقص منه قليلا بمعنى إلا قليلا و لكنه ذكر مع الزيادة فالمعنى قم نصف الليل أو أنقص من نصف الليل أو زد على نصف الليل .

المعنى

« يا أيها المزمل » معناه يا أيها المتزمل بثيابه المتلفف بها عن قتادة و قيل يا أيها المتزمل بعباءة النبوة أي المتحمل لأثقالها عن عكرمة و قيل معناه يا أيها النائم و كان قد تزمل للنوم عن السدي و قيل كان يتزمل بالثياب في أول ما جاء به جبرائيل خوفا حتى أنس به و إنما خوطب بهذا في بدء الوحي و لم يكن قد بلغ شيئا ثم خوطب (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد ذلك بالنبي و الرسول « قم الليل » للصلاة « إلا قليلا » و المعنى بالليل صل إلا قليلا من الليل فإن القيام بالليل عبارة عن الصلاة بالليل « نصفه » هو بدل من الليل فيكون بيانا للمستثنى منه أي قم نصف الليل و معناه صل من الليل النصف إلا قليلا و هو قوله « أو أنقص منه قليلا » أي من النصف « أو زد عليه » أي على النصف و قال المفسرون أو أنقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلثين و قيل أن نصفه بدل من القليل فيكون بيانا للمستثنى و المعنى فيهما سواء و يؤيد هذا القول ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال القليل النصف أو أنقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا و قيل معناه قم نصف الليل إلا قليلا من الليالي و هي ليالي العذر كالمرض و غلبة النوم و علة العين و نحوها أو أنقص من النصف قليلا أو زد عليه
مجمع البيان ج : 10 ص : 569
ذكره الإمام علي بن أبي الطالب (عليه السلام) خير الله سبحانه نبيه (صلى الله عليهوآلهوسلّم) في هذه الساعات القيام بالليل و جعله موكولا إلى رأيه و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و طائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير و شق ذلك عليهم فكان الرجل منهم لا يدري كم صلى و كم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب حتى خفف الله عنهم ب آخر هذه السورة و عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال قلت لعائشة أنبئيني عن قيام رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقال أ لست تقرأ « يا أيها المزمل » قلت بلى قالت فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله و أصحابه حولا و أمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان فريضة و قيل كان بين أول السورة و آخرها الذي نزل فيه التخفيف عشر سنين عن سعيد بن جبير و قيل كان هذا بمكة قبل فرض الصلوات الخمس ثم نسخ بالخمس عن ابن كيسان و مقاتل و قيل لما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان فكان بين أولها و آخرها سنة عن ابن عباس و قيل أن الآية الأخيرة نسخت الأولى عن الحسن و عكرمة و ليس في ظاهر الآيات ما يقتضي النسخ فالأولى أن يكون الكلام على ظاهره فيكون القيام بالليل سنة مؤكدة مرغبا فيه و ليس بفرض « و رتل القرآن ترتيلا » أي بينه بيانا و اقرأه على هينتك ثلاث آيات و أربعا و خمسا عن ابن عباس قال الزجاج و البيان لا يتم بأن تعجل في القرآن إنما يتم بأن تبين جميع الحروف و توفي حقها من الإشباع قال أبو حمزة قلت لابن عباس إني رجل في قراءتي و في كلامي عجلة فقال ابن عباس لأن أقرأ البقرة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله و قيل معناه ترسل فيه ترسلا عن مجاهد و قيل معناه تثبت فيه تثبتا عن قتادة و روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في معناه أنه قال بينه بيانا و لا تهذه هذ الشعر و لا تنثره نثر الرمل و لكن أقرع به القلوب القاسية و لا يكونن هم أحدكم آخر السورة و عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إذا مررت ب آية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنة و إذا مررت ب آية فيها ذكر النار فتعوذ بالله من النار و قيل الترتيل هو أن تقرأ على نظمه و تواليه و لا تغير لفظا و لا تقدم مؤخرا و هو مأخوذ من ترتل الأسنان إذا استوت و حسن انتظامها و ثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها و قيل رتل معناه ضعف و الرتل اللين عن قطرب قال و المراد بهذا تحزين القرآن أي اقرأه بصوت حزين و يعضده ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذا قال هو أن تتمكث فيه و تحسن به صوتك و روي عن أم سلمة أنها قالت كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقطع قراءته آية آية و عن أنس قال كان يمد صوته مدا و عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقال لصاحب القرآن اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك
 

Back Index Next