جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج10 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 10 ص : 570
عند آخر آية تقرؤها « إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا » أي سنوحي عليك قولا يثقل عليك و على أمتك أما ثقله عليه فلما فيه من تبليغ الرسالة و ما يلحقه من الأذى فيه و ما يلزمه من قيام الليل و مجاهدة النفس و ترك الراحة و الدعة و أما ثقله على أمته فلما فيه من الأمر و النهي و الحدود و هذا معنى قول قتادة و مقاتل و الحسن قال ابن زيد هو و الله ثقيل مبارك و كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة و قيل ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق و نفس مؤيدة بالتوحيد و قيل ثقيلا ليس بالسفساف الخفيف لأنه كلام ربنا جلت عظمته عن الفراء و قيل معناه قولا عظيم الشأن كما يقال هذا كلام رصين و هذا الكلام له وزن إذا كان واقعا موقعه و قيل معناه قولا ثقيلا نزوله فإنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يتغير حاله عند نزوله و يعرق و إذا كان راكبا يبرك راحلته و لا يستطيع المشي و سأل الحرث بن هشام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشد علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل الملك رجلا فأعي ما يقول قالت عائشة أنه كان ليوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هو على راحلته فيضرب بجرانها قالت و لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إن جبينه ليرفض عرقا و قيل ثقيلا على الكفار لما فيه من الكشف عن جهلهم و ضلالهم و سفه أحلامهم و قبح أفعالهم « إن ناشئة الليل » معناه إن ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة و تقديره أن ساعات الليل الناشئة و قال ابن عباس هو الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار و قال مجاهد هي ساعات التهجد من الليل و قيل هي بالحبشية قيام الليل عن عبد الله بن مسعود و سعيد بن جبير و قيل هي القيام بعد النوم عن عائشة و قيل هي ما كان بعد العشاء الآخرة عن الحسن و قتادة و المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل « هي أشد وطأ » أي أكثر ثقلا و أبلغ مشقة لأن الليل وقت الراحة و العمل يشق فيه و من قال وطاء فالمعنى أشد مواطاة للسمع و البصر يتوافق فيها قلب المصلي و لسانه و سمعه على التفهم و التفكر إذ القلب غير مشتغل بشيء من أمور الدنيا « و أقوم قيلا » أي أصوب للقراءة و أثبت للقول لفراغ البال و انقطاع ما يشغل القلب عن أنس و مجاهد و ابن زيد و قال أبو عبد الله (عليه السلام) هو قيام الرجل عن فراشه لا يريد به إلا الله تعالى « إن لك في النهار سبحا طويلا » معناه أن لك يا محمد في النهار منصرفا و منقلبا إلى ما تقضي فيه حوائجك عن قتادة و المراد أن مذاهبك في النهار و مشاغلك كثيرة فإنك تحتاج فيه إلى تبليغ الرسالة و دعوة الخلق و تعليم الفرائض و السنن و إصلاح المعيشة لنفسك و عيالك و في الليل يفرغ القلب
مجمع البيان ج : 10 ص : 571
للتذكر و القراءة فاجعل ناشئة الليل لعبادتك لتأخذ بحظك من خير الدنيا و الآخرة و في هذا دلالة على أنه لا عذر لأحد في ترك صلاة الليل لأجل التعليم و التعلم لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يحتاج إلى التعليم أكثر مما يحتاج الواحد منا إليه ثم لم يرض سبحانه أن يترك حظه من قيام الليل « و اذكر اسم ربك » يعني أسماء الله تعالى التي تعبد بالدعاء بها و قيل اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك و تقطعك من كل ما سواه و قيل و اقصد بعملك وجه ربك « و تبتل إليه تبتيلا » أي أخلص له إخلاصا عن ابن عباس و غيره يعني في الدعاء و العبادة و قيل انقطع إليه انقطاعا عن عطاء و هو الأصل و قيل توكل عليه توكلا عن شقيق و قيل تفرغ لعبادته عن ابن زيد و قد جاء في الحديث النهي عن التبتل و المراد به الانقطاع عن الناس و الجماعات و كان يجب أن يقول تبتلا لأن المراد بتلك الله من المخلوقين و اصطفاك لنفسه تبتيلا فتبتل أنت أيضا إليه و قيل إنما قال تبتيلا ليطابق أواخر آيات السورة و روى محمد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أن التبتل هنا رفع اليدين في الصلاة و في رواية أبي بصير قال هو رفع يدك إلى الله و تضرعك إليه « رب المشرق و المغرب » أي رب العالم بما فيه لأنه بين المشرق و المغرب و قيل رب مشرق الشمس و مغربها و المراد أول النهار و آخره فأضاف النصف الأول من النهار إلى المشرق و النصف الآخر منه إلى المغرب و قيل مالك المشرق و المغرب أي المتصرف فيما بينهما و المدبر لما بينهما « لا إله إلا هو » أي لا أحد تحق له العبادة سواه « فاتخذه وكيلا » أي حفيظا للقيام بأمرك و قيل معناه فاتخذه كافيا لما وعدك به و اعتمد عليه و فوض أمرك إليه تجده خير حفيظ و كاف « و اصبر على ما يقولون » لك يعني الكفار من التكذيب و الأذى و النسبة إلى السحر و الكهانة « و اهجرهم هجرا جميلا » و الهجر الجميل إظهار الموجدة عليهم من غير ترك الدعاء إلى الحق على وجه المناصحة قال الزجاج هذا يدل على أنه نزل قبل الأمر بالقتال و قيل بل هو أمر بالتلطف في استدعائهم فيجب مع القتال و لا نسخ و في هذا دلالة على وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين و المعاشرة بأحسن الأخلاق و استعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة .

مجمع البيان ج : 10 ص : 572
وَ ذَرْنى وَ المُْكَذِّبِينَ أُولى النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً(11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكالاً وَ جَحِيماً(12) وَ طعَاماً ذَا غُصة وَ عَذَاباً أَلِيماً(13) يَوْمَ تَرْجُف الأَرْض وَ الجِْبَالُ وَ كانَتِ الجِْبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً(14) إِنَّا أَرْسلْنَا إِلَيْكمْ رَسولاً شهِداً عَلَيْكمْ كَمَا أَرْسلْنَا إِلى فِرْعَوْنَ رَسولاً(15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسولَ فَأَخَذْنَهُ أَخْذاً وَبِيلاً(16) فَكَيْف تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتمْ يَوْماً يجْعَلُ الْوِلْدَنَ شِيباً(17) السمَاءُ مُنفَطِرُ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً(18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكرَةٌ فَمَن شاءَ اتخَذَ إِلى رَبِّهِ سبِيلاً(19)

اللغة

يذر و يدع بمعنى يترك و لا يقال وذر و لا ودع و استغني بترك عن ذلك لأن الابتداء بالواو عندهم مكروه و لذلك أبدلوا منها الهمزة في أقتت و التاء في تخمة و تراث و النعمة بفتح النون لين اللمس و ضدها الخشونة و النعمة الثروة و المنة أيضا و النعمة بضم النون المسرة يقال نعم و نعمة عين و نعمى عين و الأنكال القيود واحدها نكل و الغصة تردد اللقمة في الحلق و لا يسيغها آكلها يقال غص بريقه يغص غصصا و في قلبه غصة من كذا و هي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام و الشراب قال عدي بن زيد :
لو بغير الماء حلقي شرق
كنت كالغصان بالماء اعتصاري و الكثيب الرمل المجتمع الكثير و هلت الرمل أهيله هيلا فهو مهيل إذا حرك أسفله فسال أعلاه و منه الحديث كيلوا و لا تهيلوا و كل ثقيل وبيل و منه كلأ مستوبل أي مستوخم لا يستمرء لثقله و منه الوبل و الوابل و هو المطر العظيم القطر و منه الوبال و هو ما يغلظ على النفس و الوبيل أيضا الغليظ من العصي قال طرفة :
فمرت كهاة ذات خيف جلالة
عقيلة شيخ كالوبيل يلندد .

مجمع البيان ج : 10 ص : 573

المعنى

ثم قال سبحانه مهددا للكفار « و ذرني » يا محمد « و المكذبين » الذين يكذبونك فيما تدعوهم إليه من التوحيد و إخلاص العبادة و في البعث و الجزاء و هذا كما يقول القائل دعني و إياه إذا أراد أن يهدده و هو نصب على أنه مفعول معه « أولي النعمة » يعني المتنعمين ذوي الثروة في الدنيا أي كل جزاءهم إلي و لا تشغل قلبك بمجازاتهم « و مهلهم قليلا » و هذا أيضا وعيد لهم و لم يكن إلا يسيرا حتى كانت وقعة بدر و المعنى و أخرهم في المدة قليلا قال مقاتل نزلت في المطعمين ببدر و هم عشرة ذكرناهم في الأنفال و قيل نزلت في صناديد قريش و المستهزءين « إن لدينا أنكالا » أي عندنا قيودا في الآخرة عظاما لا تفك أبدا عن مجاهد و قتادة و قيل أغلالا « و جحيما » و هو اسم من أسماء جهنم و قيل يعني و نارا عظيمة و لا يسمى القليل به « و طعاما ذا غصة » أي ذا شوك يأخذ الحلق فلا يدخل و لا يخرج عن ابن عباس و قيل طعاما يأخذ بالحلقوم لخشونته و شدة تكرهه و قيل يعني الزقوم و الضريع و روي عن حمران بن أعين عن عبد الله بن عمر أن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) سمع قارئا يقرأ هذه فصعق « و عذابا أليما » أي عقابا موجعا مؤلما ثم بين سبحانه متى يكون ذلك فقال « يوم ترجف الأرض » أي تتحرك باضطراب شديد « و الجبال » أي و ترجف الجبال معها أيضا و تضطرب بمن عليها « و كانت الجبال كثيبا مهيلا » أي رملا سائلا متناثرا عن ابن عباس و قيل المهيل الذي إذا وطأته القدم زل من تحتها و إذا أخذت أسفله انهار أعلاه عن الضحاك و المعنى أن الجبال تنقلع من أصولها فتصير بعد صلابتها كالرمل السائل ثم أكد سبحانه الحجة على أهل مكة فقال « إنا أرسلنا إليكم رسولا » يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) « شاهدا عليكم » أي يشهد عليكم في الآخرة بما يكون منكم لا في الدنيا « كما أرسلنا إلى فرعون » بمصر « رسولا » يعني موسى ابن عمران « فعصى فرعون الرسول » و لم يقبل منه ما دعاه إليه « فأخذناه » بالعذاب « أخذا وبيلا » أي شديدا ثقيلا مع كثرة جنوده و سعة ملكه يعني الغرق حذرهم سبحانه أن ينالهم مثل ما نال فرعون و قومه « فكيف تتقون إن كفرتم » و لم تؤمنوا برسولكم « يوما » أي عقاب يوم « يجعل الولدان شيبا » و هو جمع أشيب و هذا وصف لذلك اليوم و شدته كما يقال هذا أمر يشيب منه الوليد و تشيب منه النواصي إذا كان عظيما شديدا و المعنى بأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم إن كفرتم و كيف تدفعون عنكم ذلك قال النابغة :
مجمع البيان ج : 10 ص : 574


سقط النصيف و لم ترد إسقاطه
فتناولته و اتقتنا باليد أي دفعتنا ثم زاد سبحانه في وصف شدة ذلك اليوم فقال « السماء منفطر به » الهاء تعود إلى اليوم و هذا كما يقال فلان بالكوفة أي هو فيها و المعنى أن السماء تنفطر و تنشق في ذلك اليوم من هوله و قيل سبب ذلك اليوم و هوله و شدته و قيل بأمر الله و قدرته و لم يقل منفطرة لأن لفظة السماء مذكر فيجوز أن يذكر و يؤنث و من ذكر أراد السقف و قيل معناه ذات انفطار كما يقال امرأة مطفل أي ذات أطفال و مرضع ذات رضاع فيكون على طريق النسبة « كان وعده مفعولا » أي كائنا لا خلف فيه و لا تبديل « إن هذه » الصفة التي ذكرناها و بيناها « تذكرة » أي عظة لمن أنصف من نفسه و التذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه « فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا » أي فمن شاء من المكلفين اتخذ إلى ثواب ربه سبيلا لأنه قادر على الطاعة التي لو فعلها وصل إلى الثواب و قد رغبه الله تعالى فيه و دعاه إلى فعل ما يوصله إليه و بعث رسولا يدعوه إليه فمن لم يصل إليه فبسوء اختياره انصرف عنه .

مجمع البيان ج : 10 ص : 575

* إِنَّ رَبَّك يَعْلَمُ أَنَّك تَقُومُ أَدْنى مِن ثُلُثىِ الَّيْلِ وَ نِصفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَك وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَ النهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تحْصوهُ فَتَاب عَلَيْكمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سيَكُونُ مِنكم مَّرْضى وَ ءَاخَرُونَ يَضرِبُونَ فى الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضلِ اللَّهِ وَ ءَاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فى سبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصلَوةَ وَ ءَاتُوا الزَّكَوةَ وَ أَقْرِضوا اللَّهَ قَرْضاً حَسناً وَ مَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكم مِّنْ خَير تجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيراً وَ أَعْظمَ أَجْراً وَ استَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمُ(20)

القراءة

قرأ ابن كثير و أهل الكوفة نصفه و ثلثه بالنصب و الباقون بالجر .

الحجة

قال أبو علي من نصب حمله على أدنى و أدنى في موضع نصب قال أبو عبيدة أدنى أقرب فكأنه قال إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل و تقوم نصفه و ثلثه و من جر فإنه يحمله على الجار قال أبو الحسن و ليس المعنى عليه فيما بلغنا لأن المعنى يكون على أدنى من نصفه و أدنى من ثلثه قال و كان الذي افترض الثلث و أكثر من الثلث قال فأما الذين قرءوا بالجر فعلى أن يكون المعنى أنكم إن لم تؤدوا ما فرض الله عليكم فقوموا أدنى من ثلثي الليل و من نصفه و من ثلثه .

المعنى

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « إن ربك » يا محمد « يعلم أنك تقوم أدنى » أي أقرب و أقل « من ثلثي الليل و نصفه و ثلثه » أي أقل من نصفه و ثلثه و الهاء تعود إلى الليل أي نصف الليل و ثلث الليل و المعنى أنك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين و في بعضها قريبا من نصف الليل و قريبا من ثلثه و قيل إن الهاء تعود إلى الثلثين أي و أقرب من نصف الثلثين و من ثلث الثلثين و إذا نصبت فالمعنى تقوم نصفه و ثلثه « و » تقوم « طائفة من الذين معك » على الإيمان و روى الحاكم أبو القاسم إبراهيم الحسكاني بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله « و طائفة من الذين معك » قال علي و أبو ذر « و الله يقدر الليل و النهار » أي يقدر أوقاتهما لتعلموا فيها على ما يأمركم به و قيل معناه لا يفوته علم ما تفعلون عن عطاء و المراد أنه يعلم مقادير الليل و النهار فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل « علم أن لن تحصوه » قال مقاتل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام فقال سبحانه « علم أن لن تحصوه » أي لن تطيقوا معرفة ذلك و قال الحسن قاموا حتى انتفخت أقدامهم فقال سبحانه إنكم لا تطيقون إحصاءه على الحقيقة و قيل معناه لن تطيقوا المداومة على قيام الليل و يقع منكم التقصير فيه « فتاب عليكم » بأن جعله تطوعا و لم يجعله فرضا عن الجبائي و قيل معناه فلم يلزمكم إثما كما لا يلزم التائب أي رفع التبعة فيه كرفع التبعة عن التائب و قيل فتاب عليكم أي فخفف عليكم « فاقرءوا ما تيسر من القرآن » الآن يعني في صلاة الليل عن أكثر المفسرين و أجمعوا أيضا على أن المراد بالقيام المتقدم في قوله قم الليل هو القيام إلى الصلاة إلا أبا مسلم فإنه قال أراد القيام لقراءة القرآن لا غير و قيل
مجمع البيان ج : 10 ص : 576

معناه فصلوا ما تيسر من الصلاة و عبر عن الصلاة بالقرآن لأنها تتضمنه و من قال إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة فهو محمول على الاستحباب عند الأكثرين دون الوجوب لأنه لو وجبت القراءة لوجب الحفظ و قال بعضهم هو محمول على الوجوب لأن القارىء يقف على إعجاز القرآن و ما فيه من دلائل التوحيد و إرسال الرسل و لا يلزم حفظ القرآن لأنه من القرب المستحبة المرغب فيها ثم اختلفوا في القدر الذي تضمنه هذا الأمر من القراءة فقال سعيد بن جبير خمسون آية و قال ابن عباس مائة آية و عن الحسن قال من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن و قال كعب من قرأ مائة آية في ليلة كتب من القانتين و قال السدي مائتا آية و قال جويبر ثلث القرآن لأن الله يسره على عباده و الظاهر أن معنى ما تيسر مقدار ما أردتم و أحببتم « علم أن سيكون منكم مرضى » و ذلك يقتضي التخفيف عنكم « و آخرون » أي و منكم قوم آخرون « يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله » أي يسافرون للتجارة و طلب الأرباح عن ابن عباس « و آخرون » أي و منكم قوم آخرون « يقاتلون في سبيل الله » فكل ذلك يقتضي التخفيف عنكم « فاقرءوا ما تيسر منه » و روي عن الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال ما تيسر منه لكم فيه خشوع القلب و صفاء السر « و أقيموا الصلاة » بحدودها التي أوجبها الله عليكم « و آتوا الزكاة » المفروضة « و أقرضوا الله قرضا حسنا » أي و أنفقوا في سبيل الله و الجهات التي أمركم الله و ندبكم إلى النفقة فيها و قد مر معنى القرض فيما تقدم « و ما تقدموا لأنفسكم من خير » أي طاعة « تجدوه » أي تجدوا ثوابه « عند الله هو خيرا » لكم من الشح و التقصير « و أعظم أجرا » أي أفضل ثوابا و هو هنا يسمى فصلا عند البصريين و عمادا عند الكوفيين و يجوز أن يكون صفة للهاء في تجدوه « و استغفروا الله » أي اطلبوا مغفرته « إن الله غفور رحيم » أي ستار لذنوبكم صفوح عنكم رحيم بكم منعم عليكم قال عبد الله ابن مسعود أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ثم قرأ « و آخرون يضربون في الأرض » الآية و قال ابن عمر ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شقي رحل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله و قيل إن هذه الآية مدنية و يدل عليها أن الصلاة و الزكاة لم توجبا بمكة و قيل أوجبتا بمكة و الآية مكية .

مجمع البيان ج : 10 ص : 577
( 74 ) سورة المدثر مكية و آياتها ست و خمسون ( 56 )

عدد آيها

خمسون و ست آيات عراقي و البزي و المدني الأول و خمس شامي و المدني الأخير و المكي غير البزي .

اختلافها

« يتساءلون » غير المدني الأخير « عن المجرمين » غير الشامي و المكي إلا البزي .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال و من قرأ المدثر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و كذب به بمكة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقا على الله أن يجعله مع محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) في درجته و لا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا .

تفسيرها

لما أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) في آخر المزمل بالصلاة و غيرها أمره في مفتتح هذه السورة بالإنذار فكأنه أمره أن يبدأ بنفسه ثم بالناس فقال :
مجمع البيان ج : 10 ص : 578
سورة المدثر
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَأَيهَا الْمُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنذِرْ(2) وَ رَبَّك فَكَبرْ(3) وَ ثِيَابَك فَطهِّرْ(4) وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5) وَ لا تَمْنُن تَستَكْثرُ(6) وَ لِرَبِّك فَاصبرْ(7) فَإِذَا نُقِرَ فى النَّاقُورِ(8) فَذَلِك يَوْمَئذ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9) عَلى الْكَفِرِينَ غَيرُ يَسِير(10)

القراءة

قرأ أبو جعفر و حفص و يعقوب و سهل و الرجز بالضم و الباقون بكسر الراء و قرأ الحسن تستكثر بالجزم و قرأ الأعمش تستكثر بالنصب و القراءة بالرفع .

الحجة


« الرجز » بالضم قراءة الحسن و هو اسم صنم فيما زعموا و قال قتادة هما صنمان إساف و نائلة و من كسر فهو العذاب و المعنى ذات العذاب فاهجر لأن عبادتها تؤدي إلى العذاب و يجوز أن يكون الرجز و الرجز لغتين كالذكر و الذكر و قال ابن جني الجزم في تستكثر يحتمل أمرين ( أحدهما ) أن يكون بدلا من تمنن فكأنه قال لا تستكثر فإن قيل فعبرة البدل أن يصلح إقامة الثاني مقام الأول و أنت لو قلت لا تستكثر لا يدلك النهي على المن للاستكثار و إنما المعنى لا تمنن من مستكثر قيل قد يكون البدل على حذف الأول و قد يكون على نية ثباته و ذلك كقولك زيد مررت به أبي محمد فتبدل أبا محمد من الهاء و لو قلت زيد مررت مررت بأبي محمد كان قبيحا فقوله « و لا تمنن تستكثر » من هذا القبيل و أنكر أبو حاتم الجزم على البدل ( و الآخر ) أن يكون أراد تستكثر فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات كما حكى أبو زيد من قولهم بلى و رسلنا بإسكان اللام و أما تستكثر بالنصب فبأن مضمرة و ذلك أن يكون بدلا من قوله « و لا تمنن » في المعنى أ لا ترى أن معناه لا يكن منك من فاستكثار فكأنه قال لا يكن منك من أن تستكثر فتضمر أن لتكون مع الفعل المنصوب بها بدلا عن المن في المعنى الذي دل عليه الفعل و مما وقع فيه الفعل موقع المصدر قوله :
فقالوا ما تشاء فقلت ألهو
إلى الأصباح آثر ذي أثير أراد فقلت للهو فوضع ألهو موضع اللهو .

اللغة

المدثر المتفعل من الدثار إلا أن الثاء أدغمت في الدال و هو المتغطي بالثياب عند النوم و التكبير وصف الأكبر على اعتقاد معناه كتكبير المكبر في الصلاة بقوله الله أكبر و التكبير نقيض التصغير و الكبير الشأن هو المختص باتساع للمقدور و المعلوم و الطهارة النظافة بانتفاء النجاسة لأن النظافة قد تكون بانتفاء الوسخ من غير نجاسة و قد تكون بانتفاء النجاسة فالطهارة في الآية هو القسم الأخير و المن ذكر النعمة بما يكدرها و يقطع حق الشكر بها يقال من بعطائه يمن منا إذا فعل ذلك فأما المن على الأسير فهو إطلاقه بقطع أسباب
مجمع البيان ج : 10 ص : 579
الاعتقال عنه و الاستكثار طلب الكثرة و هو هنا طلب ذكر الاستكثار للعطية و الناقور فاعول من النقر كهاضوم من الهضم و حاطوم من الحطم و هو الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت به و اليسير و القليل الكلفة و منه اليسار و هو كثرة المال لقلة الكلفة به في الإنفاق و منه تيسير الأمور لسهولته .

الإعراب


« و ربك فكبر » تقديره قم فكبر ربك و كذلك ما بعده و فائدة تقديم المفعول عنها التخصيص لأنك إذا قلت و كبر ربك لم يدل ذلك على أنه لا يجوز تكبير غير الرب إذا قلت ربك فكبر دل على أنه لا يجوز تكبير غيره و تستكثر في موضع نصب على الحال فذلك مبتدأ و يوم عسير خبره و يومئذ يجوز أن يكون رفعا و يجوز أن يكون نصبا فإذا كان رفعا فإنما يبنى على الفتح لإضافته إلى إذ لأن إذ غير متمكنة و إذا كان نصبا فعلى الظرف و تقديره فذلك يوم عسير في يوم ينفخ في الصور قاله الزجاج و قال أبو علي في بعض كتبه لا يجوز أن ينتصب يومئذ بقوله « عسير » لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف و إنما انتصب يومئذ على أنه صلة قوله « فذلك » لأن ذلك كناية عن المصدر فكأنه قال فذلك النقر يومئذ و على هذا فيكون التقدير فذلك النقر في ذلك الوقت نقر يوم عسير و قوله « على الكافرين غير يسير » على يتعلق بعسير و لا يتعلق بيسير لأن ما يعمل فيه المضاف إليه لا يتقدم على المضاف على أنهم قالوا إن غيرا في حكم حرف النفي فيجوز أن يعمل ما بعده فيما قبله نحو أن تقول أنت زيدا غير ضارب و لا يجوز أن تقول أنت زيدا مثل ضارب فتعمل ضاربا في زيد و إنما أجازوا أنت زيدا غير ضارب حملا على أنت زيدا لا ضارب .

المعنى


خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « يا أيها المدثر » أي المتدثر بثيابه قال الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل من قبل قال « يا أيها المدثر » فقلت أو اقرأ باسم ربك فقال سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل قال « يا أيها المدثر » فقلت أو اقرأ فقال جابر أحدثكم ما حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الواد فنوديت فنظرت أمامي و خلفي و عن يميني و شمالي فلم أر أحدا ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء يعني جبرائيل فقلت دثروني دثروني فصبوا علي ماء فأنزل الله عز و جل « يا أيها المدثر » و في رواية فحييت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زملوني فنزل « يا أيها المدثر » « قم فأنذر » أي ليس بك ما تخافه من الشيطان إنما أنت نبي فأنذر الناس و ادعهم إلى التوحيد و في هذا ما فيه لأن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيرة و الآيات البينة الدالة على أن ما يوحى إليه
مجمع البيان ج : 10 ص : 580
إنما هو من الله تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها و لا يفزع و لا يفرق و قيل معناه يا أيها الطالب صرف الأذى بالدثار اطلبه بالإنذار و خوف قومك بالنار و إن لم يؤمنوا و قيل إنه كان قد تدثر بشملة صغيرة لينام فقال يا أيها النائم قم من نومك فأنذر قومك و قيل إن المراد به الجد في الأمر و القيام بما أرسل به و ترك الهوينا فيه فكأنه قيل له لا تنم عما أمرتك به و هذا كما تقول العرب فلان لا ينام في أمره إذا وصف بالجلد و الانكماش و صدق العزيمة و كأنهم يخطرون النوم على ذي الحاجة حتى يبلغ حاجته و بذلك نطقت أشعارهم كما قيل :
ألا أيها الناهي فزارة بعد ما
أجدت لأمر إنما أنت حالم
أرى كل ذي وتر يقوم بوتره
و يمنع عنه النوم إذ أنت نائم و يقال لمن أدرك ثاره هذا هو الثأر المنيم و قال الشاعر يصف من أورد إبلا له :
أوردها سعد و سعد مشتمل
ما هكذا تورد يا سعد الإبل و الاشتمال مثل التدثر « و ربك فكبر » أي عظمه و نزهه عما لا يليق به و قيل كبره في الصلاة فقل الله أكبر « و ثيابك فطهر » أي و ثيابك الملبوسة فطهرها من النجاسة للصلاة و قيل معناه و نفسك فطهر من الذنوب و الثياب عبارة عن النفس عن قتادة و مجاهد و على هذا فيكون التقدير و ذا ثيابك فطهر فحذف المضاف و مما يؤيد هذا القول قول عنترة :
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
ليس الكريم على القنا بمحرم و قيل معناه طهر ثيابك من لبسها على معصية أو غدرة كما قال سلامة بن غيلان الثقفي أنشده ابن عباس :
و إني بحمد الله لا ثوب فاجر
لبست و لا من غدرة أتقنع قال الزجاج معناه و يقال للغادر دنس الثياب و في معناه قول من قال و عملك فأصلح .

مجمع البيان ج : 10 ص : 581
قال السدي يقال للرجل إذا كان صالحا أنه لطاهر الثياب و إذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب و قيل معناه و ثيابك فقصر عن طاووس و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال الزجاج لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه و قيل معناه و ثيابك فاغسلها عن النجاسة بالماء لأن المشركين كانوا لا يتطهرون عن ابن زيد و ابن سيرين و قيل لا يكن ثيابك من حرام عن ابن عباس و قيل معناه و أزواجك فطهرهن عن الكفر و المعاصي حتى يصرن مؤمنات صالحات و العرب تكني بالثياب عن النساء عن أبي مسلم و روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام) غسل الثياب يذهب الهم و الحزن و هو طهور المصلاة و تشمير الثياب طهور لها و قد قال الله سبحانه « و ثيابك فطهر » أي فشمر « و الرجز فاهجر » أي اهجر الأصنام و الأوثان عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الزهري و قيل معناه اجتنب المعاصي عن الحسن قال الكسائي الرجز بالكسر العذاب و بالضم الصنم و قال المعنى أهجر ما يؤدي إلى العذاب و لم يفرق غيره بينهما و قيل معناه جانب الفعل القبيح و الخلق الذميم عن الجبائي و قيل معناه أخرج حب الدنيا من قلبك لأنه رأس كل خطيئة « و لا تمنن تستكثر » أي لا تعط عطية لتعطى أكثر منها و هذا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) خاصة أدبه الله سبحانه بأكرم الآداب و أشرفها عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و النخعي و الضحاك و قيل معناه و لا تمنن حسناتك على الله تعالى مستكثرا لها فينقصك ذلك عند الله عن الحسن و ربيع بن أنس و قيل معناه لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة و القرآن مستكثرا به الأجر من الناس عن ابن زيد و قيل هو نهي عن الربا المحرم أي لا تعط شيئا طالبا أن تعطي أكثر مما أعطيت عن أبي مسلم و قيل لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك عن مجاهد و قيل و لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا ما أعطيته فإن متاع الدنيا قليل و لأن المن يكدر الصنيعة و قيل معناه إذا أعطيت عطية فأعطها لربك و اصبر حتى يكون هو الذي يثيبك عليها عن زيد بن أسلم و قيل معناه لا تمنن بإبلاغ الرسالة على أمتك عن الجبائي « و لربك » أي لوجه ربك « فاصبر » على أذى المشركين عن مجاهد و قيل فاصبر على ما أمرك الله به من أداء الرسالة و تعظيم الشريعة و على ما ينالك من التكذيب و الأذى لتنال الفوز و الذخر و قيل فاصبر عن المعاصي و على الطاعات و المصائب و قيل فاصبر لله على ما حملت من الأمور الشاقة في محاربة العرب و العجم عن ابن زيد « فإذا نقر في الناقور » معناه إذا نفخ في الصور و هي كهيئة البوق عن مجاهد و قيل إن ذلك في النفخة الأولى و هو أول الشدة الهائلة العامة و قيل إنه النفخة الثانية و عندها يحيي الله الخلق و تقوم القيامة و هي صيحة الساعة عن الجبائي « فذلك يومئذ » قد مر معناه في الأعراف « يوم عسير » أي شديد « على الكافرين » لنعم الله الجاحدين لآياته « غير يسير »
مجمع البيان ج : 10 ص : 582

غير هين و لا سهل و هو بمعنى قوله « عسير » إلا أنه أعاده بلفظ آخر للتأكيد كما تقول إني واد لفلان غير مبغض و قيل معناه عسير في نفسه و غير عسير على المؤمنين لما يرون من حسن العاقبة .
ذَرْنى وَ مَنْ خَلَقْت وَحِيداً(11) وَ جَعَلْت لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً(12) وَ بَنِينَ شهُوداً(13) وَ مَهَّدت لَهُ تَمْهِيداً(14) ثمَّ يَطمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15) َكلا إِنَّهُ كانَ لاَيَتِنَا عَنِيداً(16) سأُرْهِقُهُ صعُوداً(17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْف قَدَّرَ(19) ثمَّ قُتِلَ كَيْف قَدَّرَ(20) ثمَّ نَظرَ(21) ثمَّ عَبَس وَ بَسرَ(22) ثمَّ أَدْبَرَ وَ استَكْبرَ(23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشرِ(25) سأُصلِيهِ سقَرَ(26) وَ مَا أَدْرَاك مَا سقَرُ(27) لا تُبْقِى وَ لا تَذَرُ(28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشرِ(29) عَلَيهَا تِسعَةَ عَشرَ(30) وَ مَا جَعَلْنَا أَصحَب النَّارِ إِلا مَلَئكَةً وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَستَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب وَ يَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَناً وَ لا يَرْتَاب الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فى قُلُوبهِم مَّرَضٌ وَ الْكَفِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللَّهُ بهَذَا مَثَلاً كَذَلِك يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ وَ يهْدِى مَن ءُ اءُ وَ مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّك إِلا هُوَ وَ مَا هِىَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشرِ(31)

مجمع البيان ج : 10 ص : 583

اللغة

التمهيد و التوطئة و التذليل و التسهيل نظائر و العنيد الذاهب عن الشيء على طريق العداوة له يقال عند العرق يعند عنودا فهو عاند إذا نفر و المعاندة منافرة المضادة و كذلك العناد و بعير عنود أي نافر قال الشاعر :
إذا نزلت فاجعلوني وسطا
إني كبير لا أطيق العندا و الإرهاق الإعجاز بالعنف و الصعود العقبة التي يصعب صعودها و هي الكؤود و عبس يعبس عبوسا إذا قبض وجهه و العبوس و التكليح و التقطيب نظائر و ضدها الطلاقة و البشاشة و البسور بدو التكره في الوجه و أصله من بسر بالأمر إذا عجل به و منه البسر لتعجيل حاله قبل الإرطاب قال توبة :
و قد رابني منها صدود رأيته
و إعراضها عن حاجتي و بسورها و الإصلاء إلزام موضع النار يقال أصليته فاصطلى و سقر اسم من أسماء جهنم لم يصرف للتأنيث و التعريف و أصله من سقرته الشمس سقرا إذا ألمت دماغه و الإبقاء ترك شيء مما أخذ و التلويح تغيير اللون إلى الاحمرار و لوحته الشمس تلويحا فهي لواحة على المبالغة و البشر جمع بشرة و هي ظاهر الجلد و منه سمي الإنسان بشرا لأنه ظاهر الجلد بتعريه من الوبر و الريش و الصوف الذي يكون في غيره من الحيوان .

الإعراب


وحيدا منصوب على الحال و هو على وجهين أحدهما أن يكون من صفة الله أي ذرني و من خلقته وحدي و الآخر أن يكون من صفة المخلوق .

النزول

نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي و ذلك أن قريشا اجتمعت في دار الندوة فقال لهم الوليد إنكم ذوو أحساب و ذوو أحلام و إن العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف فاجمعوا أمركم على شيء واحد ما تقولون في هذا الرجل قالوا نقول إنه شاعر فعبس عندها و قال قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر فقالوا نقول إنه كاهن قال إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة قالوا نقول إنه لمجنون فقال إذا تأتونه فلا تجدونه مجنونا قالوا نقول إنه ساحر قال و ما الساحر فقالوا بشر يحببون بين المتباغضين
مجمع البيان ج : 10 ص : 584

و يبغضون بين المتحابين قال فهو ساحر فخرجوا فكان لا يلقى أحد منهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلا قال يا ساحر يا ساحر و اشتد عليه ذلك فأنزل الله تعالى أيها المدثر إلى قوله « إلا قول البشر » عن مجاهد و يروى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما أنزل عليه حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب قام إلى المسجد و الوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال و الله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجن و إن له لحلاوة و إن عليه لطلاوة و إن أعلاه لمثر و إن أسفله لمغدق و إنه ليعلو و ما يعلى ثم انصرف إلى منزله فقال قريش صبا و الله و الوليد و الله لتصبان قريش كلهم و كان يقال للوليد ريحانة قريش فقال لهم أبو جهل أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزينا فقال لي ما أراك حزينا يا ابن أخي قال هذه قريش يعيبونك على كبر سنك و يزعمون أنك زينت كلام محمد فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال أ تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط فقالوا اللهم لا قال أ تزعمون أنه كاهن فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك قالوا اللهم لا قال أ تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه أنه بنطق بشعر قط قالوا اللهم لا قال أ تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب فقالوا اللهم لا و كان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه فقالت قريش للوليد فما هو فتفكر في نفسه ثم نظر و عبس فقال ما هو إلا ساحر ما رأيتموه يفرق بين الرجل و أهله و ولده و مواليه فهو ساحر و ما يقوله سحر يؤثر .

المعنى

ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) على وجه التهديد للكافر الذي وصفه « ذرني و من خلقت وحيدا » أي دعني و إياه فإني كاف له في عقابه كما يقول القائل دعني و إياه و معناه دعني و من خلقته متوحدا بخلقه لا شريك لي في خلقه و إن حملته على صفة المخلوق فمعناه دعني و من خلقته في بطن أمه واحد لا مال له و لا ولد يعني الوليد بن المغيرة قال مقاتل معناه خل بيني و بينه فأنا أفرد بهلكته و قال ابن عباس كان الوليد يسمى الوحيد في قومه و روى العياشي بإسناده عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي عبد الله و أبي جعفر (عليه السلام) أن الوحيد ولد الزنا قال زرارة ذكر لأبي جعفر (عليه السلام) عن أحد بني هشام أنه قال في خطبته أنا ابن الوحيد فقال ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له و ما هو من لا يعرف له أب ثم ذكر سبحانه رزقه المال و الولد فقال « و جعلت له مالا ممدودا » ما بين مكة إلى
مجمع البيان ج : 10 ص : 585
الطائف من الإبل المؤبلة و الخيل المسومة و النعم المرحلة و المستغلات التي لا تنقطع غلتها و الجواري و العبيد و العين الكثيرة عن عطاء عن ابن عباس و قيل الممدود الكثير الذي لا تنقطع غلته عنه سنة حتى يدرك غلة سنة أخرى فهو ممدود على الأيام و كان له بستان بالطائف لا ينقطع خيره في شتاء و لا صيف و عشرة بنين و مائة ألف دينار عن مجاهد و قيل ستة آلاف دينار عن قتادة و قيل أربعة آلاف دينار عن سفيان « و بنين شهودا » حضورا معه بمكة لا يغيبون عنه لغناهم عن ركوب السفر للتجارة قال سعيد بن جبير كانوا ثلاثة عشر و قال مقاتل كانوا سبعة الوليد و خالد و عمارة و هشام و العاص و قيس و عبد شمس أسلم منهم ثلاثة خالد و هشام و عمارة قالوا فما زال الوليد بعد هذه الآية في نقصان من ماله و ولده حتى هلك « و مهدت له تمهيدا » أي بسطت له في العيش بسطا حتى صار مكفي المئونة من كل وجه حتى صارت أحواله متناسبة عن الحسن و غيره و قيل سهلت له و قيل سهلت له التصرف في الأمور تسهيلا « ثم يطمع أن أزيد » أي لم يشكرني على هذه النعم بل كفر نعمائي و هو مع ذلك يطمع أن أزيد في إنعامه ثم قال على وجه الردع و الزجر « كلا » أي لا يكون كما ظن و لا أزيده مع كفره و قيل كلا معناه انزجر و ارتدع فليس الأمر على ما تتوهم ثم بين سبحانه كفره فقال « إنه كان لآياتنا عنيدا » أي إنما لم نفعل به ذلك لأنه كان بحججنا و أدلتنا معاندا ينكرها مع معرفته بها و قيل عنيدا جحودا عن ابن عباس و قتادة « سأرهقه صعودا » أي سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة فيه و قيل صعود جبل في جهنم من نار يؤخذ بارتقائه فإذا وضع يده عليه ذابت فإذا رفعها عادت و كذلك رجله في خبر مرفوع و قيل هو جبل من صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها حتى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف أيضا أن يصعدها فذلك دأبه أبدا يجذب من أمامه بسلاسل الحديد و يضرب من خلفه بمقاطع الحديد فيصعدها في أربعين سنة عن الكلبي « إنه فكر » و دبر ما ذا يقول في القرآن « و قدر » القول في نفسه و إنما فكر ليحتال به للباطل لأنه لو فكر على وجه طلب الرشاد لكان ممدوحا و قدر فقال إن قلنا شاعر كذبتنا العرب باعتبار ما أتى به و إن قلنا كاهن لم يصدقونا لأن كلامه لا يشبه كلام الكهان فنقول ساحر يؤثر ما أتى به عن غيره من السحرة « فقتل » أي لعن و عذب و قيل لعن بما يجري مجرى القتل و قيل استحق العذاب عن الجبائي « كيف قدر » قال صاحب النظم معناه لعن على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال في الكلام لأضربنه كيف صنع أي على أي حال كان منه « ثم قتل كيف قدر » هذا تكرير للتأكيد و قيل معناه كيف
مجمع البيان ج : 10 ص : 586
قدر في آياتنا ما قدر مع وضوح الحجة ثم لعن و عوقب بعقاب آخر كيف قدر في إبطال الحق تقدير آخر و قيل معناه عوقب في الآخرة مرة بعد مرة « ثم نظر » في طلب ما يدفع به القرآن و يرده « ثم عبس و بسر » أي كلح و كره وجهه و نظر بكراهة شديدة كالمتهم المتفكر في الشيء « ثم أدبر » عن الإيمان « و استكبر » أي تكبر حين دعا إليه « فقال إن هذا » أي ما هذا القرآن « إلا سحر يؤثر » أي يروي عن السحرة و قيل هو من الإيثار أي سحر تؤثره النفوس و تختاره لحلاوته فيها « إن هذا إلا قول البشر » أي ما هذا إلا كلام الإنس و ليس من عند الله و لو كان القرآن سحرا أو من كلام البشر كما قاله الملعون لأمكن السحرة أن يأتوا بمثله و لقدر هو و غيره مع فصاحتهم على الإتيان بسورة مثله ثم قال سبحانه مهددا له « سأصليه سقر » أي سادخله جهنم و ألزمه إياها و قيل سقر دركة من دركات جهنم و قيل باب من أبوابها « و ما أدريك » أيها السامع « ما سقر » في شدتها و هولها و ضيقها ثم وصف بعض صفاتها فقال « لا تبقي و لا تذر » أي لا تبقي لهم لحما إلا أكلته و لا تذرهم إذا أعيدوا خلقا جديدا عن مجاهد و قيل لا تبقي شيئا إلا أحرقته و لا تذر أي لا تبقي عليهم بل يبلغ مجهودهم في أنواع العذاب عن الجبائي « لواحة للبشر » أي مغيرة للجلود و قيل لافحة للجلود حتى تدعها أشد سوادا من الليل « عليها تسعة عشر » من الملائكة هم خزنتها مالك و معه ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف و أنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة تسع كف أحدهم مثل ربيعة و مضر نزعت منهم الرحمة يرفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم و قيل معناه على سقر تسعة عشر ملكا و هم خزان سقر و للنار و دركاتها الآخر خزان آخرون و قيل إنما خصوا بهذا العدد ليوافق المخبر الخبر لما جاء به الأنبياء قبله و ما كان من الكتب المتقدمة و يكون في ذلك مصلحة للمكلفين و قال بعضهم في تخصيص هذا العدد أن تسعة عشر يجمع أكثر القليل من العدد و أقل الكثير منه لأن العدد آحاد و عشرات و مئات و ألوف فأقل العشرات عشرة و أكثر الآحاد تسعة قالوا و لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم أ تسمعون ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر و أنتم الدهم الشجعان أ فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم فقال أبو الأسد الجمحي أنا أكفيكم سبعة عشر عشرة على ظهري و سبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين فنزل « و ما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة » الآية عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و معناه و ما جعلنا الموكلين بالنار المتولين تدبيرها إلا ملائكة جعلنا شهوتهم في تعذيب أهل
مجمع البيان ج : 10 ص : 587
النار و لم نجعلهم من بني آدم كما تعهدون أنتم فتطيقونهم « و ما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا » أي لم نجعلهم على هذا العدد إلا محنة و تشديدا في التكليف للذين كفروا نعم الله و جحدوا وحدانيته حتى يتفكروا فيعلموا أن الله سبحانه حكيم لا يفعل إلا ما هو حكمة و يعلموا أنه قادر على أن يزيد في قواهم ما يقدرون به على تعذيب الخلائق و لو راجع الكفار عقولهم لعلموا أن من سلط ملكا واحدا على كافة بني آدم لقبض أرواحهم فلا يغلبونه قادر على سوق بعضهم إلى النار و جعلهم فيها بتسعة عشر من الملائكة « ليستيقن الذين أوتوا الكتاب » من اليهود و النصارى أنه حق و إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) صادق من حيث أخبر بما هو في كتبهم من غير قراءة لها و لا تعلم منهم « و يزداد الذين آمنوا إيمانا » أي يقينا بهذا العدد و بصحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا أخبرهم أهل الكتاب أنه مثل ما في كتابهم « و لا يرتاب الذين أوتوا الكتاب و المؤمنون » أي و لئلا يشك هؤلاء في عدد الخزنة و المعنى و ليستيقن من لم يؤمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و من آمن به صحة نبوته إذا تدبروا و تفكروا « و ليقول الذين في قلوبهم مرض و الكافرون ما ذا أراد الله بهذا مثلا » اللام هنا لام العاقبة أي عاقبة أمر هؤلاء أن يقولوا هذا يعني المنافقين و الكافرين و قيل معناه و لأن يقولوا ما ذا أراد الله بهذا الوصف و العدد و يتدبروه فيؤدي بهم التدبر في ذلك إلى الإيمان « كذلك يضل الله من يشاء و يهدي من يشاء » أي مثل ما جعلنا خزنة أصحاب النار ملائكة ذوي عدد محنة و اختبارا تكلف الخلق ليظهر الضلال و الهدى و أضافهما إلى نفسه لأن سبب ذلك التكليف و هو من جهته و قيل يضل عن طريق الجنة و الثواب من يشاء و يهدي من يشاء إليه « و ما يعلم جنود ربك إلا هو » أي ما يعلم جنود ربك من كثرتها أحد إلا هو و لم يجعل خزنة النار تسعة عشر لقلة جنوده و لكن الحكمة اقتضت ذلك و قيل هذا جواب أبي جهل حين قال ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر عن مقاتل و قيل معناه و ما يعلم عدة الملائكة الذين خلقهم الله لتعذيب أهل النار إلا الله عن عطاء و المعنى أن التسعة عشر هم خزنة النار و لهم من الأعوان و الجنود ما لا يعلمه إلا الله ثم رجع إلى ذكر سقر فقال « و ما هي إلا ذكرى للبشر » أي تذكرة و موعظة للعالم ليتذكروا فيتجنبوا ما يستوجبون به ذلك و قيل معناه و ما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة للبشر من نار الآخرة حتى يتفكروا فيها فيحذروا نار الآخرة و قيل ما هذه السورة إلا تذكرة للناس و قيل و ما هذه الملائكة التسعة عشر إلا عبرة للخلق يستدلون بذلك على كمال قدرة الله تعالى و ينزجرون عن المعاصي .

مجمع البيان ج : 10 ص : 588
َكلا وَ الْقَمَرِ(32) وَ الَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ(33) وَ الصبْح إِذَا أَسفَرَ(34) إِنهَا لاحْدَى الْكُبرِ(35) نَذِيراً لِّلْبَشرِ(36) لِمَن شاءَ مِنكمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ(37) كلُّ نَفْسِ بِمَا كَسبَت رَهِينَةٌ(38) إِلا أَصحَب الْيَمِينِ(39) فى جَنَّت يَتَساءَلُونَ(40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ(41) مَا سلَككمْ فى سقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَك مِنَ الْمُصلِّينَ(43) وَ لَمْ نَك نُطعِمُ الْمِسكِينَ(44) وَ كنَّا نخُوض مَعَ الخَْائضِينَ(45) وَ كُنَّا نُكَذِّب بِيَوْمِ الدِّينِ(46) حَتى أَتَانَا الْيَقِينُ(47) فَمَا تَنفَعُهُمْ شفَعَةُ الشفِعِينَ(48) فَمَا لهَُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّستَنفِرَةٌ(50) فَرَّت مِن قَسوَرَةِ(51) بَلْ يُرِيدُ كلُّ امْرِى مِّنهُمْ أَن يُؤْتى صحُفاً مُّنَشرَةً(52) َكلا بَل لا يخَافُونَ الاَخِرَةَ(53) كلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54) فَمَن شاءَ ذَكرَهُ(55) وَ مَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَ أَهْلُ المَْغْفِرَةِ(56)

القراءة

قرأ نافع و حمزة و يعقوب و خلف « إذ » بغير ألف « أدبر » بالألف و الباقون إذا بالألف دبر بغير الألف و قرأ أهل المدينة و ابن عامر مستنفرة بفتح الفاء و الباقون بكسر الفاء و في الشواذ قراءة بعضهم يرويه عن ابن كثير أنها لحد الكبر بلا همزة و قراءة سعيد بن جبير صحفا منشرة بسكون الحاء و النون .


الحجة

أبو علي قال يونس دبر انقضى و أدبر تولى قال قتادة الليل إذ أدبر إذا ولى و يقال دبر و أدبر و قال و التخفيف في « لإحدى الكبر » أن يجعل فيها الهمزة بين بين نحو سيم فأما حذف الهمزة فليس بقياس و وجه ذلك أن الهمزة حذفت حذفا كما حذفت في قوله :
مجمع البيان ج : 10 ص : 589


و يلمها في هواء الجو طالبها
و لا كهذا الذي في الأرض مطلوب و قد جاء ذلك في مواضع من الشعر قال أبو الأسود لزياد :
يا با المغيرة رب أمر معضل
فرجته بالنكر مني و الدهاء و قال آخر :
إن لم أقاتل فألبسوني برقعا
و فتخات في اليدين أربعا و أنشد أحمد بن يحيى :
إن كان حزن لك با فقيمة
باعك عبدا بأخس قيمة و قال الفرزدق :
و عليك إثم عطية بن الخطفي
و إثم التي زجرتك إن لم تجهد قال و الكسر في « مستنفرة » أولى لقوله « فرت من قسورة » فهذا يدل على أنها هي استنفرت و يقال نفر و استنفر مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب و من قال مستنفرة فكان القسورة استنفرتها و الرامي قال أبو عبيدة مستنفرة مذعورة و أنشد الزجاج :
أمسك حمارك إنه مستنفر
في إثر أحمرة عمدن لغرب و رويت بالكسر أيضا قال ابن سلام سألت أبا سوار العرني و كان أعرابيا فصيحا قارئا للقرآن فقلت « كأنهم حمر » ما ذا قال حمر مستنفرة طردها قسورة قلت إنما هو فرت من قسورة فقال أ فرت قلت نعم فقال « مستنفرة » قال ابن جني أما سكون الحاء من صحف فلغة تميمية و أما منشرة بسكون النون فإن العرف في الاستعمال نشرت الثوب و غيره و أنشر الله الموتى فنشروا هم قال و قد جاء عنهم أيضا نشر الله الميت قال المتنبي :
ردت صنائعه إليه حياته
فكأنه من نشرها منشور و لم نعلمهم قالوا أنشرت الثوب و نحوه إلا أنه يجوز أن يشبه بشيء و كما جاز أن يشبه
مجمع البيان ج : 10 ص : 590
الميت بالشيء المطوي حتى قال المتنبي منشور فكذلك يجوز أن يشبه المطوي بالميت فيقال صحف منشرة أي كأنها بطيها ميتة فلما نشرت قيل منشرة .

اللغة

اليقين العلم الذي يوجد برد الثقة به في الصدر و يقال وجد فلان برد اليقين و ثلج اليقين في صدره و لذلك لا يوصف سبحانه بأنه متيقن و القسورة الأسد و قيل هم الرماة من قسره يقسره قسرا إذا قهره و أصل الفرار الانكشاف عن الشيء و منه يقال فر الفرس يفر فرا إذا كشف عن سنة و الصحف جمع الصحيفة و هي الورقة التي من شأنها أن تقلب من جهة إلى جهة لما فيها من الكتابة و منه المصحف و جمعه مصاحف .

الإعراب


« نذيرا للبشر » اختلف في وجه انتصابه فقيل نصب على الحال و هو اسم فاعل بمعنى منذر و ذو الحال الضمير في إحدى الكبر العائد إلى الهاء في أنها و هي كناية عن النار فالمعنى أنها لكبيرة في حال الإنذار و أنا ذكره لأن معناه معنى العذاب و يجوز أن يكون التذكير على قولهم امرأة طالق أي ذات طلاق و كذلك نذير بمعنى ذات إنذار و قيل هو حال يتعلق بأول السورة فكأنه قال يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر فأنذر و قيل إن النذير هنا بمعنى الإنذار و تقديره إنذارا للبشر فيكون نصبا على المصدر لأنه لما قال « إنها لإحدى الكبر » دل على أنه أنذرهم بها إنذارا و قوله « معرضين » منصوب على الحال مما في اللام من قوله « فما لهم » من معنى الفعل و التقدير أي شيء ثبت لهم معرضين عن التذكرة « و كأنهم حمر مستنفرة » جملة في موضع الحال من معرضين و هي حال من حال أو حال بعد حال أي مشابهين حمرا .

المعنى

ثم أقسم سبحانه على عظيم ما ذكره من الوعيد فقال « كلا » أي حقا و قيل معناه ليس الأمر على ما يتوهمونه من أنهم يمكنهم دفع خزنة النار و غلبتهم « و القمر » أقسم بالظهر لما فيه من الآيات العجيبة في طلوعه و غروبه و مسيره و زيادته و نقصانه « و الليل إذ أدبر » و أقسم بالليل إذا ولى و ذهب عن قتادة و قيل أدبر إذا جاء بعد غيره و أدبر إذا ولى مدبرا فعلى هذا يكون المعنى في إذ أدبر إذا جاء الليل في أثر النهار و في إذا أدبر إذا ولى الليل فجاء الصبح عقيبة و على القول الأول فهما لغتان معناهما ولى و انقضى « و الصبح إذا أسفر » أي إذا أضاء و أنار عن قتادة و هم قسم آخر و قيل معناه إذا كشف الظلام و أضاء الأشخاص و قال قوم التقدير في هذه الأقسام و رب هذه الأشياء لأن اليمين لا يكون إلا بالله تعالى « إنها لإحدى الكبر » هذا جواب القسم يعني أن سقر التي هي النار لإحدى العظائم و الكبر جمع الكبرى و هي العظمى عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و قيل معناه أن آيات القرآن لإحدى الكبر في الوعيد « نذيرا للبشر » أي منذرا و مخوفا معلما مواضع المخافة
مجمع البيان ج : 10 ص : 591

و النذير الحكيم بالتحذير عما ينبغي أن يحذر منه فكل نبي نذير لأنه حكيم بتحذيره عقاب الله تعالى على معاصيه و اختلف فيه فقيل إنه من صفة النار عن الحسن و قيل من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فكأنه قال قم نذيرا عن ابن زيد و قيل من صفة الله تعالى عن ابن رزين و على هذا يكون حالا من فعل القسم المحذوف « لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر » أي يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عنها بالمعصية عن قتادة و المشيئة هي الإرادة فيكون المعنى أن هذا الإنذار متوجه إلى من يمكنه أن يتقي عذاب النار بأن يتجنب المعاصي و يفعل الطاعات فيقدر على التقدم و التأخر في أمره بخلاف قول أهل الجبر القائلين ما لا يطاق و قيل إنه سبحانه عبر عن الإيمان و الطاعة بالتقدم لأن صاحبه متقدم في العقول و الدرجات و عن الكفر و المعصية بالتاخير لأنه متأخر في العقول و الدرجات و روى محمد بن الفضيل عن أبي الفضل عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال كل من تقدم إلى ولايتنا تأخر عن سقر و كل من تأخر عن ولايتنا تقدم إلى سقر « كل نفس بما كسبت رهينة » أي مرهونة بعملها محبوسة به مطالبة بما كسبته من طاعة أو من معصية فالرهن أخذ الشيء بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج منه قال زهير :
و فارقتك برهن لا فكاك له
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا فكذلك هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لا فكاك له و الكسب هو كل ما يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر و يدخل فيه الفعل و أن لا يفعل ثم استثنى سبحانه أصحاب اليمين فقال « إلا أصحاب اليمين » و هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم و قيل هم الذين يسلك بهم ذات اليمين قال قتادة غلق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين و هم الذين لا ذنب لهم فهم ميامين على أنفسهم و قيل هم المؤمنون المستحقون للثواب عن الحسن و قيل هم الملائكة عن ابن عباس و قال الباقر (عليه السلام) نحن و شيعتنا أصحاب اليمين « في جنات يتساءلون » أي يسأل بعضهم بعضا و قيل يسائلون « عن المجرمين » أي عن حالهم و عن ذنوبهم التي استحقوا بها النار « ما سلككم في سقر » هذا سؤال توبيخ أي تطلع أهل الجنة على أهل النار فيقولون لهم ما أوقعكم في النار « قالوا لم نك من المصلين » أي كنا لا نصلي الصلاة المكتوبة على ما قررها الشرع و في هذا دلالة على أن الإخلال بالجواب يستحق به الذم و العقاب لأنهم علقوا استحقاقهم العقاب بالإخلال في الصلاة و فيه دلالة أيضا على أن الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعية لأنه حكاية عن الكفار بدلالة قوله « و كنا نكذب بيوم الدين » و قوله « و لم نك
مجمع البيان ج : 10 ص : 592
نطعم المسكين » معناه لم نك نخرج الزكوات التي كانت واجبة علينا و الكفارات التي وجب دفعها إلى المساكين و هم الفقراء « و كنا نخوض مع الخائضين » أي كلما غوى غاو بالدخول في الباطل غوينا معه عن قتادة و المعنى كنا نلوث أنفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض فلما كان هؤلاء يجرون مع من يكذب بالحق مشيعين لهم في القول كانوا خائضين معهم « و كنا نكذب بيوم الدين » مع ذلك أي نجحد يوم الجزاء و هو يوم القيامة و الجزاء هو الإيصال إلى كل من له شيء أم عليه شيء ما يستحقه فيوم الدين هو يوم أخذ المستحق بالعدل « حتى أتينا اليقين » أي أتانا الموت على هذه الحالة و قيل حتى جاءنا العلم اليقين من ذلك بأن عايناه « فما تنفعهم شفاعة الشافعين » أي شفاعة الملائكة و النبيين كما نفعت الموحدين عن ابن عباس في رواية عطاء و قال الحسن لم تنفعهم شفاعة ملك و لا شهيد و لا مؤمن و يعضد هذا الإجماع على أن عقاب الكفر لا يسقط بالشفاعة و قد صحت الرواية عن عبد الله بن مسعود قال يشفع نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلّم) رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يشفع أحد أكثر مما يشفع فيه نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء و يبقى قوم في جهنم فيقال لهم « ما سلككم في سقر » إلى قوله « فما تنفعهم شفاعة الشافعين » قال ابن مسعود فهؤلاء الذين يبقون في جهنم و عن الحسن عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة أي رب عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا فشفعني فيه فيقول اذهب فأخرجه من النار فيذهب فيتجسس في النار حتى يخرجه منها و قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن من أمتي من سيدخل الله الجنة بشفاعته أكثر من مضر « فما لهم عن التذكرة معرضين » أي أي شيء لهم و لم أعرضوا و تولوا عن القرآن فلم يؤمنوا به و التذكرة التذكير بمواعظ القرآن و المعنى لا شيء لهم في الآخرة إذا أعرضوا عن القرآن و نفروا عنه « كأنهم حمر مستنفرة » أي كأنهم حمر وحشية نافرة « فرت من قسورة » يعني الأسد عن عطاء و الكلبي قال ابن عباس الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه كذلك هؤلاء الكفار إذا سمعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقرأ القرآن هربوا منه و قيل القسورة الرماة و رجال القنص عن ابن عباس بخلاف و الضحاك و مقاتل و مجاهد و قال سعيد بن جبير هم القناص « بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة » أي كتبا من السماء تنزل إليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الحسن و قتادة و ابن زيد و قيل معناه أنهم يريدون صحفا من الله تعالى بالبراءة من العقوبة و إسباغ النعمة حتى يؤمنوا و إلا قاموا على كفرهم و قيل يريد كل واحد منهم أن يكون رسولا يوحى إليه متبوعا و أنف من
مجمع البيان ج : 10 ص : 593
أن يكون تابعا و قيل هو تفسيرها ما ذكره الله تعالى في قوله و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه فقال سبحانه « كلا » أي حقا ليس الأمر على ما قالوا و لا يكون كذلك « بل لا يخافون الآخرة » بجحدهم صحتها و لو خافوا عذاب الآخرة لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالات و المعجزات « كلا » أي حقا « إنه تذكرة » أي إن القرآن تذكير و موعظة « فمن شاء ذكره » أي اتعظ به لأنه قادر عليه « و ما يذكرون إلا أن يشاء الله » هذه المشيئة غير الأولى إذ لو كانت واحدة لتناقض فالأولى مشيئة اختيار و الثانية مشيئة إكراه و إجبار و المعنى أن هؤلاء الكفار لا يذكرون إلا أن يجبرهم الله تعالى على ذلك و قيل معناه إلا أن يشاء الله من حيث أمر به و نهى عن تركه و وعد الثواب على فعله و أوعد بالعقاب إن لم تفعله فكانت مشيئته سابقة أي لا تشاءون إلا و الله قد شاء ذلك « هو أهل التقوى و أهل المغفرة » أي هو أهل أن يتقي محارمه و أهل أن يغفر الذنوب عن قتادة و روي مرفوعا عن أنس قال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تلا هذه الآية فقال قال الله سبحانه أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إليه فمن اتقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له و قيل معناه و هو أهل أن يتقى عقابه و أهل أن يعمل له بما يؤدي إلى مغفرته .

مجمع البيان ج : 10 ص : 594
( 75 ) سورة القيامة مكية و آياتها أربعون ( 40 )
أربعون آية كوفي و تسع و ثلاثون في الباقين .

اختلافها

آية « لتعجل به » كوفي .

فضلها

أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و من قرأ سورة القيامة شهدت أنا و جبريل له يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة و جاء و وجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال من أدمن قراءة لا أقسم و كان يعمل بها بعثها الله يوم القيامة معه في قبره في أحسن صورة تبشر و تضحك في وجهه حتى يجوز الصراط و الميزان .

تفسيرها

لما ختم الله سبحانه سورة المدثر بذكر القيامة و أن الكافر لا يؤمن بها افتتح هذه السورة بذكر القيامة و ذكر أهوالها فقال :
 

Back Index Next