(صفحه112)
نقض اليقين بالشكّ، فوقع الخلط بين الحكم والموضوع في كلامه قدسسره .
وآخر ما أورد عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) أن قال: «وأيضا قوله فيذيل الصحيحة: «وإنّما ينقضه بيقين آخر» ليس حكما مجعولاً؛ ضرورة امتناعجعل إيجاب العمل على طبق اليقين، فإنّه بمنزلة جعل الحجّيّة والكاشفيّة له،فلا محالة تكون هذه الجملة لتعيين الغاية للحكم المتقدّم، فتكون تأكيدلاستمرار الحكم إلى زمان يقين آخر، أو لإفادة استمراره حتّى مع وجودالظنّ إن اُريد بالشكّ ما هو المصطلح، لاعدم العلم، فيفهم من هذه الغاية أنّالمتكلّم اعتبر ثلاثة اُمور: اليقين السابق، والشكّ المستمرّ، واليقين المتأخّر،فقال: إنّ حكم اليقين بالأمر السابق مستمرّ في زمان الشكّ ولا ترفع اليد عنهإلى زمان اليقين بخلافه».
فاعتبار اليقين في ظرف الشكّ ممّا لاتساعده هذه الاعتبارات.
وبالجملة، إنّ التأمّل في الصحيحة صدرا وذيلاً ممّا يشرف بالفقيه علىالقطع بأنّ اليقين في الكبرى هو اليقين المحقّق الفعلي المتعلّق بالشيء في الزمانالسابق، لا المقدّر المفروض في زمان الشكّ.
والتحقيق: أنّ جميع ما أورده قدسسره على المحقّق الهمداني رحمهالله قابل للمساعدة إلما ذكرناه من الخلط في كلامه.
وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله فحاصله: أنّ المراد من اليقين نفس المتيقّنممّا لايمكن المساعدة عليه ـ كما يظهر من الشيخ ـ بل المراد من نقض اليقيننقضه بما أنّه يستتبع الحركة على وفق المتيقّن، فأخذ اليقين في الأخبار إنّميكون باعتبار كونه كاشفا وطريقا إلى المتيقّن، لا بما أنّه صفة قائمة في النفس،فعناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المتيقّن.
(صفحه 113)
ثمّ ذكر أنّه لميعهد استعمال النقض في العلم والقطع فإنّ إطلاق العلم والقطعيكون في مقابل الظنّ والشكّ غالبا، بخلاف اليقين؛ فإنّ إطلاقه غالبا يكونبلحاظ مايستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقّن والعمل على طبقه، وهذالمعنى يتوقّف على أن يكون للمتيقّن اقتضاء البقاء في عمود الزمان ليتحقّقالجري العملي على طبقه، ويصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن،بخلاف ما إذا لميكن للمتيقّن اقتضاء البقاء في سلسلة الزمان، فإنّ الجريالعملي بنفسه ينتقض، ولا يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن(1).
ويرد عليه: أوّلاً: أنّه لاوجه للفرق بين اليقين والعلم والقطع وإن لميذكر فيالرواية غير كلمة «اليقين»، ولكنّه لايكون مشعرا بعدم صحّة استعمال كلمة«القطع» أو «العلم» مكانه، بل مايقرب إلى الأذهان هو لزوم الحركة على وفقالقطع والحجّيّة الذاتيّة كانت لهذا العنوان، فلا فرق بينها في الاستعمالاتالفقهية والاُصوليّة؛ لكونها من الألفاظ المترادفة.
وثانياً: أنّ لزوم الحركة والعمل على وفق اليقين يكون من آثار اليقينوأحكامه كما أنّ الحجّيّة من آثاره، إلاّ أنّ الحجّيّة ولزوم العمل على طبقه منأحكامه العقليّة، وكذلك عدم نقضه بالشكّ من أحكامه وآثاره بتعبّد الشارع،وكلمة «اليقين» موضوع للجميع، ومغايرة الحكم والموضوع لا يخفى علىأحد، فما هو الملزم والداعي لإتيان كلمة «اليقين» في قوله «لاينقض اليقينبالشكّ» مصاحبا مع بعض آثاره العقليّة، أي لزوم الجري العملي على وفقه؟
وثالثاً: أنّ إنكار كون اليقين بمعنى المتيقّن والقول بصحّة ورود النقض علىاليقين بعناية المتيقّن، ثمّ تقسيم المتيقّن بالقابل للاستمرار وعدمه ليس بتامّ.
وعليه فهذا التقريب من المحقّق النائيني رحمهالله لايكون قابلاً للمساعدة.
- (1) فوائد الاُصول 4: 374 ـ 376.
(صفحه114)
وأمّا التقريب الثاني له رحمهالله فهو قوله: «وبتقريب آخر: يتوقّف صدق نقضاليقين بالشكّ على أن يكون زمان الشكّ ممّا قد تعلّق اليقين به زمان حدوثه»،إلخ.
وحاصله: أنّ المتيقّن إن كان صالحا للبقاء والاستمرار يتحقّق في زماناليقين بحدوثه يقين آخر ببقائه واستمراره، وأنّه خالٍ عن الحدّ والغاية،وإنكان غيرصالح للبقاء والاستمرار فاقتضائه وقابليّته محدود ومضيّق،فيتحقّق هنا اليقين بالحدوث فقط، ومعلوم أنّ النقض وعدمه في بابالاستصحاب يرتبط بالبقاء، وإسناد النقض إلى اليقين في قوله: «لاينقضاليقين بالشكّ» يقتضي تحقّق اليقين بالبقاء مع تحقّق اليقين بالحدوث، وهذالمعنى يختصّ في الشكّ في الرافع ولا يتصوّر في الشكّ في المقتضي(1).
ويرد عليه: أنّ صلاحية البقاء والاستمرار لايكون ملازما لتحقّق اليقينبالحدوث واليقين بالبقاء معا حتّى في زمان الشكّ، فإنّ تحقّق ما هو الصالحللبقاء ـ كالطهارة ـ كثيرا مّا متيقّن، ولا نعلم غاية استمراره، ولا يكوناستعداد بقاء الطهارة متيقّنا لنا، ولا يكون اليقين في القابليّة مورد النزاع حتّىنقول بنقضه أو عدم نقضه بالشكّ، بل البحث يدور مدار اليقين بالوضوءوعدم نقضه بالشكّ، ولا يتحقّق هنا يقين سوى اليقين بالحدوث.
تحقيق المسألة في الشكّ في الرافع والمقتضي
ذكر هنا اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (2) تحقيقا تبعا لصاحب الكفاية، ونتيجتهشمول دائرة الاستصحاب للشكّ في الرافع والمقتضي، وهو:
- (1) فوائد الاُصول 4: 376.
(صفحه 115)
أنّ اليقين قد يلاحظ بما أنّه صفة قائمة بالنفس من غيرلحاظ إضافته إلىالخارج، وقس عليه الشكّ والظن، وقد يلاحظ بما أنّه مضاف إلى الخارج،وأنّه كاشف كشفا تامّا عن متعلّقه، والظنّ كشفا ناقصا، والشكّ غيركاشفأصلاً، بل يضاف إلى الخارج إضافة ترديديّة.
لا إشكال في أنّ اليقين بحسب الملاحظة الاُولى لايكون ممتازا عن الظنّوالشكّ بالإبرام والاستحكام وعدمهما، بل الإبرام والاستحكام ـ بحسب هذهالملاحظة ـ إنّما يكون في كيفيّة قيامها بالنفس بحسب مبادئها المحصّلة لها فيها،فقد تكون مبادئ حصول الشكّ قويّة؛ بحيث لاتزول بسهولة، وتكون مبادئحصول القطع واليقين ضعيفة بحيث تزول بتشكيك مّا، وقد يكون الحالبخلاف ذلك.
وبالجملة، سهولة زوال تلك الأوصاف عن النفس وعسر زوالها تابعانلمبادئ حصولها، فلا يكون اليقين في هذه الملاحظة أبرم من الشكّ، ولا الظنّأبرم منه.
وأمّا بحسب الملاحظة الثانية ـ أي إضافتها إلى الخارج ـ فاليقين مبرم محكمذاتا دون الشكّ والظنّ، فكأنّ اليقين حبل مشدود أحد طرفيه على النفس،وطرفه الآخر على المتيقّن، ويكون حبلاً مبرما مفتولاً مستحكما، وإن كانتمبادئ حصوله ضعيفة غيرمستحكمة، بخلاف الظنّ والشكّ، فإنّهما بحسب هذهالإضافة غير محكمين ولا مبرمين وإن كانت مبادئ حصولهما قويّة مستحكمة،وهذا الاستحكام والإبرام لايرتبط بالمتيقّن، بل من مقتضيات ذات اليقين،سواء تعلّق بأمر مبرم قابل للاستمرار والبقاء أو غيره.
وإسناد عدم النقض إلى اليقين يكون بهذا اللحاظ في قوله: «لاينقض اليقينبالشكّ» بدون فرق بين الشكّ في الرافع والشكّ في المقتضي، لا باعتبار كون
(صفحه116)
متعلّقه مبرما أو الجري العملي على وفقه.
بقي هنا أمر، وهو: أنّ من المعلوم وحدة متعلّق اليقين والشكّ فيالاستصحاب، ويمكن أن يتوهّم أنّ هذا الأمر كيف يتصوّر في الاستصحاببعد تعلّق اليقين بالحالة السابقة والشكّ بالحالة اللاحقة مع أنّهما أمرانمتغايران، فكيف ينطبق هنا قوله: «لاينقض اليقين بالشكّ»؟
والتحقيق: أنّ هذا الإشكال باعث لالتزام المحقّق الهمداني قدسسره باليقينالتقديري والمحقّق النائيني رحمهالله باليقين بالحدوث والبقاء، ولكن يتصوّر: أوّلاً: أنيكون متعلّق اليقين والشكّ شيئا واحدا في زمان واحد، وهو ممتنع.
وثانياً: أن يكون متعلّق اليقين طهارة الثوب ـ مثلاً ـ عند الزوال، ومتعلّقالشكّ أيضا طهارة الثوب عند الزوال، ولكن زمان اليقين أوّل الظهر، وزمانالشكّ ساعتين بعده، وهذه قاعدة اليقين.
وثالثاً: أن يكون متعلّق اليقين والشكّ شيئا واحدا، مثل طهارة الثوب، إلأنّ المتيقّن والمشكوك مختلفان من حيث الزمان، إذ المتيقّن طهارة الثوب عندالزوال، والمشكوك بقاؤها ساعتين بعده، ويهدينا إلى هذا المعنى التعليل الذيبمنزلة الصغرى في الرواية، وهو قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه»، وهذا هومجرى الاستصحاب وإن كان خلاف الظاهر ولكن لا محيص من الالتزام به.
ويمكن أن يقال: إنّ قوله: «لاينقض اليقين بالشكّ» لايكون حكما تعبّديّمحضا، بل هو ناظر إلى ما هو المرتكز عند العقلاء، سيما قوله: «ليس ينبغي لكأن تنقض اليقين بالشكّ»، فإنّه ناظر ظاهرا إلى أنّ نقض اليقين بالشكّ مخالفللسيرة المستمرّة بين العقلاء، وبعد الرجوع إلى ما هو المرتكز عند العقلاءيستفاد اختصاص بنائهم بذلك في موارد الشكّ في الرافع دون موارد الشكّ فيالمقتضي.