(الصفحة 194)
(الصفحة 195)عدم تحريف الكتاب
تمهيد
حيث إنّ مسألة التحريف من المسائل المهمّة المتعلّقة بالكتاب ، لابدّ من التعرّض لها والورود فيها مفصّلاً ليزول الشكّ والارتياب فيها إن شاء الله تعالى ، وتنقدح صيانة الكتاب في أنّه المعجزة الخالدة الوحيدة للنبوّة والرسالة ، والبرنامج الفذّ لهداية الناس إلى صلاح اُمورهم الدنيويّة والدينيّة ، وخروجهم من الظلمات إلى النور إلى يوم القيامة ، وإرشادهم إلى الطريق المستقيم ، والشريعة السمحة السهلة ، وإراءتهم لما يتضمّن سعادة الدارين التي هي السعادة المطلوبة والغاية المنشودة لكلّ عاقل .
ويظهر بطلان ما زعمه القائل بالتحريف ، جهلاً منه بما يترتّب على هذا القول السخيف من التوالي الفاسدة ، والآثار السيّئة ، ونقض الغرض ، وتطاول المخالفين المعاندين للإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى ، وغيرهما من الذين لا يطيقون عظمة هذا الدين القويم ، وشوكة المسلمين ، ويتشبّثون بكلّ ما يمكن أن ينتهي إلى خذلانهم وضعف عقيدتهم .
ومن العجب إصرار بعض من ينتحل العلم ، ويظهر التعصّب في الدين ، ويرى لنفسه الفضيلة والمزيّة على غيره ، على القول بالتحريف الذي يتبرّأ منه من له أدنى
(الصفحة 196)
حظّ ونصيب من الشعور والعقل ، الذي هو الرسول الباطني والحجّة الداخليّة .
والظاهر أنّ الأيادي الخفيّة المشبوهة والسياسات المعادية للإسلام هي التي تؤيّد هذه العقيدة الباطلة لاُمور غير خفيّة على أهلها ، فاللاّزم على الواعي ـ ولابدّ أن تكون له هذه المسؤوليّة ـ الواقف على هذه الخصوصيّات أن لا يقع من حيث لا يشعر فيما يعود نفعه على المغرضين ، ويرجع إلى ضعف الدين ، ويستلزم خذلان المسلمين ، ويستوجب أن تكون الفرقة المحقّة الإماميّة الاثنا عشريّة مورداً للتهمة والافتراء عليهم; بأنّ من خصائص عقائدهم ومبتدعاتهم القول بتحريف الكتاب ، ووقوع النقص فيه ، حتّى أ نّ من كان منهم أشدّ إصراراً على هذا القول يكون تعظيمه أكثر من غيره ، وإكرامه أوجب .
وقد نشرت في هذه الأزمنة قبل سنين رسالة(1) ـ عذّب الله كاتبها ـ في موسم الحجّ في الردّ على الشيعة والنقض عليهم ، وكان عمدة ما اعتمد عليه كاتبها في إثبات غرضه الفاسد هو القول بالتحريف الذي ذهب إليه بعض العلماء منهم ، قائلاً : إنّه قول جميعهم ، وإنّه من امتيازاتهم ، وإنّ غرضهم من ذلك الفرار من التمسّك بالكتاب الذي هو الثقل الأكبر ، ويجب التمسّك به إلى يوم القيامة .
فهل مع مثل ذلك يسوغ للعاقل التفوّه بهذا الأمر الباطل ، فضلاً عن أن يؤلّف فيه الكتاب ، ويستند فيه إلى الآيات غير الدالّة والروايات الموضوعة ؟ عصمنا الله من الزلل والعثرة .
وكيف كان ، فنقول ـ وبالله الاستعانة ـ : إنّه لابدّ قبل الورود في أدلّة محلّ البحث وموضع النزاع من تقديم أمرين :
- (1) (الشيعة والقرآن) ، إحسان إلهي ظهير من الهند ، إدارة ترجمان السنة ، لاهور ، باكستان ، الطبعة الاُولى سنة 1403 هـ . وقد توسّع في ذكر هذه المسألة في كتابه هذا أكثر من الذي ذكره في كتابه الأوّل (الشيعة والسنة) . وعلى منواله «الشيعة وتحريف القرآن» المطبوع سنة 1405 هـ ، محمد مال الله .
(الصفحة 197)عرض لمعاني التحريف والردّ عليه
الأمر الأوّل : فيما يستعمل فيه لفظ «التحريف» وبيان أنّ محلّ البحث ومورد النزاع ماذا؟
فنقول : قال بعض الأعلام ما لفظه :
«يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدّة معان على سبيل الاشتراك ، فبعض منها واقع في القرآن باتّفاق من المسلمين ، وبعض منها لم يقع فيه باتّفاق منهم أيضاً ، وبعض منها وقع فيه الخلاف بينهم . وإليك تفصيل ذلك :
الأوّل : نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (1) ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله ; فإنّ كلّ من فسّر القرآن بغير حقيقته ، وحمله على غير معناه فقد حرّفه . وترى كثيراً من أهل البدع والمذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على [ طبق] آرائهم وأهوائهم ، وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى ، وذمّ فاعله في عدّة من الروايات :
منها : رواية الكافي بإسناده عن الباقر (عليه السلام) أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير : «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية(2) .
الثاني : النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات ، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه ، وإن لم يكن في الخارج متميّزاً عن غيره .
والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعاً ، فقد أثبتنا لك فيما تقدّم(3) عدم
- (1) سورة النساء 4 : 46 .
(2) الكافي : 8 / 53 قطعة من ح16 ، وعنه بحار الأنوار: 78 / 359 قطعة من ح2 .
(3) في ص 150 ـ 162 .
(الصفحة 198)
تواتر القراءات ، ومعنى هذا أ نّ القرآن المنزل إنّما هو مطابق لإحدى القراءات ، وأمّا غيرها، فهو إمّا زيادة في القرآن ، وإمّا نقيصة فيه .
الثالث: النقص أو الزيادة بكلمة أوكلمتين مع التحفّظ على نفس القرآن المنزل.
والتحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الإسلام ، وفي زمان الصحابة قطعاً ، ويدلّنا على ذلك إجماع المسلمين على أنّ عثمان أحرق جملة من المصاحف ، وأمر ولاته بحرق كلّ مصحف غير ما جمعه ، وهذا يدلّ على أنّ هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه ، وإلاّ لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها ، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف ، منهم : عبدالله بن أبي داود السجستاني ، وقد سمّى كتابه هذا بكتاب المصاحف ، وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة ، إمّا من عثمان ، أو من كتّاب تلك المصاحف ، ولكنّا سنبيّن بعد هذا ـ إن شاء الله تعالى ـ أ نّ ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين ، الذي تداولوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) يداً بيد ، فالتحريف بالزيادة والنقيصة إنّما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان ، وأ مّا القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة . . .
الرابع : التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفّظ على القرآن المنزل ، والتسالم على قراءة النبيّ (صلى الله عليه وآله) إيّاها .
والتحريف بهذا المعنى أيضاً واقع في القرآن قطعاً . فالبسملة مثلاً ممّا تسالم المسلمون على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قرأها قبل كلّ سورة غير سورة التوبة ، وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنّة ، فاختار جمع منهم أ نّها ليست من القرآن ، بل ذهبت المالكيّة إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة ، إلاّ إذا نوى به المصلّي الخروج من الخلاف ، وذهب جماعة اُخرى إلى أنّ البسملة من القرآن .
وأ مّا الشيعة ، فهم متسالمون على جزئيّة البسملة من كلّ سورة غير سورة